الفرصة الأخيرة
12-08-2005, 01:09 PM
الولايات المتحدة
طليعة الانحطاط
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1418 هـ ـ 1998 م
دار الكتاب
للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
دمشق ـ سوريا جانب وكالة الأنباء "سانا "
ص . ب 31661 هاتف 2113003 ـ 2123753
موافقة وزارة الاعلام تحت رقم / 41971 / تاريخ 7 / 3 / 1998 م .
رٌوجيه غارودي
الولايات المتحدة
طليعة الانحطاط
كيف نحضر للقرن الحادي والعشرين
نقله إلى العربية
مروان حموي
دار الكتاب
الولايات المتحدة الأميركية
طليعة
الانحطاط
كتب سيمون وايل :
نعرف جيداً أن أمركة أوروبا بعد الحرب ، تشكل خطراً بالغا . ونعرف جيداً ، ما سنفقده لو تحققت هذه الأمركة . فأمركة أوروبا ستقود بلا شك ، إلى أمركة الكرة الأرضية كلها .. وستفقد الإنسانية ماضيها .
سيمون وايل
1909 ـ 1943
سيمون وايل فيلسوف بدأ عاملاً في مصنع ، ثم انضم للجنرال ديغول في لندن عام 1943 . معروف بشكل خاص بكتابه :
" La Pesanteur et La grace "
المقدمة
البطالة والطرد من العمل في بلادنا ، والجوع في ثلاثة أرباع العالم ، والهجرة كممرّ من عالم الجوع إلى عالم البطالة ..
لقد بدأنا باغتيال أطفالنا الصغار ، ونهيئ للقرن الحادي والعشرين انتحاراً كونياً ، فيما إذا استسلمنا للانحرافات الحالية في السياسة الدولية .
ونتساءل : أهناك سياق واحد للأحداث نستطيع من خلاله فهم عصرنا ؟
أعني ، أهناك رابطة داخلية وعميقة تجمع بين كل المشكلات الدولية التي تستدعي التدخل العسكري ، وتبرر دور صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ، والدور الأوروبي كما رسمته معاهدة مايستريخ ، ومنظمة التجارة الدولية " الجات القديمة " ، وعودة النظام الرأسمالي إلى بلدان أوروبا الشرقية ، والأصوليات الإسلامية والمسيحية واليهودية ، ومشكلاتنا الراهنة : البطالة والتسريح ، والهجرة ، والعنف ، والمخدرات ؟
كيف نستطيع الإمساك بوحدة هذه المشكلات وفهم معناها ؟
وقبل كل شيء : كيف نستطيع أن نضع برنامجا متماسكا للخروج منها ؟
هذا هو موضوع كتابنا .
الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
الفضل الأول
الفصل الأول
ما هي الرؤية التركيبية التي تبرز في نهاية القرن العشرين ، والتي يمكن أن نكونّها من مجموعة أحداث تبدو ظاهريا منفصلة بعضها عن البعض الآخر ؟
ما هي المشكلات الكبرى التي تبرز لتشكل مستقبلنا القريب ؟
هل نحن متجهون إلى حرب عالمية ثالثة ، انما من نموذج جديد ؟ ذلك أن ما سمي حتى الآن بالحربين العالميتين لم يكن في حقيقة الأمر إلاّ حربين أوروبيتين ، لا عالميتين ، ولم تسّم الحرب الأولى عالمية إلاّ لأن الدولتين المتحالفتين إنكلترا وفرنسا ضمتا إلى جيوشهما " فرق الملونين " التي تشكلت من مواطني مستعمراتهما : من الجنود السنغاليين ، حتى جنود الشمال الأفريقي ، بالنسبة لفرنسا ، وجنود ممتلكات التاج البريطاني الممتدة من كندا حتى استراليا ، بالنسبة لبريطانيا.
وجرى الأمر نفسه في الحرب العالمية الثانية ، التي انفجرت أيضا بسبب صراع أوروبي ـ أوروبي ، مع فارق أن الحلفاء الغربيين ، أشركوا في هذه الحرب الشعوب التي كانت خاضعة لهم . فإنزال البروفانس مثلا ، ضم 70 % من عناصره ، جنوداً مغاربة ، ( ونسبة قتلى المغاربة إلى نسبة القتلى الآخرين أعلى بكثير ) . وكان الهدف : تحرير فرنسا . وجرت الحرب الأمريكية ـ اليابانية في نفس السياق ، إذ لم تكن حربا بين حضارتين ، إنما بين خصمين يطوران نفس النظام الصناعي ، وقد اختصما بهدف السيطرة على المحيط الهادي ، وعلى غزو الأسواق . ولم تتداخل الحربان عسكريا أبدا ، فقد تخيّل هتلر ـ كي يبعد الولايات المتحدة إلى أقصى زمن ممكن ، عن النزاع الأوروبي ـ أن يجعل من اليابانيين " آريي شرف " كي يحقق بعد ذلك محور برلين ـ روما ـ طوكيو .
يعتقد هانتجتون في إطار ما يسميه " بالحرب الحضارية " أن الحرب الثالثة إذا ما انفجرت ، ستكون من نوع جديد،
إذ لن تكون نتيجة تنافس الأوروبيين ، فيما بينهم ، بل مجابهة بين حضارتين : حضارة المركز (الغرب) وحضارة المحيط (بلدان الاستعمار القديم) .
كما يعطي لهذين الطرفين مفهوما دينيا : وهو الصدام بين حضارة " يهودية مسيحية " وبين حضارة " إسلامية كونفوشية " . ولئن طرحت المشكلة بشكل سيئ ، إلا أنها مشكلة حقيقية : فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، واستبدال " الشيطان السوفيتي " ، " بالشيطان الإسلامي " " وحلفائه المحتملين ممن نطلق عليهم اسم العالم الثالث ، ثم تدمير العراق " كي يكون مثالا للآخرين " ، نتسائل هل ستحقق الولايات المتحدة حلمها في بسط نظامها الخادع " للسوق الحرة " على العالم كله ؟ وبمعنى ما ـ وهو ما شرحته في كتابي " نحو حرب دينية " ـ سيكون تصادما حضاريا : إن وحدانية السوق ستضطر أن تحطم كل أولئك الذين يريدون الاحتفاظ بنظام آخر من القيم ، غير القيم التجارية ، والذين يدافعون عن هويتهم ، وبالإضافة إلى ذلك عن معنى الحياة .
إن النقطة الحساسة في حدود الامبراطورية الأميريكية " وهي ما كانت تسمى في زمن الإمبراطورية الرومانية قبل أن يمحوها البرابرة " بعتبات الإمبراطورية " ، هي " الخليج العربي" لأنه محاط بأحواض البترول الأغزر في العالم ، وسيبقى لعشرات السنين " عصب التنمية الغربية ". فوق هذه العتبات ، تحقق لوحدانية السوق أحدث نصر ، إذ جرى تدمير العراق ، عبر حرب خاضتها الولايات المتحدة بتأثير جماعتي ضغط في الولايات المتحدة دفعتاها لفتح نار المعركة ، وقد حددهما ألين بيريغيت في جريدة الفيفارو / عدد 5 تشرين الأول 1990 / بأنهما :
1 ـ اللوبي اليهودي . 2 ـ لوبي رجال الأعمال .
وفوق هذه التقطة الحساسة من حدود الامبراطورية الجديدة لا تتوقف إسرائيل عن لعب الدور الذي رسمه لها مؤسسها الروحي تيدور هرتزل ، وهو أن تكون " حصنا متقدما " .
للحضارة الغربية ضد " بربرية الشرق " .
أما البرنامج الأكثر دقة لدور إسرائيل فقد ظهر جليا في شباط 1982 " أي قبل غزو لبنان بقليل " ، في مجلة كيفونيم التي تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية : وهو تفتيت كل الدول المجاورة من النيل حتى الفرات ، وهي الطريقة الأفضل التي تستجيب لأطماع الهيمنة العالمية للولايات المتحدة ، في الموضع الأكبر حساسية على حدود امبراطوريتها .
كما فرضت على الشعب العراقي إجراءات حرمان مميت ، من خلال الحظر الذي يستمر في القضاء على الأطفال في محاولة لسرقة حتى مستقبل هذا البلد. واليوم يرصد هدف جديد ، ربما كان أكثر أهمية من الهدف السابق : إيران ، التي لم يستطع العراق أن يهزمها ، رغم الدعم المالي السخي ، والسلاح الوفير ، اللذين قدمتهما الولايات المتحدة وأتباعها .
لقد جرى تحديد الهدف الجديد في مؤتمر شرم الشيخ عام 1996 ، وكانت الحكومة الإسرائيلية هي التي حددت الهدف : " محاربة الإرهاب " و " التدخل الإنساني " . هذان هما الإدعاءان الجديدان المتكاملان للإستعمار الجديد . وحدد شمعون بيريز ، ودون أن يمتلك أدنى دليل ، إيران بأنها " مركز الإرهاب " الدولي .
ومن المتفق عليه أن كلمة الإرهاب ، تشمل كل أشكال مقاومة الشعوب دفاعا عن استقلالها ، مع استبعاد كل أشكال الإرهاب التي تمارسها الولايات المتحدة التي تهدد استقلال هذه الشعوب . وعلى سبيل المثال ، يزعمون أن مقتل جندي إسرائيلي في الجزء المحتل من جنوب لبنان ، بمعنى أن يُقتل محتل من قبل المقاوم ، كما حدث في الماضي في فرنسا أيام الاحتلال النازي ، هو عمل إرهابي . أما مذبحة المدنيين في قانا ، والقصف الإسرائيلي الذي وصل حدود مدينة بيروت فهو " دفاع مشروع " ، تماما كما هو " مشروع " تصفية النازيين لأربعين من رجال المقاومة في شاتوبريان انتقاما لمقتل ضابط ألماني في باريس .
وعندما سقطت طائرة أمريكية فوق أولمبياد أتلانتا ، وقبل إجراء أي تحقيق ، وجهت أصابع الاتهام إلى إيران . ورغم ضغط وكالة المخابرات المركزية ، على وسائل الاعلام ، لم يثبت من خلال المعاينة الميدانية أي دليل على صدق هذا الادعاء .
من السهولة بمكان أن نورد العديد من الأمثلة لاختلاق المزاعم المتصلة " بالمعركة ضد الإرهاب " أو " التدخل الانساني " و " الدفاع عن حقوق الإنسان " ، لتبرير الاعتداءات المباشرة على الدول المتهمة ، ووضع العراقيل في وجه التعامل التجاري معها . لقد تذرعوا بـ " تيان آن مين " لكبح نمو العلاقات الاقتصادية مع الصين ، ولكن مقتل ألفي لبناني مدني في مذبحة قادها آريل شارون عام 1982 ، لم تكن كافية للحد من الدعم الأمريكي لإسرائيل بالسلاح والمال ، باعتبارها رأس حربة لوضع اليد على كل بترول الشرق الأوسط .
وإنه لأمر ذو مغزى أن الحاخامات الأكبر تطرفا والأكثر شوفينية إنما تلقاهم في الولايات المتحدة ، حيث تعيش الجماعة اليهودية الأكثر أهمية في العالم ، بل إنها أكثر أهمية حتى من المجتمع الإسرائيلي نفسه . أما المحاربون القوميون الأكثر تعصبا فهم الحاخامات الذين تربوا في المدارس التلمودية التي أسسها الحزب القومي الديني برئاسة الحاخام الأمريكي " زفي يهودا كوك " (1891 ـ 1982 ) والتي كانت مبادئها الرئيسية كما يلي :
" يتابع الله عمله للخلاص عبر المعجزة التالية : وضع كل هذه الأراضي تحت السيادة اليهودية . كل الأرض التوراتية اليهودية مقدسة ، إنه تكليف إلهي : حماية الأرض وإلحاقها ، وبناء أكبر عدد ممكن من المستوطنات اليهودية فيها .. وكل تسوية إقليمية إنما تؤخر زمن الخلاص ".
أما المجموعة الثانية من الحاخامات الأمريكان والمعروفة باسم لوبافيتش والتي تستوحي أفكارها من حاخام بروكلين العجوز ، اليعازر مزراحي ، ، فتعلم أتباعها بكل صراحة ، أنه يحرم على الشعب اليهودي أن يتخلى عن أصغر كسرة من أرض إسرائيل الكبرى إلى العرب ، وكذلك يحرم التفاوض معهم حول هذا الأمر .
تمثل إيران العقبة الرئيسية في هذا المشروع ، وخاصة أنها تقيم علاقات طبيعية مع باكستان والهند والصين وروسيا ، وحديثا مع تركيا ، التي تسير في طريق العودة إلى الإسلام . وتتابع إيران مسيرتها على الرغم من التعليمات الأمريكية بفرض حصار عليها .
وتشكل إيران مركزا محتملا لاعادة تجميع أجزاء كبيرة من الجزيرة الآسيوية الأوروبية في مواجهة أطماع حلف الأطلسي . ويمكن في ضوء هذه الحقيقة ، تفسير الجهود التي تبذل في إطار الاستراتيجية الامريكية تجاه العالم ، لتأمين كل الامكانيات لتطوير السلاح النووي الاسرائيلي ، رغم رفض إسرائيل لاي رقابة دولية على نشاطها النووي .
إن نقطة الضعف الاسرائيلية في هذه الامبراطورية ، هي فقدانها للروح ، ونعني بذلك فقدانها لاي مشروع تعاوني من أجل مستقبل الإنسان إلا تنمية إنتاجها واستهلاكها من خلال تفوقها بالسلاح .
هذا هو السبب الذي اضطر معه هانتجتون لان يقنع حقيقة أفكاره بتعارض مزعوم بين الحضارة اليهوية ـ المسيحية و " التواطؤ الاسلامي ـ الكونفوشيوسي " ( وهو الوريث لأقدم الحضارات في العالم من دجلة إلى سورية إلى الصين ) . وقد اعتبر المؤرخ توينبي أن النطاقين السوري والآسيوي المركزي هما مركز الحضارة ، فقال : " في سورية ، أخذت المسيحية شكلها الذي انتشرت من خلاله في العالم الهلنستي كله ، وفيما بين النهرين ، تشكلت النسطورية ، ومذهب الطبيعة الواحدة ، وفي الحجاز ، جنوب سورية ، ظهر الإسلام في مكة ، وفي الحدود الشرقية لشمال الجزيرة العربية ، ولد المذهب الشيعي " .
إنه تحديد غريب للقطبية في العلاقات الدولية ، باسم " العولمة " الاستعمارية للاقتصاد ، ضد الهويات الثقافية أو الدينية ، لكل الحضارات الأخرى .
وينشأ عن هذا الأمر ، بغية مقاومة هذا التوحيد للشكل بلا روح ، ضرورة قيام اتحاد أوروبي ـ آسيوي مع أمريكا التي سماها مستعمروها القدماء باللاتينية ، بغية إفشال محاولات الولايات المتحدة للقضاء على بذور المقاومة سواء في الميادين العسكرية والاقتصادية ، أو الدينية والثقافية ، والتي يمكن أن تنمو في كل القارات . إن محاولتها تفتيت مراكز المقاومة التي لا تقهر ، تظهر الآن جلية في الكرة الأرضية كلها . كما تشجع في نفس الوقت الصراعات الاقليمية ، فتحرض كوريا الجنوبية ضد كوريا الشمالية ، وتايوان ضد الصين ، والهند ضد الباكستان ، وكذلك البوسنة ضد الصرب، لتبرير تدخلها العسكري على ما كان يعرف بالحدود بين الإمبراطوريتين العثمانية والنمساوية . وفي أمريكا اللاتينية تغذى الخلافات بين كوبا والبلدان الأخرى في أمريكا الجنوبية ، أو بدقة أكثر من واجهة المحيط الهادئ " تشيلي " إلى واجهة الأطلسي لشبه القارة الأمريكية الجنوبية .
وتعتبر " خطة السلام " المزعومة في فلسطين النموذج الأكثر تعبيرا عن المناورات الأمريكية ، فهذه الخطة لا تقدم للفلسطينيين إلا غبار ما كان يتمتع به المواطنون السود في التنظيمات الإدراية ، في ظل نظام التمييز العنصري في اتحاد جنوب أفريقيا " البانتوستان " ويمثل أقل من 6 % من الأرض الفلسطينية محاطا بطرق تصل المستعمرات الاسرائيلية بحماية الجيش الاسرائيلي . وقد شارك حزب العمل في هذا التفتيت ، الذي اخترعه بيغن تحت اسم الحكم الذاتي ، والذي تابع خلفاؤه من الليكود ، الذين تسلموا السلطة اليوم ، تنفيذه بسعي حثيث . إن هدف الحزبين ، إلحاق فلسطين عن طريق زرع نصف مليون يهودي مستوطن ، والاستيلاء على الأرض والماء .
وقد بدا هذا التحدي مجزيا للمعتدين ، لانه لم ينجح في تقسيم الفلسطينيين فحسب ، بل أيضا في انقسام العالم العربي بكاملة ، حول الموقف الواجب اتخاذه حيال هذه المناورات التقسيمية الكبرى .
ويعبر التناقض الرئيسي في العالم المعاصر ، عن نفسه بمنتهى الجلاء في خلق الانقسامات إلى أقصى حد. والخبث الاكبر فيما يسمى الدفاع عن " الديمقراطية " وعن حقوق الإنسان ، يمكن اكتشافه في حالة الجزائر الآن : فالتناقض كان واضحا جدا ، إذ اتخذ النظام " الديمقراطي الحر" اتجاها متناقضا تماما مع كل مبادئ هذا النظام ، فقد قبل بوقف العملية الانتخابية " الحرة " وساند الانقلاب العسكري بهدف مقاومة أصولية جبهة الانقاذ الإسلامية .
وهناك ، وكما يجري في فلسطين ، كانت المشكلة الدينية هي التي دفعت لتحتل المرتبة الاولى . ويتطلب الامر النضال ضد الحملة العالمية التي تشن باسم ديانة لا يجرؤ أحد على تسميتها : وحدانية السوق ، والتي تصطدم عندما يتطلب الامر، مع ديانات محددة ، مثل إسلام أورو ـ آسيا وأفريقيا ، أو مثل الحركات الاهوتية التحريرية في أمريكا.
لو أن الإسلام ، بدل أن يتمترس خلف ماضيه ، استعاد المفهوم القرآني حول وحدانية الاديان ، منذ أن نفخ الله روحه في آدم ، مع " شريعة " تشكل قاسما مشتركا لكل أشكال الايمان والحكمة ، على مستوى العالم كله ، وبكلمة أخرى ، لو جمع بين أصالة القرآن في فقه التحرير ، مع أصالة رسالة يسوع ، بعد قرون من لالهوتيات الهيمنة ، لاطمأنت هذه الجبهة العالمية إلى انتصارها على عالم بلا روح تسوده وحدانية السوق . هذا هو مدى اتساع الدراما التي تلعب على مستوى الكوكب الارضي ، في كل المستويات : الثقافة والايمان ، وكذلك السياسة والاقتصاد .
وقد ظهرت محاولات لحشد الناس : ففي عام 1991 ، عقد في الخرطوم مؤتمر شعبي اسلامي عربي ، بناء على دعوة من السودان وإيران .
إشارة أخرى كاشفة : ففي مؤتمر سيتل ، عام 1995 ، حيث أملت الولايات المتحدة أوامرها بقبول أهدافها في " سوق عالمية " ، انسحب القادة الآسيويون الرئيسيون بسبعة المطالب الأمريكية ، حتى ان رئيس وزراء ماليزيا وهي احدى الدول المؤسسة لمنظمة " آسيان " ، قد رفض أن يتابع أعمال المؤتمر تعبيرا عن احتجاجه على سياسة التدخل الامريكي . أما كلينتون الذي عبر عن خيبة أمله من الموقف الاوروبي ، فقد أبدى رغبة في أن يتوجه بأنظاره نحو المحيط الهادي .
في عام 1982 ، بنت الصين مركزا للأبحاث النووية في أصفهان ، في محاولة لوضع عقبة في وجه حرب وقائية ضد إيران ، على غرار تدمير اسرائيل ، في ظل سلام تام ، مفاعل تموز النووي في العراق ، في الوقت الذي كانت تبني هي سرا ، ترسانتها النووية ، إلى أن كشفت اعترافات الفيزيائي الاسرائيلي ، مردخاي فعنونو ، في جريدة لندن صاندي تايمز ، في 5 تشرين الاول عام 1986 ، عن خطورة هذه الترسانة القادرة على محو كل المدن وصولا إلى السد العالي في مصر .
وتضم المجموعة النووية الاسرائيلية ، إضافة إلى مفاعل بلوتونيوم في ديدمونة ، مركز البرمجة النووية في مورك " حيث يوجد فيه مفاعل أمريكي تجريبي " ، وحقل اختبار صواريخ بالميكي ، ومعمل تجميع في يوديفات وقواعد تحزين الاسلحة النووية التكتيكية في كفار وزاخريا ، وايلابون .
وما زال فعنونو، منذ ذلك الحين ، في السجون الاسرائيلية ، بينما تستنكر الحكومة التجارب النووية في الصين ، والهند ، وباكستان ، وكازاخستان التي ورثت جزءا من السلاح النووي السوفيتي .
ويكشف التحالف الحالي ، بين الليكود والاصوليين الدينيين ، في أعقاب انتخابات 1996 ، بشكل أكثر وضوحا من أي وقت مضى ، الدور الذي تحضر اسرائيل نفسها له وهو تفجير حرب عالمية جديدة .
وربما تكون الصدمة أكثر وحشية لا سيما وان روسيا ، التي تختزن كمية ضخمة من الأسلحة النووية ، قد تحولت إثر تفككها إلى دولة شبيهة تماما باسرائيل : أي جيش يمتلك دولة ، لا دولة تمتلك جيشا .
وفي إطار الفوضى وتفكك الدولة ، اللتين حققهما يلتسين بمساعدة الولايات المتحدة ، لا نستطيع أن نتصور إطلاقا مخرجا آخر للتخلص من الاهانات ومن أشكال التمزق التي تعاني منها البلاد منذ " استعادة الرأسمالية " ، إلا الدكتاتورية العسكرية القومية .
ونتصور أنه امر سيئ وجود جيش بلا دولة ، في خدمة بلد توقف عن الوجود بسبب غياب المشروع الجماعي . ولن تستطيع هذه الديكتاتورية العسكرية التي لن تكون نتاج حركة تاريخية ، وإنما انطلاقا من منطق جبري لعلاقات القوى في العالم ، أن تواجه منظورا آخر غير التحالف مع ألمانيا وآسيا المركزية ، بهدف مقاومة التبعية لواشنطن وإسرائيل ، المتمثلة باحتواء السوق الروسية ضمن النظام العالمي الجديد في صيغته الإنحطاطية والمافيوية . ويتوجب على هذا البلد أن يختار بين هذين العالمين ، ولن يعدم التشيع التاريخي للمسيحية الأرثوذكسية ، والقومية الروسية ، من الحصول على الوسائل الازمة لتوجيه هذا الاختيار .
ولم تعد أوروبا حليفا دائما ومؤكدا للولايات المتحدة ، ليس فقط لأن معاهدة مايستريخ جعلت من أوروبا ملحقا تابعا لحلف الأطلسي ، مبدية هذه الايام شرورها الاقتصادية والثقافية ، وإنما لأن انقسام أوروبا على نفسها يظهر أكثر فأكثر .
ويشهد على ذلك حادثان حاليان :
ـ بينما قبلت بريطانيا وفرنسا أن تجعلا من جيشيهما ملحقين بالجيش الأمريكي في العراق ، فقد عارض 80 % من الشعب الألماني التدخل العسكري في هذا البلد .
ـ وفي يوغسلافيا كان الألمان الواجهة للتحالف مع الكروات بينما لم يتخذ البريطانيون والفرنسيون مواقع معارضة للصرب إلا بضغط جرماني ـ أمريكي .
وفي اللحظة التي تحول فيها الأمريكيون من دائن إلى مدين رئيسي ، حيث أصبحت استثماراتهم ، الأقل في العالم الصناعي ، على الرغم من قوتهم التي تأتي من تقنية ضغط الزر ، ومن جيشهم الذي لا يحركه أي مشروع إنساني ، ولا يحلم ، شأنه شأن البنتاغون ، إلا بحروب يكون فيها الهلاك " حتى الصفر " . وتظهر هذه البلاد التي يريد قادتها أن يصبحوا سادة العالم ، كجبار بقدمين من صلصال ، بسبب هشاشته الاقتصادية المموهة لبعض الزمن ، بالمضاربات المالية التي حولت المصارف إلى كازينوهات ، وحيث تضاعفت إفلاساتها ، بعد إفلاسات صناديق التوفير.
لهذا السبب ، تراهن الولايات المتحدة ، ولو لزمن ، على سياسة التسليح ، لمواجهة صعود عمالقة آخرين . ليس فقط بالتسليح المبالغ فيه لمرتزقتهم الرئيسيين في الشرق الأوسط : إسرائيل ، ولكن أيضا لتأخير بزوغ الصين . ومثلما تبحث إنكلترا عن المراوغة في إعادة هونغ كونغ إلى الصين ، تقوم الولايات المتحدة بتسليم طائرات إلى تايوان بقيمة 5 , 4 مليار دولار ، في الوقت الذي باعتها فرنسا فيه، ستين طائرة ميراج .
كل ذلك يحدث لمنع الصين من التوحد مجددا ، الصين التي ستصبح بسوقها الداخلية لمليار و 200 مليون إنسان ، ومصادرها الطبيعية الكبرى ، واليد العاملة وقد دخلت الولايات المتحدة ، في مرحلة " قصور حراري " من تاريخها ، أي مرحلة من التفكك الداخلي بسبب النمو البائس لأمريكا الأخرى ، النمو البائس لثلاثة وثلاثين مليون مواطن يعيشون تحت عتبة الفقر ، ومن التفتت الاجتماعي بسبب التمييز العنصري الممتد عبر القرون ، وبشكل خاص ضد السود ، والذي تشهد عليه فتن لوس أنجلوس الاحتجاجي لمليون أسود في واشنطن والذي قاده الزعيم الأسود فرحان ، وكذلك الانحلال الاجتماعي بسبب المخدرات والفساد، والمضاربات الطفيلية .
مرة أخرى نقول ، لقد استطاع النظام " المركز " الذي يسعى عبر القوة التقنية الفريدة لأسلحته ، أن يجعل من سيادة دول " المحيط " سيادة محدودة ، وأن يحتكر لنفسه " حق التدخل " مموها ذلك ، عند الامكان ، بأنه تدخل إنساني تحت غطاء مؤسسات يفتعلها مثل الأمم المتحدة ، وصندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي .
الهوامش
يحفل الكتاب بحشد كبير من الأسماء والأعلام ، لذلك آثرت اثباتها في نهاية كل فصل . أما الهوامش التي وردت في النص الأصلي للكتاب ، فقد أشرت إليها بكلمة غارودي .
1 ـ نحكم هنا على الوحشية النازية في أوروبا ، ولكن أحداث سطيف (الجزائر) عام 1945 ، وهايفوتج عام 1946 ومدغشقر عام 1947 ـ 1948 ، والدار البيضاء عام 1947 ، وساحل العاج عام 1950 ، تدل أن المجازر وأعمال التنكيل التي ارتكبتها جيوش الجمهورية الفرنسية لم تتوقف (غارودي) .
2 ـ لقد نشرت النص العبري الأصلي ، وترجمته إلى الفرنسية في كتابي " فلسطين أرض الرسالات المقدسة " (المنشور عام 1986 ـ غارودي) .
3 ـ " آسيان ASIAN " منظمة دول جنوب شرق آسيا . هدف المنظمة إنشاء سوق مشتركة بين ماليزيا ، وأندونيسيا ، وتايلاند ، وسنغافورة ، وبروناي ، والفليبين .وكرد فعل أمريكي ، شبيه بتأثر الماء على النار ، قامت الولايات المتحدة ، بإنشاء منظمة ، تضمها واستراليا ، ونيوزيلانده ، باسم " الاتحاد الاقتصادي للآسيا في المحيط الهادئ (APEC ـ غارودي) .
الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
الفصل الثاني
الفصل الثاني
وحدانية السوق
تنبع كل دواعي هذا الانحطاط من منطق " اقتصاد السوق " الذي أصبحت نسخته الاخيرة الديانة المسيطرة ، ديانة لا تستطيع أن تعلن عن اسمها الحقيقي : " وحدانية السوق " .
عاصر السوق ، كمكان للتبادل ، كل المجتمعات التي طبقت مبدأ تقسيم العمل ، فمنذ ما قبل التاريخ ، تشهد المشاغل ، ومنتجات الصوان المنحوت ، أنها لم تكن موجهة للاستخدام الشخصي ، وإنما لمقايضة احتياجات أخرى في الحياة . ثم تكون سوق القرية التقليدي ، حيث كان يحمل إليه البيض والدجاج والخضار لبيعها مبادلة مع بضائع أخرى تنتجها الأداة أو المهارة أو لدفع أجور خدمات البيطار أو الحلاق .
وهناك اختلاق أساسي بين أشكال السوق المتعاقبة ، وهو وجود الوسيط ، أي النقد الذي استخدم في الأصل كأداة قياس ، تقاس بها وفق قاسم مشترك ، منتجات الأعمال المختلفة كما ونوعا . لكن السوق ، وتبنى على تراتبية اجتماعية، وقيم أخلاقية ظاهرة أو مضمرة، وديانات نشأت خارجه ، ولم تبحث عن مبرراتها فيه .
ولم يتحول السوق إلى " ديانة " إلا عندما أصبح المنظم الوحيد للعلاقات الاجتماعية والشخصية والقومية، والمصدر الوحيد للسلطة والمراتب الاجتماعية . ولا يعنينا هنا أن نؤرخ لهذا التحول ، الذي أصبحت فيه كل القيم الإنسانية قيما تجارية ، بما فيها الفكر والفنون والضمائر .
وسنكتفي بالإشارة إلى النتائج الاقتصادية والسياسية والروحية للصورة الاخيرة لهذا القرن ، ولإعطاء نظرة إجمالية لبعض الميادين ، كي نحرر أنفسنا من النظرة " التخفيفية " لخطورة هذه النتائج ، ولهذا " القصور الحراري " الإنساني الذي يراه بعض منظري البنتاغون وأتباعهم في العالم ، بحسب عنوان كتاب فوكوياما : " نهاية التاريخ " .
وسوف يقود الأمر ، إذا ما وصل هذا الانحدار منتهاه إلى نهاية الإنسان مما يتصف به أساسا : سمو المقصد مقابل التخلي عن الحتمية الاقتصادية التي يعتبرونها قوانين طبيعية ، تماما مثل الغرائز الفطرية الحيوانية التي تسود البحار وحدها ، حيث يتغذى السمك الكبير بالتهام الأسماك الصغيرة ، أو التي تسود الأرض من خلال الفوضى البيولوجية لمليارات النطف أو الحيوانات المنوية ، لتكوين جنين بالصدفة .
وما تتصف به " وحدانية السوق " في الواقع ، هذه الليبرالية الشمولية ، هو إحتقار حرية الإنسان ، وابتزاه بالتالي عن بعده الذي يتميز به وهو : أنه ليس نتاجا لقوانين الطبيعة ، بل العكس ، إنه قادر على تكوين مشاريع ليست امتدادا بسيطا للماضي ، ولا نتيجة لغرائزه الحيوانية ، أو مصلحته الفردية . لقد بالغ آدم سميث في هذا العزل لللإنسان فكتب يقول :
" إن الخطوط الكبرى لعالم الاقتصاد الحقيقي ، قد رسمت لا وفق خطة شاملة برزت من عقل منظم ، ثم نفذت اختيارا من قبل مجتمع ذكي ، إنما من خلال تراكم عقود لا حصر لها ، رسمها حشد من الأفراد أذعنوا لقوة غريزية ، دون وعي بالهدف الذي سيصلون إليه . " من كتاب أبحاث في الطبيعة وأسباب غنى الأمم " (1) .
من آدم سميث حتى فريدريك فون هايك مرورا بباستيا وفريدمان ، تكرر رفض مفهوم القصدية (2) .
وقد كتب ميلتون فريدمان في كتابه " حرية الاختيار " 1981 يقول :
" إن التنسيق بين نشاطات ملايين البشر ، الذي لا يعرف أي منهم إلا مصلحته الشخصية ، قد حسن ، أوضاعهم جميعا. ويقوم الأسعار بسد هذه الثغرة بغياب أي توجيه مركزي ، ودون الحاجة لأن يتحدث الناس في هذا الأمر أو يحبوه . إن النظام الاقتصادي هو انبثاق ، أي أنه ليس نتيجة مقصودة أو مطلوبة من قبل عدد كبير من الأشخاص تحركهم مصالحهم الشخصية وحدها . ويقوم نظام الأسعار بوظيفته بشكل جيد ، وبكثير من الفاعلية ،بحيث أننا لا نكون واعين ، وفي القسم الأعظم من الوقت ، أنه يقوم بدوره " .
ويضيف فون هايك في كتابه " الفردية والنظام الاقتصادي " :
" ليس أمام المرء في مجتمع معقد من اختيار آخر إلا أن يكيف نفسه لما يبدو له أنها قوى عمياء للصيرورة الاجتماعية " .
أصبح ممكنا اليوم أن نسترجع مسار النمط الغربي للتنمية ، منذ أن وقع الخطأ القاتل في توجه ما سمي النهضة، أي نمو حضارة الكم والتفكير الذرائعي ، والديكارتية ، وديانة الثروة ، بعد أن فصلت عن البعد الأول للعقل وهو التأمل في الغايات النهائية للحياة ومعناها .
وكتب ميشيل البرت في كتابه " الرأسمالية ضد الرأسمالية " 1991 .
إن الأمر المطلق " أو الفعل الضروري بذاته " ، هو إفراغ المسألة الفلسفية من القصدية " الغائية " . هذه هي في النهاية ، الغاية الأخيرة من وحدانية السوق . إنها " ربطنا " بالحياة الأكثر زيفا ، التي صوروها منذ أول فيلم أمريكي يبدأ بصيد الهنود مع " سفاحي الغرب الأمريكي " ، ومع غاب المال ، مع مسلسل " دالاس " ، مرورا بكل أشكال العنف والهمجية ، مع باتمان " الرجل الوطواط " ، مرورا الترميناتور الماحق ، وانتهاء برموز ارتدادنا إلى عالم الديناصورات.
ولن نورد هنا إلا ما يشكل في يومنا هذا ، المدماكين الأكثر صلابة لتوسع السوق : المخدارت والسلاح .
يبلغ حجم التعامل بالمخدرات في الولايات المتحدة اليوم ، من الضخامة ما يعادل أرقام التعامل في صناعة السيارات ، أو صناعة الفولاذ . ويزداد استهلاك المخدرات طردا ، مع فقدان الحياة لمعناها ، نتيجة للبطالة والتسريح ، أو أمور أخرى . إن الغاية النهائية للحياة هي الاستهلاك الذي يخلق ازدهار " السوبر ماركت " . وإنه لأمر ذو دلالة أن الرقم القياسي لانتحار اليافعين ، سجلته الدول الأكثر غنى : الولايات المتحدة ، والسويد . في الجنوب ، يموت الناس بسبب نقص وسائل العيش ، أما في الشمال فيموتون لانعدام غايات الحياة .
ويعتبر الاستهلاك المتزايد للمخدرات ، أحد النتائج الطبيعية لوحدانية السوق : أولا ، بسبب إنتاجها . إن الربح الذي تدره نبتة الكوكا التي يستخرج منها الكوكاين ، على الفلاح البوليفي ، أكبر بعشر مرات من ربح نبتة الكاكاو أو البن ، وهي وحدها القادرة على السماح له بالحياة . كما أن الدولة ، ملزمة بتسديد ديونها لصندوق النقد الدولي . ونتيجة لاستهلاك المخدرات ، تعاني الولايات المتحدة من ثلاثة ملايين مصاب بالتسمم المزمن ، أما الذين يتعاطون المخدرات فيقدر عددهم بعشرين مليون أمريكي . أما في فرنسا ، واستنادا إلى تقديرات مؤسسة سوفر فقد تناول فرنسي واحد من أصل خمسة تتراوح أعمارهم بين 12 ـ 14 عاما " يعيش أو مازال يتناوله " أصبحت المخدرات بخور " الكنيسة الجديدة " ، نعني وحدانية السوق . ويعطينا الاتحاد السوفيتي معنى كبيرا ، فمنذ العودة إلى الرأسمالية ، انفجر إنتاج واستهلاك المخدرات ، وتضاعفت مساحة الأراضي المزروعة بالخشخاش في أوزبكستان خلال عامين فقط (1991 ـ 1993 ) . أما أفغانستان ، فقد أصبحت منذ عام 1993 البلد الأول المنتج للأفيون ، فقد تضاعف إنتاجها ثلاث مرات .
أما في ميدان السلاح ، فقد استمرت صناعته الأكثر ازدهارا في الولايات المتحدة ، وجعل منها القوة الأولى في العالم ، منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى . وقد حملت الحرب العالمية الثانية ، والتي أصبحت الولايات المتحدة بفضها تملك نصف ثروة العالم ، حلا نهائيا للازمة الاقتصادية فيها ، والتي بدأت عام 1929 . كما أدت الحرب الكورية إلى ازدهار اقتصادي جديد . أما مجزرة العراق ، فقد أدت بما رافقها من انتشار من خلال النقل الحي عبر القنوات الفضائية ، إلى صقل سمعة الأسلحة الأمريكية حيث ارتفع الخط البياني للإنتاج بعد انتهاء الحرب بشكل سهمي.
وهناك نتيجة طبيعية أخرى لوحدانية السوق : الفساد .
