المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الولايات المتحدة طليعة الانحطاط لروجيه جارودي



الفرصة الأخيرة
12-08-2005, 01:09 PM
الولايات المتحدة
طليعة الانحطاط
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1418 هـ ـ 1998 م
دار الكتاب
للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
دمشق ـ سوريا جانب وكالة الأنباء "سانا "
ص . ب 31661 هاتف 2113003 ـ 2123753
موافقة وزارة الاعلام تحت رقم / 41971 / تاريخ 7 / 3 / 1998 م .

رٌوجيه غارودي
الولايات المتحدة
طليعة الانحطاط
كيف نحضر للقرن الحادي والعشرين
نقله إلى العربية
مروان حموي
دار الكتاب


الولايات المتحدة الأميركية
طليعة
الانحطاط


كتب سيمون وايل :
نعرف جيداً أن أمركة أوروبا بعد الحرب ، تشكل خطراً بالغا . ونعرف جيداً ، ما سنفقده لو تحققت هذه الأمركة . فأمركة أوروبا ستقود بلا شك ، إلى أمركة الكرة الأرضية كلها .. وستفقد الإنسانية ماضيها .
سيمون وايل
1909 ـ 1943
سيمون وايل فيلسوف بدأ عاملاً في مصنع ، ثم انضم للجنرال ديغول في لندن عام 1943 . معروف بشكل خاص بكتابه :
" La Pesanteur et La grace "

المقدمة
البطالة والطرد من العمل في بلادنا ، والجوع في ثلاثة أرباع العالم ، والهجرة كممرّ من عالم الجوع إلى عالم البطالة ..
لقد بدأنا باغتيال أطفالنا الصغار ، ونهيئ للقرن الحادي والعشرين انتحاراً كونياً ، فيما إذا استسلمنا للانحرافات الحالية في السياسة الدولية .
ونتساءل : أهناك سياق واحد للأحداث نستطيع من خلاله فهم عصرنا ؟
أعني ، أهناك رابطة داخلية وعميقة تجمع بين كل المشكلات الدولية التي تستدعي التدخل العسكري ، وتبرر دور صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ، والدور الأوروبي كما رسمته معاهدة مايستريخ ، ومنظمة التجارة الدولية " الجات القديمة " ، وعودة النظام الرأسمالي إلى بلدان أوروبا الشرقية ، والأصوليات الإسلامية والمسيحية واليهودية ، ومشكلاتنا الراهنة : البطالة والتسريح ، والهجرة ، والعنف ، والمخدرات ؟
كيف نستطيع الإمساك بوحدة هذه المشكلات وفهم معناها ؟
وقبل كل شيء : كيف نستطيع أن نضع برنامجا متماسكا للخروج منها ؟
هذا هو موضوع كتابنا .

الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
الفضل الأول

الفصل الأول
ما هي الرؤية التركيبية التي تبرز في نهاية القرن العشرين ، والتي يمكن أن نكونّها من مجموعة أحداث تبدو ظاهريا منفصلة بعضها عن البعض الآخر ؟
ما هي المشكلات الكبرى التي تبرز لتشكل مستقبلنا القريب ؟
هل نحن متجهون إلى حرب عالمية ثالثة ، انما من نموذج جديد ؟ ذلك أن ما سمي حتى الآن بالحربين العالميتين لم يكن في حقيقة الأمر إلاّ حربين أوروبيتين ، لا عالميتين ، ولم تسّم الحرب الأولى عالمية إلاّ لأن الدولتين المتحالفتين إنكلترا وفرنسا ضمتا إلى جيوشهما " فرق الملونين " التي تشكلت من مواطني مستعمراتهما : من الجنود السنغاليين ، حتى جنود الشمال الأفريقي ، بالنسبة لفرنسا ، وجنود ممتلكات التاج البريطاني الممتدة من كندا حتى استراليا ، بالنسبة لبريطانيا.
وجرى الأمر نفسه في الحرب العالمية الثانية ، التي انفجرت أيضا بسبب صراع أوروبي ـ أوروبي ، مع فارق أن الحلفاء الغربيين ، أشركوا في هذه الحرب الشعوب التي كانت خاضعة لهم . فإنزال البروفانس مثلا ، ضم 70 % من عناصره ، جنوداً مغاربة ، ( ونسبة قتلى المغاربة إلى نسبة القتلى الآخرين أعلى بكثير ) . وكان الهدف : تحرير فرنسا . وجرت الحرب الأمريكية ـ اليابانية في نفس السياق ، إذ لم تكن حربا بين حضارتين ، إنما بين خصمين يطوران نفس النظام الصناعي ، وقد اختصما بهدف السيطرة على المحيط الهادي ، وعلى غزو الأسواق . ولم تتداخل الحربان عسكريا أبدا ، فقد تخيّل هتلر ـ كي يبعد الولايات المتحدة إلى أقصى زمن ممكن ، عن النزاع الأوروبي ـ أن يجعل من اليابانيين " آريي شرف " كي يحقق بعد ذلك محور برلين ـ روما ـ طوكيو .
يعتقد هانتجتون في إطار ما يسميه " بالحرب الحضارية " أن الحرب الثالثة إذا ما انفجرت ، ستكون من نوع جديد،
إذ لن تكون نتيجة تنافس الأوروبيين ، فيما بينهم ، بل مجابهة بين حضارتين : حضارة المركز (الغرب) وحضارة المحيط (بلدان الاستعمار القديم) .
كما يعطي لهذين الطرفين مفهوما دينيا : وهو الصدام بين حضارة " يهودية مسيحية " وبين حضارة " إسلامية كونفوشية " . ولئن طرحت المشكلة بشكل سيئ ، إلا أنها مشكلة حقيقية : فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، واستبدال " الشيطان السوفيتي " ، " بالشيطان الإسلامي " " وحلفائه المحتملين ممن نطلق عليهم اسم العالم الثالث ، ثم تدمير العراق " كي يكون مثالا للآخرين " ، نتسائل هل ستحقق الولايات المتحدة حلمها في بسط نظامها الخادع " للسوق الحرة " على العالم كله ؟ وبمعنى ما ـ وهو ما شرحته في كتابي " نحو حرب دينية " ـ سيكون تصادما حضاريا : إن وحدانية السوق ستضطر أن تحطم كل أولئك الذين يريدون الاحتفاظ بنظام آخر من القيم ، غير القيم التجارية ، والذين يدافعون عن هويتهم ، وبالإضافة إلى ذلك عن معنى الحياة .
إن النقطة الحساسة في حدود الامبراطورية الأميريكية " وهي ما كانت تسمى في زمن الإمبراطورية الرومانية قبل أن يمحوها البرابرة " بعتبات الإمبراطورية " ، هي " الخليج العربي" لأنه محاط بأحواض البترول الأغزر في العالم ، وسيبقى لعشرات السنين " عصب التنمية الغربية ". فوق هذه العتبات ، تحقق لوحدانية السوق أحدث نصر ، إذ جرى تدمير العراق ، عبر حرب خاضتها الولايات المتحدة بتأثير جماعتي ضغط في الولايات المتحدة دفعتاها لفتح نار المعركة ، وقد حددهما ألين بيريغيت في جريدة الفيفارو / عدد 5 تشرين الأول 1990 / بأنهما :
1 ـ اللوبي اليهودي . 2 ـ لوبي رجال الأعمال .
وفوق هذه التقطة الحساسة من حدود الامبراطورية الجديدة لا تتوقف إسرائيل عن لعب الدور الذي رسمه لها مؤسسها الروحي تيدور هرتزل ، وهو أن تكون " حصنا متقدما " .
للحضارة الغربية ضد " بربرية الشرق " .
أما البرنامج الأكثر دقة لدور إسرائيل فقد ظهر جليا في شباط 1982 " أي قبل غزو لبنان بقليل " ، في مجلة كيفونيم التي تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية : وهو تفتيت كل الدول المجاورة من النيل حتى الفرات ، وهي الطريقة الأفضل التي تستجيب لأطماع الهيمنة العالمية للولايات المتحدة ، في الموضع الأكبر حساسية على حدود امبراطوريتها .
كما فرضت على الشعب العراقي إجراءات حرمان مميت ، من خلال الحظر الذي يستمر في القضاء على الأطفال في محاولة لسرقة حتى مستقبل هذا البلد. واليوم يرصد هدف جديد ، ربما كان أكثر أهمية من الهدف السابق : إيران ، التي لم يستطع العراق أن يهزمها ، رغم الدعم المالي السخي ، والسلاح الوفير ، اللذين قدمتهما الولايات المتحدة وأتباعها .
لقد جرى تحديد الهدف الجديد في مؤتمر شرم الشيخ عام 1996 ، وكانت الحكومة الإسرائيلية هي التي حددت الهدف : " محاربة الإرهاب " و " التدخل الإنساني " . هذان هما الإدعاءان الجديدان المتكاملان للإستعمار الجديد . وحدد شمعون بيريز ، ودون أن يمتلك أدنى دليل ، إيران بأنها " مركز الإرهاب " الدولي .
ومن المتفق عليه أن كلمة الإرهاب ، تشمل كل أشكال مقاومة الشعوب دفاعا عن استقلالها ، مع استبعاد كل أشكال الإرهاب التي تمارسها الولايات المتحدة التي تهدد استقلال هذه الشعوب . وعلى سبيل المثال ، يزعمون أن مقتل جندي إسرائيلي في الجزء المحتل من جنوب لبنان ، بمعنى أن يُقتل محتل من قبل المقاوم ، كما حدث في الماضي في فرنسا أيام الاحتلال النازي ، هو عمل إرهابي . أما مذبحة المدنيين في قانا ، والقصف الإسرائيلي الذي وصل حدود مدينة بيروت فهو " دفاع مشروع " ، تماما كما هو " مشروع " تصفية النازيين لأربعين من رجال المقاومة في شاتوبريان انتقاما لمقتل ضابط ألماني في باريس .
وعندما سقطت طائرة أمريكية فوق أولمبياد أتلانتا ، وقبل إجراء أي تحقيق ، وجهت أصابع الاتهام إلى إيران . ورغم ضغط وكالة المخابرات المركزية ، على وسائل الاعلام ، لم يثبت من خلال المعاينة الميدانية أي دليل على صدق هذا الادعاء .
من السهولة بمكان أن نورد العديد من الأمثلة لاختلاق المزاعم المتصلة " بالمعركة ضد الإرهاب " أو " التدخل الانساني " و " الدفاع عن حقوق الإنسان " ، لتبرير الاعتداءات المباشرة على الدول المتهمة ، ووضع العراقيل في وجه التعامل التجاري معها . لقد تذرعوا بـ " تيان آن مين " لكبح نمو العلاقات الاقتصادية مع الصين ، ولكن مقتل ألفي لبناني مدني في مذبحة قادها آريل شارون عام 1982 ، لم تكن كافية للحد من الدعم الأمريكي لإسرائيل بالسلاح والمال ، باعتبارها رأس حربة لوضع اليد على كل بترول الشرق الأوسط .
وإنه لأمر ذو مغزى أن الحاخامات الأكبر تطرفا والأكثر شوفينية إنما تلقاهم في الولايات المتحدة ، حيث تعيش الجماعة اليهودية الأكثر أهمية في العالم ، بل إنها أكثر أهمية حتى من المجتمع الإسرائيلي نفسه . أما المحاربون القوميون الأكثر تعصبا فهم الحاخامات الذين تربوا في المدارس التلمودية التي أسسها الحزب القومي الديني برئاسة الحاخام الأمريكي " زفي يهودا كوك " (1891 ـ 1982 ) والتي كانت مبادئها الرئيسية كما يلي :
" يتابع الله عمله للخلاص عبر المعجزة التالية : وضع كل هذه الأراضي تحت السيادة اليهودية . كل الأرض التوراتية اليهودية مقدسة ، إنه تكليف إلهي : حماية الأرض وإلحاقها ، وبناء أكبر عدد ممكن من المستوطنات اليهودية فيها .. وكل تسوية إقليمية إنما تؤخر زمن الخلاص ".
أما المجموعة الثانية من الحاخامات الأمريكان والمعروفة باسم لوبافيتش والتي تستوحي أفكارها من حاخام بروكلين العجوز ، اليعازر مزراحي ، ، فتعلم أتباعها بكل صراحة ، أنه يحرم على الشعب اليهودي أن يتخلى عن أصغر كسرة من أرض إسرائيل الكبرى إلى العرب ، وكذلك يحرم التفاوض معهم حول هذا الأمر .
تمثل إيران العقبة الرئيسية في هذا المشروع ، وخاصة أنها تقيم علاقات طبيعية مع باكستان والهند والصين وروسيا ، وحديثا مع تركيا ، التي تسير في طريق العودة إلى الإسلام . وتتابع إيران مسيرتها على الرغم من التعليمات الأمريكية بفرض حصار عليها .
وتشكل إيران مركزا محتملا لاعادة تجميع أجزاء كبيرة من الجزيرة الآسيوية الأوروبية في مواجهة أطماع حلف الأطلسي . ويمكن في ضوء هذه الحقيقة ، تفسير الجهود التي تبذل في إطار الاستراتيجية الامريكية تجاه العالم ، لتأمين كل الامكانيات لتطوير السلاح النووي الاسرائيلي ، رغم رفض إسرائيل لاي رقابة دولية على نشاطها النووي .
إن نقطة الضعف الاسرائيلية في هذه الامبراطورية ، هي فقدانها للروح ، ونعني بذلك فقدانها لاي مشروع تعاوني من أجل مستقبل الإنسان إلا تنمية إنتاجها واستهلاكها من خلال تفوقها بالسلاح .
هذا هو السبب الذي اضطر معه هانتجتون لان يقنع حقيقة أفكاره بتعارض مزعوم بين الحضارة اليهوية ـ المسيحية و " التواطؤ الاسلامي ـ الكونفوشيوسي " ( وهو الوريث لأقدم الحضارات في العالم من دجلة إلى سورية إلى الصين ) . وقد اعتبر المؤرخ توينبي أن النطاقين السوري والآسيوي المركزي هما مركز الحضارة ، فقال : " في سورية ، أخذت المسيحية شكلها الذي انتشرت من خلاله في العالم الهلنستي كله ، وفيما بين النهرين ، تشكلت النسطورية ، ومذهب الطبيعة الواحدة ، وفي الحجاز ، جنوب سورية ، ظهر الإسلام في مكة ، وفي الحدود الشرقية لشمال الجزيرة العربية ، ولد المذهب الشيعي " .
إنه تحديد غريب للقطبية في العلاقات الدولية ، باسم " العولمة " الاستعمارية للاقتصاد ، ضد الهويات الثقافية أو الدينية ، لكل الحضارات الأخرى .
وينشأ عن هذا الأمر ، بغية مقاومة هذا التوحيد للشكل بلا روح ، ضرورة قيام اتحاد أوروبي ـ آسيوي مع أمريكا التي سماها مستعمروها القدماء باللاتينية ، بغية إفشال محاولات الولايات المتحدة للقضاء على بذور المقاومة سواء في الميادين العسكرية والاقتصادية ، أو الدينية والثقافية ، والتي يمكن أن تنمو في كل القارات . إن محاولتها تفتيت مراكز المقاومة التي لا تقهر ، تظهر الآن جلية في الكرة الأرضية كلها . كما تشجع في نفس الوقت الصراعات الاقليمية ، فتحرض كوريا الجنوبية ضد كوريا الشمالية ، وتايوان ضد الصين ، والهند ضد الباكستان ، وكذلك البوسنة ضد الصرب، لتبرير تدخلها العسكري على ما كان يعرف بالحدود بين الإمبراطوريتين العثمانية والنمساوية . وفي أمريكا اللاتينية تغذى الخلافات بين كوبا والبلدان الأخرى في أمريكا الجنوبية ، أو بدقة أكثر من واجهة المحيط الهادئ " تشيلي " إلى واجهة الأطلسي لشبه القارة الأمريكية الجنوبية .
وتعتبر " خطة السلام " المزعومة في فلسطين النموذج الأكثر تعبيرا عن المناورات الأمريكية ، فهذه الخطة لا تقدم للفلسطينيين إلا غبار ما كان يتمتع به المواطنون السود في التنظيمات الإدراية ، في ظل نظام التمييز العنصري في اتحاد جنوب أفريقيا " البانتوستان " ويمثل أقل من 6 % من الأرض الفلسطينية محاطا بطرق تصل المستعمرات الاسرائيلية بحماية الجيش الاسرائيلي . وقد شارك حزب العمل في هذا التفتيت ، الذي اخترعه بيغن تحت اسم الحكم الذاتي ، والذي تابع خلفاؤه من الليكود ، الذين تسلموا السلطة اليوم ، تنفيذه بسعي حثيث . إن هدف الحزبين ، إلحاق فلسطين عن طريق زرع نصف مليون يهودي مستوطن ، والاستيلاء على الأرض والماء .
وقد بدا هذا التحدي مجزيا للمعتدين ، لانه لم ينجح في تقسيم الفلسطينيين فحسب ، بل أيضا في انقسام العالم العربي بكاملة ، حول الموقف الواجب اتخاذه حيال هذه المناورات التقسيمية الكبرى .
ويعبر التناقض الرئيسي في العالم المعاصر ، عن نفسه بمنتهى الجلاء في خلق الانقسامات إلى أقصى حد. والخبث الاكبر فيما يسمى الدفاع عن " الديمقراطية " وعن حقوق الإنسان ، يمكن اكتشافه في حالة الجزائر الآن : فالتناقض كان واضحا جدا ، إذ اتخذ النظام " الديمقراطي الحر" اتجاها متناقضا تماما مع كل مبادئ هذا النظام ، فقد قبل بوقف العملية الانتخابية " الحرة " وساند الانقلاب العسكري بهدف مقاومة أصولية جبهة الانقاذ الإسلامية .
وهناك ، وكما يجري في فلسطين ، كانت المشكلة الدينية هي التي دفعت لتحتل المرتبة الاولى . ويتطلب الامر النضال ضد الحملة العالمية التي تشن باسم ديانة لا يجرؤ أحد على تسميتها : وحدانية السوق ، والتي تصطدم عندما يتطلب الامر، مع ديانات محددة ، مثل إسلام أورو ـ آسيا وأفريقيا ، أو مثل الحركات الاهوتية التحريرية في أمريكا.
لو أن الإسلام ، بدل أن يتمترس خلف ماضيه ، استعاد المفهوم القرآني حول وحدانية الاديان ، منذ أن نفخ الله روحه في آدم ، مع " شريعة " تشكل قاسما مشتركا لكل أشكال الايمان والحكمة ، على مستوى العالم كله ، وبكلمة أخرى ، لو جمع بين أصالة القرآن في فقه التحرير ، مع أصالة رسالة يسوع ، بعد قرون من لالهوتيات الهيمنة ، لاطمأنت هذه الجبهة العالمية إلى انتصارها على عالم بلا روح تسوده وحدانية السوق . هذا هو مدى اتساع الدراما التي تلعب على مستوى الكوكب الارضي ، في كل المستويات : الثقافة والايمان ، وكذلك السياسة والاقتصاد .
وقد ظهرت محاولات لحشد الناس : ففي عام 1991 ، عقد في الخرطوم مؤتمر شعبي اسلامي عربي ، بناء على دعوة من السودان وإيران .
إشارة أخرى كاشفة : ففي مؤتمر سيتل ، عام 1995 ، حيث أملت الولايات المتحدة أوامرها بقبول أهدافها في " سوق عالمية " ، انسحب القادة الآسيويون الرئيسيون بسبعة المطالب الأمريكية ، حتى ان رئيس وزراء ماليزيا وهي احدى الدول المؤسسة لمنظمة " آسيان " ، قد رفض أن يتابع أعمال المؤتمر تعبيرا عن احتجاجه على سياسة التدخل الامريكي . أما كلينتون الذي عبر عن خيبة أمله من الموقف الاوروبي ، فقد أبدى رغبة في أن يتوجه بأنظاره نحو المحيط الهادي .
في عام 1982 ، بنت الصين مركزا للأبحاث النووية في أصفهان ، في محاولة لوضع عقبة في وجه حرب وقائية ضد إيران ، على غرار تدمير اسرائيل ، في ظل سلام تام ، مفاعل تموز النووي في العراق ، في الوقت الذي كانت تبني هي سرا ، ترسانتها النووية ، إلى أن كشفت اعترافات الفيزيائي الاسرائيلي ، مردخاي فعنونو ، في جريدة لندن صاندي تايمز ، في 5 تشرين الاول عام 1986 ، عن خطورة هذه الترسانة القادرة على محو كل المدن وصولا إلى السد العالي في مصر .
وتضم المجموعة النووية الاسرائيلية ، إضافة إلى مفاعل بلوتونيوم في ديدمونة ، مركز البرمجة النووية في مورك " حيث يوجد فيه مفاعل أمريكي تجريبي " ، وحقل اختبار صواريخ بالميكي ، ومعمل تجميع في يوديفات وقواعد تحزين الاسلحة النووية التكتيكية في كفار وزاخريا ، وايلابون .
وما زال فعنونو، منذ ذلك الحين ، في السجون الاسرائيلية ، بينما تستنكر الحكومة التجارب النووية في الصين ، والهند ، وباكستان ، وكازاخستان التي ورثت جزءا من السلاح النووي السوفيتي .
ويكشف التحالف الحالي ، بين الليكود والاصوليين الدينيين ، في أعقاب انتخابات 1996 ، بشكل أكثر وضوحا من أي وقت مضى ، الدور الذي تحضر اسرائيل نفسها له وهو تفجير حرب عالمية جديدة .
وربما تكون الصدمة أكثر وحشية لا سيما وان روسيا ، التي تختزن كمية ضخمة من الأسلحة النووية ، قد تحولت إثر تفككها إلى دولة شبيهة تماما باسرائيل : أي جيش يمتلك دولة ، لا دولة تمتلك جيشا .
وفي إطار الفوضى وتفكك الدولة ، اللتين حققهما يلتسين بمساعدة الولايات المتحدة ، لا نستطيع أن نتصور إطلاقا مخرجا آخر للتخلص من الاهانات ومن أشكال التمزق التي تعاني منها البلاد منذ " استعادة الرأسمالية " ، إلا الدكتاتورية العسكرية القومية .
ونتصور أنه امر سيئ وجود جيش بلا دولة ، في خدمة بلد توقف عن الوجود بسبب غياب المشروع الجماعي . ولن تستطيع هذه الديكتاتورية العسكرية التي لن تكون نتاج حركة تاريخية ، وإنما انطلاقا من منطق جبري لعلاقات القوى في العالم ، أن تواجه منظورا آخر غير التحالف مع ألمانيا وآسيا المركزية ، بهدف مقاومة التبعية لواشنطن وإسرائيل ، المتمثلة باحتواء السوق الروسية ضمن النظام العالمي الجديد في صيغته الإنحطاطية والمافيوية . ويتوجب على هذا البلد أن يختار بين هذين العالمين ، ولن يعدم التشيع التاريخي للمسيحية الأرثوذكسية ، والقومية الروسية ، من الحصول على الوسائل الازمة لتوجيه هذا الاختيار .
ولم تعد أوروبا حليفا دائما ومؤكدا للولايات المتحدة ، ليس فقط لأن معاهدة مايستريخ جعلت من أوروبا ملحقا تابعا لحلف الأطلسي ، مبدية هذه الايام شرورها الاقتصادية والثقافية ، وإنما لأن انقسام أوروبا على نفسها يظهر أكثر فأكثر .
ويشهد على ذلك حادثان حاليان :
ـ بينما قبلت بريطانيا وفرنسا أن تجعلا من جيشيهما ملحقين بالجيش الأمريكي في العراق ، فقد عارض 80 % من الشعب الألماني التدخل العسكري في هذا البلد .
ـ وفي يوغسلافيا كان الألمان الواجهة للتحالف مع الكروات بينما لم يتخذ البريطانيون والفرنسيون مواقع معارضة للصرب إلا بضغط جرماني ـ أمريكي .
وفي اللحظة التي تحول فيها الأمريكيون من دائن إلى مدين رئيسي ، حيث أصبحت استثماراتهم ، الأقل في العالم الصناعي ، على الرغم من قوتهم التي تأتي من تقنية ضغط الزر ، ومن جيشهم الذي لا يحركه أي مشروع إنساني ، ولا يحلم ، شأنه شأن البنتاغون ، إلا بحروب يكون فيها الهلاك " حتى الصفر " . وتظهر هذه البلاد التي يريد قادتها أن يصبحوا سادة العالم ، كجبار بقدمين من صلصال ، بسبب هشاشته الاقتصادية المموهة لبعض الزمن ، بالمضاربات المالية التي حولت المصارف إلى كازينوهات ، وحيث تضاعفت إفلاساتها ، بعد إفلاسات صناديق التوفير.
لهذا السبب ، تراهن الولايات المتحدة ، ولو لزمن ، على سياسة التسليح ، لمواجهة صعود عمالقة آخرين . ليس فقط بالتسليح المبالغ فيه لمرتزقتهم الرئيسيين في الشرق الأوسط : إسرائيل ، ولكن أيضا لتأخير بزوغ الصين . ومثلما تبحث إنكلترا عن المراوغة في إعادة هونغ كونغ إلى الصين ، تقوم الولايات المتحدة بتسليم طائرات إلى تايوان بقيمة 5 , 4 مليار دولار ، في الوقت الذي باعتها فرنسا فيه، ستين طائرة ميراج .
كل ذلك يحدث لمنع الصين من التوحد مجددا ، الصين التي ستصبح بسوقها الداخلية لمليار و 200 مليون إنسان ، ومصادرها الطبيعية الكبرى ، واليد العاملة وقد دخلت الولايات المتحدة ، في مرحلة " قصور حراري " من تاريخها ، أي مرحلة من التفكك الداخلي بسبب النمو البائس لأمريكا الأخرى ، النمو البائس لثلاثة وثلاثين مليون مواطن يعيشون تحت عتبة الفقر ، ومن التفتت الاجتماعي بسبب التمييز العنصري الممتد عبر القرون ، وبشكل خاص ضد السود ، والذي تشهد عليه فتن لوس أنجلوس الاحتجاجي لمليون أسود في واشنطن والذي قاده الزعيم الأسود فرحان ، وكذلك الانحلال الاجتماعي بسبب المخدرات والفساد، والمضاربات الطفيلية .
مرة أخرى نقول ، لقد استطاع النظام " المركز " الذي يسعى عبر القوة التقنية الفريدة لأسلحته ، أن يجعل من سيادة دول " المحيط " سيادة محدودة ، وأن يحتكر لنفسه " حق التدخل " مموها ذلك ، عند الامكان ، بأنه تدخل إنساني تحت غطاء مؤسسات يفتعلها مثل الأمم المتحدة ، وصندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي .
الهوامش
يحفل الكتاب بحشد كبير من الأسماء والأعلام ، لذلك آثرت اثباتها في نهاية كل فصل . أما الهوامش التي وردت في النص الأصلي للكتاب ، فقد أشرت إليها بكلمة غارودي .
1 ـ نحكم هنا على الوحشية النازية في أوروبا ، ولكن أحداث سطيف (الجزائر) عام 1945 ، وهايفوتج عام 1946 ومدغشقر عام 1947 ـ 1948 ، والدار البيضاء عام 1947 ، وساحل العاج عام 1950 ، تدل أن المجازر وأعمال التنكيل التي ارتكبتها جيوش الجمهورية الفرنسية لم تتوقف (غارودي) .
2 ـ لقد نشرت النص العبري الأصلي ، وترجمته إلى الفرنسية في كتابي " فلسطين أرض الرسالات المقدسة " (المنشور عام 1986 ـ غارودي) .
3 ـ " آسيان ASIAN " منظمة دول جنوب شرق آسيا . هدف المنظمة إنشاء سوق مشتركة بين ماليزيا ، وأندونيسيا ، وتايلاند ، وسنغافورة ، وبروناي ، والفليبين .وكرد فعل أمريكي ، شبيه بتأثر الماء على النار ، قامت الولايات المتحدة ، بإنشاء منظمة ، تضمها واستراليا ، ونيوزيلانده ، باسم " الاتحاد الاقتصادي للآسيا في المحيط الهادئ (APEC ـ غارودي) .


الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
الفصل الثاني

الفصل الثاني
وحدانية السوق
تنبع كل دواعي هذا الانحطاط من منطق " اقتصاد السوق " الذي أصبحت نسخته الاخيرة الديانة المسيطرة ، ديانة لا تستطيع أن تعلن عن اسمها الحقيقي : " وحدانية السوق " .
عاصر السوق ، كمكان للتبادل ، كل المجتمعات التي طبقت مبدأ تقسيم العمل ، فمنذ ما قبل التاريخ ، تشهد المشاغل ، ومنتجات الصوان المنحوت ، أنها لم تكن موجهة للاستخدام الشخصي ، وإنما لمقايضة احتياجات أخرى في الحياة . ثم تكون سوق القرية التقليدي ، حيث كان يحمل إليه البيض والدجاج والخضار لبيعها مبادلة مع بضائع أخرى تنتجها الأداة أو المهارة أو لدفع أجور خدمات البيطار أو الحلاق .
وهناك اختلاق أساسي بين أشكال السوق المتعاقبة ، وهو وجود الوسيط ، أي النقد الذي استخدم في الأصل كأداة قياس ، تقاس بها وفق قاسم مشترك ، منتجات الأعمال المختلفة كما ونوعا . لكن السوق ، وتبنى على تراتبية اجتماعية، وقيم أخلاقية ظاهرة أو مضمرة، وديانات نشأت خارجه ، ولم تبحث عن مبرراتها فيه .
ولم يتحول السوق إلى " ديانة " إلا عندما أصبح المنظم الوحيد للعلاقات الاجتماعية والشخصية والقومية، والمصدر الوحيد للسلطة والمراتب الاجتماعية . ولا يعنينا هنا أن نؤرخ لهذا التحول ، الذي أصبحت فيه كل القيم الإنسانية قيما تجارية ، بما فيها الفكر والفنون والضمائر .
وسنكتفي بالإشارة إلى النتائج الاقتصادية والسياسية والروحية للصورة الاخيرة لهذا القرن ، ولإعطاء نظرة إجمالية لبعض الميادين ، كي نحرر أنفسنا من النظرة " التخفيفية " لخطورة هذه النتائج ، ولهذا " القصور الحراري " الإنساني الذي يراه بعض منظري البنتاغون وأتباعهم في العالم ، بحسب عنوان كتاب فوكوياما : " نهاية التاريخ " .
وسوف يقود الأمر ، إذا ما وصل هذا الانحدار منتهاه إلى نهاية الإنسان مما يتصف به أساسا : سمو المقصد مقابل التخلي عن الحتمية الاقتصادية التي يعتبرونها قوانين طبيعية ، تماما مثل الغرائز الفطرية الحيوانية التي تسود البحار وحدها ، حيث يتغذى السمك الكبير بالتهام الأسماك الصغيرة ، أو التي تسود الأرض من خلال الفوضى البيولوجية لمليارات النطف أو الحيوانات المنوية ، لتكوين جنين بالصدفة .
وما تتصف به " وحدانية السوق " في الواقع ، هذه الليبرالية الشمولية ، هو إحتقار حرية الإنسان ، وابتزاه بالتالي عن بعده الذي يتميز به وهو : أنه ليس نتاجا لقوانين الطبيعة ، بل العكس ، إنه قادر على تكوين مشاريع ليست امتدادا بسيطا للماضي ، ولا نتيجة لغرائزه الحيوانية ، أو مصلحته الفردية . لقد بالغ آدم سميث في هذا العزل لللإنسان فكتب يقول :
" إن الخطوط الكبرى لعالم الاقتصاد الحقيقي ، قد رسمت لا وفق خطة شاملة برزت من عقل منظم ، ثم نفذت اختيارا من قبل مجتمع ذكي ، إنما من خلال تراكم عقود لا حصر لها ، رسمها حشد من الأفراد أذعنوا لقوة غريزية ، دون وعي بالهدف الذي سيصلون إليه . " من كتاب أبحاث في الطبيعة وأسباب غنى الأمم " (1) .
من آدم سميث حتى فريدريك فون هايك مرورا بباستيا وفريدمان ، تكرر رفض مفهوم القصدية (2) .
وقد كتب ميلتون فريدمان في كتابه " حرية الاختيار " 1981 يقول :
" إن التنسيق بين نشاطات ملايين البشر ، الذي لا يعرف أي منهم إلا مصلحته الشخصية ، قد حسن ، أوضاعهم جميعا. ويقوم الأسعار بسد هذه الثغرة بغياب أي توجيه مركزي ، ودون الحاجة لأن يتحدث الناس في هذا الأمر أو يحبوه . إن النظام الاقتصادي هو انبثاق ، أي أنه ليس نتيجة مقصودة أو مطلوبة من قبل عدد كبير من الأشخاص تحركهم مصالحهم الشخصية وحدها . ويقوم نظام الأسعار بوظيفته بشكل جيد ، وبكثير من الفاعلية ،بحيث أننا لا نكون واعين ، وفي القسم الأعظم من الوقت ، أنه يقوم بدوره " .
ويضيف فون هايك في كتابه " الفردية والنظام الاقتصادي " :
" ليس أمام المرء في مجتمع معقد من اختيار آخر إلا أن يكيف نفسه لما يبدو له أنها قوى عمياء للصيرورة الاجتماعية " .
أصبح ممكنا اليوم أن نسترجع مسار النمط الغربي للتنمية ، منذ أن وقع الخطأ القاتل في توجه ما سمي النهضة، أي نمو حضارة الكم والتفكير الذرائعي ، والديكارتية ، وديانة الثروة ، بعد أن فصلت عن البعد الأول للعقل وهو التأمل في الغايات النهائية للحياة ومعناها .
وكتب ميشيل البرت في كتابه " الرأسمالية ضد الرأسمالية " 1991 .
إن الأمر المطلق " أو الفعل الضروري بذاته " ، هو إفراغ المسألة الفلسفية من القصدية " الغائية " . هذه هي في النهاية ، الغاية الأخيرة من وحدانية السوق . إنها " ربطنا " بالحياة الأكثر زيفا ، التي صوروها منذ أول فيلم أمريكي يبدأ بصيد الهنود مع " سفاحي الغرب الأمريكي " ، ومع غاب المال ، مع مسلسل " دالاس " ، مرورا بكل أشكال العنف والهمجية ، مع باتمان " الرجل الوطواط " ، مرورا الترميناتور الماحق ، وانتهاء برموز ارتدادنا إلى عالم الديناصورات.
ولن نورد هنا إلا ما يشكل في يومنا هذا ، المدماكين الأكثر صلابة لتوسع السوق : المخدارت والسلاح .
يبلغ حجم التعامل بالمخدرات في الولايات المتحدة اليوم ، من الضخامة ما يعادل أرقام التعامل في صناعة السيارات ، أو صناعة الفولاذ . ويزداد استهلاك المخدرات طردا ، مع فقدان الحياة لمعناها ، نتيجة للبطالة والتسريح ، أو أمور أخرى . إن الغاية النهائية للحياة هي الاستهلاك الذي يخلق ازدهار " السوبر ماركت " . وإنه لأمر ذو دلالة أن الرقم القياسي لانتحار اليافعين ، سجلته الدول الأكثر غنى : الولايات المتحدة ، والسويد . في الجنوب ، يموت الناس بسبب نقص وسائل العيش ، أما في الشمال فيموتون لانعدام غايات الحياة .
ويعتبر الاستهلاك المتزايد للمخدرات ، أحد النتائج الطبيعية لوحدانية السوق : أولا ، بسبب إنتاجها . إن الربح الذي تدره نبتة الكوكا التي يستخرج منها الكوكاين ، على الفلاح البوليفي ، أكبر بعشر مرات من ربح نبتة الكاكاو أو البن ، وهي وحدها القادرة على السماح له بالحياة . كما أن الدولة ، ملزمة بتسديد ديونها لصندوق النقد الدولي . ونتيجة لاستهلاك المخدرات ، تعاني الولايات المتحدة من ثلاثة ملايين مصاب بالتسمم المزمن ، أما الذين يتعاطون المخدرات فيقدر عددهم بعشرين مليون أمريكي . أما في فرنسا ، واستنادا إلى تقديرات مؤسسة سوفر فقد تناول فرنسي واحد من أصل خمسة تتراوح أعمارهم بين 12 ـ 14 عاما " يعيش أو مازال يتناوله " أصبحت المخدرات بخور " الكنيسة الجديدة " ، نعني وحدانية السوق . ويعطينا الاتحاد السوفيتي معنى كبيرا ، فمنذ العودة إلى الرأسمالية ، انفجر إنتاج واستهلاك المخدرات ، وتضاعفت مساحة الأراضي المزروعة بالخشخاش في أوزبكستان خلال عامين فقط (1991 ـ 1993 ) . أما أفغانستان ، فقد أصبحت منذ عام 1993 البلد الأول المنتج للأفيون ، فقد تضاعف إنتاجها ثلاث مرات .
أما في ميدان السلاح ، فقد استمرت صناعته الأكثر ازدهارا في الولايات المتحدة ، وجعل منها القوة الأولى في العالم ، منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى . وقد حملت الحرب العالمية الثانية ، والتي أصبحت الولايات المتحدة بفضها تملك نصف ثروة العالم ، حلا نهائيا للازمة الاقتصادية فيها ، والتي بدأت عام 1929 . كما أدت الحرب الكورية إلى ازدهار اقتصادي جديد . أما مجزرة العراق ، فقد أدت بما رافقها من انتشار من خلال النقل الحي عبر القنوات الفضائية ، إلى صقل سمعة الأسلحة الأمريكية حيث ارتفع الخط البياني للإنتاج بعد انتهاء الحرب بشكل سهمي.
وهناك نتيجة طبيعية أخرى لوحدانية السوق : الفساد .
حدد آلن كوتا منطق هذا النظام : " إن تصاعد وتائر الفساد أمر لا يمكن تجنبه نتيجة انطلاق النشاطات المالية والسمسرة . وبقدر ما تتيح لنا المعلومات عن العمليات المالية من مختلف الأنواع ، على الأخص عمليات الدمج ، والشراء ، والمكتب العام للمشتريات ، التي تسمح بتكوين ثروات ببضع دقائق ، من المستحيل تكوينها من خلال عمل كثيف يستمر حياة كاملة ، فان إغراء البيع والشراء يصبح أمرا لا يمكن مقاومته " .
ويضيف : " إن الاقتصاد التجاري سيلقى دعما دائما من هذه السوق الأساسية .. ويلعب الفساد دورا شبيها بالخطة " .
وليس هناك كلام أفضل من هذه العبارات : في نظام يباع كل شيء فيه ويشترى ، يتوقف الفساد ، بل وحتى الدعارة ، عن كونهما انحرافات فردية ، ليصبحا قانونين بنيويين في صلب هذا النظام (4) .
والعهر السياسي هو المثال الأكثر فضحا . فالبعض أيد حرب الخليج من أجل حفنة من الدولارات . والبعض برر نزول عشرات الألوف من الجنود الأمريكان إلى أرض مقدسة ومحرمة على كل الكفار ، ودفع نفقاتهم ، أما يلتسين فقد باع بلاده رخيصة ، بعد أن نام على أبواب صندوق النقد الدولي ، الذي أرسل إليه سوروس الشهير ليكون حاميه الكفؤ.
هذه هي الظواهر التي تحدد انحطاط النظام ، حيث تدر المضاربات أكثر بكثير مما يدره الاستثمار في ميدان الإنتاج أو الخدمات .
وتحمل كلمة المضاربة معنى محددا كالذي سجله معجم روبرت في التعريف التالي : المضاربة عملية مالية تتضمن الاستفادة من تقلبات السوق " حركة القيم والبضائع " من أجل تحقيق منفعة .
وقد لاحظ آلياس الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد أن التدفق المالي يرتفع في المتوسط إلى ألف ومئة مليار دولار في اليوم ، أي أربعين مرة أكبر من التدفق المتصل بالقواعد التجارية . إن نظاما كهذا لا يمكن الدفاع عنه " آلياس : الغرب على حافة الهاوية ـ مقابلة في جريدة الليبراسيون في 2 آب 1993 " .
تشير هذه الحقائق أن النظام القائم لوحدانية السوق يحقق للمرء ربحا ، فيما لو دخل ميدان المضاربة بالمواد الأولية ، أي أوراق النقد ، أو ما يدعوه الاقتصاديون " المنتجات المشتقة " ، وهي كل مالا يؤخذ في الحسبان ، عند تعداد المنتجات أو الخدمات ، أكبر أربعين مرة مما لو عمل في ميداني الإنتاج أو الخدمات .

