الفرصة الأخيرة
12-08-2005, 12:51 PM
سلسلة رسائل العين
الرسالة الأولى
نحـو المعالي
لمحمد أحمد الراشد
1- مذهب الاحتياط
في أول شبابي، يوم كنت صغيرا بعد في عداد ناشئة المساجد، وفي وقت مبكر قبل أربعين سنة: فطمتني عن اللهو تلك الهزة النفسية التي سادت الأمة عقب ضياع فلسطين، واستبدت بي عزائم الجد التي كانت تتصاعد كلما قرأت رسالة من رسائل فكر الدعوة الإسلامية، فلم أتردد في الاستجابة لأول داع يدعوني إلى " الدار "، دار الدعوة، فولجت مدخل الصدق بعد صلاة المغرب، فإذا شاعر الدعوة الإسلامية الأستاذ وليد الأعظمي يتوسط شبابا يقربون من عشرين يتدارس معهم فصلا من " الترغيب والترهيب " للحافظ المنذري ، فالتقت نظرتي بنظرته برهة بعد السلام ، ثم قال : تفضل واجلس ، فكان أول أستاذ لي ....
ومنذ ذلك اليوم القديم كان يعظني ويعظ شباب جيلي، فيقف وقفاته المباركة في الجموع الحاشدة في حفلات المساجد وغيرها، فيزمجر تارة، ويرفق في أخرى ويتلطف، يتنقل بين معاني الخير، ويغرس غرسه في القلوب، كأن يقول:
كن رابط الجأش وارفع راية الأمل *** وسر إلى الله في جد بلا هزل
وإن شعرت بنقص فيك تعرفه *** فغذ روحك بالقرآن واكتمل
وحارب النفس وامنعها غوايتها *** فالنفس تهوى الذي يدعو إلى الزلل (1)
وكان أن استقرت مواعظه في قلبي، فنشأت معتقدا وجوب أنماط التربية الإيمانية في الطريق الدعوي، وأن تجاوزها إلى الشكل السياسي المحض محفوف بالمخاطر، وقد ينتج أفئدة فيها قسوة، ليس لها من الصفاء وفرة نصيب، ويؤدي إلى رجحان النفس الأمارة بالسوء على النفس الزكية، وهي التي عناها وليد بالمحاربة، وكل من يفقه آداب الإسلام وسننه يدرك تماما أن هذا السوء المعني ليس من شرطه أن يكون حالكا ثقيل الوطأة موغلا في الإغراب والإيذاء، وإنما يكفيه أن يكون لمما وصغائر وحالات ريائية وتحاسدية، مثلا، لأن الميزان الإيماني حساس جدا، ولفظ السوء يشمل هذه الأمراض القلبية، ومن ثم لزم أن يكون محيط الدعاة بريئا منها، بعيدا عنها.
فخر عليهم السقف من فوقهم
ولذلك فهمت، ومنذ وقت قديم، وجوب وراثة الرعيل الدعوي الأول، وأن أرفع شعار " الاكتمال من خلال تغذية الروح بالقرآن الكريم والسنة المطهرة "، وأن أرصد نفسي للدندنة حول كل معنى تربوي يقود إلى تحليق الأرواح نحو المعالي.
وكان أبو مسلم الخولاني رحمه الله قد دخل مسجدا، فرأى فيه حلقة ظنهم في ذكر، فجلس إليهم، فإذا هم يتحدثون في الدنيا، فقال: "سبحان الله! هل تدرون يا هؤلاء ما مثلي ومثلكم؟ كمثل رجل أصابه مطر غزير وابل ، فالتفت فإذا هو بمصراعين عظيمين ، فقال: لو دخلت هذا البيت حتى يذهب عني أذى هذا المطر، فدخل، فإذا بيت لا سقف له. جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على خير ، على ذكر ، فإذا أنتم أصحاب دنيا " (1) .
وقد أسرني هذا المثل، وتجلت لي فيه حالة رهط الدعاة إذا غفل ولم ينشغل بالتريية، وكثر فيه ذكر الأموال والأسعار والنساء والسيارات.
رقاب منكسة... يرفضها طريق المعالي
والآيات زاجرة، تدعو إلى القناعة.
قال تعالى في سورة طه : { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه، ورزق ربك خير وأبقى } ..
وقوله تعالى: { أزواجا منهم } : أي أصنافا من الكفرة أو الفسقة.
( ولقد شدد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعُدَد الفسقة، في ملابسهم ومراكبهم، حتى قال الحسن : " لا تنظروا إلى دقدقة هماليج الفسقة، ولكن انظروا كيف يلوح ذل المعصية من تلك الرقاب !!" ) (2).
وأنا وإياك لفي غنى عن معرفة لفظ غريب في كلام الحسن البصري، لنتجاوزه إلى رؤيته للظاهرة الواضحة في مواعظ الحياة، والتي لا يلحظها غير مسلم يصون نفسه، وهو تمييزنا لذل المعصية الثقيل على رقاب أهل الدنيا، فلقد صدق رحمه الله، وإنها لمسحة تعلو المترفين واللاهين فيسفلون، إذ طائع ربه العابد يسمو نحو المعالي.
فإنما نريد أن نعيذك بالله من الغفلة و الركون إلى زهرة الحياة الدنيا ، ليس غير ، و نحن الذين شجعناك - عبر روايتنا لك قصة صناعة الحياة - على أن تصفق وتسيطر على حصة الإسلام في الأسواق والمزارع والمصانع، ولكن ليكون المال في يدك .. لا في قلبك، وعلى نية منافسة حصة الفسوق والعصيان.
وإنك لتتقلب في البلاد العريضة، وتهاجر، وتقيم وتسيح، وتتاجر، وتتصدى لأنواع من الخير تظنها، وتطلب التمكين، وترجو السطوة والعز، فأنت وما يوفقك الله إليه، لا نحسدك على فضل تناله، ولا ننهاك عن طلب ثروة وسعة، ولا نسألك كشف حساب أو ضريبة أو حصة إرث، وإنما نسألك - أيها الأخ العزيز - عن دينك وتوحيدك وتوكلك وإخباتك ونوايا المعروف، ونتشبه بحرص يعقوب عليه السلام لما ( سأل البشير : كيف يوسف ؟
قال: هو ملك مصر!
فقال: ما أصنع بالملك؟ على أي دين تركته؟
قال: على دين الإسلام
قال: الآن تمت النعمة ! ) (1).
فإنما نريد أن تتم النعم على شباب يريد الإصـلاح في محيط قاس فيه أنواع الشبهات والشهوات، لنقول - إذ يطمئن القلب - مثل قول يعقوب عليه السلام.
لا ... ثم ... لا
وتذهب الفراسة التربوية فورا ومباشرة إلى أن تقرن الآية السالفة المزهدة بزهرة الحياة الدنيا بآية الاستقامة في سورة هود، في قوله تعالى : { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير * ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون }.
( يعني: فاستقم أنت، وليستقم من تاب عن الكفر ورجع إلى الله مخلصا ) .
( وعن الحسن: جعل الله الدين بين لائين: ولا تطغوا، ولا تركنوا ) (2).