حدد آلن كوتا منطق هذا النظام : " إن تصاعد وتائر الفساد أمر لا يمكن تجنبه نتيجة انطلاق النشاطات المالية والسمسرة . وبقدر ما تتيح لنا المعلومات عن العمليات المالية من مختلف الأنواع ، على الأخص عمليات الدمج ، والشراء ، والمكتب العام للمشتريات ، التي تسمح بتكوين ثروات ببضع دقائق ، من المستحيل تكوينها من خلال عمل كثيف يستمر حياة كاملة ، فان إغراء البيع والشراء يصبح أمرا لا يمكن مقاومته " .
ويضيف : " إن الاقتصاد التجاري سيلقى دعما دائما من هذه السوق الأساسية .. ويلعب الفساد دورا شبيها بالخطة " .
وليس هناك كلام أفضل من هذه العبارات : في نظام يباع كل شيء فيه ويشترى ، يتوقف الفساد ، بل وحتى الدعارة ، عن كونهما انحرافات فردية ، ليصبحا قانونين بنيويين في صلب هذا النظام (4) .
والعهر السياسي هو المثال الأكثر فضحا . فالبعض أيد حرب الخليج من أجل حفنة من الدولارات . والبعض برر نزول عشرات الألوف من الجنود الأمريكان إلى أرض مقدسة ومحرمة على كل الكفار ، ودفع نفقاتهم ، أما يلتسين فقد باع بلاده رخيصة ، بعد أن نام على أبواب صندوق النقد الدولي ، الذي أرسل إليه سوروس الشهير ليكون حاميه الكفؤ.
هذه هي الظواهر التي تحدد انحطاط النظام ، حيث تدر المضاربات أكثر بكثير مما يدره الاستثمار في ميدان الإنتاج أو الخدمات .
وتحمل كلمة المضاربة معنى محددا كالذي سجله معجم روبرت في التعريف التالي : المضاربة عملية مالية تتضمن الاستفادة من تقلبات السوق " حركة القيم والبضائع " من أجل تحقيق منفعة .
وقد لاحظ آلياس الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد أن التدفق المالي يرتفع في المتوسط إلى ألف ومئة مليار دولار في اليوم ، أي أربعين مرة أكبر من التدفق المتصل بالقواعد التجارية . إن نظاما كهذا لا يمكن الدفاع عنه " آلياس : الغرب على حافة الهاوية ـ مقابلة في جريدة الليبراسيون في 2 آب 1993 " .
تشير هذه الحقائق أن النظام القائم لوحدانية السوق يحقق للمرء ربحا ، فيما لو دخل ميدان المضاربة بالمواد الأولية ، أي أوراق النقد ، أو ما يدعوه الاقتصاديون " المنتجات المشتقة " ، وهي كل مالا يؤخذ في الحسبان ، عند تعداد المنتجات أو الخدمات ، أكبر أربعين مرة مما لو عمل في ميداني الإنتاج أو الخدمات .
الهوامش
ـ آدم سميث (1723 ـ 1790) : فيلسوف واقتصادي انكليزي يعتبر مؤسس علم الاقتصاد الكلاسكي ، اشتهر بكتابه " دراسة في طبيعة وأسباب ثروة الأمم " . يعتبر هذا الكتاب المحاولة الأولى في تاريخ الاقتصاد ، الهادفة لفصل الاقتصاد السياسي عن العلوم المتصلة به ، السياسية والأخلاقية والدينية ، ويتضمن تحليلا عن عملية الغنى الاقتصادي ، وتوزع هذا الغنى بين الأمم والأفراد .ويرى أن المصادر الأساسية لكل الدخول هي الإيجار ، والأجور والأرباح . كما درس تطور الصناعة والتجارة لدى الأمم الأوروبية ، وطبيعة رأس المال . والموضوع الرئيسي الذي صيغ باعتباره لرأس المال ، بغية إنتاج الثروة وتزريعها ، يكون في غياب التدخل الحكومي ، وفي حرية التجارة .
ويرى سميث أنه بالإمكان تشجيع الإنتاج والتبادل ، وبالتالي تحسين مستوى المعيشة فقط ، من خلال النشاط الفعال لرجال التجارة والصناعة على أن يعملوا في ظل أقل ما يمكن من سيطرة الحكومة وتدخلها .
وقد شهدت هذه النظرية تعديلات هامة من قبل اقتصاديين متعددين ، على ضوء التطورات التي طرأت منذ زمن سميث ، ولكن نظريته ـ مع ذلك ـ لعبت دورا كبيرا في رسم الرأسمالية . (موسوعة فانك رواجنل ـ المترجم) .
2 ـ فون هايك : اقتصادي انكليزي من أصل سودي ولد عام 1899 ، حائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية . درس الأزمات الدورية في الاقتصاد .
ـ ميلتون فريدمان : اقتصادي أمريكي ولد عام 1912 حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد . اشتهر بدراسة مشكلات النقد .
ـ فريدريك باستيا (1801 ـ 1850) : اقتصادي فرنسي دافع عن حرية العمل ، وحرية التبادل.
3 ـ تشير دراسة أجرتها وزارة الصحة الأمريكية ، أن استخدام المهدئات عند المراهقين في سن 12 ـ 17 عاما ، قد ازدادت 78 % ، ما بين عامي 1992 ـ 1995 . وقد ارتفع استهلاك حبوب الهلوسة ، مثل حبوب ل . س . د ، إلى 183 % (54 % ما بين عامي 1994 ـ 1995) ، وارتفع استهلاك الكوكليين إلى 166 % ، والماريجوانا إلى 105 % 37 % ما بين عامي 1994 ـ 1995 .
واعترف 4, 10 % من الشباب الأمريكي ، من نفس الشريحة العمرية ، أنهم تناولوا المخدرات خلال الشهر السابق على الاستطلاع الذي أجرته وزارة الصحة .
وتدل دراسة أخرى ، رسمية أيضا أن حالات الإسعاف التي سجلتها المستشفيات ، بسبب الإسراف في تعاطي المخدرات ، قد ازدادت 96 % في حالات تعلطي الكوكايين ـ غارودي) .
4 ـ من الملاحظ أن عودة الرأسمالية إلى بلدان شرق أوروبا ، قد رافقها ارتفاع مجنون في انتشار البغاء . (غارودي) .
الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
الفصل الثالث
الفصل الثالث
الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
لكي نفهم لماذا نعتبر انتشار طراز الحياة الأمريكية " واوهامها " ، أحد الأسباب الحقيقية لتفكك الأخلاق وانحدار الفنون في يومنا هذا ، نجد من الضروري أن نضع هذه المشكلة ضمن منظور التاريخ الأمريكي ، لأن انحطاط الثقافة الذي يلعب دورا منظما في حياة المجتمع الأمريكي ، إنما ينحدر من طبيعة تاريخ الولايات المتحدة .
لعبت الثقافة والايديولوجيات في أوروبا دوما ، دورا هاما في الحياة السياسية ، كما جرى على سبيل المثال ، في أوروبا المسيحية ، وفي عصر التنوير، وفي عصر الثورة الفرنسية ، وفي عقود القوميات ، والماركسية وثورة أكتوبر .
أما في أمريكا ، فخارجا عن الهنود ، السكان الأصليين الذين نظمت حضارتهم علاقاتهم الاجتماعية " قبائل الأنكا مثلا " ، والذين فقدوا 80 % من عددهم بسبب التصفية العرقية ، ثم همش من بقي منهم ، وزج في " محميات " ، فان كل السكان الذين يعيشون في الولايات المتحدة هم من المهاجرين .
ومهما كانت أصول هؤلاء المهاجرين ، وحضاراتهم الأولى ، فقد جاؤوا إلى أمريكا بحثا عن العمل وكسب المال . وسواء كانوا ايرلنديين أو طليان ، أو عبيدا سودا غربوا عن مواطنهم الأصلية قسرا ، سواء كانوا مكسيكيين أو من بورتوريكو، فقد جاء كل منهم يحمل معه دينه وثقافته . ولأنه لم يكن لدى هؤلاء المهاجرين والمهجرين ديانة أو ثقافة مشتركة ، فقد كانت الرابطة الوحيدة التي تجمعهم ، تشبه ما يربط بين أفراد فريق يعمل في مشروع مشترك.
أما الولايات المتحدة ، فهي تنظيم إنتاجي ، تضبط عمله ، نفس العقلية التكنولوجية والتجارية ، حيث يشترك فيها المنتج والمستهلك ، في غاية واحدة هي النمو الكمي للرفاه . أما الهوية الشخصية ، الثقافية ، والروحية أو الدينية ، فهي مسألة خاصة ، وفردية بشكل حازم ، لا شأن لها في آلية عمل هذا التنظيم ، ولا تتدخل فيها .
ولا يستطيع الإيمان بمعنى الحياة ، أن يعيش في مثل هذه البنى الاجتماعية ، إلا لدى الجماعات التي حافظت على هويتها وثقافتها القديمة ، أو لدى بعض الأفراد ممن تغمرهم روح البطولة . أما الغالبية العظمى من هذا المجتمع ، فقد مات الله عندها ، لأن الإنسان فيه ، قد بتر عن بعده الرباني ، وهو البحث عن معنى الحياة .
وهكذا أصبح المكان خاليا ليحل فيه تشرذم الطوائف ، والخرافات ، وتسرب المخدرات ، وسموم الشاشة الصغيرة ، كل ذلك تحت غطاء طهرية رسمية ، ترضى بكل أنواع التمييز ، وتبرر كل المجازر .
إن أول مراقب نافذ البصر لواقع الولايات المتحدة كان توكفيل الذي كشف عام 1840 في كتابة " الديمقراطية في أمريكا " ، حتمية آلية بناء الدولة قائلا: " إني لا أعرف شعبا يحتل فيه حب المال حيزا كبيرا من قلوب الناس أكثر من هذا الشعب ، شعب يشكل تجمعا من المغامرين والمضاربين " . وما زلنا اليوم ، قادرين أن نجد في تاريخهم أسس انحطاط ثقافتهم .
فمن جهة العلاقة بالطبيعة ، لم تأخذ كلمة " الحدود " وعلى مدى قرن كامل ، نفس المعنى الجغرافي الذي أخذته في أوروبا . كان الحيز المكاني بالنسبة لهم امتدادا مفتوحا ، وبقي كذلك حتى نهاية القرن التاسع عشر ، حيث بلغ التوسع مداه بالوصول إلى المحيط الهادئ . عندها فقط أعلن عن " ترسيم الحدود " . كان هذا الفضاء الجغرافي مفتوحا لكل أنواع السلب ، وأشكال الإبادة : إبادة الغابات ، وحيوان البيزون " البقر الأمريكي " ، وكذلك التنقيب المحموم في مناجم الذهب والفضة .
أما العلاقة مع البشر الآخرين فكانت ذات طبيعة خاصة : في البداية كان اصطياد الهنود للاستيلاء على أراضيهم ، دون أن يترك لهم خيار ، غير خيار التصفية العرقية أو التصفية في " المحميات " . وبعد ذلك ، ساد بين البيض أنفسهم قانون الغاب ، لاقتسام ثروات الهنود المسروقة ، وأراضيهم ، أو الذهب المأمول استخراجه .
أما ما يتعلق بمعنى الحياة ، فقد تقلص إلى البعد الكمي للثروة أو الأرض أو كنوزها . كانت حياة " الوسترن " و " الغرب الأقصى " ـ ماعدا بعض الاستثناءات ـ تضفي لبوس العظمة على هذه " الملحمة " العنصرية ، وسيادة قانون الأقوى في الحرب التي شنها الجميع ضد الجميع . أما البيوريتانية المسيحية ، فلم تلعب أي دور في العلاقات الاجتماعية القائمة آنذاك إلا دور التبرير.
ويشكل العنف الأكثر دموية والذي يرعاه نفاق ديني ، سمي دائمة في تاريخ الولايات المتحدة منذ تأسيسها . وقد حمل البيوريتانيون الإنكليز الذين نزلوا أمريكا ، حملوا معهم الاعتقاد الأشد فتكا في تاريخ الإنسانية ، وهو الاعتقاد بفكرة " الشعب المختار " ، الذي أعطى الشرعية لعمليات استئصال السكان الأصليين واغتصاب أراضيهم ، وكأنهم أمر إلهي ، اقتداءا بالنموذج التوراتي ، نموذج يشوع حيث أو كل " رب الجنود " لشعبه مهمة ذبح السكان الأصليين في بلاد كنعان والاستيلاء على أراضيهم .
وتماما مثلما فعل الإسبان الذين وصفوا تصفية هنود جنوب القارة ، أنها عملية " تنصير " ، فقد استلهم البيوريتانيون الإنكليز سفر يشوع في مطاردتهم للهنود ، وسرقة أراضيهم ، وعمليات " الاستئصال المقدسة " ، على غرار ما ورد في التوراة .
كتب أحدهم يقول : " من الجلي أن الله دعى المستعمرين إلى الحرب ، حيث يركن الهنود إلى عددهم وأسلحتهم ، يتربصون الفرص لارتكاب الشر، مثلما فعلت قبائل الأماليين ، والفلسطينيين الذين تحالفوا مع آخرين ضد إسرائيل .. " من كتاب ترومان نيلسون : بيوريتانيو ماساشوستس " من مصر إلى أرض الميعاد ـ اليهودية " . وغالبا ما يصور " إعلان استقلال الولايات المتحدة " ، في 4 تموز 1776 ، أنه تصور مسبق لإعلان " حقوق الإنسان والمواطن " في فرنسا الذي صدر عام 1789 . إلا أن إعلان الإستقلال هذا ، هو في حقيقة الأمر ، مثال مذهل للنفاق الذي توحيه كلمة " الحرية " حسب المفهوم الأمريكي .
ينادي الإعلان في سطوره الأولى : " يولد كل الناس متساوين . وقد وهبهم الخالق حقوقا غير قابلة للتنازل عنها : حق الحياة ، وحق الحرية ، وحق البحث عن السعادة ".
إلا أن " الحرية " الأمريكية تجلت بشكل آخر : الاحتفاظ بالرقيق الأسود قرنا كاملا بعد الإعلان . واحتاج الأمر حربا أهلية لتوضع عام 1865 ، نهاية لما كانوا يسمونه حتى ذلك الحين " المؤسسة الخاصة " ، أي بمعنى آخر " الرق " . ومنذ تحرير العبيد لم يترك لهم مكان في المجتمع ، ولم يكن يسمح لهم بامتلاك واحدا فقط من الستين آربانت " قياس فرنسي " المسموح به للبيض .
بعد ذلك ، ولد إرهاب الجمعيات السرية ، مثل منظمة كوكلوكس كلان . أما قوانين السود فقد أبعدت العبيد القدامى عن الحياة السياسية ، كما أبعدهم التمييز العنصري عن المجتمع المدني . وهكذا ورغم تضحيات مارتن لوثر كينج ، تستمر التفرقة العنصرية إلى يوما هذا . وتفوح رائحة النفاق اكثر عندما يتعلق الأمر بالهنود . إنها المرة الأولى التي يظهر فيها بقوة ما سيصبح لاحقا المبدأ المحرك لكل الاعتداءات الأمريكية المستقبلية للولايات المتحدة في العالم : وهو أن العدوان والتصفية العرقية ، صورا مسبقا على أنهما ردود فعل دفاعية . وقد وصف إعلان الاستقلال الذي نادى بالحرية والمساواة ، وصف الهنود " بالمتوحشين الذي لا يعرفون الرحمة ، والمعروفين بحبهم لإشعال الحروب ، وارتكاب المجازر " .
من هذا المنطلق ، تحدث الإعلان عن مجتمعات السكان الأصليين ، كي يبرر مقدما المجازر واغتصاب الأرض بحجة " الدفاع المشروع " . وهبط عدد السكان الهنود بحكم عمليات التصفية من عشرة ملايين إلى مئتي ألف فقط ، وكأن الأمر ، أن الهنود هم الذين غزوا أرض المستعمرين ، لا أن المهاجرين من أوروبا ، هم الذين وفدوا ليغتصبوا أراضيهم ويدمروا حياتهم .
هكذا كانت السياسة الأمريكية الثابتة ، منذ ذلك الحين ، انطلاقا من " الخطيئة الأولى " بحق الهنود والأرقاء السود .
قال سيمون بوليفار ، أحد أبطال محاولات الاستقلال في أمريكا اللاتينية في أواسط القرن التاسع عشر : " يبدو أنه كتب على الولايات المتحدة أن تقوم بتعذيب وإذلال القارة باسم الحرية".
ويشهد توكفيل على بربرية المستعمرين تجاه الهنود الذين استخدموا أسلحة لا يمكن مقارنتها باي مقياس بأسلحة الغزاة . ووصف بسخرية لاذعة ، وإنسانية دامية انتصار " الحرية " ، تلك المسيرة المظفرة للحضارة عبر الصحراء قائلا : " في قلب الصحراء ، وفي أواسط الشتاء ، حيث كان البرد قارسا جدا ، قام ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف بمطاردة الأعراق البدوية من الوطنيين الذين كانوا يفرون أمامهم ، حاملين مرضاهم وجرحاهم ، وأطفالا ولدوا حديثا ، وشيوخا على حافة الموت " ، وتابع يقول : إن المشهد كان مثيرا ولم تمح من ذاكرته أبدا .
هكذا بدأ تاريخ " الشمال " في " العالم الجديد " ، كما صوره نعوم شومسكي في كتابه " ايديولوجيا واقتصاد " . وفي عام 1754 ، وصف بنيامين فرانكلين ، الناطق الرسمي البارز باسم التنوير، وصف " أب الأمة " بأنه الرجل الذي يطرد السكان الأصليين كي يفسح المكان لأمته .
وأعطى جورج واشنطن الدرس نفسه لقبائل الايروكواس ، عندما كلف جيشه بتدمير مجتمعها وحضارتها ، وهما مجتمع وحضارة متقدمان نسبيا بمقاييس عام 1779 . لم تشهد القرون المتعاقبة ، إلا نادرا أن ينظر إلى مثل هذا النفاق والجبن الأخلاقي الواضح ، بمنظار الإعجاب والاحترام .
وفي عام 1789 ، وصف توماس جفرسون ، ما سماه " اتحادنا " ، بأنه المنطلق لإعمار كل أمريكا ، الشمالية منها والجنوبية . وقال إنه لأمر حسن أن تبقى القارة بيد العرش الإسباني ، إلى أن يصبح " مجتمعنا قويا بما يكفي ليتمكن من التهام القارة قطعةً قطعة " ..
أما جون كيتري آدامز، مهندس الفكرة التي قادت إلى وضع مبدأ مونرو فقد وصف " الدومينيون " على أنه قارة أمريكا الشمالية . وقد أوضح فكرته بقوله : هذا هو قانون الطبيعة . وقد جرى تطبيق هذا " القانون " تطبيقا واسعا جدا . فقد استخدمه آدامز من جديد في القضية المتعلقة بالجهود الخائبة التي بذلتها الصين لمنع توريد الأفيون إلى بلادها ، انطلاقا من الهند . وقد أدى فشل هذه الجهود إلى اندلاع حرب الأفيون . واستخدمت بريطانيا العنف لتقضي على المقاومة التي أبدتها الصين ، باسم المبادئ السامية للتجارة الحرة . كانت المقاومة الصينية قد منعت الإمبراطورية البريطانية من الوصول إلى الأسواق الصينية عن طريق منع توريد منتجها الرئيسي الذي قدمته للصين ، وهو الأفيون .
ووصف آدامز محاولات الصين لمنع توريد الأفيون ، بأنه عمل ضد القانون الطبيعي .
وفي فترة أقرب إلينا ، حدد وودرو ويلسون " واجبنا الخاص " ، تجاه كل شعب مستعمر ، وهو " أن نعيد لهذا الشعب النظام والسيادة ". و" ندربه على القانون والتعود عليه وإطاعته " . هذا يعني من الناحية العلمية الخضوع لـ " حقنا " في سرقة هذا الشعب واستغلاله . وشرح ويلسون باختصار الدور الذي تلعبه القوة الأمريكية في هذا المشروع قائلا :
" انطلاقا من حقيقة أن التجارة ، ليس لها حدود قومية ، وانطلاقا من أن الصناعي يريد امتلاك العالم من أجل الأسواق ، فان على علم بلاده أن يتبعه أينما ذهب ، وعلى الأبواب المغلقة للأمم الأخرى أن تخلع ، وعلى وزراء الولايات المتحدة أن يحموا امتيازات أصحاب رؤوس الأموال ، حتى ولو أدى ذلك إلى انتهاك سيادة الأمم الأخرى المتمردة . يجب خلق المستعمرات أو الحصول عليها ، بحيث لا نهمل أو نتغاضى عن أصغر زاوية في العالم " .
هذه العبارات الصادقة بسبب صراحتها ، تحمل دلالة حقيقية للمثل الأعلى " للولسنية " ، في الحرية وتقرير المصير . وهو مثل غالبا ما يورده المثقفون الغربيون عاريا دون تزويق .
وقد طبق ويلسون ، عندما أصبح رئيسا للجمهورية بعد بضع سنوات ، عقيدته حول تقرير المصير ، بغزوه المكسيك ، وجزيرة أسيانيولا " التي تشكل تاهيتي وجمهورية الدومينكان " . وقد قتل جنوده ، وسلبوا ، وأسسوا حالة شبيهة بالرق ، ودمروا النظام السياسي ، ووضعوا البلاد بين أيدي المستثمرين الأمريكيين .
وقد نشر روبرت لانسينغ ، وزير خارجية ويلسون ، مذكرة شرح فيها معنى " مبدأ مونرو " ووصف ويلسون نشرها بأنه سوء تصرف سياسي ، ولكن حيثياتها لا يمكن أن تهاجم .
قال لانسينغ : " في دفاعها عن مبدأ مونرو ، إنما تدافع الولايات المتحدة عن مصالحها الخاصة . أما إنصاف الأمم الأمريكية الأخرى فهو مسألة إضافية ، وليس غاية بحد ذاتها . وبقدر ما يبدو هذا المضمون مبنيا بشكل فريد على الأنانية ، فان واضع هذا المبدأ ، ليس لديه دافعا أسمى أو اكثر أريحية ليقدمه " .
ما كان استرجاع أشكال المخاتلة الأصلية في الأسطورة الأمريكية ليحمل فائدة تاريخية كبيرة ، لو لم يتطور هذا النظام السياسي ، بعد قرنين ، ليشمل العالم كله .
فحتى الحرب العالمية الأولى تركزت أعمال السلب في القارة الأمريكية فقط . وكانت المشكلة آنذاك تتلخص بإعاقة سيطرة أوروبا على الأرض والمؤسسات الأمريكية ، بالوسائل المالية ، أو غيرها .
كان تاريخ الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر ، هو أولا تاريخ إبادة الهنود ، إذ جرى بين عامي 1800 و 1835 ، تهجير كل الهنود من حوض المسيسبي ، في ظروف تهجير وإسكان تذكرنا بعمليات التهجير الهتلرية .
كما أبيد الآلاف من حيوان البيزون الذي يقتاتون به ، ومن صوفه يصنعون ملابسهم ، ودمرت مساكنهم . ولم تتوقف المقاومة الهندية المسلحة إلا بعد ارتكاب مجزرة " وونددني " عام 1890 . كان تاريخ الولايات المتحدة أيضاً ، تاريخ استغلال العبيد السود، وخاصة في ميدان زراعة القطن .
هذه هي السمات الأساسية لسياستهم الداخلية . أما سياستهم الخارجية فقد هدفت لنزع يد إسبانيا والبرتغال عن " ممتلكاتهما " في القارة ، ليحل محلها توغلهم الاقتصادي وسيطرتهم السياسية . ثم طردوا بريطانيا ليستغلوا بدلا منها البترول .
وقد حدد الرئيس مونرو في رسالته إلى الكونغرس " 2 كانون الأول 1823 " القاعدة الأساس لهذه السياسة الهادفة لاستبعاد الهنود ، والزنوج وأوروبا ، قال فيها : للأوروبيين القارة القديمة ، وللأمريكان القارة الجديدة .
واتخذ من تفجير بارجة في ميناء هافانا ، ذريعة لشن حرب ضد اسبانيا أ، جرى بنتيجتها احتلال بورتوريكو، والفليبين وكوبا .
أسال التدمير الأوروبي المتبادل في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) أنهارا من الذهب ، صبت في الولايات المتحدة ، التي هبت للتجدة عندما وصلت الحرب إلى نهايتها ولاحت أعلام النصر .
وتحمل أسطورة المحررين الأمريكيين لأوروبا تضليلا مزدوجا :
ـ التدخل الأمريكي الذي جاء بعد ثلاث سنوات من اندلاع الحر (عام 1917) لأن مصالح الفعاليات الاقتصادية الأمريكية تعرضت للخطر بسبب نسف البواخر الأمريكية التي واصلت متاجرتها خلال الحرب مع بريطانيا ، وكذلك لأن الوزير الألماني زيمرمان ، وعد المكسيك بتشكيل حلف ضد الولايات المتحدة ، سيعيد بنتيجة للمكسيك أقاليمها الضائعة : " تكساس ، أريزونا ، نيومكسيكو " … وقد أدى تدخل ألقيصر كيسزر " صاحب أكبر مصانع للسفن في الولايات المتحدة " إلى تبدل في الرأي الأمريكي ، لمصلحة إرسال حملة إلى أوروبا (4 نيسان 1917) .
كلفت الحرب العالمية الأولى فرنسا مليون ونصف قتيل ، وألمانيا أكثر من مليون وسبعمائة ألف قتيل . ومن الضروري أن نقارن هذه الأرقام بعدد الضحايا التي نتجت عن المشاركة الرمزية للولايات المتحدة .
أما الرخاء الاقتصادي الذي شهدته الولايات المتحدة ما بين عامي (1920 ـ 1933) ، فقد تحول إلى تهتك ، مع نمو نشاط المافيات المتآمرة مع أجهزة الشرطة من خلال قانون منع الخمور الذي صدر عام 1919 ، والذي ازدهرت من خلاله الحانات غير القانونية ، والملاهي وبيوت الدعارة السرية ونشاطات مهربي الخمور .
وقد شهدت أعوام (1921 ـ 1924) إجراءات لكبح جماع الهجرة إلى الولايات المتحدة ، وازداد نشاط عصابات الكوكلاكس كلان ، ناشرة الرعب من جديد في مناطق الجنوب . وحملت النوفينية المسيطرة ، إلى الكرسي الكهربائي العديد من الأبرياء مثل ساكو وفانزتي ، الناشطين الايطاليين وأصبح الهم السياسي تحطيم أي نظام اجتماعي يتعارض مع التوغل الاقتصادي الأمريكي ، وبكل وسيلة ممكنة . كما أصبح الاتحاد السوفيتي و " العدوى " التي يمكن أن ينقلها ، العدو الرئيسي . وهيمن رعب مماثل على أوروبا الغربية . ولم يتردد القادة الأمريكان، في الاعتماد على أعتى الطغاة ، باسم الدفاع عن الحرية ، التي هي في الحقيقة حرية الباب المفتوح للتوسع الأمريكي بلا حدود .
وفي الحرب العالمية الثانية ، جرى الإنزال الأنكلو ـ أمريكي في أوروبا ، عام 1944 . وكان اليابانيون ، قد دمروا بشكل غادر الأسطول الأمريكي في بيرل هارير ، بينما كان الأمريكيون يسعون لإنقاذ مصالحهم في المحيط الهادي أمام التوسع الياباني الخاطف.
لم يتدخل الأمريكيون مباشرة ضد هتلر إلا في 19 حزيران 1944 ، عندما كان يعاني من هزيمته الأولى في كانون الثاني 1944 ، حيث تحطم جيشه في ستالينغراد ، بعد أن خسر 400 ألف جندي بينهم 140 ألف أسير .
كانت المقاومة في أوروبا ، وطوال سنوات الحرب قد قضمت الاحتلال الألماني . وفي ذلك الحين ، كان هتلر قد حشد خيرة قواته (189 فرقة من أصل 315 فرقة) على الجبهة الروسية ، و38 فرقة على الجبهة الإيطالية و 64 فرقة على الجبهة الممتدة من النرويج إلى فرنسا . وأدى هدا كله إلى تشتت آلة الحرب الهتلرية .
وجاء إنزال حزيران 1944 بعد قصف مرعب على التجمعات السكانية المدينة راح ضحيته 570 ألف قتيل و 800 ألف جريح من المدنيين .
والمثال الاكثر دلالة على قصف المدنيين ، هو قصف درسدن (135 ألف قتيل مدني) ، على الرغم من أن الزحف الروسي كان قد تجاوز المدينة ، التي لم تعد لهذا السبب تشكل هدفا عسكريا . أما هيروشيما ، فقد مسحت يوم 2 آب 1945 ، من على الخارطة بفعل قنبلة ذرية ، أودت بحياة 75 ألف ضحية .. ثم جاء دور ناغازاكي ، بعد ثلاثة أيام من قصف هيروشيما فعاشت نفس المصير ، مع أن الإمبراطور كان قد اقترح استسلام اليابان .
كانت الفكرة عن الشيوعية شاملة جدا . ففي عام 1955 ، توصلت مؤسسة وودرو ويلسون ، بالاشتراك مع جمعية التخطيط القومي إلى تعريف للشيوعية أكثر ما يكون دقة : " يأتي الخطر الشيوعي من التحول الاقتصادي لبلد ما بشكل يضعف رغبته وقدرته في أن يكون متمما لاقتصاد الغرب الصناعي " .
ولكي يتصدى القادة الأمريكان لمثل هذا التهديد، لم يترددوا ، غداة الحرب العالمية الثانية في حمل جنرالات النازية الجديدة إلى السلطة والتحالف معهم .
وكانت هذه السياسة ، التي طبقت بعد الحرب الثانية في كل أمريكا اللاتينية ، قد طبقت سابقا بعد الحرب العالمية الأولى . ففي عام 1922 ، وصف السفير الأمريكي في روما ، مستذكرا ذكرى مسيرة موسوليني إلى روما التي وضعت نهاية للديمقراطية في إيطاليا ، وصفها " بالثورة الشابة والجميلة " ، وأوضح لماذا يرى " أن الفاشيست ربما يكونون العامل الأقوى في كبح جماح البلشفية ".
وحظيت إيطاليا الفاشية منذ ذلك الحين بتعامل طيب من قبل الولايات المتحدة ، وذلك عندما سويت مسألة ديون الحرب . ثم تدفقت الاستثمارات الأمريكية إلى إيطاليا . وفي عام 1933 تحدث تيودور روزفلت عن موسوليني واصفا أياه " بالسيد الإيطالي الذي يثير الإعجاب " . وفي عام 1937 ، قيمت وزارة الخارجية الأمريكية الحركة الفاشية بأنها " أصبحت روح إيطاليا التي فرضت النظام في قلب الفوضى والمبادئ في وجه التجاوزات ، وحلت مشكلة الإفلاسات " .
ولم تغير إدانة غزو أثيوبيا إطلاقا من طبيعة العلاقات بين البلدين ، وشرح السفير الأمريكي لونغ أسباب ذلك بقوله : " بدون هذا التوجه .. كانت أشكال العنف البلشفي ستظهر في المراكز الصناعية ، والمناطق الزراعية التي تسود فيها الملكية الخاصة ".
وفي عام 1937 ، اعتبرت وزارة الخارجية ، أن الفاشية تتوافق مع المصالح الاقتصادية الأمريكية . وبمعنى آخر ، مع المفهوم الأمريكي للديمقراطية .
وحدث الأمر نفسه مع هتلر . ففي عام 1933 ، كتب القائم بالأعمال الأمريكي في برلين إلى واشنطن " إن الأمل المقود على ألمانيا ، إنما يعلق على " الجناح المعتدل في الحزب الذي يقوده هتلر … الذي وجه دعوة تعاون إلى كل الناس المتمدنين والعقلاء " .
ولأن " المحور " لم يهاجم الولايات المتحدة بعد بيرل هاربر ، فقد استمر الموقف الأمريكي من الفاشية على حاله لم يتغير .
وبعد الحرب .. تتابعت السياسة نفسها ، ولكن بلبوس جديد . ففي عام 1943 ، شهد الجنوب الإيطالي تراجع قوات الدوتشي ، بناء على إيحاء من تشرشل مدفوعا بالخوف من شبح حصار بلشفي . وقامت الولايات المتحدة بدعم ملك إيطاليا الذي تعاون مع النظام الفاشي ، وفرضت ديكتاتورية المارشال بادرغليو ، تماما كما فعل روزفلت عندما نصب عام 1942 الأميرال دارلان ، لا الجنرال ديغول ، على الجزائر .
كان الهدف هو منع المقاومة ضد الفاشية من الوصول إلى السلطة ، وكان الشيوعيون قد لعبوا دورا حاسما في صفوف هذه المقاومة .
قال ديفيد ماك ميشيل في كتابه " أكاذيب عصرنا " : منذ أن تسرب التقرير المعروف باسم تقرير بايك عام 1976 إلى الكونغرس ، بات معروفا مدى تدخل وكالة المخابرات المركزية في الحياة السياسية في إيطاليا . وكان الأمر يتعلق بمبلغ خمسة وستين مليون دولار ، قدمت كمساعدات مالية لأحزاب سياسية مرضي عنها ، والى شركاء لها ، وذلك بين عام 1948 وبداية السبعينات . وفي عام 1976 سقطت حكومة ألدومورو في إيطاليا ، بعدما كشف أن وكالة المخابرات المركزية أنفقت ستة ملايين دولار لدعم المرشحين المعادين للشيوعية .
ونقرأ في كتاب لكريستون سيمبسون بعنوان " انفجار " صدر عام 1988 :
" قامت أجهزة التجسس الأمريكية ، والأجهزة المعادية للمقاومة ، بتجنيد مجرمي حرب نازيين كبار ، مثل كلاوس باربي الذي يعتبر بدون شك ، الأكثر شهرة بينهم " .
وعمل النائب العام الأمريكي ماك كلوي على إطلاق سراح مجرم حرب نازي ، أسوأ حتى من باربي ، وكان يطلق عليه اسم فرانز 6 . والذي كان يعمل تحت إمة رينارد غيلن الذي أوكلت إليه مهمة تشكيل " جيش سري " ، تحت الرعاية الأمريكية ، وبالتعاون مع أعضاء قدامى في جهاز الأمن النازي واختصاصيين آخرين في جهاز قوات الدفاع الوطني النازية والذين كانوا قد قدموا العون للقوات العسكرية الميدانية التي وضعها هتلر في بلدان أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي ، وساعدوا بعد انتهاء الحرب في عمليات استمرت حتى أعوام الخمسينات . وكان غلين نفسه رئيسا للاستخبارات العسكرية النازية في أوروبا الشرقية ، وقد عهد إليه فيما بعد ، في الدولة الألمانية الجديدة بمنصب مدير إدارة التجسس والتجسس المضاد ، تحت مراقبة صارمة من المخابرات المركزية الأمريكية .
وحقيقة الأمر ، أن خوفا كبيرا في الولايات المتحدة ، قد برز مع تصاعد أزمة 1929 ، عندما أدى انهيار سوق الأوراق المالية في 4 تشرين أول ، نتيجة المضاربات المالية ، إلى إفلاس عدد لا يحصى من المصارف والمؤسسات ِ، وارتفاع مذهل في معدل البطالة . وفي عام 1930 ، وصل عدد العاطلين عن العمل إلى أربعة ملايين ، وارتفع عام 1931 إلى سبعة ملايين ، ثم بلغ عام 1932 أحد عشر مليونا .
أدى وصول روزفلت وأر كان حكمه من المنظرين إلى السلطة عام 1932 ، إلى بروز مبدأ جديد للدولة في ميدان الاقتصاد ، أطلقوا عليه اسم " الصفقة الجديدة " ، والذي ظهر بعجلة دون أن يتمكن من حل الأزمة ، فقد انخفض الناتج القومي عام 1937 ، بنسبة 13 % وانخفضت معدلات الاستخدام 30 % .
كانت الحرب العالمية الثانية وحدها القادرة على إخراج الولايات المتحدة من أزمتها . وفي الوقت الذي رفض فيه روزفلت تقديم العون لفرنسا المهزومة منذ عام 1940 ، فقد بذله لبريطانيا بموجب قانون خاص (فانون الإعارة والتأجير) أدى تطبيقه إلى إنعاش الاقتصاد الأمريكي عن طريق تصنيع آلاف عربات الشحن والطائرات والدبابات والمدافع . وحسم الهجوم الياباني في بيرل هاربر دون إعلان الحرب ، الجدال لصالح موقف مؤيد لروزفلت .
وسمحت القوة الاقتصادية الأمريكية تجاه أوروبا التي دمرتها الحرب ، سمحت لروزفلت ، حتى قبل تدخله المتأخر ، أن يصبح سيد اللعبة في أوروبا الغربية منذ كانون الثاني 1943 تجلى ذلك واضحا في مؤتمر كازابلانكا ، ثم في مؤتمر طهران الذي تلاه في نفس العام ، ثم في مالطا عام 1945 ، حيث مثل فيه روزفلت دور المفاوض الرئيسي لستالين لتنظيم العالم بعد سقود هتلر.
خرجت الولايات المتحدة من الحرب ، وهي في وضع السيطرة الشاملة ، وهو وضع لم سبق له مثيل في التاريخ . فالمنافسون الصناعيون كانوا قد دمروا ، أو أصابهم الضعف إلى حد كبير، ولهذا فقد تضاعف الإنتاج الصناعي الأمريكي خلال سني الحرب أربع مرات .