الهوامش
ـ آدم سميث (1723 ـ 1790) : فيلسوف واقتصادي انكليزي يعتبر مؤسس علم الاقتصاد الكلاسكي ، اشتهر بكتابه " دراسة في طبيعة وأسباب ثروة الأمم " . يعتبر هذا الكتاب المحاولة الأولى في تاريخ الاقتصاد ، الهادفة لفصل الاقتصاد السياسي عن العلوم المتصلة به ، السياسية والأخلاقية والدينية ، ويتضمن تحليلا عن عملية الغنى الاقتصادي ، وتوزع هذا الغنى بين الأمم والأفراد .ويرى أن المصادر الأساسية لكل الدخول هي الإيجار ، والأجور والأرباح . كما درس تطور الصناعة والتجارة لدى الأمم الأوروبية ، وطبيعة رأس المال . والموضوع الرئيسي الذي صيغ باعتباره لرأس المال ، بغية إنتاج الثروة وتزريعها ، يكون في غياب التدخل الحكومي ، وفي حرية التجارة .
ويرى سميث أنه بالإمكان تشجيع الإنتاج والتبادل ، وبالتالي تحسين مستوى المعيشة فقط ، من خلال النشاط الفعال لرجال التجارة والصناعة على أن يعملوا في ظل أقل ما يمكن من سيطرة الحكومة وتدخلها .
وقد شهدت هذه النظرية تعديلات هامة من قبل اقتصاديين متعددين ، على ضوء التطورات التي طرأت منذ زمن سميث ، ولكن نظريته ـ مع ذلك ـ لعبت دورا كبيرا في رسم الرأسمالية . (موسوعة فانك رواجنل ـ المترجم) .
2 ـ فون هايك : اقتصادي انكليزي من أصل سودي ولد عام 1899 ، حائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية . درس الأزمات الدورية في الاقتصاد .
ـ ميلتون فريدمان : اقتصادي أمريكي ولد عام 1912 حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد . اشتهر بدراسة مشكلات النقد .
ـ فريدريك باستيا (1801 ـ 1850) : اقتصادي فرنسي دافع عن حرية العمل ، وحرية التبادل.
3 ـ تشير دراسة أجرتها وزارة الصحة الأمريكية ، أن استخدام المهدئات عند المراهقين في سن 12 ـ 17 عاما ، قد ازدادت 78 % ، ما بين عامي 1992 ـ 1995 . وقد ارتفع استهلاك حبوب الهلوسة ، مثل حبوب ل . س . د ، إلى 183 % (54 % ما بين عامي 1994 ـ 1995) ، وارتفع استهلاك الكوكليين إلى 166 % ، والماريجوانا إلى 105 % 37 % ما بين عامي 1994 ـ 1995 .
واعترف 4, 10 % من الشباب الأمريكي ، من نفس الشريحة العمرية ، أنهم تناولوا المخدرات خلال الشهر السابق على الاستطلاع الذي أجرته وزارة الصحة .
وتدل دراسة أخرى ، رسمية أيضا أن حالات الإسعاف التي سجلتها المستشفيات ، بسبب الإسراف في تعاطي المخدرات ، قد ازدادت 96 % في حالات تعلطي الكوكايين ـ غارودي) .
4 ـ من الملاحظ أن عودة الرأسمالية إلى بلدان شرق أوروبا ، قد رافقها ارتفاع مجنون في انتشار البغاء . (غارودي) .

الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
الفصل الثالث

الفصل الثالث
الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
لكي نفهم لماذا نعتبر انتشار طراز الحياة الأمريكية " واوهامها " ، أحد الأسباب الحقيقية لتفكك الأخلاق وانحدار الفنون في يومنا هذا ، نجد من الضروري أن نضع هذه المشكلة ضمن منظور التاريخ الأمريكي ، لأن انحطاط الثقافة الذي يلعب دورا منظما في حياة المجتمع الأمريكي ، إنما ينحدر من طبيعة تاريخ الولايات المتحدة .
لعبت الثقافة والايديولوجيات في أوروبا دوما ، دورا هاما في الحياة السياسية ، كما جرى على سبيل المثال ، في أوروبا المسيحية ، وفي عصر التنوير، وفي عصر الثورة الفرنسية ، وفي عقود القوميات ، والماركسية وثورة أكتوبر .
أما في أمريكا ، فخارجا عن الهنود ، السكان الأصليين الذين نظمت حضارتهم علاقاتهم الاجتماعية " قبائل الأنكا مثلا " ، والذين فقدوا 80 % من عددهم بسبب التصفية العرقية ، ثم همش من بقي منهم ، وزج في " محميات " ، فان كل السكان الذين يعيشون في الولايات المتحدة هم من المهاجرين .
ومهما كانت أصول هؤلاء المهاجرين ، وحضاراتهم الأولى ، فقد جاؤوا إلى أمريكا بحثا عن العمل وكسب المال . وسواء كانوا ايرلنديين أو طليان ، أو عبيدا سودا غربوا عن مواطنهم الأصلية قسرا ، سواء كانوا مكسيكيين أو من بورتوريكو، فقد جاء كل منهم يحمل معه دينه وثقافته . ولأنه لم يكن لدى هؤلاء المهاجرين والمهجرين ديانة أو ثقافة مشتركة ، فقد كانت الرابطة الوحيدة التي تجمعهم ، تشبه ما يربط بين أفراد فريق يعمل في مشروع مشترك.
أما الولايات المتحدة ، فهي تنظيم إنتاجي ، تضبط عمله ، نفس العقلية التكنولوجية والتجارية ، حيث يشترك فيها المنتج والمستهلك ، في غاية واحدة هي النمو الكمي للرفاه . أما الهوية الشخصية ، الثقافية ، والروحية أو الدينية ، فهي مسألة خاصة ، وفردية بشكل حازم ، لا شأن لها في آلية عمل هذا التنظيم ، ولا تتدخل فيها .
ولا يستطيع الإيمان بمعنى الحياة ، أن يعيش في مثل هذه البنى الاجتماعية ، إلا لدى الجماعات التي حافظت على هويتها وثقافتها القديمة ، أو لدى بعض الأفراد ممن تغمرهم روح البطولة . أما الغالبية العظمى من هذا المجتمع ، فقد مات الله عندها ، لأن الإنسان فيه ، قد بتر عن بعده الرباني ، وهو البحث عن معنى الحياة .
وهكذا أصبح المكان خاليا ليحل فيه تشرذم الطوائف ، والخرافات ، وتسرب المخدرات ، وسموم الشاشة الصغيرة ، كل ذلك تحت غطاء طهرية رسمية ، ترضى بكل أنواع التمييز ، وتبرر كل المجازر .
إن أول مراقب نافذ البصر لواقع الولايات المتحدة كان توكفيل الذي كشف عام 1840 في كتابة " الديمقراطية في أمريكا " ، حتمية آلية بناء الدولة قائلا: " إني لا أعرف شعبا يحتل فيه حب المال حيزا كبيرا من قلوب الناس أكثر من هذا الشعب ، شعب يشكل تجمعا من المغامرين والمضاربين " . وما زلنا اليوم ، قادرين أن نجد في تاريخهم أسس انحطاط ثقافتهم .
فمن جهة العلاقة بالطبيعة ، لم تأخذ كلمة " الحدود " وعلى مدى قرن كامل ، نفس المعنى الجغرافي الذي أخذته في أوروبا . كان الحيز المكاني بالنسبة لهم امتدادا مفتوحا ، وبقي كذلك حتى نهاية القرن التاسع عشر ، حيث بلغ التوسع مداه بالوصول إلى المحيط الهادئ . عندها فقط أعلن عن " ترسيم الحدود " . كان هذا الفضاء الجغرافي مفتوحا لكل أنواع السلب ، وأشكال الإبادة : إبادة الغابات ، وحيوان البيزون " البقر الأمريكي " ، وكذلك التنقيب المحموم في مناجم الذهب والفضة .
أما العلاقة مع البشر الآخرين فكانت ذات طبيعة خاصة : في البداية كان اصطياد الهنود للاستيلاء على أراضيهم ، دون أن يترك لهم خيار ، غير خيار التصفية العرقية أو التصفية في " المحميات " . وبعد ذلك ، ساد بين البيض أنفسهم قانون الغاب ، لاقتسام ثروات الهنود المسروقة ، وأراضيهم ، أو الذهب المأمول استخراجه .
أما ما يتعلق بمعنى الحياة ، فقد تقلص إلى البعد الكمي للثروة أو الأرض أو كنوزها . كانت حياة " الوسترن " و " الغرب الأقصى " ـ ماعدا بعض الاستثناءات ـ تضفي لبوس العظمة على هذه " الملحمة " العنصرية ، وسيادة قانون الأقوى في الحرب التي شنها الجميع ضد الجميع . أما البيوريتانية المسيحية ، فلم تلعب أي دور في العلاقات الاجتماعية القائمة آنذاك إلا دور التبرير.
ويشكل العنف الأكثر دموية والذي يرعاه نفاق ديني ، سمي دائمة في تاريخ الولايات المتحدة منذ تأسيسها . وقد حمل البيوريتانيون الإنكليز الذين نزلوا أمريكا ، حملوا معهم الاعتقاد الأشد فتكا في تاريخ الإنسانية ، وهو الاعتقاد بفكرة " الشعب المختار " ، الذي أعطى الشرعية لعمليات استئصال السكان الأصليين واغتصاب أراضيهم ، وكأنهم أمر إلهي ، اقتداءا بالنموذج التوراتي ، نموذج يشوع حيث أو كل " رب الجنود " لشعبه مهمة ذبح السكان الأصليين في بلاد كنعان والاستيلاء على أراضيهم .
وتماما مثلما فعل الإسبان الذين وصفوا تصفية هنود جنوب القارة ، أنها عملية " تنصير " ، فقد استلهم البيوريتانيون الإنكليز سفر يشوع في مطاردتهم للهنود ، وسرقة أراضيهم ، وعمليات " الاستئصال المقدسة " ، على غرار ما ورد في التوراة .
كتب أحدهم يقول : " من الجلي أن الله دعى المستعمرين إلى الحرب ، حيث يركن الهنود إلى عددهم وأسلحتهم ، يتربصون الفرص لارتكاب الشر، مثلما فعلت قبائل الأماليين ، والفلسطينيين الذين تحالفوا مع آخرين ضد إسرائيل .. " من كتاب ترومان نيلسون : بيوريتانيو ماساشوستس " من مصر إلى أرض الميعاد ـ اليهودية " . وغالبا ما يصور " إعلان استقلال الولايات المتحدة " ، في 4 تموز 1776 ، أنه تصور مسبق لإعلان " حقوق الإنسان والمواطن " في فرنسا الذي صدر عام 1789 . إلا أن إعلان الإستقلال هذا ، هو في حقيقة الأمر ، مثال مذهل للنفاق الذي توحيه كلمة " الحرية " حسب المفهوم الأمريكي .
ينادي الإعلان في سطوره الأولى : " يولد كل الناس متساوين . وقد وهبهم الخالق حقوقا غير قابلة للتنازل عنها : حق الحياة ، وحق الحرية ، وحق البحث عن السعادة ".
إلا أن " الحرية " الأمريكية تجلت بشكل آخر : الاحتفاظ بالرقيق الأسود قرنا كاملا بعد الإعلان . واحتاج الأمر حربا أهلية لتوضع عام 1865 ، نهاية لما كانوا يسمونه حتى ذلك الحين " المؤسسة الخاصة " ، أي بمعنى آخر " الرق " . ومنذ تحرير العبيد لم يترك لهم مكان في المجتمع ، ولم يكن يسمح لهم بامتلاك واحدا فقط من الستين آربانت " قياس فرنسي " المسموح به للبيض .
بعد ذلك ، ولد إرهاب الجمعيات السرية ، مثل منظمة كوكلوكس كلان . أما قوانين السود فقد أبعدت العبيد القدامى عن الحياة السياسية ، كما أبعدهم التمييز العنصري عن المجتمع المدني . وهكذا ورغم تضحيات مارتن لوثر كينج ، تستمر التفرقة العنصرية إلى يوما هذا . وتفوح رائحة النفاق اكثر عندما يتعلق الأمر بالهنود . إنها المرة الأولى التي يظهر فيها بقوة ما سيصبح لاحقا المبدأ المحرك لكل الاعتداءات الأمريكية المستقبلية للولايات المتحدة في العالم : وهو أن العدوان والتصفية العرقية ، صورا مسبقا على أنهما ردود فعل دفاعية . وقد وصف إعلان الاستقلال الذي نادى بالحرية والمساواة ، وصف الهنود " بالمتوحشين الذي لا يعرفون الرحمة ، والمعروفين بحبهم لإشعال الحروب ، وارتكاب المجازر " .
من هذا المنطلق ، تحدث الإعلان عن مجتمعات السكان الأصليين ، كي يبرر مقدما المجازر واغتصاب الأرض بحجة " الدفاع المشروع " . وهبط عدد السكان الهنود بحكم عمليات التصفية من عشرة ملايين إلى مئتي ألف فقط ، وكأن الأمر ، أن الهنود هم الذين غزوا أرض المستعمرين ، لا أن المهاجرين من أوروبا ، هم الذين وفدوا ليغتصبوا أراضيهم ويدمروا حياتهم .
هكذا كانت السياسة الأمريكية الثابتة ، منذ ذلك الحين ، انطلاقا من " الخطيئة الأولى " بحق الهنود والأرقاء السود .
قال سيمون بوليفار ، أحد أبطال محاولات الاستقلال في أمريكا اللاتينية في أواسط القرن التاسع عشر : " يبدو أنه كتب على الولايات المتحدة أن تقوم بتعذيب وإذلال القارة باسم الحرية".
ويشهد توكفيل على بربرية المستعمرين تجاه الهنود الذين استخدموا أسلحة لا يمكن مقارنتها باي مقياس بأسلحة الغزاة . ووصف بسخرية لاذعة ، وإنسانية دامية انتصار " الحرية " ، تلك المسيرة المظفرة للحضارة عبر الصحراء قائلا : " في قلب الصحراء ، وفي أواسط الشتاء ، حيث كان البرد قارسا جدا ، قام ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف بمطاردة الأعراق البدوية من الوطنيين الذين كانوا يفرون أمامهم ، حاملين مرضاهم وجرحاهم ، وأطفالا ولدوا حديثا ، وشيوخا على حافة الموت " ، وتابع يقول : إن المشهد كان مثيرا ولم تمح من ذاكرته أبدا .
هكذا بدأ تاريخ " الشمال " في " العالم الجديد " ، كما صوره نعوم شومسكي في كتابه " ايديولوجيا واقتصاد " . وفي عام 1754 ، وصف بنيامين فرانكلين ، الناطق الرسمي البارز باسم التنوير، وصف " أب الأمة " بأنه الرجل الذي يطرد السكان الأصليين كي يفسح المكان لأمته .
وأعطى جورج واشنطن الدرس نفسه لقبائل الايروكواس ، عندما كلف جيشه بتدمير مجتمعها وحضارتها ، وهما مجتمع وحضارة متقدمان نسبيا بمقاييس عام 1779 . لم تشهد القرون المتعاقبة ، إلا نادرا أن ينظر إلى مثل هذا النفاق والجبن الأخلاقي الواضح ، بمنظار الإعجاب والاحترام .
وفي عام 1789 ، وصف توماس جفرسون ، ما سماه " اتحادنا " ، بأنه المنطلق لإعمار كل أمريكا ، الشمالية منها والجنوبية . وقال إنه لأمر حسن أن تبقى القارة بيد العرش الإسباني ، إلى أن يصبح " مجتمعنا قويا بما يكفي ليتمكن من التهام القارة قطعةً قطعة " ..
أما جون كيتري آدامز، مهندس الفكرة التي قادت إلى وضع مبدأ مونرو فقد وصف " الدومينيون " على أنه قارة أمريكا الشمالية . وقد أوضح فكرته بقوله : هذا هو قانون الطبيعة . وقد جرى تطبيق هذا " القانون " تطبيقا واسعا جدا . فقد استخدمه آدامز من جديد في القضية المتعلقة بالجهود الخائبة التي بذلتها الصين لمنع توريد الأفيون إلى بلادها ، انطلاقا من الهند . وقد أدى فشل هذه الجهود إلى اندلاع حرب الأفيون . واستخدمت بريطانيا العنف لتقضي على المقاومة التي أبدتها الصين ، باسم المبادئ السامية للتجارة الحرة . كانت المقاومة الصينية قد منعت الإمبراطورية البريطانية من الوصول إلى الأسواق الصينية عن طريق منع توريد منتجها الرئيسي الذي قدمته للصين ، وهو الأفيون .
ووصف آدامز محاولات الصين لمنع توريد الأفيون ، بأنه عمل ضد القانون الطبيعي .
وفي فترة أقرب إلينا ، حدد وودرو ويلسون " واجبنا الخاص " ، تجاه كل شعب مستعمر ، وهو " أن نعيد لهذا الشعب النظام والسيادة ". و" ندربه على القانون والتعود عليه وإطاعته " . هذا يعني من الناحية العلمية الخضوع لـ " حقنا " في سرقة هذا الشعب واستغلاله . وشرح ويلسون باختصار الدور الذي تلعبه القوة الأمريكية في هذا المشروع قائلا :
" انطلاقا من حقيقة أن التجارة ، ليس لها حدود قومية ، وانطلاقا من أن الصناعي يريد امتلاك العالم من أجل الأسواق ، فان على علم بلاده أن يتبعه أينما ذهب ، وعلى الأبواب المغلقة للأمم الأخرى أن تخلع ، وعلى وزراء الولايات المتحدة أن يحموا امتيازات أصحاب رؤوس الأموال ، حتى ولو أدى ذلك إلى انتهاك سيادة الأمم الأخرى المتمردة . يجب خلق المستعمرات أو الحصول عليها ، بحيث لا نهمل أو نتغاضى عن أصغر زاوية في العالم " .
هذه العبارات الصادقة بسبب صراحتها ، تحمل دلالة حقيقية للمثل الأعلى " للولسنية " ، في الحرية وتقرير المصير . وهو مثل غالبا ما يورده المثقفون الغربيون عاريا دون تزويق .
وقد طبق ويلسون ، عندما أصبح رئيسا للجمهورية بعد بضع سنوات ، عقيدته حول تقرير المصير ، بغزوه المكسيك ، وجزيرة أسيانيولا " التي تشكل تاهيتي وجمهورية الدومينكان " . وقد قتل جنوده ، وسلبوا ، وأسسوا حالة شبيهة بالرق ، ودمروا النظام السياسي ، ووضعوا البلاد بين أيدي المستثمرين الأمريكيين .
وقد نشر روبرت لانسينغ ، وزير خارجية ويلسون ، مذكرة شرح فيها معنى " مبدأ مونرو " ووصف ويلسون نشرها بأنه سوء تصرف سياسي ، ولكن حيثياتها لا يمكن أن تهاجم .
قال لانسينغ : " في دفاعها عن مبدأ مونرو ، إنما تدافع الولايات المتحدة عن مصالحها الخاصة . أما إنصاف الأمم الأمريكية الأخرى فهو مسألة إضافية ، وليس غاية بحد ذاتها . وبقدر ما يبدو هذا المضمون مبنيا بشكل فريد على الأنانية ، فان واضع هذا المبدأ ، ليس لديه دافعا أسمى أو اكثر أريحية ليقدمه " .
ما كان استرجاع أشكال المخاتلة الأصلية في الأسطورة الأمريكية ليحمل فائدة تاريخية كبيرة ، لو لم يتطور هذا النظام السياسي ، بعد قرنين ، ليشمل العالم كله .
فحتى الحرب العالمية الأولى تركزت أعمال السلب في القارة الأمريكية فقط . وكانت المشكلة آنذاك تتلخص بإعاقة سيطرة أوروبا على الأرض والمؤسسات الأمريكية ، بالوسائل المالية ، أو غيرها .
كان تاريخ الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر ، هو أولا تاريخ إبادة الهنود ، إذ جرى بين عامي 1800 و 1835 ، تهجير كل الهنود من حوض المسيسبي ، في ظروف تهجير وإسكان تذكرنا بعمليات التهجير الهتلرية .
كما أبيد الآلاف من حيوان البيزون الذي يقتاتون به ، ومن صوفه يصنعون ملابسهم ، ودمرت مساكنهم . ولم تتوقف المقاومة الهندية المسلحة إلا بعد ارتكاب مجزرة " وونددني " عام 1890 . كان تاريخ الولايات المتحدة أيضاً ، تاريخ استغلال العبيد السود، وخاصة في ميدان زراعة القطن .
هذه هي السمات الأساسية لسياستهم الداخلية . أما سياستهم الخارجية فقد هدفت لنزع يد إسبانيا والبرتغال عن " ممتلكاتهما " في القارة ، ليحل محلها توغلهم الاقتصادي وسيطرتهم السياسية . ثم طردوا بريطانيا ليستغلوا بدلا منها البترول .
وقد حدد الرئيس مونرو في رسالته إلى الكونغرس " 2 كانون الأول 1823 " القاعدة الأساس لهذه السياسة الهادفة لاستبعاد الهنود ، والزنوج وأوروبا ، قال فيها : للأوروبيين القارة القديمة ، وللأمريكان القارة الجديدة .
واتخذ من تفجير بارجة في ميناء هافانا ، ذريعة لشن حرب ضد اسبانيا أ، جرى بنتيجتها احتلال بورتوريكو، والفليبين وكوبا .
أسال التدمير الأوروبي المتبادل في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) أنهارا من الذهب ، صبت في الولايات المتحدة ، التي هبت للتجدة عندما وصلت الحرب إلى نهايتها ولاحت أعلام النصر .
وتحمل أسطورة المحررين الأمريكيين لأوروبا تضليلا مزدوجا :
ـ التدخل الأمريكي الذي جاء بعد ثلاث سنوات من اندلاع الحر (عام 1917) لأن مصالح الفعاليات الاقتصادية الأمريكية تعرضت للخطر بسبب نسف البواخر الأمريكية التي واصلت متاجرتها خلال الحرب مع بريطانيا ، وكذلك لأن الوزير الألماني زيمرمان ، وعد المكسيك بتشكيل حلف ضد الولايات المتحدة ، سيعيد بنتيجة للمكسيك أقاليمها الضائعة : " تكساس ، أريزونا ، نيومكسيكو " … وقد أدى تدخل ألقيصر كيسزر " صاحب أكبر مصانع للسفن في الولايات المتحدة " إلى تبدل في الرأي الأمريكي ، لمصلحة إرسال حملة إلى أوروبا (4 نيسان 1917) .
كلفت الحرب العالمية الأولى فرنسا مليون ونصف قتيل ، وألمانيا أكثر من مليون وسبعمائة ألف قتيل . ومن الضروري أن نقارن هذه الأرقام بعدد الضحايا التي نتجت عن المشاركة الرمزية للولايات المتحدة .
أما الرخاء الاقتصادي الذي شهدته الولايات المتحدة ما بين عامي (1920 ـ 1933) ، فقد تحول إلى تهتك ، مع نمو نشاط المافيات المتآمرة مع أجهزة الشرطة من خلال قانون منع الخمور الذي صدر عام 1919 ، والذي ازدهرت من خلاله الحانات غير القانونية ، والملاهي وبيوت الدعارة السرية ونشاطات مهربي الخمور .
وقد شهدت أعوام (1921 ـ 1924) إجراءات لكبح جماع الهجرة إلى الولايات المتحدة ، وازداد نشاط عصابات الكوكلاكس كلان ، ناشرة الرعب من جديد في مناطق الجنوب . وحملت النوفينية المسيطرة ، إلى الكرسي الكهربائي العديد من الأبرياء مثل ساكو وفانزتي ، الناشطين الايطاليين وأصبح الهم السياسي تحطيم أي نظام اجتماعي يتعارض مع التوغل الاقتصادي الأمريكي ، وبكل وسيلة ممكنة . كما أصبح الاتحاد السوفيتي و " العدوى " التي يمكن أن ينقلها ، العدو الرئيسي . وهيمن رعب مماثل على أوروبا الغربية . ولم يتردد القادة الأمريكان، في الاعتماد على أعتى الطغاة ، باسم الدفاع عن الحرية ، التي هي في الحقيقة حرية الباب المفتوح للتوسع الأمريكي بلا حدود .
وفي الحرب العالمية الثانية ، جرى الإنزال الأنكلو ـ أمريكي في أوروبا ، عام 1944 . وكان اليابانيون ، قد دمروا بشكل غادر الأسطول الأمريكي في بيرل هارير ، بينما كان الأمريكيون يسعون لإنقاذ مصالحهم في المحيط الهادي أمام التوسع الياباني الخاطف.
لم يتدخل الأمريكيون مباشرة ضد هتلر إلا في 19 حزيران 1944 ، عندما كان يعاني من هزيمته الأولى في كانون الثاني 1944 ، حيث تحطم جيشه في ستالينغراد ، بعد أن خسر 400 ألف جندي بينهم 140 ألف أسير .
كانت المقاومة في أوروبا ، وطوال سنوات الحرب قد قضمت الاحتلال الألماني . وفي ذلك الحين ، كان هتلر قد حشد خيرة قواته (189 فرقة من أصل 315 فرقة) على الجبهة الروسية ، و38 فرقة على الجبهة الإيطالية و 64 فرقة على الجبهة الممتدة من النرويج إلى فرنسا . وأدى هدا كله إلى تشتت آلة الحرب الهتلرية .
وجاء إنزال حزيران 1944 بعد قصف مرعب على التجمعات السكانية المدينة راح ضحيته 570 ألف قتيل و 800 ألف جريح من المدنيين .
والمثال الاكثر دلالة على قصف المدنيين ، هو قصف درسدن (135 ألف قتيل مدني) ، على الرغم من أن الزحف الروسي كان قد تجاوز المدينة ، التي لم تعد لهذا السبب تشكل هدفا عسكريا . أما هيروشيما ، فقد مسحت يوم 2 آب 1945 ، من على الخارطة بفعل قنبلة ذرية ، أودت بحياة 75 ألف ضحية .. ثم جاء دور ناغازاكي ، بعد ثلاثة أيام من قصف هيروشيما فعاشت نفس المصير ، مع أن الإمبراطور كان قد اقترح استسلام اليابان .
كانت الفكرة عن الشيوعية شاملة جدا . ففي عام 1955 ، توصلت مؤسسة وودرو ويلسون ، بالاشتراك مع جمعية التخطيط القومي إلى تعريف للشيوعية أكثر ما يكون دقة : " يأتي الخطر الشيوعي من التحول الاقتصادي لبلد ما بشكل يضعف رغبته وقدرته في أن يكون متمما لاقتصاد الغرب الصناعي " .
ولكي يتصدى القادة الأمريكان لمثل هذا التهديد، لم يترددوا ، غداة الحرب العالمية الثانية في حمل جنرالات النازية الجديدة إلى السلطة والتحالف معهم .
وكانت هذه السياسة ، التي طبقت بعد الحرب الثانية في كل أمريكا اللاتينية ، قد طبقت سابقا بعد الحرب العالمية الأولى . ففي عام 1922 ، وصف السفير الأمريكي في روما ، مستذكرا ذكرى مسيرة موسوليني إلى روما التي وضعت نهاية للديمقراطية في إيطاليا ، وصفها " بالثورة الشابة والجميلة " ، وأوضح لماذا يرى " أن الفاشيست ربما يكونون العامل الأقوى في كبح جماح البلشفية ".
وحظيت إيطاليا الفاشية منذ ذلك الحين بتعامل طيب من قبل الولايات المتحدة ، وذلك عندما سويت مسألة ديون الحرب . ثم تدفقت الاستثمارات الأمريكية إلى إيطاليا . وفي عام 1933 تحدث تيودور روزفلت عن موسوليني واصفا أياه " بالسيد الإيطالي الذي يثير الإعجاب " . وفي عام 1937 ، قيمت وزارة الخارجية الأمريكية الحركة الفاشية بأنها " أصبحت روح إيطاليا التي فرضت النظام في قلب الفوضى والمبادئ في وجه التجاوزات ، وحلت مشكلة الإفلاسات " .
ولم تغير إدانة غزو أثيوبيا إطلاقا من طبيعة العلاقات بين البلدين ، وشرح السفير الأمريكي لونغ أسباب ذلك بقوله : " بدون هذا التوجه .. كانت أشكال العنف البلشفي ستظهر في المراكز الصناعية ، والمناطق الزراعية التي تسود فيها الملكية الخاصة ".
وفي عام 1937 ، اعتبرت وزارة الخارجية ، أن الفاشية تتوافق مع المصالح الاقتصادية الأمريكية . وبمعنى آخر ، مع المفهوم الأمريكي للديمقراطية .
وحدث الأمر نفسه مع هتلر . ففي عام 1933 ، كتب القائم بالأعمال الأمريكي في برلين إلى واشنطن " إن الأمل المقود على ألمانيا ، إنما يعلق على " الجناح المعتدل في الحزب الذي يقوده هتلر … الذي وجه دعوة تعاون إلى كل الناس المتمدنين والعقلاء " .
ولأن " المحور " لم يهاجم الولايات المتحدة بعد بيرل هاربر ، فقد استمر الموقف الأمريكي من الفاشية على حاله لم يتغير .
وبعد الحرب .. تتابعت السياسة نفسها ، ولكن بلبوس جديد . ففي عام 1943 ، شهد الجنوب الإيطالي تراجع قوات الدوتشي ، بناء على إيحاء من تشرشل مدفوعا بالخوف من شبح حصار بلشفي . وقامت الولايات المتحدة بدعم ملك إيطاليا الذي تعاون مع النظام الفاشي ، وفرضت ديكتاتورية المارشال بادرغليو ، تماما كما فعل روزفلت عندما نصب عام 1942 الأميرال دارلان ، لا الجنرال ديغول ، على الجزائر .
كان الهدف هو منع المقاومة ضد الفاشية من الوصول إلى السلطة ، وكان الشيوعيون قد لعبوا دورا حاسما في صفوف هذه المقاومة .
قال ديفيد ماك ميشيل في كتابه " أكاذيب عصرنا " : منذ أن تسرب التقرير المعروف باسم تقرير بايك عام 1976 إلى الكونغرس ، بات معروفا مدى تدخل وكالة المخابرات المركزية في الحياة السياسية في إيطاليا . وكان الأمر يتعلق بمبلغ خمسة وستين مليون دولار ، قدمت كمساعدات مالية لأحزاب سياسية مرضي عنها ، والى شركاء لها ، وذلك بين عام 1948 وبداية السبعينات . وفي عام 1976 سقطت حكومة ألدومورو في إيطاليا ، بعدما كشف أن وكالة المخابرات المركزية أنفقت ستة ملايين دولار لدعم المرشحين المعادين للشيوعية .
ونقرأ في كتاب لكريستون سيمبسون بعنوان " انفجار " صدر عام 1988 :
" قامت أجهزة التجسس الأمريكية ، والأجهزة المعادية للمقاومة ، بتجنيد مجرمي حرب نازيين كبار ، مثل كلاوس باربي الذي يعتبر بدون شك ، الأكثر شهرة بينهم " .
وعمل النائب العام الأمريكي ماك كلوي على إطلاق سراح مجرم حرب نازي ، أسوأ حتى من باربي ، وكان يطلق عليه اسم فرانز 6 . والذي كان يعمل تحت إمة رينارد غيلن الذي أوكلت إليه مهمة تشكيل " جيش سري " ، تحت الرعاية الأمريكية ، وبالتعاون مع أعضاء قدامى في جهاز الأمن النازي واختصاصيين آخرين في جهاز قوات الدفاع الوطني النازية والذين كانوا قد قدموا العون للقوات العسكرية الميدانية التي وضعها هتلر في بلدان أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي ، وساعدوا بعد انتهاء الحرب في عمليات استمرت حتى أعوام الخمسينات . وكان غلين نفسه رئيسا للاستخبارات العسكرية النازية في أوروبا الشرقية ، وقد عهد إليه فيما بعد ، في الدولة الألمانية الجديدة بمنصب مدير إدارة التجسس والتجسس المضاد ، تحت مراقبة صارمة من المخابرات المركزية الأمريكية .
وحقيقة الأمر ، أن خوفا كبيرا في الولايات المتحدة ، قد برز مع تصاعد أزمة 1929 ، عندما أدى انهيار سوق الأوراق المالية في 4 تشرين أول ، نتيجة المضاربات المالية ، إلى إفلاس عدد لا يحصى من المصارف والمؤسسات ِ، وارتفاع مذهل في معدل البطالة . وفي عام 1930 ، وصل عدد العاطلين عن العمل إلى أربعة ملايين ، وارتفع عام 1931 إلى سبعة ملايين ، ثم بلغ عام 1932 أحد عشر مليونا .
أدى وصول روزفلت وأر كان حكمه من المنظرين إلى السلطة عام 1932 ، إلى بروز مبدأ جديد للدولة في ميدان الاقتصاد ، أطلقوا عليه اسم " الصفقة الجديدة " ، والذي ظهر بعجلة دون أن يتمكن من حل الأزمة ، فقد انخفض الناتج القومي عام 1937 ، بنسبة 13 % وانخفضت معدلات الاستخدام 30 % .
كانت الحرب العالمية الثانية وحدها القادرة على إخراج الولايات المتحدة من أزمتها . وفي الوقت الذي رفض فيه روزفلت تقديم العون لفرنسا المهزومة منذ عام 1940 ، فقد بذله لبريطانيا بموجب قانون خاص (فانون الإعارة والتأجير) أدى تطبيقه إلى إنعاش الاقتصاد الأمريكي عن طريق تصنيع آلاف عربات الشحن والطائرات والدبابات والمدافع . وحسم الهجوم الياباني في بيرل هاربر دون إعلان الحرب ، الجدال لصالح موقف مؤيد لروزفلت .
وسمحت القوة الاقتصادية الأمريكية تجاه أوروبا التي دمرتها الحرب ، سمحت لروزفلت ، حتى قبل تدخله المتأخر ، أن يصبح سيد اللعبة في أوروبا الغربية منذ كانون الثاني 1943 تجلى ذلك واضحا في مؤتمر كازابلانكا ، ثم في مؤتمر طهران الذي تلاه في نفس العام ، ثم في مالطا عام 1945 ، حيث مثل فيه روزفلت دور المفاوض الرئيسي لستالين لتنظيم العالم بعد سقود هتلر.
خرجت الولايات المتحدة من الحرب ، وهي في وضع السيطرة الشاملة ، وهو وضع لم سبق له مثيل في التاريخ . فالمنافسون الصناعيون كانوا قد دمروا ، أو أصابهم الضعف إلى حد كبير، ولهذا فقد تضاعف الإنتاج الصناعي الأمريكي خلال سني الحرب أربع مرات .
وأصبحت الولايات المتحدة في نهاية الحرب ، مالكة لنصف ثروات العالم ، بينما كانت خسارتها البشرية متواضعة جدا بالمقارنة مع ما قدمه العالم كله . لقد كلفت الحرب ألمانيا ما يزيد عن سبعة ملايين ونصف نسمة نصفهم من المدنيين ، وخسر الاتحاد السوفيتي سبعة عشر مليونا منهم عشرة ملايين مدني . وفي إنكلترا وفرنسا تجاوز الرقم مليون قتيل منهم 450 ألف مدني . أما الولايات المتحدة ، فقد كان عدد قتلاها 280 ألف جندي ، وهو رقم يعادل عدد ضحايا حوادث السيارات في الولايات المتحدة خلال سني الحرب .
وقبيل الحرب الكورية بقليل 1950 ، أعدت الوثيقة التي رسخت الخط السياسي للولايات المتحدة . وعرفت فيما بعد باسم مذكرة مجلس الأمن القومي رقم 68 / وقد حررها بول نيتش ، الذي خلف جورج كينان على رأس جهاز التخطيط في وزارة الخارجية .
وكان جورج كينان قد أقيل من منصبه لأن السلطة اعتبرته من " الحمائم " جدا ، وكان قد كتب عام 1948 : نحن نملك 50 % من ثروات العالم ، ولكننا لا نشكل أكثر من 3 , 6 % من سكان الأرض ، وفي مثل هذا الوضع يبدو أنه لا مناص من أن نكون موضع غيرة وحسد الآخرين ، وسيكون جهدنا الأساسي في الحقبة المقبلة ، تطوير نظام من العلاقات يسمح لنا بالاحتفاظ بهذا الوضع المتسم بعدم المساواة ، دون أن نعرض أمننا القومي للخطر . ويجب علينا لتحقيق ذلك أن نتخلص من العاطفة تماما ، وأن نتوقف عن أحلام اليقظة . يجب أن يتركز انتباهنا في كل مكان على أهدافنا الوطنية الراهنة ، علينا أن لا نخدع أنفسنا ، ولا نستطيع أن نسمح لأنفسنا اليوم بالغوص في ترف التفكير بالايثار وعمل الخبر على مستوى العالم . علينا التوقف عن الحديث عن مواضيع غامضة أو غير ممكنة التحقيق ، تتعلق بالشرق الأقصى ، مثل حقوق الإنسان ، أو تحسين مستوى المعيشة ، أو إحلال النظام الديمقراطي . ولن يكون بعيدا اليوم الذي سنجد فيه أنفسنا مضطرين للتحرك بصراحة من خلال علاقات القوة . وبقدر ما يكون ارتباكنا بسبب الشعارات المثالية أقل ، بقدر ما يكون ذلك أفضل " دراسات في التخطيط السياسي " .
أما " مخطط الصقور " الذي رسمه بول نيتش بوضوح أكثر للمواضيع التي تناولها . تمتلك الولايات المتحدة ـ يقول نيتش ـ قوة كونية ، لهذا سيكون من الضروري أن نحدد لنا عدوا كونيا ، وفي هذه الحالة سيكون الاتحاد السوفيتي . وعلينا أن نضفي على هذا العدو كل صفات الشيطان ، بحيث يصبح كل تدخل أو عدوان للولايات المتحدة مبررا مسبقا ، وكأنه عمل دفاعي تجاه خطر يشمل الأرض كلها . وهكذا أصبح الاتحاد السوفيتي بموجب هذا المخطط ، " امبراطورية الشر " . ليس مهما أن لا تكون كوريا أو فيتنام هي التي غزت الولايات المتحدة ، وليست هامة حقيقة أن الولايات المتحدة هي التي غزت هذين البلدين الذين يقعا على بعد عشرة آلاف كيلومتر عن حدودها ، ومع ذلك فقد زعمت أمريكا أنها تعتبر نفسها في حالة دفاع مشروع.
ولم يكن الاتحاد السوفييتي عام 1917 ، قد أصبح قوة عسكرية ، وخاصة بعد خسارته المرعبة بالأرواح خلال الحرب العالمية الأولى ، ومع ذلك فقد اعتبر الخطر الرئيسي ، بسبب أخطار " العدوى " التي يحملها ، مشكلا تهديدا لاستمرار النظام الرأسمالي .
وقال جاديس في كتابه " السلام الطويل " 1987 :