فالطغيان : كل مجاوزة للحد تؤدي إلى الغفلة والإعراض عن الذكر . والركون إلى الظالم : يتناول صورا كثيرة، وليس هو أن نكون من جنده فحسب، بل ورجاء صورة خير منه أيضا، والثقة به، وطلب نصرته لنا، وتمني مثل ما عنده … كل ذلك كان سيؤه عند ربك مكروها.
وإن الواعظ ليدرك ثقل مثل هذه المعاني على النفوس التي تقادم عهدها في درب الإسلام، كأنها تتكبر عليها وتظن أن قد تجاوزتها، ولكن المجرب يدرك أن الشيطان يترصد، وله غزوات، وماذا على موعوظ إذا تقبل هذه الكلمات الممنوحة له مجانا فادكر ورأى اللاءات القرآنية ثانية وثالثة كما رآها أول مرة !!
وكان يقال: (النصيحة منيحة، تدرأ الفضيحة)
ويا لله كم من فضيحة غشيت مسلمين وثقوا بظالم وظنوا أن بيده مفتاح الفرج! ففريق منهم يثق بظالم فاسق من أبناء جلدتنا، وفريق يثق بظالم كافر يأتي من وراء دار الإسلام، وفاز وَقَّافٌ عند حدود الحلال والحرام واستعلى على جميع الظالمين وفاصلهم مفاصلة قلبية ولسانية وعملية .
حين تنصر الملائكة ورثة الأنبياء
ولذلك كان من موازين الحسن البصري رحمه الله: ترجيح مذهب التخويف في التربية، احتياطا وتعجيلا في الاستدراك، فيقول : ( لأن تصحب أقواما يخوفونك حتى تبلغ المأمن: خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى تبلغ المخاوف) (1).
ولا تستغربن ذلك، كأنك لست المعني، أو كأن جيلك بدعة في الأجيال، أو قومك ليسو على طبائع من سلف من الأقوام، بل النفس هي النفس دائما، وشكل عنفوانها واحد : يرخى لها، فتستكثر، وتستطرد، فتستكبر، وتغفل، فتخرج إلى ظلم، حتى يغلب على القرية الظلم، وتكون متمردة على وصايا الأنبياء، فيأتيها الحصاد. وكان يأتيها في الأيام الغابرة في صورة حجارة من السماء، وهو يأتي اليوم عبر هزة اقتصادية، أو حرب، أو تفكك اجتماعي، فيكون الضيق من بعد دهر من الترف :
{ وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين * فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون * قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين * فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين }
أي ( لا تركضوا وارجعوا إلى منازلكم وأموالكم لعلكم تسألون مالا وخراجا فلا تقتلون.
فنودي من السماء :
يا لثارات الأنبياء !
وأخذتهم السيوف .
فثم قالوا : يا ويلنا إنا كنا ظالمين . اعترفوا بذلك حين لا ينفعهم الاعتراف ) (1).
نعوذ بالله من سهو الخراصين وتدسية الخائبين
ولذلك كان الفقه الإيماني يرتكز كله على التفريق بين نفسين، والتحذير من اللهو أو السدر في السهو، ومقاربة أسباب الفتنتين، في دعوة للعلو، خوف الهبوط، وذلك هو الذي جعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يكثر التخويف، استنباطا من مثل قوله تعالى : { قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون } فيقول: (أي ساهون عن أمر الآخرة، فهم في غمرة عنها، أي فيما يغمر قلوبهم من حب الدنيا ومتاعها، ساهون عن أمر الآخرة وما خلقوا له . وهذا يشبه قوله : { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } .. فالغمرة تكون من اتباع الهوى، والسهو من جنس الغفلة . ولهذا قال من قال: السهو: الغفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه. وهذا جماع الشر: الغفلة والشهوة.
فالغفلة عن الله والدار الآخرة: تسد باب الخير الذي هو الذكر واليقظة. والشهوة: تفتح باب الشر والسهو والخوف، فيبقى القلب مغمورا فيما يهواه ويخشاه، رائدا غير الله ، ساهيا عن ذكره، قد اشتغل بغير الله، قد انفرط أمره، قد ران حب الدنيا على قلبه) (2).
وواصل صاحبه ابن القيم رحمه الله طريقته، فيقول في مثل قوله تعالى: { قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها } :
(المعنى : قد أفلح من كبرها وأعلاها بطاعة الله وأظهرها، وقد خسر من أخفاها وحقرها وصغرها بمعصية الله.
وأصل التدسية: الإخفاء، ومنه قوله تعالى: { يدسه في التراب } ، فالعاصي يدس نفسه في المعصية، ويحمي مكانها، ويتوارى من الخلق من سوء ما يأتي به، قد انقمع عند نفسه، وانقمع عند الله، وانقمع عند الخلق . فالطاعة والبر تكبر النفس وتعزها وتعليها حتى تصير أشرف شيء وأكبره وأزكاه وأعلاه، و مع ذلك فهي أذل شيء وأحقره وأصغره لله تعالى، وبهذا الذل حصل لها هذا العز والشرف والنمو) (1) .
وهذه منهما مواصلة لمذهب الحسن البصري وطريقته الآنفة، وكان قد وصل بينهما وبين الحسن جيل أوسط كثير عدده، جزيل قوله، وكأن ابن الجوزي قد انتصب لهم إماما أو فوضوه وكيلا يترجم خلجات صدورهم، عبر كشف تلبيسات إبليس، أو خلال اصطياده لخواطره، وكان رحمه الله يرى أن:
(من نازعته نفسه إلى لذة محرمة فشغله نظره إليها عن تأمل عواقبها وعقابها، وسمع هتاف العقل يناديه: ويحك لا تفعل، فإنك تقف عن الصعود، وتأخذ في الهبوط، ويقال لك: ابق بما اخترت. فإن شغله هواه فلم يلتفت إلى ما قيل له: لم يزل في نزول) (2).
ثم رفع صوته ينادي : ( فالله الله في حريق الهوى إذا ثار، وانظر كيف تطفئه . فرب زلة أوقعت في بئر بوار، ورب أثر لم ينقلع، والفائت لا يستدرك على الحقيقة، فابعد عن أسباب الفتنة، فإن المقاربة محنة لا يكاد صاحبها يسلم ) (2)
فلئن كان الإجماع في فقه الأموال: إجماع الصحابة، أو إجماع جيل من أجيال المسلمين إذا وقعت بهم نازلة غريبة، فإن هاهنا في فقه الأحوال يتراكم إجماع الصحابة والتابعين وجميع الأجيال، وذلك سر شجاعتنا وعنادنا في الإصرار على هذا المذهب التربوي . وكان عبدالوهاب عزام رحمه الله، قبلنا بقليل، قد عرفه أيضا، حتى منحته معرفته الإيمانية ثقة، بها طفق يسيطر على نفسه ذات الخيارين - بإذن الله - حتى لكأن مفتاح التحويل القلبي بيده أسلس من مفاتيح الأبواب، ليس يحتاج إلا إلى لمسة ليستدرك أو يقصد الخير بعد كل ضياع، وروى تجربته في ذلك:
تسفل النفس بالصغائر حينا ***** وتضيق الحدود والآماد
فأحل القيود عنها فتسمو ****** فإذا بي الآزال والآباد (3)
وإنما يفهم قوله بمعاني المجاز وأبعاده.