وأصبحت الولايات المتحدة في نهاية الحرب ، مالكة لنصف ثروات العالم ، بينما كانت خسارتها البشرية متواضعة جدا بالمقارنة مع ما قدمه العالم كله . لقد كلفت الحرب ألمانيا ما يزيد عن سبعة ملايين ونصف نسمة نصفهم من المدنيين ، وخسر الاتحاد السوفيتي سبعة عشر مليونا منهم عشرة ملايين مدني . وفي إنكلترا وفرنسا تجاوز الرقم مليون قتيل منهم 450 ألف مدني . أما الولايات المتحدة ، فقد كان عدد قتلاها 280 ألف جندي ، وهو رقم يعادل عدد ضحايا حوادث السيارات في الولايات المتحدة خلال سني الحرب .
وقبيل الحرب الكورية بقليل 1950 ، أعدت الوثيقة التي رسخت الخط السياسي للولايات المتحدة . وعرفت فيما بعد باسم مذكرة مجلس الأمن القومي رقم 68 / وقد حررها بول نيتش ، الذي خلف جورج كينان على رأس جهاز التخطيط في وزارة الخارجية .
وكان جورج كينان قد أقيل من منصبه لأن السلطة اعتبرته من " الحمائم " جدا ، وكان قد كتب عام 1948 : نحن نملك 50 % من ثروات العالم ، ولكننا لا نشكل أكثر من 3 , 6 % من سكان الأرض ، وفي مثل هذا الوضع يبدو أنه لا مناص من أن نكون موضع غيرة وحسد الآخرين ، وسيكون جهدنا الأساسي في الحقبة المقبلة ، تطوير نظام من العلاقات يسمح لنا بالاحتفاظ بهذا الوضع المتسم بعدم المساواة ، دون أن نعرض أمننا القومي للخطر . ويجب علينا لتحقيق ذلك أن نتخلص من العاطفة تماما ، وأن نتوقف عن أحلام اليقظة . يجب أن يتركز انتباهنا في كل مكان على أهدافنا الوطنية الراهنة ، علينا أن لا نخدع أنفسنا ، ولا نستطيع أن نسمح لأنفسنا اليوم بالغوص في ترف التفكير بالايثار وعمل الخبر على مستوى العالم . علينا التوقف عن الحديث عن مواضيع غامضة أو غير ممكنة التحقيق ، تتعلق بالشرق الأقصى ، مثل حقوق الإنسان ، أو تحسين مستوى المعيشة ، أو إحلال النظام الديمقراطي . ولن يكون بعيدا اليوم الذي سنجد فيه أنفسنا مضطرين للتحرك بصراحة من خلال علاقات القوة . وبقدر ما يكون ارتباكنا بسبب الشعارات المثالية أقل ، بقدر ما يكون ذلك أفضل " دراسات في التخطيط السياسي " .
أما " مخطط الصقور " الذي رسمه بول نيتش بوضوح أكثر للمواضيع التي تناولها . تمتلك الولايات المتحدة ـ يقول نيتش ـ قوة كونية ، لهذا سيكون من الضروري أن نحدد لنا عدوا كونيا ، وفي هذه الحالة سيكون الاتحاد السوفيتي . وعلينا أن نضفي على هذا العدو كل صفات الشيطان ، بحيث يصبح كل تدخل أو عدوان للولايات المتحدة مبررا مسبقا ، وكأنه عمل دفاعي تجاه خطر يشمل الأرض كلها . وهكذا أصبح الاتحاد السوفيتي بموجب هذا المخطط ، " امبراطورية الشر " . ليس مهما أن لا تكون كوريا أو فيتنام هي التي غزت الولايات المتحدة ، وليست هامة حقيقة أن الولايات المتحدة هي التي غزت هذين البلدين الذين يقعا على بعد عشرة آلاف كيلومتر عن حدودها ، ومع ذلك فقد زعمت أمريكا أنها تعتبر نفسها في حالة دفاع مشروع.
ولم يكن الاتحاد السوفييتي عام 1917 ، قد أصبح قوة عسكرية ، وخاصة بعد خسارته المرعبة بالأرواح خلال الحرب العالمية الأولى ، ومع ذلك فقد اعتبر الخطر الرئيسي ، بسبب أخطار " العدوى " التي يحملها ، مشكلا تهديدا لاستمرار النظام الرأسمالي .
وقال جاديس في كتابه " السلام الطويل " 1987 :
" أصبح أمن الولايات المتحدة في خطر منذ عام 1917 ، وليس في عام 1950 . كان التدخل عملا دفاعيا ضد تبديل النظام الاجتماعي في روسيا وإعلان الاتحاد السوفيتي عن نواياه الثورية ". ومن هذا المنطلق كتب السناتور وارن هاردينيج ، الذي أصبح فيما بعد رئيسا للولايات المتحدة (1921 ـ 1923) قائلا : " تشكل البلشفية تهديدا يجب القضاء عليه … لابد من القضاء على الوحش البلشفي " من كتاب " الولايات المتحدة وإيطاليا الفاشية " .
إذن ، يشكل وجود الاتحاد السوفيتي بحد ذاته عدوانا ، وهذا يوجب أن تدافع الولايات المتحدة عن نفسها ، في كل بقعة من بقاع العالم .
وهكذا تحددت بوضوح مواضيع الحرب الباردة . وحددت وثيقة جهاز التخطيط في الخارجية الأمريكية المذكورة آنفا هذه المواضيع على الشكل التالي :
إن الصراع بين قوى النور وقوى الظلام لا يهدد فقط جمهوريتنا ، إنما المدينة بأسرها . إن الانقضاض على مؤسسات العالم الحر ، يشمل المعمورة كلها ، ويضع على كاهلنا من خلال مصالحنا الخاصة ، مسؤولية ممارسة " القيادة للمعمورة كلها " .
وكان من السهل جعل هذه الفكرة مقبولة من " الرأي العام " ، بسبب الطبقة الحاكمة المسيطرة على الصحافة ودور النشر والجامعات والسينما والتلفزيون . وكشف اليكس توكفيل ، عن مدى هذه الإمتثالية لدى الشعب الأمريكي في كتابه " الديمقراطية الأمريكية " : " إني لا أجد بلدا تكاد تنعدم فيه استقلالية الروح ، ويسوده قليل من النقاش مثل الولايات المتحدة " . وفي عام 1858 قال الكاتب هنزي ديفيد ثورو وهو أحد المعارضين النادرين ومؤلف كتاب " والدن ـ أو الحياة في الغابة " :
" ليس هناك ضرورة لوجود قانون يمكن الدولة من السيطرة على الصحافة ، لأنها تفرض قوانينها بنفسها ، وتطبقها بصرامة أكثر مما هو مطلوب منها . لقد وصل المجتمع ، ولو بشكل غير معلن إلى اتفاق يتعلق بالمواضيع التي يمكن للصحافة أن تعبر عنها ، واختار ميدانها ، وعقد تعاهدا مضمرا بعزل كل من يحاول خرقه ، بحيث لا يتجرأ واحد من ألف ان يعبر عن شيء آخر " . ويضيف نعوم شومسكي : " من الدقة أكثر القول إن واحدا بالألف لا يستطيع أن يفكر بشيء آخر ، إلى هذه الدرجة الماحقة يمارس نظام السيطرة سلطته على التفكير " .
" وفي القرن العشرين بدت هذه السيطرة أكثر وضوحا ، إذ أدركت شخصيات مرموقة وباحثون كبار في العلوم السياسية ، وصحفيون ، وعاملون في صناعة العلاقات العامة المتنامية ، أنه في بلد ما حيث يمكن للشعب أن يرفع صوته ، من الضروري التأكد أن هذا الشعب يقول ما يجب أن يقال وبالشكل المناسب " .
"وفي دولة مؤسسة على العنف الداخلي ، تكفي السيطرة على ما يفعله الناس ، أما ما يفكرون به فقليل الأهمية . أما عندما يكون عنف الدولة محدودا ، يصبح من الضروري السيطرة على ما يفكر به الناس " .
كان هذا الأمر واضحا جدا في حلقات النخبة ، حيث كان هناك إصرار على أهمية " إعداد الموافقة " ، وهو تعبير استخدمه والترليبمان وهو صحفي متميز ومعلق سياسي ، أو " فبركة الموافقة ، حسب تعبير ادوارد برني ، وهو شخصية مؤثرة ومحترمة جدا في حقل صناعة العلاقات العامة ، وذلك للاطمئنان إلى أن المجتمع ، سيوافق على قرارات قادته الأذكياء ، ذوي البصيرة النافذة ، والذين يجب أن يكونوا بمنأى عن التأثر بجلافة الجماهير وسذاجتها " .
وكتب روبرت دال ، وهو أحد النقاد النادرين الذين تناولوا هذه المفاهيم بالنقد ، والمختص بالعلوم السياسية : " لو افترضنا أن الخيارات السياسية تفرض ببساطة على النظام ، من قبل القادة ( سواء كانوا من رجال الأعمال أو آخرين) ، كي يحصلوا على ما يريدون ، فإن نمط الاستفتاء الديمقراطي ، سيعادل في جوهره الهيمنة الشاملة " .
وهكذا ، على ارض التلاعب هذه ، التلاعب بالرأي العام ، يسعى القادة الأمريكان أن يحققوا هيمنتهم على العالم . والشاغل الأول للأجهزة المسيطرة على السلطة ، هو أن يحموا ظهرهم في أمريكا اللاتينية .
كانت الخطوة الأكثر وحشية بعد الحرب ، خطوة غواتيمالا ، حيث هددت حكومة الرئيس ارابيز الشعبية امتيازات شركة الفواكه ، وشركات البترول الأمريكية العاملة هناك .
وتجنبا لمضاعفات التدخل العسكري المباشر ، فقد حددت مذكرة مجلس الأمن القومي ،
رقم NSE 5432 ، الإجراءات الضرورية لتكامل القوات العسكرية اللاتينية ـ الأمريكية ، من خلال الأسلوب الأمريكي " في التشجيع " :
ـ " زيادة حصص بلدان أمريكا اللاتينية في مجال تدريب الافراد في الكليات العسكرية ومراكز التدريب في الولايات المتحدة ، بما فيها الاكاديميات الحربية " .
ـ يفضل إنشاء علاقات شخصية أكثر حميمية بين العسكريين الأمريكيين ، وغير الامريكيين ، لتشجيع عسكريي أمريكا اللاتينية على تفهم أكبر لأهداف الولايات المتحدة وتبنيها ، وإدراك الدور الهام لمؤسساتهم العسكرية في الحكم .
ـ البحث عن نمطية كاملة في التنظيم ، والتدريب ، والعقيدة القتالية ، وتجهيز القوات المسلحة في بلدانهم ، كل ذلك حسب المعايير الأمريكية ، الهدف أن يعارض هؤلاء العسكريون ، إرسال دول أخرى ، بعثت عسكرية إلى أمريكا اللاتينية وكي يصبح مؤكدا أن التجهيزات الأمريكية هي التي ستستخدم في هذه الجيوش .
لنلاحظ أن هذه الإجراءات لجيوش أمريكا اللاتينية في إطار بنية القيادة العسكرية الأمريكية ، إنما تهدف إلى مواجهة " أعدائنا التاريخيين " في أمريكا اللاتينية ، وهم أوروبا والسكان الأصليون .
ولأن المظالم التي ارتكبها القتلة في امريكا اللاتينية ، جعلت من الصعب وضعهم في كراسي الحكم ، فقد استبدلت الولايات المتحدة الإرهاب بالفساد ، وعمدت إلى استبدال هؤلاء القتلة بقادة " منتخبين " ، كما جرى في الأرجنتين والبرازيل وباناما بعد أن استخدموا نوربيغا ، وكذلك في نيكاراغوا التي سعوا أن تستمر فيها السوموزية بدون سوموزا ، بعد ثلاثين ألف قتيل .
وطرحت المشكلة بحدة في أوروبا غداة الحرب العالمية الثانية . كان الخطر هنا مضاعفا ، حسب وكالة المخابرات المركزية التي أكدت عام 1947 أن الخطر الاكبر ، على أمن الولايات المتحدة ، هو خطر الانهيار الاقتصادي في أوروبا الغربية ، وما سيتبعه من وصول عناصر شيوعية إلى السلطة.
ولتجنب مثل هذا الخطر المضاعف ، أطلق القادة الامريكيون مشروع " مارشال " الذي هدف حسب قولهم إلى إعادة إعمار أوروبا .
لكن الشروط السياسية كانت صارمة : لابد في البداية من إقصاء الشيوعيين في الحكومات الغربية . وهكذا بدى التدخل الخارجي في هذه البلدان واضحا :
فقد أقصي الوزراء الشيوعيون في الحكومة الفرنسية عن الحكم في 4 أيار 1947 . وأقصى الوزراء الشيوعيون في الحكومة البلجيكية في الشهر نفسه .
وهكذا ، بعد أن تمت عمليات الإبعاد ، أعلن بشكل رسمي عن مشروع مارشال في 5 حزيران 1947.
كانت " المساعدة " هي الهدف الأصغر في خطة مارشال . وقد لاحظت دراسة أجريت في نيسان 1947 ، أن المساعدة الأمريكية ستكرس بشكل مطلق للبلدان التي تتمتع بأهمية استراتيجية أساسية للولايات المتحدة .. ما عدا حالات نادرة ، التي تبرز فيها مناسبة للولايات المتحدة أن تتلقى استحسانا عمليا بفضل " عمل إنساني واضح جدا ".
وقد اتفق دين اتشيسون وزير الخارجية ، وعدد من أعضاء مجلس الشيوخ عام 1950 ، أنه لو اعلنت المجاعة في القارة الصينية ، سيكون على الولايات المتحدة أن تقدم مساعدات غذائية قليلة بالقدر الذي لا تخفف فيه من حدة المجاعة ، انما تكفي لتسجيل نقطة في سجل الحرب النفسية .
ولإعطاء دعم أكثر لهذه العملية السياسية الاقتصادية ، فقد رسمت مذكرة مجلس الأمن القومي "NSE 68 " استراتيجية لضغوط تهدف لنخر الاتحاد السوفيتي من الداخل ، عبر سلسلة من الدسائس السرية وغيرها ، تمكن في النهاية من التفاوض مع الاتحاد السوفيتي (أو الدولة أو الدول التي يمكن أن تحل محله) للوصول إلى اتفاق .
أما الوسائل السرية ، فقد تضمنت في تلك المرحلة ، إرسال معدات وعملاء يندسون في صفوف جيوش الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية ، والتي كانت قد صمدت أمام هتلر ، ووضع إدارة أجهزة التجسس في ألمانيا الفدرالية ، بين يدي ريتشارد غيلين الذي كان يدير أجهزة التجسس العسكرية النازية في الجبهة الشرقية ، وتجنيد مجرمي الحرب النازيين للمشاركة في المشروع الأمريكي الشامل لما بعد الحرب ، والذي يهدف لتحطيم المقاومة المعادية للفاشية .
ولأن العملاء من أمثال هؤلاء المجرمين لا يمكن حمايتهم في أوروبا ، فقد أرسلوا ، كل حسب مهمته ، إلى بلد من بلدان أمريكا اللاتينية . وهكذا أرسل كلاوس إلى بوليفيا ، فشارك بشكل فعال في انقلاب 1980 ، وذهب ضحية جرائمه ما يفوق بكثير ضحايا الجرائم التي ارتكبها في فرنسا أثناء الاحتلال الهتلري .
أثار السلام عام 1945 ، ثم انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1989 مشكلات صعبة أمام الولايات المتحدة ، تتعلق بالتبريرات التي ستضعها أمام الرأي العام لسياسة التسليح التي كانت عنصرا ضروريا لتنشيط الاقتصاد الامريكي .
كتبت مجلة وول ستريت جورنال في 31 آب 1989 ما يلي : : أثار الشبح المزعج للسلام ، مسائل شائكة ، فهو يهدد مباشرة المسيرة المنتظمة للبرامج العسكرية الامريكية والتي استندت إليها ، والى حد كبير بعد سنوات الحرب ، حركة اقتصاد الدولة . وتصور الجنرال ادوارد ماير ، رئيس الاركان الاسبق ، أن جيشا يتمتع بتقنية عالية ، بما تستدعيه من استثمارات هامة ، سيضمن عائدات ضخمة للصناعة الموجهة للخارج ، بما فيها من دبابات يسيرها الروبوت ، وطائرات تقاد عن بعد وعمليات تضليل ألكترونية ، انما كلها مشكوك بفائدتها في تحقيق الأهداف العسكرية المقبلة .
ولكن المسألة ليست ، لأن بواعث القلق تصدر عن ضعف الامل في تطور تقنية كهذه ، فكيف نقنع الشعب في دفع الفاتورة في الوقت الذي لم يعد فيه وأمام عينيه تهديد شيوعي ، بعد أن فقد هذا الشعار مصداقيته .
يجب إذن البحث عن بديل " لإمبراطورية الشر " .
هنا تزودنا حرب المخدرات بادعاء جديد لعمليات التدخل : " حق التدخل الانساني " أو " الدفاع عن هذا الحق " .
ثم وجدوا في العراق " امبراطورية الشر الجديدة " .
منذ سنوات ، كان صدام حسين يمثل سدا ضد الإسلام الذي جسدته إيران الخميني ، ولم يمنع التسلح ولا الأسلحة عن ذلك الرجل الذي دعاه أحد الكتاب الفرنسيين بـ " ديغول العراق " . أما عندما أراد أن يسترد نصف إنتاجه البترولي الذي اغتصب منه عام 1962 ، عبر تهديد عسكري من الطراز الاستعماري ، " كانت الكويت دائما في ظل الامبراطورية العثمانية ، ومن ثم الاحتلال البريطاني تابعة لاقليم البصرة " ، بادرت الولايات المتحدة ، مع أتباعها وشركائها إلى اتخاذ اجراءات بدت معها وكأنها المدافع عن " القانون " و " القانون الدولي " ، ضد هذا " العدوان " ، بعد أن استخدمت حق الفيتو ضد كل عقاب بحق اسرائيل ، وكأنه مكافأة لها على اعتدائها على الفلسطينيين والجولان ، وإلحاقها أراض لا تعود لها ومنها القدس .
كان لابد من ضرب " المثل " لكل العالم الثالث ، أنه من غير المسموح ، تحت طائلة التدمير، لاي شعب أن يرتقي إلى مستوى تقني عال ، أو يستثمر بنفسه ثرواته الوطنية " البترول في حالة العراق " ، دون مراقبة الدول العظمى لأسعارها ، ويشمل المنع بشكل خاص محاولة التخلص من الديانة التي لم تجرؤ هذه القوى على تسميتها ، والتي فرضتها على العالم الثالث بأكمله : وحدانية السوق ، ووثنية المال.
تشير احصائيات الصليب الاحمر الدولي ، ان القصف كلف الشعب العراقي مئتي ألف قتيل من المدنيين . أما الحظر التعسفي الذي فرض على العراق فقد أدى إلى وفاة 500 ألف طفل بسبب نقص الغذاء والدواء .
عندما أرسلت الولايات المتحدة عسكرها إلى العربية السعودية ، كتب توماس فريدمان ، المشرف على الزاوية الدبلوماسية في النيويورك تايمز في 12 آب يقول : " لم ترسل الولايات المتحدة جنودها إلى الخليج لتساعد السعودية على صد العدوان فقط ، بل لتساند في الوقت نفسه ، أحد بلدان الأوبك ، خدمة لمصالح واشنطن " .
كما لاحظت الواشنطن بوست أن هذا الاجراء فيه شيء من سلوك الماضي المهجور ، واستشهدت بقول توم مان مدير الشؤون الحكومية في مؤسسة بروكينج : يعامل بوش بلدان العالم الثالث بمنطق استعماري " الواشنطن بوست وفي الحقيقة فقد سبق هذه العملية الاستعمارية ، عدوان إنكليزي ، عندما استرد العقيد عبد الكريم قاسم عام 1961 ، الامتيازات التي كانت تتمتع بها الشركات الغربية " 94 % من الثروة الوطنية " ، والتي حصلت عليها عن طريق الحكومات الدمى التي نصبها المحتلون الغربيون .
كان سلوين لويد ، وزير الخارجية البريطاني ، قد أرسل برقية إلى رئيس الوزراء ، عرض فيها خيارين يتعلقان بالكويت : أما احتلال بريطاني فوري لهذا البلد نصف المستقل ، أو منحه استقلالا اسميا ، وشكك بحكمة استخدام القوة . فالاحتلال يسمح بفرض خيارات صارمة على البترول الكويتي ، لكنه يوقظ المشاعر القومية في الكويت ، وسيكون ذا تأثير على الرأي العام الدولي ، والعالم العربي . وسيكون من الفطنة أكثر ، استبدال هذا الخيار بايجاد نوع من " سويسرا كويتية " لا يسيطر فيها الانكليز مباشرة على البترول . وفي حال اختيار هذا الحل البديل ، سيتوجب علينا ، إذا ساءت الامور ، أن نتدخل بأكبر حزم ممكن ، كائنة من تكون ، الجهة التي سببت الاضطراب . ويجب التأكيد على التضامن المطلق للولايات المتحدة معنا ، فيما يتعلق بموضوع الخليج ، وهذا يستدعي اجراءات حاسمة للحفاظ على وضعنا في الكويت . وعلى الولايات المتحدة أن تتخذ اجراءات مماثلة تتعلق بحقول نفط الارامكو في العربية السعودية . والامريكيون موافقون على بقاء حقول النفط في الكويت ، والعربية السعودية والبحرين وقطر ، بيد الغربيين مهما كلف الثمن .
ثم أوجز الوزير البريطاني المصالح الرئيسية للانكليز والغرب في الخليج :
ـ التأكيد على ضرورة وصول بريطانيا والدول الغربية الاخرى إلى بترول الخليج وصولا حرا.
ـ التأكيد على بقاء البترول تحت تصرفنا وعقد اتفاقيات لصالحنا " وبالجنيه الاسترليني " ، واتخاذ ترتيبات مقبولة لاستثمار فائض عائدات البترول في بلادنا .
وقف تقدم الشيوعية والشيوعية المموهة في هذه المنطقة التي تسعى لاحتواء الحركة القومية التي يستخدمها السوفييت إلى هذا المنطقة .
وتدافع وثائق امريكية تعود لنفس الفترة عن الاهداف الانكليزية وبعبارات مشابهة ، ونورد هنا مقطعا من وثيقة مجلس الامن رقم 5801 / 1 ، بعنوان " القضايا الناتجة عن الوضع في الشرق الادنى " :
تؤكد المملكة المتحدة ، أن الاستقرار الحالي ، سيواجه تهديدا خطيرا ، فيما إذا تعذر الوصول إلى بترول الكويت والخليج ، في ظروف مفهومة . ومن جهة أخرى لا تستطيع انكلترا أن تستغني عن الاستثمارات الضخمة لهذه المنطقة في المملكة المتحدة ، كما أن الجنيه الاسترلييني يحتاج لمساندة بترول الخليج " الفارسي " .
وتحمل ، هذه " اللزوميات " البريطانية ، أضافة إلى حقيقة أن واردا مؤكدا من البترول ضروري لحيوية الاقتصاد الاوروبي الغربي ، تحمل إلى الولايات المتحدة حجة أكبر ، لتدعم ، أو تساعد إذا لزم الامر ، الانكليز ، بالقوة اللازمة لاستمرار سيطرتها على الكويت والخليج " العربي " .
وهكذا اعتبر ايزنهاور الشرق الاوسط ، وكأنه المنطقة الاستراتيجية الاكثر اهمية في العالم . وكانت الولايات المتحدة ، غداة الحرب العالمية الثانية ، قد جهزت خططها الجيوسياسية : " صاغت مجموعة من الدراسات التي أجراها كل من مجلس العلاقات الخارجية " الذي يمارس فيه عالم الاعمال تاثيرا كبيرا على السياسة الخارجية ، ووزارة الخارجية مفهوما اطلق عليه اسم " المنطقة الكبرى " ، وهي منطقة يجب أن تخضع لمصالح الاقتصاد الامريكي ، والتي يجب ان يضم ، على الاقل ، نصف الكرة الغربي ، والشرق الاوسط ، والامبراطورية البريطانية القديمة .
ويتوجب ، بحسب الامكان ، تطوير هذا المفهوم لتكوين نظام شامل ، يضم في كل الاحوال أوروبا الغربية ومصادر الطاقة الفريدة في الشرق الأوسط ، التي بدأت فعليا بالانتقال إلى الأيدي الأمريكية .
وفي كتاب " الولايات المتحدة والأبعاد الإستراتيجية لمشروع مارشال " للكاتب ميلغن ليفر ، جاء ما يلي :
" ان المفهوم الأمريكي للأمن القومي … يتضمن ايجاد منطقة نفوذ استراتيجية في قلب نصف الكرة الغربي " وهي دائرة تتواجد فيها أوروبا بالضرورة " ، ولذلك يجب إقصاء نفوذها ـ يقصد أوروبا ـ ، بحيث يشمل النفوذ الاستراتيجي السيطرة الاقتصادية ، والهيمنة على المحيط الهادي والأطلسي ، ونظام شامل لبناء قواعد خارجية ، لتوسيع الحدود الاستراتيجية ، وترسيخ السلطة الامريكية ، ونظام اكثر تركيزا على حقوق الترانزيت كي يسهل تحول القواعد التجارة إلى قواعد عسكرية ، والوصول إلى مصادر الثروة ، وأسواق القسم الاعظم من " أوراسيا " ، ومنع أي عدو من الوصول إليها ، وأخيرا تحقيق التفوق النووي " .
ويسمح لنا هذا المفهوم الاستراتيجي ، بفهم آلية الحرب الباردة بعد عام 1948 بشكل أفضل . وتلعب سياسة " الإفراط في التسلح " دورا حاسما في هذه البرمجة .
قال مجلة وول ستريت (1951) : " إنه من الواضح ، وجود إمكانية لانفاق مستمر على التسلح في هذه البلاد " . وتحرك النفقات العسكرية للولايات المتحدة ، الانتاج الصناعي الأوروبي بشكل لا يمكن تجاهله ، كما أن شراء المواد الأولية الاستراتيجية من المستعمرات الأوروبية ، يقلل من عجز الدولار ، بنسبة تضاهي المساعدة التي قدمها مشروع مارشال لبريطانيا ، والتي علقت عام 1950 . بينما وجد هوغان ، أن النتائج على المدى الطويل كانت عكس ذلك . ففي اليابان لعبت النفقات العسكرية للولايات المتحدة ، وخاصة بسبب الحرب الكورية ، دورا جوهريا في إعادة بناء الصناعة اليابانية بعد الحرب ، واستفادت كوريا الجنوبية من حرب فيتنام ، بنفس الأسلوب ، وبنفس الوقت الذي أفادت منه الدول الحليفة للولايات المتحدة .
كان دور العالم الثالث ، خدمة احتياجات المجتمعات الصناعية ، ففي أمريكا اللاتينية ، كما في أي مكان آخر ، كانت حماية " مواردنا الطبيعية " أمرا جوهريا ، حسب تعبير جورج كينان ، الذي رأى انه " طالما أن تهديد مصالحنا ، نابع بالضرورة ، من السكان الأصليين في المناطق المختلفة ، فإن علينا ادراك أن الرد المناسب سيكون غير مستحب " . وعنى بالرد المناسب ، الضغوط البوليسية التي تمارسها الحكومات المحلية . " يجب أن لا تثير إجراءات القمع الشديدة التي تمارسها الحكومات ، مشاعرنا طالما أنها تخدم أهدافنا " .
وتابع : " وبشكل عام ، من الأفضل أن نضع في السلطة نظاما قويا ، بدا من حكومة ليبرالية ، يرى فيها الشيوعيون في حكومة متساهلة ومتراخية وهو ما يفضلونه " . وتستخدم كلمة " شيوعيون " في الخطاب الأمريكي كتعبير فني ، يقصد به النقابيون ، ومنظموا الجماهير الفلاحية ، والجماعات المساندة التي أسسها القساوسة ، وبشكل عام كل أولئك الذين يسعون لأهداف ليست " سليمة " سياسيا. أما " الغايات الخيرة " فقد حددتها أعلى المستويات ، وفي وثائق في منتهى السرية . أتى الخطر الاكبر على المصالح الأمريكية من الأنظمة القومية ، التي هي صدى للضغوط الشعبية الهادفة لتحقيق تحسين فوري في المستوى المنخفض ، لمغيشة الجماهير ، وكذلك تنويع الاقتصاد. " وتدخل هذه المطالب في صراع ، ليس مع حاجتنا لحماية مواردنا فحسب ، بل أيضاً مع همنا في تشجيع قيام مناخ ملائم للإستثمار الخاص ، وضمان فوائد معقولة لمن يحملون رؤوس أموالهم إلى تلك البلاد " ، (وثيقة مجلس الأمن القومي 5432 ، 18 آب 1959) .
وتبعا لما قاله ديك شيني ، وزير الدفاع ، الذي يشاطر الرئيس بوش أفكاره " فالولايات المتحدة بحاجة دائما لأسطول قوي (وبشكل عام قوات تدخل من جميع الأنواع ) لمواجهة الصراعات الخفية ، وحماية المصالح الأمريكية في آسيا، وأمريكا اللاتينية على سبيل المثال " .
ويتابع شيني : " ستصبح قوتنا العسكرية في المستقبل ، عنصرا ضروريا لتوازن القوى ، ولكنها ستؤكد وجودها بطريقة مغايرة . من المحتمل جدا أن تواجه تعبئة قدراتنا العسكرية تحديا لا من الاتحاد السوفيتي فحسب ، بل من العالم الثالث أيضاً ، وهذا يستدعي قدرات جديدة ، وتوجهات محددة " .
فيما يتعلق بالتطورات الحالية لسياسة الاستيطان في فلسطين ، لم يكن هناك ، ولو للحظة واحدة ، أية فرجة صغيرة تبعث الامل من خلال ما اتفق على تسميته بعملية السلام ، وهو تعبير غامض لانه لا يمكن تحقيق السلام إلا من خلال تطبيق كامل لقرارات الأمم المتحدة ، وقد انتهكت هذه القرارات باستمرار من قبل إسرائيل ، وبشكل خاص كل ما يتعلق بالضفة الغربية، وزرع المستوطنات ووضع القدس .
وقال نعوم شومسكي في كتابه " إعاقة الديمقراطية " : أنهت الولايات المتحدة وإسرائيل مساعيهما الدبلوماسية الخاصة لنزع فتيل الخطر الناجم عن إنجاز عملية سلام حقيقي . وكان تحالف الليكود وحزب العمل ، قد اقترح عام 1989 ما سمي بخطة شامير ـ بيريز . وكانت المبادئ الأساسية لهذه الخطة :
ـ لن يكن هناك دولة فلسطينية في قطاع غزة ، وفي المنطقة الواقعة بين إسرائيل والأردن .
ـ لن يحدث أي تغيير في وضع " يهود والسامرة " وغزة ، خارج الخطوط التي رسمتها حكومة إسرائيل ، التي ترفض حق تقرير المصير للفلسطينيين . ويعكس تعبير " لا دولة أخرى في فلسطين " ، رأيا مشتركا أمريكيا ـ إسرائيليا من منطلق أن الدولة الفلسطينية قائمة فعلا ، وهي الأردن . وانطلاقا من هذا الرأي ، لن يكون هناك حق تقرير المصير ، بعكس ما يعتقده الأردنيون والفلسطينيون والأوروبيون وبعض المضللين الآخرين .
وتأخذ هذه المبادئ الاساسية بالحسبان " اللاءات الاربعة " الواردة في برنامج حزب العمل وهي : لا عودة لحدود عام 1967 ، لا لإلغاء الاستيطان ، لا للتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية ، لا للدولة الفلسطينية .
بعد كل هذا .. دعت الخطة لإجراء انتخابات حرة ديمقراطية في ظل الاحتلال العسكري الإسرائيلي ، مع استبعاد منظمة التحرير الفلسطينية .
أضفت الولايات المتحدة الشرعية على هذا المشروع . وقال جيمس بيكر إن " هدفنا دائما أن نسير في ظل معاني مبادرة شامير ، وليس لدينا أية خطة أخرى ، ولا أي اقتراح آخر".
وفي عام 1989 ، نشرت الخارجية الامريكية " خطة بيكر " ، التي اشترط فيها أن تتحاور اسرائيل مع مصل ، ومع بعض الفلسطينيين المقبولين والمخولين للبحث في كيفية خطة شامير … ولا شيء آخر .
والحقيقة أن السياسة الامريكية تدار عن طريق اللوبي الصهيوني القوي في الولايات المتحدة ، وهو اللوبي الذي دعته جريدة النيويورك تايمز " اللوبي الأشد تأثيرا … إنه قوة كبرى في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط " . وتقدر النيويورك تايمز أنه يستند إلى ما لا يقل عن 40 ـ 45 سناتورا ، ومئتي نائب من أصل 435 .
ويمثل اليهود الأمريكيون الذين لا يتجاوزون 6 , 2 % من السكان ، 20 % من أصحاب الملايين ، حسب مجلة فوريس ، وكلهم مستعدون لمكافأة الأصوات التي تصب في صالح اسرائيل ، وفق توجيهات لجنة الشؤون العامة الامريكية الاسرائيلية " إيباك " . وقد أنفقت هذه اللجنة عام 1987 أكثر من 000 ,900 ,6 دولار (وول ستريت جورنال 24 حزيران 1987) .
في ظل هذا النفوذ ، تتلقى إسرائيل أكثر من ثلاثة مليارات دولار سنويا ، باسم مساعدة اقتصادية وعسكرية ، وهو ما يمثل 700 دولار لكل اسرائيلي في العام .
مقابل ذلك تتلقى أفريقيا باستثناء مصر ـ مساعدة ، يبلغ نصيب الفرد فيها 2 دولار في السنة (لوموند ديبلوماتيك . آب 1989) .
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، أصبح الموضوع الرئيسي للسياسة الامريكية ، وضع اليد على البلدان النامية . وكانت دول الجنوب قد تلقت في الماضي ضربة نموذجية للتوقف عن محاولتها لاستخدام ثرواتها الوطنية لخدمة شعوبها ، وذلك عندما أطيح بالرئيس مصدق ، وأعيد الشاه إلى حكم إيران . وكذلك كان خطر القومية قد أصبح من المسلم به في وسائل الاعلام . وقد سمح نجاح الانقلاب العسكري المدعوم من المخابرات المركزية الأمريكية في الإطاحة بالنظام البرلماني لمصدق ، الرئيس الإيراني القومي المحافظ ، واستعادة سلطة الشاه ، سمح لشركات البترول الأمريكية أن ، تستولي على 40 % من الحصة البريطانية من بترول إيران . ووصفت النيويورك تايمز بأنه خبر ممتاز ، على الرغم من أنه كلف غاليا كل الاطراف المعنية " وبالضرورة الجانب الإيراني " . وقالت إن على الجميع أن يتعلموا منه الكثير ، فيما لو كانوا يستخلصون الدرس من الأحداث . وكان الدرس المطلوب تعلمه ، كما أوردته النيويورك تايمز بدون غمغمة ، وبكلمات تتصف بكامل الوضوح : من المستحسن للدول النامية التي تملك ثروات طبيعية هامة أن تتأمل هذا الحدث المثال . لو أنها اقتفت آثار هؤلاء الذين يتواجدون في ظهرانيها ، ويبشرون بالهذيان القومي، فسيكلفها ذلك غاليا. وقد تحتاج هذه الدول إلى التجربة الإيرانية لردع أمثال مصدق من الذين يسعون للوصول إلى السلطة. وتضع هذه التجربة أوراقا رابحة في أيدي القادة " المتنورين " الذين يواجهون الأمور بمنطق يتطلع إلى المستقبل البعيد، ويملكون فكرة واضحة عن " أولوياتنا ".
وجرى تطبيق هذا الاطار في مناطق محددة . كان فريق العمل الذي رأسه جورج كينان عام 1949 ، لتخطيط سياسة وزارة الخارجية قد رأى أن لدول جنوب شرق آسيا وظيفة جوهرية هي تزويد اليابان وأوروبا الغربية بالمواد الأولية ، وفتح أسواقها لهما . وقاد هذا الأمر إلى التدخل الأمريكي في الهند الصينية . كان الهدف محاصرة الاستعمار الفرنسي أولا ثم الحلول محله . وخشيت أمريكا أن يصبح استقلال فيتنام بمثابة " فيروس " قومي ينتشر في كل جنوب شوق آسيا.
وأشارت وثيقة صادرة عن المخابرات المركزية في 13 أيار 1965 إلى أنه في أي مكان لا نتمكن فيه من السيطرة المباشرة على القوات العسكرية وقوات البوليس ، على غرار نيكاراغوا بعد سيموزا أو باناما ، يصبح من الضروري الإطاحة بالحكومة وإقامة نظام أكثر مسايرة ، وإحياء وتقوية " جيش شرعي " على غرار الحرس الوطني في نظام سيموزا ، الذي كان اكثر الانظمة تفضيلا لدى الولايات المتحدة .
وفي مجلة " نيشن " ، في عدد 1 حزيران 1990 ؛ كتب ميشيل كلير ، تحت عنوان : عسكرية الولايات المتحدة تواجه الجنوب ، أن " الكليات العسكرية ، تقوم بتغيير برامجها لتلائم الاهداف المرسومة . وهكذا أعلنت كلية حرب الأسطول أن دراسة استراتيجيات الحرب يجب أن تشدد على الحرب " المدنية " ، والإرهاب ، والأزمات ضغيفة الشدة ، كغزو بناما مثلا . وتستدعي الأشكال الجديدة للصراع " المتوسط الشدة "، مع الأعداء الأقوياء في العالم الثالث ، انتباها خاصا ، لو أخذت بعين الإعتبار الحاجة الحيوية لبسط سلطة معنية على أقاليم أخرى ، ليبقى متاحا الوصول إلى الأسواق والمواد الأولية في المناطق البعيدة ".