" أصبح أمن الولايات المتحدة في خطر منذ عام 1917 ، وليس في عام 1950 . كان التدخل عملا دفاعيا ضد تبديل النظام الاجتماعي في روسيا وإعلان الاتحاد السوفيتي عن نواياه الثورية ". ومن هذا المنطلق كتب السناتور وارن هاردينيج ، الذي أصبح فيما بعد رئيسا للولايات المتحدة (1921 ـ 1923) قائلا : " تشكل البلشفية تهديدا يجب القضاء عليه … لابد من القضاء على الوحش البلشفي " من كتاب " الولايات المتحدة وإيطاليا الفاشية " .
إذن ، يشكل وجود الاتحاد السوفيتي بحد ذاته عدوانا ، وهذا يوجب أن تدافع الولايات المتحدة عن نفسها ، في كل بقعة من بقاع العالم .
وهكذا تحددت بوضوح مواضيع الحرب الباردة . وحددت وثيقة جهاز التخطيط في الخارجية الأمريكية المذكورة آنفا هذه المواضيع على الشكل التالي :
إن الصراع بين قوى النور وقوى الظلام لا يهدد فقط جمهوريتنا ، إنما المدينة بأسرها . إن الانقضاض على مؤسسات العالم الحر ، يشمل المعمورة كلها ، ويضع على كاهلنا من خلال مصالحنا الخاصة ، مسؤولية ممارسة " القيادة للمعمورة كلها " .
وكان من السهل جعل هذه الفكرة مقبولة من " الرأي العام " ، بسبب الطبقة الحاكمة المسيطرة على الصحافة ودور النشر والجامعات والسينما والتلفزيون . وكشف اليكس توكفيل ، عن مدى هذه الإمتثالية لدى الشعب الأمريكي في كتابه " الديمقراطية الأمريكية " : " إني لا أجد بلدا تكاد تنعدم فيه استقلالية الروح ، ويسوده قليل من النقاش مثل الولايات المتحدة " . وفي عام 1858 قال الكاتب هنزي ديفيد ثورو وهو أحد المعارضين النادرين ومؤلف كتاب " والدن ـ أو الحياة في الغابة " :
" ليس هناك ضرورة لوجود قانون يمكن الدولة من السيطرة على الصحافة ، لأنها تفرض قوانينها بنفسها ، وتطبقها بصرامة أكثر مما هو مطلوب منها . لقد وصل المجتمع ، ولو بشكل غير معلن إلى اتفاق يتعلق بالمواضيع التي يمكن للصحافة أن تعبر عنها ، واختار ميدانها ، وعقد تعاهدا مضمرا بعزل كل من يحاول خرقه ، بحيث لا يتجرأ واحد من ألف ان يعبر عن شيء آخر " . ويضيف نعوم شومسكي : " من الدقة أكثر القول إن واحدا بالألف لا يستطيع أن يفكر بشيء آخر ، إلى هذه الدرجة الماحقة يمارس نظام السيطرة سلطته على التفكير " .
" وفي القرن العشرين بدت هذه السيطرة أكثر وضوحا ، إذ أدركت شخصيات مرموقة وباحثون كبار في العلوم السياسية ، وصحفيون ، وعاملون في صناعة العلاقات العامة المتنامية ، أنه في بلد ما حيث يمكن للشعب أن يرفع صوته ، من الضروري التأكد أن هذا الشعب يقول ما يجب أن يقال وبالشكل المناسب " .
"وفي دولة مؤسسة على العنف الداخلي ، تكفي السيطرة على ما يفعله الناس ، أما ما يفكرون به فقليل الأهمية . أما عندما يكون عنف الدولة محدودا ، يصبح من الضروري السيطرة على ما يفكر به الناس " .
كان هذا الأمر واضحا جدا في حلقات النخبة ، حيث كان هناك إصرار على أهمية " إعداد الموافقة " ، وهو تعبير استخدمه والترليبمان وهو صحفي متميز ومعلق سياسي ، أو " فبركة الموافقة ، حسب تعبير ادوارد برني ، وهو شخصية مؤثرة ومحترمة جدا في حقل صناعة العلاقات العامة ، وذلك للاطمئنان إلى أن المجتمع ، سيوافق على قرارات قادته الأذكياء ، ذوي البصيرة النافذة ، والذين يجب أن يكونوا بمنأى عن التأثر بجلافة الجماهير وسذاجتها " .
وكتب روبرت دال ، وهو أحد النقاد النادرين الذين تناولوا هذه المفاهيم بالنقد ، والمختص بالعلوم السياسية : " لو افترضنا أن الخيارات السياسية تفرض ببساطة على النظام ، من قبل القادة ( سواء كانوا من رجال الأعمال أو آخرين) ، كي يحصلوا على ما يريدون ، فإن نمط الاستفتاء الديمقراطي ، سيعادل في جوهره الهيمنة الشاملة " .
وهكذا ، على ارض التلاعب هذه ، التلاعب بالرأي العام ، يسعى القادة الأمريكان أن يحققوا هيمنتهم على العالم . والشاغل الأول للأجهزة المسيطرة على السلطة ، هو أن يحموا ظهرهم في أمريكا اللاتينية .
كانت الخطوة الأكثر وحشية بعد الحرب ، خطوة غواتيمالا ، حيث هددت حكومة الرئيس ارابيز الشعبية امتيازات شركة الفواكه ، وشركات البترول الأمريكية العاملة هناك .
وتجنبا لمضاعفات التدخل العسكري المباشر ، فقد حددت مذكرة مجلس الأمن القومي ،
رقم NSE 5432 ، الإجراءات الضرورية لتكامل القوات العسكرية اللاتينية ـ الأمريكية ، من خلال الأسلوب الأمريكي " في التشجيع " :
ـ " زيادة حصص بلدان أمريكا اللاتينية في مجال تدريب الافراد في الكليات العسكرية ومراكز التدريب في الولايات المتحدة ، بما فيها الاكاديميات الحربية " .
ـ يفضل إنشاء علاقات شخصية أكثر حميمية بين العسكريين الأمريكيين ، وغير الامريكيين ، لتشجيع عسكريي أمريكا اللاتينية على تفهم أكبر لأهداف الولايات المتحدة وتبنيها ، وإدراك الدور الهام لمؤسساتهم العسكرية في الحكم .
ـ البحث عن نمطية كاملة في التنظيم ، والتدريب ، والعقيدة القتالية ، وتجهيز القوات المسلحة في بلدانهم ، كل ذلك حسب المعايير الأمريكية ، الهدف أن يعارض هؤلاء العسكريون ، إرسال دول أخرى ، بعثت عسكرية إلى أمريكا اللاتينية وكي يصبح مؤكدا أن التجهيزات الأمريكية هي التي ستستخدم في هذه الجيوش .
لنلاحظ أن هذه الإجراءات لجيوش أمريكا اللاتينية في إطار بنية القيادة العسكرية الأمريكية ، إنما تهدف إلى مواجهة " أعدائنا التاريخيين " في أمريكا اللاتينية ، وهم أوروبا والسكان الأصليون .
ولأن المظالم التي ارتكبها القتلة في امريكا اللاتينية ، جعلت من الصعب وضعهم في كراسي الحكم ، فقد استبدلت الولايات المتحدة الإرهاب بالفساد ، وعمدت إلى استبدال هؤلاء القتلة بقادة " منتخبين " ، كما جرى في الأرجنتين والبرازيل وباناما بعد أن استخدموا نوربيغا ، وكذلك في نيكاراغوا التي سعوا أن تستمر فيها السوموزية بدون سوموزا ، بعد ثلاثين ألف قتيل .
وطرحت المشكلة بحدة في أوروبا غداة الحرب العالمية الثانية . كان الخطر هنا مضاعفا ، حسب وكالة المخابرات المركزية التي أكدت عام 1947 أن الخطر الاكبر ، على أمن الولايات المتحدة ، هو خطر الانهيار الاقتصادي في أوروبا الغربية ، وما سيتبعه من وصول عناصر شيوعية إلى السلطة.
ولتجنب مثل هذا الخطر المضاعف ، أطلق القادة الامريكيون مشروع " مارشال " الذي هدف حسب قولهم إلى إعادة إعمار أوروبا .
لكن الشروط السياسية كانت صارمة : لابد في البداية من إقصاء الشيوعيين في الحكومات الغربية . وهكذا بدى التدخل الخارجي في هذه البلدان واضحا :
فقد أقصي الوزراء الشيوعيون في الحكومة الفرنسية عن الحكم في 4 أيار 1947 . وأقصى الوزراء الشيوعيون في الحكومة البلجيكية في الشهر نفسه .
وهكذا ، بعد أن تمت عمليات الإبعاد ، أعلن بشكل رسمي عن مشروع مارشال في 5 حزيران 1947.
كانت " المساعدة " هي الهدف الأصغر في خطة مارشال . وقد لاحظت دراسة أجريت في نيسان 1947 ، أن المساعدة الأمريكية ستكرس بشكل مطلق للبلدان التي تتمتع بأهمية استراتيجية أساسية للولايات المتحدة .. ما عدا حالات نادرة ، التي تبرز فيها مناسبة للولايات المتحدة أن تتلقى استحسانا عمليا بفضل " عمل إنساني واضح جدا ".
وقد اتفق دين اتشيسون وزير الخارجية ، وعدد من أعضاء مجلس الشيوخ عام 1950 ، أنه لو اعلنت المجاعة في القارة الصينية ، سيكون على الولايات المتحدة أن تقدم مساعدات غذائية قليلة بالقدر الذي لا تخفف فيه من حدة المجاعة ، انما تكفي لتسجيل نقطة في سجل الحرب النفسية .
ولإعطاء دعم أكثر لهذه العملية السياسية الاقتصادية ، فقد رسمت مذكرة مجلس الأمن القومي "NSE 68 " استراتيجية لضغوط تهدف لنخر الاتحاد السوفيتي من الداخل ، عبر سلسلة من الدسائس السرية وغيرها ، تمكن في النهاية من التفاوض مع الاتحاد السوفيتي (أو الدولة أو الدول التي يمكن أن تحل محله) للوصول إلى اتفاق .
أما الوسائل السرية ، فقد تضمنت في تلك المرحلة ، إرسال معدات وعملاء يندسون في صفوف جيوش الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية ، والتي كانت قد صمدت أمام هتلر ، ووضع إدارة أجهزة التجسس في ألمانيا الفدرالية ، بين يدي ريتشارد غيلين الذي كان يدير أجهزة التجسس العسكرية النازية في الجبهة الشرقية ، وتجنيد مجرمي الحرب النازيين للمشاركة في المشروع الأمريكي الشامل لما بعد الحرب ، والذي يهدف لتحطيم المقاومة المعادية للفاشية .
ولأن العملاء من أمثال هؤلاء المجرمين لا يمكن حمايتهم في أوروبا ، فقد أرسلوا ، كل حسب مهمته ، إلى بلد من بلدان أمريكا اللاتينية . وهكذا أرسل كلاوس إلى بوليفيا ، فشارك بشكل فعال في انقلاب 1980 ، وذهب ضحية جرائمه ما يفوق بكثير ضحايا الجرائم التي ارتكبها في فرنسا أثناء الاحتلال الهتلري .
أثار السلام عام 1945 ، ثم انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1989 مشكلات صعبة أمام الولايات المتحدة ، تتعلق بالتبريرات التي ستضعها أمام الرأي العام لسياسة التسليح التي كانت عنصرا ضروريا لتنشيط الاقتصاد الامريكي .
كتبت مجلة وول ستريت جورنال في 31 آب 1989 ما يلي : : أثار الشبح المزعج للسلام ، مسائل شائكة ، فهو يهدد مباشرة المسيرة المنتظمة للبرامج العسكرية الامريكية والتي استندت إليها ، والى حد كبير بعد سنوات الحرب ، حركة اقتصاد الدولة . وتصور الجنرال ادوارد ماير ، رئيس الاركان الاسبق ، أن جيشا يتمتع بتقنية عالية ، بما تستدعيه من استثمارات هامة ، سيضمن عائدات ضخمة للصناعة الموجهة للخارج ، بما فيها من دبابات يسيرها الروبوت ، وطائرات تقاد عن بعد وعمليات تضليل ألكترونية ، انما كلها مشكوك بفائدتها في تحقيق الأهداف العسكرية المقبلة .
ولكن المسألة ليست ، لأن بواعث القلق تصدر عن ضعف الامل في تطور تقنية كهذه ، فكيف نقنع الشعب في دفع الفاتورة في الوقت الذي لم يعد فيه وأمام عينيه تهديد شيوعي ، بعد أن فقد هذا الشعار مصداقيته .
يجب إذن البحث عن بديل " لإمبراطورية الشر " .
هنا تزودنا حرب المخدرات بادعاء جديد لعمليات التدخل : " حق التدخل الانساني " أو " الدفاع عن هذا الحق " .
ثم وجدوا في العراق " امبراطورية الشر الجديدة " .
منذ سنوات ، كان صدام حسين يمثل سدا ضد الإسلام الذي جسدته إيران الخميني ، ولم يمنع التسلح ولا الأسلحة عن ذلك الرجل الذي دعاه أحد الكتاب الفرنسيين بـ " ديغول العراق " . أما عندما أراد أن يسترد نصف إنتاجه البترولي الذي اغتصب منه عام 1962 ، عبر تهديد عسكري من الطراز الاستعماري ، " كانت الكويت دائما في ظل الامبراطورية العثمانية ، ومن ثم الاحتلال البريطاني تابعة لاقليم البصرة " ، بادرت الولايات المتحدة ، مع أتباعها وشركائها إلى اتخاذ اجراءات بدت معها وكأنها المدافع عن " القانون " و " القانون الدولي " ، ضد هذا " العدوان " ، بعد أن استخدمت حق الفيتو ضد كل عقاب بحق اسرائيل ، وكأنه مكافأة لها على اعتدائها على الفلسطينيين والجولان ، وإلحاقها أراض لا تعود لها ومنها القدس .
كان لابد من ضرب " المثل " لكل العالم الثالث ، أنه من غير المسموح ، تحت طائلة التدمير، لاي شعب أن يرتقي إلى مستوى تقني عال ، أو يستثمر بنفسه ثرواته الوطنية " البترول في حالة العراق " ، دون مراقبة الدول العظمى لأسعارها ، ويشمل المنع بشكل خاص محاولة التخلص من الديانة التي لم تجرؤ هذه القوى على تسميتها ، والتي فرضتها على العالم الثالث بأكمله : وحدانية السوق ، ووثنية المال.
تشير احصائيات الصليب الاحمر الدولي ، ان القصف كلف الشعب العراقي مئتي ألف قتيل من المدنيين . أما الحظر التعسفي الذي فرض على العراق فقد أدى إلى وفاة 500 ألف طفل بسبب نقص الغذاء والدواء .
عندما أرسلت الولايات المتحدة عسكرها إلى العربية السعودية ، كتب توماس فريدمان ، المشرف على الزاوية الدبلوماسية في النيويورك تايمز في 12 آب يقول : " لم ترسل الولايات المتحدة جنودها إلى الخليج لتساعد السعودية على صد العدوان فقط ، بل لتساند في الوقت نفسه ، أحد بلدان الأوبك ، خدمة لمصالح واشنطن " .
كما لاحظت الواشنطن بوست أن هذا الاجراء فيه شيء من سلوك الماضي المهجور ، واستشهدت بقول توم مان مدير الشؤون الحكومية في مؤسسة بروكينج : يعامل بوش بلدان العالم الثالث بمنطق استعماري " الواشنطن بوست وفي الحقيقة فقد سبق هذه العملية الاستعمارية ، عدوان إنكليزي ، عندما استرد العقيد عبد الكريم قاسم عام 1961 ، الامتيازات التي كانت تتمتع بها الشركات الغربية " 94 % من الثروة الوطنية " ، والتي حصلت عليها عن طريق الحكومات الدمى التي نصبها المحتلون الغربيون .
كان سلوين لويد ، وزير الخارجية البريطاني ، قد أرسل برقية إلى رئيس الوزراء ، عرض فيها خيارين يتعلقان بالكويت : أما احتلال بريطاني فوري لهذا البلد نصف المستقل ، أو منحه استقلالا اسميا ، وشكك بحكمة استخدام القوة . فالاحتلال يسمح بفرض خيارات صارمة على البترول الكويتي ، لكنه يوقظ المشاعر القومية في الكويت ، وسيكون ذا تأثير على الرأي العام الدولي ، والعالم العربي . وسيكون من الفطنة أكثر ، استبدال هذا الخيار بايجاد نوع من " سويسرا كويتية " لا يسيطر فيها الانكليز مباشرة على البترول . وفي حال اختيار هذا الحل البديل ، سيتوجب علينا ، إذا ساءت الامور ، أن نتدخل بأكبر حزم ممكن ، كائنة من تكون ، الجهة التي سببت الاضطراب . ويجب التأكيد على التضامن المطلق للولايات المتحدة معنا ، فيما يتعلق بموضوع الخليج ، وهذا يستدعي اجراءات حاسمة للحفاظ على وضعنا في الكويت . وعلى الولايات المتحدة أن تتخذ اجراءات مماثلة تتعلق بحقول نفط الارامكو في العربية السعودية . والامريكيون موافقون على بقاء حقول النفط في الكويت ، والعربية السعودية والبحرين وقطر ، بيد الغربيين مهما كلف الثمن .
ثم أوجز الوزير البريطاني المصالح الرئيسية للانكليز والغرب في الخليج :
ـ التأكيد على ضرورة وصول بريطانيا والدول الغربية الاخرى إلى بترول الخليج وصولا حرا.
ـ التأكيد على بقاء البترول تحت تصرفنا وعقد اتفاقيات لصالحنا " وبالجنيه الاسترليني " ، واتخاذ ترتيبات مقبولة لاستثمار فائض عائدات البترول في بلادنا .
وقف تقدم الشيوعية والشيوعية المموهة في هذه المنطقة التي تسعى لاحتواء الحركة القومية التي يستخدمها السوفييت إلى هذا المنطقة .
وتدافع وثائق امريكية تعود لنفس الفترة عن الاهداف الانكليزية وبعبارات مشابهة ، ونورد هنا مقطعا من وثيقة مجلس الامن رقم 5801 / 1 ، بعنوان " القضايا الناتجة عن الوضع في الشرق الادنى " :
تؤكد المملكة المتحدة ، أن الاستقرار الحالي ، سيواجه تهديدا خطيرا ، فيما إذا تعذر الوصول إلى بترول الكويت والخليج ، في ظروف مفهومة . ومن جهة أخرى لا تستطيع انكلترا أن تستغني عن الاستثمارات الضخمة لهذه المنطقة في المملكة المتحدة ، كما أن الجنيه الاسترلييني يحتاج لمساندة بترول الخليج " الفارسي " .
وتحمل ، هذه " اللزوميات " البريطانية ، أضافة إلى حقيقة أن واردا مؤكدا من البترول ضروري لحيوية الاقتصاد الاوروبي الغربي ، تحمل إلى الولايات المتحدة حجة أكبر ، لتدعم ، أو تساعد إذا لزم الامر ، الانكليز ، بالقوة اللازمة لاستمرار سيطرتها على الكويت والخليج " العربي " .
وهكذا اعتبر ايزنهاور الشرق الاوسط ، وكأنه المنطقة الاستراتيجية الاكثر اهمية في العالم . وكانت الولايات المتحدة ، غداة الحرب العالمية الثانية ، قد جهزت خططها الجيوسياسية : " صاغت مجموعة من الدراسات التي أجراها كل من مجلس العلاقات الخارجية " الذي يمارس فيه عالم الاعمال تاثيرا كبيرا على السياسة الخارجية ، ووزارة الخارجية مفهوما اطلق عليه اسم " المنطقة الكبرى " ، وهي منطقة يجب أن تخضع لمصالح الاقتصاد الامريكي ، والتي يجب ان يضم ، على الاقل ، نصف الكرة الغربي ، والشرق الاوسط ، والامبراطورية البريطانية القديمة .
ويتوجب ، بحسب الامكان ، تطوير هذا المفهوم لتكوين نظام شامل ، يضم في كل الاحوال أوروبا الغربية ومصادر الطاقة الفريدة في الشرق الأوسط ، التي بدأت فعليا بالانتقال إلى الأيدي الأمريكية .
وفي كتاب " الولايات المتحدة والأبعاد الإستراتيجية لمشروع مارشال " للكاتب ميلغن ليفر ، جاء ما يلي :
" ان المفهوم الأمريكي للأمن القومي … يتضمن ايجاد منطقة نفوذ استراتيجية في قلب نصف الكرة الغربي " وهي دائرة تتواجد فيها أوروبا بالضرورة " ، ولذلك يجب إقصاء نفوذها ـ يقصد أوروبا ـ ، بحيث يشمل النفوذ الاستراتيجي السيطرة الاقتصادية ، والهيمنة على المحيط الهادي والأطلسي ، ونظام شامل لبناء قواعد خارجية ، لتوسيع الحدود الاستراتيجية ، وترسيخ السلطة الامريكية ، ونظام اكثر تركيزا على حقوق الترانزيت كي يسهل تحول القواعد التجارة إلى قواعد عسكرية ، والوصول إلى مصادر الثروة ، وأسواق القسم الاعظم من " أوراسيا " ، ومنع أي عدو من الوصول إليها ، وأخيرا تحقيق التفوق النووي " .
ويسمح لنا هذا المفهوم الاستراتيجي ، بفهم آلية الحرب الباردة بعد عام 1948 بشكل أفضل . وتلعب سياسة " الإفراط في التسلح " دورا حاسما في هذه البرمجة .
قال مجلة وول ستريت (1951) : " إنه من الواضح ، وجود إمكانية لانفاق مستمر على التسلح في هذه البلاد " . وتحرك النفقات العسكرية للولايات المتحدة ، الانتاج الصناعي الأوروبي بشكل لا يمكن تجاهله ، كما أن شراء المواد الأولية الاستراتيجية من المستعمرات الأوروبية ، يقلل من عجز الدولار ، بنسبة تضاهي المساعدة التي قدمها مشروع مارشال لبريطانيا ، والتي علقت عام 1950 . بينما وجد هوغان ، أن النتائج على المدى الطويل كانت عكس ذلك . ففي اليابان لعبت النفقات العسكرية للولايات المتحدة ، وخاصة بسبب الحرب الكورية ، دورا جوهريا في إعادة بناء الصناعة اليابانية بعد الحرب ، واستفادت كوريا الجنوبية من حرب فيتنام ، بنفس الأسلوب ، وبنفس الوقت الذي أفادت منه الدول الحليفة للولايات المتحدة .
كان دور العالم الثالث ، خدمة احتياجات المجتمعات الصناعية ، ففي أمريكا اللاتينية ، كما في أي مكان آخر ، كانت حماية " مواردنا الطبيعية " أمرا جوهريا ، حسب تعبير جورج كينان ، الذي رأى انه " طالما أن تهديد مصالحنا ، نابع بالضرورة ، من السكان الأصليين في المناطق المختلفة ، فإن علينا ادراك أن الرد المناسب سيكون غير مستحب " . وعنى بالرد المناسب ، الضغوط البوليسية التي تمارسها الحكومات المحلية . " يجب أن لا تثير إجراءات القمع الشديدة التي تمارسها الحكومات ، مشاعرنا طالما أنها تخدم أهدافنا " .
وتابع : " وبشكل عام ، من الأفضل أن نضع في السلطة نظاما قويا ، بدا من حكومة ليبرالية ، يرى فيها الشيوعيون في حكومة متساهلة ومتراخية وهو ما يفضلونه " . وتستخدم كلمة " شيوعيون " في الخطاب الأمريكي كتعبير فني ، يقصد به النقابيون ، ومنظموا الجماهير الفلاحية ، والجماعات المساندة التي أسسها القساوسة ، وبشكل عام كل أولئك الذين يسعون لأهداف ليست " سليمة " سياسيا. أما " الغايات الخيرة " فقد حددتها أعلى المستويات ، وفي وثائق في منتهى السرية . أتى الخطر الاكبر على المصالح الأمريكية من الأنظمة القومية ، التي هي صدى للضغوط الشعبية الهادفة لتحقيق تحسين فوري في المستوى المنخفض ، لمغيشة الجماهير ، وكذلك تنويع الاقتصاد. " وتدخل هذه المطالب في صراع ، ليس مع حاجتنا لحماية مواردنا فحسب ، بل أيضاً مع همنا في تشجيع قيام مناخ ملائم للإستثمار الخاص ، وضمان فوائد معقولة لمن يحملون رؤوس أموالهم إلى تلك البلاد " ، (وثيقة مجلس الأمن القومي 5432 ، 18 آب 1959) .
وتبعا لما قاله ديك شيني ، وزير الدفاع ، الذي يشاطر الرئيس بوش أفكاره " فالولايات المتحدة بحاجة دائما لأسطول قوي (وبشكل عام قوات تدخل من جميع الأنواع ) لمواجهة الصراعات الخفية ، وحماية المصالح الأمريكية في آسيا، وأمريكا اللاتينية على سبيل المثال " .
ويتابع شيني : " ستصبح قوتنا العسكرية في المستقبل ، عنصرا ضروريا لتوازن القوى ، ولكنها ستؤكد وجودها بطريقة مغايرة . من المحتمل جدا أن تواجه تعبئة قدراتنا العسكرية تحديا لا من الاتحاد السوفيتي فحسب ، بل من العالم الثالث أيضاً ، وهذا يستدعي قدرات جديدة ، وتوجهات محددة " .
فيما يتعلق بالتطورات الحالية لسياسة الاستيطان في فلسطين ، لم يكن هناك ، ولو للحظة واحدة ، أية فرجة صغيرة تبعث الامل من خلال ما اتفق على تسميته بعملية السلام ، وهو تعبير غامض لانه لا يمكن تحقيق السلام إلا من خلال تطبيق كامل لقرارات الأمم المتحدة ، وقد انتهكت هذه القرارات باستمرار من قبل إسرائيل ، وبشكل خاص كل ما يتعلق بالضفة الغربية، وزرع المستوطنات ووضع القدس .
وقال نعوم شومسكي في كتابه " إعاقة الديمقراطية " : أنهت الولايات المتحدة وإسرائيل مساعيهما الدبلوماسية الخاصة لنزع فتيل الخطر الناجم عن إنجاز عملية سلام حقيقي . وكان تحالف الليكود وحزب العمل ، قد اقترح عام 1989 ما سمي بخطة شامير ـ بيريز . وكانت المبادئ الأساسية لهذه الخطة :
ـ لن يكن هناك دولة فلسطينية في قطاع غزة ، وفي المنطقة الواقعة بين إسرائيل والأردن .
ـ لن يحدث أي تغيير في وضع " يهود والسامرة " وغزة ، خارج الخطوط التي رسمتها حكومة إسرائيل ، التي ترفض حق تقرير المصير للفلسطينيين . ويعكس تعبير " لا دولة أخرى في فلسطين " ، رأيا مشتركا أمريكيا ـ إسرائيليا من منطلق أن الدولة الفلسطينية قائمة فعلا ، وهي الأردن . وانطلاقا من هذا الرأي ، لن يكون هناك حق تقرير المصير ، بعكس ما يعتقده الأردنيون والفلسطينيون والأوروبيون وبعض المضللين الآخرين .
وتأخذ هذه المبادئ الاساسية بالحسبان " اللاءات الاربعة " الواردة في برنامج حزب العمل وهي : لا عودة لحدود عام 1967 ، لا لإلغاء الاستيطان ، لا للتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية ، لا للدولة الفلسطينية .
بعد كل هذا .. دعت الخطة لإجراء انتخابات حرة ديمقراطية في ظل الاحتلال العسكري الإسرائيلي ، مع استبعاد منظمة التحرير الفلسطينية .
أضفت الولايات المتحدة الشرعية على هذا المشروع . وقال جيمس بيكر إن " هدفنا دائما أن نسير في ظل معاني مبادرة شامير ، وليس لدينا أية خطة أخرى ، ولا أي اقتراح آخر".
وفي عام 1989 ، نشرت الخارجية الامريكية " خطة بيكر " ، التي اشترط فيها أن تتحاور اسرائيل مع مصل ، ومع بعض الفلسطينيين المقبولين والمخولين للبحث في كيفية خطة شامير … ولا شيء آخر .
والحقيقة أن السياسة الامريكية تدار عن طريق اللوبي الصهيوني القوي في الولايات المتحدة ، وهو اللوبي الذي دعته جريدة النيويورك تايمز " اللوبي الأشد تأثيرا … إنه قوة كبرى في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط " . وتقدر النيويورك تايمز أنه يستند إلى ما لا يقل عن 40 ـ 45 سناتورا ، ومئتي نائب من أصل 435 .
ويمثل اليهود الأمريكيون الذين لا يتجاوزون 6 , 2 % من السكان ، 20 % من أصحاب الملايين ، حسب مجلة فوريس ، وكلهم مستعدون لمكافأة الأصوات التي تصب في صالح اسرائيل ، وفق توجيهات لجنة الشؤون العامة الامريكية الاسرائيلية " إيباك " . وقد أنفقت هذه اللجنة عام 1987 أكثر من 000 ,900 ,6 دولار (وول ستريت جورنال 24 حزيران 1987) .
في ظل هذا النفوذ ، تتلقى إسرائيل أكثر من ثلاثة مليارات دولار سنويا ، باسم مساعدة اقتصادية وعسكرية ، وهو ما يمثل 700 دولار لكل اسرائيلي في العام .
مقابل ذلك تتلقى أفريقيا باستثناء مصر ـ مساعدة ، يبلغ نصيب الفرد فيها 2 دولار في السنة (لوموند ديبلوماتيك . آب 1989) .
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، أصبح الموضوع الرئيسي للسياسة الامريكية ، وضع اليد على البلدان النامية . وكانت دول الجنوب قد تلقت في الماضي ضربة نموذجية للتوقف عن محاولتها لاستخدام ثرواتها الوطنية لخدمة شعوبها ، وذلك عندما أطيح بالرئيس مصدق ، وأعيد الشاه إلى حكم إيران . وكذلك كان خطر القومية قد أصبح من المسلم به في وسائل الاعلام . وقد سمح نجاح الانقلاب العسكري المدعوم من المخابرات المركزية الأمريكية في الإطاحة بالنظام البرلماني لمصدق ، الرئيس الإيراني القومي المحافظ ، واستعادة سلطة الشاه ، سمح لشركات البترول الأمريكية أن ، تستولي على 40 % من الحصة البريطانية من بترول إيران . ووصفت النيويورك تايمز بأنه خبر ممتاز ، على الرغم من أنه كلف غاليا كل الاطراف المعنية " وبالضرورة الجانب الإيراني " . وقالت إن على الجميع أن يتعلموا منه الكثير ، فيما لو كانوا يستخلصون الدرس من الأحداث . وكان الدرس المطلوب تعلمه ، كما أوردته النيويورك تايمز بدون غمغمة ، وبكلمات تتصف بكامل الوضوح : من المستحسن للدول النامية التي تملك ثروات طبيعية هامة أن تتأمل هذا الحدث المثال . لو أنها اقتفت آثار هؤلاء الذين يتواجدون في ظهرانيها ، ويبشرون بالهذيان القومي، فسيكلفها ذلك غاليا. وقد تحتاج هذه الدول إلى التجربة الإيرانية لردع أمثال مصدق من الذين يسعون للوصول إلى السلطة. وتضع هذه التجربة أوراقا رابحة في أيدي القادة " المتنورين " الذين يواجهون الأمور بمنطق يتطلع إلى المستقبل البعيد، ويملكون فكرة واضحة عن " أولوياتنا ".
وجرى تطبيق هذا الاطار في مناطق محددة . كان فريق العمل الذي رأسه جورج كينان عام 1949 ، لتخطيط سياسة وزارة الخارجية قد رأى أن لدول جنوب شرق آسيا وظيفة جوهرية هي تزويد اليابان وأوروبا الغربية بالمواد الأولية ، وفتح أسواقها لهما . وقاد هذا الأمر إلى التدخل الأمريكي في الهند الصينية . كان الهدف محاصرة الاستعمار الفرنسي أولا ثم الحلول محله . وخشيت أمريكا أن يصبح استقلال فيتنام بمثابة " فيروس " قومي ينتشر في كل جنوب شوق آسيا.
وأشارت وثيقة صادرة عن المخابرات المركزية في 13 أيار 1965 إلى أنه في أي مكان لا نتمكن فيه من السيطرة المباشرة على القوات العسكرية وقوات البوليس ، على غرار نيكاراغوا بعد سيموزا أو باناما ، يصبح من الضروري الإطاحة بالحكومة وإقامة نظام أكثر مسايرة ، وإحياء وتقوية " جيش شرعي " على غرار الحرس الوطني في نظام سيموزا ، الذي كان اكثر الانظمة تفضيلا لدى الولايات المتحدة .
وفي مجلة " نيشن " ، في عدد 1 حزيران 1990 ؛ كتب ميشيل كلير ، تحت عنوان : عسكرية الولايات المتحدة تواجه الجنوب ، أن " الكليات العسكرية ، تقوم بتغيير برامجها لتلائم الاهداف المرسومة . وهكذا أعلنت كلية حرب الأسطول أن دراسة استراتيجيات الحرب يجب أن تشدد على الحرب " المدنية " ، والإرهاب ، والأزمات ضغيفة الشدة ، كغزو بناما مثلا . وتستدعي الأشكال الجديدة للصراع " المتوسط الشدة "، مع الأعداء الأقوياء في العالم الثالث ، انتباها خاصا ، لو أخذت بعين الإعتبار الحاجة الحيوية لبسط سلطة معنية على أقاليم أخرى ، ليبقى متاحا الوصول إلى الأسواق والمواد الأولية في المناطق البعيدة ".
نفس المسائل ، طرحها رئيس أركان البحرية ا . م . جراي ، فقد أعلن أن " نهاية الحرب الباردة ستعيد توجيه سياستنا الأمنية الخارجية ، دون تغيير الأسس ، وسيكون صراع الشمال والحنوب هو الحد الفاصل الحتمي " .
قال غراي في مجلة الأسطول في أيار 1990 :
" يجب ضمان وصولنا إلى الأسواق الاقتصادية في العالم كله ، دون عقبات ، وكذلك إلى المصادر الضرورية لتأمين احتياجاتنا الصناعية . لذلك يتوجب علينا إيجاد قدرة موثوقة للتدخل المسلح ، مع قوى غزو فعلية قادرة على تنفيذ طيف واسع من المهمات ، بدءاً من الرد على العصيان في الحرب النفسية ، مرورا بنشر قوات من كافة الاصناف . وعلينا أن نحترس أيضاً من التطور التكنولوجي السريع للسلاح الذي يمكن أن تصل إليه القوى الاقليمية الجديدة في العالم الثالث . إذن ، علينا أن نطور قدرات عسكرية موجهة مستثمرين تطبيقات الالكترونيات وعلم الموراثات والبيولوجيا الحيوية تريد أمتنا أن تؤكد مصداقيتها خلال القرن المقبل " .
ولاحظ المؤرخ ريتشارد ايمرمان ، أن " القوة والأمن الأمريكيين ، اعتمدا على الوصول إلى أسواق العالم ومواده الأولية ، ويشكل خاص العالم الثالث الذي توجب السيطرة عليه بشكل دقيق".
ولقد تأكدت الارادة السياسية للسيطرة على العالم ، وبكثير من الوقاحة بعد تدمير العراق . أمامنا وثيقتان واضحتان جداً ، صدرتا عن البنتاغون . كتبت الوثيقة الاولى باشراف بول ولفوفيتش ، وكتبت الثانية باشراف الاميرال جيريميا ، الرئيس المساعد للجنة رؤساء الاركان . وهذه أربع مقاطع من الوثيقتين :