فهو - بتمكين الله تعالى - مسيطر على ساحة المكان والزمان، يتجول في أعماقهما، بما وفقه الله إليه من فك الأسر وحل القيود.
وفي هذا تقرير لحقيقة إيمانية مهمة: أن مذهبنا في الخوف من الغفلات حق، ولكن هناك حقيقة أقوى من ذلك وأظهر وأجلى: أن الله يؤيد المؤمن بالعزائم، فتكون إرادته أقوى من نداء الشهوات، ومن هنا نستطيع أن نضع قاعدة في التربية الإسلامية: إن المؤمن يليق له أن يثق بنفسه، وأن يحسن الظن بها، وأنه مؤهل للأعمال الجليلة التي ندبه الله لها، من خلافة في الأرض، وإصلاح بين الناس، وتقويم كل اعوجاج، وما الخوف إلا طبيعة رقابية تتولى الحفظ والتنقية من الشوائب، لأن المحيط فيه غبار، الشيطان يثيره، ولأن الطريق فيه عثار، ابليس يمد رجله بين أرجل الراكضين ...
2- دعوة للسمو
يلحظ المراقب الناقد لصفات الأجيال الدعوية المتعاقبة نوعا من الهبوط في مستوى الالتزام بدقائق الأخلاق الإيمانية والذوقية، إذ ليس اللاحق على مثل جودة السابق، مع احتمال أن يكون أوعى منه سياسيا وعلميا، وأطلق لسانا، وأحكم تنظيما، ولربما وجدت اليوم شيئا من الغيبة، وسوء الظن، وسرعة الغضب، وورود اللفظ الخشن على لسان المتكلم، وعدم إباء أُذُن جليسه السامع لهذا اللفظ، بل وقد تطرب له، وهي أمور لم يبرأ الجيل الأول منها، ولكنها كانت نادرة، تأتي كالفلتات، أو يقل عدد المتورطين بها، بينما تترادف اليوم، ويزداد الاستدراج، بحيث أصابت الصورة المثالية التي كنا عليها ثلمة، وما زالت مثالية بحمد الله تعالى، لكن درجات الإحسان التي ندرج عليها توجب علينا براءة شبه تامة.
يظن البعض أن هذا التباين إنما هو ظاهرة طبيعية ناتجة من ارتفاع همة من يتولى التأسيس، تبعا لمعنى التحدي عند نشوء الدعوة في كل بلد، وهذا سبب صحيح، لكنه ليس السبب الوحيد ولا الأهم، والراجح أن هذه الثلمة إنما هي من تأثر بالمحيط العام والبيئة السياسية والفكرية والإعلامية التي تعقدت بعد التحولات الثورية في كثير من البلاد، فإن الداعية فرد في هذا المجتمع العام قبل انضمامه لتيار الدعوة، خاضع للمؤثرات فيه، ثم هو بعد انضمامه يخالط الفجرة مثلما يخالط البررة، في الجامعة أو عند أداء عمله المهني، وفي السوق والشارع والمنتديات العامة، بل يخالط فجرة من عائلته، من بين شقيق أو ابن عم وخال، فيقلدهم في أشياء، إذا غفل، ويسري إليه عيبهم دون أن يشعر، وتظهر على لسانه عبارات عامية يفترض أن يتعفف عنها طالب العلم وصاحب الفكر، بله المتوضئ، ويفعل النشاز الذي يأباه الذوق أو ترفضه المروءة، إذا شاهد فاجرا يذهب في الإسفاف إلى أبعد منه، كأنه يفتي نفسه بأنه أفضل من ذاك المسف المبعد، بدلالة الاقتصار منه ومدى الاختصار ، ذاهلا عن أن الثلمة الصغيرة التي لم يستكبرها يمكن أن تشوه الصورة وتعكر الصفاء أيضا، وأنها سبب في ضعف الحساسية الإيمانية التي تمنحه الأنفة عن الابتذال، والعزة على أهل السوء.
وليست هي الخلطة فقط، وإنما مثلها ردود الفعل لأساليب الأحزاب العلمانية وأنواع تصرفات منتسبيها وأفكارهم التي يعرضونها، إذ تكون ردود الداعية أحيانا على غير ما فقه صائب إذا استفزه الحزبيون، وكذلك اللغة الصحفية والإذاعية الرديئة المبنى والجرس والنبرة فضلا عما فيها من معنى منحرف وشتيمة وظلم واستهزاء وحشو، كل ذلك يقسي قلب المسلم عن طريق التقليد اللاشعوري لما يسمع ويرى، ويجعل الجرأة على الفاضل مستساغة عنده، فيقل احترام الكبير، من أستاذ أو شيخ مرب أو أمير متقدم، وتكون منه أنواع من المنافسة للقرين المماثل، من حسد خفي أو صريح، وتكذيب، ويصبح يضيق به ذرعا إذا رآه يأتي من العمل ما يعجز عنه أو يكون أفصح في درس أو كتابة مقال ، ولربما تجاوز عدوانه الكبير والقرين ليصيب المستجد والتلميذ والناشئ الصغير، فيتعامل معهم بلا رفق، ويكثر منه الزجر لهم والقسوة عليهم.
إنها فلتات لا يبرأ منها رجال منا، ولسنا نتكلف التهمة لهم، وإنما هناك قرائن تشهد وحوادث ترتكب، وابن آدم لا بد أن يلازمه خطأ، والشيطان يستزل، والموفق من لم يغالط نفسه ويغالط الآخرين، وتكون له مسارعة إلى التوبة والعلاج والترميم والاستدراك، بدل المكابرة والإصرار، وإذا كان أحد من منحرفي النفوس يعتاد التشهير بنا معتمدا على مثل هذه المكاشفة فإن المفروض أن لا يصدنا ذلك عن كمال المصارحة، إذ نكله إلى نيته الحائدة عن الحق والإصلاح، ونلوذ بعز التوبة.
إن ظاهرة نقص الأفراد هي من الظواهر المبتوت بصحة وجودها، وإنما أردنا أن نثبت بكلامنا آنفا ما هو أوسع من ذلك، من تأثر جيل بكامله برداءة المحيط والبيئة، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم، وأما الغالبية فقد ألمت أو قارفت، وكأنها تورطت، لكن منهم الموغل المكثار، ومنهم المتخفف، ومنهم صاحب الفلتات النادرة.
إن هذه الملاحظات لا يلاحظها أفراد الأجيال الجديدة، لأنهم لم يعيشوا لذة صفاء الأجيال السابقة القديمة قبل أن تفسد الحزبيات والثورات البقية التي كانت باقية من جمال الحياة، مع قلة حجم تلك البقية، وفاقد الشيء لا يعطيه، ويمكن أن يدرك ما نقول الأخوة القدماء الذين عاصروا بداية الدعوة ومراحلها الأولى، يوم كان الخير في الناس وافرا، وبين الدعاة عامرا، ويوم لم يكن الحاكم يتفنن في أذى الشعب كما يتفنن اليوم ويبتكر، ولا يرغمهم على سماع اللغو منه أو من إذاعته وتلفازه وصحفه كما يرغمهم اليوم.