نفس المسائل ، طرحها رئيس أركان البحرية ا . م . جراي ، فقد أعلن أن " نهاية الحرب الباردة ستعيد توجيه سياستنا الأمنية الخارجية ، دون تغيير الأسس ، وسيكون صراع الشمال والحنوب هو الحد الفاصل الحتمي " .
قال غراي في مجلة الأسطول في أيار 1990 :
" يجب ضمان وصولنا إلى الأسواق الاقتصادية في العالم كله ، دون عقبات ، وكذلك إلى المصادر الضرورية لتأمين احتياجاتنا الصناعية . لذلك يتوجب علينا إيجاد قدرة موثوقة للتدخل المسلح ، مع قوى غزو فعلية قادرة على تنفيذ طيف واسع من المهمات ، بدءاً من الرد على العصيان في الحرب النفسية ، مرورا بنشر قوات من كافة الاصناف . وعلينا أن نحترس أيضاً من التطور التكنولوجي السريع للسلاح الذي يمكن أن تصل إليه القوى الاقليمية الجديدة في العالم الثالث . إذن ، علينا أن نطور قدرات عسكرية موجهة مستثمرين تطبيقات الالكترونيات وعلم الموراثات والبيولوجيا الحيوية تريد أمتنا أن تؤكد مصداقيتها خلال القرن المقبل " .
ولاحظ المؤرخ ريتشارد ايمرمان ، أن " القوة والأمن الأمريكيين ، اعتمدا على الوصول إلى أسواق العالم ومواده الأولية ، ويشكل خاص العالم الثالث الذي توجب السيطرة عليه بشكل دقيق".
ولقد تأكدت الارادة السياسية للسيطرة على العالم ، وبكثير من الوقاحة بعد تدمير العراق . أمامنا وثيقتان واضحتان جداً ، صدرتا عن البنتاغون . كتبت الوثيقة الاولى باشراف بول ولفوفيتش ، وكتبت الثانية باشراف الاميرال جيريميا ، الرئيس المساعد للجنة رؤساء الاركان . وهذه أربع مقاطع من الوثيقتين :
ـ الولايات المتحدة ، هي ، وبشكل قاطع حامية النظام العالمي ، وعليها أن تضع نفسها في وضع تستطيع من خلاله التحرك بشكل مستقل عندما لا تتوفر ظروف العمل الجماعي أو في حالة وجود أزمة ما تستدعي القيام بعمل فوري .
ـ يهدف التحرك إلى منع قيام نظام امني أوروبي مستقل يكون قادرا على زعزعة استقرار حلف الاطلسي .
ـ يجب استيعاب ألمانيا واليابان في نظام جماعي للأمن تقوده للولايات المتحدة . العمل على قهر خصوم محتملين ، ما كان عليهم التطلع للعب دور أكبر .
ولتحقيق هذا الدور لابد لهذه القوة العظمى المنفردة أن تتمتع بقيادة خلاقة ، وقوة عسكرية كافية لاقناع أي أمة من الأمم ، أو أي مجموعة من الأمم أن تقلع عن تحدي تفوق الولايات المتحدة ، وأن تحسب حسابا كافيا لمصالح الأمم الصناعية المتقدمة ، بقصد إثنائها عن تحدي القيادة الامريكية ، أو وضع النظام الاقتصادي أو السياسي موضع خلاف .
هذا التسلط ، الذي بدأ بأكبر حملة عرقية ، وهي إبادة هنود أمريكا ، ثم استمر من خلال الرق والتمييز العنصري ضد السود ، وحماية طغاة أمريكا اللاتينية الاكثر دموية في العالم كله ، ثم على امتداد العالم كله ، من موبوتو في إفريقيا ، حتى ماركوس في الفليبين ، وارتكاب المجازر مثل يوم القيامة في هيروشيما ، ومجزرة العراق ، وما ترتب على ذلك ، من خلال التدخل المباشر ، أو بواسطة قادة الانقلابات العسكرية ، من ضحايا انسانية لم يعرف مثلها التاريخ كله.
وسنكتفي بذكر بعض الفصول المعاصرة : في فيتنام سقط أربعة ملايين قتيل ، وفي تيمور الشرقية 200 ألف ، وكذلك 200 ألف في أمريكا اللاتينية بواسطة " زبائن " أمريكا ، و200 ألف في لبنان دون أي رادع ، بفضل استخدام حق الفيتو في مجلس الامن ، وهناك مئات الألوف في الفليبين ، و200 ألف في أمريكا الوسطى .
حتى الصحفيين الامريكيين الاكثر رزانة ، خلطوا في حساباتهم ، عندما رسموا ميزانا لهذه الجرائم ، بين الدولار والاموات . نذكر منهم هاج سيدني الذي كتب رسالة إلى رونالد ريغن في مجلة التايمز حول نيكاراغوا : " تقترب نتائج أحداث نيكاراغوا ، من تلك التي بحثت عنها الولايات المتحدة منذ وقت طويل، في مسعاها للدفاع عن الحرية ، كانت الخسائر قليلة ، إذ لم تتعد 300 مليون دولار قدمت مساعدة إلى الكونترا ، و3 , 1 مليون في الحرب الاقتصادية . لنقارن هذه الخسائر مع خسائرنا في فيتنام : 58000 قتيل و 150 مليار دولار من النفقات ، وأمة غرقت في المرارة ، والهزيمة القاسية " .
وعن هذا المنحى الاخير الذي أصبح واضحا منذ غزوات كوريا ، والعراق والصومال ، وأماكن أخرى ، كتب دين أتشيسون ، وزير الخارجية مبشرا ومنذرا: إذا كانت سياستنا الواقعية ، قد أعطت عهودا للحفاظ على تايوان ، وإذا كان علينا أن نتدخل عسكريا لحمايتها ، فسيكون ذلك مستترا تحت راية الامم المتحدة ، مع النية المعلنة لدعم المطالب الشرعية للتايوانيين في حق تقرير المصير " .
وكان تشكيل فرق الموت ، ضد رجال الدين ، لخنق كل إحتجاج من أية جهة جاء ، اكثر فاعلية ومضاء .
ففي تشرين الثاني 1989 ، وصف الاب يغناسيو ايلاكوريا رئيس جامعة الجزويت ، الذي اغتيل فيما بعد ، وصف السلفادور بانها " الحقيقة الممزقة بجروح تكاد تكون مميتة " . كان الاب ايغناسيو قريبا جدا من رئيس الاساقفة روميرو الذي كتب إلى الرئيس كارتر يشكو عبثا من عدم ايقاف المساعدات للفئة الحاكمة . وابلغ رئيس الاساقفة صديقه ايلاكوريا ان الباعث على رسالته ، كان المفهوم الجديد " للحرب الخاصة " ، الذي تضمن الوقوف بحزم وبشكل مطلق ضد كل محاولة لانشاء تنظيم شعبي الغاء مطلقا بدعوى الشيوعية والارهاب .
وليست الحرب الخاصة ، التي يسمونها احيانا مقاومة العصيان ، وأحيانا أخرى صراعا ضعيف الشدة ، أو أي تورية مشابهة من هذا النوع ، ليست الا ارهابا دوليا ، وهي السياسة الرسمية للولايات المتحدة منذ زمن طويل ، إنها سلاح في ترسانة كبيرة تستخدم في مشاريع اجتماعية ـ سياسية ، أوسع مدى .
وهكذا ، في مارس 1980 ، اغتيل المونسينور روميرو ، رئيس أساقفة السلفادور بينما كان يرعى قداسا كنسيا . حدث هذا الاغتيال باسم الديمقراطية الامريكية الهادفة لاسكات كل احتجاج ، ولم يفاجئ هذا الاغتيال احدا ، بعد أن كتب رئس الاساقفة لكارتر يدعوه لايقاف مساعدته للفئة الحاكمة ، مؤكدا له أن هذه المساعدات تستخدم لدعم الظلم وممارسة الضغوط على المنظمات الشعبية المناضلة في سبيل احترام حقوق الإنسان الاساسية .
كان رئيس الاساقفة قد وضع اصبعه على المشكلة التي يجب التغلب عليها ، وهي مشكلة " التورية والتموية " والبيانات الغامضة الهادفة لاخفاء حقيقة الاحداث .
كان مطلبه الحصول على ضمانات من الولايات المتحدة ، أن لا تتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال أساليب مراوغة للضغط الاقتصادي أو الدبلوماسي ، أو أي شكل آخر من الضغوط ، تعرض الشعب السلفادوري لمخاطر الفناء .
ووعدت الولايات المتحدة أنها ستعيد تقييم منح المساعدات للفئة الحاكمة إذا توفرت لها البراهين عن الاستخدام السيئ لها . واعقب هذه الوعود ، اغتيال رئيس الاساقفة ، وسحقت قوى الامن المنظمات الشعبية بشراسة وحشية منكرة ، على غرار ما حدث في مذبحة ريو سامبول ، التي وقعت في ظل صمت وسائل الاعلام المقهورة .
وجاء في مقالة لامريكاس واكش ، بمناسبة الذكرى العاشرة لاغتيال رئيس الاساقفة روميرو : " أوضح التقرير عن كتيبة أتلاكاتل استمرارية السياسة الامريكية . فجنود هذه الكتيبة قد دربوا على اطاعة أوامر رؤسائهم ، الذين يكلفونهم بمهمة اغتيال رجال الدين ، عمدا وبأعصاب باردة " واستعرضت المجلة الاعمال الدقيقة لهذه الوحدة المشكلة من " النخبة " التي دربتها الولايات المتحدة وجهزتها . وقد وصف بروفيسور يعمل في المدرسة الحربية الامريكية " في فورت بينينغ ـ جورجيا هؤلاء الجنود بانهم متوحشون بشكل خاص ، انه لامر سيئ أن نعلمهم كيف يسجنون الناس ، فكيف بالاخرى عندما يقطعون آذانهم " . وقد شاركت هذه الوحدة ، في كانون الأول 1981 في عملية قتل خلالها مئات من المدنية في حفل قتل صاحب رافقته عمليات اغتصاب وحرق . وقدر المكتب القانوني للكنيسة عدد الضحايا باكثر من ألف قتيل . وتتابع هذا الاسلوب ، فقصفت قرى ، ومات مئات من المدنيين ، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ حصدهم الرصاص ، أو اميتوا غرقا .
هذا هو باختصار ما سمي بالحرب الخاصة في السلفادور ، بدءا من العملية العسكرية التي جرت على نطاق واسع في أيار 1980 ، عندما ذبح 600 مدني ، ومثل بجثهم في ريوسومبول . وقد اشترك في هذه المذبحة الجيشان السلفادوري والهندوراسي . وكشفت الكنيسة هذه المجزرة ، وتابعها المحققون في انتهاكات حقوق الإنسان ، وكتبت عنها الصحافة الاجنبية . أما وسائل الاعلام الامريكية ، فلم تتحدث عنها أبدا ، لانها شاركت عمليا في الحرب النفسية حسب الدور الذي رسم لها .
واكدت لجنة المحامين في رسالة إلى وزير الدفاع ديك تشيني ، في العشرين من نيسان ، بان قتلة الجزويت جرى تدريبهم من قبل القوات الخاصة الامريكية ، إلى ما قبل المجزرة بثلاثة ايام . وذهب الاب جون كورتينا ، عميد كلية العلوم في جامعة الجزويت إلى ابعد من ذلك ـ إذ أكد أن الجنود الامريكان الذين تخفوا بضعة ايام في فندق سان سلفادور ، خلال الحدث الذي أثار ضجة كبرى ، كانوا المدربين العسكريين الذين دبروا العملية . وقبل بضع سنوات وقعت مجازر أسوأ ارتكبتها وحدة الاتلاكاتل ، بعد تدريب عسكري امريكي .
بعد هذا الاستعراض لتاريخ الولايات المتحدة ، منذ عمليات النهب الأولى ، وعمليات ابادة السكان الاصليين ـ وانتهاء بعمليات السنين الاخيرة ، نجد من الضروري أن نضع كشف حساب لما اتفق على تسميته " بالديمقراطية الامريكية "، لنبدد الاوهام والاكاذيب . حول طبيعة الحرية التي تمنحها أمريكا لنفسها عبر العالم كله ، وكأنها الضامن لها أو الكفيل .
في البداية ، ولننطلق من داخل البلاد نفسها ـ نجد أن ما يطيع الولايات المتحدة عدم المساواة المتزايد في توزيع الثروة ، وينتج عن ذلك ، عدم المساواة في ممارسة السلطة .
في عام 1900 امتلك 1/ 8 من العائلات الامريكية 17 % من الثروة الوطنية . وكان جيمس تروسلو آدومز ، قد تحدث منذ بداية القرن العشرين ، وتحت عنون " عصر الديناصورات " عن السيطرة الوحشية للمجوعات المصرفية والصناعية الضخمة ، واصفا اياها بالعناكب الهائلة التي ظهرت في فيلم حديث ، مشكلة نوعا من الرمز المرعب للعالم الذين تطور منذ تلك العصور.
ولكن اللامساواة لم تتوقف عن النمو : فحسب تقارير البنك الدولي ، انخفضت حصة البلدان الفقيرة ، البلدان الاكثر فقرا من ثروات العالم من 23 % إلى 18 % فقط ، وذلك بين عامي 1980 و1988 . كما سلط البنك الاضواء ، عام 1989 ان انتقال الثروات من البلدان الاخذة في النمو إلى البلدان الصناعية قد بلغ مستوى جديدا ، فتسديد القروض قد تجاوز 9 , 42 مليار دولار ، بزيادة 3 مليار دولار بالمقارنة مع عام 1988 أما حصة البلدان الغنية من رؤوس الاموال فقد انخفضت إلى ادنى مستوى خلال السنوات العشر الماضية .
أبرز الصحفي ديريك جاكسون في صحيفة " بوستون غلوب " هذه الحقائق ، ولفت الانتباه إلى ان اليونيسيف وضعت سويسرا في المرتبة الأولى لدخل الفرد ، قبل الولايات المتحدة التي جاء ترتيبها الثاني والعشرين ، بعد ايرلندا واسبانيا بينما كانت في المرتبة العاشرة عام 1960 . أما ما يتعلق بالافارقة الامريكان فقد تضاعفت نسبة الوفيات عمليا بالنسبة للمعدل الوطني . وفي بوسطن وفي حي روكسبري ، المزدحم بالضرورة بالاقليات الاثنية ، وصلت النسبة إلى ثلاثة اضعاف المعدل الوطني ، وبذلك يصبح هذا الحي الذي ينتسب إلى الامة الاغنى في العالم بعد سويسرا، في المرتبة 24 فيما يتعلق بوفيات الأطفال .
وأشارت دراسة أعدت عقب أحد المؤتمرات ونشرت في مارس 1989 ، إلى أن عائدات دولة ترتيبها الخامس بين الدول الاكثر حرمانا تناقصت 6 % ما بين عامي 1979 ـ 1987 وأما الدولة الاكثر غنى والتي ياتي ترتيبها الخامس بين الدول الغنية ، فقد ازداد دخلها بنسبة 11 % . وتأخذ هذه الاحصائيات نسبة التضخم المبالغ المرصودة للمساعدات الاجتماعية . أما العائدات الفردية في الدولة التي تحتل المرتبة الخامسة بين الدول الاكثر حرمانا فقد انخفضت 8 , 9 % بينما ارتفعت هذه العائدات في الدولة التي تحتل المرتبة الخامسة بين الدول الاغنى ، إلى 15 %.
ويعترف نفس التقرير بهذا " التمييز العنصري " الاقتصادي بقوله : إن الهوة التي تفصل الامريكان الاغنياء عن الفقراء ، اتسعت خلال عقد الثمانينات إلى درجة أن المليونين ونصف من الاغنياء سيتلقون وحدهم عام 1990 ، نفس حجم الدخول التي يتلقاها مئة مليون من الفقراء الذين يقعون في أسفل السلم .
وفي عام 1996 ، أشار السيد جيمس جوستاف سبيث " برنامج الامم المتحدة للتنمية " في مقابلة مع جريدة اللوموند ، إلى أن الفاصل بين البلدان الغنية والعالم الثالث يستمر في الاتساع . واستنكر سبيث اسطورتين : الاولى وتتحدث عن أن العالم الثالث سيستفيد من النمو المتواصل ، والثانية التي تتحدث عن القطاع الخاص كحل معجز لمشاكل التنمية .
أوضح السيد سبيث : هناك اسطورة أولى يجب التغلب عليها ، تتعلق بالعالم النامي ، وهي الزعم بانه سينتقل من حسن إلي أحسن بفضل عولمة الاقتصاد في ظل قيادة الدول الخمس العملاقة . والحقيقة أن دخل الفرد الواحد في اكثر من مئة دولة هو اليوم اقل مما كان عليه قبل خمس سنوات . وبشكل أوضح فإن 6 , 1 مليار انسان يعيشون اليوم في مستوى أسوأ مما كانوا عليه . ففي بداية الثمانينات . وخلال جيل ونصف اتسعت الهوة بين الدول الاكثر فقرا التي تشكل 20 % من العالم ، والدول الاكثر غنى التي تشكل 20 % منه . أما اليوم فإن الفارق هو واحد إلى ستين ، على الرغم من أن الثروة العالمية قد ارتفعت بشكل عام. ويقع العالم الثالث ضحية اسطورة مؤذية اخرى وهي الاعتقاد بان القطاع الخاص يتضمن الترياق لكل العالم . وفيما عدا عولمة التبادل ، لا ينتظر من الاستثمارات الخاصة أن تقود بشكل طبيعي إلى خلق " عالم متساو " . وليس هناك من صلة بين احتياجات بلد ما والاستثمارات الاجنبية المباشرة داخل هذا البلد . وكلمات الخصخصة ، وتحرير الاقتصاد ، والتحلل من القوانين واللوائح ، وهي الكلمات السائدة في عالم الليبرالية في نهاية هذا القرن ، هي التي ستهل عمليات النمو ، ولكنه نمو بصاحبه فقر كبير وعدم مساواة تزداد عمقا ، ومعدلات بطالة في حالة ارتفاع دائم .
وفي الجامعات ، ذات المستوى الارقى ، يسود قانون السوق ، ففيها يكلف الطالب أسرته ما بين 100 ـ 150 ألف فرنك في السنة للحصول على شهادة دراسية واحدة . أما ما يخص تعليم عامة الشعب ، " فنظام التعليم الامريكي يسقط شظايا " كما ورد في التقرير الذي أعده اختصاصيون من جامعة كولومبيا (مجلة الاقتصاد العالمي 1990) . واعترف 40 % من الفتيان الامريكان الذين أموا المدارس مثلا أنهم لا يعرفون القراءة بشكل صحيح . إن 23 مليون من اليافعين وفي موضوع الصحة ، تعد الولايات المتحدة ، فيما يتعلق بالعيادات والمستشفيات ، ومراكز الابحاث من أفضل الدول في العالم . لكن نظامها الصحي يوحي بالكارثة . فهي تعتبر في المرتبة الثانية والعشرين بين دول العالم في معدل وفيات الأطفال أما حصة نفقات الصحة العامة ، فهي أدنى نسبة بين كل بلدان الديمقراطيات الغربية .
ويؤدي عدم المساواة إلى الغش والفساد . وتقدر الاجهزة المالية الامريكية ان 20 % من الضرائب الفيدرالية لم تسدد وقد بلغت عام 1989 مئة مليار دولار . أما " الغرغرينا " فهي تنشط في قلب النظام نفسه فخلال عشر سنوات تمتد بين عامي 1980 ـ 1990 بلغ عدد القضاة الذين أدينوا بالتلاعب بالاموال العامة والفساد أعلى من عددهم في المئة وتسعين عاما السابقة من تاريخ الولايات المتحدة .
ولأن مقاييس اختيار الشخص الافضل ، هي دائما لصالح الاغنياء ، فانها تقود في النهاية إلى اعطائهم السلطة . وقد أكد جون جاي رئيس المؤتمر القاري والرئيس الأول للمحكمة العليا في الولايات المتحدة أن : " البلاد يجب أن تعطى لمن لملكها ". لقد وضع النظام السياسي ، شأنه في ذلك شان النظام الاجتماعي ، في خدمة مصالح الطبقة التي تحتكر الملكية .
أما السياسية التي تفترض أنها تنظم الدولة فقد دخلت في دوامة السوق ، فكل وظيفة لها ثمنها . فقد احتاجت الحملة الانتخابية لانتخاب أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب عام 1988 ، إلى ميزانية دعائية بلغت 50 مليون دولار ، وهو ما يزيد عشر مرات عما انفق في انتخابات 1971 .
مثل هذه التناقضات بين الطبقة المتميزة المتجبرة ، وبين الطبقة المستعبدة ، تولد عنفا شاملا لا ضابط له ، مع انفجارات فردية في الاطراف ، تعبر عنها أمثلة كثيرة . ففي نيويورك وحسب احصاءات الشرطة ، تقع في المتوسط عملية قتل كل أربع ساعات ، وتقع عملية اغتصاب كل ثلاث ساعات . وهناك محاولة اعتداء كل ثلاثين ثانية . ومع ذلك فنيويورك تقع في المرتبة العاشرة بين المدن الامريكية في معدل الجريمة . وفي عام 1989 تم إحصاء 21 ألف عملية قتل في الولايات المتحدة ، وضمت سجونها أكثر من مليون سجين ، وثلاثة ملايين تحت المراقبة القضائية .
هذه هي تبعات اقتصاد السوق الوحشي ، حيث تسيطر، كما كتب هوبز ، عند فجر الرأسمالية ، حالة " حرب يشنها الجميع ضد الجميع " . إن منطق سوق بلا قيود ، مع ما يحمله من تضارب في المصالح بين الافراد والجماعات الذين لا يرون الا مصالحهم الخاصة ، هو الحقيقة منطق الحرب .
إن الازمة البنيوية في العالم الثالث هي ، بشكل خاص عميقة في أمريكا اللاتينية . والتورط الكثيف للولايات المتحدة في أمريكا الوسطى منذ عام 1979 ، إنما كان نتيجة استراتيجية تنمية مبنية على زراعة موجهة للتصدير . وأدت هذه الاستراتيجية إلى هجرة المجتمع الريفي ، والى تبدلات عميقة في علاقة الفلاحين بالارض ، محطمة المجتمع التقليدي دون أن يحل محله تنظيم اجتماعي ثابت وقابل للاستمرار . ويعكس تحويل أمريكا اللاتينية إلى مجتمع مديني (في عام 1960 كان يعيش 49 % من السكان في المدن ، وارتفع الرقم عام 1989 ليصبح 70 % ) بؤس التنمية الزراعية ، ويفسر انتقال الفلاحين إلى المدن المزدحمة مشكلين سكانا هامشيين . ونرى الحالة نفسها في العالم الثالث كله . ولم يتوقف عدم الاستقرار عن الاتساع منذ أعوام السبعينات التي اتصفت بالمديونية ، وانخفاض مستويات تبادل السلع غير المرتبطة بالطاقة " تقرير البنك الامريكي للتنمية ".
في عام 1988 ، دفعت دول العالم الثالث ، المثقلة بالديون خمسين مليار دولار كفوائد ، ومبالغ سداد . ويفوق هذا المبلغ قيمة القروض التي تسلمتها هذه الدول .
فهل يستطيع أحد بعد هذه الجرائم وأعمال القرصنة أن يتهم أولئك الذين يفوضون هذه الجرائم ، بمعاداة أمريكا لمجرد معاداتها ؟
نعم ، بشرط الاعتراف أن معاداة أمريكا تبدأ برفض الخضوع لها .
والسياسة الامريكية هذه ، سياسة عامة يتبناها كل من الحزبين اللذين يتبادلان الحكم . والحقيقة ان الولايات المتحدة تقدم الصورة الاكثر وضوحا لحكم الحزب الواحد . إنه حزب " الاعمال " بشقيه الذين يدعيان من خلال التلاعب بالمعاني : الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري .
يلعب الحزبان لعبة الحمار والفيل ، ولا يملك أي منهما مشاريع انسانية ، أو بالاخرى لا يملكان أي مشروع ما عدا مشروع تحقيق زيادة الاستهلاك والانتاج في بلدهم فقط ، على حساب الجميع دون مواربة .
لقد بدأ تدمير العالم ، في سبيل تأمين احتياجات الاقتصاد الامريكي ، بشكل طبيعي من أمريكا اللاتينية . وعلى كل أمة اليوم ، وفي العالم كله ، أن تعرف فيما إذا كانت ستصبح بورتوريكو جديدة ، دون أي مشروع إنساني ، إلا مشروع الولايات المتحدة والاستسلام لها ، والخضوع لإرادتها .
ويظهر ذلك واضحا من عملية التفكيك الاقتصادي والسياسي والثقافي ، وحتى في أوروبا نفسها ، حيث يطلب من إنكلترا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا ودول أخرى ، وهي دول موقعة على معاهدة ما يستريخ أن تصبح الركيزة الاوروبية لحلف الاطلسي إلى المدى الذي زودت فيه هذه الدول امريكا بقوات مساندة لتدخلها العسكري : من العراق ، إلى الصومال .
كي شيء في خدمة الغات (المنظمة العالمية للتجارة) والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، هذه المؤسسات التي تفرض على العالم الثالث التبعية السياسية وترهقه مقابل ديونه . ولكن هذه المؤسسات ، تقبل دون ادنى اعتراض الاملاءات التي تفرضها الدولة الاكثر مديونية في العالم ، أي الولايات المتحدة .
فالى متى سيقبل العالم هيمنة بلد تبلغ الجريمة نسبة الجريمة فيه أعلى مستوى ، والذي تقرر فيه المحكمة العليا (حزيران 1989) جواز الحكم بالاعدام على الأطفال دون السادسة عشرة من العمر، وتنفيذ هذه الاحكام . ويطبق هذا القانون في 24 ولاية، نفذ فيها منذ عام 1972 أحكام الاعدام بـ 182 شخصا بواسطة الكرسي الكهربائي أو الشنق أو غرف الغاز . وينتظر 2500 محكوم بالاعدام في زنزاناتهم تنفيذ الاحكام فيهم .
وما هو أسوأ من ذلك ، في عصر تلعب فيه التقنية الاعلامية " وخاصة التلفزيون ، والالكترونيات والاعلام السريع " دورا حاسما في تكوين الرأي العام ، وتصدير الثقافة الجاهزة التي تغزو العالم كله ، مدمرة ثقافاته الخاصة ، ومسلسلات دالاس والديناصورات ، والمدمر ، ويوم الاستقلال وصرعة مادونا ، ورسوم روشنبرغ وكونينج ، وأفلام الكرتون الامريكية ومنافستها اليابانية التي لم يعد أبطالها " البلانش نيج " وإنما بوبي ودونالد و " الاحجار المتدحرجة " التي تغرق فينسيا باطنان من الاحجار وبأقذار الشوارع ، والزعيق ، والرعاع ، والدهماء ، وموسيقى الروك بشدة 120 سيبل ، ليفجر كل ذلك ، وبلا حياء ، شاشات التلفزيون والسينما والمدارس ، ولتجعل شبابنا ينسون أعمال رابليه وسرفانتس وشكسبير .
أصبحت مطاعم ماكدونالد والكوكاكولا والنوادي الليلية وديزني لاند رموز اللامعنى ، والنمطية في عالم كان قد أبدع الرمايانا ومسرح الند " دراما غنائية يابانية " وأصالة الرقص الافريقي ، أو الرقص الامريكي الاصيل ، و ملحمة جلجامش وأشعار رامبو.
هل ستعني " الحداثة " النسيان والاحتقار والجهل والضلالة لحساب الامية الثقافية، والثقافة الاخبارية والممكننة ؟
وهل سيجعلنا كهان وحدانية السوق ووثنية المال نقبل أن يتحول " الأطفال الذهبيون " الذين سرعان ما يبهت لونهم في أمريكا إلى حرس انحطاط ؟
هذه الحالة من الروح لم تتشكل فقط من واقع أن هذا الكوكب واسع وغني ، ولا من حقيقة أن أنهارا من الذهب جرت إلى أمريكا عبر الاطلسي بفعل الحربين الاوروبيتين ، بل لأن ذلك كله قد أوحى للطبقة الحاكمة الامريكية بفكرة الفردية بلا حدود " كما كانت بلادها ذات يوم بلا حدود " ، وكذلك من حقيقة أن الولايات المتحدة تعيش فوق مستوى طاقتها بفعل استغلال العالم كله كما جرى في الماضي ، إذ لم يكفها آنذاك ذبح الهنود وطردهم . ويترجم هذا الواقع نفسه بحقيقة أن الولايات المتحدة ، البلد الاغنى في العالم ، هو البلد الاكثر مديونية ، إذ يبلغ دينها العام 3000 مليار دولار ، كما أنها مدينة بمبلغ مماثل من الديون الخاصة ، أي ثلاثة أضعاف ديون العالم الثالث كله .
وليس اقل دلالة على انحطاط الروح ، من التقليد الذي يرجع إلى أيام مطاردة الهنود ، وهو امتلاك الاسلحة الفردية الخاصة ، وحتى الاوتوماتيكية منها ، والتي يبلغ عددها ، عدد سكان الولايات المتحدة .
وهذه الحالة نفسها نجدها لدى الشباب : وحشية العلاقات الإنسانية التي تظهر من خلال عدد الشباب الذين يقتتلون فيما بينهم مستخدمين الاسلحة النارية . وقد تحدث التقرير الاخير " لصندوق الدفاع عن الأطفال " ، وهو منظمة رئيسية لحماية الطفولة في الولايات المتحدة ، عن تصاعد الخط البياني لوفيات الأطفال بسبب استخدام الاسلحة النارية . وذكر أن هذا الخط يرتفع باستمرار لدى الاطفال والمراهقين . وقد قتل بين عامي 1979 ـ 1991 خمسون ألف أمريكي تقل أعمارهم عن سنة (9000 منهم أقل من 14 سنة ) بالرصاص والحوادث والجرائم المختلفة . وارتفع خلال نفس الفترة معدل المعتقلين المتهمين بالقتل أو محاولة الانتحار ، من الذين تقل أعمارهم عن 19 عاماً ، ليصبح 93 % وهم في غالبيتهم من الشباب الذين قتلوا أو جرحوا شبانا آخرين مثلهم .
وتشير الاحصائيات أن القتل يأتي في المرتبة الثالثة ، في أسباب موت المراهقين بعد الحوادث (التي لا يستخدم فيها السلاح) والسرطان .
ويقسم " تمييز اقتصادي " حقيقي أمريكا إلى قسمين . ففي هذه البلاد التي لا يأكل فيها طفل من أصل كل ثمانية حتى حدّ الشبع ، يستمر ارتفاع معدل وفيات الأطفال ، في الاحياء الاشد فقراً ، متجاوزا معدلات بلدان في العام الثالث مثل سيريلنكا وتشيلي وجامايكا وباناها .
وفي ظلال الكابيتول ، نواجه أحياء تقضمها كل أشكال الشرور المدينية : العنف ، والجنوح ، وآباء في سن المراهقة ، والبؤس ، وتدني مستوى المؤسسات التعليمية . الجميع فريسة الخمر ومختلف أنواع المخدرات القوية . وتملك واشنطن بالتأكيد أكبر ميزانية للمساعدة الصحية بين البلدان الاخرى ، إلا أن النظام الصحي يدلنا أن الولايات المبكرة متكررة بشكل خاص ، بما فيها الاجهاض بعد بداية الشهر الأول من الحمل ، وهو موعد بدء المساعدة الاجتماعية التي تقدمها الدولة . وبعد الخمسة عشر يوما التالية ، يواجه المرء نموذجا آخر من المشاكل ، إذ ليس هناك ما يكفي من النقود وبالتالي ، فليس هناك ما يؤكل . وقد جرى اقتحام القبو الذي يستخدم كقيادة عامة لـ " مشروع الأطفال الاصحاء " (مجلة " التضامن الجديد " 12 اكتوبر 1994) .
ومارس العنف المستوطن في هذه البلاد تخريبه ، حتى لأوقات الفراغ عند الشباب .
في عام 1972 ، أسس الدكتور ريلمان مع أصدقاء له في منظمة عيادات آشبيري المجانية، مؤسسة باسم " الروك ميد " ، أي طب الروك ، وهي مؤسسة طبية أعطت لنفسها واجب العناية الميدانية ، بالجرحى الذين يصابون أثناء حفلات الروك . وكتب الدكتور ريلمان ، وهو طبيب من كاليفورنيا الوصف التالي لنشاطه : " جعل فريق لارسن ، مدرجات ستاد ملعب كرة السلة في الجامعة الحكومية تهتز ، كانت أصوات أوتار الغيتارات تهدر كأنها ضربات تخبط الأرض التي غطاها موج هادر من الشباب ، ينضح منهم العرق ، ويرمي بعضهم نفسه فوق البعض الاخر " . وفي إحدى الغرف الخلفية كان الدكتور ريلمان ، وقد ارتدى قفازيه الطبيين ، يصنف الحوادث : " هذا هو شاب في الحادية والعشرين ، عاري الجذع ، وقد ظهرت آثار حديثة لعضات متعددة في الجمجمة . كانت ذراعه مكشوفه وعظم يده اليسرى مكسورا. وهذا شاب آخر ، منتصب القامة ويرتدي القميص الخاص بالاصلاحية الفدرالية ، وقد أصيبت عينه اليسرى بجرح دام " .
ويقدم الدكتور داف ، نفسه لزبائنه الجدد على أنه طبيب روك ، واختصاصي باسعاف الذين يتلقون ضربات مؤذية ، أو تشويهات أثناء حفلات الروك التي تجرى كل مساء . أما الأنوف المكسورة والكدمات ، وإصابات الالتواء والخلع ، فهي مشاهد عادية في هذه الامسيات . وأما الجروح ، والكسور الخطيرة ، فليست نادرة .
وفي أوروبا ، لا يسبب هذا النوع من الموسيقى عموما ، هذا الطوفان من العنف . ومع ذلك ، فعندما أقيمت الحفلة الأولى لموسيقى الروك في ودستوك ، وعند إقامة العرض الاخير لفرقة بينك فلويد في ساحة سانت مارك في فينيسيا ، تحول المشهد صباح اليوم التالي ، إلى مشهد مدينة قصفت بحاويات القمامة .
لن ننسى للحظة واحدة " أمريكا الاخرى " ، أمريكا امرسون وثورو ، وجون براون ، ولينكولن ، أمريكا التي ثارت ضد الرق . ولكن " أمريكا الاخرى " هذه لم تستطع أن تفرض رؤيتها . فثورو انسحب من هذا العالم بعد أن كتب " والدن أو الحياة في الغابة " ، انسحب كي يستمد من الطبيعة اتصالا مباشرا مع الله كما قال صديقه امرسون . ولن ننسى انه عاد إلى المدينة، ليكتب هناك كتابه " العصيان المدني " ، الذي قال عنه غاندي انه استوحاه . لقد تحول كل هؤلاء إلى هامشيين أو ثوار : ثورو التجأ في البداية إلى أعماق الغابة ، وعندما عاد إلى المدينة رفض أن يدفع الضريبة المتوجبة عليه ، لأنه " فقد وطنه " . أما ايمرسون فقد استمد حكمته من الباجاتادجيتا ، على نهر الغانج ، وليس من نهر الباتوماك الذي يخترق واشنطن . أما لينكولن فقد اغتيل من قبل " المؤسسة أو النظام " .
ولن ننسى السلالة السوداء العظيمة التي أبرزت لنا وجوها رائعة بدئا من دويوا إلى مارتن لوثر كينج ، هذا الوجه الجميل الكامن في أعماق أمريكا والذي تألق ، ابتداء من القرن العشرين مع انبعاث حي هارلم . لن ننسى الشهود الكبار من السينمائيين مثل فورد الذي أخرج " عناقيد الغضب " . ولا ذاك الذي تجرأ أن يفكك آليات مؤامرة اغتيال كينيدي ، ولا المخرج الذي أعاد تركيب مذبحة " الونددني " التي سحق فيها الجيش الأمريكي مقاومة قبائل " سيو " .
لكن ما يبرز اليوم ليطغى على جزر المقاومة البطولية هذه ، هو أقلام العنف والرعب ، بعدما حولت أفلام " الغرب الأمريكي " مئة عام من الابادة العنصرية إلى ملحمة بطولية .
ولن نستطيع أن نقول شيئا عن فلسفة الولايات المتحدة ، حيث خنق النظام صرخة الرجال ، بالوضعية والبراجماتية ، منحيا جانبا مشكلة الايمان ، وغايات الحياة .
ولن ننسى انجاز الراقصين الأمريكيين ، انطلاقا من تيدشون وروث سانت دينيس إلى مارتا غراهام ، الذي جددوا هذا الفن وجعلوه يقول ما قاله شكسبير ، كل في لغته . لكن هوليود فضلت أن تروج لفرد استر ، وجنجر روجرز ، لتمحو آثار هؤلاء العباقرة .
لنتذكر أخيرا أولئك الكتاب " الملعونين " ، بدءا من ادغار ألن بو ، الذي وجد نفسه مضطرا للهروب من عالم لا يحتمل العيش فيه إلى " فراديس مصطنعة " ، والى أشعار مضيئة كالجواهر السوداء في ليل بهيم ، أو أولئك الذين عكسوا بمهارة صدى العالم " الحقيقي " مع روايات توماس وولف ، أو من خلال زعزعة أسس حياة تحولت إلى مصيدة من " الضجة والغضب " ، بحروبها وتمييزها العنصري كما صورها وليم فولكنر .
لن ننسى أبدا شيئا مما حمله وانتزعه منا هذا الزحف الحاشد نحو الذهب الذي نشر الخراب والدمار في أرجاء الأرض وحنايا الإنسان .