ـ الولايات المتحدة ، هي ، وبشكل قاطع حامية النظام العالمي ، وعليها أن تضع نفسها في وضع تستطيع من خلاله التحرك بشكل مستقل عندما لا تتوفر ظروف العمل الجماعي أو في حالة وجود أزمة ما تستدعي القيام بعمل فوري .
ـ يهدف التحرك إلى منع قيام نظام امني أوروبي مستقل يكون قادرا على زعزعة استقرار حلف الاطلسي .
ـ يجب استيعاب ألمانيا واليابان في نظام جماعي للأمن تقوده للولايات المتحدة . العمل على قهر خصوم محتملين ، ما كان عليهم التطلع للعب دور أكبر .
ولتحقيق هذا الدور لابد لهذه القوة العظمى المنفردة أن تتمتع بقيادة خلاقة ، وقوة عسكرية كافية لاقناع أي أمة من الأمم ، أو أي مجموعة من الأمم أن تقلع عن تحدي تفوق الولايات المتحدة ، وأن تحسب حسابا كافيا لمصالح الأمم الصناعية المتقدمة ، بقصد إثنائها عن تحدي القيادة الامريكية ، أو وضع النظام الاقتصادي أو السياسي موضع خلاف .
هذا التسلط ، الذي بدأ بأكبر حملة عرقية ، وهي إبادة هنود أمريكا ، ثم استمر من خلال الرق والتمييز العنصري ضد السود ، وحماية طغاة أمريكا اللاتينية الاكثر دموية في العالم كله ، ثم على امتداد العالم كله ، من موبوتو في إفريقيا ، حتى ماركوس في الفليبين ، وارتكاب المجازر مثل يوم القيامة في هيروشيما ، ومجزرة العراق ، وما ترتب على ذلك ، من خلال التدخل المباشر ، أو بواسطة قادة الانقلابات العسكرية ، من ضحايا انسانية لم يعرف مثلها التاريخ كله.
وسنكتفي بذكر بعض الفصول المعاصرة : في فيتنام سقط أربعة ملايين قتيل ، وفي تيمور الشرقية 200 ألف ، وكذلك 200 ألف في أمريكا اللاتينية بواسطة " زبائن " أمريكا ، و200 ألف في لبنان دون أي رادع ، بفضل استخدام حق الفيتو في مجلس الامن ، وهناك مئات الألوف في الفليبين ، و200 ألف في أمريكا الوسطى .
حتى الصحفيين الامريكيين الاكثر رزانة ، خلطوا في حساباتهم ، عندما رسموا ميزانا لهذه الجرائم ، بين الدولار والاموات . نذكر منهم هاج سيدني الذي كتب رسالة إلى رونالد ريغن في مجلة التايمز حول نيكاراغوا : " تقترب نتائج أحداث نيكاراغوا ، من تلك التي بحثت عنها الولايات المتحدة منذ وقت طويل، في مسعاها للدفاع عن الحرية ، كانت الخسائر قليلة ، إذ لم تتعد 300 مليون دولار قدمت مساعدة إلى الكونترا ، و3 , 1 مليون في الحرب الاقتصادية . لنقارن هذه الخسائر مع خسائرنا في فيتنام : 58000 قتيل و 150 مليار دولار من النفقات ، وأمة غرقت في المرارة ، والهزيمة القاسية " .
وعن هذا المنحى الاخير الذي أصبح واضحا منذ غزوات كوريا ، والعراق والصومال ، وأماكن أخرى ، كتب دين أتشيسون ، وزير الخارجية مبشرا ومنذرا: إذا كانت سياستنا الواقعية ، قد أعطت عهودا للحفاظ على تايوان ، وإذا كان علينا أن نتدخل عسكريا لحمايتها ، فسيكون ذلك مستترا تحت راية الامم المتحدة ، مع النية المعلنة لدعم المطالب الشرعية للتايوانيين في حق تقرير المصير " .
وكان تشكيل فرق الموت ، ضد رجال الدين ، لخنق كل إحتجاج من أية جهة جاء ، اكثر فاعلية ومضاء .
ففي تشرين الثاني 1989 ، وصف الاب يغناسيو ايلاكوريا رئيس جامعة الجزويت ، الذي اغتيل فيما بعد ، وصف السلفادور بانها " الحقيقة الممزقة بجروح تكاد تكون مميتة " . كان الاب ايغناسيو قريبا جدا من رئيس الاساقفة روميرو الذي كتب إلى الرئيس كارتر يشكو عبثا من عدم ايقاف المساعدات للفئة الحاكمة . وابلغ رئيس الاساقفة صديقه ايلاكوريا ان الباعث على رسالته ، كان المفهوم الجديد " للحرب الخاصة " ، الذي تضمن الوقوف بحزم وبشكل مطلق ضد كل محاولة لانشاء تنظيم شعبي الغاء مطلقا بدعوى الشيوعية والارهاب .
وليست الحرب الخاصة ، التي يسمونها احيانا مقاومة العصيان ، وأحيانا أخرى صراعا ضعيف الشدة ، أو أي تورية مشابهة من هذا النوع ، ليست الا ارهابا دوليا ، وهي السياسة الرسمية للولايات المتحدة منذ زمن طويل ، إنها سلاح في ترسانة كبيرة تستخدم في مشاريع اجتماعية ـ سياسية ، أوسع مدى .
وهكذا ، في مارس 1980 ، اغتيل المونسينور روميرو ، رئيس أساقفة السلفادور بينما كان يرعى قداسا كنسيا . حدث هذا الاغتيال باسم الديمقراطية الامريكية الهادفة لاسكات كل احتجاج ، ولم يفاجئ هذا الاغتيال احدا ، بعد أن كتب رئس الاساقفة لكارتر يدعوه لايقاف مساعدته للفئة الحاكمة ، مؤكدا له أن هذه المساعدات تستخدم لدعم الظلم وممارسة الضغوط على المنظمات الشعبية المناضلة في سبيل احترام حقوق الإنسان الاساسية .
كان رئيس الاساقفة قد وضع اصبعه على المشكلة التي يجب التغلب عليها ، وهي مشكلة " التورية والتموية " والبيانات الغامضة الهادفة لاخفاء حقيقة الاحداث .
كان مطلبه الحصول على ضمانات من الولايات المتحدة ، أن لا تتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال أساليب مراوغة للضغط الاقتصادي أو الدبلوماسي ، أو أي شكل آخر من الضغوط ، تعرض الشعب السلفادوري لمخاطر الفناء .
ووعدت الولايات المتحدة أنها ستعيد تقييم منح المساعدات للفئة الحاكمة إذا توفرت لها البراهين عن الاستخدام السيئ لها . واعقب هذه الوعود ، اغتيال رئيس الاساقفة ، وسحقت قوى الامن المنظمات الشعبية بشراسة وحشية منكرة ، على غرار ما حدث في مذبحة ريو سامبول ، التي وقعت في ظل صمت وسائل الاعلام المقهورة .
وجاء في مقالة لامريكاس واكش ، بمناسبة الذكرى العاشرة لاغتيال رئيس الاساقفة روميرو : " أوضح التقرير عن كتيبة أتلاكاتل استمرارية السياسة الامريكية . فجنود هذه الكتيبة قد دربوا على اطاعة أوامر رؤسائهم ، الذين يكلفونهم بمهمة اغتيال رجال الدين ، عمدا وبأعصاب باردة " واستعرضت المجلة الاعمال الدقيقة لهذه الوحدة المشكلة من " النخبة " التي دربتها الولايات المتحدة وجهزتها . وقد وصف بروفيسور يعمل في المدرسة الحربية الامريكية " في فورت بينينغ ـ جورجيا هؤلاء الجنود بانهم متوحشون بشكل خاص ، انه لامر سيئ أن نعلمهم كيف يسجنون الناس ، فكيف بالاخرى عندما يقطعون آذانهم " . وقد شاركت هذه الوحدة ، في كانون الأول 1981 في عملية قتل خلالها مئات من المدنية في حفل قتل صاحب رافقته عمليات اغتصاب وحرق . وقدر المكتب القانوني للكنيسة عدد الضحايا باكثر من ألف قتيل . وتتابع هذا الاسلوب ، فقصفت قرى ، ومات مئات من المدنيين ، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ حصدهم الرصاص ، أو اميتوا غرقا .
هذا هو باختصار ما سمي بالحرب الخاصة في السلفادور ، بدءا من العملية العسكرية التي جرت على نطاق واسع في أيار 1980 ، عندما ذبح 600 مدني ، ومثل بجثهم في ريوسومبول . وقد اشترك في هذه المذبحة الجيشان السلفادوري والهندوراسي . وكشفت الكنيسة هذه المجزرة ، وتابعها المحققون في انتهاكات حقوق الإنسان ، وكتبت عنها الصحافة الاجنبية . أما وسائل الاعلام الامريكية ، فلم تتحدث عنها أبدا ، لانها شاركت عمليا في الحرب النفسية حسب الدور الذي رسم لها .
واكدت لجنة المحامين في رسالة إلى وزير الدفاع ديك تشيني ، في العشرين من نيسان ، بان قتلة الجزويت جرى تدريبهم من قبل القوات الخاصة الامريكية ، إلى ما قبل المجزرة بثلاثة ايام . وذهب الاب جون كورتينا ، عميد كلية العلوم في جامعة الجزويت إلى ابعد من ذلك ـ إذ أكد أن الجنود الامريكان الذين تخفوا بضعة ايام في فندق سان سلفادور ، خلال الحدث الذي أثار ضجة كبرى ، كانوا المدربين العسكريين الذين دبروا العملية . وقبل بضع سنوات وقعت مجازر أسوأ ارتكبتها وحدة الاتلاكاتل ، بعد تدريب عسكري امريكي .
بعد هذا الاستعراض لتاريخ الولايات المتحدة ، منذ عمليات النهب الأولى ، وعمليات ابادة السكان الاصليين ـ وانتهاء بعمليات السنين الاخيرة ، نجد من الضروري أن نضع كشف حساب لما اتفق على تسميته " بالديمقراطية الامريكية "، لنبدد الاوهام والاكاذيب . حول طبيعة الحرية التي تمنحها أمريكا لنفسها عبر العالم كله ، وكأنها الضامن لها أو الكفيل .
في البداية ، ولننطلق من داخل البلاد نفسها ـ نجد أن ما يطيع الولايات المتحدة عدم المساواة المتزايد في توزيع الثروة ، وينتج عن ذلك ، عدم المساواة في ممارسة السلطة .
في عام 1900 امتلك 1/ 8 من العائلات الامريكية 17 % من الثروة الوطنية . وكان جيمس تروسلو آدومز ، قد تحدث منذ بداية القرن العشرين ، وتحت عنون " عصر الديناصورات " عن السيطرة الوحشية للمجوعات المصرفية والصناعية الضخمة ، واصفا اياها بالعناكب الهائلة التي ظهرت في فيلم حديث ، مشكلة نوعا من الرمز المرعب للعالم الذين تطور منذ تلك العصور.
ولكن اللامساواة لم تتوقف عن النمو : فحسب تقارير البنك الدولي ، انخفضت حصة البلدان الفقيرة ، البلدان الاكثر فقرا من ثروات العالم من 23 % إلى 18 % فقط ، وذلك بين عامي 1980 و1988 . كما سلط البنك الاضواء ، عام 1989 ان انتقال الثروات من البلدان الاخذة في النمو إلى البلدان الصناعية قد بلغ مستوى جديدا ، فتسديد القروض قد تجاوز 9 , 42 مليار دولار ، بزيادة 3 مليار دولار بالمقارنة مع عام 1988 أما حصة البلدان الغنية من رؤوس الاموال فقد انخفضت إلى ادنى مستوى خلال السنوات العشر الماضية .
أبرز الصحفي ديريك جاكسون في صحيفة " بوستون غلوب " هذه الحقائق ، ولفت الانتباه إلى ان اليونيسيف وضعت سويسرا في المرتبة الأولى لدخل الفرد ، قبل الولايات المتحدة التي جاء ترتيبها الثاني والعشرين ، بعد ايرلندا واسبانيا بينما كانت في المرتبة العاشرة عام 1960 . أما ما يتعلق بالافارقة الامريكان فقد تضاعفت نسبة الوفيات عمليا بالنسبة للمعدل الوطني . وفي بوسطن وفي حي روكسبري ، المزدحم بالضرورة بالاقليات الاثنية ، وصلت النسبة إلى ثلاثة اضعاف المعدل الوطني ، وبذلك يصبح هذا الحي الذي ينتسب إلى الامة الاغنى في العالم بعد سويسرا، في المرتبة 24 فيما يتعلق بوفيات الأطفال .
وأشارت دراسة أعدت عقب أحد المؤتمرات ونشرت في مارس 1989 ، إلى أن عائدات دولة ترتيبها الخامس بين الدول الاكثر حرمانا تناقصت 6 % ما بين عامي 1979 ـ 1987 وأما الدولة الاكثر غنى والتي ياتي ترتيبها الخامس بين الدول الغنية ، فقد ازداد دخلها بنسبة 11 % . وتأخذ هذه الاحصائيات نسبة التضخم المبالغ المرصودة للمساعدات الاجتماعية . أما العائدات الفردية في الدولة التي تحتل المرتبة الخامسة بين الدول الاكثر حرمانا فقد انخفضت 8 , 9 % بينما ارتفعت هذه العائدات في الدولة التي تحتل المرتبة الخامسة بين الدول الاغنى ، إلى 15 %.
ويعترف نفس التقرير بهذا " التمييز العنصري " الاقتصادي بقوله : إن الهوة التي تفصل الامريكان الاغنياء عن الفقراء ، اتسعت خلال عقد الثمانينات إلى درجة أن المليونين ونصف من الاغنياء سيتلقون وحدهم عام 1990 ، نفس حجم الدخول التي يتلقاها مئة مليون من الفقراء الذين يقعون في أسفل السلم .
وفي عام 1996 ، أشار السيد جيمس جوستاف سبيث " برنامج الامم المتحدة للتنمية " في مقابلة مع جريدة اللوموند ، إلى أن الفاصل بين البلدان الغنية والعالم الثالث يستمر في الاتساع . واستنكر سبيث اسطورتين : الاولى وتتحدث عن أن العالم الثالث سيستفيد من النمو المتواصل ، والثانية التي تتحدث عن القطاع الخاص كحل معجز لمشاكل التنمية .
أوضح السيد سبيث : هناك اسطورة أولى يجب التغلب عليها ، تتعلق بالعالم النامي ، وهي الزعم بانه سينتقل من حسن إلي أحسن بفضل عولمة الاقتصاد في ظل قيادة الدول الخمس العملاقة . والحقيقة أن دخل الفرد الواحد في اكثر من مئة دولة هو اليوم اقل مما كان عليه قبل خمس سنوات . وبشكل أوضح فإن 6 , 1 مليار انسان يعيشون اليوم في مستوى أسوأ مما كانوا عليه . ففي بداية الثمانينات . وخلال جيل ونصف اتسعت الهوة بين الدول الاكثر فقرا التي تشكل 20 % من العالم ، والدول الاكثر غنى التي تشكل 20 % منه . أما اليوم فإن الفارق هو واحد إلى ستين ، على الرغم من أن الثروة العالمية قد ارتفعت بشكل عام. ويقع العالم الثالث ضحية اسطورة مؤذية اخرى وهي الاعتقاد بان القطاع الخاص يتضمن الترياق لكل العالم . وفيما عدا عولمة التبادل ، لا ينتظر من الاستثمارات الخاصة أن تقود بشكل طبيعي إلى خلق " عالم متساو " . وليس هناك من صلة بين احتياجات بلد ما والاستثمارات الاجنبية المباشرة داخل هذا البلد . وكلمات الخصخصة ، وتحرير الاقتصاد ، والتحلل من القوانين واللوائح ، وهي الكلمات السائدة في عالم الليبرالية في نهاية هذا القرن ، هي التي ستهل عمليات النمو ، ولكنه نمو بصاحبه فقر كبير وعدم مساواة تزداد عمقا ، ومعدلات بطالة في حالة ارتفاع دائم .
وفي الجامعات ، ذات المستوى الارقى ، يسود قانون السوق ، ففيها يكلف الطالب أسرته ما بين 100 ـ 150 ألف فرنك في السنة للحصول على شهادة دراسية واحدة . أما ما يخص تعليم عامة الشعب ، " فنظام التعليم الامريكي يسقط شظايا " كما ورد في التقرير الذي أعده اختصاصيون من جامعة كولومبيا (مجلة الاقتصاد العالمي 1990) . واعترف 40 % من الفتيان الامريكان الذين أموا المدارس مثلا أنهم لا يعرفون القراءة بشكل صحيح . إن 23 مليون من اليافعين وفي موضوع الصحة ، تعد الولايات المتحدة ، فيما يتعلق بالعيادات والمستشفيات ، ومراكز الابحاث من أفضل الدول في العالم . لكن نظامها الصحي يوحي بالكارثة . فهي تعتبر في المرتبة الثانية والعشرين بين دول العالم في معدل وفيات الأطفال أما حصة نفقات الصحة العامة ، فهي أدنى نسبة بين كل بلدان الديمقراطيات الغربية .
ويؤدي عدم المساواة إلى الغش والفساد . وتقدر الاجهزة المالية الامريكية ان 20 % من الضرائب الفيدرالية لم تسدد وقد بلغت عام 1989 مئة مليار دولار . أما " الغرغرينا " فهي تنشط في قلب النظام نفسه فخلال عشر سنوات تمتد بين عامي 1980 ـ 1990 بلغ عدد القضاة الذين أدينوا بالتلاعب بالاموال العامة والفساد أعلى من عددهم في المئة وتسعين عاما السابقة من تاريخ الولايات المتحدة .
ولأن مقاييس اختيار الشخص الافضل ، هي دائما لصالح الاغنياء ، فانها تقود في النهاية إلى اعطائهم السلطة . وقد أكد جون جاي رئيس المؤتمر القاري والرئيس الأول للمحكمة العليا في الولايات المتحدة أن : " البلاد يجب أن تعطى لمن لملكها ". لقد وضع النظام السياسي ، شأنه في ذلك شان النظام الاجتماعي ، في خدمة مصالح الطبقة التي تحتكر الملكية .
أما السياسية التي تفترض أنها تنظم الدولة فقد دخلت في دوامة السوق ، فكل وظيفة لها ثمنها . فقد احتاجت الحملة الانتخابية لانتخاب أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب عام 1988 ، إلى ميزانية دعائية بلغت 50 مليون دولار ، وهو ما يزيد عشر مرات عما انفق في انتخابات 1971 .
مثل هذه التناقضات بين الطبقة المتميزة المتجبرة ، وبين الطبقة المستعبدة ، تولد عنفا شاملا لا ضابط له ، مع انفجارات فردية في الاطراف ، تعبر عنها أمثلة كثيرة . ففي نيويورك وحسب احصاءات الشرطة ، تقع في المتوسط عملية قتل كل أربع ساعات ، وتقع عملية اغتصاب كل ثلاث ساعات . وهناك محاولة اعتداء كل ثلاثين ثانية . ومع ذلك فنيويورك تقع في المرتبة العاشرة بين المدن الامريكية في معدل الجريمة . وفي عام 1989 تم إحصاء 21 ألف عملية قتل في الولايات المتحدة ، وضمت سجونها أكثر من مليون سجين ، وثلاثة ملايين تحت المراقبة القضائية .
هذه هي تبعات اقتصاد السوق الوحشي ، حيث تسيطر، كما كتب هوبز ، عند فجر الرأسمالية ، حالة " حرب يشنها الجميع ضد الجميع " . إن منطق سوق بلا قيود ، مع ما يحمله من تضارب في المصالح بين الافراد والجماعات الذين لا يرون الا مصالحهم الخاصة ، هو الحقيقة منطق الحرب .
إن الازمة البنيوية في العالم الثالث هي ، بشكل خاص عميقة في أمريكا اللاتينية . والتورط الكثيف للولايات المتحدة في أمريكا الوسطى منذ عام 1979 ، إنما كان نتيجة استراتيجية تنمية مبنية على زراعة موجهة للتصدير . وأدت هذه الاستراتيجية إلى هجرة المجتمع الريفي ، والى تبدلات عميقة في علاقة الفلاحين بالارض ، محطمة المجتمع التقليدي دون أن يحل محله تنظيم اجتماعي ثابت وقابل للاستمرار . ويعكس تحويل أمريكا اللاتينية إلى مجتمع مديني (في عام 1960 كان يعيش 49 % من السكان في المدن ، وارتفع الرقم عام 1989 ليصبح 70 % ) بؤس التنمية الزراعية ، ويفسر انتقال الفلاحين إلى المدن المزدحمة مشكلين سكانا هامشيين . ونرى الحالة نفسها في العالم الثالث كله . ولم يتوقف عدم الاستقرار عن الاتساع منذ أعوام السبعينات التي اتصفت بالمديونية ، وانخفاض مستويات تبادل السلع غير المرتبطة بالطاقة " تقرير البنك الامريكي للتنمية ".
في عام 1988 ، دفعت دول العالم الثالث ، المثقلة بالديون خمسين مليار دولار كفوائد ، ومبالغ سداد . ويفوق هذا المبلغ قيمة القروض التي تسلمتها هذه الدول .
فهل يستطيع أحد بعد هذه الجرائم وأعمال القرصنة أن يتهم أولئك الذين يفوضون هذه الجرائم ، بمعاداة أمريكا لمجرد معاداتها ؟
نعم ، بشرط الاعتراف أن معاداة أمريكا تبدأ برفض الخضوع لها .
والسياسة الامريكية هذه ، سياسة عامة يتبناها كل من الحزبين اللذين يتبادلان الحكم . والحقيقة ان الولايات المتحدة تقدم الصورة الاكثر وضوحا لحكم الحزب الواحد . إنه حزب " الاعمال " بشقيه الذين يدعيان من خلال التلاعب بالمعاني : الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري .
يلعب الحزبان لعبة الحمار والفيل ، ولا يملك أي منهما مشاريع انسانية ، أو بالاخرى لا يملكان أي مشروع ما عدا مشروع تحقيق زيادة الاستهلاك والانتاج في بلدهم فقط ، على حساب الجميع دون مواربة .
لقد بدأ تدمير العالم ، في سبيل تأمين احتياجات الاقتصاد الامريكي ، بشكل طبيعي من أمريكا اللاتينية . وعلى كل أمة اليوم ، وفي العالم كله ، أن تعرف فيما إذا كانت ستصبح بورتوريكو جديدة ، دون أي مشروع إنساني ، إلا مشروع الولايات المتحدة والاستسلام لها ، والخضوع لإرادتها .
ويظهر ذلك واضحا من عملية التفكيك الاقتصادي والسياسي والثقافي ، وحتى في أوروبا نفسها ، حيث يطلب من إنكلترا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا ودول أخرى ، وهي دول موقعة على معاهدة ما يستريخ أن تصبح الركيزة الاوروبية لحلف الاطلسي إلى المدى الذي زودت فيه هذه الدول امريكا بقوات مساندة لتدخلها العسكري : من العراق ، إلى الصومال .
كي شيء في خدمة الغات (المنظمة العالمية للتجارة) والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، هذه المؤسسات التي تفرض على العالم الثالث التبعية السياسية وترهقه مقابل ديونه . ولكن هذه المؤسسات ، تقبل دون ادنى اعتراض الاملاءات التي تفرضها الدولة الاكثر مديونية في العالم ، أي الولايات المتحدة .
فالى متى سيقبل العالم هيمنة بلد تبلغ الجريمة نسبة الجريمة فيه أعلى مستوى ، والذي تقرر فيه المحكمة العليا (حزيران 1989) جواز الحكم بالاعدام على الأطفال دون السادسة عشرة من العمر، وتنفيذ هذه الاحكام . ويطبق هذا القانون في 24 ولاية، نفذ فيها منذ عام 1972 أحكام الاعدام بـ 182 شخصا بواسطة الكرسي الكهربائي أو الشنق أو غرف الغاز . وينتظر 2500 محكوم بالاعدام في زنزاناتهم تنفيذ الاحكام فيهم .
وما هو أسوأ من ذلك ، في عصر تلعب فيه التقنية الاعلامية " وخاصة التلفزيون ، والالكترونيات والاعلام السريع " دورا حاسما في تكوين الرأي العام ، وتصدير الثقافة الجاهزة التي تغزو العالم كله ، مدمرة ثقافاته الخاصة ، ومسلسلات دالاس والديناصورات ، والمدمر ، ويوم الاستقلال وصرعة مادونا ، ورسوم روشنبرغ وكونينج ، وأفلام الكرتون الامريكية ومنافستها اليابانية التي لم يعد أبطالها " البلانش نيج " وإنما بوبي ودونالد و " الاحجار المتدحرجة " التي تغرق فينسيا باطنان من الاحجار وبأقذار الشوارع ، والزعيق ، والرعاع ، والدهماء ، وموسيقى الروك بشدة 120 سيبل ، ليفجر كل ذلك ، وبلا حياء ، شاشات التلفزيون والسينما والمدارس ، ولتجعل شبابنا ينسون أعمال رابليه وسرفانتس وشكسبير .
أصبحت مطاعم ماكدونالد والكوكاكولا والنوادي الليلية وديزني لاند رموز اللامعنى ، والنمطية في عالم كان قد أبدع الرمايانا ومسرح الند " دراما غنائية يابانية " وأصالة الرقص الافريقي ، أو الرقص الامريكي الاصيل ، و ملحمة جلجامش وأشعار رامبو.
هل ستعني " الحداثة " النسيان والاحتقار والجهل والضلالة لحساب الامية الثقافية، والثقافة الاخبارية والممكننة ؟
وهل سيجعلنا كهان وحدانية السوق ووثنية المال نقبل أن يتحول " الأطفال الذهبيون " الذين سرعان ما يبهت لونهم في أمريكا إلى حرس انحطاط ؟
هذه الحالة من الروح لم تتشكل فقط من واقع أن هذا الكوكب واسع وغني ، ولا من حقيقة أن أنهارا من الذهب جرت إلى أمريكا عبر الاطلسي بفعل الحربين الاوروبيتين ، بل لأن ذلك كله قد أوحى للطبقة الحاكمة الامريكية بفكرة الفردية بلا حدود " كما كانت بلادها ذات يوم بلا حدود " ، وكذلك من حقيقة أن الولايات المتحدة تعيش فوق مستوى طاقتها بفعل استغلال العالم كله كما جرى في الماضي ، إذ لم يكفها آنذاك ذبح الهنود وطردهم . ويترجم هذا الواقع نفسه بحقيقة أن الولايات المتحدة ، البلد الاغنى في العالم ، هو البلد الاكثر مديونية ، إذ يبلغ دينها العام 3000 مليار دولار ، كما أنها مدينة بمبلغ مماثل من الديون الخاصة ، أي ثلاثة أضعاف ديون العالم الثالث كله .
وليس اقل دلالة على انحطاط الروح ، من التقليد الذي يرجع إلى أيام مطاردة الهنود ، وهو امتلاك الاسلحة الفردية الخاصة ، وحتى الاوتوماتيكية منها ، والتي يبلغ عددها ، عدد سكان الولايات المتحدة .
وهذه الحالة نفسها نجدها لدى الشباب : وحشية العلاقات الإنسانية التي تظهر من خلال عدد الشباب الذين يقتتلون فيما بينهم مستخدمين الاسلحة النارية . وقد تحدث التقرير الاخير " لصندوق الدفاع عن الأطفال " ، وهو منظمة رئيسية لحماية الطفولة في الولايات المتحدة ، عن تصاعد الخط البياني لوفيات الأطفال بسبب استخدام الاسلحة النارية . وذكر أن هذا الخط يرتفع باستمرار لدى الاطفال والمراهقين . وقد قتل بين عامي 1979 ـ 1991 خمسون ألف أمريكي تقل أعمارهم عن سنة (9000 منهم أقل من 14 سنة ) بالرصاص والحوادث والجرائم المختلفة . وارتفع خلال نفس الفترة معدل المعتقلين المتهمين بالقتل أو محاولة الانتحار ، من الذين تقل أعمارهم عن 19 عاماً ، ليصبح 93 % وهم في غالبيتهم من الشباب الذين قتلوا أو جرحوا شبانا آخرين مثلهم .
وتشير الاحصائيات أن القتل يأتي في المرتبة الثالثة ، في أسباب موت المراهقين بعد الحوادث (التي لا يستخدم فيها السلاح) والسرطان .
ويقسم " تمييز اقتصادي " حقيقي أمريكا إلى قسمين . ففي هذه البلاد التي لا يأكل فيها طفل من أصل كل ثمانية حتى حدّ الشبع ، يستمر ارتفاع معدل وفيات الأطفال ، في الاحياء الاشد فقراً ، متجاوزا معدلات بلدان في العام الثالث مثل سيريلنكا وتشيلي وجامايكا وباناها .
وفي ظلال الكابيتول ، نواجه أحياء تقضمها كل أشكال الشرور المدينية : العنف ، والجنوح ، وآباء في سن المراهقة ، والبؤس ، وتدني مستوى المؤسسات التعليمية . الجميع فريسة الخمر ومختلف أنواع المخدرات القوية . وتملك واشنطن بالتأكيد أكبر ميزانية للمساعدة الصحية بين البلدان الاخرى ، إلا أن النظام الصحي يدلنا أن الولايات المبكرة متكررة بشكل خاص ، بما فيها الاجهاض بعد بداية الشهر الأول من الحمل ، وهو موعد بدء المساعدة الاجتماعية التي تقدمها الدولة . وبعد الخمسة عشر يوما التالية ، يواجه المرء نموذجا آخر من المشاكل ، إذ ليس هناك ما يكفي من النقود وبالتالي ، فليس هناك ما يؤكل . وقد جرى اقتحام القبو الذي يستخدم كقيادة عامة لـ " مشروع الأطفال الاصحاء " (مجلة " التضامن الجديد " 12 اكتوبر 1994) .
ومارس العنف المستوطن في هذه البلاد تخريبه ، حتى لأوقات الفراغ عند الشباب .
في عام 1972 ، أسس الدكتور ريلمان مع أصدقاء له في منظمة عيادات آشبيري المجانية، مؤسسة باسم " الروك ميد " ، أي طب الروك ، وهي مؤسسة طبية أعطت لنفسها واجب العناية الميدانية ، بالجرحى الذين يصابون أثناء حفلات الروك . وكتب الدكتور ريلمان ، وهو طبيب من كاليفورنيا الوصف التالي لنشاطه : " جعل فريق لارسن ، مدرجات ستاد ملعب كرة السلة في الجامعة الحكومية تهتز ، كانت أصوات أوتار الغيتارات تهدر كأنها ضربات تخبط الأرض التي غطاها موج هادر من الشباب ، ينضح منهم العرق ، ويرمي بعضهم نفسه فوق البعض الاخر " . وفي إحدى الغرف الخلفية كان الدكتور ريلمان ، وقد ارتدى قفازيه الطبيين ، يصنف الحوادث : " هذا هو شاب في الحادية والعشرين ، عاري الجذع ، وقد ظهرت آثار حديثة لعضات متعددة في الجمجمة . كانت ذراعه مكشوفه وعظم يده اليسرى مكسورا. وهذا شاب آخر ، منتصب القامة ويرتدي القميص الخاص بالاصلاحية الفدرالية ، وقد أصيبت عينه اليسرى بجرح دام " .
ويقدم الدكتور داف ، نفسه لزبائنه الجدد على أنه طبيب روك ، واختصاصي باسعاف الذين يتلقون ضربات مؤذية ، أو تشويهات أثناء حفلات الروك التي تجرى كل مساء . أما الأنوف المكسورة والكدمات ، وإصابات الالتواء والخلع ، فهي مشاهد عادية في هذه الامسيات . وأما الجروح ، والكسور الخطيرة ، فليست نادرة .
وفي أوروبا ، لا يسبب هذا النوع من الموسيقى عموما ، هذا الطوفان من العنف . ومع ذلك ، فعندما أقيمت الحفلة الأولى لموسيقى الروك في ودستوك ، وعند إقامة العرض الاخير لفرقة بينك فلويد في ساحة سانت مارك في فينيسيا ، تحول المشهد صباح اليوم التالي ، إلى مشهد مدينة قصفت بحاويات القمامة .
لن ننسى للحظة واحدة " أمريكا الاخرى " ، أمريكا امرسون وثورو ، وجون براون ، ولينكولن ، أمريكا التي ثارت ضد الرق . ولكن " أمريكا الاخرى " هذه لم تستطع أن تفرض رؤيتها . فثورو انسحب من هذا العالم بعد أن كتب " والدن أو الحياة في الغابة " ، انسحب كي يستمد من الطبيعة اتصالا مباشرا مع الله كما قال صديقه امرسون . ولن ننسى انه عاد إلى المدينة، ليكتب هناك كتابه " العصيان المدني " ، الذي قال عنه غاندي انه استوحاه . لقد تحول كل هؤلاء إلى هامشيين أو ثوار : ثورو التجأ في البداية إلى أعماق الغابة ، وعندما عاد إلى المدينة رفض أن يدفع الضريبة المتوجبة عليه ، لأنه " فقد وطنه " . أما ايمرسون فقد استمد حكمته من الباجاتادجيتا ، على نهر الغانج ، وليس من نهر الباتوماك الذي يخترق واشنطن . أما لينكولن فقد اغتيل من قبل " المؤسسة أو النظام " .
ولن ننسى السلالة السوداء العظيمة التي أبرزت لنا وجوها رائعة بدئا من دويوا إلى مارتن لوثر كينج ، هذا الوجه الجميل الكامن في أعماق أمريكا والذي تألق ، ابتداء من القرن العشرين مع انبعاث حي هارلم . لن ننسى الشهود الكبار من السينمائيين مثل فورد الذي أخرج " عناقيد الغضب " . ولا ذاك الذي تجرأ أن يفكك آليات مؤامرة اغتيال كينيدي ، ولا المخرج الذي أعاد تركيب مذبحة " الونددني " التي سحق فيها الجيش الأمريكي مقاومة قبائل " سيو " .
لكن ما يبرز اليوم ليطغى على جزر المقاومة البطولية هذه ، هو أقلام العنف والرعب ، بعدما حولت أفلام " الغرب الأمريكي " مئة عام من الابادة العنصرية إلى ملحمة بطولية .
ولن نستطيع أن نقول شيئا عن فلسفة الولايات المتحدة ، حيث خنق النظام صرخة الرجال ، بالوضعية والبراجماتية ، منحيا جانبا مشكلة الايمان ، وغايات الحياة .
ولن ننسى انجاز الراقصين الأمريكيين ، انطلاقا من تيدشون وروث سانت دينيس إلى مارتا غراهام ، الذي جددوا هذا الفن وجعلوه يقول ما قاله شكسبير ، كل في لغته . لكن هوليود فضلت أن تروج لفرد استر ، وجنجر روجرز ، لتمحو آثار هؤلاء العباقرة .
لنتذكر أخيرا أولئك الكتاب " الملعونين " ، بدءا من ادغار ألن بو ، الذي وجد نفسه مضطرا للهروب من عالم لا يحتمل العيش فيه إلى " فراديس مصطنعة " ، والى أشعار مضيئة كالجواهر السوداء في ليل بهيم ، أو أولئك الذين عكسوا بمهارة صدى العالم " الحقيقي " مع روايات توماس وولف ، أو من خلال زعزعة أسس حياة تحولت إلى مصيدة من " الضجة والغضب " ، بحروبها وتمييزها العنصري كما صورها وليم فولكنر .
لن ننسى أبدا شيئا مما حمله وانتزعه منا هذا الزحف الحاشد نحو الذهب الذي نشر الخراب والدمار في أرجاء الأرض وحنايا الإنسان .