ويظن البعض أن وجود ضعفاء من الجيل القديم تؤثر عنهم مثل هذه الأدواء ينقض صحة هذا الاستنتاج ويدفع التهمة عن الأجيال الجديدة . وليس هذا الظن على سعته، لأن الذي يرى ضعيفا من القدماء فهو إنما يرى نموذجا واهن التكوين أصابه المحيط الملوث أيضا، واستوى مع الجدد في ذلك، وتلك زيادة تأكيد على صحة ما ذهبنا إليه، فإن فساد البيئة إذا كان ينحت فضل القديم الراسخ فأحرى أن تلين أمامه قناة المستجد الطارئ، وإنما أردنا الإشارة إلى موقف هذا القديم في أيامه القديمة التي هي أقرب إلى النقاء وبيئته التي كانت محافظة على مزايا الصفاء: كيف أنه كان أنزه روحا، وأسلم قلبا، وأجود معدنا، وأشد ركنا.
والمتفحص للأمر، المقارن بين قصص الحياة اليومية الحاضرة والماضية، يجد أن التأثر بالسوء حاصل بصورة عامة لدى جميع الناس بصورة أعمق، وأن الخير والفعل الجميل في تناقص، بل أن الذي نسبناه للدعاة ما هو إلا بمقدار عشر المعشار منه، وتولدت في الناس غلظة وجفوة وقطيعة رحم ما كان يعرفها الجيل الذي عاصر حياة ما قبل الحرب العالمية الأولى مثلا، يوم كان العرق الأخير للدولة العثمانية ينبض، حتى أصبحنا نرى من عقوق الوالدين والعدوان على الجيران والغش في التعامل والبخل على الضيف والظلم عند المقدرة أشياء كان يتعفف عنها الناس سابقا، أغلب الناس .. وحتى أصبحت الحكايات الحقيقية لمكارم الأخلاق، والتي كانت اعتيادية: ضربا من الرمز والخيال المستبعد تكراره في تقدير من يسمعها، وهذا الوضع كان وما يزال مستمرا في بلاد عديدة، وبداياته تتزامن مع تطبيق مناهج التعليم الحديثة قبل ما معدله ستين سنة، أو أقل أو أكثر قليلا، ومع ما صاحب ذلك من انفتاح على الغرب والشرق، ومع نشوء الصحافة المقلدة للصحافة العالمية التي يسيطر عليها التوجيه اليهودي، بل نجزم أن بلاد النصارى في الغرب، وبلاد البوذية وأمثالها في الشرق، كانت حياتها الماضية لا تخلو من تراحم بين أهلها، وبقايا عفة، وآثار مروءة، هي خالية منها الآن.
إننا لا نريد بهذا الكلام أن نقذف يأسا في قلوب الدعاة، أو نولد إحباطا وشعورا من الأسف أو الزهد بالعمل الإسلامي ونتائجه، ولم نسرد خبر الأمس واليوم من أجل متعة تاريخية أو إثبات حقيقة إحصائية، وإنما أردنا توجيه الغد، وأن يكون لنا في التجربة موعظة.
إن لكلامنا مقاصد خمسة:
الأول: إيراد نمط من التحليل والتسبيب يوسع آفاق تفكير الدعاة إذا أرادوا فهم ظاهرة معينة في الحياة الدعوية، بحيث تتكشف جذور المسألة وجذور المداخلات التي تحيط بها، وضغط المجتمع، وتأثيرات السياسة.
الثاني: إخراج الداعية من الإطلاق في الحكم على الأمور، إلى النسبية، ومن الاستعجال، إلى التأمل، ومن العفوية، إلى المنهجية، ومن الغفلة، إلى نقد الذات والتدقيق مع النفس، مع أن هذا المسلك خطر، إذ أن بعض المنافسين والحاسدين سينحرفون بهذا المقصد النقدي الإصلاحي الواعظ إلى جعل كلماتنا وثيقة اتهام لنا يدللون بها على ضعفنا، وما دروا أن الحساسية المفرطة هي التي تنطقنا، وإن صف الدعاة - بحمد الله - أنقى وأرفع من أي صف آخر رغم ملاحظتنا.
الثالث: الانتصار للأجيال الجديدة! وإعادة الاعتبار لها إزاء أحكام يصدرها عليهم بعض المتشددين من أفراد الجيل القديم، بتقرير ما ذهبنا إلى ترجيحه من أن هذه الأجيال إنما هي ضحية البيئة الملوثة أخلاقيا وفكريا وسياسيا، وأن الخيرية مركوزة فيها أيضا، ولكن تغطى شيئا منها الأوساخ المحيطة أو تميل بها العواصف الداهمة! وأن هذا كله من دلالات الظاهرة التربوية العامة التي تجعل تأثر كل فرد بالمسموع والمنظور محتملا، ومن نتائج تضاد التربيات المتزاحمة.
الرابع: إثبات وجوب التربية التي تعالج هذه السلبيات الأخلاقية، وضرورة أن يتواضع كل داعية أمام ما تستوجبه هذه الظاهرة من خضوع لمنهج يعظ القلوب بكثافة، ويعيد ذكر بديهيات الطريق وأسس الإيمان والأخلاق ، وليس بصواب أن يضع داعية نفسه فوق التربية، ويستعلي على حديث يزجره عن السوء ولو سمعه مائة مرة، فإن في النفوس - كل النفوس - قابلية لطيش في أوقات الغفلة، فتنزل إلى مستوى العوام، وان استقام صاحبها على دين الخواص الفقهاء العباد دهرا، أو حاز على أعلى شهادة وأرقى منصب وأضخم رصيد مالي، بل وإن ابيضت لحيته وتجاوز الكهولة سنه.
الخامس: التخطيط الدعوي لإصلاح أخلاق الناس عامة وأذواقهم وأعرافهم، وإعادة إحياء عواطفهم، وتجديد الحس الإيماني بعد ضموره فيهم، ويبدأ هذا التخطيط والتنفيذ له ابتداء من يومنا هذا في مرحلتنا التي نحن فيها، رغم ثقل أحمالنا وجزالة همومنا، ثم يمتد إلى مراحل التمكين، بل يجب أن يتركز هذا التوجه آنذاك ويشتد، وليس من شأننا أن نخطط سياسيا واقتصاديا فقط، أو نبث علم اللسان فحسب، فإن طريقنا يمر قبل السياسة والاقتصاد وخلاف الفقهاء بتطهير الجنان. إن دعوتنا هي دعوة المروءة والنبل والعفة، ورقة التعامل والذوـق الرفيع، قبل أن تكون دعوة سياسية، أو حملة جهادية، أو مدرسة علمية، ولن ينزل الطغاة إلى نهاياتهم ما لم تتسام أخلاقنا صعدا، ونعود إلى بداياتنا..