طليعة الانحطاط
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1418 هـ ـ 1998 م
دار الكتاب
للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
دمشق ـ سوريا جانب وكالة الأنباء "سانا "
ص . ب 31661 هاتف 2113003 ـ 2123753
موافقة وزارة الاعلام تحت رقم / 41971 / تاريخ 7 / 3 / 1998 م .
رٌوجيه غارودي
الولايات المتحدة
طليعة الانحطاط
كيف نحضر للقرن الحادي والعشرين
نقله إلى العربية
مروان حموي
دار الكتاب
الولايات المتحدة الأميركية
طليعة
الانحطاط
كتب سيمون وايل :
نعرف جيداً أن أمركة أوروبا بعد الحرب ، تشكل خطراً بالغا . ونعرف جيداً ، ما سنفقده لو تحققت هذه الأمركة . فأمركة أوروبا ستقود بلا شك ، إلى أمركة الكرة الأرضية كلها .. وستفقد الإنسانية ماضيها .
سيمون وايل
1909 ـ 1943
سيمون وايل فيلسوف بدأ عاملاً في مصنع ، ثم انضم للجنرال ديغول في لندن عام 1943 . معروف بشكل خاص بكتابه :
" La Pesanteur et La grace "
المقدمة
البطالة والطرد من العمل في بلادنا ، والجوع في ثلاثة أرباع العالم ، والهجرة كممرّ من عالم الجوع إلى عالم البطالة ..
لقد بدأنا باغتيال أطفالنا الصغار ، ونهيئ للقرن الحادي والعشرين انتحاراً كونياً ، فيما إذا استسلمنا للانحرافات الحالية في السياسة الدولية .
ونتساءل : أهناك سياق واحد للأحداث نستطيع من خلاله فهم عصرنا ؟
أعني ، أهناك رابطة داخلية وعميقة تجمع بين كل المشكلات الدولية التي تستدعي التدخل العسكري ، وتبرر دور صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ، والدور الأوروبي كما رسمته معاهدة مايستريخ ، ومنظمة التجارة الدولية " الجات القديمة " ، وعودة النظام الرأسمالي إلى بلدان أوروبا الشرقية ، والأصوليات الإسلامية والمسيحية واليهودية ، ومشكلاتنا الراهنة : البطالة والتسريح ، والهجرة ، والعنف ، والمخدرات ؟
كيف نستطيع الإمساك بوحدة هذه المشكلات وفهم معناها ؟
وقبل كل شيء : كيف نستطيع أن نضع برنامجا متماسكا للخروج منها ؟
هذا هو موضوع كتابنا .
الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
الفضل الأول
الفصل الأول
ما هي الرؤية التركيبية التي تبرز في نهاية القرن العشرين ، والتي يمكن أن نكونّها من مجموعة أحداث تبدو ظاهريا منفصلة بعضها عن البعض الآخر ؟
ما هي المشكلات الكبرى التي تبرز لتشكل مستقبلنا القريب ؟
هل نحن متجهون إلى حرب عالمية ثالثة ، انما من نموذج جديد ؟ ذلك أن ما سمي حتى الآن بالحربين العالميتين لم يكن في حقيقة الأمر إلاّ حربين أوروبيتين ، لا عالميتين ، ولم تسّم الحرب الأولى عالمية إلاّ لأن الدولتين المتحالفتين إنكلترا وفرنسا ضمتا إلى جيوشهما " فرق الملونين " التي تشكلت من مواطني مستعمراتهما : من الجنود السنغاليين ، حتى جنود الشمال الأفريقي ، بالنسبة لفرنسا ، وجنود ممتلكات التاج البريطاني الممتدة من كندا حتى استراليا ، بالنسبة لبريطانيا.
وجرى الأمر نفسه في الحرب العالمية الثانية ، التي انفجرت أيضا بسبب صراع أوروبي ـ أوروبي ، مع فارق أن الحلفاء الغربيين ، أشركوا في هذه الحرب الشعوب التي كانت خاضعة لهم . فإنزال البروفانس مثلا ، ضم 70 % من عناصره ، جنوداً مغاربة ، ( ونسبة قتلى المغاربة إلى نسبة القتلى الآخرين أعلى بكثير ) . وكان الهدف : تحرير فرنسا . وجرت الحرب الأمريكية ـ اليابانية في نفس السياق ، إذ لم تكن حربا بين حضارتين ، إنما بين خصمين يطوران نفس النظام الصناعي ، وقد اختصما بهدف السيطرة على المحيط الهادي ، وعلى غزو الأسواق . ولم تتداخل الحربان عسكريا أبدا ، فقد تخيّل هتلر ـ كي يبعد الولايات المتحدة إلى أقصى زمن ممكن ، عن النزاع الأوروبي ـ أن يجعل من اليابانيين " آريي شرف " كي يحقق بعد ذلك محور برلين ـ روما ـ طوكيو .
يعتقد هانتجتون في إطار ما يسميه " بالحرب الحضارية " أن الحرب الثالثة إذا ما انفجرت ، ستكون من نوع جديد،
إذ لن تكون نتيجة تنافس الأوروبيين ، فيما بينهم ، بل مجابهة بين حضارتين : حضارة المركز (الغرب) وحضارة المحيط (بلدان الاستعمار القديم) .
كما يعطي لهذين الطرفين مفهوما دينيا : وهو الصدام بين حضارة " يهودية مسيحية " وبين حضارة " إسلامية كونفوشية " . ولئن طرحت المشكلة بشكل سيئ ، إلا أنها مشكلة حقيقية : فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، واستبدال " الشيطان السوفيتي " ، " بالشيطان الإسلامي " " وحلفائه المحتملين ممن نطلق عليهم اسم العالم الثالث ، ثم تدمير العراق " كي يكون مثالا للآخرين " ، نتسائل هل ستحقق الولايات المتحدة حلمها في بسط نظامها الخادع " للسوق الحرة " على العالم كله ؟ وبمعنى ما ـ وهو ما شرحته في كتابي " نحو حرب دينية " ـ سيكون تصادما حضاريا : إن وحدانية السوق ستضطر أن تحطم كل أولئك الذين يريدون الاحتفاظ بنظام آخر من القيم ، غير القيم التجارية ، والذين يدافعون عن هويتهم ، وبالإضافة إلى ذلك عن معنى الحياة .
إن النقطة الحساسة في حدود الامبراطورية الأميريكية " وهي ما كانت تسمى في زمن الإمبراطورية الرومانية قبل أن يمحوها البرابرة " بعتبات الإمبراطورية " ، هي " الخليج العربي" لأنه محاط بأحواض البترول الأغزر في العالم ، وسيبقى لعشرات السنين " عصب التنمية الغربية ". فوق هذه العتبات ، تحقق لوحدانية السوق أحدث نصر ، إذ جرى تدمير العراق ، عبر حرب خاضتها الولايات المتحدة بتأثير جماعتي ضغط في الولايات المتحدة دفعتاها لفتح نار المعركة ، وقد حددهما ألين بيريغيت في جريدة الفيفارو / عدد 5 تشرين الأول 1990 / بأنهما :
1 ـ اللوبي اليهودي . 2 ـ لوبي رجال الأعمال .
وفوق هذه التقطة الحساسة من حدود الامبراطورية الجديدة لا تتوقف إسرائيل عن لعب الدور الذي رسمه لها مؤسسها الروحي تيدور هرتزل ، وهو أن تكون " حصنا متقدما " .
للحضارة الغربية ضد " بربرية الشرق " .
أما البرنامج الأكثر دقة لدور إسرائيل فقد ظهر جليا في شباط 1982 " أي قبل غزو لبنان بقليل " ، في مجلة كيفونيم التي تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية : وهو تفتيت كل الدول المجاورة من النيل حتى الفرات ، وهي الطريقة الأفضل التي تستجيب لأطماع الهيمنة العالمية للولايات المتحدة ، في الموضع الأكبر حساسية على حدود امبراطوريتها .
كما فرضت على الشعب العراقي إجراءات حرمان مميت ، من خلال الحظر الذي يستمر في القضاء على الأطفال في محاولة لسرقة حتى مستقبل هذا البلد. واليوم يرصد هدف جديد ، ربما كان أكثر أهمية من الهدف السابق : إيران ، التي لم يستطع العراق أن يهزمها ، رغم الدعم المالي السخي ، والسلاح الوفير ، اللذين قدمتهما الولايات المتحدة وأتباعها .
لقد جرى تحديد الهدف الجديد في مؤتمر شرم الشيخ عام 1996 ، وكانت الحكومة الإسرائيلية هي التي حددت الهدف : " محاربة الإرهاب " و " التدخل الإنساني " . هذان هما الإدعاءان الجديدان المتكاملان للإستعمار الجديد . وحدد شمعون بيريز ، ودون أن يمتلك أدنى دليل ، إيران بأنها " مركز الإرهاب " الدولي .
ومن المتفق عليه أن كلمة الإرهاب ، تشمل كل أشكال مقاومة الشعوب دفاعا عن استقلالها ، مع استبعاد كل أشكال الإرهاب التي تمارسها الولايات المتحدة التي تهدد استقلال هذه الشعوب . وعلى سبيل المثال ، يزعمون أن مقتل جندي إسرائيلي في الجزء المحتل من جنوب لبنان ، بمعنى أن يُقتل محتل من قبل المقاوم ، كما حدث في الماضي في فرنسا أيام الاحتلال النازي ، هو عمل إرهابي . أما مذبحة المدنيين في قانا ، والقصف الإسرائيلي الذي وصل حدود مدينة بيروت فهو " دفاع مشروع " ، تماما كما هو " مشروع " تصفية النازيين لأربعين من رجال المقاومة في شاتوبريان انتقاما لمقتل ضابط ألماني في باريس .
وعندما سقطت طائرة أمريكية فوق أولمبياد أتلانتا ، وقبل إجراء أي تحقيق ، وجهت أصابع الاتهام إلى إيران . ورغم ضغط وكالة المخابرات المركزية ، على وسائل الاعلام ، لم يثبت من خلال المعاينة الميدانية أي دليل على صدق هذا الادعاء .
من السهولة بمكان أن نورد العديد من الأمثلة لاختلاق المزاعم المتصلة " بالمعركة ضد الإرهاب " أو " التدخل الانساني " و " الدفاع عن حقوق الإنسان " ، لتبرير الاعتداءات المباشرة على الدول المتهمة ، ووضع العراقيل في وجه التعامل التجاري معها . لقد تذرعوا بـ " تيان آن مين " لكبح نمو العلاقات الاقتصادية مع الصين ، ولكن مقتل ألفي لبناني مدني في مذبحة قادها آريل شارون عام 1982 ، لم تكن كافية للحد من الدعم الأمريكي لإسرائيل بالسلاح والمال ، باعتبارها رأس حربة لوضع اليد على كل بترول الشرق الأوسط .
وإنه لأمر ذو مغزى أن الحاخامات الأكبر تطرفا والأكثر شوفينية إنما تلقاهم في الولايات المتحدة ، حيث تعيش الجماعة اليهودية الأكثر أهمية في العالم ، بل إنها أكثر أهمية حتى من المجتمع الإسرائيلي نفسه . أما المحاربون القوميون الأكثر تعصبا فهم الحاخامات الذين تربوا في المدارس التلمودية التي أسسها الحزب القومي الديني برئاسة الحاخام الأمريكي " زفي يهودا كوك " (1891 ـ 1982 ) والتي كانت مبادئها الرئيسية كما يلي :
" يتابع الله عمله للخلاص عبر المعجزة التالية : وضع كل هذه الأراضي تحت السيادة اليهودية . كل الأرض التوراتية اليهودية مقدسة ، إنه تكليف إلهي : حماية الأرض وإلحاقها ، وبناء أكبر عدد ممكن من المستوطنات اليهودية فيها .. وكل تسوية إقليمية إنما تؤخر زمن الخلاص ".
أما المجموعة الثانية من الحاخامات الأمريكان والمعروفة باسم لوبافيتش والتي تستوحي أفكارها من حاخام بروكلين العجوز ، اليعازر مزراحي ، ، فتعلم أتباعها بكل صراحة ، أنه يحرم على الشعب اليهودي أن يتخلى عن أصغر كسرة من أرض إسرائيل الكبرى إلى العرب ، وكذلك يحرم التفاوض معهم حول هذا الأمر .
تمثل إيران العقبة الرئيسية في هذا المشروع ، وخاصة أنها تقيم علاقات طبيعية مع باكستان والهند والصين وروسيا ، وحديثا مع تركيا ، التي تسير في طريق العودة إلى الإسلام . وتتابع إيران مسيرتها على الرغم من التعليمات الأمريكية بفرض حصار عليها .
وتشكل إيران مركزا محتملا لاعادة تجميع أجزاء كبيرة من الجزيرة الآسيوية الأوروبية في مواجهة أطماع حلف الأطلسي . ويمكن في ضوء هذه الحقيقة ، تفسير الجهود التي تبذل في إطار الاستراتيجية الامريكية تجاه العالم ، لتأمين كل الامكانيات لتطوير السلاح النووي الاسرائيلي ، رغم رفض إسرائيل لاي رقابة دولية على نشاطها النووي .
إن نقطة الضعف الاسرائيلية في هذه الامبراطورية ، هي فقدانها للروح ، ونعني بذلك فقدانها لاي مشروع تعاوني من أجل مستقبل الإنسان إلا تنمية إنتاجها واستهلاكها من خلال تفوقها بالسلاح .
هذا هو السبب الذي اضطر معه هانتجتون لان يقنع حقيقة أفكاره بتعارض مزعوم بين الحضارة اليهوية ـ المسيحية و " التواطؤ الاسلامي ـ الكونفوشيوسي " ( وهو الوريث لأقدم الحضارات في العالم من دجلة إلى سورية إلى الصين ) . وقد اعتبر المؤرخ توينبي أن النطاقين السوري والآسيوي المركزي هما مركز الحضارة ، فقال : " في سورية ، أخذت المسيحية شكلها الذي انتشرت من خلاله في العالم الهلنستي كله ، وفيما بين النهرين ، تشكلت النسطورية ، ومذهب الطبيعة الواحدة ، وفي الحجاز ، جنوب سورية ، ظهر الإسلام في مكة ، وفي الحدود الشرقية لشمال الجزيرة العربية ، ولد المذهب الشيعي " .
إنه تحديد غريب للقطبية في العلاقات الدولية ، باسم " العولمة " الاستعمارية للاقتصاد ، ضد الهويات الثقافية أو الدينية ، لكل الحضارات الأخرى .
وينشأ عن هذا الأمر ، بغية مقاومة هذا التوحيد للشكل بلا روح ، ضرورة قيام اتحاد أوروبي ـ آسيوي مع أمريكا التي سماها مستعمروها القدماء باللاتينية ، بغية إفشال محاولات الولايات المتحدة للقضاء على بذور المقاومة سواء في الميادين العسكرية والاقتصادية ، أو الدينية والثقافية ، والتي يمكن أن تنمو في كل القارات . إن محاولتها تفتيت مراكز المقاومة التي لا تقهر ، تظهر الآن جلية في الكرة الأرضية كلها . كما تشجع في نفس الوقت الصراعات الاقليمية ، فتحرض كوريا الجنوبية ضد كوريا الشمالية ، وتايوان ضد الصين ، والهند ضد الباكستان ، وكذلك البوسنة ضد الصرب، لتبرير تدخلها العسكري على ما كان يعرف بالحدود بين الإمبراطوريتين العثمانية والنمساوية . وفي أمريكا اللاتينية تغذى الخلافات بين كوبا والبلدان الأخرى في أمريكا الجنوبية ، أو بدقة أكثر من واجهة المحيط الهادئ " تشيلي " إلى واجهة الأطلسي لشبه القارة الأمريكية الجنوبية .
وتعتبر " خطة السلام " المزعومة في فلسطين النموذج الأكثر تعبيرا عن المناورات الأمريكية ، فهذه الخطة لا تقدم للفلسطينيين إلا غبار ما كان يتمتع به المواطنون السود في التنظيمات الإدراية ، في ظل نظام التمييز العنصري في اتحاد جنوب أفريقيا " البانتوستان " ويمثل أقل من 6 % من الأرض الفلسطينية محاطا بطرق تصل المستعمرات الاسرائيلية بحماية الجيش الاسرائيلي . وقد شارك حزب العمل في هذا التفتيت ، الذي اخترعه بيغن تحت اسم الحكم الذاتي ، والذي تابع خلفاؤه من الليكود ، الذين تسلموا السلطة اليوم ، تنفيذه بسعي حثيث . إن هدف الحزبين ، إلحاق فلسطين عن طريق زرع نصف مليون يهودي مستوطن ، والاستيلاء على الأرض والماء .
وقد بدا هذا التحدي مجزيا للمعتدين ، لانه لم ينجح في تقسيم الفلسطينيين فحسب ، بل أيضا في انقسام العالم العربي بكاملة ، حول الموقف الواجب اتخاذه حيال هذه المناورات التقسيمية الكبرى .
ويعبر التناقض الرئيسي في العالم المعاصر ، عن نفسه بمنتهى الجلاء في خلق الانقسامات إلى أقصى حد. والخبث الاكبر فيما يسمى الدفاع عن " الديمقراطية " وعن حقوق الإنسان ، يمكن اكتشافه في حالة الجزائر الآن : فالتناقض كان واضحا جدا ، إذ اتخذ النظام " الديمقراطي الحر" اتجاها متناقضا تماما مع كل مبادئ هذا النظام ، فقد قبل بوقف العملية الانتخابية " الحرة " وساند الانقلاب العسكري بهدف مقاومة أصولية جبهة الانقاذ الإسلامية .
وهناك ، وكما يجري في فلسطين ، كانت المشكلة الدينية هي التي دفعت لتحتل المرتبة الاولى . ويتطلب الامر النضال ضد الحملة العالمية التي تشن باسم ديانة لا يجرؤ أحد على تسميتها : وحدانية السوق ، والتي تصطدم عندما يتطلب الامر، مع ديانات محددة ، مثل إسلام أورو ـ آسيا وأفريقيا ، أو مثل الحركات الاهوتية التحريرية في أمريكا.
لو أن الإسلام ، بدل أن يتمترس خلف ماضيه ، استعاد المفهوم القرآني حول وحدانية الاديان ، منذ أن نفخ الله روحه في آدم ، مع " شريعة " تشكل قاسما مشتركا لكل أشكال الايمان والحكمة ، على مستوى العالم كله ، وبكلمة أخرى ، لو جمع بين أصالة القرآن في فقه التحرير ، مع أصالة رسالة يسوع ، بعد قرون من لالهوتيات الهيمنة ، لاطمأنت هذه الجبهة العالمية إلى انتصارها على عالم بلا روح تسوده وحدانية السوق . هذا هو مدى اتساع الدراما التي تلعب على مستوى الكوكب الارضي ، في كل المستويات : الثقافة والايمان ، وكذلك السياسة والاقتصاد .
وقد ظهرت محاولات لحشد الناس : ففي عام 1991 ، عقد في الخرطوم مؤتمر شعبي اسلامي عربي ، بناء على دعوة من السودان وإيران .
إشارة أخرى كاشفة : ففي مؤتمر سيتل ، عام 1995 ، حيث أملت الولايات المتحدة أوامرها بقبول أهدافها في " سوق عالمية " ، انسحب القادة الآسيويون الرئيسيون بسبعة المطالب الأمريكية ، حتى ان رئيس وزراء ماليزيا وهي احدى الدول المؤسسة لمنظمة " آسيان " ، قد رفض أن يتابع أعمال المؤتمر تعبيرا عن احتجاجه على سياسة التدخل الامريكي . أما كلينتون الذي عبر عن خيبة أمله من الموقف الاوروبي ، فقد أبدى رغبة في أن يتوجه بأنظاره نحو المحيط الهادي .
في عام 1982 ، بنت الصين مركزا للأبحاث النووية في أصفهان ، في محاولة لوضع عقبة في وجه حرب وقائية ضد إيران ، على غرار تدمير اسرائيل ، في ظل سلام تام ، مفاعل تموز النووي في العراق ، في الوقت الذي كانت تبني هي سرا ، ترسانتها النووية ، إلى أن كشفت اعترافات الفيزيائي الاسرائيلي ، مردخاي فعنونو ، في جريدة لندن صاندي تايمز ، في 5 تشرين الاول عام 1986 ، عن خطورة هذه الترسانة القادرة على محو كل المدن وصولا إلى السد العالي في مصر .
وتضم المجموعة النووية الاسرائيلية ، إضافة إلى مفاعل بلوتونيوم في ديدمونة ، مركز البرمجة النووية في مورك " حيث يوجد فيه مفاعل أمريكي تجريبي " ، وحقل اختبار صواريخ بالميكي ، ومعمل تجميع في يوديفات وقواعد تحزين الاسلحة النووية التكتيكية في كفار وزاخريا ، وايلابون .
وما زال فعنونو، منذ ذلك الحين ، في السجون الاسرائيلية ، بينما تستنكر الحكومة التجارب النووية في الصين ، والهند ، وباكستان ، وكازاخستان التي ورثت جزءا من السلاح النووي السوفيتي .
ويكشف التحالف الحالي ، بين الليكود والاصوليين الدينيين ، في أعقاب انتخابات 1996 ، بشكل أكثر وضوحا من أي وقت مضى ، الدور الذي تحضر اسرائيل نفسها له وهو تفجير حرب عالمية جديدة .
وربما تكون الصدمة أكثر وحشية لا سيما وان روسيا ، التي تختزن كمية ضخمة من الأسلحة النووية ، قد تحولت إثر تفككها إلى دولة شبيهة تماما باسرائيل : أي جيش يمتلك دولة ، لا دولة تمتلك جيشا .
وفي إطار الفوضى وتفكك الدولة ، اللتين حققهما يلتسين بمساعدة الولايات المتحدة ، لا نستطيع أن نتصور إطلاقا مخرجا آخر للتخلص من الاهانات ومن أشكال التمزق التي تعاني منها البلاد منذ " استعادة الرأسمالية " ، إلا الدكتاتورية العسكرية القومية .
ونتصور أنه امر سيئ وجود جيش بلا دولة ، في خدمة بلد توقف عن الوجود بسبب غياب المشروع الجماعي . ولن تستطيع هذه الديكتاتورية العسكرية التي لن تكون نتاج حركة تاريخية ، وإنما انطلاقا من منطق جبري لعلاقات القوى في العالم ، أن تواجه منظورا آخر غير التحالف مع ألمانيا وآسيا المركزية ، بهدف مقاومة التبعية لواشنطن وإسرائيل ، المتمثلة باحتواء السوق الروسية ضمن النظام العالمي الجديد في صيغته الإنحطاطية والمافيوية . ويتوجب على هذا البلد أن يختار بين هذين العالمين ، ولن يعدم التشيع التاريخي للمسيحية الأرثوذكسية ، والقومية الروسية ، من الحصول على الوسائل الازمة لتوجيه هذا الاختيار .
ولم تعد أوروبا حليفا دائما ومؤكدا للولايات المتحدة ، ليس فقط لأن معاهدة مايستريخ جعلت من أوروبا ملحقا تابعا لحلف الأطلسي ، مبدية هذه الايام شرورها الاقتصادية والثقافية ، وإنما لأن انقسام أوروبا على نفسها يظهر أكثر فأكثر .
ويشهد على ذلك حادثان حاليان :
ـ بينما قبلت بريطانيا وفرنسا أن تجعلا من جيشيهما ملحقين بالجيش الأمريكي في العراق ، فقد عارض 80 % من الشعب الألماني التدخل العسكري في هذا البلد .
ـ وفي يوغسلافيا كان الألمان الواجهة للتحالف مع الكروات بينما لم يتخذ البريطانيون والفرنسيون مواقع معارضة للصرب إلا بضغط جرماني ـ أمريكي .
وفي اللحظة التي تحول فيها الأمريكيون من دائن إلى مدين رئيسي ، حيث أصبحت استثماراتهم ، الأقل في العالم الصناعي ، على الرغم من قوتهم التي تأتي من تقنية ضغط الزر ، ومن جيشهم الذي لا يحركه أي مشروع إنساني ، ولا يحلم ، شأنه شأن البنتاغون ، إلا بحروب يكون فيها الهلاك " حتى الصفر " . وتظهر هذه البلاد التي يريد قادتها أن يصبحوا سادة العالم ، كجبار بقدمين من صلصال ، بسبب هشاشته الاقتصادية المموهة لبعض الزمن ، بالمضاربات المالية التي حولت المصارف إلى كازينوهات ، وحيث تضاعفت إفلاساتها ، بعد إفلاسات صناديق التوفير.
لهذا السبب ، تراهن الولايات المتحدة ، ولو لزمن ، على سياسة التسليح ، لمواجهة صعود عمالقة آخرين . ليس فقط بالتسليح المبالغ فيه لمرتزقتهم الرئيسيين في الشرق الأوسط : إسرائيل ، ولكن أيضا لتأخير بزوغ الصين . ومثلما تبحث إنكلترا عن المراوغة في إعادة هونغ كونغ إلى الصين ، تقوم الولايات المتحدة بتسليم طائرات إلى تايوان بقيمة 5 , 4 مليار دولار ، في الوقت الذي باعتها فرنسا فيه، ستين طائرة ميراج .
كل ذلك يحدث لمنع الصين من التوحد مجددا ، الصين التي ستصبح بسوقها الداخلية لمليار و 200 مليون إنسان ، ومصادرها الطبيعية الكبرى ، واليد العاملة وقد دخلت الولايات المتحدة ، في مرحلة " قصور حراري " من تاريخها ، أي مرحلة من التفكك الداخلي بسبب النمو البائس لأمريكا الأخرى ، النمو البائس لثلاثة وثلاثين مليون مواطن يعيشون تحت عتبة الفقر ، ومن التفتت الاجتماعي بسبب التمييز العنصري الممتد عبر القرون ، وبشكل خاص ضد السود ، والذي تشهد عليه فتن لوس أنجلوس الاحتجاجي لمليون أسود في واشنطن والذي قاده الزعيم الأسود فرحان ، وكذلك الانحلال الاجتماعي بسبب المخدرات والفساد، والمضاربات الطفيلية .
مرة أخرى نقول ، لقد استطاع النظام " المركز " الذي يسعى عبر القوة التقنية الفريدة لأسلحته ، أن يجعل من سيادة دول " المحيط " سيادة محدودة ، وأن يحتكر لنفسه " حق التدخل " مموها ذلك ، عند الامكان ، بأنه تدخل إنساني تحت غطاء مؤسسات يفتعلها مثل الأمم المتحدة ، وصندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي .
الهوامش
يحفل الكتاب بحشد كبير من الأسماء والأعلام ، لذلك آثرت اثباتها في نهاية كل فصل . أما الهوامش التي وردت في النص الأصلي للكتاب ، فقد أشرت إليها بكلمة غارودي .
1 ـ نحكم هنا على الوحشية النازية في أوروبا ، ولكن أحداث سطيف (الجزائر) عام 1945 ، وهايفوتج عام 1946 ومدغشقر عام 1947 ـ 1948 ، والدار البيضاء عام 1947 ، وساحل العاج عام 1950 ، تدل أن المجازر وأعمال التنكيل التي ارتكبتها جيوش الجمهورية الفرنسية لم تتوقف (غارودي) .
2 ـ لقد نشرت النص العبري الأصلي ، وترجمته إلى الفرنسية في كتابي " فلسطين أرض الرسالات المقدسة " (المنشور عام 1986 ـ غارودي) .
3 ـ " آسيان ASIAN " منظمة دول جنوب شرق آسيا . هدف المنظمة إنشاء سوق مشتركة بين ماليزيا ، وأندونيسيا ، وتايلاند ، وسنغافورة ، وبروناي ، والفليبين .وكرد فعل أمريكي ، شبيه بتأثر الماء على النار ، قامت الولايات المتحدة ، بإنشاء منظمة ، تضمها واستراليا ، ونيوزيلانده ، باسم " الاتحاد الاقتصادي للآسيا في المحيط الهادئ (APEC ـ غارودي) .
الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
الفصل الثاني
الفصل الثاني
وحدانية السوق
تنبع كل دواعي هذا الانحطاط من منطق " اقتصاد السوق " الذي أصبحت نسخته الاخيرة الديانة المسيطرة ، ديانة لا تستطيع أن تعلن عن اسمها الحقيقي : " وحدانية السوق " .
عاصر السوق ، كمكان للتبادل ، كل المجتمعات التي طبقت مبدأ تقسيم العمل ، فمنذ ما قبل التاريخ ، تشهد المشاغل ، ومنتجات الصوان المنحوت ، أنها لم تكن موجهة للاستخدام الشخصي ، وإنما لمقايضة احتياجات أخرى في الحياة . ثم تكون سوق القرية التقليدي ، حيث كان يحمل إليه البيض والدجاج والخضار لبيعها مبادلة مع بضائع أخرى تنتجها الأداة أو المهارة أو لدفع أجور خدمات البيطار أو الحلاق .
وهناك اختلاق أساسي بين أشكال السوق المتعاقبة ، وهو وجود الوسيط ، أي النقد الذي استخدم في الأصل كأداة قياس ، تقاس بها وفق قاسم مشترك ، منتجات الأعمال المختلفة كما ونوعا . لكن السوق ، وتبنى على تراتبية اجتماعية، وقيم أخلاقية ظاهرة أو مضمرة، وديانات نشأت خارجه ، ولم تبحث عن مبرراتها فيه .
ولم يتحول السوق إلى " ديانة " إلا عندما أصبح المنظم الوحيد للعلاقات الاجتماعية والشخصية والقومية، والمصدر الوحيد للسلطة والمراتب الاجتماعية . ولا يعنينا هنا أن نؤرخ لهذا التحول ، الذي أصبحت فيه كل القيم الإنسانية قيما تجارية ، بما فيها الفكر والفنون والضمائر .
وسنكتفي بالإشارة إلى النتائج الاقتصادية والسياسية والروحية للصورة الاخيرة لهذا القرن ، ولإعطاء نظرة إجمالية لبعض الميادين ، كي نحرر أنفسنا من النظرة " التخفيفية " لخطورة هذه النتائج ، ولهذا " القصور الحراري " الإنساني الذي يراه بعض منظري البنتاغون وأتباعهم في العالم ، بحسب عنوان كتاب فوكوياما : " نهاية التاريخ " .
وسوف يقود الأمر ، إذا ما وصل هذا الانحدار منتهاه إلى نهاية الإنسان مما يتصف به أساسا : سمو المقصد مقابل التخلي عن الحتمية الاقتصادية التي يعتبرونها قوانين طبيعية ، تماما مثل الغرائز الفطرية الحيوانية التي تسود البحار وحدها ، حيث يتغذى السمك الكبير بالتهام الأسماك الصغيرة ، أو التي تسود الأرض من خلال الفوضى البيولوجية لمليارات النطف أو الحيوانات المنوية ، لتكوين جنين بالصدفة .
وما تتصف به " وحدانية السوق " في الواقع ، هذه الليبرالية الشمولية ، هو إحتقار حرية الإنسان ، وابتزاه بالتالي عن بعده الذي يتميز به وهو : أنه ليس نتاجا لقوانين الطبيعة ، بل العكس ، إنه قادر على تكوين مشاريع ليست امتدادا بسيطا للماضي ، ولا نتيجة لغرائزه الحيوانية ، أو مصلحته الفردية . لقد بالغ آدم سميث في هذا العزل لللإنسان فكتب يقول :
" إن الخطوط الكبرى لعالم الاقتصاد الحقيقي ، قد رسمت لا وفق خطة شاملة برزت من عقل منظم ، ثم نفذت اختيارا من قبل مجتمع ذكي ، إنما من خلال تراكم عقود لا حصر لها ، رسمها حشد من الأفراد أذعنوا لقوة غريزية ، دون وعي بالهدف الذي سيصلون إليه . " من كتاب أبحاث في الطبيعة وأسباب غنى الأمم " (1) .
من آدم سميث حتى فريدريك فون هايك مرورا بباستيا وفريدمان ، تكرر رفض مفهوم القصدية (2) .
وقد كتب ميلتون فريدمان في كتابه " حرية الاختيار " 1981 يقول :
" إن التنسيق بين نشاطات ملايين البشر ، الذي لا يعرف أي منهم إلا مصلحته الشخصية ، قد حسن ، أوضاعهم جميعا. ويقوم الأسعار بسد هذه الثغرة بغياب أي توجيه مركزي ، ودون الحاجة لأن يتحدث الناس في هذا الأمر أو يحبوه . إن النظام الاقتصادي هو انبثاق ، أي أنه ليس نتيجة مقصودة أو مطلوبة من قبل عدد كبير من الأشخاص تحركهم مصالحهم الشخصية وحدها . ويقوم نظام الأسعار بوظيفته بشكل جيد ، وبكثير من الفاعلية ،بحيث أننا لا نكون واعين ، وفي القسم الأعظم من الوقت ، أنه يقوم بدوره " .
ويضيف فون هايك في كتابه " الفردية والنظام الاقتصادي " :
" ليس أمام المرء في مجتمع معقد من اختيار آخر إلا أن يكيف نفسه لما يبدو له أنها قوى عمياء للصيرورة الاجتماعية " .
أصبح ممكنا اليوم أن نسترجع مسار النمط الغربي للتنمية ، منذ أن وقع الخطأ القاتل في توجه ما سمي النهضة، أي نمو حضارة الكم والتفكير الذرائعي ، والديكارتية ، وديانة الثروة ، بعد أن فصلت عن البعد الأول للعقل وهو التأمل في الغايات النهائية للحياة ومعناها .
وكتب ميشيل البرت في كتابه " الرأسمالية ضد الرأسمالية " 1991 .
إن الأمر المطلق " أو الفعل الضروري بذاته " ، هو إفراغ المسألة الفلسفية من القصدية " الغائية " . هذه هي في النهاية ، الغاية الأخيرة من وحدانية السوق . إنها " ربطنا " بالحياة الأكثر زيفا ، التي صوروها منذ أول فيلم أمريكي يبدأ بصيد الهنود مع " سفاحي الغرب الأمريكي " ، ومع غاب المال ، مع مسلسل " دالاس " ، مرورا بكل أشكال العنف والهمجية ، مع باتمان " الرجل الوطواط " ، مرورا الترميناتور الماحق ، وانتهاء برموز ارتدادنا إلى عالم الديناصورات.
ولن نورد هنا إلا ما يشكل في يومنا هذا ، المدماكين الأكثر صلابة لتوسع السوق : المخدارت والسلاح .
يبلغ حجم التعامل بالمخدرات في الولايات المتحدة اليوم ، من الضخامة ما يعادل أرقام التعامل في صناعة السيارات ، أو صناعة الفولاذ . ويزداد استهلاك المخدرات طردا ، مع فقدان الحياة لمعناها ، نتيجة للبطالة والتسريح ، أو أمور أخرى . إن الغاية النهائية للحياة هي الاستهلاك الذي يخلق ازدهار " السوبر ماركت " . وإنه لأمر ذو دلالة أن الرقم القياسي لانتحار اليافعين ، سجلته الدول الأكثر غنى : الولايات المتحدة ، والسويد . في الجنوب ، يموت الناس بسبب نقص وسائل العيش ، أما في الشمال فيموتون لانعدام غايات الحياة .
ويعتبر الاستهلاك المتزايد للمخدرات ، أحد النتائج الطبيعية لوحدانية السوق : أولا ، بسبب إنتاجها . إن الربح الذي تدره نبتة الكوكا التي يستخرج منها الكوكاين ، على الفلاح البوليفي ، أكبر بعشر مرات من ربح نبتة الكاكاو أو البن ، وهي وحدها القادرة على السماح له بالحياة . كما أن الدولة ، ملزمة بتسديد ديونها لصندوق النقد الدولي . ونتيجة لاستهلاك المخدرات ، تعاني الولايات المتحدة من ثلاثة ملايين مصاب بالتسمم المزمن ، أما الذين يتعاطون المخدرات فيقدر عددهم بعشرين مليون أمريكي . أما في فرنسا ، واستنادا إلى تقديرات مؤسسة سوفر فقد تناول فرنسي واحد من أصل خمسة تتراوح أعمارهم بين 12 ـ 14 عاما " يعيش أو مازال يتناوله " أصبحت المخدرات بخور " الكنيسة الجديدة " ، نعني وحدانية السوق . ويعطينا الاتحاد السوفيتي معنى كبيرا ، فمنذ العودة إلى الرأسمالية ، انفجر إنتاج واستهلاك المخدرات ، وتضاعفت مساحة الأراضي المزروعة بالخشخاش في أوزبكستان خلال عامين فقط (1991 ـ 1993 ) . أما أفغانستان ، فقد أصبحت منذ عام 1993 البلد الأول المنتج للأفيون ، فقد تضاعف إنتاجها ثلاث مرات .
أما في ميدان السلاح ، فقد استمرت صناعته الأكثر ازدهارا في الولايات المتحدة ، وجعل منها القوة الأولى في العالم ، منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى . وقد حملت الحرب العالمية الثانية ، والتي أصبحت الولايات المتحدة بفضها تملك نصف ثروة العالم ، حلا نهائيا للازمة الاقتصادية فيها ، والتي بدأت عام 1929 . كما أدت الحرب الكورية إلى ازدهار اقتصادي جديد . أما مجزرة العراق ، فقد أدت بما رافقها من انتشار من خلال النقل الحي عبر القنوات الفضائية ، إلى صقل سمعة الأسلحة الأمريكية حيث ارتفع الخط البياني للإنتاج بعد انتهاء الحرب بشكل سهمي.
وهناك نتيجة طبيعية أخرى لوحدانية السوق : الفساد .