الرسالة الأولى
نحـو المعالي
لمحمد أحمد الراشد
1- مذهب الاحتياط
في أول شبابي، يوم كنت صغيرا بعد في عداد ناشئة المساجد، وفي وقت مبكر قبل أربعين سنة: فطمتني عن اللهو تلك الهزة النفسية التي سادت الأمة عقب ضياع فلسطين، واستبدت بي عزائم الجد التي كانت تتصاعد كلما قرأت رسالة من رسائل فكر الدعوة الإسلامية، فلم أتردد في الاستجابة لأول داع يدعوني إلى " الدار "، دار الدعوة، فولجت مدخل الصدق بعد صلاة المغرب، فإذا شاعر الدعوة الإسلامية الأستاذ وليد الأعظمي يتوسط شبابا يقربون من عشرين يتدارس معهم فصلا من " الترغيب والترهيب " للحافظ المنذري ، فالتقت نظرتي بنظرته برهة بعد السلام ، ثم قال : تفضل واجلس ، فكان أول أستاذ لي ....
ومنذ ذلك اليوم القديم كان يعظني ويعظ شباب جيلي، فيقف وقفاته المباركة في الجموع الحاشدة في حفلات المساجد وغيرها، فيزمجر تارة، ويرفق في أخرى ويتلطف، يتنقل بين معاني الخير، ويغرس غرسه في القلوب، كأن يقول:
كن رابط الجأش وارفع راية الأمل *** وسر إلى الله في جد بلا هزل
وإن شعرت بنقص فيك تعرفه *** فغذ روحك بالقرآن واكتمل
وحارب النفس وامنعها غوايتها *** فالنفس تهوى الذي يدعو إلى الزلل (1)
وكان أن استقرت مواعظه في قلبي، فنشأت معتقدا وجوب أنماط التربية الإيمانية في الطريق الدعوي، وأن تجاوزها إلى الشكل السياسي المحض محفوف بالمخاطر، وقد ينتج أفئدة فيها قسوة، ليس لها من الصفاء وفرة نصيب، ويؤدي إلى رجحان النفس الأمارة بالسوء على النفس الزكية، وهي التي عناها وليد بالمحاربة، وكل من يفقه آداب الإسلام وسننه يدرك تماما أن هذا السوء المعني ليس من شرطه أن يكون حالكا ثقيل الوطأة موغلا في الإغراب والإيذاء، وإنما يكفيه أن يكون لمما وصغائر وحالات ريائية وتحاسدية، مثلا، لأن الميزان الإيماني حساس جدا، ولفظ السوء يشمل هذه الأمراض القلبية، ومن ثم لزم أن يكون محيط الدعاة بريئا منها، بعيدا عنها.
فخر عليهم السقف من فوقهم
ولذلك فهمت، ومنذ وقت قديم، وجوب وراثة الرعيل الدعوي الأول، وأن أرفع شعار " الاكتمال من خلال تغذية الروح بالقرآن الكريم والسنة المطهرة "، وأن أرصد نفسي للدندنة حول كل معنى تربوي يقود إلى تحليق الأرواح نحو المعالي.
وكان أبو مسلم الخولاني رحمه الله قد دخل مسجدا، فرأى فيه حلقة ظنهم في ذكر، فجلس إليهم، فإذا هم يتحدثون في الدنيا، فقال: "سبحان الله! هل تدرون يا هؤلاء ما مثلي ومثلكم؟ كمثل رجل أصابه مطر غزير وابل ، فالتفت فإذا هو بمصراعين عظيمين ، فقال: لو دخلت هذا البيت حتى يذهب عني أذى هذا المطر، فدخل، فإذا بيت لا سقف له. جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على خير ، على ذكر ، فإذا أنتم أصحاب دنيا " (1) .
وقد أسرني هذا المثل، وتجلت لي فيه حالة رهط الدعاة إذا غفل ولم ينشغل بالتريية، وكثر فيه ذكر الأموال والأسعار والنساء والسيارات.
رقاب منكسة... يرفضها طريق المعالي
والآيات زاجرة، تدعو إلى القناعة.
قال تعالى في سورة طه : { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه، ورزق ربك خير وأبقى } ..
وقوله تعالى: { أزواجا منهم } : أي أصنافا من الكفرة أو الفسقة.
( ولقد شدد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعُدَد الفسقة، في ملابسهم ومراكبهم، حتى قال الحسن : " لا تنظروا إلى دقدقة هماليج الفسقة، ولكن انظروا كيف يلوح ذل المعصية من تلك الرقاب !!" ) (2).
وأنا وإياك لفي غنى عن معرفة لفظ غريب في كلام الحسن البصري، لنتجاوزه إلى رؤيته للظاهرة الواضحة في مواعظ الحياة، والتي لا يلحظها غير مسلم يصون نفسه، وهو تمييزنا لذل المعصية الثقيل على رقاب أهل الدنيا، فلقد صدق رحمه الله، وإنها لمسحة تعلو المترفين واللاهين فيسفلون، إذ طائع ربه العابد يسمو نحو المعالي.
فإنما نريد أن نعيذك بالله من الغفلة و الركون إلى زهرة الحياة الدنيا ، ليس غير ، و نحن الذين شجعناك - عبر روايتنا لك قصة صناعة الحياة - على أن تصفق وتسيطر على حصة الإسلام في الأسواق والمزارع والمصانع، ولكن ليكون المال في يدك .. لا في قلبك، وعلى نية منافسة حصة الفسوق والعصيان.
وإنك لتتقلب في البلاد العريضة، وتهاجر، وتقيم وتسيح، وتتاجر، وتتصدى لأنواع من الخير تظنها، وتطلب التمكين، وترجو السطوة والعز، فأنت وما يوفقك الله إليه، لا نحسدك على فضل تناله، ولا ننهاك عن طلب ثروة وسعة، ولا نسألك كشف حساب أو ضريبة أو حصة إرث، وإنما نسألك - أيها الأخ العزيز - عن دينك وتوحيدك وتوكلك وإخباتك ونوايا المعروف، ونتشبه بحرص يعقوب عليه السلام لما ( سأل البشير : كيف يوسف ؟
قال: هو ملك مصر!
فقال: ما أصنع بالملك؟ على أي دين تركته؟
قال: على دين الإسلام
قال: الآن تمت النعمة ! ) (1).
فإنما نريد أن تتم النعم على شباب يريد الإصـلاح في محيط قاس فيه أنواع الشبهات والشهوات، لنقول - إذ يطمئن القلب - مثل قول يعقوب عليه السلام.
لا ... ثم ... لا
وتذهب الفراسة التربوية فورا ومباشرة إلى أن تقرن الآية السالفة المزهدة بزهرة الحياة الدنيا بآية الاستقامة في سورة هود، في قوله تعالى : { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير * ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون }.
( يعني: فاستقم أنت، وليستقم من تاب عن الكفر ورجع إلى الله مخلصا ) .
( وعن الحسن: جعل الله الدين بين لائين: ولا تطغوا، ولا تركنوا ) (2).
فالطغيان : كل مجاوزة للحد تؤدي إلى الغفلة والإعراض عن الذكر . والركون إلى الظالم : يتناول صورا كثيرة، وليس هو أن نكون من جنده فحسب، بل ورجاء صورة خير منه أيضا، والثقة به، وطلب نصرته لنا، وتمني مثل ما عنده … كل ذلك كان سيؤه عند ربك مكروها.
وإن الواعظ ليدرك ثقل مثل هذه المعاني على النفوس التي تقادم عهدها في درب الإسلام، كأنها تتكبر عليها وتظن أن قد تجاوزتها، ولكن المجرب يدرك أن الشيطان يترصد، وله غزوات، وماذا على موعوظ إذا تقبل هذه الكلمات الممنوحة له مجانا فادكر ورأى اللاءات القرآنية ثانية وثالثة كما رآها أول مرة !!
وكان يقال: (النصيحة منيحة، تدرأ الفضيحة)
ويا لله كم من فضيحة غشيت مسلمين وثقوا بظالم وظنوا أن بيده مفتاح الفرج! ففريق منهم يثق بظالم فاسق من أبناء جلدتنا، وفريق يثق بظالم كافر يأتي من وراء دار الإسلام، وفاز وَقَّافٌ عند حدود الحلال والحرام واستعلى على جميع الظالمين وفاصلهم مفاصلة قلبية ولسانية وعملية .
حين تنصر الملائكة ورثة الأنبياء
ولذلك كان من موازين الحسن البصري رحمه الله: ترجيح مذهب التخويف في التربية، احتياطا وتعجيلا في الاستدراك، فيقول : ( لأن تصحب أقواما يخوفونك حتى تبلغ المأمن: خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى تبلغ المخاوف) (1).
ولا تستغربن ذلك، كأنك لست المعني، أو كأن جيلك بدعة في الأجيال، أو قومك ليسو على طبائع من سلف من الأقوام، بل النفس هي النفس دائما، وشكل عنفوانها واحد : يرخى لها، فتستكثر، وتستطرد، فتستكبر، وتغفل، فتخرج إلى ظلم، حتى يغلب على القرية الظلم، وتكون متمردة على وصايا الأنبياء، فيأتيها الحصاد. وكان يأتيها في الأيام الغابرة في صورة حجارة من السماء، وهو يأتي اليوم عبر هزة اقتصادية، أو حرب، أو تفكك اجتماعي، فيكون الضيق من بعد دهر من الترف :
{ وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين * فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون * لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون * قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين * فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين }
أي ( لا تركضوا وارجعوا إلى منازلكم وأموالكم لعلكم تسألون مالا وخراجا فلا تقتلون.
فنودي من السماء :
يا لثارات الأنبياء !
وأخذتهم السيوف .
فثم قالوا : يا ويلنا إنا كنا ظالمين . اعترفوا بذلك حين لا ينفعهم الاعتراف ) (1).
نعوذ بالله من سهو الخراصين وتدسية الخائبين
ولذلك كان الفقه الإيماني يرتكز كله على التفريق بين نفسين، والتحذير من اللهو أو السدر في السهو، ومقاربة أسباب الفتنتين، في دعوة للعلو، خوف الهبوط، وذلك هو الذي جعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يكثر التخويف، استنباطا من مثل قوله تعالى : { قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون } فيقول: (أي ساهون عن أمر الآخرة، فهم في غمرة عنها، أي فيما يغمر قلوبهم من حب الدنيا ومتاعها، ساهون عن أمر الآخرة وما خلقوا له . وهذا يشبه قوله : { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا } .. فالغمرة تكون من اتباع الهوى، والسهو من جنس الغفلة . ولهذا قال من قال: السهو: الغفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه. وهذا جماع الشر: الغفلة والشهوة.
فالغفلة عن الله والدار الآخرة: تسد باب الخير الذي هو الذكر واليقظة. والشهوة: تفتح باب الشر والسهو والخوف، فيبقى القلب مغمورا فيما يهواه ويخشاه، رائدا غير الله ، ساهيا عن ذكره، قد اشتغل بغير الله، قد انفرط أمره، قد ران حب الدنيا على قلبه) (2).
وواصل صاحبه ابن القيم رحمه الله طريقته، فيقول في مثل قوله تعالى: { قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها } :
(المعنى : قد أفلح من كبرها وأعلاها بطاعة الله وأظهرها، وقد خسر من أخفاها وحقرها وصغرها بمعصية الله.
وأصل التدسية: الإخفاء، ومنه قوله تعالى: { يدسه في التراب } ، فالعاصي يدس نفسه في المعصية، ويحمي مكانها، ويتوارى من الخلق من سوء ما يأتي به، قد انقمع عند نفسه، وانقمع عند الله، وانقمع عند الخلق . فالطاعة والبر تكبر النفس وتعزها وتعليها حتى تصير أشرف شيء وأكبره وأزكاه وأعلاه، و مع ذلك فهي أذل شيء وأحقره وأصغره لله تعالى، وبهذا الذل حصل لها هذا العز والشرف والنمو) (1) .
وهذه منهما مواصلة لمذهب الحسن البصري وطريقته الآنفة، وكان قد وصل بينهما وبين الحسن جيل أوسط كثير عدده، جزيل قوله، وكأن ابن الجوزي قد انتصب لهم إماما أو فوضوه وكيلا يترجم خلجات صدورهم، عبر كشف تلبيسات إبليس، أو خلال اصطياده لخواطره، وكان رحمه الله يرى أن:
(من نازعته نفسه إلى لذة محرمة فشغله نظره إليها عن تأمل عواقبها وعقابها، وسمع هتاف العقل يناديه: ويحك لا تفعل، فإنك تقف عن الصعود، وتأخذ في الهبوط، ويقال لك: ابق بما اخترت. فإن شغله هواه فلم يلتفت إلى ما قيل له: لم يزل في نزول) (2).
ثم رفع صوته ينادي : ( فالله الله في حريق الهوى إذا ثار، وانظر كيف تطفئه . فرب زلة أوقعت في بئر بوار، ورب أثر لم ينقلع، والفائت لا يستدرك على الحقيقة، فابعد عن أسباب الفتنة، فإن المقاربة محنة لا يكاد صاحبها يسلم ) (2)
فلئن كان الإجماع في فقه الأموال: إجماع الصحابة، أو إجماع جيل من أجيال المسلمين إذا وقعت بهم نازلة غريبة، فإن هاهنا في فقه الأحوال يتراكم إجماع الصحابة والتابعين وجميع الأجيال، وذلك سر شجاعتنا وعنادنا في الإصرار على هذا المذهب التربوي . وكان عبدالوهاب عزام رحمه الله، قبلنا بقليل، قد عرفه أيضا، حتى منحته معرفته الإيمانية ثقة، بها طفق يسيطر على نفسه ذات الخيارين - بإذن الله - حتى لكأن مفتاح التحويل القلبي بيده أسلس من مفاتيح الأبواب، ليس يحتاج إلا إلى لمسة ليستدرك أو يقصد الخير بعد كل ضياع، وروى تجربته في ذلك:
تسفل النفس بالصغائر حينا ***** وتضيق الحدود والآماد
فأحل القيود عنها فتسمو ****** فإذا بي الآزال والآباد (3)
وإنما يفهم قوله بمعاني المجاز وأبعاده.