حدد آلن كوتا منطق هذا النظام : " إن تصاعد وتائر الفساد أمر لا يمكن تجنبه نتيجة انطلاق النشاطات المالية والسمسرة . وبقدر ما تتيح لنا المعلومات عن العمليات المالية من مختلف الأنواع ، على الأخص عمليات الدمج ، والشراء ، والمكتب العام للمشتريات ، التي تسمح بتكوين ثروات ببضع دقائق ، من المستحيل تكوينها من خلال عمل كثيف يستمر حياة كاملة ، فان إغراء البيع والشراء يصبح أمرا لا يمكن مقاومته " .
ويضيف : " إن الاقتصاد التجاري سيلقى دعما دائما من هذه السوق الأساسية .. ويلعب الفساد دورا شبيها بالخطة " .
وليس هناك كلام أفضل من هذه العبارات : في نظام يباع كل شيء فيه ويشترى ، يتوقف الفساد ، بل وحتى الدعارة ، عن كونهما انحرافات فردية ، ليصبحا قانونين بنيويين في صلب هذا النظام (4) .
والعهر السياسي هو المثال الأكثر فضحا . فالبعض أيد حرب الخليج من أجل حفنة من الدولارات . والبعض برر نزول عشرات الألوف من الجنود الأمريكان إلى أرض مقدسة ومحرمة على كل الكفار ، ودفع نفقاتهم ، أما يلتسين فقد باع بلاده رخيصة ، بعد أن نام على أبواب صندوق النقد الدولي ، الذي أرسل إليه سوروس الشهير ليكون حاميه الكفؤ.
هذه هي الظواهر التي تحدد انحطاط النظام ، حيث تدر المضاربات أكثر بكثير مما يدره الاستثمار في ميدان الإنتاج أو الخدمات .
وتحمل كلمة المضاربة معنى محددا كالذي سجله معجم روبرت في التعريف التالي : المضاربة عملية مالية تتضمن الاستفادة من تقلبات السوق " حركة القيم والبضائع " من أجل تحقيق منفعة .
وقد لاحظ آلياس الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد أن التدفق المالي يرتفع في المتوسط إلى ألف ومئة مليار دولار في اليوم ، أي أربعين مرة أكبر من التدفق المتصل بالقواعد التجارية . إن نظاما كهذا لا يمكن الدفاع عنه " آلياس : الغرب على حافة الهاوية ـ مقابلة في جريدة الليبراسيون في 2 آب 1993 " .
تشير هذه الحقائق أن النظام القائم لوحدانية السوق يحقق للمرء ربحا ، فيما لو دخل ميدان المضاربة بالمواد الأولية ، أي أوراق النقد ، أو ما يدعوه الاقتصاديون " المنتجات المشتقة " ، وهي كل مالا يؤخذ في الحسبان ، عند تعداد المنتجات أو الخدمات ، أكبر أربعين مرة مما لو عمل في ميداني الإنتاج أو الخدمات .
الهوامش
ـ آدم سميث (1723 ـ 1790) : فيلسوف واقتصادي انكليزي يعتبر مؤسس علم الاقتصاد الكلاسكي ، اشتهر بكتابه " دراسة في طبيعة وأسباب ثروة الأمم " . يعتبر هذا الكتاب المحاولة الأولى في تاريخ الاقتصاد ، الهادفة لفصل الاقتصاد السياسي عن العلوم المتصلة به ، السياسية والأخلاقية والدينية ، ويتضمن تحليلا عن عملية الغنى الاقتصادي ، وتوزع هذا الغنى بين الأمم والأفراد .ويرى أن المصادر الأساسية لكل الدخول هي الإيجار ، والأجور والأرباح . كما درس تطور الصناعة والتجارة لدى الأمم الأوروبية ، وطبيعة رأس المال . والموضوع الرئيسي الذي صيغ باعتباره لرأس المال ، بغية إنتاج الثروة وتزريعها ، يكون في غياب التدخل الحكومي ، وفي حرية التجارة .
ويرى سميث أنه بالإمكان تشجيع الإنتاج والتبادل ، وبالتالي تحسين مستوى المعيشة فقط ، من خلال النشاط الفعال لرجال التجارة والصناعة على أن يعملوا في ظل أقل ما يمكن من سيطرة الحكومة وتدخلها .
وقد شهدت هذه النظرية تعديلات هامة من قبل اقتصاديين متعددين ، على ضوء التطورات التي طرأت منذ زمن سميث ، ولكن نظريته ـ مع ذلك ـ لعبت دورا كبيرا في رسم الرأسمالية . (موسوعة فانك رواجنل ـ المترجم) .
2 ـ فون هايك : اقتصادي انكليزي من أصل سودي ولد عام 1899 ، حائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية . درس الأزمات الدورية في الاقتصاد .
ـ ميلتون فريدمان : اقتصادي أمريكي ولد عام 1912 حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد . اشتهر بدراسة مشكلات النقد .
ـ فريدريك باستيا (1801 ـ 1850) : اقتصادي فرنسي دافع عن حرية العمل ، وحرية التبادل.
3 ـ تشير دراسة أجرتها وزارة الصحة الأمريكية ، أن استخدام المهدئات عند المراهقين في سن 12 ـ 17 عاما ، قد ازدادت 78 % ، ما بين عامي 1992 ـ 1995 . وقد ارتفع استهلاك حبوب الهلوسة ، مثل حبوب ل . س . د ، إلى 183 % (54 % ما بين عامي 1994 ـ 1995) ، وارتفع استهلاك الكوكليين إلى 166 % ، والماريجوانا إلى 105 % 37 % ما بين عامي 1994 ـ 1995 .
واعترف 4, 10 % من الشباب الأمريكي ، من نفس الشريحة العمرية ، أنهم تناولوا المخدرات خلال الشهر السابق على الاستطلاع الذي أجرته وزارة الصحة .
وتدل دراسة أخرى ، رسمية أيضا أن حالات الإسعاف التي سجلتها المستشفيات ، بسبب الإسراف في تعاطي المخدرات ، قد ازدادت 96 % في حالات تعلطي الكوكايين ـ غارودي) .
4 ـ من الملاحظ أن عودة الرأسمالية إلى بلدان شرق أوروبا ، قد رافقها ارتفاع مجنون في انتشار البغاء . (غارودي) .
الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
الفصل الثالث
الفصل الثالث
الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
لكي نفهم لماذا نعتبر انتشار طراز الحياة الأمريكية " واوهامها " ، أحد الأسباب الحقيقية لتفكك الأخلاق وانحدار الفنون في يومنا هذا ، نجد من الضروري أن نضع هذه المشكلة ضمن منظور التاريخ الأمريكي ، لأن انحطاط الثقافة الذي يلعب دورا منظما في حياة المجتمع الأمريكي ، إنما ينحدر من طبيعة تاريخ الولايات المتحدة .
لعبت الثقافة والايديولوجيات في أوروبا دوما ، دورا هاما في الحياة السياسية ، كما جرى على سبيل المثال ، في أوروبا المسيحية ، وفي عصر التنوير، وفي عصر الثورة الفرنسية ، وفي عقود القوميات ، والماركسية وثورة أكتوبر .
أما في أمريكا ، فخارجا عن الهنود ، السكان الأصليين الذين نظمت حضارتهم علاقاتهم الاجتماعية " قبائل الأنكا مثلا " ، والذين فقدوا 80 % من عددهم بسبب التصفية العرقية ، ثم همش من بقي منهم ، وزج في " محميات " ، فان كل السكان الذين يعيشون في الولايات المتحدة هم من المهاجرين .
ومهما كانت أصول هؤلاء المهاجرين ، وحضاراتهم الأولى ، فقد جاؤوا إلى أمريكا بحثا عن العمل وكسب المال . وسواء كانوا ايرلنديين أو طليان ، أو عبيدا سودا غربوا عن مواطنهم الأصلية قسرا ، سواء كانوا مكسيكيين أو من بورتوريكو، فقد جاء كل منهم يحمل معه دينه وثقافته . ولأنه لم يكن لدى هؤلاء المهاجرين والمهجرين ديانة أو ثقافة مشتركة ، فقد كانت الرابطة الوحيدة التي تجمعهم ، تشبه ما يربط بين أفراد فريق يعمل في مشروع مشترك.
أما الولايات المتحدة ، فهي تنظيم إنتاجي ، تضبط عمله ، نفس العقلية التكنولوجية والتجارية ، حيث يشترك فيها المنتج والمستهلك ، في غاية واحدة هي النمو الكمي للرفاه . أما الهوية الشخصية ، الثقافية ، والروحية أو الدينية ، فهي مسألة خاصة ، وفردية بشكل حازم ، لا شأن لها في آلية عمل هذا التنظيم ، ولا تتدخل فيها .
ولا يستطيع الإيمان بمعنى الحياة ، أن يعيش في مثل هذه البنى الاجتماعية ، إلا لدى الجماعات التي حافظت على هويتها وثقافتها القديمة ، أو لدى بعض الأفراد ممن تغمرهم روح البطولة . أما الغالبية العظمى من هذا المجتمع ، فقد مات الله عندها ، لأن الإنسان فيه ، قد بتر عن بعده الرباني ، وهو البحث عن معنى الحياة .
وهكذا أصبح المكان خاليا ليحل فيه تشرذم الطوائف ، والخرافات ، وتسرب المخدرات ، وسموم الشاشة الصغيرة ، كل ذلك تحت غطاء طهرية رسمية ، ترضى بكل أنواع التمييز ، وتبرر كل المجازر .
إن أول مراقب نافذ البصر لواقع الولايات المتحدة كان توكفيل الذي كشف عام 1840 في كتابة " الديمقراطية في أمريكا " ، حتمية آلية بناء الدولة قائلا: " إني لا أعرف شعبا يحتل فيه حب المال حيزا كبيرا من قلوب الناس أكثر من هذا الشعب ، شعب يشكل تجمعا من المغامرين والمضاربين " . وما زلنا اليوم ، قادرين أن نجد في تاريخهم أسس انحطاط ثقافتهم .
فمن جهة العلاقة بالطبيعة ، لم تأخذ كلمة " الحدود " وعلى مدى قرن كامل ، نفس المعنى الجغرافي الذي أخذته في أوروبا . كان الحيز المكاني بالنسبة لهم امتدادا مفتوحا ، وبقي كذلك حتى نهاية القرن التاسع عشر ، حيث بلغ التوسع مداه بالوصول إلى المحيط الهادئ . عندها فقط أعلن عن " ترسيم الحدود " . كان هذا الفضاء الجغرافي مفتوحا لكل أنواع السلب ، وأشكال الإبادة : إبادة الغابات ، وحيوان البيزون " البقر الأمريكي " ، وكذلك التنقيب المحموم في مناجم الذهب والفضة .
أما العلاقة مع البشر الآخرين فكانت ذات طبيعة خاصة : في البداية كان اصطياد الهنود للاستيلاء على أراضيهم ، دون أن يترك لهم خيار ، غير خيار التصفية العرقية أو التصفية في " المحميات " . وبعد ذلك ، ساد بين البيض أنفسهم قانون الغاب ، لاقتسام ثروات الهنود المسروقة ، وأراضيهم ، أو الذهب المأمول استخراجه .
أما ما يتعلق بمعنى الحياة ، فقد تقلص إلى البعد الكمي للثروة أو الأرض أو كنوزها . كانت حياة " الوسترن " و " الغرب الأقصى " ـ ماعدا بعض الاستثناءات ـ تضفي لبوس العظمة على هذه " الملحمة " العنصرية ، وسيادة قانون الأقوى في الحرب التي شنها الجميع ضد الجميع . أما البيوريتانية المسيحية ، فلم تلعب أي دور في العلاقات الاجتماعية القائمة آنذاك إلا دور التبرير.
ويشكل العنف الأكثر دموية والذي يرعاه نفاق ديني ، سمي دائمة في تاريخ الولايات المتحدة منذ تأسيسها . وقد حمل البيوريتانيون الإنكليز الذين نزلوا أمريكا ، حملوا معهم الاعتقاد الأشد فتكا في تاريخ الإنسانية ، وهو الاعتقاد بفكرة " الشعب المختار " ، الذي أعطى الشرعية لعمليات استئصال السكان الأصليين واغتصاب أراضيهم ، وكأنهم أمر إلهي ، اقتداءا بالنموذج التوراتي ، نموذج يشوع حيث أو كل " رب الجنود " لشعبه مهمة ذبح السكان الأصليين في بلاد كنعان والاستيلاء على أراضيهم .
وتماما مثلما فعل الإسبان الذين وصفوا تصفية هنود جنوب القارة ، أنها عملية " تنصير " ، فقد استلهم البيوريتانيون الإنكليز سفر يشوع في مطاردتهم للهنود ، وسرقة أراضيهم ، وعمليات " الاستئصال المقدسة " ، على غرار ما ورد في التوراة .
كتب أحدهم يقول : " من الجلي أن الله دعى المستعمرين إلى الحرب ، حيث يركن الهنود إلى عددهم وأسلحتهم ، يتربصون الفرص لارتكاب الشر، مثلما فعلت قبائل الأماليين ، والفلسطينيين الذين تحالفوا مع آخرين ضد إسرائيل .. " من كتاب ترومان نيلسون : بيوريتانيو ماساشوستس " من مصر إلى أرض الميعاد ـ اليهودية " . وغالبا ما يصور " إعلان استقلال الولايات المتحدة " ، في 4 تموز 1776 ، أنه تصور مسبق لإعلان " حقوق الإنسان والمواطن " في فرنسا الذي صدر عام 1789 . إلا أن إعلان الإستقلال هذا ، هو في حقيقة الأمر ، مثال مذهل للنفاق الذي توحيه كلمة " الحرية " حسب المفهوم الأمريكي .
ينادي الإعلان في سطوره الأولى : " يولد كل الناس متساوين . وقد وهبهم الخالق حقوقا غير قابلة للتنازل عنها : حق الحياة ، وحق الحرية ، وحق البحث عن السعادة ".
إلا أن " الحرية " الأمريكية تجلت بشكل آخر : الاحتفاظ بالرقيق الأسود قرنا كاملا بعد الإعلان . واحتاج الأمر حربا أهلية لتوضع عام 1865 ، نهاية لما كانوا يسمونه حتى ذلك الحين " المؤسسة الخاصة " ، أي بمعنى آخر " الرق " . ومنذ تحرير العبيد لم يترك لهم مكان في المجتمع ، ولم يكن يسمح لهم بامتلاك واحدا فقط من الستين آربانت " قياس فرنسي " المسموح به للبيض .
بعد ذلك ، ولد إرهاب الجمعيات السرية ، مثل منظمة كوكلوكس كلان . أما قوانين السود فقد أبعدت العبيد القدامى عن الحياة السياسية ، كما أبعدهم التمييز العنصري عن المجتمع المدني . وهكذا ورغم تضحيات مارتن لوثر كينج ، تستمر التفرقة العنصرية إلى يوما هذا . وتفوح رائحة النفاق اكثر عندما يتعلق الأمر بالهنود . إنها المرة الأولى التي يظهر فيها بقوة ما سيصبح لاحقا المبدأ المحرك لكل الاعتداءات الأمريكية المستقبلية للولايات المتحدة في العالم : وهو أن العدوان والتصفية العرقية ، صورا مسبقا على أنهما ردود فعل دفاعية . وقد وصف إعلان الاستقلال الذي نادى بالحرية والمساواة ، وصف الهنود " بالمتوحشين الذي لا يعرفون الرحمة ، والمعروفين بحبهم لإشعال الحروب ، وارتكاب المجازر " .
من هذا المنطلق ، تحدث الإعلان عن مجتمعات السكان الأصليين ، كي يبرر مقدما المجازر واغتصاب الأرض بحجة " الدفاع المشروع " . وهبط عدد السكان الهنود بحكم عمليات التصفية من عشرة ملايين إلى مئتي ألف فقط ، وكأن الأمر ، أن الهنود هم الذين غزوا أرض المستعمرين ، لا أن المهاجرين من أوروبا ، هم الذين وفدوا ليغتصبوا أراضيهم ويدمروا حياتهم .
هكذا كانت السياسة الأمريكية الثابتة ، منذ ذلك الحين ، انطلاقا من " الخطيئة الأولى " بحق الهنود والأرقاء السود .
قال سيمون بوليفار ، أحد أبطال محاولات الاستقلال في أمريكا اللاتينية في أواسط القرن التاسع عشر : " يبدو أنه كتب على الولايات المتحدة أن تقوم بتعذيب وإذلال القارة باسم الحرية".
ويشهد توكفيل على بربرية المستعمرين تجاه الهنود الذين استخدموا أسلحة لا يمكن مقارنتها باي مقياس بأسلحة الغزاة . ووصف بسخرية لاذعة ، وإنسانية دامية انتصار " الحرية " ، تلك المسيرة المظفرة للحضارة عبر الصحراء قائلا : " في قلب الصحراء ، وفي أواسط الشتاء ، حيث كان البرد قارسا جدا ، قام ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف بمطاردة الأعراق البدوية من الوطنيين الذين كانوا يفرون أمامهم ، حاملين مرضاهم وجرحاهم ، وأطفالا ولدوا حديثا ، وشيوخا على حافة الموت " ، وتابع يقول : إن المشهد كان مثيرا ولم تمح من ذاكرته أبدا .
هكذا بدأ تاريخ " الشمال " في " العالم الجديد " ، كما صوره نعوم شومسكي في كتابه " ايديولوجيا واقتصاد " . وفي عام 1754 ، وصف بنيامين فرانكلين ، الناطق الرسمي البارز باسم التنوير، وصف " أب الأمة " بأنه الرجل الذي يطرد السكان الأصليين كي يفسح المكان لأمته .
وأعطى جورج واشنطن الدرس نفسه لقبائل الايروكواس ، عندما كلف جيشه بتدمير مجتمعها وحضارتها ، وهما مجتمع وحضارة متقدمان نسبيا بمقاييس عام 1779 . لم تشهد القرون المتعاقبة ، إلا نادرا أن ينظر إلى مثل هذا النفاق والجبن الأخلاقي الواضح ، بمنظار الإعجاب والاحترام .
وفي عام 1789 ، وصف توماس جفرسون ، ما سماه " اتحادنا " ، بأنه المنطلق لإعمار كل أمريكا ، الشمالية منها والجنوبية . وقال إنه لأمر حسن أن تبقى القارة بيد العرش الإسباني ، إلى أن يصبح " مجتمعنا قويا بما يكفي ليتمكن من التهام القارة قطعةً قطعة " ..
أما جون كيتري آدامز، مهندس الفكرة التي قادت إلى وضع مبدأ مونرو فقد وصف " الدومينيون " على أنه قارة أمريكا الشمالية . وقد أوضح فكرته بقوله : هذا هو قانون الطبيعة . وقد جرى تطبيق هذا " القانون " تطبيقا واسعا جدا . فقد استخدمه آدامز من جديد في القضية المتعلقة بالجهود الخائبة التي بذلتها الصين لمنع توريد الأفيون إلى بلادها ، انطلاقا من الهند . وقد أدى فشل هذه الجهود إلى اندلاع حرب الأفيون . واستخدمت بريطانيا العنف لتقضي على المقاومة التي أبدتها الصين ، باسم المبادئ السامية للتجارة الحرة . كانت المقاومة الصينية قد منعت الإمبراطورية البريطانية من الوصول إلى الأسواق الصينية عن طريق منع توريد منتجها الرئيسي الذي قدمته للصين ، وهو الأفيون .
ووصف آدامز محاولات الصين لمنع توريد الأفيون ، بأنه عمل ضد القانون الطبيعي .
وفي فترة أقرب إلينا ، حدد وودرو ويلسون " واجبنا الخاص " ، تجاه كل شعب مستعمر ، وهو " أن نعيد لهذا الشعب النظام والسيادة ". و" ندربه على القانون والتعود عليه وإطاعته " . هذا يعني من الناحية العلمية الخضوع لـ " حقنا " في سرقة هذا الشعب واستغلاله . وشرح ويلسون باختصار الدور الذي تلعبه القوة الأمريكية في هذا المشروع قائلا :
" انطلاقا من حقيقة أن التجارة ، ليس لها حدود قومية ، وانطلاقا من أن الصناعي يريد امتلاك العالم من أجل الأسواق ، فان على علم بلاده أن يتبعه أينما ذهب ، وعلى الأبواب المغلقة للأمم الأخرى أن تخلع ، وعلى وزراء الولايات المتحدة أن يحموا امتيازات أصحاب رؤوس الأموال ، حتى ولو أدى ذلك إلى انتهاك سيادة الأمم الأخرى المتمردة . يجب خلق المستعمرات أو الحصول عليها ، بحيث لا نهمل أو نتغاضى عن أصغر زاوية في العالم " .
هذه العبارات الصادقة بسبب صراحتها ، تحمل دلالة حقيقية للمثل الأعلى " للولسنية " ، في الحرية وتقرير المصير . وهو مثل غالبا ما يورده المثقفون الغربيون عاريا دون تزويق .
وقد طبق ويلسون ، عندما أصبح رئيسا للجمهورية بعد بضع سنوات ، عقيدته حول تقرير المصير ، بغزوه المكسيك ، وجزيرة أسيانيولا " التي تشكل تاهيتي وجمهورية الدومينكان " . وقد قتل جنوده ، وسلبوا ، وأسسوا حالة شبيهة بالرق ، ودمروا النظام السياسي ، ووضعوا البلاد بين أيدي المستثمرين الأمريكيين .
وقد نشر روبرت لانسينغ ، وزير خارجية ويلسون ، مذكرة شرح فيها معنى " مبدأ مونرو " ووصف ويلسون نشرها بأنه سوء تصرف سياسي ، ولكن حيثياتها لا يمكن أن تهاجم .
قال لانسينغ : " في دفاعها عن مبدأ مونرو ، إنما تدافع الولايات المتحدة عن مصالحها الخاصة . أما إنصاف الأمم الأمريكية الأخرى فهو مسألة إضافية ، وليس غاية بحد ذاتها . وبقدر ما يبدو هذا المضمون مبنيا بشكل فريد على الأنانية ، فان واضع هذا المبدأ ، ليس لديه دافعا أسمى أو اكثر أريحية ليقدمه " .
ما كان استرجاع أشكال المخاتلة الأصلية في الأسطورة الأمريكية ليحمل فائدة تاريخية كبيرة ، لو لم يتطور هذا النظام السياسي ، بعد قرنين ، ليشمل العالم كله .
فحتى الحرب العالمية الأولى تركزت أعمال السلب في القارة الأمريكية فقط . وكانت المشكلة آنذاك تتلخص بإعاقة سيطرة أوروبا على الأرض والمؤسسات الأمريكية ، بالوسائل المالية ، أو غيرها .
كان تاريخ الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر ، هو أولا تاريخ إبادة الهنود ، إذ جرى بين عامي 1800 و 1835 ، تهجير كل الهنود من حوض المسيسبي ، في ظروف تهجير وإسكان تذكرنا بعمليات التهجير الهتلرية .
كما أبيد الآلاف من حيوان البيزون الذي يقتاتون به ، ومن صوفه يصنعون ملابسهم ، ودمرت مساكنهم . ولم تتوقف المقاومة الهندية المسلحة إلا بعد ارتكاب مجزرة " وونددني " عام 1890 . كان تاريخ الولايات المتحدة أيضاً ، تاريخ استغلال العبيد السود، وخاصة في ميدان زراعة القطن .
هذه هي السمات الأساسية لسياستهم الداخلية . أما سياستهم الخارجية فقد هدفت لنزع يد إسبانيا والبرتغال عن " ممتلكاتهما " في القارة ، ليحل محلها توغلهم الاقتصادي وسيطرتهم السياسية . ثم طردوا بريطانيا ليستغلوا بدلا منها البترول .
وقد حدد الرئيس مونرو في رسالته إلى الكونغرس " 2 كانون الأول 1823 " القاعدة الأساس لهذه السياسة الهادفة لاستبعاد الهنود ، والزنوج وأوروبا ، قال فيها : للأوروبيين القارة القديمة ، وللأمريكان القارة الجديدة .
واتخذ من تفجير بارجة في ميناء هافانا ، ذريعة لشن حرب ضد اسبانيا أ، جرى بنتيجتها احتلال بورتوريكو، والفليبين وكوبا .
أسال التدمير الأوروبي المتبادل في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) أنهارا من الذهب ، صبت في الولايات المتحدة ، التي هبت للتجدة عندما وصلت الحرب إلى نهايتها ولاحت أعلام النصر .
وتحمل أسطورة المحررين الأمريكيين لأوروبا تضليلا مزدوجا :
ـ التدخل الأمريكي الذي جاء بعد ثلاث سنوات من اندلاع الحر (عام 1917) لأن مصالح الفعاليات الاقتصادية الأمريكية تعرضت للخطر بسبب نسف البواخر الأمريكية التي واصلت متاجرتها خلال الحرب مع بريطانيا ، وكذلك لأن الوزير الألماني زيمرمان ، وعد المكسيك بتشكيل حلف ضد الولايات المتحدة ، سيعيد بنتيجة للمكسيك أقاليمها الضائعة : " تكساس ، أريزونا ، نيومكسيكو " … وقد أدى تدخل ألقيصر كيسزر " صاحب أكبر مصانع للسفن في الولايات المتحدة " إلى تبدل في الرأي الأمريكي ، لمصلحة إرسال حملة إلى أوروبا (4 نيسان 1917) .
كلفت الحرب العالمية الأولى فرنسا مليون ونصف قتيل ، وألمانيا أكثر من مليون وسبعمائة ألف قتيل . ومن الضروري أن نقارن هذه الأرقام بعدد الضحايا التي نتجت عن المشاركة الرمزية للولايات المتحدة .
أما الرخاء الاقتصادي الذي شهدته الولايات المتحدة ما بين عامي (1920 ـ 1933) ، فقد تحول إلى تهتك ، مع نمو نشاط المافيات المتآمرة مع أجهزة الشرطة من خلال قانون منع الخمور الذي صدر عام 1919 ، والذي ازدهرت من خلاله الحانات غير القانونية ، والملاهي وبيوت الدعارة السرية ونشاطات مهربي الخمور .
وقد شهدت أعوام (1921 ـ 1924) إجراءات لكبح جماع الهجرة إلى الولايات المتحدة ، وازداد نشاط عصابات الكوكلاكس كلان ، ناشرة الرعب من جديد في مناطق الجنوب . وحملت النوفينية المسيطرة ، إلى الكرسي الكهربائي العديد من الأبرياء مثل ساكو وفانزتي ، الناشطين الايطاليين وأصبح الهم السياسي تحطيم أي نظام اجتماعي يتعارض مع التوغل الاقتصادي الأمريكي ، وبكل وسيلة ممكنة . كما أصبح الاتحاد السوفيتي و " العدوى " التي يمكن أن ينقلها ، العدو الرئيسي . وهيمن رعب مماثل على أوروبا الغربية . ولم يتردد القادة الأمريكان، في الاعتماد على أعتى الطغاة ، باسم الدفاع عن الحرية ، التي هي في الحقيقة حرية الباب المفتوح للتوسع الأمريكي بلا حدود .
وفي الحرب العالمية الثانية ، جرى الإنزال الأنكلو ـ أمريكي في أوروبا ، عام 1944 . وكان اليابانيون ، قد دمروا بشكل غادر الأسطول الأمريكي في بيرل هارير ، بينما كان الأمريكيون يسعون لإنقاذ مصالحهم في المحيط الهادي أمام التوسع الياباني الخاطف.
لم يتدخل الأمريكيون مباشرة ضد هتلر إلا في 19 حزيران 1944 ، عندما كان يعاني من هزيمته الأولى في كانون الثاني 1944 ، حيث تحطم جيشه في ستالينغراد ، بعد أن خسر 400 ألف جندي بينهم 140 ألف أسير .
كانت المقاومة في أوروبا ، وطوال سنوات الحرب قد قضمت الاحتلال الألماني . وفي ذلك الحين ، كان هتلر قد حشد خيرة قواته (189 فرقة من أصل 315 فرقة) على الجبهة الروسية ، و38 فرقة على الجبهة الإيطالية و 64 فرقة على الجبهة الممتدة من النرويج إلى فرنسا . وأدى هدا كله إلى تشتت آلة الحرب الهتلرية .
وجاء إنزال حزيران 1944 بعد قصف مرعب على التجمعات السكانية المدينة راح ضحيته 570 ألف قتيل و 800 ألف جريح من المدنيين .
والمثال الاكثر دلالة على قصف المدنيين ، هو قصف درسدن (135 ألف قتيل مدني) ، على الرغم من أن الزحف الروسي كان قد تجاوز المدينة ، التي لم تعد لهذا السبب تشكل هدفا عسكريا . أما هيروشيما ، فقد مسحت يوم 2 آب 1945 ، من على الخارطة بفعل قنبلة ذرية ، أودت بحياة 75 ألف ضحية .. ثم جاء دور ناغازاكي ، بعد ثلاثة أيام من قصف هيروشيما فعاشت نفس المصير ، مع أن الإمبراطور كان قد اقترح استسلام اليابان .
كانت الفكرة عن الشيوعية شاملة جدا . ففي عام 1955 ، توصلت مؤسسة وودرو ويلسون ، بالاشتراك مع جمعية التخطيط القومي إلى تعريف للشيوعية أكثر ما يكون دقة : " يأتي الخطر الشيوعي من التحول الاقتصادي لبلد ما بشكل يضعف رغبته وقدرته في أن يكون متمما لاقتصاد الغرب الصناعي " .
ولكي يتصدى القادة الأمريكان لمثل هذا التهديد، لم يترددوا ، غداة الحرب العالمية الثانية في حمل جنرالات النازية الجديدة إلى السلطة والتحالف معهم .
وكانت هذه السياسة ، التي طبقت بعد الحرب الثانية في كل أمريكا اللاتينية ، قد طبقت سابقا بعد الحرب العالمية الأولى . ففي عام 1922 ، وصف السفير الأمريكي في روما ، مستذكرا ذكرى مسيرة موسوليني إلى روما التي وضعت نهاية للديمقراطية في إيطاليا ، وصفها " بالثورة الشابة والجميلة " ، وأوضح لماذا يرى " أن الفاشيست ربما يكونون العامل الأقوى في كبح جماح البلشفية ".
وحظيت إيطاليا الفاشية منذ ذلك الحين بتعامل طيب من قبل الولايات المتحدة ، وذلك عندما سويت مسألة ديون الحرب . ثم تدفقت الاستثمارات الأمريكية إلى إيطاليا . وفي عام 1933 تحدث تيودور روزفلت عن موسوليني واصفا أياه " بالسيد الإيطالي الذي يثير الإعجاب " . وفي عام 1937 ، قيمت وزارة الخارجية الأمريكية الحركة الفاشية بأنها " أصبحت روح إيطاليا التي فرضت النظام في قلب الفوضى والمبادئ في وجه التجاوزات ، وحلت مشكلة الإفلاسات " .
ولم تغير إدانة غزو أثيوبيا إطلاقا من طبيعة العلاقات بين البلدين ، وشرح السفير الأمريكي لونغ أسباب ذلك بقوله : " بدون هذا التوجه .. كانت أشكال العنف البلشفي ستظهر في المراكز الصناعية ، والمناطق الزراعية التي تسود فيها الملكية الخاصة ".
وفي عام 1937 ، اعتبرت وزارة الخارجية ، أن الفاشية تتوافق مع المصالح الاقتصادية الأمريكية . وبمعنى آخر ، مع المفهوم الأمريكي للديمقراطية .
وحدث الأمر نفسه مع هتلر . ففي عام 1933 ، كتب القائم بالأعمال الأمريكي في برلين إلى واشنطن " إن الأمل المقود على ألمانيا ، إنما يعلق على " الجناح المعتدل في الحزب الذي يقوده هتلر … الذي وجه دعوة تعاون إلى كل الناس المتمدنين والعقلاء " .
ولأن " المحور " لم يهاجم الولايات المتحدة بعد بيرل هاربر ، فقد استمر الموقف الأمريكي من الفاشية على حاله لم يتغير .
وبعد الحرب .. تتابعت السياسة نفسها ، ولكن بلبوس جديد . ففي عام 1943 ، شهد الجنوب الإيطالي تراجع قوات الدوتشي ، بناء على إيحاء من تشرشل مدفوعا بالخوف من شبح حصار بلشفي . وقامت الولايات المتحدة بدعم ملك إيطاليا الذي تعاون مع النظام الفاشي ، وفرضت ديكتاتورية المارشال بادرغليو ، تماما كما فعل روزفلت عندما نصب عام 1942 الأميرال دارلان ، لا الجنرال ديغول ، على الجزائر .
كان الهدف هو منع المقاومة ضد الفاشية من الوصول إلى السلطة ، وكان الشيوعيون قد لعبوا دورا حاسما في صفوف هذه المقاومة .
قال ديفيد ماك ميشيل في كتابه " أكاذيب عصرنا " : منذ أن تسرب التقرير المعروف باسم تقرير بايك عام 1976 إلى الكونغرس ، بات معروفا مدى تدخل وكالة المخابرات المركزية في الحياة السياسية في إيطاليا . وكان الأمر يتعلق بمبلغ خمسة وستين مليون دولار ، قدمت كمساعدات مالية لأحزاب سياسية مرضي عنها ، والى شركاء لها ، وذلك بين عام 1948 وبداية السبعينات . وفي عام 1976 سقطت حكومة ألدومورو في إيطاليا ، بعدما كشف أن وكالة المخابرات المركزية أنفقت ستة ملايين دولار لدعم المرشحين المعادين للشيوعية .
ونقرأ في كتاب لكريستون سيمبسون بعنوان " انفجار " صدر عام 1988 :
" قامت أجهزة التجسس الأمريكية ، والأجهزة المعادية للمقاومة ، بتجنيد مجرمي حرب نازيين كبار ، مثل كلاوس باربي الذي يعتبر بدون شك ، الأكثر شهرة بينهم " .
وعمل النائب العام الأمريكي ماك كلوي على إطلاق سراح مجرم حرب نازي ، أسوأ حتى من باربي ، وكان يطلق عليه اسم فرانز 6 . والذي كان يعمل تحت إمة رينارد غيلن الذي أوكلت إليه مهمة تشكيل " جيش سري " ، تحت الرعاية الأمريكية ، وبالتعاون مع أعضاء قدامى في جهاز الأمن النازي واختصاصيين آخرين في جهاز قوات الدفاع الوطني النازية والذين كانوا قد قدموا العون للقوات العسكرية الميدانية التي وضعها هتلر في بلدان أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي ، وساعدوا بعد انتهاء الحرب في عمليات استمرت حتى أعوام الخمسينات . وكان غلين نفسه رئيسا للاستخبارات العسكرية النازية في أوروبا الشرقية ، وقد عهد إليه فيما بعد ، في الدولة الألمانية الجديدة بمنصب مدير إدارة التجسس والتجسس المضاد ، تحت مراقبة صارمة من المخابرات المركزية الأمريكية .
وحقيقة الأمر ، أن خوفا كبيرا في الولايات المتحدة ، قد برز مع تصاعد أزمة 1929 ، عندما أدى انهيار سوق الأوراق المالية في 4 تشرين أول ، نتيجة المضاربات المالية ، إلى إفلاس عدد لا يحصى من المصارف والمؤسسات ِ، وارتفاع مذهل في معدل البطالة . وفي عام 1930 ، وصل عدد العاطلين عن العمل إلى أربعة ملايين ، وارتفع عام 1931 إلى سبعة ملايين ، ثم بلغ عام 1932 أحد عشر مليونا .
أدى وصول روزفلت وأر كان حكمه من المنظرين إلى السلطة عام 1932 ، إلى بروز مبدأ جديد للدولة في ميدان الاقتصاد ، أطلقوا عليه اسم " الصفقة الجديدة " ، والذي ظهر بعجلة دون أن يتمكن من حل الأزمة ، فقد انخفض الناتج القومي عام 1937 ، بنسبة 13 % وانخفضت معدلات الاستخدام 30 % .
كانت الحرب العالمية الثانية وحدها القادرة على إخراج الولايات المتحدة من أزمتها . وفي الوقت الذي رفض فيه روزفلت تقديم العون لفرنسا المهزومة منذ عام 1940 ، فقد بذله لبريطانيا بموجب قانون خاص (فانون الإعارة والتأجير) أدى تطبيقه إلى إنعاش الاقتصاد الأمريكي عن طريق تصنيع آلاف عربات الشحن والطائرات والدبابات والمدافع . وحسم الهجوم الياباني في بيرل هاربر دون إعلان الحرب ، الجدال لصالح موقف مؤيد لروزفلت .
وسمحت القوة الاقتصادية الأمريكية تجاه أوروبا التي دمرتها الحرب ، سمحت لروزفلت ، حتى قبل تدخله المتأخر ، أن يصبح سيد اللعبة في أوروبا الغربية منذ كانون الثاني 1943 تجلى ذلك واضحا في مؤتمر كازابلانكا ، ثم في مؤتمر طهران الذي تلاه في نفس العام ، ثم في مالطا عام 1945 ، حيث مثل فيه روزفلت دور المفاوض الرئيسي لستالين لتنظيم العالم بعد سقود هتلر.
خرجت الولايات المتحدة من الحرب ، وهي في وضع السيطرة الشاملة ، وهو وضع لم سبق له مثيل في التاريخ . فالمنافسون الصناعيون كانوا قد دمروا ، أو أصابهم الضعف إلى حد كبير، ولهذا فقد تضاعف الإنتاج الصناعي الأمريكي خلال سني الحرب أربع مرات .
وأصبحت الولايات المتحدة في نهاية الحرب ، مالكة لنصف ثروات العالم ، بينما كانت خسارتها البشرية متواضعة جدا بالمقارنة مع ما قدمه العالم كله . لقد كلفت الحرب ألمانيا ما يزيد عن سبعة ملايين ونصف نسمة نصفهم من المدنيين ، وخسر الاتحاد السوفيتي سبعة عشر مليونا منهم عشرة ملايين مدني . وفي إنكلترا وفرنسا تجاوز الرقم مليون قتيل منهم 450 ألف مدني . أما الولايات المتحدة ، فقد كان عدد قتلاها 280 ألف جندي ، وهو رقم يعادل عدد ضحايا حوادث السيارات في الولايات المتحدة خلال سني الحرب .
وقبيل الحرب الكورية بقليل 1950 ، أعدت الوثيقة التي رسخت الخط السياسي للولايات المتحدة . وعرفت فيما بعد باسم مذكرة مجلس الأمن القومي رقم 68 / وقد حررها بول نيتش ، الذي خلف جورج كينان على رأس جهاز التخطيط في وزارة الخارجية .
وكان جورج كينان قد أقيل من منصبه لأن السلطة اعتبرته من " الحمائم " جدا ، وكان قد كتب عام 1948 : نحن نملك 50 % من ثروات العالم ، ولكننا لا نشكل أكثر من 3 , 6 % من سكان الأرض ، وفي مثل هذا الوضع يبدو أنه لا مناص من أن نكون موضع غيرة وحسد الآخرين ، وسيكون جهدنا الأساسي في الحقبة المقبلة ، تطوير نظام من العلاقات يسمح لنا بالاحتفاظ بهذا الوضع المتسم بعدم المساواة ، دون أن نعرض أمننا القومي للخطر . ويجب علينا لتحقيق ذلك أن نتخلص من العاطفة تماما ، وأن نتوقف عن أحلام اليقظة . يجب أن يتركز انتباهنا في كل مكان على أهدافنا الوطنية الراهنة ، علينا أن لا نخدع أنفسنا ، ولا نستطيع أن نسمح لأنفسنا اليوم بالغوص في ترف التفكير بالايثار وعمل الخبر على مستوى العالم . علينا التوقف عن الحديث عن مواضيع غامضة أو غير ممكنة التحقيق ، تتعلق بالشرق الأقصى ، مثل حقوق الإنسان ، أو تحسين مستوى المعيشة ، أو إحلال النظام الديمقراطي . ولن يكون بعيدا اليوم الذي سنجد فيه أنفسنا مضطرين للتحرك بصراحة من خلال علاقات القوة . وبقدر ما يكون ارتباكنا بسبب الشعارات المثالية أقل ، بقدر ما يكون ذلك أفضل " دراسات في التخطيط السياسي " .
أما " مخطط الصقور " الذي رسمه بول نيتش بوضوح أكثر للمواضيع التي تناولها . تمتلك الولايات المتحدة ـ يقول نيتش ـ قوة كونية ، لهذا سيكون من الضروري أن نحدد لنا عدوا كونيا ، وفي هذه الحالة سيكون الاتحاد السوفيتي . وعلينا أن نضفي على هذا العدو كل صفات الشيطان ، بحيث يصبح كل تدخل أو عدوان للولايات المتحدة مبررا مسبقا ، وكأنه عمل دفاعي تجاه خطر يشمل الأرض كلها . وهكذا أصبح الاتحاد السوفيتي بموجب هذا المخطط ، " امبراطورية الشر " . ليس مهما أن لا تكون كوريا أو فيتنام هي التي غزت الولايات المتحدة ، وليست هامة حقيقة أن الولايات المتحدة هي التي غزت هذين البلدين الذين يقعا على بعد عشرة آلاف كيلومتر عن حدودها ، ومع ذلك فقد زعمت أمريكا أنها تعتبر نفسها في حالة دفاع مشروع.
ولم يكن الاتحاد السوفييتي عام 1917 ، قد أصبح قوة عسكرية ، وخاصة بعد خسارته المرعبة بالأرواح خلال الحرب العالمية الأولى ، ومع ذلك فقد اعتبر الخطر الرئيسي ، بسبب أخطار " العدوى " التي يحملها ، مشكلا تهديدا لاستمرار النظام الرأسمالي .
وقال جاديس في كتابه " السلام الطويل " 1987 :
" أصبح أمن الولايات المتحدة في خطر منذ عام 1917 ، وليس في عام 1950 . كان التدخل عملا دفاعيا ضد تبديل النظام الاجتماعي في روسيا وإعلان الاتحاد السوفيتي عن نواياه الثورية ". ومن هذا المنطلق كتب السناتور وارن هاردينيج ، الذي أصبح فيما بعد رئيسا للولايات المتحدة (1921 ـ 1923) قائلا : " تشكل البلشفية تهديدا يجب القضاء عليه … لابد من القضاء على الوحش البلشفي " من كتاب " الولايات المتحدة وإيطاليا الفاشية " .
إذن ، يشكل وجود الاتحاد السوفيتي بحد ذاته عدوانا ، وهذا يوجب أن تدافع الولايات المتحدة عن نفسها ، في كل بقعة من بقاع العالم .
وهكذا تحددت بوضوح مواضيع الحرب الباردة . وحددت وثيقة جهاز التخطيط في الخارجية الأمريكية المذكورة آنفا هذه المواضيع على الشكل التالي :
إن الصراع بين قوى النور وقوى الظلام لا يهدد فقط جمهوريتنا ، إنما المدينة بأسرها . إن الانقضاض على مؤسسات العالم الحر ، يشمل المعمورة كلها ، ويضع على كاهلنا من خلال مصالحنا الخاصة ، مسؤولية ممارسة " القيادة للمعمورة كلها " .
وكان من السهل جعل هذه الفكرة مقبولة من " الرأي العام " ، بسبب الطبقة الحاكمة المسيطرة على الصحافة ودور النشر والجامعات والسينما والتلفزيون . وكشف اليكس توكفيل ، عن مدى هذه الإمتثالية لدى الشعب الأمريكي في كتابه " الديمقراطية الأمريكية " : " إني لا أجد بلدا تكاد تنعدم فيه استقلالية الروح ، ويسوده قليل من النقاش مثل الولايات المتحدة " . وفي عام 1858 قال الكاتب هنزي ديفيد ثورو وهو أحد المعارضين النادرين ومؤلف كتاب " والدن ـ أو الحياة في الغابة " :
" ليس هناك ضرورة لوجود قانون يمكن الدولة من السيطرة على الصحافة ، لأنها تفرض قوانينها بنفسها ، وتطبقها بصرامة أكثر مما هو مطلوب منها . لقد وصل المجتمع ، ولو بشكل غير معلن إلى اتفاق يتعلق بالمواضيع التي يمكن للصحافة أن تعبر عنها ، واختار ميدانها ، وعقد تعاهدا مضمرا بعزل كل من يحاول خرقه ، بحيث لا يتجرأ واحد من ألف ان يعبر عن شيء آخر " . ويضيف نعوم شومسكي : " من الدقة أكثر القول إن واحدا بالألف لا يستطيع أن يفكر بشيء آخر ، إلى هذه الدرجة الماحقة يمارس نظام السيطرة سلطته على التفكير " .
" وفي القرن العشرين بدت هذه السيطرة أكثر وضوحا ، إذ أدركت شخصيات مرموقة وباحثون كبار في العلوم السياسية ، وصحفيون ، وعاملون في صناعة العلاقات العامة المتنامية ، أنه في بلد ما حيث يمكن للشعب أن يرفع صوته ، من الضروري التأكد أن هذا الشعب يقول ما يجب أن يقال وبالشكل المناسب " .
"وفي دولة مؤسسة على العنف الداخلي ، تكفي السيطرة على ما يفعله الناس ، أما ما يفكرون به فقليل الأهمية . أما عندما يكون عنف الدولة محدودا ، يصبح من الضروري السيطرة على ما يفكر به الناس " .
كان هذا الأمر واضحا جدا في حلقات النخبة ، حيث كان هناك إصرار على أهمية " إعداد الموافقة " ، وهو تعبير استخدمه والترليبمان وهو صحفي متميز ومعلق سياسي ، أو " فبركة الموافقة ، حسب تعبير ادوارد برني ، وهو شخصية مؤثرة ومحترمة جدا في حقل صناعة العلاقات العامة ، وذلك للاطمئنان إلى أن المجتمع ، سيوافق على قرارات قادته الأذكياء ، ذوي البصيرة النافذة ، والذين يجب أن يكونوا بمنأى عن التأثر بجلافة الجماهير وسذاجتها " .
وكتب روبرت دال ، وهو أحد النقاد النادرين الذين تناولوا هذه المفاهيم بالنقد ، والمختص بالعلوم السياسية : " لو افترضنا أن الخيارات السياسية تفرض ببساطة على النظام ، من قبل القادة ( سواء كانوا من رجال الأعمال أو آخرين) ، كي يحصلوا على ما يريدون ، فإن نمط الاستفتاء الديمقراطي ، سيعادل في جوهره الهيمنة الشاملة " .
وهكذا ، على ارض التلاعب هذه ، التلاعب بالرأي العام ، يسعى القادة الأمريكان أن يحققوا هيمنتهم على العالم . والشاغل الأول للأجهزة المسيطرة على السلطة ، هو أن يحموا ظهرهم في أمريكا اللاتينية .
كانت الخطوة الأكثر وحشية بعد الحرب ، خطوة غواتيمالا ، حيث هددت حكومة الرئيس ارابيز الشعبية امتيازات شركة الفواكه ، وشركات البترول الأمريكية العاملة هناك .
وتجنبا لمضاعفات التدخل العسكري المباشر ، فقد حددت مذكرة مجلس الأمن القومي ،
رقم NSE 5432 ، الإجراءات الضرورية لتكامل القوات العسكرية اللاتينية ـ الأمريكية ، من خلال الأسلوب الأمريكي " في التشجيع " :
ـ " زيادة حصص بلدان أمريكا اللاتينية في مجال تدريب الافراد في الكليات العسكرية ومراكز التدريب في الولايات المتحدة ، بما فيها الاكاديميات الحربية " .
ـ يفضل إنشاء علاقات شخصية أكثر حميمية بين العسكريين الأمريكيين ، وغير الامريكيين ، لتشجيع عسكريي أمريكا اللاتينية على تفهم أكبر لأهداف الولايات المتحدة وتبنيها ، وإدراك الدور الهام لمؤسساتهم العسكرية في الحكم .
ـ البحث عن نمطية كاملة في التنظيم ، والتدريب ، والعقيدة القتالية ، وتجهيز القوات المسلحة في بلدانهم ، كل ذلك حسب المعايير الأمريكية ، الهدف أن يعارض هؤلاء العسكريون ، إرسال دول أخرى ، بعثت عسكرية إلى أمريكا اللاتينية وكي يصبح مؤكدا أن التجهيزات الأمريكية هي التي ستستخدم في هذه الجيوش .
لنلاحظ أن هذه الإجراءات لجيوش أمريكا اللاتينية في إطار بنية القيادة العسكرية الأمريكية ، إنما تهدف إلى مواجهة " أعدائنا التاريخيين " في أمريكا اللاتينية ، وهم أوروبا والسكان الأصليون .
ولأن المظالم التي ارتكبها القتلة في امريكا اللاتينية ، جعلت من الصعب وضعهم في كراسي الحكم ، فقد استبدلت الولايات المتحدة الإرهاب بالفساد ، وعمدت إلى استبدال هؤلاء القتلة بقادة " منتخبين " ، كما جرى في الأرجنتين والبرازيل وباناما بعد أن استخدموا نوربيغا ، وكذلك في نيكاراغوا التي سعوا أن تستمر فيها السوموزية بدون سوموزا ، بعد ثلاثين ألف قتيل .
وطرحت المشكلة بحدة في أوروبا غداة الحرب العالمية الثانية . كان الخطر هنا مضاعفا ، حسب وكالة المخابرات المركزية التي أكدت عام 1947 أن الخطر الاكبر ، على أمن الولايات المتحدة ، هو خطر الانهيار الاقتصادي في أوروبا الغربية ، وما سيتبعه من وصول عناصر شيوعية إلى السلطة.
ولتجنب مثل هذا الخطر المضاعف ، أطلق القادة الامريكيون مشروع " مارشال " الذي هدف حسب قولهم إلى إعادة إعمار أوروبا .
لكن الشروط السياسية كانت صارمة : لابد في البداية من إقصاء الشيوعيين في الحكومات الغربية . وهكذا بدى التدخل الخارجي في هذه البلدان واضحا :
فقد أقصي الوزراء الشيوعيون في الحكومة الفرنسية عن الحكم في 4 أيار 1947 . وأقصى الوزراء الشيوعيون في الحكومة البلجيكية في الشهر نفسه .
وهكذا ، بعد أن تمت عمليات الإبعاد ، أعلن بشكل رسمي عن مشروع مارشال في 5 حزيران 1947.
كانت " المساعدة " هي الهدف الأصغر في خطة مارشال . وقد لاحظت دراسة أجريت في نيسان 1947 ، أن المساعدة الأمريكية ستكرس بشكل مطلق للبلدان التي تتمتع بأهمية استراتيجية أساسية للولايات المتحدة .. ما عدا حالات نادرة ، التي تبرز فيها مناسبة للولايات المتحدة أن تتلقى استحسانا عمليا بفضل " عمل إنساني واضح جدا ".
وقد اتفق دين اتشيسون وزير الخارجية ، وعدد من أعضاء مجلس الشيوخ عام 1950 ، أنه لو اعلنت المجاعة في القارة الصينية ، سيكون على الولايات المتحدة أن تقدم مساعدات غذائية قليلة بالقدر الذي لا تخفف فيه من حدة المجاعة ، انما تكفي لتسجيل نقطة في سجل الحرب النفسية .
ولإعطاء دعم أكثر لهذه العملية السياسية الاقتصادية ، فقد رسمت مذكرة مجلس الأمن القومي "NSE 68 " استراتيجية لضغوط تهدف لنخر الاتحاد السوفيتي من الداخل ، عبر سلسلة من الدسائس السرية وغيرها ، تمكن في النهاية من التفاوض مع الاتحاد السوفيتي (أو الدولة أو الدول التي يمكن أن تحل محله) للوصول إلى اتفاق .
أما الوسائل السرية ، فقد تضمنت في تلك المرحلة ، إرسال معدات وعملاء يندسون في صفوف جيوش الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية ، والتي كانت قد صمدت أمام هتلر ، ووضع إدارة أجهزة التجسس في ألمانيا الفدرالية ، بين يدي ريتشارد غيلين الذي كان يدير أجهزة التجسس العسكرية النازية في الجبهة الشرقية ، وتجنيد مجرمي الحرب النازيين للمشاركة في المشروع الأمريكي الشامل لما بعد الحرب ، والذي يهدف لتحطيم المقاومة المعادية للفاشية .
ولأن العملاء من أمثال هؤلاء المجرمين لا يمكن حمايتهم في أوروبا ، فقد أرسلوا ، كل حسب مهمته ، إلى بلد من بلدان أمريكا اللاتينية . وهكذا أرسل كلاوس إلى بوليفيا ، فشارك بشكل فعال في انقلاب 1980 ، وذهب ضحية جرائمه ما يفوق بكثير ضحايا الجرائم التي ارتكبها في فرنسا أثناء الاحتلال الهتلري .
أثار السلام عام 1945 ، ثم انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1989 مشكلات صعبة أمام الولايات المتحدة ، تتعلق بالتبريرات التي ستضعها أمام الرأي العام لسياسة التسليح التي كانت عنصرا ضروريا لتنشيط الاقتصاد الامريكي .
كتبت مجلة وول ستريت جورنال في 31 آب 1989 ما يلي : : أثار الشبح المزعج للسلام ، مسائل شائكة ، فهو يهدد مباشرة المسيرة المنتظمة للبرامج العسكرية الامريكية والتي استندت إليها ، والى حد كبير بعد سنوات الحرب ، حركة اقتصاد الدولة . وتصور الجنرال ادوارد ماير ، رئيس الاركان الاسبق ، أن جيشا يتمتع بتقنية عالية ، بما تستدعيه من استثمارات هامة ، سيضمن عائدات ضخمة للصناعة الموجهة للخارج ، بما فيها من دبابات يسيرها الروبوت ، وطائرات تقاد عن بعد وعمليات تضليل ألكترونية ، انما كلها مشكوك بفائدتها في تحقيق الأهداف العسكرية المقبلة .
ولكن المسألة ليست ، لأن بواعث القلق تصدر عن ضعف الامل في تطور تقنية كهذه ، فكيف نقنع الشعب في دفع الفاتورة في الوقت الذي لم يعد فيه وأمام عينيه تهديد شيوعي ، بعد أن فقد هذا الشعار مصداقيته .
يجب إذن البحث عن بديل " لإمبراطورية الشر " .
هنا تزودنا حرب المخدرات بادعاء جديد لعمليات التدخل : " حق التدخل الانساني " أو " الدفاع عن هذا الحق " .
ثم وجدوا في العراق " امبراطورية الشر الجديدة " .
منذ سنوات ، كان صدام حسين يمثل سدا ضد الإسلام الذي جسدته إيران الخميني ، ولم يمنع التسلح ولا الأسلحة عن ذلك الرجل الذي دعاه أحد الكتاب الفرنسيين بـ " ديغول العراق " . أما عندما أراد أن يسترد نصف إنتاجه البترولي الذي اغتصب منه عام 1962 ، عبر تهديد عسكري من الطراز الاستعماري ، " كانت الكويت دائما في ظل الامبراطورية العثمانية ، ومن ثم الاحتلال البريطاني تابعة لاقليم البصرة " ، بادرت الولايات المتحدة ، مع أتباعها وشركائها إلى اتخاذ اجراءات بدت معها وكأنها المدافع عن " القانون " و " القانون الدولي " ، ضد هذا " العدوان " ، بعد أن استخدمت حق الفيتو ضد كل عقاب بحق اسرائيل ، وكأنه مكافأة لها على اعتدائها على الفلسطينيين والجولان ، وإلحاقها أراض لا تعود لها ومنها القدس .
كان لابد من ضرب " المثل " لكل العالم الثالث ، أنه من غير المسموح ، تحت طائلة التدمير، لاي شعب أن يرتقي إلى مستوى تقني عال ، أو يستثمر بنفسه ثرواته الوطنية " البترول في حالة العراق " ، دون مراقبة الدول العظمى لأسعارها ، ويشمل المنع بشكل خاص محاولة التخلص من الديانة التي لم تجرؤ هذه القوى على تسميتها ، والتي فرضتها على العالم الثالث بأكمله : وحدانية السوق ، ووثنية المال.
تشير احصائيات الصليب الاحمر الدولي ، ان القصف كلف الشعب العراقي مئتي ألف قتيل من المدنيين . أما الحظر التعسفي الذي فرض على العراق فقد أدى إلى وفاة 500 ألف طفل بسبب نقص الغذاء والدواء .
عندما أرسلت الولايات المتحدة عسكرها إلى العربية السعودية ، كتب توماس فريدمان ، المشرف على الزاوية الدبلوماسية في النيويورك تايمز في 12 آب يقول : " لم ترسل الولايات المتحدة جنودها إلى الخليج لتساعد السعودية على صد العدوان فقط ، بل لتساند في الوقت نفسه ، أحد بلدان الأوبك ، خدمة لمصالح واشنطن " .
كما لاحظت الواشنطن بوست أن هذا الاجراء فيه شيء من سلوك الماضي المهجور ، واستشهدت بقول توم مان مدير الشؤون الحكومية في مؤسسة بروكينج : يعامل بوش بلدان العالم الثالث بمنطق استعماري " الواشنطن بوست وفي الحقيقة فقد سبق هذه العملية الاستعمارية ، عدوان إنكليزي ، عندما استرد العقيد عبد الكريم قاسم عام 1961 ، الامتيازات التي كانت تتمتع بها الشركات الغربية " 94 % من الثروة الوطنية " ، والتي حصلت عليها عن طريق الحكومات الدمى التي نصبها المحتلون الغربيون .
كان سلوين لويد ، وزير الخارجية البريطاني ، قد أرسل برقية إلى رئيس الوزراء ، عرض فيها خيارين يتعلقان بالكويت : أما احتلال بريطاني فوري لهذا البلد نصف المستقل ، أو منحه استقلالا اسميا ، وشكك بحكمة استخدام القوة . فالاحتلال يسمح بفرض خيارات صارمة على البترول الكويتي ، لكنه يوقظ المشاعر القومية في الكويت ، وسيكون ذا تأثير على الرأي العام الدولي ، والعالم العربي . وسيكون من الفطنة أكثر ، استبدال هذا الخيار بايجاد نوع من " سويسرا كويتية " لا يسيطر فيها الانكليز مباشرة على البترول . وفي حال اختيار هذا الحل البديل ، سيتوجب علينا ، إذا ساءت الامور ، أن نتدخل بأكبر حزم ممكن ، كائنة من تكون ، الجهة التي سببت الاضطراب . ويجب التأكيد على التضامن المطلق للولايات المتحدة معنا ، فيما يتعلق بموضوع الخليج ، وهذا يستدعي اجراءات حاسمة للحفاظ على وضعنا في الكويت . وعلى الولايات المتحدة أن تتخذ اجراءات مماثلة تتعلق بحقول نفط الارامكو في العربية السعودية . والامريكيون موافقون على بقاء حقول النفط في الكويت ، والعربية السعودية والبحرين وقطر ، بيد الغربيين مهما كلف الثمن .
ثم أوجز الوزير البريطاني المصالح الرئيسية للانكليز والغرب في الخليج :
ـ التأكيد على ضرورة وصول بريطانيا والدول الغربية الاخرى إلى بترول الخليج وصولا حرا.
ـ التأكيد على بقاء البترول تحت تصرفنا وعقد اتفاقيات لصالحنا " وبالجنيه الاسترليني " ، واتخاذ ترتيبات مقبولة لاستثمار فائض عائدات البترول في بلادنا .
وقف تقدم الشيوعية والشيوعية المموهة في هذه المنطقة التي تسعى لاحتواء الحركة القومية التي يستخدمها السوفييت إلى هذا المنطقة .
وتدافع وثائق امريكية تعود لنفس الفترة عن الاهداف الانكليزية وبعبارات مشابهة ، ونورد هنا مقطعا من وثيقة مجلس الامن رقم 5801 / 1 ، بعنوان " القضايا الناتجة عن الوضع في الشرق الادنى " :
تؤكد المملكة المتحدة ، أن الاستقرار الحالي ، سيواجه تهديدا خطيرا ، فيما إذا تعذر الوصول إلى بترول الكويت والخليج ، في ظروف مفهومة . ومن جهة أخرى لا تستطيع انكلترا أن تستغني عن الاستثمارات الضخمة لهذه المنطقة في المملكة المتحدة ، كما أن الجنيه الاسترلييني يحتاج لمساندة بترول الخليج " الفارسي " .
وتحمل ، هذه " اللزوميات " البريطانية ، أضافة إلى حقيقة أن واردا مؤكدا من البترول ضروري لحيوية الاقتصاد الاوروبي الغربي ، تحمل إلى الولايات المتحدة حجة أكبر ، لتدعم ، أو تساعد إذا لزم الامر ، الانكليز ، بالقوة اللازمة لاستمرار سيطرتها على الكويت والخليج " العربي " .
وهكذا اعتبر ايزنهاور الشرق الاوسط ، وكأنه المنطقة الاستراتيجية الاكثر اهمية في العالم . وكانت الولايات المتحدة ، غداة الحرب العالمية الثانية ، قد جهزت خططها الجيوسياسية : " صاغت مجموعة من الدراسات التي أجراها كل من مجلس العلاقات الخارجية " الذي يمارس فيه عالم الاعمال تاثيرا كبيرا على السياسة الخارجية ، ووزارة الخارجية مفهوما اطلق عليه اسم " المنطقة الكبرى " ، وهي منطقة يجب أن تخضع لمصالح الاقتصاد الامريكي ، والتي يجب ان يضم ، على الاقل ، نصف الكرة الغربي ، والشرق الاوسط ، والامبراطورية البريطانية القديمة .
ويتوجب ، بحسب الامكان ، تطوير هذا المفهوم لتكوين نظام شامل ، يضم في كل الاحوال أوروبا الغربية ومصادر الطاقة الفريدة في الشرق الأوسط ، التي بدأت فعليا بالانتقال إلى الأيدي الأمريكية .
وفي كتاب " الولايات المتحدة والأبعاد الإستراتيجية لمشروع مارشال " للكاتب ميلغن ليفر ، جاء ما يلي :
" ان المفهوم الأمريكي للأمن القومي … يتضمن ايجاد منطقة نفوذ استراتيجية في قلب نصف الكرة الغربي " وهي دائرة تتواجد فيها أوروبا بالضرورة " ، ولذلك يجب إقصاء نفوذها ـ يقصد أوروبا ـ ، بحيث يشمل النفوذ الاستراتيجي السيطرة الاقتصادية ، والهيمنة على المحيط الهادي والأطلسي ، ونظام شامل لبناء قواعد خارجية ، لتوسيع الحدود الاستراتيجية ، وترسيخ السلطة الامريكية ، ونظام اكثر تركيزا على حقوق الترانزيت كي يسهل تحول القواعد التجارة إلى قواعد عسكرية ، والوصول إلى مصادر الثروة ، وأسواق القسم الاعظم من " أوراسيا " ، ومنع أي عدو من الوصول إليها ، وأخيرا تحقيق التفوق النووي " .
ويسمح لنا هذا المفهوم الاستراتيجي ، بفهم آلية الحرب الباردة بعد عام 1948 بشكل أفضل . وتلعب سياسة " الإفراط في التسلح " دورا حاسما في هذه البرمجة .
قال مجلة وول ستريت (1951) : " إنه من الواضح ، وجود إمكانية لانفاق مستمر على التسلح في هذه البلاد " . وتحرك النفقات العسكرية للولايات المتحدة ، الانتاج الصناعي الأوروبي بشكل لا يمكن تجاهله ، كما أن شراء المواد الأولية الاستراتيجية من المستعمرات الأوروبية ، يقلل من عجز الدولار ، بنسبة تضاهي المساعدة التي قدمها مشروع مارشال لبريطانيا ، والتي علقت عام 1950 . بينما وجد هوغان ، أن النتائج على المدى الطويل كانت عكس ذلك . ففي اليابان لعبت النفقات العسكرية للولايات المتحدة ، وخاصة بسبب الحرب الكورية ، دورا جوهريا في إعادة بناء الصناعة اليابانية بعد الحرب ، واستفادت كوريا الجنوبية من حرب فيتنام ، بنفس الأسلوب ، وبنفس الوقت الذي أفادت منه الدول الحليفة للولايات المتحدة .
كان دور العالم الثالث ، خدمة احتياجات المجتمعات الصناعية ، ففي أمريكا اللاتينية ، كما في أي مكان آخر ، كانت حماية " مواردنا الطبيعية " أمرا جوهريا ، حسب تعبير جورج كينان ، الذي رأى انه " طالما أن تهديد مصالحنا ، نابع بالضرورة ، من السكان الأصليين في المناطق المختلفة ، فإن علينا ادراك أن الرد المناسب سيكون غير مستحب " . وعنى بالرد المناسب ، الضغوط البوليسية التي تمارسها الحكومات المحلية . " يجب أن لا تثير إجراءات القمع الشديدة التي تمارسها الحكومات ، مشاعرنا طالما أنها تخدم أهدافنا " .
وتابع : " وبشكل عام ، من الأفضل أن نضع في السلطة نظاما قويا ، بدا من حكومة ليبرالية ، يرى فيها الشيوعيون في حكومة متساهلة ومتراخية وهو ما يفضلونه " . وتستخدم كلمة " شيوعيون " في الخطاب الأمريكي كتعبير فني ، يقصد به النقابيون ، ومنظموا الجماهير الفلاحية ، والجماعات المساندة التي أسسها القساوسة ، وبشكل عام كل أولئك الذين يسعون لأهداف ليست " سليمة " سياسيا. أما " الغايات الخيرة " فقد حددتها أعلى المستويات ، وفي وثائق في منتهى السرية . أتى الخطر الاكبر على المصالح الأمريكية من الأنظمة القومية ، التي هي صدى للضغوط الشعبية الهادفة لتحقيق تحسين فوري في المستوى المنخفض ، لمغيشة الجماهير ، وكذلك تنويع الاقتصاد. " وتدخل هذه المطالب في صراع ، ليس مع حاجتنا لحماية مواردنا فحسب ، بل أيضاً مع همنا في تشجيع قيام مناخ ملائم للإستثمار الخاص ، وضمان فوائد معقولة لمن يحملون رؤوس أموالهم إلى تلك البلاد " ، (وثيقة مجلس الأمن القومي 5432 ، 18 آب 1959) .
وتبعا لما قاله ديك شيني ، وزير الدفاع ، الذي يشاطر الرئيس بوش أفكاره " فالولايات المتحدة بحاجة دائما لأسطول قوي (وبشكل عام قوات تدخل من جميع الأنواع ) لمواجهة الصراعات الخفية ، وحماية المصالح الأمريكية في آسيا، وأمريكا اللاتينية على سبيل المثال " .
ويتابع شيني : " ستصبح قوتنا العسكرية في المستقبل ، عنصرا ضروريا لتوازن القوى ، ولكنها ستؤكد وجودها بطريقة مغايرة . من المحتمل جدا أن تواجه تعبئة قدراتنا العسكرية تحديا لا من الاتحاد السوفيتي فحسب ، بل من العالم الثالث أيضاً ، وهذا يستدعي قدرات جديدة ، وتوجهات محددة " .
فيما يتعلق بالتطورات الحالية لسياسة الاستيطان في فلسطين ، لم يكن هناك ، ولو للحظة واحدة ، أية فرجة صغيرة تبعث الامل من خلال ما اتفق على تسميته بعملية السلام ، وهو تعبير غامض لانه لا يمكن تحقيق السلام إلا من خلال تطبيق كامل لقرارات الأمم المتحدة ، وقد انتهكت هذه القرارات باستمرار من قبل إسرائيل ، وبشكل خاص كل ما يتعلق بالضفة الغربية، وزرع المستوطنات ووضع القدس .
وقال نعوم شومسكي في كتابه " إعاقة الديمقراطية " : أنهت الولايات المتحدة وإسرائيل مساعيهما الدبلوماسية الخاصة لنزع فتيل الخطر الناجم عن إنجاز عملية سلام حقيقي . وكان تحالف الليكود وحزب العمل ، قد اقترح عام 1989 ما سمي بخطة شامير ـ بيريز . وكانت المبادئ الأساسية لهذه الخطة :
ـ لن يكن هناك دولة فلسطينية في قطاع غزة ، وفي المنطقة الواقعة بين إسرائيل والأردن .
ـ لن يحدث أي تغيير في وضع " يهود والسامرة " وغزة ، خارج الخطوط التي رسمتها حكومة إسرائيل ، التي ترفض حق تقرير المصير للفلسطينيين . ويعكس تعبير " لا دولة أخرى في فلسطين " ، رأيا مشتركا أمريكيا ـ إسرائيليا من منطلق أن الدولة الفلسطينية قائمة فعلا ، وهي الأردن . وانطلاقا من هذا الرأي ، لن يكون هناك حق تقرير المصير ، بعكس ما يعتقده الأردنيون والفلسطينيون والأوروبيون وبعض المضللين الآخرين .
وتأخذ هذه المبادئ الاساسية بالحسبان " اللاءات الاربعة " الواردة في برنامج حزب العمل وهي : لا عودة لحدود عام 1967 ، لا لإلغاء الاستيطان ، لا للتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية ، لا للدولة الفلسطينية .
بعد كل هذا .. دعت الخطة لإجراء انتخابات حرة ديمقراطية في ظل الاحتلال العسكري الإسرائيلي ، مع استبعاد منظمة التحرير الفلسطينية .
أضفت الولايات المتحدة الشرعية على هذا المشروع . وقال جيمس بيكر إن " هدفنا دائما أن نسير في ظل معاني مبادرة شامير ، وليس لدينا أية خطة أخرى ، ولا أي اقتراح آخر".
وفي عام 1989 ، نشرت الخارجية الامريكية " خطة بيكر " ، التي اشترط فيها أن تتحاور اسرائيل مع مصل ، ومع بعض الفلسطينيين المقبولين والمخولين للبحث في كيفية خطة شامير … ولا شيء آخر .
والحقيقة أن السياسة الامريكية تدار عن طريق اللوبي الصهيوني القوي في الولايات المتحدة ، وهو اللوبي الذي دعته جريدة النيويورك تايمز " اللوبي الأشد تأثيرا … إنه قوة كبرى في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط " . وتقدر النيويورك تايمز أنه يستند إلى ما لا يقل عن 40 ـ 45 سناتورا ، ومئتي نائب من أصل 435 .
ويمثل اليهود الأمريكيون الذين لا يتجاوزون 6 , 2 % من السكان ، 20 % من أصحاب الملايين ، حسب مجلة فوريس ، وكلهم مستعدون لمكافأة الأصوات التي تصب في صالح اسرائيل ، وفق توجيهات لجنة الشؤون العامة الامريكية الاسرائيلية " إيباك " . وقد أنفقت هذه اللجنة عام 1987 أكثر من 000 ,900 ,6 دولار (وول ستريت جورنال 24 حزيران 1987) .
في ظل هذا النفوذ ، تتلقى إسرائيل أكثر من ثلاثة مليارات دولار سنويا ، باسم مساعدة اقتصادية وعسكرية ، وهو ما يمثل 700 دولار لكل اسرائيلي في العام .
مقابل ذلك تتلقى أفريقيا باستثناء مصر ـ مساعدة ، يبلغ نصيب الفرد فيها 2 دولار في السنة (لوموند ديبلوماتيك . آب 1989) .
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، أصبح الموضوع الرئيسي للسياسة الامريكية ، وضع اليد على البلدان النامية . وكانت دول الجنوب قد تلقت في الماضي ضربة نموذجية للتوقف عن محاولتها لاستخدام ثرواتها الوطنية لخدمة شعوبها ، وذلك عندما أطيح بالرئيس مصدق ، وأعيد الشاه إلى حكم إيران . وكذلك كان خطر القومية قد أصبح من المسلم به في وسائل الاعلام . وقد سمح نجاح الانقلاب العسكري المدعوم من المخابرات المركزية الأمريكية في الإطاحة بالنظام البرلماني لمصدق ، الرئيس الإيراني القومي المحافظ ، واستعادة سلطة الشاه ، سمح لشركات البترول الأمريكية أن ، تستولي على 40 % من الحصة البريطانية من بترول إيران . ووصفت النيويورك تايمز بأنه خبر ممتاز ، على الرغم من أنه كلف غاليا كل الاطراف المعنية " وبالضرورة الجانب الإيراني " . وقالت إن على الجميع أن يتعلموا منه الكثير ، فيما لو كانوا يستخلصون الدرس من الأحداث . وكان الدرس المطلوب تعلمه ، كما أوردته النيويورك تايمز بدون غمغمة ، وبكلمات تتصف بكامل الوضوح : من المستحسن للدول النامية التي تملك ثروات طبيعية هامة أن تتأمل هذا الحدث المثال . لو أنها اقتفت آثار هؤلاء الذين يتواجدون في ظهرانيها ، ويبشرون بالهذيان القومي، فسيكلفها ذلك غاليا. وقد تحتاج هذه الدول إلى التجربة الإيرانية لردع أمثال مصدق من الذين يسعون للوصول إلى السلطة. وتضع هذه التجربة أوراقا رابحة في أيدي القادة " المتنورين " الذين يواجهون الأمور بمنطق يتطلع إلى المستقبل البعيد، ويملكون فكرة واضحة عن " أولوياتنا ".
وجرى تطبيق هذا الاطار في مناطق محددة . كان فريق العمل الذي رأسه جورج كينان عام 1949 ، لتخطيط سياسة وزارة الخارجية قد رأى أن لدول جنوب شرق آسيا وظيفة جوهرية هي تزويد اليابان وأوروبا الغربية بالمواد الأولية ، وفتح أسواقها لهما . وقاد هذا الأمر إلى التدخل الأمريكي في الهند الصينية . كان الهدف محاصرة الاستعمار الفرنسي أولا ثم الحلول محله . وخشيت أمريكا أن يصبح استقلال فيتنام بمثابة " فيروس " قومي ينتشر في كل جنوب شوق آسيا.
وأشارت وثيقة صادرة عن المخابرات المركزية في 13 أيار 1965 إلى أنه في أي مكان لا نتمكن فيه من السيطرة المباشرة على القوات العسكرية وقوات البوليس ، على غرار نيكاراغوا بعد سيموزا أو باناما ، يصبح من الضروري الإطاحة بالحكومة وإقامة نظام أكثر مسايرة ، وإحياء وتقوية " جيش شرعي " على غرار الحرس الوطني في نظام سيموزا ، الذي كان اكثر الانظمة تفضيلا لدى الولايات المتحدة .
وفي مجلة " نيشن " ، في عدد 1 حزيران 1990 ؛ كتب ميشيل كلير ، تحت عنوان : عسكرية الولايات المتحدة تواجه الجنوب ، أن " الكليات العسكرية ، تقوم بتغيير برامجها لتلائم الاهداف المرسومة . وهكذا أعلنت كلية حرب الأسطول أن دراسة استراتيجيات الحرب يجب أن تشدد على الحرب " المدنية " ، والإرهاب ، والأزمات ضغيفة الشدة ، كغزو بناما مثلا . وتستدعي الأشكال الجديدة للصراع " المتوسط الشدة "، مع الأعداء الأقوياء في العالم الثالث ، انتباها خاصا ، لو أخذت بعين الإعتبار الحاجة الحيوية لبسط سلطة معنية على أقاليم أخرى ، ليبقى متاحا الوصول إلى الأسواق والمواد الأولية في المناطق البعيدة ".