فهو - بتمكين الله تعالى - مسيطر على ساحة المكان والزمان، يتجول في أعماقهما، بما وفقه الله إليه من فك الأسر وحل القيود.
وفي هذا تقرير لحقيقة إيمانية مهمة: أن مذهبنا في الخوف من الغفلات حق، ولكن هناك حقيقة أقوى من ذلك وأظهر وأجلى: أن الله يؤيد المؤمن بالعزائم، فتكون إرادته أقوى من نداء الشهوات، ومن هنا نستطيع أن نضع قاعدة في التربية الإسلامية: إن المؤمن يليق له أن يثق بنفسه، وأن يحسن الظن بها، وأنه مؤهل للأعمال الجليلة التي ندبه الله لها، من خلافة في الأرض، وإصلاح بين الناس، وتقويم كل اعوجاج، وما الخوف إلا طبيعة رقابية تتولى الحفظ والتنقية من الشوائب، لأن المحيط فيه غبار، الشيطان يثيره، ولأن الطريق فيه عثار، ابليس يمد رجله بين أرجل الراكضين ...
2- دعوة للسمو
يلحظ المراقب الناقد لصفات الأجيال الدعوية المتعاقبة نوعا من الهبوط في مستوى الالتزام بدقائق الأخلاق الإيمانية والذوقية، إذ ليس اللاحق على مثل جودة السابق، مع احتمال أن يكون أوعى منه سياسيا وعلميا، وأطلق لسانا، وأحكم تنظيما، ولربما وجدت اليوم شيئا من الغيبة، وسوء الظن، وسرعة الغضب، وورود اللفظ الخشن على لسان المتكلم، وعدم إباء أُذُن جليسه السامع لهذا اللفظ، بل وقد تطرب له، وهي أمور لم يبرأ الجيل الأول منها، ولكنها كانت نادرة، تأتي كالفلتات، أو يقل عدد المتورطين بها، بينما تترادف اليوم، ويزداد الاستدراج، بحيث أصابت الصورة المثالية التي كنا عليها ثلمة، وما زالت مثالية بحمد الله تعالى، لكن درجات الإحسان التي ندرج عليها توجب علينا براءة شبه تامة.
يظن البعض أن هذا التباين إنما هو ظاهرة طبيعية ناتجة من ارتفاع همة من يتولى التأسيس، تبعا لمعنى التحدي عند نشوء الدعوة في كل بلد، وهذا سبب صحيح، لكنه ليس السبب الوحيد ولا الأهم، والراجح أن هذه الثلمة إنما هي من تأثر بالمحيط العام والبيئة السياسية والفكرية والإعلامية التي تعقدت بعد التحولات الثورية في كثير من البلاد، فإن الداعية فرد في هذا المجتمع العام قبل انضمامه لتيار الدعوة، خاضع للمؤثرات فيه، ثم هو بعد انضمامه يخالط الفجرة مثلما يخالط البررة، في الجامعة أو عند أداء عمله المهني، وفي السوق والشارع والمنتديات العامة، بل يخالط فجرة من عائلته، من بين شقيق أو ابن عم وخال، فيقلدهم في أشياء، إذا غفل، ويسري إليه عيبهم دون أن يشعر، وتظهر على لسانه عبارات عامية يفترض أن يتعفف عنها طالب العلم وصاحب الفكر، بله المتوضئ، ويفعل النشاز الذي يأباه الذوق أو ترفضه المروءة، إذا شاهد فاجرا يذهب في الإسفاف إلى أبعد منه، كأنه يفتي نفسه بأنه أفضل من ذاك المسف المبعد، بدلالة الاقتصار منه ومدى الاختصار ، ذاهلا عن أن الثلمة الصغيرة التي لم يستكبرها يمكن أن تشوه الصورة وتعكر الصفاء أيضا، وأنها سبب في ضعف الحساسية الإيمانية التي تمنحه الأنفة عن الابتذال، والعزة على أهل السوء.
وليست هي الخلطة فقط، وإنما مثلها ردود الفعل لأساليب الأحزاب العلمانية وأنواع تصرفات منتسبيها وأفكارهم التي يعرضونها، إذ تكون ردود الداعية أحيانا على غير ما فقه صائب إذا استفزه الحزبيون، وكذلك اللغة الصحفية والإذاعية الرديئة المبنى والجرس والنبرة فضلا عما فيها من معنى منحرف وشتيمة وظلم واستهزاء وحشو، كل ذلك يقسي قلب المسلم عن طريق التقليد اللاشعوري لما يسمع ويرى، ويجعل الجرأة على الفاضل مستساغة عنده، فيقل احترام الكبير، من أستاذ أو شيخ مرب أو أمير متقدم، وتكون منه أنواع من المنافسة للقرين المماثل، من حسد خفي أو صريح، وتكذيب، ويصبح يضيق به ذرعا إذا رآه يأتي من العمل ما يعجز عنه أو يكون أفصح في درس أو كتابة مقال ، ولربما تجاوز عدوانه الكبير والقرين ليصيب المستجد والتلميذ والناشئ الصغير، فيتعامل معهم بلا رفق، ويكثر منه الزجر لهم والقسوة عليهم.
إنها فلتات لا يبرأ منها رجال منا، ولسنا نتكلف التهمة لهم، وإنما هناك قرائن تشهد وحوادث ترتكب، وابن آدم لا بد أن يلازمه خطأ، والشيطان يستزل، والموفق من لم يغالط نفسه ويغالط الآخرين، وتكون له مسارعة إلى التوبة والعلاج والترميم والاستدراك، بدل المكابرة والإصرار، وإذا كان أحد من منحرفي النفوس يعتاد التشهير بنا معتمدا على مثل هذه المكاشفة فإن المفروض أن لا يصدنا ذلك عن كمال المصارحة، إذ نكله إلى نيته الحائدة عن الحق والإصلاح، ونلوذ بعز التوبة.
إن ظاهرة نقص الأفراد هي من الظواهر المبتوت بصحة وجودها، وإنما أردنا أن نثبت بكلامنا آنفا ما هو أوسع من ذلك، من تأثر جيل بكامله برداءة المحيط والبيئة، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم، وأما الغالبية فقد ألمت أو قارفت، وكأنها تورطت، لكن منهم الموغل المكثار، ومنهم المتخفف، ومنهم صاحب الفلتات النادرة.
إن هذه الملاحظات لا يلاحظها أفراد الأجيال الجديدة، لأنهم لم يعيشوا لذة صفاء الأجيال السابقة القديمة قبل أن تفسد الحزبيات والثورات البقية التي كانت باقية من جمال الحياة، مع قلة حجم تلك البقية، وفاقد الشيء لا يعطيه، ويمكن أن يدرك ما نقول الأخوة القدماء الذين عاصروا بداية الدعوة ومراحلها الأولى، يوم كان الخير في الناس وافرا، وبين الدعاة عامرا، ويوم لم يكن الحاكم يتفنن في أذى الشعب كما يتفنن اليوم ويبتكر، ولا يرغمهم على سماع اللغو منه أو من إذاعته وتلفازه وصحفه كما يرغمهم اليوم.