نفس المسائل ، طرحها رئيس أركان البحرية ا . م . جراي ، فقد أعلن أن " نهاية الحرب الباردة ستعيد توجيه سياستنا الأمنية الخارجية ، دون تغيير الأسس ، وسيكون صراع الشمال والحنوب هو الحد الفاصل الحتمي " .
قال غراي في مجلة الأسطول في أيار 1990 :
" يجب ضمان وصولنا إلى الأسواق الاقتصادية في العالم كله ، دون عقبات ، وكذلك إلى المصادر الضرورية لتأمين احتياجاتنا الصناعية . لذلك يتوجب علينا إيجاد قدرة موثوقة للتدخل المسلح ، مع قوى غزو فعلية قادرة على تنفيذ طيف واسع من المهمات ، بدءاً من الرد على العصيان في الحرب النفسية ، مرورا بنشر قوات من كافة الاصناف . وعلينا أن نحترس أيضاً من التطور التكنولوجي السريع للسلاح الذي يمكن أن تصل إليه القوى الاقليمية الجديدة في العالم الثالث . إذن ، علينا أن نطور قدرات عسكرية موجهة مستثمرين تطبيقات الالكترونيات وعلم الموراثات والبيولوجيا الحيوية تريد أمتنا أن تؤكد مصداقيتها خلال القرن المقبل " .
ولاحظ المؤرخ ريتشارد ايمرمان ، أن " القوة والأمن الأمريكيين ، اعتمدا على الوصول إلى أسواق العالم ومواده الأولية ، ويشكل خاص العالم الثالث الذي توجب السيطرة عليه بشكل دقيق".
ولقد تأكدت الارادة السياسية للسيطرة على العالم ، وبكثير من الوقاحة بعد تدمير العراق . أمامنا وثيقتان واضحتان جداً ، صدرتا عن البنتاغون . كتبت الوثيقة الاولى باشراف بول ولفوفيتش ، وكتبت الثانية باشراف الاميرال جيريميا ، الرئيس المساعد للجنة رؤساء الاركان . وهذه أربع مقاطع من الوثيقتين :
ـ الولايات المتحدة ، هي ، وبشكل قاطع حامية النظام العالمي ، وعليها أن تضع نفسها في وضع تستطيع من خلاله التحرك بشكل مستقل عندما لا تتوفر ظروف العمل الجماعي أو في حالة وجود أزمة ما تستدعي القيام بعمل فوري .
ـ يهدف التحرك إلى منع قيام نظام امني أوروبي مستقل يكون قادرا على زعزعة استقرار حلف الاطلسي .
ـ يجب استيعاب ألمانيا واليابان في نظام جماعي للأمن تقوده للولايات المتحدة . العمل على قهر خصوم محتملين ، ما كان عليهم التطلع للعب دور أكبر .
ولتحقيق هذا الدور لابد لهذه القوة العظمى المنفردة أن تتمتع بقيادة خلاقة ، وقوة عسكرية كافية لاقناع أي أمة من الأمم ، أو أي مجموعة من الأمم أن تقلع عن تحدي تفوق الولايات المتحدة ، وأن تحسب حسابا كافيا لمصالح الأمم الصناعية المتقدمة ، بقصد إثنائها عن تحدي القيادة الامريكية ، أو وضع النظام الاقتصادي أو السياسي موضع خلاف .
هذا التسلط ، الذي بدأ بأكبر حملة عرقية ، وهي إبادة هنود أمريكا ، ثم استمر من خلال الرق والتمييز العنصري ضد السود ، وحماية طغاة أمريكا اللاتينية الاكثر دموية في العالم كله ، ثم على امتداد العالم كله ، من موبوتو في إفريقيا ، حتى ماركوس في الفليبين ، وارتكاب المجازر مثل يوم القيامة في هيروشيما ، ومجزرة العراق ، وما ترتب على ذلك ، من خلال التدخل المباشر ، أو بواسطة قادة الانقلابات العسكرية ، من ضحايا انسانية لم يعرف مثلها التاريخ كله.
وسنكتفي بذكر بعض الفصول المعاصرة : في فيتنام سقط أربعة ملايين قتيل ، وفي تيمور الشرقية 200 ألف ، وكذلك 200 ألف في أمريكا اللاتينية بواسطة " زبائن " أمريكا ، و200 ألف في لبنان دون أي رادع ، بفضل استخدام حق الفيتو في مجلس الامن ، وهناك مئات الألوف في الفليبين ، و200 ألف في أمريكا الوسطى .
حتى الصحفيين الامريكيين الاكثر رزانة ، خلطوا في حساباتهم ، عندما رسموا ميزانا لهذه الجرائم ، بين الدولار والاموات . نذكر منهم هاج سيدني الذي كتب رسالة إلى رونالد ريغن في مجلة التايمز حول نيكاراغوا : " تقترب نتائج أحداث نيكاراغوا ، من تلك التي بحثت عنها الولايات المتحدة منذ وقت طويل، في مسعاها للدفاع عن الحرية ، كانت الخسائر قليلة ، إذ لم تتعد 300 مليون دولار قدمت مساعدة إلى الكونترا ، و3 , 1 مليون في الحرب الاقتصادية . لنقارن هذه الخسائر مع خسائرنا في فيتنام : 58000 قتيل و 150 مليار دولار من النفقات ، وأمة غرقت في المرارة ، والهزيمة القاسية " .
وعن هذا المنحى الاخير الذي أصبح واضحا منذ غزوات كوريا ، والعراق والصومال ، وأماكن أخرى ، كتب دين أتشيسون ، وزير الخارجية مبشرا ومنذرا: إذا كانت سياستنا الواقعية ، قد أعطت عهودا للحفاظ على تايوان ، وإذا كان علينا أن نتدخل عسكريا لحمايتها ، فسيكون ذلك مستترا تحت راية الامم المتحدة ، مع النية المعلنة لدعم المطالب الشرعية للتايوانيين في حق تقرير المصير " .
وكان تشكيل فرق الموت ، ضد رجال الدين ، لخنق كل إحتجاج من أية جهة جاء ، اكثر فاعلية ومضاء .
ففي تشرين الثاني 1989 ، وصف الاب يغناسيو ايلاكوريا رئيس جامعة الجزويت ، الذي اغتيل فيما بعد ، وصف السلفادور بانها " الحقيقة الممزقة بجروح تكاد تكون مميتة " . كان الاب ايغناسيو قريبا جدا من رئيس الاساقفة روميرو الذي كتب إلى الرئيس كارتر يشكو عبثا من عدم ايقاف المساعدات للفئة الحاكمة . وابلغ رئيس الاساقفة صديقه ايلاكوريا ان الباعث على رسالته ، كان المفهوم الجديد " للحرب الخاصة " ، الذي تضمن الوقوف بحزم وبشكل مطلق ضد كل محاولة لانشاء تنظيم شعبي الغاء مطلقا بدعوى الشيوعية والارهاب .
وليست الحرب الخاصة ، التي يسمونها احيانا مقاومة العصيان ، وأحيانا أخرى صراعا ضعيف الشدة ، أو أي تورية مشابهة من هذا النوع ، ليست الا ارهابا دوليا ، وهي السياسة الرسمية للولايات المتحدة منذ زمن طويل ، إنها سلاح في ترسانة كبيرة تستخدم في مشاريع اجتماعية ـ سياسية ، أوسع مدى .
وهكذا ، في مارس 1980 ، اغتيل المونسينور روميرو ، رئيس أساقفة السلفادور بينما كان يرعى قداسا كنسيا . حدث هذا الاغتيال باسم الديمقراطية الامريكية الهادفة لاسكات كل احتجاج ، ولم يفاجئ هذا الاغتيال احدا ، بعد أن كتب رئس الاساقفة لكارتر يدعوه لايقاف مساعدته للفئة الحاكمة ، مؤكدا له أن هذه المساعدات تستخدم لدعم الظلم وممارسة الضغوط على المنظمات الشعبية المناضلة في سبيل احترام حقوق الإنسان الاساسية .
كان رئيس الاساقفة قد وضع اصبعه على المشكلة التي يجب التغلب عليها ، وهي مشكلة " التورية والتموية " والبيانات الغامضة الهادفة لاخفاء حقيقة الاحداث .
كان مطلبه الحصول على ضمانات من الولايات المتحدة ، أن لا تتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال أساليب مراوغة للضغط الاقتصادي أو الدبلوماسي ، أو أي شكل آخر من الضغوط ، تعرض الشعب السلفادوري لمخاطر الفناء .
ووعدت الولايات المتحدة أنها ستعيد تقييم منح المساعدات للفئة الحاكمة إذا توفرت لها البراهين عن الاستخدام السيئ لها . واعقب هذه الوعود ، اغتيال رئيس الاساقفة ، وسحقت قوى الامن المنظمات الشعبية بشراسة وحشية منكرة ، على غرار ما حدث في مذبحة ريو سامبول ، التي وقعت في ظل صمت وسائل الاعلام المقهورة .
وجاء في مقالة لامريكاس واكش ، بمناسبة الذكرى العاشرة لاغتيال رئيس الاساقفة روميرو : " أوضح التقرير عن كتيبة أتلاكاتل استمرارية السياسة الامريكية . فجنود هذه الكتيبة قد دربوا على اطاعة أوامر رؤسائهم ، الذين يكلفونهم بمهمة اغتيال رجال الدين ، عمدا وبأعصاب باردة " واستعرضت المجلة الاعمال الدقيقة لهذه الوحدة المشكلة من " النخبة " التي دربتها الولايات المتحدة وجهزتها . وقد وصف بروفيسور يعمل في المدرسة الحربية الامريكية " في فورت بينينغ ـ جورجيا هؤلاء الجنود بانهم متوحشون بشكل خاص ، انه لامر سيئ أن نعلمهم كيف يسجنون الناس ، فكيف بالاخرى عندما يقطعون آذانهم " . وقد شاركت هذه الوحدة ، في كانون الأول 1981 في عملية قتل خلالها مئات من المدنية في حفل قتل صاحب رافقته عمليات اغتصاب وحرق . وقدر المكتب القانوني للكنيسة عدد الضحايا باكثر من ألف قتيل . وتتابع هذا الاسلوب ، فقصفت قرى ، ومات مئات من المدنيين ، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ حصدهم الرصاص ، أو اميتوا غرقا .
هذا هو باختصار ما سمي بالحرب الخاصة في السلفادور ، بدءا من العملية العسكرية التي جرت على نطاق واسع في أيار 1980 ، عندما ذبح 600 مدني ، ومثل بجثهم في ريوسومبول . وقد اشترك في هذه المذبحة الجيشان السلفادوري والهندوراسي . وكشفت الكنيسة هذه المجزرة ، وتابعها المحققون في انتهاكات حقوق الإنسان ، وكتبت عنها الصحافة الاجنبية . أما وسائل الاعلام الامريكية ، فلم تتحدث عنها أبدا ، لانها شاركت عمليا في الحرب النفسية حسب الدور الذي رسم لها .
واكدت لجنة المحامين في رسالة إلى وزير الدفاع ديك تشيني ، في العشرين من نيسان ، بان قتلة الجزويت جرى تدريبهم من قبل القوات الخاصة الامريكية ، إلى ما قبل المجزرة بثلاثة ايام . وذهب الاب جون كورتينا ، عميد كلية العلوم في جامعة الجزويت إلى ابعد من ذلك ـ إذ أكد أن الجنود الامريكان الذين تخفوا بضعة ايام في فندق سان سلفادور ، خلال الحدث الذي أثار ضجة كبرى ، كانوا المدربين العسكريين الذين دبروا العملية . وقبل بضع سنوات وقعت مجازر أسوأ ارتكبتها وحدة الاتلاكاتل ، بعد تدريب عسكري امريكي .
بعد هذا الاستعراض لتاريخ الولايات المتحدة ، منذ عمليات النهب الأولى ، وعمليات ابادة السكان الاصليين ـ وانتهاء بعمليات السنين الاخيرة ، نجد من الضروري أن نضع كشف حساب لما اتفق على تسميته " بالديمقراطية الامريكية "، لنبدد الاوهام والاكاذيب . حول طبيعة الحرية التي تمنحها أمريكا لنفسها عبر العالم كله ، وكأنها الضامن لها أو الكفيل .
في البداية ، ولننطلق من داخل البلاد نفسها ـ نجد أن ما يطيع الولايات المتحدة عدم المساواة المتزايد في توزيع الثروة ، وينتج عن ذلك ، عدم المساواة في ممارسة السلطة .
في عام 1900 امتلك 1/ 8 من العائلات الامريكية 17 % من الثروة الوطنية . وكان جيمس تروسلو آدومز ، قد تحدث منذ بداية القرن العشرين ، وتحت عنون " عصر الديناصورات " عن السيطرة الوحشية للمجوعات المصرفية والصناعية الضخمة ، واصفا اياها بالعناكب الهائلة التي ظهرت في فيلم حديث ، مشكلة نوعا من الرمز المرعب للعالم الذين تطور منذ تلك العصور.
ولكن اللامساواة لم تتوقف عن النمو : فحسب تقارير البنك الدولي ، انخفضت حصة البلدان الفقيرة ، البلدان الاكثر فقرا من ثروات العالم من 23 % إلى 18 % فقط ، وذلك بين عامي 1980 و1988 . كما سلط البنك الاضواء ، عام 1989 ان انتقال الثروات من البلدان الاخذة في النمو إلى البلدان الصناعية قد بلغ مستوى جديدا ، فتسديد القروض قد تجاوز 9 , 42 مليار دولار ، بزيادة 3 مليار دولار بالمقارنة مع عام 1988 أما حصة البلدان الغنية من رؤوس الاموال فقد انخفضت إلى ادنى مستوى خلال السنوات العشر الماضية .
أبرز الصحفي ديريك جاكسون في صحيفة " بوستون غلوب " هذه الحقائق ، ولفت الانتباه إلى ان اليونيسيف وضعت سويسرا في المرتبة الأولى لدخل الفرد ، قبل الولايات المتحدة التي جاء ترتيبها الثاني والعشرين ، بعد ايرلندا واسبانيا بينما كانت في المرتبة العاشرة عام 1960 . أما ما يتعلق بالافارقة الامريكان فقد تضاعفت نسبة الوفيات عمليا بالنسبة للمعدل الوطني . وفي بوسطن وفي حي روكسبري ، المزدحم بالضرورة بالاقليات الاثنية ، وصلت النسبة إلى ثلاثة اضعاف المعدل الوطني ، وبذلك يصبح هذا الحي الذي ينتسب إلى الامة الاغنى في العالم بعد سويسرا، في المرتبة 24 فيما يتعلق بوفيات الأطفال .
وأشارت دراسة أعدت عقب أحد المؤتمرات ونشرت في مارس 1989 ، إلى أن عائدات دولة ترتيبها الخامس بين الدول الاكثر حرمانا تناقصت 6 % ما بين عامي 1979 ـ 1987 وأما الدولة الاكثر غنى والتي ياتي ترتيبها الخامس بين الدول الغنية ، فقد ازداد دخلها بنسبة 11 % . وتأخذ هذه الاحصائيات نسبة التضخم المبالغ المرصودة للمساعدات الاجتماعية . أما العائدات الفردية في الدولة التي تحتل المرتبة الخامسة بين الدول الاكثر حرمانا فقد انخفضت 8 , 9 % بينما ارتفعت هذه العائدات في الدولة التي تحتل المرتبة الخامسة بين الدول الاغنى ، إلى 15 %.
ويعترف نفس التقرير بهذا " التمييز العنصري " الاقتصادي بقوله : إن الهوة التي تفصل الامريكان الاغنياء عن الفقراء ، اتسعت خلال عقد الثمانينات إلى درجة أن المليونين ونصف من الاغنياء سيتلقون وحدهم عام 1990 ، نفس حجم الدخول التي يتلقاها مئة مليون من الفقراء الذين يقعون في أسفل السلم .
وفي عام 1996 ، أشار السيد جيمس جوستاف سبيث " برنامج الامم المتحدة للتنمية " في مقابلة مع جريدة اللوموند ، إلى أن الفاصل بين البلدان الغنية والعالم الثالث يستمر في الاتساع . واستنكر سبيث اسطورتين : الاولى وتتحدث عن أن العالم الثالث سيستفيد من النمو المتواصل ، والثانية التي تتحدث عن القطاع الخاص كحل معجز لمشاكل التنمية .
أوضح السيد سبيث : هناك اسطورة أولى يجب التغلب عليها ، تتعلق بالعالم النامي ، وهي الزعم بانه سينتقل من حسن إلي أحسن بفضل عولمة الاقتصاد في ظل قيادة الدول الخمس العملاقة . والحقيقة أن دخل الفرد الواحد في اكثر من مئة دولة هو اليوم اقل مما كان عليه قبل خمس سنوات . وبشكل أوضح فإن 6 , 1 مليار انسان يعيشون اليوم في مستوى أسوأ مما كانوا عليه . ففي بداية الثمانينات . وخلال جيل ونصف اتسعت الهوة بين الدول الاكثر فقرا التي تشكل 20 % من العالم ، والدول الاكثر غنى التي تشكل 20 % منه . أما اليوم فإن الفارق هو واحد إلى ستين ، على الرغم من أن الثروة العالمية قد ارتفعت بشكل عام. ويقع العالم الثالث ضحية اسطورة مؤذية اخرى وهي الاعتقاد بان القطاع الخاص يتضمن الترياق لكل العالم . وفيما عدا عولمة التبادل ، لا ينتظر من الاستثمارات الخاصة أن تقود بشكل طبيعي إلى خلق " عالم متساو " . وليس هناك من صلة بين احتياجات بلد ما والاستثمارات الاجنبية المباشرة داخل هذا البلد . وكلمات الخصخصة ، وتحرير الاقتصاد ، والتحلل من القوانين واللوائح ، وهي الكلمات السائدة في عالم الليبرالية في نهاية هذا القرن ، هي التي ستهل عمليات النمو ، ولكنه نمو بصاحبه فقر كبير وعدم مساواة تزداد عمقا ، ومعدلات بطالة في حالة ارتفاع دائم .
وفي الجامعات ، ذات المستوى الارقى ، يسود قانون السوق ، ففيها يكلف الطالب أسرته ما بين 100 ـ 150 ألف فرنك في السنة للحصول على شهادة دراسية واحدة . أما ما يخص تعليم عامة الشعب ، " فنظام التعليم الامريكي يسقط شظايا " كما ورد في التقرير الذي أعده اختصاصيون من جامعة كولومبيا (مجلة الاقتصاد العالمي 1990) . واعترف 40 % من الفتيان الامريكان الذين أموا المدارس مثلا أنهم لا يعرفون القراءة بشكل صحيح . إن 23 مليون من اليافعين وفي موضوع الصحة ، تعد الولايات المتحدة ، فيما يتعلق بالعيادات والمستشفيات ، ومراكز الابحاث من أفضل الدول في العالم . لكن نظامها الصحي يوحي بالكارثة . فهي تعتبر في المرتبة الثانية والعشرين بين دول العالم في معدل وفيات الأطفال أما حصة نفقات الصحة العامة ، فهي أدنى نسبة بين كل بلدان الديمقراطيات الغربية .
ويؤدي عدم المساواة إلى الغش والفساد . وتقدر الاجهزة المالية الامريكية ان 20 % من الضرائب الفيدرالية لم تسدد وقد بلغت عام 1989 مئة مليار دولار . أما " الغرغرينا " فهي تنشط في قلب النظام نفسه فخلال عشر سنوات تمتد بين عامي 1980 ـ 1990 بلغ عدد القضاة الذين أدينوا بالتلاعب بالاموال العامة والفساد أعلى من عددهم في المئة وتسعين عاما السابقة من تاريخ الولايات المتحدة .
ولأن مقاييس اختيار الشخص الافضل ، هي دائما لصالح الاغنياء ، فانها تقود في النهاية إلى اعطائهم السلطة . وقد أكد جون جاي رئيس المؤتمر القاري والرئيس الأول للمحكمة العليا في الولايات المتحدة أن : " البلاد يجب أن تعطى لمن لملكها ". لقد وضع النظام السياسي ، شأنه في ذلك شان النظام الاجتماعي ، في خدمة مصالح الطبقة التي تحتكر الملكية .
أما السياسية التي تفترض أنها تنظم الدولة فقد دخلت في دوامة السوق ، فكل وظيفة لها ثمنها . فقد احتاجت الحملة الانتخابية لانتخاب أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب عام 1988 ، إلى ميزانية دعائية بلغت 50 مليون دولار ، وهو ما يزيد عشر مرات عما انفق في انتخابات 1971 .
مثل هذه التناقضات بين الطبقة المتميزة المتجبرة ، وبين الطبقة المستعبدة ، تولد عنفا شاملا لا ضابط له ، مع انفجارات فردية في الاطراف ، تعبر عنها أمثلة كثيرة . ففي نيويورك وحسب احصاءات الشرطة ، تقع في المتوسط عملية قتل كل أربع ساعات ، وتقع عملية اغتصاب كل ثلاث ساعات . وهناك محاولة اعتداء كل ثلاثين ثانية . ومع ذلك فنيويورك تقع في المرتبة العاشرة بين المدن الامريكية في معدل الجريمة . وفي عام 1989 تم إحصاء 21 ألف عملية قتل في الولايات المتحدة ، وضمت سجونها أكثر من مليون سجين ، وثلاثة ملايين تحت المراقبة القضائية .
هذه هي تبعات اقتصاد السوق الوحشي ، حيث تسيطر، كما كتب هوبز ، عند فجر الرأسمالية ، حالة " حرب يشنها الجميع ضد الجميع " . إن منطق سوق بلا قيود ، مع ما يحمله من تضارب في المصالح بين الافراد والجماعات الذين لا يرون الا مصالحهم الخاصة ، هو الحقيقة منطق الحرب .
إن الازمة البنيوية في العالم الثالث هي ، بشكل خاص عميقة في أمريكا اللاتينية . والتورط الكثيف للولايات المتحدة في أمريكا الوسطى منذ عام 1979 ، إنما كان نتيجة استراتيجية تنمية مبنية على زراعة موجهة للتصدير . وأدت هذه الاستراتيجية إلى هجرة المجتمع الريفي ، والى تبدلات عميقة في علاقة الفلاحين بالارض ، محطمة المجتمع التقليدي دون أن يحل محله تنظيم اجتماعي ثابت وقابل للاستمرار . ويعكس تحويل أمريكا اللاتينية إلى مجتمع مديني (في عام 1960 كان يعيش 49 % من السكان في المدن ، وارتفع الرقم عام 1989 ليصبح 70 % ) بؤس التنمية الزراعية ، ويفسر انتقال الفلاحين إلى المدن المزدحمة مشكلين سكانا هامشيين . ونرى الحالة نفسها في العالم الثالث كله . ولم يتوقف عدم الاستقرار عن الاتساع منذ أعوام السبعينات التي اتصفت بالمديونية ، وانخفاض مستويات تبادل السلع غير المرتبطة بالطاقة " تقرير البنك الامريكي للتنمية ".
في عام 1988 ، دفعت دول العالم الثالث ، المثقلة بالديون خمسين مليار دولار كفوائد ، ومبالغ سداد . ويفوق هذا المبلغ قيمة القروض التي تسلمتها هذه الدول .
فهل يستطيع أحد بعد هذه الجرائم وأعمال القرصنة أن يتهم أولئك الذين يفوضون هذه الجرائم ، بمعاداة أمريكا لمجرد معاداتها ؟
نعم ، بشرط الاعتراف أن معاداة أمريكا تبدأ برفض الخضوع لها .
والسياسة الامريكية هذه ، سياسة عامة يتبناها كل من الحزبين اللذين يتبادلان الحكم . والحقيقة ان الولايات المتحدة تقدم الصورة الاكثر وضوحا لحكم الحزب الواحد . إنه حزب " الاعمال " بشقيه الذين يدعيان من خلال التلاعب بالمعاني : الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري .
يلعب الحزبان لعبة الحمار والفيل ، ولا يملك أي منهما مشاريع انسانية ، أو بالاخرى لا يملكان أي مشروع ما عدا مشروع تحقيق زيادة الاستهلاك والانتاج في بلدهم فقط ، على حساب الجميع دون مواربة .
لقد بدأ تدمير العالم ، في سبيل تأمين احتياجات الاقتصاد الامريكي ، بشكل طبيعي من أمريكا اللاتينية . وعلى كل أمة اليوم ، وفي العالم كله ، أن تعرف فيما إذا كانت ستصبح بورتوريكو جديدة ، دون أي مشروع إنساني ، إلا مشروع الولايات المتحدة والاستسلام لها ، والخضوع لإرادتها .
ويظهر ذلك واضحا من عملية التفكيك الاقتصادي والسياسي والثقافي ، وحتى في أوروبا نفسها ، حيث يطلب من إنكلترا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا ودول أخرى ، وهي دول موقعة على معاهدة ما يستريخ أن تصبح الركيزة الاوروبية لحلف الاطلسي إلى المدى الذي زودت فيه هذه الدول امريكا بقوات مساندة لتدخلها العسكري : من العراق ، إلى الصومال .
كي شيء في خدمة الغات (المنظمة العالمية للتجارة) والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، هذه المؤسسات التي تفرض على العالم الثالث التبعية السياسية وترهقه مقابل ديونه . ولكن هذه المؤسسات ، تقبل دون ادنى اعتراض الاملاءات التي تفرضها الدولة الاكثر مديونية في العالم ، أي الولايات المتحدة .
فالى متى سيقبل العالم هيمنة بلد تبلغ الجريمة نسبة الجريمة فيه أعلى مستوى ، والذي تقرر فيه المحكمة العليا (حزيران 1989) جواز الحكم بالاعدام على الأطفال دون السادسة عشرة من العمر، وتنفيذ هذه الاحكام . ويطبق هذا القانون في 24 ولاية، نفذ فيها منذ عام 1972 أحكام الاعدام بـ 182 شخصا بواسطة الكرسي الكهربائي أو الشنق أو غرف الغاز . وينتظر 2500 محكوم بالاعدام في زنزاناتهم تنفيذ الاحكام فيهم .
وما هو أسوأ من ذلك ، في عصر تلعب فيه التقنية الاعلامية " وخاصة التلفزيون ، والالكترونيات والاعلام السريع " دورا حاسما في تكوين الرأي العام ، وتصدير الثقافة الجاهزة التي تغزو العالم كله ، مدمرة ثقافاته الخاصة ، ومسلسلات دالاس والديناصورات ، والمدمر ، ويوم الاستقلال وصرعة مادونا ، ورسوم روشنبرغ وكونينج ، وأفلام الكرتون الامريكية ومنافستها اليابانية التي لم يعد أبطالها " البلانش نيج " وإنما بوبي ودونالد و " الاحجار المتدحرجة " التي تغرق فينسيا باطنان من الاحجار وبأقذار الشوارع ، والزعيق ، والرعاع ، والدهماء ، وموسيقى الروك بشدة 120 سيبل ، ليفجر كل ذلك ، وبلا حياء ، شاشات التلفزيون والسينما والمدارس ، ولتجعل شبابنا ينسون أعمال رابليه وسرفانتس وشكسبير .
أصبحت مطاعم ماكدونالد والكوكاكولا والنوادي الليلية وديزني لاند رموز اللامعنى ، والنمطية في عالم كان قد أبدع الرمايانا ومسرح الند " دراما غنائية يابانية " وأصالة الرقص الافريقي ، أو الرقص الامريكي الاصيل ، و ملحمة جلجامش وأشعار رامبو.
هل ستعني " الحداثة " النسيان والاحتقار والجهل والضلالة لحساب الامية الثقافية، والثقافة الاخبارية والممكننة ؟
وهل سيجعلنا كهان وحدانية السوق ووثنية المال نقبل أن يتحول " الأطفال الذهبيون " الذين سرعان ما يبهت لونهم في أمريكا إلى حرس انحطاط ؟
هذه الحالة من الروح لم تتشكل فقط من واقع أن هذا الكوكب واسع وغني ، ولا من حقيقة أن أنهارا من الذهب جرت إلى أمريكا عبر الاطلسي بفعل الحربين الاوروبيتين ، بل لأن ذلك كله قد أوحى للطبقة الحاكمة الامريكية بفكرة الفردية بلا حدود " كما كانت بلادها ذات يوم بلا حدود " ، وكذلك من حقيقة أن الولايات المتحدة تعيش فوق مستوى طاقتها بفعل استغلال العالم كله كما جرى في الماضي ، إذ لم يكفها آنذاك ذبح الهنود وطردهم . ويترجم هذا الواقع نفسه بحقيقة أن الولايات المتحدة ، البلد الاغنى في العالم ، هو البلد الاكثر مديونية ، إذ يبلغ دينها العام 3000 مليار دولار ، كما أنها مدينة بمبلغ مماثل من الديون الخاصة ، أي ثلاثة أضعاف ديون العالم الثالث كله .
وليس اقل دلالة على انحطاط الروح ، من التقليد الذي يرجع إلى أيام مطاردة الهنود ، وهو امتلاك الاسلحة الفردية الخاصة ، وحتى الاوتوماتيكية منها ، والتي يبلغ عددها ، عدد سكان الولايات المتحدة .
وهذه الحالة نفسها نجدها لدى الشباب : وحشية العلاقات الإنسانية التي تظهر من خلال عدد الشباب الذين يقتتلون فيما بينهم مستخدمين الاسلحة النارية . وقد تحدث التقرير الاخير " لصندوق الدفاع عن الأطفال " ، وهو منظمة رئيسية لحماية الطفولة في الولايات المتحدة ، عن تصاعد الخط البياني لوفيات الأطفال بسبب استخدام الاسلحة النارية . وذكر أن هذا الخط يرتفع باستمرار لدى الاطفال والمراهقين . وقد قتل بين عامي 1979 ـ 1991 خمسون ألف أمريكي تقل أعمارهم عن سنة (9000 منهم أقل من 14 سنة ) بالرصاص والحوادث والجرائم المختلفة . وارتفع خلال نفس الفترة معدل المعتقلين المتهمين بالقتل أو محاولة الانتحار ، من الذين تقل أعمارهم عن 19 عاماً ، ليصبح 93 % وهم في غالبيتهم من الشباب الذين قتلوا أو جرحوا شبانا آخرين مثلهم .
وتشير الاحصائيات أن القتل يأتي في المرتبة الثالثة ، في أسباب موت المراهقين بعد الحوادث (التي لا يستخدم فيها السلاح) والسرطان .
ويقسم " تمييز اقتصادي " حقيقي أمريكا إلى قسمين . ففي هذه البلاد التي لا يأكل فيها طفل من أصل كل ثمانية حتى حدّ الشبع ، يستمر ارتفاع معدل وفيات الأطفال ، في الاحياء الاشد فقراً ، متجاوزا معدلات بلدان في العام الثالث مثل سيريلنكا وتشيلي وجامايكا وباناها .
وفي ظلال الكابيتول ، نواجه أحياء تقضمها كل أشكال الشرور المدينية : العنف ، والجنوح ، وآباء في سن المراهقة ، والبؤس ، وتدني مستوى المؤسسات التعليمية . الجميع فريسة الخمر ومختلف أنواع المخدرات القوية . وتملك واشنطن بالتأكيد أكبر ميزانية للمساعدة الصحية بين البلدان الاخرى ، إلا أن النظام الصحي يدلنا أن الولايات المبكرة متكررة بشكل خاص ، بما فيها الاجهاض بعد بداية الشهر الأول من الحمل ، وهو موعد بدء المساعدة الاجتماعية التي تقدمها الدولة . وبعد الخمسة عشر يوما التالية ، يواجه المرء نموذجا آخر من المشاكل ، إذ ليس هناك ما يكفي من النقود وبالتالي ، فليس هناك ما يؤكل . وقد جرى اقتحام القبو الذي يستخدم كقيادة عامة لـ " مشروع الأطفال الاصحاء " (مجلة " التضامن الجديد " 12 اكتوبر 1994) .
ومارس العنف المستوطن في هذه البلاد تخريبه ، حتى لأوقات الفراغ عند الشباب .
في عام 1972 ، أسس الدكتور ريلمان مع أصدقاء له في منظمة عيادات آشبيري المجانية، مؤسسة باسم " الروك ميد " ، أي طب الروك ، وهي مؤسسة طبية أعطت لنفسها واجب العناية الميدانية ، بالجرحى الذين يصابون أثناء حفلات الروك . وكتب الدكتور ريلمان ، وهو طبيب من كاليفورنيا الوصف التالي لنشاطه : " جعل فريق لارسن ، مدرجات ستاد ملعب كرة السلة في الجامعة الحكومية تهتز ، كانت أصوات أوتار الغيتارات تهدر كأنها ضربات تخبط الأرض التي غطاها موج هادر من الشباب ، ينضح منهم العرق ، ويرمي بعضهم نفسه فوق البعض الاخر " . وفي إحدى الغرف الخلفية كان الدكتور ريلمان ، وقد ارتدى قفازيه الطبيين ، يصنف الحوادث : " هذا هو شاب في الحادية والعشرين ، عاري الجذع ، وقد ظهرت آثار حديثة لعضات متعددة في الجمجمة . كانت ذراعه مكشوفه وعظم يده اليسرى مكسورا. وهذا شاب آخر ، منتصب القامة ويرتدي القميص الخاص بالاصلاحية الفدرالية ، وقد أصيبت عينه اليسرى بجرح دام " .
ويقدم الدكتور داف ، نفسه لزبائنه الجدد على أنه طبيب روك ، واختصاصي باسعاف الذين يتلقون ضربات مؤذية ، أو تشويهات أثناء حفلات الروك التي تجرى كل مساء . أما الأنوف المكسورة والكدمات ، وإصابات الالتواء والخلع ، فهي مشاهد عادية في هذه الامسيات . وأما الجروح ، والكسور الخطيرة ، فليست نادرة .
وفي أوروبا ، لا يسبب هذا النوع من الموسيقى عموما ، هذا الطوفان من العنف . ومع ذلك ، فعندما أقيمت الحفلة الأولى لموسيقى الروك في ودستوك ، وعند إقامة العرض الاخير لفرقة بينك فلويد في ساحة سانت مارك في فينيسيا ، تحول المشهد صباح اليوم التالي ، إلى مشهد مدينة قصفت بحاويات القمامة .
لن ننسى للحظة واحدة " أمريكا الاخرى " ، أمريكا امرسون وثورو ، وجون براون ، ولينكولن ، أمريكا التي ثارت ضد الرق . ولكن " أمريكا الاخرى " هذه لم تستطع أن تفرض رؤيتها . فثورو انسحب من هذا العالم بعد أن كتب " والدن أو الحياة في الغابة " ، انسحب كي يستمد من الطبيعة اتصالا مباشرا مع الله كما قال صديقه امرسون . ولن ننسى انه عاد إلى المدينة، ليكتب هناك كتابه " العصيان المدني " ، الذي قال عنه غاندي انه استوحاه . لقد تحول كل هؤلاء إلى هامشيين أو ثوار : ثورو التجأ في البداية إلى أعماق الغابة ، وعندما عاد إلى المدينة رفض أن يدفع الضريبة المتوجبة عليه ، لأنه " فقد وطنه " . أما ايمرسون فقد استمد حكمته من الباجاتادجيتا ، على نهر الغانج ، وليس من نهر الباتوماك الذي يخترق واشنطن . أما لينكولن فقد اغتيل من قبل " المؤسسة أو النظام " .
ولن ننسى السلالة السوداء العظيمة التي أبرزت لنا وجوها رائعة بدئا من دويوا إلى مارتن لوثر كينج ، هذا الوجه الجميل الكامن في أعماق أمريكا والذي تألق ، ابتداء من القرن العشرين مع انبعاث حي هارلم . لن ننسى الشهود الكبار من السينمائيين مثل فورد الذي أخرج " عناقيد الغضب " . ولا ذاك الذي تجرأ أن يفكك آليات مؤامرة اغتيال كينيدي ، ولا المخرج الذي أعاد تركيب مذبحة " الونددني " التي سحق فيها الجيش الأمريكي مقاومة قبائل " سيو " .
لكن ما يبرز اليوم ليطغى على جزر المقاومة البطولية هذه ، هو أقلام العنف والرعب ، بعدما حولت أفلام " الغرب الأمريكي " مئة عام من الابادة العنصرية إلى ملحمة بطولية .
ولن نستطيع أن نقول شيئا عن فلسفة الولايات المتحدة ، حيث خنق النظام صرخة الرجال ، بالوضعية والبراجماتية ، منحيا جانبا مشكلة الايمان ، وغايات الحياة .
ولن ننسى انجاز الراقصين الأمريكيين ، انطلاقا من تيدشون وروث سانت دينيس إلى مارتا غراهام ، الذي جددوا هذا الفن وجعلوه يقول ما قاله شكسبير ، كل في لغته . لكن هوليود فضلت أن تروج لفرد استر ، وجنجر روجرز ، لتمحو آثار هؤلاء العباقرة .
لنتذكر أخيرا أولئك الكتاب " الملعونين " ، بدءا من ادغار ألن بو ، الذي وجد نفسه مضطرا للهروب من عالم لا يحتمل العيش فيه إلى " فراديس مصطنعة " ، والى أشعار مضيئة كالجواهر السوداء في ليل بهيم ، أو أولئك الذين عكسوا بمهارة صدى العالم " الحقيقي " مع روايات توماس وولف ، أو من خلال زعزعة أسس حياة تحولت إلى مصيدة من " الضجة والغضب " ، بحروبها وتمييزها العنصري كما صورها وليم فولكنر .
لن ننسى أبدا شيئا مما حمله وانتزعه منا هذا الزحف الحاشد نحو الذهب الذي نشر الخراب والدمار في أرجاء الأرض وحنايا الإنسان .