ويظن البعض أن وجود ضعفاء من الجيل القديم تؤثر عنهم مثل هذه الأدواء ينقض صحة هذا الاستنتاج ويدفع التهمة عن الأجيال الجديدة . وليس هذا الظن على سعته، لأن الذي يرى ضعيفا من القدماء فهو إنما يرى نموذجا واهن التكوين أصابه المحيط الملوث أيضا، واستوى مع الجدد في ذلك، وتلك زيادة تأكيد على صحة ما ذهبنا إليه، فإن فساد البيئة إذا كان ينحت فضل القديم الراسخ فأحرى أن تلين أمامه قناة المستجد الطارئ، وإنما أردنا الإشارة إلى موقف هذا القديم في أيامه القديمة التي هي أقرب إلى النقاء وبيئته التي كانت محافظة على مزايا الصفاء: كيف أنه كان أنزه روحا، وأسلم قلبا، وأجود معدنا، وأشد ركنا.
والمتفحص للأمر، المقارن بين قصص الحياة اليومية الحاضرة والماضية، يجد أن التأثر بالسوء حاصل بصورة عامة لدى جميع الناس بصورة أعمق، وأن الخير والفعل الجميل في تناقص، بل أن الذي نسبناه للدعاة ما هو إلا بمقدار عشر المعشار منه، وتولدت في الناس غلظة وجفوة وقطيعة رحم ما كان يعرفها الجيل الذي عاصر حياة ما قبل الحرب العالمية الأولى مثلا، يوم كان العرق الأخير للدولة العثمانية ينبض، حتى أصبحنا نرى من عقوق الوالدين والعدوان على الجيران والغش في التعامل والبخل على الضيف والظلم عند المقدرة أشياء كان يتعفف عنها الناس سابقا، أغلب الناس .. وحتى أصبحت الحكايات الحقيقية لمكارم الأخلاق، والتي كانت اعتيادية: ضربا من الرمز والخيال المستبعد تكراره في تقدير من يسمعها، وهذا الوضع كان وما يزال مستمرا في بلاد عديدة، وبداياته تتزامن مع تطبيق مناهج التعليم الحديثة قبل ما معدله ستين سنة، أو أقل أو أكثر قليلا، ومع ما صاحب ذلك من انفتاح على الغرب والشرق، ومع نشوء الصحافة المقلدة للصحافة العالمية التي يسيطر عليها التوجيه اليهودي، بل نجزم أن بلاد النصارى في الغرب، وبلاد البوذية وأمثالها في الشرق، كانت حياتها الماضية لا تخلو من تراحم بين أهلها، وبقايا عفة، وآثار مروءة، هي خالية منها الآن.
إننا لا نريد بهذا الكلام أن نقذف يأسا في قلوب الدعاة، أو نولد إحباطا وشعورا من الأسف أو الزهد بالعمل الإسلامي ونتائجه، ولم نسرد خبر الأمس واليوم من أجل متعة تاريخية أو إثبات حقيقة إحصائية، وإنما أردنا توجيه الغد، وأن يكون لنا في التجربة موعظة.
إن لكلامنا مقاصد خمسة:
الأول: إيراد نمط من التحليل والتسبيب يوسع آفاق تفكير الدعاة إذا أرادوا فهم ظاهرة معينة في الحياة الدعوية، بحيث تتكشف جذور المسألة وجذور المداخلات التي تحيط بها، وضغط المجتمع، وتأثيرات السياسة.
الثاني: إخراج الداعية من الإطلاق في الحكم على الأمور، إلى النسبية، ومن الاستعجال، إلى التأمل، ومن العفوية، إلى المنهجية، ومن الغفلة، إلى نقد الذات والتدقيق مع النفس، مع أن هذا المسلك خطر، إذ أن بعض المنافسين والحاسدين سينحرفون بهذا المقصد النقدي الإصلاحي الواعظ إلى جعل كلماتنا وثيقة اتهام لنا يدللون بها على ضعفنا، وما دروا أن الحساسية المفرطة هي التي تنطقنا، وإن صف الدعاة - بحمد الله - أنقى وأرفع من أي صف آخر رغم ملاحظتنا.
الثالث: الانتصار للأجيال الجديدة! وإعادة الاعتبار لها إزاء أحكام يصدرها عليهم بعض المتشددين من أفراد الجيل القديم، بتقرير ما ذهبنا إلى ترجيحه من أن هذه الأجيال إنما هي ضحية البيئة الملوثة أخلاقيا وفكريا وسياسيا، وأن الخيرية مركوزة فيها أيضا، ولكن تغطى شيئا منها الأوساخ المحيطة أو تميل بها العواصف الداهمة! وأن هذا كله من دلالات الظاهرة التربوية العامة التي تجعل تأثر كل فرد بالمسموع والمنظور محتملا، ومن نتائج تضاد التربيات المتزاحمة.
الرابع: إثبات وجوب التربية التي تعالج هذه السلبيات الأخلاقية، وضرورة أن يتواضع كل داعية أمام ما تستوجبه هذه الظاهرة من خضوع لمنهج يعظ القلوب بكثافة، ويعيد ذكر بديهيات الطريق وأسس الإيمان والأخلاق ، وليس بصواب أن يضع داعية نفسه فوق التربية، ويستعلي على حديث يزجره عن السوء ولو سمعه مائة مرة، فإن في النفوس - كل النفوس - قابلية لطيش في أوقات الغفلة، فتنزل إلى مستوى العوام، وان استقام صاحبها على دين الخواص الفقهاء العباد دهرا، أو حاز على أعلى شهادة وأرقى منصب وأضخم رصيد مالي، بل وإن ابيضت لحيته وتجاوز الكهولة سنه.
الخامس: التخطيط الدعوي لإصلاح أخلاق الناس عامة وأذواقهم وأعرافهم، وإعادة إحياء عواطفهم، وتجديد الحس الإيماني بعد ضموره فيهم، ويبدأ هذا التخطيط والتنفيذ له ابتداء من يومنا هذا في مرحلتنا التي نحن فيها، رغم ثقل أحمالنا وجزالة همومنا، ثم يمتد إلى مراحل التمكين، بل يجب أن يتركز هذا التوجه آنذاك ويشتد، وليس من شأننا أن نخطط سياسيا واقتصاديا فقط، أو نبث علم اللسان فحسب، فإن طريقنا يمر قبل السياسة والاقتصاد وخلاف الفقهاء بتطهير الجنان. إن دعوتنا هي دعوة المروءة والنبل والعفة، ورقة التعامل والذوـق الرفيع، قبل أن تكون دعوة سياسية، أو حملة جهادية، أو مدرسة علمية، ولن ينزل الطغاة إلى نهاياتهم ما لم تتسام أخلاقنا صعدا، ونعود إلى بداياتنا..