الفرصة الأخيرة
12-08-2005, 01:13 PM
إن شعبا بلا ماض ، لا يستطيع أن يعطي إلا فنا بلا جذور . وحدها المجتمعات المتجذرة تستطيع أن تعطي فنا حقيقيا . فخارج الفن الهندي الأمريكي ، الذي تحولت أعماله الخلاقة المبدعة إلى سبائك ذهب ، إذ أذابها الغزاة الذين لا يقدرون من هذه الروائع إلا وزن الذهب الذي تحويه . إنه فن المايا ، والأنكا والازتك ، أو ذلك الفن الاقدم الذي ترك لحسن الحظ شواهد من الفن المعماري الحجري ، والتماثيل ، نقول خارج هذا الفن ، نجد أن الابداعات الامريكية الوحيدة هي تلك التي حملت طابع الثقافات الاصلية :
ازدهار فن " البلو " ثم الجاز عن طريق زنوج لويزيانا . وازدهار " هارلم " في بداية القرن الحالي بشعرائه ، تلك المجموعة الاكثر حداثة من الفنانين الايطاليين الذين تجمعوا حول فرلينجتي ، في سان فرانسيسكو .
خارج هذه المحاولات البطولية ، التي يمكن أن نورد منها أمثلة متعددة أخرى ، أرادت القوة الاقتصادية الامريكية المتطلعة لتحقيق تفوق ثقافي يعطيها هالة وتبريرا ، أن " تتفرد " بالنسبة لأوروبا، عن طريق الرفض والقطيعة .
وهي قطيعة أعطت عنها أوروبا في الماضي مثالا ، عندما أفلست قيمها الخاصة . فقد نشأت حركات التجديد الاوروبي الكبرى في الثقافة الاوروبية ، نشأت دوما من التكامل مع الماضي والتفوق عليه .
وليس هناك " انفصال " يمكن أن يتحول إلى تجديد حقيقي دون تمثل الماضي . أما الذين يحاولون ، عبر عمليات الابتزاز والارهاب الفكري أن يجعلوننا نقبل ، وعلى الاقل ، عن طريق التجار والطبقة المترفة ، أسوأ الضلال الذي يزعمون انه " الحداثة " ، عليهم أن يتذكروا مصير رفض البورجوازية وسخريتها في القرن الملضي من تجديد الانطباعيين وأن لا ينسوا أن كل محاولات التجديد الكبرى ، قد عرفت في البداية نفس الحكم : البؤس . في هذا البؤس نفسه سقط رامبرانت بعد أن امتنع عن مداهنة الفلاماند الاغنياء ، وغرق إل غريكو ، قرنا كاملا في لجة النسيان لانه رفض أن يأخذ مكانه بين الرسامين المتملقين لنبلاء إسبانيا ، وكان قد أنجز معظم أعماله في معتزله في توليدو . أما مونيه ، فقد وقف في وجهه نقاد المؤسسة الذين دقوا ناقوس الخطر ، وقد أذاقوا الفنان المجدد الامرين . هذا هو جول كلارتي يتحدث في كتابه " الفنان " ، عن هذا الطراز الوضيع الذي لا أعرف من أين التقط . أما ابنة تيوفيل غوتييه فتحدثت في كتابها " الاستراحة " عن هذا الغوريلا الأثني ، وتبعها ادموند آبو في كتابه " يوميات صغيرة " صائحا: رحمة الله على السيد مانيه .. فقد لقيت لوحاته ما تستحق من السخرية .
لقد نسوا أيضاً نسخ لوحة " فينوس دوربين " لتيتيان التي نسخها مانيه عام 1856 ، والتي علقت في قصر الاوفيس في فلورنسا ، قبل أن يحول عام 1963 الربة إلى مومس بلغة جديدة من الاولمب الخاص به ، مما أثار غضب الإمبراطورة أو جيني .
لقد نسوا فان غوج ، وما أداه لاساتذه الفلاماند ، عندما رسم لوحة " آكلوا البطاطا " ، ناقلا الرسم من السماء إلى الأرض ، ومكتشفا بعد ذلك ـ في باريس ـ اللون القادر أن يتحدث عن الالم ، تحف به ألوان الشمس .
أما المجدد الاكبر بين التكعيبين الذي نسى اسمه بسبب حياته القصيرة بالنسبة لمعاصريه الذين عاشوا بعده ، مثل براك وبيكاسو ، ونعني به جوان جري ، الرائد الحقيقي للمدرسة التكعيبية التي أثرت في كل ما تلاها من مدارس فنية . فقد قال : تستند قيمة الفنان إلى كمية الماضي الذي يحمله بين جناحيه .
لقد رسم ماتيس تحت تأثير انجرس ، أما بيكاسو فقد كان بسهولة بوسان جديد . أما رنوار فقد درس جيدا لوحة " الفطور على العشب " ، قبل أن يرسمها معارضا بها لوحة " احتفال الحقل " ، لجيورجياني ، مسجلا ولادة الرسم الجديد .
وقبل أن يصبح ماتيس ، وماركيه ، مكتشفين أصيلين ، تعلما مهنتهما في مرسم جوستاف مورو الذي لم يكن أقل حذلقة في رسومه لفيكتور هوغو من بونا في لوحاته للوزراء أو بوجرو في لوحاته عن لهو الحوريات . أما الرسام بوفيه ، فقد اختصر تقييم سوق الفن بكلمات : " إن الجهالة في الرسم أمر واقع : فبقدر ما تكون جاهلا بقدر ما تتقدم " .
إذن لا ضرورة لأن يتعلم المرء ، كيف يصور ، أو يرسم . المهم هو أن يدهش عبر خدعة جديدة (هكذا كانت اللوحات " الجاهزة " لمارسيل دوشامب ) . وكما يحدث لموا التنظيف في محلات السوبر ماركت ، فالمهم هو الجدة بأي ثمن ، لأن المعايير مالية بحتة ، ولا دخل للجمالية فيها.
إن المعيار الوحيد هو مخالفة المألوف ، الذي يستطيع أن يجذب تفاخر الزبائن المؤقت ، ويحضر استراتيجية التبذير للدخول إلى " سوق الفن " ، استراتيجية عبر عنها أحد التجار بقوله : يجب علينا أن نقدم للأمريكي ـ وبكل الوسائل ـ ، فكرة شيخوخة العمل الفني . ويجب أن يتعلم جامعوا اللوحات ، وضع اللوحات القديمة في حاويات القمامة ، شأنها في ذلك ، شأن السيارات والثلاجات القديمة ، عندما يحل محلها لوحات وسيارات وثلاجات من طراز أحدث .
لا يحدث مثل هذا الموقف ، إلا عندما قيم الماضي ، كما حدث في الحرب 1914 ـ 1918 ، هذه الفترة الشاذة الدامية من بين كل الحقب ، والتي دفعت بالغزاة والمغزوين ، ثلاثين عاما إلى الوراء ، وبذرت بذور كل الانظمة الفاشية . ومن قبيل السخرية بالصروح التذكارية لتخليد أموات الحرب ، قام السيرياليون بتدشين مبولة عامة في قلب باريس ، وقام مالفيتش في الطرف الاقصى الثاني من أوروبا بعرض لوحة " مربع أبيض على أرضية بيضاء " ، لكي يرمز إلى انتحار الحضارة والفن الذي يزعم انه يعبر عنها .
وعندما أعلنت الحرب كتب فلامينك ، معبرا عن انهيار العالم ، وأخلاقه ودينه وفنه : عندما انهيت خدمتي العسكرية ، أعلنت ثورتي ضد القناعات قصيرة النظر لمجتمع خاضع لقوانين أنانية وضيقة . وقد دفعتني الحاجة للتعبير عن هذه الثورة إلى الكتابة والرسم . كانت أقل صدمة كافية لأن تفجر هذه المشاعر .
لقد فتح الرسم لي متنفسا ، وحالة من الثبات ، وبدونه ، أي لو لا هذه الموهبة ، لساءت حالي . إن ما لم أستطع أن أفعله في الحياة ـ كأن أفجر قنبلة مثلا مما كان سيقودني إلى حبل المشنقة ـ حاولت أن أحققه عن طريق الفن ، فن الرسم . ورضيت حينها عن ارادتي في تدمير قناعات قد شاخت ، و" أن أعصي " كي أخلق عالما آخر . هكذا كان الغضب الصافي وكانت حركة " الوحشيين " .
وبعد سنوات عدة ، وبزعم أنه يدفع هذه المغامرة ـ حسب تعبيره ـ إلي أقصاها لم يحتفظ جاكسون بولوك إلا بالمظهر التقني لهذا التجديد ، ولما لم يكن لديه شيء يقوله عبر هذه اللغة الجديدة ، فقد أكد أنه " يعطي الصدفة مكانا بارزا وأساسيا ، فيمكن للمرء مثلا أن ينقط من عبوات دهان مثقوبة فوق قماش مفروش على الأرض حتى ينتج لنا لوحة .
تم حصار السوق بهذا الانتاج ، وتحدث النقاد بزهو عن مدرسة جديدة هي مدرسة " الانطباعية التجريدية " ، وعن التقنية الجديدة في " التنقيط " . وقد وصلت أثمان هذه السطوح الجعدة إلى أرقام غير معقولة .
وكي نعطي فكرة عن دور الفن في لعبة " الثقافة الحالية " التي خلقها البنك العالي ، والذي اجتذب كل قطاعات الحياة الاجتماعية ، نورد المثال الذي أورده دومسك في كتابه " فنانون بلا فن " : في عام 1991 ، وفي صالة الفن العالمي الشهيرة " كريستي " ، عرضت للبيع لوحة للرسام كونينج ، الذي يعتبر مع بولوك وماذورل الممثلين الاكثر اتباعا لهذه المدرسة " الانطباعية التجريدية " ، بسعر 000 , 868 , 44 فرنك ، وفي نفس الوقت عرضت اللوحات التالية بالاسعار المقابلة لها:
لوحة لرافاييل 000 , 688 , 8 فرنك .
لوحة لتيتيان 200 , 725 , 5 فرنك .
لوحة لإل غريكو 920 ، 106 ، 12 فرنك .
لوحة لاتور 000 ، 995 ، 4 فرنك .
وعرضت لوحتان لفيرونيز ، الأولى بسعر 000 ، 050 ، 6 والثانية بسعر 000 ، 476 ، 5 فرنك . كما عرضت لوحتان لبوسان الأولى بـ 000 , 540 , 1 والثانية بسعر 000 ، 320 ، 1 فرنك . كما وقعت عملية مالية أكثر وضوحا ، لتكرس " انتصار الفن الأمريكي " ، (وهو عنوان كتاب لساندلر 1990) ، عندما نجح روشنبرغ مدفوعا برغبته في إخضاع السوق الاوروبية لسوق نيويورك بالتعاون مع التاجر ليوكاستيللي ومن خلال خطط خاصة بمثل هذا النوع من العمليات ، أن يحصل على جائزة بينالي فينيسيا عام 1964 .
ويستحق فن البوب " البوب آرث " الذي راج في حينه أن يختصر : ففي عام 1917 ، أرسل الرسام الفرنسي مارسيل دوشامب إلى جمعية " الفنانين المستقلين " ، مغسلة (وفي الحقيقة مبولة) ، كجواب على لا معقولية العالم . فكل شيء لا معنى له ، وفي المقدمة : الفن .
وكان هذا الموقف أساس الحركة الدادائية عام 1919 ، التي تبرز خواء وبطلان المجتمع . وكرر دوشامب احتجاجه بعجلة دراجة وضعت وفوق تابوريه مع حمالة صحون ، ومشط صدئ .
وقد أعطى رد الفعل هذا ضد لا معقولية الحرب والعالم ، بالتضافر مع روشنبرغ ووكليه التجاري المتجول ليوكاستيللي ، وتحلل المجتمع الامريكي المزدهر اقتصاديا ، إلى ولادة الفن " الجاهز " و " ألبوب آرت " . أما الجدة التي استخدمت ، بعد سبعين عاما من التأخر ، فلم تكن إلا " خدعة بهلوانية " للإعلان عن بداية حقبة ، وليجعلا منها " مدرسة " و " أسلوبا " .
وقد ألصق روشنبرغ على قطعة من القماش عصفورا ملفوفا بالقش بصحبة ماعز ، بدعوى العودة إلى الواقعية العارية .
ولم يكن هذا التصدير لتفكك الفن ، كما هو تفكك المجتمع الامريكي ، إلى أوروبا يشكل فقط جهدا رئيسيا لتحويل السينما من فن إلى صناعة ، بل قدم نمطا من الحياة ، يبدأ بعنصرية " الغرب الامريكي " ، حيث نجد أن " الهندي الطيب " ، هو الهندي الميت ، أو المتعاون مع الغزاة ، وينتهي بأفلام الرعب التي تصور وفق تقنية مصطنعة " للمؤثرات الخاصة " ، التي تعتبر من خصائص هوليود ، ثم أفلام العنف مع مئات الطلقات النارية في الساعة الواحدة ، ليترجم ذلك كله تحلل شعب ، وحضارة ، وفن .
وكانت إحدى تبعات هذا الدنس الثقافي القادم من الولايات المتحدة ، طليعة الانحطاط ، أن رفع هذا التخريب الهمجي للفن إلى مستوى " الفنون الجميلة " . وهكذا كان حال أعمدة بورن في القصر الملكي ، وتغليف : الجسر التاسع " الذي نفذه كريستو .
ففي 13 أيلول 1982 ، بدأ تغليف الجسر بـ 43000 متر من الكتان غير القابل للاحتراق وبـ 11000 متر من الحبال . إنه عمل ذهبي .. إنه أمر متميز . وكما قال الكاتب فيركور ، " كأنك تذهب إلى أثينا كي تستمتع بمبنى البانتيون فتجده مغلفا " . ولن تكلف هذه المهزلة دافعي الضريبة الباريسيين إلا 19 مليون فرنك .
وقد خسر كريستو، ضيق النظرة ، نقطة امام بورين ، الذي نجح في نهب ما قيمته 22 مليون فرنك من أجل معرض لأجزاء من أعمدة مخططة في ساحة الشرف في القصر الملكي .
سواء جاء هذا الامر من اليسار أو اليمين فانه يتابع منطق معاداة الثقافة بثبات : تشويه باريس تحت التأثير المشترك لوباء المنطق الامريكي ، وأرباح المضاربات في المشاريع المثقلة بالاعمال.
مارس الفن دوما ، وظيفة كبرى داخل الحضارات ، وهو ملتصق بشكل حميمي بالحقيقة والواقع ، ولكنه يلعب فيها دورا محركا ، مثل دور الايمان عندما يكون أصيلا .
ويقدم الفن للإنسان صورته نفسه ، أو صورة العالم ، اللتين لا تستطيع رؤيته العادية أن تلتقطهما.
وكي لا نورد لا إلا مثالا واحدا من الأمثلة الشهيرة ، ونعني بذلك الاكثر " توسطا " بين النكرات ، سنكتفي بالاشارة إلى مثال آندي فارول ، باعتباره نموذجيا . فقد استخدم في تقنيات النشر ، طريقة الطبع على الخشب ، مغيرا ألوان الحبر كي يضاعف لوحات البورتريه ـ روبوت لمارلين مونرو .
نحن هنا أمام نقيض الفن ، لا شئ يحمل الحقيقي الذي في داخله ، بل العكس ، يلصق بواسطة أدنى مستوى من ميكانيكية الاعلان التكراري ، حيث يكون الإنسان فيه غائبا . إنه يحمل نفس العنوان مثل " الكوكاكولا " و " ماك دونالد " .
وقلة من النقاد تجرأوا على قول : " إن الملك عار " .
عندما رعى مركز بوبورج (مركز جورج بومبيدو في باريس ) معرضا استعاديا ، قيل إنه جذب 800 ألف زائر ، وهو رقم يقترب من الارقام القياسية التي سجلها زوار مخازن " برينتامب " في فترة عيد الميلاد .
وبالمقابل ، يتكلم النقد الذي يتناول فن الخواء هذا ، والذي تدعوه المجلات المختصة " بالفن المقزم" ، يتكلم عن العمل الفني أقل مما يتكلم عن أهداف الفنان ، الذي يمنحونه الالقاب الاكثر فخامة : الفورتيسيزم ، الاورفيزم ، جماعة كوبرا ، رسم تجريدي .. إلخ ، بينما كان ما عرض علينا مجموعة من أعقاب الزجاجات ، أو كبة امتزج فيها الصوف بالخيوط وسموها سجادة .
لا شيء في هذا القرن يهدف إلى الايقاظ ، إنما إلى التخدير ، كما يجري في حفلة موسيقية تعزف ألحانها بقوة 130 ديسبل (بينما تصبح الاذن فيزيولوجيا صماء انطلاقا من سماع صوت شدته 90 ديسبل) . ودون التطرق لمسألة القيمة الموسيقية ، فإن سوناتا لشوبان تعزف بمثل قوة الصوت هذه سينتج عنها نفس الخدر في الوجدان والروح النقدية ، وخاصة إذا ما أضيف إليها المؤثرات الضوئية المنسقة التي تغمر الصالة لزيادة التأثير المخدر .
وتعاني الهندسة المعمارية نفس الوضع اللاإنساني ، بدلا من أن تكون إغناء لحياة المجتمع ، الذي يعيش في عالم يرفع فيه " البونكس " عبارة " لا مستقبل " ، مكتوبة على قمصانهم . ففي الشارع نفسه " شارع بوبورج " الذي تنتصب في أفقه كنيسة نوتردام ، تبرز أنابيب ملونة توحي وكأن المرء يشاهد مصنعا لمعالجة النفايات .
هذا الوسواس ، وسواس التجديد من أجل التجديد ، يقود في كل الاصقاع ، إلى الغاء فكرة التجديد من حضارة الإنسان .
إن حداثة البوب آرت ، و " الموجة الجديدة " ، و " الرواية الجديدة " ، كلها زائلة ، شأنها في ذلك شأن انتشارها الفوري ساعة ولادتها . ويحمل التجديد في كل هذه الميادين قاسما مشتركا ، مع الاقتصاد المسيطر . وقد وضع أحد الخبراء مسألة التجديد هذه على الشكل التالي : إن ما هو ضروري إفراغ المسألة الفلسفية من الغائية . (ميشيل ألبرت ـ الرأسمالية ضد الرأسمالية).
هكذا ولد ما دعاه جيل ليبوفسكي بـ " فن الخواء " .
لكن هذه الجريمة ليست جريمة الشعوب إنها جريمة المؤسسات والقادة ، فليس هناك إطلاقا شعب سيئ ، إنما هناك شعوب مخدرة .
فالشعب الألماني الذي قدم هذا العدد الهائل من المبدعين العباقرة في مجالي الثقافة والإيمان ، فأغنوا حياتنا ، هو نفسه الذي حُشر خمسة أعوام داخل تعاويذ الموت .
تميل الديماغوجيا ، التي تتحدث عن " الشعب المختار " ، لجعل الامريكيين ينسون ماضيهم ، من أجل متابعة استخدامهم ، عن طريق " الفاليوم " الجماعي المتمثل بالتلفزيون والسينما والصحافة ، في مغامرات جديدة لمجموعة " الصناعة ـ العسكر " ، التي تتعاظم قوتها وغناها على حساب البؤس ، وعن طريق الهيمنة العسكرية والاقتصادية على العالم .
إن نفاق سادة القارة يجسد استمرار مأساويا منذ أن كتب كريستوف كولومبوس إلى ملك إسبانيا : " إن الذهب هو أثمن الممتلكات طرا ، ومن يمتلكه يمتلك كل شيء يحتاجه في هذا العالم ، وكذلك هو وسيلة لإنقاذ الارواح من المطهر " . إنها استمرارية تمتد حتى زمن رونالد ريغن .
ادعى رونالد ريغن أن ازدهار الولايات المتحدة وقوتها ، برهان على أن الأمريكيين " أمة باركها الله " . وقد تجرأ رجل دين إسباني فأعتبر هذا الكلام تجديفا، لأن غنى وقوة الولايات المتحدة ، لم يأتيا من مباركة الإله ، بل من استغلال العالم ، والعالم الثالث بشكل خاص ، عن طريق التبادل غير المتساوي ، والاستيراد القهري للمنتجات الأمريكية ، وغزو الرساميل بالمليارات ، وانخفاض الأجور، ومن خلال المكاسب الربوية " للقروض " .
هذا هو ميزان خمسة قرون من الاستعمار ، وخمسين عاما من بريتون دودز ومعه " مصرفه الدولي " ، وصندوق النقد الدولي ، ثم منظمة التجارة العالمية . إن علامة " الصليب " ما انفكت ترسم على مقابض السيوف ، وكأنها وثن من الذهب والموت .
هذا من ذاك ، ولا ينتج إلا من ذلك .
الهوامش
ـ توكفيل (1805 ـ 1859 ) ، كاتب وسياسي فرنسي ، درس في الولايات المتحدة نظام العقوبات فيها ، وعاد إلى فرنسا بكتاب سياسي هام بعنوان " الديمقراطية الأمريكية ". عمل وزيرا للخارجية الفرنسية ونشر عام 1856 كتابا بعنوان " النظام القديم والثورة " .
ـ جاء في الاصحاح الأول لسفر يوشع :
" وكان بعد موت موسى أن الرب كلم يوشع بن نون خادم موسى . موسى عبدي قد مات فالآن قم اعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب التي أنا معطيها لكم ، أي لبني إسرائيل ، كل موضع تدوسه بطون أقدامكم ، لكم أعطيته كما كلمت موسى ، من البرية ، ولبنان هذا ، إلى النهر الكبير، نهر الفرات ، جميع ارض الحثيين ، والى البحر الكبير . نحو مغرب الشمس يكون تخمكم … قال يوشع : بهذا تعلمون أن الله الحي في وسطكم ، وطردا يطرد من أمامكم الكنعانيين والحثيين والخويين والغرزيين والجرجاسيين والأموريين واليبوسيين " .
البيوريتانية Puritantaiasm ، أو الطهرية ، جماعة بروتستانية نشأت في انكلترا ونيوانجلند في القرنيين السادس عشر والسابع عشر . طالبت بتبسيط طقوس العبادة ، اتصفت بالتزمت الشديد.
ـ كوكلكس كلان : اسم يطلق على منظمتين إرهابيتين في الولايات المتحدة . نشأت الأولى عام 1866 ، في الجنوب الأمريكي عقب الحرب الأهلية ، ونشأت الثانية في القرن العشرين متخذة لنشاطها مناطق جغرافية أوسع . هدفت المنظمة الأولى للدفاع عن سيادة الرجل الأبيض وقامت بأعمال إرهابية ، بقصد إخافة السود من ممارسة حقوقهم المدنية والانتخابية ، عن طريق الضرب والتعذيب وإشعال الحرائق ، وأعمال الشنق بدون محاكمة ، وكان من أهدافها حماية المرأة البيضاء من رجس الرجال السود . واتخذ قادة المنظمة الإرهابية أسماء خرافية مثل : الإمبراطورية الخفية ، ساحر الإمبراطورية الأعظم ، والتنين الأعظم ، والجبار الأعظم .
تأسست المنظمة الثانية عام 1915 في جورجيا الأمريكية باسم فرسان الكوكلكس كلان . كانت عضويتها متاحة لكل أمريكي أبيض بروتستاني . لقيت الأزمة تأييدا واسعا مع الأزمة الاقتصادية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى ، وازدادت المنظمة تزمتا وتعصباً للرجل الأبيض . وقامت بأعمال إرهابية ، فمارست الخطف والتهجير ، والجلد ، وإشعال الحرائق ، والتشويه الجسدي وبتر الأعضاء ، والقتل . بلغ عدد أعضاء المنظمة عام 1924 أكثر من ستة ملايين شخص .
وازدهرت المنظمة في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، رغم صدور تشريعات تحد من نشاطها ، وقد عمدت للإفلات من هذه التشريعات إلى اتخاذ أسماء مختلفة ، وقيادات جديدة ، وتاكتيكات جديدة .
ـ مارتن لوثر كينج (1929 ـ 1968) ، قس أمريكي أسود ، كان يعمل في سبيل توحيد السود في أمريكا واستخلاص حقوقهم . اغتيل عام 1968 ، وحاز على جائزة نوبل للسلام عام 1964.
ـ سيمون بوليفار (1783 ـ 1830) ، أحد أبطال الحرية في أمريكا الجنوبية . حرر فنزويلا وغرانادا الجديدة وأعلن استقلالهما عن الاتحاد الاسباني ، ووحدهما مع الاكوادور مشكلا " جمهورية كولوبيا الكبرى " ، حاول أن ينشئ اتحادا بين دول أمريكا اللاتينية .
ـ نعوم شومسكي : ولد عام 1928 لغوي أمريكي ، من كتبه : الإيديولوجيا والسلطة وردع الديمقراطية .
ـ بنيامين فرانكلين (1706 ـ 1790) ، أحد مؤسسي الاستقلال الأمريكي ، وعضو بارز في الحركة الماسونية الفرنسية ، له إنجازات علمية وصناعية وخاصة في ميدان الكهرباء .
ـ جورج واشنطن (1732 ـ 1799) ، أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية . خدم في الجيش الانكليزي في حرب السبع سنوات ضد فرنسا ، ثم قاد الجيوش الأمريكية ضد انكلترا .
ايروكواز : شعوب هندية كانت تسكن في جنوب شرق بحيرات إبرية ، وأونتاريو ، شكلت فيما بينها اتحادا كونفيدراليا باسم الأمم الخمسة . قاتلوا الفرنسيين حتى عام 1701 .
توماس جفرسون (1743 ـ 1926) ، الرئيس الثالث للولايات المتحدة ، يعتبر الواضع الرئيسي لوثيقة إعلان الاستقلال .
ـ جون كينزي آدامز (1767 ـ 1848) ، الرئيس السادس للولايات المتحدة (1825 ـ 1829).
ـ جيمس مونرو (1817 ـ 1825) ، رئيس الولايات المتحدة واضع ما اشتهر باسم مبدأ مونرو . يقضي هذا المبدأ بمنع أوروبا من التدخل في شؤون القارة الأمريكية ، ومنع إسبانيا من العودة ، معتبرا عودة الإسبان إلى القارة بمثابة تهديد لسلامة وأمن الولايات المتحدة .
ـ حرب الافيون (1840 ـ 1842) ، انفجرت بين الصين وبريطانيا، بعدما منعت الحكومة الصينية شركة الهند الشرقية من توريد الأفيون إلى الصين . وانتهت الحرب بمعاهدة نانكين 1942 التي أمنت لبريطانيا امتيازات كبيرة منها فتح خمسة موانئ وجزيرة هونغ كونغ أمام السفن البريطانية ، والسماح بقدوم البعثات التبشيرية إلى الصين .
ـ المحميات : مساحات من الأرض ، استثنيت من الاستيطان الأبيض ، ليسكنها الهنود الأمريكيون وكانت هذه المحميات تنشأ بعد عمليات الغزو . ويزود الهنود في هذه المحميات بمساكن ومساحات محدودة من الأرض لزراعتها ، ويوضع سكانها تحت مراقبة الحكومة . ابتدئ بتطبيق هذا النظام منذ بداية الفترة الاستعمارية في أمريكا . واعتبرت هذه الاجراءات عام 1786 سياسة وطنية . يدير المحميات إدارة الشؤون الهندية . وهي جزء من وزارة الداخلية . وفي عام 1924 أصدر الكونغرس قرارا باعتبار الهنود الذين يولدون داخل الولايات المتحدة أمريكيين .
ـ بيرل هارير : ميناء أمريكي في جزر هاواي ، وقد تعرض فيه الاسطول الأمريكي في المحيط الهادي إلى غارة يابانية مفاجئة ، في 7 كانون الأول 1941 . وقد اعطى تدمير الاسطول ، الرئيس الأمريكي الحجة للتدخل في الحرب العالمية الثانية .
ستالينغرد : مدينة روسية اشتهرت بصمودها البطولي في وجه قوات هتلر (الجيش السادس) ، وانتصارها بعد معارك ضارية بدءا من عام 1942 . ويعتبر انتصار ستالينغراد عام 1943 (شباط) ، نقطة تحول في مجرى الحرب على الجبهة الروسية .
الحركة الفاشية الايطالية : حركة سياسية سادت إيطاليا ما بين عامي 1922 ـ 1943 بقيادة موسوليني (1883 ـ 1945) الذي هزمت قواته في الحرب العالمية الثانية .
غزو الحبشة (1935 ـ 1936) ، شكل المستعمر الايطالي من الحبشة واريتريا والصومال ، ما عرف باسم أفريقيا الشرقية الايطالية . في عام 1941 ، دخلت القوات المشتركة الانجلو ـ فرنسية الحبشة وأعادت هيلا سيلاسي إلى السلطة .
ـ المارشال بادوغليو (1871 ـ 1956) ، حاكم ليبيا في ظل الاستعمار الايطالي (1928) ، ونائب الملك في أثيوبيا (1938) ، ورئيس الحكومة الايطالية بعد سقوط موسوليني . فاوض الحلفاء وعقد معهم هدنة عام 1943 .
ـ الجنرال بيتان (1856 ـ 1951) ، عسكري فرنسي ارتبط اسمه بانتصارات عديدة في الحرب العالمية الأولى . عين رئيسا للحكومة عام 1940 .وهي الحكومة المعروفة باسم حكومة فبشي . حكم عليه بالإعدام عام 1945 ، واستبدل بالنفي المؤيد .
ـ الاميرال دارلان (1881 ـ 1942) ، أميرال فرنسي تعاون مع الجنرال بيتان . وخلفه في منصبه عين في شمال أفريقيا بعد إنزال 1942 . اغتيل في الجزائر .
ـ الدمورو (1916 ـ 1978) ، رئيس الحزب الديمقرطي المسيحي في إيطاليا ووزيرا للخارجية . ورئيسا للحكومة الإيطالية مرتين ، اغتيل عام 1978 من قبل رجال المافيا الإيطالية .
ـ فرانكين روزفلت (1882 ـ 1945) ، رئيس الولايات المتحدة (1936 ـ 1944) ، عمل على اشتراك الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية (1941) ، وضع خطة اقتصادية جديدة لتنشيط الاقتصاد الأمريكي .
ـ مؤتمر كازابلانكا : 1943 أو مؤتمر الدار البيضاء ، عقد بين روزفلت وتشرشل .
ـ مؤتمر يالطا 4 ـ 11 شباط 1945 على البحر الأسود . حضر المؤتمر كل من تشرشل ورزفلت وستالين لتنظيم أوروبا بعد الهزيمة الألمانية المرتقبة وحل مشاكل ما بعد الحرب ، وتجديد منطقة نفوذ الاتحاد السوفيتي في أوروبا .
ـ وارن هاردينج (1865 ـ 1923) ، سياسي أمريكي من الحزب الجمهوري ، أصبح رئيسا للولايات المتحدة (1921 ـ 1923) ، عرف بمناصرته لسياسة العزلة والحماية .
ـ هنري ديفيد ثورو (1817 ـ 1862) : كاتب أمريكي تأثر بامرسون والتراث الهندوسي والمثاليين الألمان . كتب نثرا متأثرا بشدة بلغة العامة . أشهر كتبه " والدن أو الحياة في العناية ".
ـ جورج مارشال (1880 ـ 1959) : جنرال أمريكي ، أصبح وزيرا للخارجية في عهد ترومان ، أعطى اسمه للخطة الأمريكية ، لإعادة بناء الاقتصاد الأوروبي الغربي .
ـ جيمس ترسلو آدامز (1878 ـ 1949) ، مؤرخ أمريكي ، من أهم كتبه مسيرة الديمقراطية.
ـ روشبنرغ : رسام أمريكي ولد عام 1925 جمع بين الانطباعية والتجريدية وفن البوب ، مستخدما النفايات والتصوير الفوتوغرافي ، والتكنولوجيا .
ـ كونينج ولد عام 1904 من أبرز رسامي المدرسة التعبيرية في أمريكا .
ـ رالف أمرسون (1803ـ 1882) فيلسوف أمريكي مؤسس مذهب التعالي في أمريكا من كتبه " ملامح الشخصية البريطانية " .
ـ جون براون (1800 ـ 1859) ، زعيم أمريكي ، أعدم شنقا بسبب دعوته السود لحمل السلاح ضد الاضطهاد الأبيض ، وإلغاء الرق .
ـ باجافا دجيتا :
ـ نهر الجانج : نهر ينبع من جبال الهملايا ويصب في الخليج البنغال وفي هذا النهر المقدس يغتسل الحجاج الهنود .
ـ نهر يوتوماك : نهر يمر بواشنطن ويصب في خليج شيزابك 640 كم .
دوبوا (1869 ـ 1963) ، عالم اجتماع وسياسي أمريكي ، ممن حملوا لواء الدفاع عن الزنوج في الولايات المتحدة . أسس حركة التضامن مع أفريقيا .
ـ موريس فلامينك (1876 ـ 1958) ، رسام فرنسي من رواد المدرسة الوحشية .
ـ جاكسون بولوك (1912ـ 1956) ، رسام أمريكي يعتبر أحد زعماء المدرسة التعبيرية التجريدية .
تيتيان (1488ـ 1576) ، رسام إيطالي . تأثر باستاذه جيورجيوني . ترك أثرا كبيرا على الفن الأوروبي .
ـ فيرونيز (1528ـ 1585) ، رسام إيطالي من أبرز رسامي مدرسة فينيسيا . اشتهرت رسومه بالحركة وغنى الألوان المشرقة .
تيد شون (1895 ـ 1958) ، فنان أمريكي مجدد اهتم برقص الرجال ، وأسس مع زوجته أسلوبا متميزا في الرقص .
ـ روث سانت دينيس : راقصة أمريكية مجددة في بداية القرن العشرين كانت تؤمن بالمصادر الروحية للرقص . وقد تأثرت بالرقص الديني في الشرق . تزوجت من تيد شون .
ـ مارتاغراهام : راقصة بالية أمريكية . إحدى رائدات الرقص الحديث في الولايات المتحدة .
ـ فريد استر : ولد عام 1899 راقص أمريكي ، اشتهر في الخمسينات عمل في السينما والتلفزيون .
ـ جننجر روجرز : موسيقي أمريكي اشتهر في أواسط القرن بمسرحياته الكوميدية الغنائية ، نقل عدد منها إلى السينما .
ـ ادغار آلن يو (1809 ـ 1849) ، شاعر وكاتب أمريكي يعتبر من أشهر كتاب القصة القصيرة .
ـ توماس وولف (1900ـ 1938) ، كاتب رواية ومؤلف للسيرة الذاتية .
ـ وليم فولكنر (1897ـ 1962) ، كاتب أمريكي اهتم بالتحليل النفسي والرمزية . استخدم الجنوب الأمريكي ميدانا لرواياته . حائز على جائزة نوبل .
ـ رامبرانت (1606ـ 1669) ، رسام هولندي يعتبر واحدا من أساتذة الفن الكبار في العالم .
ـ إل جريكو (1548ـ 1614) ، رسام إسباني في أعماله نبرة صوفية واتقاد روحي .
ـ ادوارد مانيه (1832ـ 1883) رسام فرنسي يعتبر أحد رواد المدرسة الانطباعية .
ـ ثيوفيل جوتييه (1811ـ 1872) : شاعر وروائي فرنسي ، يعتبر من أركان المدرسة البرناسية .
ـ ادموند آيو About (1828ـ 1885) ، عالم آثار وكاتب فرنسي له عدد من الروايات .لقي نجاحا كبيرا في زمانه .
ـ الامبراطورة أو جيني : امبراطورية فرنسا (1853ـ 1870) زوجة نابوليون الثالث .
ـ فان غوخ (1853ـ 1890) ، رسام هولندي يعتبر من أعظم الرسامين في كل العصور .
ـ جورج براك (1882ـ 1963) ، رسام فرنسي أسس مع بيكاسو المدرسة التكعيبية ، اشتهر برسوم الطبيعة .
ـ بابلو بيكاسو (1881 ـ 1971)، رسام ونحات إسباني ، يعتبر أغزر فناني القرن العشرين إنتاجا وأكثرهم إبداعا .
ـ جوان غري (1887ـ 1927) ، رسام إسباني عاش في باريس منذ عام 1906 ، التزم المدرسة التكعيبة منذ عام 1911 ، ويعتبر من روادها .
ـ جان انجرس (1780ـ 1867)، رسام فرنسي يعتبر أحد زعماء المدرسة الكلاسيكية الفرنسية.
ـ نيكولاس بوسان (1594ـ 1665)، رسام فرنسي تعكس معظم أعماله تأثير تيتيان ،عني بتصوير الموضوعات الدينية والرمزية .
ـ رنوار (1841ـ 1919) : رسام فرنسي ، يعتبر أحد أبرز ممثلي المدرسة الانطباعية .
ـ ماتيس (1869ـ 1954) : رسام فرنسي من المدرسة الوحشية يعتبر من ألمع رسامي في القرن العشرين تنتشر لوحاته في متاحف العالم .
ـ ماركيه (1875ـ 1947) رسام فرنسي من المدرسة الوحشية .
ـ مورو (1826ـ 1898) ، رسام فرنسي أستاذ ماتيس وماركيه .
ـ ليون يونا (1833ـ 1922) رسام فرنسي اشتهر بلوحات البورتريه .
ـ برنارد بونيه ولد عام 1928 رسام فرنسي معاصر .
ـ مارسيل دوشامب (1887ـ 1968) رسام فرنسي أحد مؤسسي المدرسة الدادائية والمدرسة السوريالية .
ـ مالفيتش (1878ـ 1935) ، رسام فرنسي أوحد شكلا من التجريدية عرف باسم (السوبرماتزم)، بلغ أوجه في لوحته : مربع أبيض على أرضية بيضاء " (متحف الفن الحديث في نيويورك) .
ـ الانكا: تصور السينما الأمريكية الهنود الأمريكيين وكأنهم مجموعات بدائية مبعثرة في أرجاء القارة بغية تبرير عمليات الابادة . لذلك نورد فيما يلي لمحة موجزة عن إحدى الشعوب الهندية الأمريكية وهو شعب الانكا : قبائل هندية في جنوب أمريكا ، يعود تاريخها إلى 1000 عام قبل الميلاد ، حيث كانوا يقطنون البيرو، وقد أسست في أواسط الألف الثاني بعد الميلاد امبراطورية ، وصلت أوجها خلال حكم هويانا كاباك (1487ـ 1525). حيث وصلت إلى ما يعرف اليوم بالاكوادور وفي الجنوب التشيلي ، كما امتدت من المحيط الهادئ إلى منابع الامازون ونهر البارغواي ، وبلغ عدد سكان هذه الامبراطورية 6ـ 8 مليون نسمة . غزاها الاسبان بقيادة المغامر الإسباني في فرانسكيو بيزارو عام 1532 الذي أعدم الامبراطور عام 1533 غدراً ، وعين ابنه خلفا له .
وكانت سياسة بيزارو وخلفاؤه الاسبان قاسية جداً وتميزت بالاضطهاد .
بلغ الانكا مستوى حضاريا لم تبلغه أية أمة هندية في الأمريكيتين . كانت مملكة الانكا ديمقراطية في الحكم ، اشتراكية في التنظيم الاجتماعي تعتمد على الزراعة ، يحكمها الانكا نصف السماوي ، تساعده الأسرة المالكة ثم الطيف الارستقراطي ، ثم الادارات الامبراطورية ويليها صغار النبلاء ، ثم الحرفيون والمزارعون ، وكانت الامبراطورية مقسمة اداريا إلى أربعة اقاليم ، وقسمت الاقاليم إلى وحيدات متدرجة في الصغر ، كان أصغرها الايولى وهي تسبق العشيرة ـ العائلة . وكانت تربية الايولى تجري تحت رقابة رسمية صارمة ، وكان خبراء الحكومة هم الذين يشرفون بدقة على اختيار الزراعات والمحاصيل ، ويعلمون المزارعين وسائل بناء المصاطب الحجرية والمدرجات الجبلية والري وتصريف المياه والتسميد . وكان القمح والبطاطا من أهم المحاصيل . وكانت الحكومة تحتفظ بجزء من المحاصيل المجففة ، للتصرف بها عند الحاجة . وكانت حيوانات الحمل لديهم اللاما والالياكاس ، كما ربوا الكلاب والبط والخنازير . وكانت صناعاتهم الرئيسية السيراميك ، والنسيج ، والادوات المعدنية والاسلحة .
ولم يكن لديهم خيلا ، ولا عربات ، ولم يكن لهم لغة مكتوبة ، ولكن السلطات كانت قادرة أن تبقى على صلة واطلاع بكل ما يجري في أرجاء المملكة بفضل اتصالات سريعة ، ربما عبر شبكة عظيمة من الطرق المرصوفة بالحجر تصل كل أجزاء المملكة . وكان هناك عداؤون ممتهنون يعملون بين محطات متتابعة ، حيث كان بالامكان أن يقطع البريد 150 كيلومترا يوميا . وقد صنعوا قواربهم من خشب متين ، فأمنوا بذلك نقلا سريعا . وقد أدى كل ذلك إلى سيطرة قوية من العاصمة باتجاه الاطراف . وكانت الحكومة أحيانا تبدل أماكن سكنى العشائر لأسباب سياسية أو اقتصادية . وكانت المعطيات الاجتماعية والاحصائيات الضرورية تحفظ على ألواح " الكيبو " وهي ألواح منسوجة من الاسلاك .
ترك الانكا معابد ضخمة ، وقصورا ، وحصونا ، ومرافق عامة . فقد بنوا الابنية الحجرية الضخمة بأقل ما يمكن من الادوات الهندسية ، ومن أشهر أوابدهم معبد الشمس في كوزو ، وهناك النجازات هندسية أخرى تلفت الانظار منها بناء الجسور المعلقة القوية التي يتجاوز طول بعضها إلى مئتي متر ، وكذلك القنوات والترع لأغراض السقاية .
أما ديانة الأنكا فقد صيغت بعناية . وهم يؤمنون بإله يدعونه الغيراكوشا ، وتعني السيد ، وهو خالق كل المخلوقات الحية . وكان إلى جانبه آلهة أخرى كالشمس والقمر والبحر والنجوم . وكانت احتفالات الأنكا وطقوسها الدينية وسعة كما كانت تقدم للآلهة اضحيات بشرية .
وتضم حضارة الانكا تراثا غنيا من الفولكلور والموسيقى ، اللذين لم يبق منهما إلاّ القليل .
المدرسة العسكرية في نورث بييننغ : تقوم المدرسة العسكرية في نورث بينينج جيورجيا بتدريب الضباط ورجال الشرطة في بلدان أمريكا اللاتينية المتحالفة مع الولايات المتحدة . وتهدف هذه المدرسة إلى تدريب الضباط والشرطة على استخدام وسائل القمع . وقد اعترفت وزارة الدفاع الأمريكية بان الكتب الدراسية المقررة في هذه المدرسة ، مازالت حتى بين عامي 1982 ـ 1991 ، توصي باستخدام التعذيب ، والإعدامات بدون محاكمة ، والشانتاج ، وبشكل أكثر عمومية ، استخدام كل أساليب العنف بغية الحصول على المعلومات من المعارضين وأعضاء الميليشيا السياسية ، أو العاملين في صفوف حرب الغوار.
ووفقا للسلطات العسكرية ، فقد أجرى تعديل على مناهج المدرسة منذ عام 1992 وبشكل سري . وكان على الرأي العام الأمريكي أن ينتظر حتى عام 1996 ، ليعرف حقيقة المناهج وحقيقة هذه المدرسة ، وذلك بعد تحقيق أجراه الكونغرس عن دور المخابرات المركزية الأمريكية في غواتيمالا.
ولقد قامت هذه المدرسة منذ تأسيسها عام 1946 ، بتدريب 60 ألف طالب من اثني عشر بلدا . وكان مقر المدرسة في البداية في باناما ثم نقلت عام 1984 إلى نورث بينينج . وقد بلغت المدرسة ذروة مجدها في أعوام الستينات ، حيث كانت الولايات المتحدة منغمسة بعمق في دعم الانظمة المعادية للشيوعية في أمريكا اللاتينية ، حيث واجهت مقاومة أحزاب سياسية أو ميليشيات مسلحة فجرت حروب الغوار . وقد أصبح عدد من هؤلاء الضباط بعد أن أصبحوا جلادين مشهورين ، رؤساء دول ، من بينهم نورييغا الجنرال البانامي ، وقد شكلوا طبقتهم الخاصة ، باعتبارهم تلقوا تعليمهم في منع العصيان والقدرة على انتزاع المعلومات من المتهمين .
وتتألف الكتب التعليمية المجرمة هذه ، والتي أصبحت معروفة بفضل البنتاغون والصحافة الأمريكية من سبعة كتب ، مكتوبة باللغة الاسبانية .
بعض فصول هذه الكتب تحمل العناوين التالية :
معالجة مصادر المعلومات ، التجسس المضاد ، الارهاب وحرب العصابات في المدن . في هذه الفصول ، يجري تنبيه الطلبة المتدربين على أن التعاون مع مخبر محتمل ، سوف يصبح أسهل بكثير فيما لو جرى احتجاز والديه أو أقربائه ، واعتقاله ، وتعذيبه ، واقتلاع الخوف من قلبه ، واغداق المكافآت عليه في سبيل القضاء على عدو ، وتهديده بالسجن والاعدام ، والتظاهر بتنفيذ ذلك أو استخدام ما يسمى سيروم الحقيقة . كل هذه الاجراءات قد تؤدي إلى نفس النتيجة . ويجب أن لا يتردد الضابط الذي يعالج هذا الامر في تقديم الهدايا ، مقابل المعلومات التي يقدمها المتعامل ، والتي تقود إلى اعتقال أو أسر أو موت أعضاء حرب الغوار . الذين تطلق عليهم الحكومات دائما اسم المجرمين (غارودي) .

الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
الفصل الرابع

الفصل الرابع
استعمار أوروبا والعوالم الثلاثة
إيران ، لبنان ، الصومال ، فلسطين ، والبوسنة . وبالأمس باناما ، جرانادا ، ونيكاراغوا ، وغدا إيران وليبيا وكوبا . كل ذلك يحدث بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الذي غير علاقات القوى التي تأسست منذ أن سحق هتلر ، فخلقت عالما ثنائي القطببن .
هل هناك خيط يقودنا لفهم عصرنا ، نعني رابطة داخلية تربط بين كل المشاكل العالمية ، التي تستدعي التدخل العسكري ، وتعميق دور الصندوق الدولي ، والبنك الدولي ، وأوروبا في ظل ما يستريخ ، واستعادة أوروبا الشرقية للنظام الرأسمالي ، والأصولية الإسلامية والمسيحية واليهودية؟
وبعكس ما تفعله وسائل الاعلام ، وخاصة التلفزيون ، التي تخدر الرأي العام ، عن طريق تقديم ألوان مختلفة من النكبات ، وسلسلة من الأعمال المحضرة سلفا " والمعدلة " من مكان إلى آخر ، من تيمور إلى مقاديشو ، ومن سيراجيفو إلى بغداد ، علينا كي نكتشف معنى ذلك أن نضعه في المسار التاريخي للقرون الخمسة الماضية ، قرون الهيمنة المتنامية للغرب على العالم كله .
بعد أقل من ثلاثة قرون من غزو أمريكا ونهب ذهبها ، الذي أعطى لتصنيع أوروبا اندفاعا لا سابق له ، ابتدأت المغامرة التي أصبحت اليوم القوة الاعظم في العالم : الولايات المتحدة .
ورأينا سابقا كيف أن تاريخ الولايات المتحدة قد تميز بعمليتين أساسيتين : مذابح الهنود للاستيلاء على أرضهم ، واسترقاق العبيد لتشغيلهم في المزارع والمناجم .
وتقاسمت الدول الاوروبية بقية العالم بأساليب متشابهة . امتدت حصة بريطانيا من الهند حتى أفريقيا الشرقية والشرق الاوسط ، وكانت حصة فرنسا من أفريقيا إلى الهند الصينية ، ومن المغرب حتى المحيط ، وبلجيكا الكونغو ، واستولى القياصرة على سيبيريا ، واحتلت هولندا أندونيسيا .
وبعد حربين عالميتين ، أعيد توزيع الاوراق من جديد ، بهدف اقتسام العالم بين أولئك الذين شكلوا امبراطوريات ، وأولئك الذين طمعوا فيها . وفقدت أوروبا الدامية ، حيث نزف المنتصرون والمهزومون على حد سواء ، هيمنتها لصالح الولايات المتحدة . فقد كانت الحربان العالميتان مصدر غنى لها ، وجعلاها سيدة العالم من الناحية الاقتصادية ، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، ومن ناحية سياسية وعسكرية منذ انهيار النظام السوفيتي 1990 .
وما " النظام العالمي الجديد " ، الذي حلم به القادة الأمريكيون إلاّ اسم آخر لسيطرة الولايات المتحدة على العالم .
وأصبح " حق التدخل " هو الاسم الجديد للاستعمار .
أما وقد تخلصت الولايات المتحدة من ثقل السوفيتي الذي أرخص ثمنه القادة السوفيت ، وأكملت عملهم " الدوليات " ، فقد أصبحت الامم المتحدة التي تشكلت من الولايات المتحدة ، ومن مدينيها وزبائنها مركزا لتسجيل الارادات الأمريكية لتخدمها في مسألة تغطيتها قانونيا . وأصبحت الآلة العسكرية العملاقة التي تكونت في فترة المواجهة بين الشرق والغرب ، جاهزة لتنفيذ مهمات أخرى .
ولم تعد أوروبا ، قادرة أن تكون منافسا ، وإنما تابعا . وقالت معاهدة مايستريخ بوضوح، وفي ثلاثة مواقع من نصوصها ، إنه يتطلب أن نجعل منها " الركيزة الاوروبية لحلف الاطلسي ":
ففي الخطة العسكرية ، ستلعب أوروبا من الآن فصاعدا دورا مكملا : من العراق إلى الصومال . وفي الخطة السياسية ، تستسلم لنفس الاوامر : فسياسة السوق الزراعية (PAC ) ، ستقبل أمام احتياجات منظمة التجارة العالمية ، مثلما قبلت فرنسا في وضع 15 % من أراضيها متروكة دون زرع ، بهدف فتح السوق العالمية أمام زارعي الحبوب الأمريكيين الكبار .
وفي الخطة الصناعية ، نستذكر ما تحدثت عنه جريدة اللوموند في 22 كانون الأول 1992 عن " القلق من الفحم الاوروبي " . ففي عام 1955 ، وبعد توقيع معاهدة روما المنظمة لأوروبا ، تم إحصاء 2 مليون عامل يعملون في مناجم المجموعة الاوروبية ، وهبط عدد هؤلاء العمال عام توقيع معاهدة مايستريخ إلى 250 ألف عامل فقط . أما عن كمية الانتاج ، فقد أنتجت الدول الاثنتا عشر قبل ثلاثين عاما 400 مليون طن ، أما إنتاج عام 1992 فقد بلغ 180 مليون طن فقط . وتعتبر فرنسا الضحية الاساسية لنقص الانتاج ، حيث هبط إنتاجها من 28 مليون طن عام 1973 إلى 12 مليون طن عام 1991 . وهبط الانتاج البريطاني 50 % ، والألماني 40 % . كل ذلك لمصلحة المستوردين الأمريكان والدائرين في ملكهم ، من كولمبيا إلى فنزويلا ، وحتى إلى أندونيسيا .
وفي مجال المعلوماتية ، ترفض منظمات شركة بول التي اتفق على تزويد الطائرات العسكرية الأمريكية بها ، بعد أن رفض العقد المتعلق بها بناء على توجيهات الادارة الأمريكية . وكي تستطيع شركة آ ب . أم ، وهي الشركة الأولى في العالم بين شركات المعلوماتية ، أن تنافس في سوق يسيطر عليها اليابانيون ، بحثت لنفسها في أوروبا عن دور ثان ، لتحل محل المجموعة الألمانية سيمنز التي أقلعت عن تنفيذ هذا العقد .
وفي ميدان صناعة الطيران ، تآمرت شركة لوكهيد مع وزراء يلتسين المعتمدين من صندوق التنمية الدولي ، للحصول على تقنية الصاروخ بروتون المعد لإطلاق الأقمار الصناعية ، من الاتحاد السوفيتي السابق ، وتعهدوا بتحويل الامر إلى مسألة تجارية ، في محاولة ليحل محل الصاروخ الاوروبي آريان .
أما ما تيعلق بصناعة الصلب ، فقد قررت الولايات المتحدة عام 1993 أن ترفع رسوم الاستيراد من تسعة عشر بلدا ، سبعة منهم أوروبيون . وهذه الحقوق الجمركية الاضافية التي فرضتها لنفسها الولايات المتحدة هدفت إلى منع العاملين الأوروبيين في ميدان الصلب من بيع الفولاذ في الولايات المتحدة . كانت الولايات المتحدة منفذا لـ 2 مليون طن أي ما يعادل إنتاج اللورين بكامله ، هذا الإنتاج المهدد بالموت بسبب الإجراء الأمريكي .
وقد أعلنت جنرال موتورز وفورد وكريزلر إجراءا عدوانيا مشابها في صناعة السيارات ، وهذه الحماية الصناعية " الأمريكية أولا " تشير إلى المدى الذي تقوم به منظمة التجارة العالمية في حماية السوق الأمريكية ، وفتح أسواق العالم كله للمنتجات الأمريكية .
وفي الخطة الثقافية ، استسلمت أوروبا لغزو الفيلم الأمريكي ، والتلفزيون . فمن أصل 250 ألف ساعة بث في أوروبا ، تنتج مجموعة الدول الاثنتي عشرة ، 25 ألف ساعة فقط . أما حصة سوق الفيلم الأمريكي في فرنسا 60 % . وتصبح نسبة العائدات 120 مقابل واحد فقط ، بغية اقتلاع دماغ شعب عن طريق رشقات " الماحق " أو جيمس بوند الذي اخترعته هوليود ، وحصاد دولارات مسلسل دالاس .
أدخلت هذه التبعية الأوروبية ، السياسية والمادية والاخلاقية ، العالم في مرحلة جديدة من الاستعمار . لقد وضعت قوة الشرق وأوروبا خارج اللعبة ، أو أنها أذلت . وأصبح الميدان حرا لظهور استعمار من نوع جديد ، استعمار لا يشبه أشكال الاستعمار الاوروبي المنافس ، والمقهور من الآن فصاعدا ، إنما استعمار مركز وشامل على المستوى العالمي تحت الهيمنة الأمريكية ، إن ميزان قرون خمسة مضت على الاستعمار ، هو ميزان مأساوي ، ففي عام 1993 ، أصبح أربعة أخماس المصادر الطبيعية في كو كبنا تحت سيطرة واستهلاك خمس سكان العالم .
وتتابع اللامساواة اتساعها ، " فبرنامج الأمم المتحدة للتنمية " ، يؤكد أن الفارق بين بلدان الشمال الاكثر غنى ، وبلدان الجنوب الاكثر فقرا قد تضاعف . وهبط الناتج القومي الافريقي ، بالنسبة للناتج العالمي من 9, 1 % إلى 2 , 1 % .
هذا هو ما يدعوه جورج بوش " النظام العالمي الجديد " ، إنه التوسع وتعزيز للعلاقات الاستعمارية بين دولة مستعمرة ، أصبحت من الآن فصاعدا منفردة ، وبين بقية العالم . وتعني العلاقات الاستعمارية بهذا الشكل : تبعية عسكرية وسياسية وجمركية من طرف واحد لتكون في مصلحة المسيطر فقط .
هذا هو الهدف الذي أعلنه القادة الأمريكان مرارا وتكرارا ، وخاصة خلال السنوات القليلة الماضية " أي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي " : إنه التأكيد على سيطرة الولايات المتحدة على العالم.
ولكن ما هي الوسائل التي استخدمت لتحقيق هذا الهدف ؟
إنها وسائل متعددة : هناك أولا الاساليب السابقة التي اختبرت في أمريكا اللاتينية منذ زمن طويل ، وعلى الاخص بعد الحرب العالمية الثانية ، منذ " التحالف من أجل التقدم " الذي أعلنه كنيدي ، حتى مبادرة " بوش " من أجل سوق متفردة من ألاسكا وحتى ارض النار .
وآلية العمل بسيطة : فهناك اتفاقيات للإستثمار ، والقروض ، والهبات ، مع دول أمريكا اللاتينية بشكل خاص ، والهدف المعلن مساعدتها في عملية " التصنيع " ، أما الهدف الحقيقي فهو السماح للشركات متعددة الجنسيات لتنمية أرباحها من خلال أعمالها في تلك البلاد ، التي تتوفر فيها اليد العاملة الرخيصة ، كما تقوم حكوماتها بالانفاق على البنى التحتية . وفي نفس الوقت ، تتمتع المواد الاولية القادمة من تلك البلاد بانخفاض أسعارها ، جاعلة بذلك التبادل غير المتساوي يزداد اتساعا، أكثر فأكثر .
في عام 1954 ، كان يكفي الفرد البرازيلي أن يبيع 14 كيسا من البن لشراء سيارة جيب من الولايات المتحدة ، وفي عام 1962 أصبح عليه أن يبيع 39 كيس مقابل السيارة المذكورة .
كان مواطن جامايكا يشتري الجرار الأمريكي ، عام 1964 بـ 680 طنا من السكر ، وصار الرقم عام 1968 ، 3500 طن . لقد تابعت البلدان الفقيرة مساعدتها المالية للدول الغنية .
وتتجاوز فوائد القروض ، القروض الاصلية مرات . ويبلغ عائد كل دولار ، دولارين أو ثلاثة تذهب إلى جيوب الدائن . وغالبا ما تساوي فوائد القروض قيمة الصادرات ، محققة بذلك " التنمية الممكنة " ، إذ ليس هناك ، بهذا المنوال ، بلد " على طريق التنمية " ، كما يسمونه نفاقا ، وإنما بلاد محكوم عليها ببؤس متنام ، من خلال تبعية متنامية .
وتشكل " المساعدات المزعومة " لبلدان العالم الثالث ، أحد العوامل الاكثر تأثيرا لفرض التبعية والتقهقر . إن " المساعدة " المعلنة والمتعددة الاشكال ، 7 , 0 % من إجمالي الناتج القومي للدولة المانحة . ورغم تواضع هذا الرقم ، فإن نصفه هو الذي يمنح فعلا .
ويشكل " تصنيع " بلدان العالم الثالث ، ونقل التكنولوجيا ، وسيلة أخرى للهيمنة وزيادة منافع الدول الغنية .
والمثال النموذجي هو مثال " المعجزة البرازيلية " في التنمية الصناعية ، و " التدخل البيئي " البلدان الغنية في غابات الأمازون .
أما الميزان فهو كما يلي : إن هذه البلاد الأغنى بمواردها الطبيعية هي الاكثر فقرا. إن تراكم الثروة لدى قطب واحد يمثل أقلية ، يقابله حقيقة إن 130 مليون نسمة من أصل 150 مليون ، يرتعون بالفقر، ونصف هؤلاء يعيشون في بؤس مطلق .
إن " التدخل البيئي " ، وهو الاسم الجديد للنهب والسلب الاستعماريين أوضح ما يكون في غابات الامازون . لقد دمرت مجموعة السعة ، أي البلدان السبعة الاكثر تصنيعا ، والاساتذة الفعليين " للإنسانية " ، وبشكل خاص شركات جوديير ، وصلت نيبور ، وفولكسفاجن ، وغيرها ، دمرت ملايين الهكتارات من الغابات ، وأغرقت مئات الألوف من الهكتارات الاخرى من أجل بناء سدود هيدروليكية ، كاستثمار منهجي للكتلة البيئية ، من خلال التعامل مع الغابات ، لتسمح بإنتاج 5 مليار برميل نفط في العام " وهو ما يزيد عن إنتاج العربية السعودية " .
ويوجد لدى الشركات متعددة الجنسيات أهداف أخرى ، نراها من خلال استثمارهم ، و " نقلهم للتكنولوجيا " ، مسألة الإخلال بالتوازن البيئي في إحدى أهم " رئات " العالم : فتحت زعم " المشاريع المشتركة " ، أي إشراك الاستثمارات الوطنية ، تفرض هذه الشركات تقنيتها . فقد أقامت ، مثلا ، سدا عملاقا في مدينة توكوري ، بعد أن محت مئات آلاف الهكتارات من الغابات ، كي تزود بالطاقة الضرورية ، مصانع معالجة البوكسيت ، وهي عملية ملوثة للبيئة إلى حد لا يشجع على إنشاء مثل هذه الصناعة في الولايات المتحدة ، وخاصة أن الحصول على الطاقة من البرازيل ، بسعر 161 دولار للطن الواحد من البترول ، في الوقت الذي يباع فيه في أسواق أمريكياالشمالية بـ 281 دولار .
هذا هو منطق النهابين في كل الاصقاع ، ففي البرازيل تسيطر الشركات متعددة الجنسيات على 85 % من إنتاج الكاكاو و 90 % من إنتاج القهوة و 60 % من إنتاج السكر و 90 % من إنتاج القطن والاخشاب .
وتسيطر الشركات الاجنبية على 80 % من انتاج البوكسيت و 80 % من الاحجار الكريمة و 100 % من انتاج الكوارتز الممتاز ، الضروري لصناعة الالكترونيات .
لقد تم خلق نموذج للتنمية في كل ميادين الاقتصاد : السيارات ، الالكتروينات ، البتروكيماويات .. إلخ ، بالتعاون مع قباطنة الصناعة المحلية ، تكون فيه مراكز القيادة خارج البلاد ، مشكلة بذلك تبعية اقتصادية شاملة .
هذه التبعية الاقتصادية ، وهذه الصيغة المنحرفة للنمو المفروضة على شعب بأكمله ، تستدعي بالضرورة تبعية سياسية مباشرة أو غير مباشرة لضمان تسديد القروض .
" تكرس البرازيل 40 % من عائدات التصدير لتسديد فوائد القروض . أما الارجنتين فتدفع 50 % من هذه العائدات " .
ولكن الخطوة الاكثر ضمانة ، هي إقامة دكتاتورية عسكرية . فأمريكا تمارس سلطتها الاستعمارية أولا عبر الشركات متعددة الجنسيات . فعندما تأكد خطر ظهور سلطة اشتراكية في التشيلي ، اقترحت مذكرة لـ لمنظمة التجارة العالمية استخدام الضغوط الاقتصادية لإسقاط النظام فيها .
ولا يستبعد هذا الاسلوب التدخل العسكري المباشر للجيش الأمريكي ، كما حدث في غواتيمالا عام 1954 من أجل إنقاذ مصالح شركة الفواكه المتحدة ، وفي كوبا عندما نظم كينيدي عام 1961 إنزال خليج الخنازير مع أنصار الديكتاتور السابق باتيستا ، وفي غويانا البريطانية عام 1964 ، وفي الدومينكان عام 1965 ، ثم ما حدث منذ وقت قريب في جرانادا وباناما .
وما هو اكثر فاعلية ، تسهيل قيام ديكتاتورية عسكرية في كل بلد باسم العقيدة الأمريكية في " الامن القومي " ، ضد الشيوعية في زمن قوة الاتحاد السوفيتي . لقد استطاعوا أن يجعلوا الشعوب تؤمن ، أن ارتباطها بالولايات المتحدة سيحمي " الديمقراطية " و " الاستقلال الوطني " ، وهكذا استطاع الجنرالات أن يحكموا البرازيل منذ كاستلوبرانكو عام 1964 ، وحتى جيزيل .
وفي ظل هذه الانظمة ، ومن خلال لعبة تجمع بين التصنيع الذي تنفذه الشركات متعددة الجنسيات الأمريكية ، وبين التسليح الذي يسمح بممارسة الضغط والارهاب على الشعوب ، لم يتوقف الدين عن الازدياد . فقد ارتفعت الديون بين عامي 1972 ـ 1982 ، من 12 مليار دولار إلى 60 مليار دولار ، أي تضاعف خمس مرات في عشر سنين .
وحده الدكتاتور العسكري ، يستطيع أن يستترف دم الشعب حتى الانهاك .
بلغت قروض الارجنتين 54 مليار دولار ، منها 10 مليارات في ظل نظام الجنرالات .
وبلغ سداد الديون ، وشراء الأسلحة قبل رئاسة آلان جارسيا 50 % من ميزانية البلاد .
أما رقم الديون في التشيلي أثناء حكم بينوشيه فكان 1500 دولار لكل مواطن . ولكن بينوشيه يحتفظ بسجل آخر أيضاً ، فقد حقق اوسع وأشمل حرية لاقتصاد السوق بما فيها سوق العملات ، من خلال نظام خصخصة مهيأ بذلك شروطا مثالية شاملة للشركات متعددة الجنسيات لتتسلط على اقتصاد البلاد . واستطاع أن يحقق ذلك بضمانة " الديمقراطية الأمريكية " العظيمة .
بفضل هؤلاء الطغاة العسكريين ، أصبح اقتصاد امريكا اللاتينية ذا اتجاه واحد ، تحيط به تبعية سياسية بسبب قوة الضغط السياسي على السلطات ، الذي يتمثل أحيانا كثيرة برفض الاقراض ، أو العزوف عن الاستثمار .
وتابعت الولايات المتحدة ، بعد ذلك هدفها في تحقيق حرية السوق ، بوسائل أخرى ، غير استخدام الطغاة العسكريين .
لقد أصبح مقبولا ، وصول حكام منتخبين إلى السلطة ، مع استبدال الارهاب الحكومي بالفساد . وهكذا شهدنا ارتقاء قادة منتخبين كراسي الحكم مثل كولور في البرازيل ، ومنعم في الارجنتين . وبعد استبدال الجنرالات الخونة ، طلب إلى الحكام الجدد مهمة واحدة هي أن يقوموا بتسديد القروض وفوائدها التي عقدها الطغاة العسكريون ونسيان جرائمهم .
واستطاعت سيطرة صندوق النقد الدولي أن تتجذر بدون مخاطر في هذه البلاد التي قيدتها الديون ، وأصبح اقتصادها في أيدي مؤسسات أجنبية .
ويستطيع صندوق النقد الدولي أن يفرض دون عواقب نظام " تنمية أكثر ملائمة للمتروبول العالمي " ، ليس على العالم الثالث فقط ، بل على العالم كله : ويتمثل هذا التوجه بتنمية زراعات احادية ، ومنتجات أحادية ، والتراجع عن الزراعات الحيوية والحرف الوطنية التي تؤمن للمواطنين قوت يومهم، وتتحقق بذاك التبعية ، والاستغلال المتزايد لليد العاملة ، وتفاقم الديون ، بسبب تضخم الاستيراد .
والنتيجة الاجمالية ، نتيجة قاطعة : فمنذ بداية الثمانينات ، انخفض دخل الفرد في أمريكا اللاتينية 15 % وفي أفريقيا 20 % .
ويحمل نظام الهيمنة هذا اسما شائعا هو " خطة التصحيح البنيوي " وبموجبها لا تمنح القروض والمساعدات إلا في ظل شروط سياسية قاسية . وعندما تطبق برامج صندوق النقد الدولي بحرفيتها في بلد ما ، تتمتع حكومته حينئذ بالمعاملة المتميزة من جانب الولايات المتحدة واتباعها الاوروبيين .
وتتألف برامج " التصحيح البنيوي " غالبا من العناصر التالية : تخفيض العملة " بغرض تشجيع التصدير ، وإعاقة الاستيراد " ، وتخفيض " تنيني " في الانفاق العام ، وبشكل خاص في الميدان الاجتماعي ، أي في اعتمادات التعليم والصحة والاسكان ، والغاء دعم المواد الاستهلاكية بما فيها المواد الغذائية ، وخصخصة مؤسسات القطاع العام ، أو زيادة رسومها " الكهرباء ، الماء ، النقل " ، وإلغاء السيطرة على الاسعار ، و" تنظيم الاحتياجات " ، وبالتالي خفض الاستهلاك ، يدعم ذلك تجميد سقوف الرواتب ، والحد من القروض للمواطنين ، وزيادة الودائع ومعدلات الفائدة ، وكل ذلك بهدف تخفيض آثار التضخم .
تسبب سياسة " التصحيح " هذه انتفاضات ضد تصاعد أسعار الرغيف : كما حدث في المغرب عامي 1981 و 1984 ، وفي كاراكاس عام 1985 ، وفي الجزائر في تشرين 1988 ، وفي الأردن عام 1996 .
وبسبب ازدراء اقتصاديات القوت ، وبشكل خاص الزراعات الحيوية للسكان ، وأفضلية الزراعات المهيأة للتصدير ، وهي المصدر الوحيد للقطع الاجنبي الموجه لتسديد القروض بالدولار ، تنتج الدول التي تتلقى المساعدات ، الكثير مما لا تستهلكه ، وتستهلك مما لا تنتجه .
وهكذا يقوم صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي بتدمير نصف الكرة الجنوبي من الارجنتين وحتى تنزانيا، ومن باكستان حتى الفليبين . وابتدأ الآن بتطبيق هذه السياسية على بلدان اوروبا الشرقية ، بغية تكوين هيمنة سوق عالمية متجانسة ، وحدانية حقيقة للسوق ، مؤسسة على وثنية المال . وقد وضع القادة الأمريكيون ، موضع التنفيذ، أساليب مختلفة حسب القارات والأنظمة السياسية المختلفة .
يستطيع المرء في إفريقيا مثلا ، ان يحصي ثلاثة بدائل رئيسية :
عندما زار الرئيس السنغالي عبدو ضيوف ، الولايات المتحدة في 10 أيلول 1996 ، أعلن هيرمان كوهن ، مساعد وزير الخارجية للشؤون الافريقية ، أن مدة الثلاثين عاما التي حددتها منظمة الوحدة الافريقية لتكامل الاقتصا الافريقي ، فترة طويلة جدا . وقال " نحن نفكر أن إزالة الحواجز التجارية الافريقية يجب ان يتحقق بسرعة . ولأن الرئيس عبدو ضيوف أبدى تفهما لوجهة نظرنا هذه ، فإن الرئيس الأمريكي قرر الغاء 42 مليون دولار من ديون السنغال ".
في الجزائر ، وضعت المسألة بشكل آخر : كان رد الفعل على سياسة صندوق النقد الدولي ، والذي ظهر لأول مرة في انتفاضة الجزائر في تشرين الأول 1988 ، قد وجد تعبيره في حركة الاغلبية الإسلامية التي تعارض بصراحة " وحدانية السوق " . وقد طرحت الجبهة الإسلامية للانقاذ مسألة طيبة ، هي المسألة الأولى في عصرنا : رفض وحدانية السوق ، رفض الليبرالية التي تختلق أسباب " العزل " وتطبق التبعية على أربعة أخماس العالم ، وضياع كل معاني الحياة . إنه سباق يجري لمصلحة قادة البؤس ، وضد العدد الوافر من البشر .
ولأن الحلول التي أعلنت عنها الجبهة الإسلامية للانقاذ لا تشكل مشروعا حقيقا ، أي بديلا صادقا لانحطاط الغرب وهو أن يرفض مبدأ النظام الذي يزعم لنفسه حق الهيمنة على العالم ، معتبرا إياه تجسيدا للشر . ويجب أن لا ينبع هذا الرفض من دواع اقتصادية فحسب " فالجزائر مدينة بـ 12 مليار دولار وتدفع 5 مليار سنويا فوائد هذه القروض " وإنما لسبب آخر كبير ، سياسي ، وحتى ديني ، بمعنى أن يضع موضع التساؤل غايات المجتمع المؤسس على اقتصاد السوق .
إن ممارسة حفاري قبور العالم للطقوس السرية لوحدانية السوق ، تستدعي حربا حقيقية ضد ديانة ، تتهم بخدمة الشيطان ، كل من يعارضها : وقد حولوا كل معارض لوثنيتهم وهيمنتهم ، مهما كانت مصالحه أو أخطاؤه أو جرائمه ، إلى هتلر جديد، سواء كان أصوليا ، عراقيا ، صربيا أو ساندينستيا ، أو معارضا من البيرو . لقد تقل الديمقراطيون الاصفياء في واشنطن أو باريس بارتياح طرفة برتولد برخت التي أصبحت شهيرة في الجزائر :
لقد صوت الشعب ضد الحكومة . والحل الاكثر بساطة هو " حل " الشعب . ونستطيع استخلاص البديل الثالث من أحداث الصومال ، وقد أخذ هذا البديل اسما يغمرنا بالاحلام : " حق التدخل الانساني " . لنتصور شعبا افريقيا يدعي لنفسه حق التدخل الإنساني للتدخل ضد التمييز العرقي تجاه الزنوج والهنود في الولايات المتحدة بعد الانفجارات الشعبية في لوس أنجلوس " . وهذا الحق الحق قابل للتطبيق ، إذا اعتمدنا المعايير التي استخدمت في الصومال ، في نصف بلدان القارة الافريقية .
يتصف هذا التدخل بانه انتقائي . وقد أوضح الرئيس بوش هذه النقطة بجلاء في آخر خطاب له في الاكاديمية العسكرية في وست بونت قائلا : " ليس علينا أن نتحرك ، عبر كل حالة من العنف الاجرامي .. إذ لا يجب أن تتعارض مثاليات أمة ما مع مصالحها " .
يكشف هذا التمييز الرئيسي بين " المثال " و " المصلحة " ، لماذا اختلق هذا الحق بالنسبة للصومال . هناك على الأقل ثلاثة أسباب :
ـ أهمية القرن الافريقي في المراقبة القريبة للخليج .
ـ أعمال التنقيب عن البترول الذي تقوم به أربع شركات أمريكية ضخمة ، إذ يتطلب استمرار التنقيب ، وجود سلطة مستقرة وقوية .
ـ وأخيرا ، وعلى الاخص ، إقامة سلطة من الدمى ، تقبل جهارا املاءات أمريكا عبر صندوق النقد الدولي .
ومن الطريف أن المحاولة الخجولة لعدد من السياسيين الفرنسيين الذين يعتقدون أن أفريقيا ما زالت من ممتلكات فرنسا ، لادارة المفاوضات بين المرشحين المحتملين لرئاسة الصومال ، قد استبعدت بنقفة إصبع أمريكية .
هذا هو نموذج التدخل الإنساني ، ذو الدوافع الواضحة للمصالح الأمريكية . ويمكن شرح هذه الانتقائية بأمثلة عديدة : كان ضروريا ، نشر أسطول جوي لحماية الاكراد في العراق ، أما أكراد تركيا الذين يمثلون ثلاثة أرباع الاكراد ، فليس لهم أي حق بهذا التدخل الإنساني . وكذلك الفلسطينيون وشعب هاييتي الذي سقط تحت إرهاب عصابات تونتون ماكوتس ، أو شعب السلفادور الذي أسلم بوحشية إلى " كتائب الموت " .
وتختفي أشكال التدخل الاستعماري الجيد وراء أسماء مختلفة ، غير الدفاع عن الحق الدولي والديمقراطية . ومجزرة الخليج هي المثال الاكثر جلاء . فالدفاع عن الكويت كان دفاعا عن " الحق " و " الديمقراطية " . والحق هو الحق الاقوى .
والآن وقد أعيد بناء " الديمقراطية " في الكويت ، وهي ديمقراطية تشبه بقوة ديكتاتوريات أمريكا اللاتينية . فقد أعطت عودة الاسرة الحاكمة ، بعد الضغوط التي مورست على الفلسطينيين وطردهم ، الفرصة لولادة صورة كاريكاتورية للديمقراطية .
يملك حق التصويت في الكويت 11 % فقط من السكان ، وتنتمي الغالبية العظمى في هذا البرلمان ، إلى المعارضة ، أما الوزراء فينتمون إلى الاسرة الحاكمة . وتستوجب نتائج فساد النظام استخلاص العبر .
يقول رئيس البرلمان الكويتي أن مسؤولية الفضائح المجلجلة ، تقع على عاتق الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة المالية منذ عام 1986 .
لقد اختفت المليارات من الدولارات من خزائن الكويت خلال فترة حرب الخليج في فضيحة شركة نفط الكويت ، حيث اختلس ما بين 70 و 900 مليون دولار ، وفي فضيحة شركة نورأس الشركة الرئيسية التابعة لمكتب الاستثمار الكويتي وهو جزء من الجهاز الحكومي ، كشف عن ضياع 4 مليار دولار ، عقب سرقة كبرى للودائع في إسبانيا ، أما فرنسا فقد شهدت إفلاس البنك الكويتي ـ الفرنسي في باريس .
وكانت آخر هدية قدمت لبوش مكافأة على ما فعله في الكويت ، صفقة دبابات إبرامز MIA2 ، وبقيمة ملياري دولار ، في الوقت الذي كان يموت فيه طفل عراقي كل أربع ساعات بسبب الحظر.
أما ما ألقي على العراق خلال الحرب ، فكان أكبر من قنبلة هيروشيما بثماني مرات ، وقد أباد حسب أدنى الاحصائيات التي أعلنها الصليب الاحمر الدولي 210 آلاف ضحية .
هذا هو معيار الدفاع عن " الحق الدولي " ، الذي يحمل معنى وحيد الطرف ، إنه حق لم يعرف الرحمة عندما " ألحقت " الكويت ، ولكنه ينسى إلحاق القدس ، والقدس مدينة مقدسة ، ولكن مدينة الكويت مقدسة ألف مرة أكبر من القدس ، ما دامت تقع وسط حقول النفط .
كان التدمير الكثيف هو الاسلوب الذي استخدم ضد العراق ، أما الهدف فكان إعطاء " مثال " يقنع العالم الثالث لأكمله ، وخاصة إيران وليبيا ، الهدفين الاقربين باعتبارهما يملكان مصادر نفط ، وما زالا خارج السيطرة الأمريكية حتى الآن .
وطبقت الولايات المتحدة اسلوبا آخر ، اقل كلفة ، ولكنه كاف لاضرام نار الخلافات بين القوميات ، والمجابهات المزعومة بين الاثنيات والديانات .
و " القومية " اختراع أوروبي ، ولا حاجة بنا لا ستذكار تاريخ تشكلها في أوربا وخاصة منذ معاهدة وستفال عام 1647. لقد قرعت هذه المعاهدة أجراس موت المسيحية التي كانت توحد أوروبا ، فتأسست القوميات على أساس اقتصاد السوق ، وهو اقتصاد تحمية دولة وجيش .
كانت هذه نقطة الفراق ، التي استدعت قيام الوحدات القديمة ، مثل فرنسا ، فالملك تشاركز الخامس " نهاية القرن 14 " أصدر أمرا ملكيا ، قرر فيه أن كل الممتلكات في المملكة تعود للملك وحده ، وله وحده الحق أن ينظم كل الاسواق والمعارض ، ويضع تحت حمايته سلامة الذاهبين ، والمقيمين ، والعائدين .
هدف هذا القرار إلى التغلب على كل المصالح الاقليمية للاقطاع . وسيصبح إنجاز هذه " الوحدة القومية " مهمة الثورة الفرنسية ، وعبر عن هذه المهمة ، الخطاب التأسيسي للافاييت ، في عيد الاتحاد في 14 تموز 1790 ، إذ أقسم على الحفاظ على الدستور ، وضمانة الوحدة السياسية لفرنسا ، ولكنه أيضاً ضمن " سلامة الاشخاص والممتلكات ، والانتقال الحر للبضائع " .
ومن بين الوحدات القومية التي تشكلت في مرحلة متأخرة ، بدءا من القرن التاسع عشر ، الوحدة الألمانية التي بدأت عملية التوحيد فيها ، بإنشاء الوحدة الجمركية " زولفرين 1833 " ، كما فعلت إيطاليا في عهد كافور .
وتأكدت هذه الوحدة ، في القرن التاسع عشر ، العصر الذهبي للبورجوازية التجارية والصناعية التي أنهت صراعها مع آخر الامتيازات الإقطاعية ، والتي سيتركز صراعها الجديد ضد المنافسين الخارجيين . لذلك كان عليها أن تبحث عن تبرير أيديولوجي لهذا الصراع .
وادعت كل أمة ملكيتها للتراث الديني المسيحي :
ففي فرنسا ، انطلق شعار " أكمل الله عمله بالفرنسيين " . وفي ألمانيا كانت عبارة " الله معنا " نشيداً تغنى به القوميون الألمان .
ولكن تراجع النفوذ الديني ، دعا إلى ايجاد أسس أخرى للقومية ، فكانت الحدود الجغرافية الطبيعية بديلا عن " ارض الميعاد " ، أو " الجيل الموحي إليه " كما قال باريه ، وتبعتها البيولوجيا أي النظرية العرقية .
لقد استثمروا نظريات جوبينو وشامبرلين ، وبعد ذلك الأساطير التاريخية التي تميل لخلق اقتناع بأن " الأمة " قد وجدت قبل آلاف السنين . وقد وضعت " الارشيفات " الاسطورية للشعوب لخدمة هذه الفكرة : في ألمانيا جنبا إلى جنب مع " الاوابد الألمانية التاريخية " (يبرزت 1824) ، أما في فرنسا فكان كتاب جيزو " وثائق أصلية عن التاريخ الفرنسي " (1833) ، وفي بريطانيا ظهرت سلسلة " رولز " حول أصول إنكلترا (1838) .
وحدد كل مستعمر ، مع ابتداء الغزو الاستعماري في كل القارات ، " ارض صيد " خاصة به ، تحولت فيما بعد إلى " أمة " . ولنضرب مثلا على ذلك :
إن الحدود القائمة لبدان أمريكا اللاتينية تتصل إلى حد بعيد بالخطوط التي رسمها نواب الملك والحكام العاملون المنتدبون من إسبانيا والبرتغال . أما الحدود القائمة لبلدان إفريقيا فقد جرى تحديدها من قبل المستعمرين الاوروبيين الذين مزقوا أفريقيا بموجب معاهدة برلين 1885 .
وقد جرى تقطيع هذه القارة حسب علاقات القوة بين الاستعماريين ، انطلاقا من مبدأ يقول : إن من يمتلك الشاطئ يمتلك كل البلاد وراءه ، والواقعة ضمن خطوط عمودية مع الشاطئ .
وأدت تجزئة الامبراطورية العثمانية على أيدي غزاة الحرب العالمية الأولى ، إلى رسم حدود البلاد العربية في الشرقين الأدنى والأوسط ، حسب أطماع الدولتين المتنافستين ، فرنسا وإنكلترا ، اللتين توصلتا إلى تسوية بموجب اتفاقية سايكس ـ بيكو 1917 .
ويستطيع المرء أن يضاعف الامثلة لعملية تصدير القومية وأيديولوجيتها في العالم أجمع مع بدء الاستعمار الاوروبي . وبدأ الصدام بين الأمم المحررة مع انحسار الاستعمار . كان الانتصار الذي حققه الاستعمار بعد موته ، استخدام القوميات الواحدة ضد الاخرى . كانت جامعة الدول العربية حلما إنكليزيا قديما لفصل العرب ، أثناء تفكك الإمبراطورية العثمانية ، عن الامامة الإسلامية ، في الوقت الذي كانت فيه أيديولوجيا القومية التركية من صنع أوروبي هو فامبيري .
أما في المخطط السياسي فالتاريخ يعمر بألف مثال ، وسيسمح هذا المخطط لنا أن نشهد بعد فترة طويلة ، إثارة الصراع بين العرب والإيرانيين ، وتجهيز العراق عسكريا بغية إضعاف إيران ، بانتظار تدميره .
ومع انهيار الاتحاد السوفيتي تواصل البلدان تفككها بالأسلوب الذي يناسب الخصوم . ويكتمل المخطط بإثارة الحروب الداخلية في البلدان المحيطة : بين المسلمين والقوميين في طاجاكستان ، بين الارمن والاذربيجان ، وبالمجازر التي ارتكتب ضد الروس في أفخازيا والشيشان .
والمثال النموذجي ، هو مثال يوغوسلافيا القديمة . لم تعرف شعوب يوغوسلافيا المختلفة في لغاتها ودياناتها وتاريخها وبناها الاقتصادية ، وعلى مدى نصف قرن ، اضطهادا ولا مصادمات كبرى . لقد انفجرت القوميات مع عودة فوضى اقتصاد السوق التي أثارت في القسم الاغنى من البلاد ، هو سلوفينيا إرادة الانفصال عن الجمهوريات الاخرى الاكثر فقرا في الاتحاد اليوغوسلافي . وكانت الخطة إثارة القوى البعيدة عن المركز . وقد اعترفت ألمانيا بموجب سياستها التقليدية في الادرياتيك ، ومن جانب واحد باستقلال سلوفينيا ، والبوسنة ، وكرواتيا ، وهي الممر المؤدي إلى البحر الأبيض المتوسط . وقبلت الولايات المتحدة فورا الموقف الألماني ، وباعتبار أن ألمانيا هي الشريك الأكبر للولايات المتحدة في أوروبا ، وكذلك تركيا التي وجدت أنها فرصة لتضع قدمها مجددا في البلقان ، التي خضعت سابقا للامبراطورية العثمانية .
وسمح خضوع تركيا لحلف شمال الأطلسي ، سمح لها أن تضع نفسها في موقف المدافع عن المسلمين في البوسنة وكوسوفو ، دون أن تضطر لمجابهة سادة الأطلسي ، وكذلك أضاف الفاتيكان دعمه لكاثوليك كرواتيا .
مال الأوروبيون ـ وفرنسا خاصة ـ الذين استشعروا منذ البداية خطر انفجار يوغوسلافيا ، لحماية الوحدة اليوغوسلافية ، والتراص قبالة الموقفين الأمريكي والألماني ، واتهموا الصرب الذين جهدوا لحماية الوحدة ، بالعدوان والانفصالية . وأخذت وسائل الاعلام على عاتقها مهمة تصويرهم وحدهم بالشياطيين في هذه الصراعات التي لم تقتصر الوحشية فيها على طرف واحد.
وهكذا ابتدأت المجازر ، لأن الامريكيين والأوروبيين ، لم يأخذوا بالحسبان التعقيد في العلاقات بين الشعوب . فباسم حق تقرير المصير " وهو حق لم يول أي اهتمام للأقليات الموجودة في الدول المستحدثة التي اعترفوا باستقلالها " ، لم يعد لأي من هذه الشعوب هم إلاّ الدفاع عن نفسها . أما مسؤولية دول الغرب في هذه الفوضى الدامية فهي مسؤولية مطلقة، فقد جعلوا المشكلة عصية على الحل بمصطلح الحق ، ومميتة بمصطلح القوة .
ولن نورد إلا مثالا واحدا : يضم البوسنيون 44 % من المسلمين و 30 % من الصرب و 18 % من الكروات . الصرب يخشون عودة " جمهورية إسلامية " أعلن عنها القائد البوسني عزت بيجوفتش ، والآخرون يخشون هيمنة صربية تدعمها بلغراد ، ويثيرون مواجهات صعبة ودامية بين الكروات والمسلمين ، وبين الصرب والكروات ، وبين المسلمين والصرب ، مع ما تحمله هذه الصراعات من وحشية تصفية الحسابات بين شعوب امتزجت ببعضها ، وتشابكت فيما بينها .
أصبح أي تدخل عسكري ضمن هذه الظروف ، صعبا جدا بل مشكوكا في جدواه ، شأنه في ذلك شأن مباحثات السلام ، فلكي يصبح ممكنا ـ مثلا ـ أن تقوم " القبعات الزرق " " جنود الأمم المتحدة " بحماية ضحايا هذا الوضع الفوضوي توجب عليهم أن يقصفوا (انطلاقا من حاملات الطائرات المرابطة في الآدرياتيك ) ، البوسنة بالصواريخ ، لتقتل الصرب والمسلمين والكروات على حد سواء .
أما ما يتعلق بمباحثات جنيف ، فقد تعطلت منذ بدايتها ، بسبب الخطأ الأساسي للغرب ، وهو اعترافه بالدول الجديدة دون أن يطلب منها ضمانات لحماية الاقليات فيها . ولهذا بات ، كل طرف من الأطراف يبحث عنها اليوم لحسابه الخاص : فقد أراد عزت بيجوفيتش دولة بوسنية موحدة ، لأن شعبه سيتحول في ظل إطال فيدرالي إلى أقلية ، في حالة تحالف الصرب والكروات . وبالعكس ، فقد تمسك الصربيون والكروات بالحل الفيدرالي الذي سيعطي الأولين ضمانات ضد زغرب ، يضاف إلى ذلك الخلافات حول رسم الحدود ، لأن التشابك بين الشعوب يستبعد التقسيم العرقي . وهكذا تراجعت المشكلة لتصبح تقسيما كميا ، أي استنادا إلى مرحلة علاقات القوى ، كما كانت دائما مشكلة ترسيم الحدود عبر التاريخ .
وهكذا ، تقودنا المصالح العمياء للقوى الغربية الكبرى ، إلى مشاكل القرن الماضي ، المسماة بالمسألة الشرقية ، فقد ازدادت هذه المشكلة عمقا بسبب مخاطر عدم الاستقرار في أوروبا والشرق الأدنى في وقت واحد .
لقد حاولنا الوصول إلى الخيط الاساسي الذي يسمح لنا الربط بين المشاكل الدولية الاساسية في نهاية هذا القرن ، على الرغم من تنوع مظاهرها : إنه الهيمنة العالمية للولايات المتحدة ، ووحدانية السوق التي تريد أن تفرضها على العالم كله .
ولتحقيق ذلك سوف تتابع الولايات المتحدة :
ـ الدعوة لحرية اقتصاد السوق ، حرية بلا حدود ، بأعتبارها المنظم الوحيد للعلاقات الاجتماعية.
ـ الدعوة للتقدم المتواصل في مجال تنمية القدرة العمياء ، للسيطرة التقنية والعلمية على الطبيعة والانسان .
ـ الدعوة لمتابعة تطوير الازدياد الاعمى للانتاج والاستهلاك .
لن تكون هناك حرية وديمقراطية إلا إذا شاركت كل لاطراف باتخاذ القرارات التي تحدد مصائرها .
لن يكون هناك تقدم إلا إذ حل محل هذا الغاب من التزاحم وإرادات القوة ، والنمو الكمي والتنافس على الأرباح بين الافراد والجماعات والأمم ، مجتمع حقيقي ، نعني به ، مجتمعاً ، يمتلك كل فرد فيه ضميراً يشعره أنه مسؤول عن مصير جميع الآخرين . وهذا ما لا توفره الفردية .
ليس هناك من تطور إلاّ للإنسان . وبعكس نظام يولد تراكم الثروة لدى قطب واحد في المجتمع ، وتراكم الفقر المادي والثقافي لدى الغالبية ، فإن مجتمعا متطورا فعلا ، هو المجتمع الذي يخلق شروطا اقتصادية ، وسياسية ، ثقافية ، وروحية ، تمكن كل فرد من أفراده ، من التهيؤ للإنطلاق ، وفق فرص متساوية ، بغرض تنمية كل الإمكانيات الخلاقة التي يحملها بين جنبيه .
الهوامش
ـ ادلف تيير (1797 ـ 1877) مؤرخ ورجل دولة فرنسي ، له كتاب " تاريخ الثورة " ، وساهم في تأسيس ملكية تموز . كان محرضا على ردود الفعل المحافظة ف ظل الجمهورية الثانية ومعارضا لسياسة القوميين . عقد معاهدة فرانكفورت مع البروسيين وسحق الكومونة .
ـ أرض النار: مجموعة من الجزر في أمريكا الجنوبية (قبالة الأرجنين وتشيلي) يفصلها عن القارة مضيق ماجلان .
ـ شارل الخامس (1338 ـ 1380) ، توج ملكا على فرنسا عام 1364 .
ـ لافاييت (1757 ـ 1834) ، سياسي فرنسي ، كان رئيسا للحرس الوطني مرتين ، وأحد مؤسسي ملكية تموز . حاول التوفيق بين الملكية والثورة .
ـ كافور (1810 ـ 1641) ، رئيس الحكومة الإيطالية عام 1852. وضع برنامجا لإصلاح الدولة ، ونشر الفكر الوحدوي في إيطاليا .
ـ بارره (1755ـ 1879) ، روائي فرنسي ، ساهم في إسقاط روبسبيير ، وأصبح عضوا في مجلس المديرين .
ـ جوبينو (1816ـ 1882) ، صاحب كتاب مقالة " حول عدم تساوي الأعراق " ، الذي ترك أثرا كبيرا على المنظرين العنصريين الألمان .
ـ جوزيف شامبرلين (1836ـ 1914) ، سياسي انكليزي من مشجعي الحركة الاستعمارية .
ـ فرانسوا جيزو (1787ـ 1874) ، مؤرخ فرنسي ، أصبح رئيسا للوزراء (1847ـ 1848).
ـ آرثر شامبرلين (1869ـ 1940) ، سياسي بريطاني عين رئيسا للوزراء (1937ـ 1940) اتبع سياسة تهدئة إزاء هتلر وموسوليني .

الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
الفصل الخامس

الفصل الخامس
التجارب الخائبة الاشتراكية
توجب مرور قرنين كاملين ، على الثورة الفرنسية ، ليصبح شائعا ما دعاه ماركس في منتصف القرن الماضي : تهتك الرأسمالية ولتحقق الوعي في مسألة العودة إلى شريعة الغاب ، لمؤسسة غبر الأيديولوجيا والممارسة العملية لحرية السوق ، وهما العاملان اللذان قادا العالم اليوم للإنقسام إلى قسمين : الشمال والجنوب ، مع كل نتائج النمط الغربي للتنمية الذي كلف العالم الثالث من الموتى كل يومين ، ما يعادل ضحايا هيروشيما. أما التباعد بين الشمال والجنوب فما زال يتعاظم يوما بعد يوم .
ولم يتوقف تنامي انقسام مشابه ، حتى داخل البلدان الغنية ، بين الذين يملكون ، والذين لا يملكون ، مع تصاعد لا يرحم لمعدلات البطالة ، والتسريح ، وعدم المساواة .. وما زال التفاوت بين هذين الطرفين يتعاظم يوما بعد يوم .
والواقع أن ثلث العاملين في العالم البالغ عددهم 2800 مليون ، عاطلون ، عن العمل ، وقد انخفض الانتاج في بلدان العالم الثالث بين عامي 1990 و 1993 ، بنسبة 10 % .
وحدث الامر نفسه في مجموعة دول أوروبا الشرقية ، بعد عودة الرأسمالية اليها : فقد انخفضت دخول 73 % من الاسر البلغارية إلى أقل من الحد الادنى للاجور ، بينما كان عام 1990 ، 42 % فقط ، ووصل 50 % من الاسر البولونية إلى مستوى الفقر عام 1992 ، مقابل 40 % عام 1991 . وحدث الامر نفسه في الاتحاد السوفيتي السابق ، حيث يعيش 10 مليون إنسان عند عتبة الفقر " عام 1991 " .
وفي البلدان شبه الصحراوية بلغ معدل البطالة 51 % ، وهو ضعف ما كان عليه في أعوام الخمسينات .
وفي أمريكا اللاتينية ، ارتفعت البطالة في القطاعات المدنية من 4, 13 % إلى 6 , 18 % .
وهكذا نجد أن 350 شخصا فقط يتمتعون بدخل يعادل دخول 5 , 2 مليار إنسان في العالم .
كانت الثورة الفرنسية قد أحلت محل تراتبية الدم ، تراتبية المال ، إذ اهتمت بموجب قانون شابلير 17 حزيران 1791 بحل المنظمة العمالية ، وكانت قبل ذلك قد جردت الطبقات الاجتماعية المحرومة أن تعارض التراتبية الجديدة ، من أسلحتها .
ودام منع التنظيم العمالي قرنا كاملا ، إلى أن سمح بتأسيس النقابات عام 1887 . وقد أشار بابوف (1760 ـ 1797) إلى تخوم هذه الثورة التي أسست علاقات جديدة قائمة على مبدأ الدفاع عن الملكية الفردية ، وحرية هذه الملكية في النمو على حساب غير المالكين . وكتب بابوف في العدد 34 من " منبر الشعب " يقول : أي شيء هي الثورة الفرنسية ؟ إنها حرب ناشبة بين النبلاء والعامة ، بين الاغنياء والفقراء .
أمام هذه التراتبية الاقتصادية للنظام الترميدوري ، تحدث العدد 35 من " منبر الشعب " ، وفي باب " بيانات الفقراء " ، عن القانون البربري الذي يفرضه رأس المال .
وقد انتحر بابوف ، قبل أن ينفذ فيه حكم الاعدام في فاندوم في 28 أيار 1798 .
ودعم نابليون من خلال الدكتاتورية ، النظام الذي تأسس باسم الحرية . وقد كتب أحد وزراءه ، ويدعى شامبيني والذي يعتبر نموذجا لارستقراطية المال الجديدة كتب رسالة إلى الكونت ونتراج ، وهو قانوني بقي مخلصا للنظام القديم : " يلزمنا ملك يكون ملكا حقا ، لأنني مالك " 21 آب 1801 .
وفي الحقيقة ، فقد وضع نابليون بأسلوب أكثر ما يكون وضوحا ونمطية ، القانون الذي عرف باسمه عام 1804 ، والذي كرس مبادئ الملكية ، وحرية العمل اللتين سادتا منذ عام 1789 . وأدرك لوي بلان 1812 ـ 1882 هذه الفكرة ، فأشار إليها في كتابه " تاريخ السنوات العشر " بقوله : أطل نابليون على الجمعية التأسيسية ، فانحاز إلى الطغيان المختبئ في ثنايا مبدأ " دعه يعمل " ، وفي كلمة واحدة لقد حصن كل ما يخدم اليوم ، هيمنة " البرجوازية " .
وفي الواقع أعطى نابليون أول مثال لهذه الحقيقة ، التي طبقت بعد ذلك ابتداء من لويس فيليب ، إلى عهد نابليون الثالث ، بل وحتى حكم بينوشيه ، تشير إلى أن الحرية الاقتصادية أبعد ما تكون عن الامتزاج بحرية الإنسان ، وهي تتفق بشكل جيد مع نظام سياسي ديكتاتوري ، مثلما تنسجم مع " ديمقراطية " ، تموه ديكتاتورية المال .
ويمكن لهذا النظام أن يجد مبرراته في الدين والالحاد على حد سواء . وكان نابليون ، في هذه الحالة مبشرا أيضاً . ودلل روديرو في " يومياته " عن هذه الثقة لدى نابليون :
" لا يمكن للمجتمع أن يوجد دون التفاوت في الثروة ، ولا يمكن لهذا التفاوت أن يوجد بدون الدين . فعندما يموت انسان جوعا إلى جانب انسان آخر يتقيا من التخمة ، لا يمكن قبول هذا الامر إلا بوجود سلطة تقول له : يريد الله الامر على هذه الشاكلة . ولا بد في هذا العالم من وجود فقراء وعبيد . أما في الاخرة فستكون القسمة على شكل آخر " وهذا ما جعل هذا الكافر يحرم من تتويج البابا له .
إنها نفس اللغة التي استعملها شاتوبويان حين عودة الملكية : " إنها دولة سياسية ، يملك أفراد فيها الألوف ، بينما يموت آخرون جوعاً ، أيمكن لهذه الدولة أن تستمر عندما لا يكون هناك دين يولد الآمال خارج هذا العالم ، كي يفسر معنى التضحية ؟ " مذكرات بعد الموت " .
وقال لويس فييو في وسط القرن التاسع عشر :
عندما لا يؤمن بالله ، فلن يؤمن بالملكية حتى يكون مالكا ، " وبهذا المعنى يجب فهم مقولة ماركس : الدين أفيون الشعوب " .
ولدت الاشتراكية أولا من الثورة على الإنسانية نظام الحرية الاقتصادية . وقد وعى مسيحيون ، رفضوا الاستسلام للتواطؤ ، هذه اللاإنسانية في النظام ، وصاغ الاب لا كوردير ، مثلا ، المبدأ ذاته المتعلق بلا إنسانية الإنسان بقوله : " بين القوي والضعيف ، الحرية هي التي تقوم بالاضطهاد والقانون هو الذي يحرر ".
وقد ولدت الاشتراكية من خلال البحث عن هذا القانون الذي يسمح للانسان أن يصبح إنسانا .
فشلت محاولات بناء الاشتراكية ، حتى الآن ثلاث مرات . إذ لم تكن عام 1848 إلا انتفاضة ، فكان بالامكان اخمادها في ثلاثة أيام . ولم تعش كومونة باريس عام 1871 أكثر من ثلاثة شهور أيضاً ، فتم سحقها بقوات مشتركة لبسمارك وتيير . فقد طوق جيش بسمارك باريز ، وأعاد تيير أسراه في سيدان بعد خيانة بازين ، وطلب من قائد الجيوش البروسية أن يسمح للجيش المحاصر في سيدا بالخروج استعداداً لصد عصيان محتمل في باريس .
وولد الامل من جديد في الاتحاد السوفيتي بعد ثورة أكتوبر 1971 ليتداعى بعد سبعين عاما . وقد عاشت الثورة حالة من الحصار منذ ولادتها ، بإرادة كليمانصو وتشرشل اللذين كانا البادئين باختراع فكرة " الاسلاك الشائكة " والتي تولد عنها فيما بعد " سور برلين " كجواب عليها .
لم يتوقف الحصار الاقتصادي ، منذ أن بذلت الحكومات الأوروبية الرأسمالية الدعم لقادة الثورة المضادة عام 1918 مثل دنيكين ورانجل ، إلى قيام الحرب الباردة ضد امبراطورية الشر ، إلى حرب النجوم التي أطلقها ريغان ، إلا لمدة أربع سنوات فقط .
فقد رأت هذه الحكومات أن هتلر يشكل أفضل " سد " ضد البلشفية ، فرحبت بصعوده إلى السلطة وزودته بالفولاذ والمال ، والتنازلات اللازمة " معاهدة ميونيخ 1938 " للسماح له القيام بهذه المهمة .
ولكن هتلر ، وبعد أن أصبح جاهزا لتنفيذ هذه المهمة ، تنبه لخطر أن يصبح أسيرا بين فكي كماشة ، الغرب من جانب ، والشرق من جانب آخر ، فقام باحتلال فرنسا ، وقصف بريطانيا . عندها أدرك الأوروبيون أن الاتحاد السوفييتي هو منجاتهم الوحيدة فتحالفوا معه .
عانى الاتحاد السوفييتي كثيرا من الغزو والاحتلال الكثيف من قبل ثلثي الجيش الألماني . ثم قام بتحرير أوروبا بدءا من ستالينغراد وحتى برلين ، محطما الجيش الألماني ، بعد أن دفع في هذه الحرب الضريبة الأثقل : بطولات وتضحيات (17 مليون قتيل ) . بعد ذلك ضاقت الحلقة حوله ، بدءا من الخطاب الذي ألقاه تشرشل في فولتون عام 1946 مدشنا الحملة الجديدة .
لم يكن انهيار الاتحاد السوفييتي بسبب هزيمة عسكرية ، إنما انفجار سياسي واقتصادي ، وليس بسبب أنه اتبع عقيدة ماركس ، بل لأنه خانها .
كان ماركس قد عثر من خلال كومونة باريس على صيغة للنظام الاشتراكي . وكانت كومونة باريس قد تميزت على المستوى الاقتصادي ، بإدارة العمال أنفسهم للمشاريع التي هجرها مالكوها الرأسماليون الذين انضموا لثورة فرساي المضادة بقيادة تيير . وقد دعى لينين في مقالة له في البرافدا ، هذا الاسلوب من الادارة بالنظام التعاوني ، وسيدعى فيما بعد ، أي في عام 1968 " بالتسيير الذاتي " .
أما على الصعيد السياسي فلم يتوقف ماركس ، منذ تأسيسه الاممية الأولى 1864 عن رفض كامل لمبدأ الحزب الواحد . لقد أدرك أهمية أن يتوحد كل أولئك الذين وافقوا على تحطيم النظام الرأسمالي مهما كانت أيديولوجياتهم . وعندما أشاد بكومونة باريس ـ كصيغة للنظام الاشتراكي ـ كانت اللجنة المركزية للكومونة تضم 60 عضوا برودونيا ، وأقلية من البلانكيين ، وماركسي واحد .
على الصعيد القومي ، تأسست الكومونة على أساس فدرالي ، وفق لامركزية عريضة جدا رغم أن هذه اللامركزية لم تستطع أن تتحقق على أرض الواقع لأن باريس كانت معزولة عن بقية فرنسا " من قبل جيوش بروسيا وفرساي " أما كومونة مرسيليا التي زالت سريعا مع كريميو ، فقد تأسست دون أدنى تدخل من كومونة باريس .
وتكون النظام السوفييتي مخالفا لهذا المبدأ : مركزية بموجب تخطيط يستبعد كل إدارة ذاتية ، أو نظام تعاوني حقيقي ، واستعاض عنهما بالقهر الذي غالبا ما كان داميا ، ابتداء من إدارة مركزية ، وحزب واحد أقصى كل مبادرة من القواعد ، وفرض في كل الميادين ، من الاقتصاد حتى الدين والفن ، عقائدية خانقة وقاتلة .
وهكذا تحول " الاتحاد " وبشكل مطلق إلى اتحاد شكلي بسبب المؤسستين السابقتي الذكر : المركزية والحزب الواحد .
ما هي جذور هذا الانحراف ؟
لنتذكر أولا الاسباب الخارجية :
التدخل الخارجي منذ البدء ، ومشاكل بناء الاشتراكية ، ومشاكل التخلف في بلد تسوده رأسمالية متخلفة عن مثيلتها في أوروبا الغربية ، وحصار البلدان الرأسمالية ، ومقاطعتهم ، وتدخلهم الذي أعاق الاتحاد السوفيتي في محاولته أن يجتاز بخطوات حثيثة مراحل التطور الصناعي والتي اجتازتها بلدان الغرب الاوروبي منذ فترة طويلة ، والخسارة الإنسانية والمادية في الحرب ضد هتلر ، حيث تحمل الاتحاد السوفيتي النصيب الاكبر من أثقال الحرب ، والتنافس الملزم في سباق التسلح المنهك المفروض من الولايات المتحدة وأتباعها خلال الحرب الباردة . ولكننا لا نستطيع أن نحفف من أهمية العوامل الداخلية .
في البداية : لا بد من دراسة حرفية وشاملة لماركس الذي قيل أنه فرض على بلد متخلف نمطا من التنمية ، بموجب قوانين استنبطها ماركس من وضع تاريخي مختلف تماما .
1ـ وضع ماركس قوانين التنمية المثلي ، للرأسمالية الأكثر تقدما في زمانه ، وهي الرأسمالية الإنكليزية ، مؤسسا علاقة جبرية بين الاستثمارات الموجهة لانتاج أدوات الانتاج ، وبين الاستثمارات المكرسة لانتاج المواد الاستهلاكية . نظرية وحيدة للنمو، عاشت على مدى قرن كامل .
لقد حولت المبادئ الدوغماتية القاطعة، القانون الوصفي لتطور الرأسمالية الإنكليزية في القرن 19 إلى قانون معياري لتطور الرأسمالية الروسية في القرن العشرين . وكان ذلك خطأ قاتلا منع بدءا من ذلك الحين ، من التفكير بالاشتراكية انطلاقا من غاباتها ، وجعل من التفضيل المطلق للصناعة الثقيلة عقيدة قاطعة ، معيدا بذلك انتاج لاإنسان التصنيع الوحشي التي بدأت في القرن التاسع عشر في إنكلترا وفرنسا .
بدت الاسبقية المطلقة للتنمية الصناعية في ظروف التخلف الاقتصادي عام 1917 ، ومن ثم إعادة بناء ما خريته الحرب الثانية ، وكأنها ضرورة تاريخية لمواجهة حصار القوى الرأسمالية .
لم يتضح هذا الدمار الانساني إلا بعد الاقلاع الصناعي (1937 والعمليات الكبرى ) ، ولكنها حجبت بالضرورة خلال الحرب ، بسبب المواجهة ، ولم تقع الانتفاضات الاولى في ألمانيا وهنغاريا ومن ثم تشيكوسلوفاكيا ، إلا بعد إعادة البناء .
2ـ تضمن التحريف الثاني الخلط بين بناء الاشتراكية وبناء الدولة . لقد سخر ماركس من أولئك الذي عرفوا الاشتراكية بأنها التأميم وقال : بهذا المعنى يصبح بسمارك أعظم اشتراكي في أوروبا لأنه أمم البريد .
وعرف لينين في مقالته الاخيرة في " البرافدا " عن الحركة التعاونية ، البناء الاشتراكي وكأنه إيجاد شبكة من التسيير الذاتي التعاوني . وقال : في الريف ، يمكن للفلاحين أن يستخدموا ممرا لعشر أو عشرين سنة ، ويصبح واقعا على أساس الخبرات الناجحة دون أن يدخل في وعي الفلاحين قيمة النظام . وعندما ادعى ستالين أنه حول الزراعة إلى النظام التعاوني في بضعة شهور ، ويطريق سلطوي ، فقد وجه إلى الزراعة ضربة لم تشف منها حتى اليوم .
وقد قاد تحويل وسائل الانتاج في بلد رأسمالي متخلف إلى الوضعية الاشتراكية ، إلى تحقيق التصنيع ، ليس بدءا من التسيير الذاتي التعاوني ، ولكن من " لأعلى "، ونقصد بذلك ، عن طريق الدولة والمركزية . وبدلا من أن تكون .
وأما " الخطة " فبدلا من أن تكون وسيلة لأنسنة الاقتصاد ، وتوجيه الانتاج لتلبية الحاجات الإنسانية ، وليس للريح فقط ، فقد تحولت لتصبح مؤسسة تراتبية ، ذات أسلوب شبه عسكري ، دون أشراك القواعد أو الفنيين . أما البيروقواطيون وأعضاء الجهاز الحزبي ، فقد احتفظوا لانفسهم بكل السلطات واتخذوا قرارات باسم العمال الذين لم تجر استشارتهم ، أو استشيروا شكليا فقط ، دون أن يؤثر ذلك على التوجيهات المركزية . هذا المفهوم عن دور الدولة ، يتناقض جذريا مع مفهوم ماركس .
3 ـ يتضمن التحريف الرئيسي الثالث ، خلط التخطيط ، الذي لم يكن له دور أكثر من التوجيه ، مع أسلوب الادارة من " أعلى " والذي يقرر الاستثمارات ، الاسعار ، أنماط الانتاج ، والتوزيع التجاري ، وحصر السلطات بأيدي بيروقراطية مركزية ، وأجهزة محلية معينة من قبلها .
قادت هذه لانحرافات الثلاثة الاقتصاد إلى الفوضى ، والحرية إلى الزنزانة . ولكن ما هو أسوأ في تطور هذه الاشتراكية هو استعارتها للمسلمات الاساسية للراسمالية ، أي اعتقاد الغرب بوجود نموذج واحد وحيد للتطور ، يمتزج مع النمو الكمي تسانده تقنية الغرب وعلومه .
ليست الماركسية ، هي التي ماتت مع الاتحاد السوفييتي بل صورتها الكاريكاتورية المأساوية .
ولم يكن استشراف ماركس للمستقبل ، في يوم من الايام أوضح منه الآن .
وبالمقابل ، لم يتأكد بطلان استثراف آدم سميث لهذا المستقبل و " الحريته الاقتصادية " في يوم أكثر منه الآن .
كانت " المقدمة الكبرى " لآدم سميث : " لو أن كل فرد تبع مصلحته الفردية ، لكان الرفاه العام مؤكدا " .
لقد تم دحض النظرية عبر قرنين من استقطاب أيد قليلة للثروة ، بينما كان نصيب الاغلبية المتزايدة من البشر:
البؤس والبطالة والتسريح ، ليس فقط في بلدان الاستعمار القديم ،ولكن في بلدان المستعمرين القدامى والجدد .
أما " المقدمة الكبرى " لماركس فكانت أن الرأسمالية تخلق الثروة (ولا يقدم ماركس هنا الكثير من المديح لهذا الاتجاز ) ولكنها تخلق البؤس أيضاً ، بسبب التفاوت الذي تولده بالضرورة .
ويتصف الميزان المأساوي للنصر المؤقت الذي تحرزه الليبرالية بصفتين :
ـ هناك عام منقسم ، يكلف أربعة أخماس العالم ، كل يومين خسارة تعادل ضحايا هيروشيما .
ـ هناك عالم منقسم ، حيث لا يتوقف في البلدان الغربية ازدياد عدد العاطلين عن العمل والمطرودين واليائسين .
من معه الحق ؟ آدم سميث أم كارل ماركس ؟
لقد أصدر التاريخ حكمه في ذلك : إن ما يطبع القرن العشرين ، هو فشل الليبرالية الاقتصادية وليس الاشتراكية .
أما القرن الحادي والعشرين ، فلن يتواصل بخير إلا إذا هجر بشكل جذري مقولة آدم سميث ، وإلا إذا عرف أن يبدع صيغة جديدة للاشتراكية (مهما كان الاسم الذي يعطيه لها ) ، ليخرج من وحشية ما قبل التاريخ ، حيث كان الإنسان ذئبا للإنسان ، كي يدخل في تاريخ له وجه إنساني مقدس .
اشتراكية كهذه تدعو لخلق الوحدة " السيمفونية " للعالم انطلاقا من مبدأ التبادل الخلاق بين كل الثقافات ، لا يمكن أن تكون نتاج حضارة واحدة هي الحضارة الغربية .
يذكرنا لينين ـ وهو محق في ذلك ـ أن فكر ماركس قد تغذى من ثلاثة مصارد :
ـ الفلسفة الألمانية .
ـ الاقتصاد السياسي الانكليزي .
ـ الاشتراكية الفرنسية .
وكان ماركس نفسه يعي أن المسار التاريخي الذي رسمه (الشيوعية البدائية ـ العبودية ـ الاقطاع ـ الرأسمالية ومن ثم الاشتراكية والشيوعية ) لا يمكن تطبيقه عند الاقتضاء الا على حضارات البحر الابيض المتوسط . وتوجب لهذا أن تؤخذ بالحسبان الخصائص الجرمانية .
ولم يتوقف ماركس عن نقد القراءات الدوغماتية (ونسميها نحن الاصولية) لاعماله . فقد هب مثلا لينتقذ تفسيرا كهذا لكتاباته قدمه صحفي روسي يدعي ميخايلوفسكي ، فكتب إلى رئيس تحرير المجلة عام 1877 : " لقد أحس ناقدي أنه ملزم بتحويل النبذة التاريخية حول تشكل الرأسمالية في أوروبا الغربية إلى نظرية تاريخية فلسفية للمسيرة العامة يمكن فرضها على مصير كل شعب كائنة ما تكون ظروفه التاريخية ـ أو أينما وجد هذا الشعب ـ بحيث أنه يستطيع أن يصل فيما بعد إلى الشكل الاقتصادي الذي سيضمن لنا من خلال التوسع الكبير لقد رأت العمل الاجتماعي الانتاجية ، سيضمن تحقيق التطور الاكثر كمالا للإنسان . انني أطلب منه المعذرة ، إنه يمنحني شرفا كبيرا ، وكثيرا من الخجل " .
وقال في رسالة وجهها بتاريخ 8 آذار 1881 إلى فيرازاسوليتش ، أنه لا يعترف بأولئك الماركسيين الروس الذين لا يأخذون بالحسبان التطور التاريخي الخاص لبلادهم ، وخاصة وجود المجتمعات الريفية التي تستطيع أن تخلق لنفسها ـ ربما ـ اشتراكية لا تنبع من تناقضات رأسمالية متطورة جدا ، كرأسمالية انكلترا . وذكر بأن مشروعه إنما كان وبشكل صريح وواضح لبلاد أوروبا الغربية حصرا .
وتحدث مرارا ، وبشكل خاص في مقدمته لكتاب " مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي " ، عن خصوصية نمط الانتاج الاسيوي الذي ابتدأه بدرسة عن المجتمع الهندي . وقد نبذ المنظرون الروس هذا الاتجاه رسميا باعتباره توجها لاماركسيا ، من خلال المناقشات التي جرت في تفليس ولينغراد في عامي 1930 و 1931 .
في حين أن ماركس قد مهد لدراسة أنماط الانتاج ما قبل الرأسمالي ، وأنماط الملكية في كتابه " مبادئ نقد الاقتصاد السياسي " 1857 ـ 1858 ، منطلقا من المعلومات القليلة جدا أيام ماركس عن الحضارات غير الغربية .
مهما كان الرأي الذي نكونه عن استقراء ماوتسي تونغ لهذه الفرضيات مستبدلا بشكل ضمني أو صريح ، المصادر الغربية الثلاث التي استقى ماركس منها أفكاره . فقد استعاض بديالكتيك " ناو" ، عن الفلسفة الالمانية ، والاخلاقية الكونفوشية بدلا من " حرية التجارة " عند آدم سميث ، وبالثورات الفلاحية الصينية ، بدلا من الاشتراكية الفرنسية ، لا نستطيع أن نعتبر ذلك معاديا للماركسية بل كمحاولة لعدم اعتبار الماركسية كفلسفة للتاريخ شبيهة بتلك التي عند هيغل الذي لم يعالج في تاريخه عن الفلسفة أي جزء من الفكر غير الغربي ، بل بدأ مباشرة بدراسة الفكر الاغريقي .
من الضروري اليوم أن نجري من جديد نقاشا جوهريا للثقافة والحضارة الغربيتين ، ومسلماتهما ودورهما في تدمير الثقافات الاخرى ، انطلاقا من الفكرة الشريرة " للشعب المختار " (الذي يرفض الآخر ، بل وحتى يلغيه ) . لقد حاصر الغرب نفسه بإنكاره الآخر أو تدميره الاشكال الاخرى للانسانية . إن انحطاطه النهائي سيضع موضع الفناء حتى مستقبل الإنسان .
لقد اكتمل زمن الحوار الثقافي الذاتي عند الغرب ، وانتهى زمن انشقاقه عن الآخرين ، وسيطرته.
واليوم ، جاء زمن الحوار بين الحضارات ، إذا شاء الإنسان أن يتخطى دون أن يموت ، العتبة الثالثة من تاريخه .
كانت العتبة الاولى ولادة الإنسان مع الاداة ، وكانت العتبة الثانية ولادة الحضارة مع الزراعة ، وأما الثالثة ، فهي معالجة الذرة في قلب المادة ومعالجة الجينات في قلب الحياة .
يملك الإنسان الآن القدرة على إلغاء كل الانجازات السابقة ، ولديه القدرة التقنية لمعالجة الجينات ، وكذلك إعادة الإنسان إلى حياة الحيون التي كانها قبل اكتشاف الادوات . لديه القدرة التقنية في معالجة الذرة للقضاء على كل أثر للحياة على الأرض .
أما أحلام السيطرة التي راودت مخيلة ديكارت وفاوست فهي تقود إلى عالم مجلل بالعار ، واستنفاذ المصادر الطبيعية .
أما دوغماتية آدم سميث فقادت إلى تحويل الإنسان إلى انسان آلي " روبوت " فارغ ، والى خداع العقول والقلوب .
أما الحضارات الاخرى ، حضارات آسيا والهنود الأمريكيين ، وأفريقيا وحضارة الإسلام ، فقد عرفت وعاشت روابط اخرى مع الطبيعة والانسان والإله .
والمشاكل المطروحة على مستوى الأرض كلها ، تتطلب إجابات على مستوى الأرض أيضاً .
ولن نستطيع حل هذه المشاكل إلا إذا نجحنا باعادة الملامح الإنسانية التي مزقتها أربعة قرون من الاستعمار والهيمنة الغربية . لن نستطيع حلها الا إذا نجحنا في تطوير حوار حضارات حقيقي بين كل ثقافات العالم .
والهدف الرئيسي لحوار الحضارات هذا ، هو المساهمة في تحقيق الوعي (ليس بين عدد قليل من المختصين أو المشتغلين بالفلسفة ، إنما بين الجماهير الشعبية الواسعة ) ، بالمشكلات العالمية الراهنة والتي نتج أهمها من السيطرة الغربية المطلقة ومنذ زمن طويل ، والوعي بأن حلها لا يمكن أن يتم إلا بالحوار مع الحضارات غير الغربية، من أجل إنجاز وإحياء علاقات جديدة بين الإنسان والطبيعة ، وبين الإنسان والانسان ، وبين الإنسان والإله .
هكذا فقط ، نستطيع أن نبدأ استشراف ثقافة كونية ، مؤسسين وحدة إنسانية حقيقية ، ليس بالخلاط الكهربائي ، ولكن وفق مفهوم التخلي عن فكرة الهيمنة الثقافية، من أجل التناغم الثقافي الشامل .
الهوامش
ـ بابوف (1760 ـ 1797) ، ثوري فرنسي أعدم بسبب تآمره على حكومة المديرين . تقترب أفكاره من الشيوعية من خلال اقتراحه تأسيس نظام تعاوني للأرض .
ـ شامبيني .
ـ شاتوبريان (1768 ـ 1848) ، كاتب فرنسي شهير تأثر بأفكار الثورة ، وشارك في حرب الاستقلال الأمريكية .
ـ لويس فيليب (1773ـ 1850) ، أصبح امبراطور فرنسا بين عامي (1852ـ 1870) ، ومارس سلطة مطلقة بين عامي (1852ـ 1860) . حارب بسمارك وأسره الألمان عام 1870.
ـ لويس فايو (1813ـ 1883) ، كاتب وصحفي فرنسي ، رئيسي ، رئيس جريدة يونيفرس التي جعل منها لواء للتعصب الكاثوليكي .
ـ مشيل بازين (1811ـ 1888) ، مارشال فرنسا ، أسر في معركة ميتز ، ثم حكم عليه بالإعدام عام 1873 . فر من فرنسا والتجأ إلى مدريد .
ـ جورج كليمنصو (1841 ـ 1829) ، سياسي فرنسي أصبح رئيسا للوزراء مرتين . قاد فرنسا إلى النصر في الحرب العالمية الأولى .
ـ أنطون دنيكين (1872ـ 1947) ، أحد قادة روسيا البيضاء ، حارب الثورة البلشفية وخاصة في أوكرانيا (1919) .
ـ البارون رانجل (1879ـ 1928) ، جنرال روسي خلف دينيكلين في قيادة جيش الروس البيض (1920) . حارب الجيش الأحمر في أوكرانيا وكريميو.

الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
الفصل السادس

الفصل السادس
أحلام الغرب وأكاذيبه
إنه الطريق العريض لتتخلص الشعوب التي خضعت طويلا للغرب ، من قوانين تنمية خارجية وغريبة عن ثقافتها الخاصة ، ومفروضة من الاستعمار .
وليس المطلوب أن ننكر إسهام الغرب ، إنما المطلوب أن نعطيه مكانه الصحيح ، كل مكانه ، ولكن لا شيء أكثر من مكانه ، وبشكل خاص أن يسخر بشكل خاص قوة العلم والتقنية لخدمة غايات إنسانية .
وهكذا فقد نستطيع أن تتواصل وبشكل إنساني ، الملحمة الإنسانية التي بدأت قبل ثلاثة ملايين عام.
وقد كتب رجل فضاء ، وطأت قدماه تراب القمر ، عند عودته إلى الأرض : " بدت الأرض من هنا جميلة ومضيئة . . بدت موحدة وهادئة ".
للمرة الأولى لمحت عين بشرية الأرض في كليتها ، دون حدود تقسمها ، سابحة في فضاء لا نهاية لآفاقه .
أننجح في التشبث بها في الوقت المناسب ؟ في وحدة تاريخها ؟
منذ فجر الحضارات الاولى ، منذ عمليات التوهج الأولى في الفكر والحب ، إلى أملنا الحاضر ومشروعنا للوحدة الإنسانية ؟
يمكن لنا منذ الآن كي نغير جذريا العلاقات الاجتماعية :
ـ أن نخلق نموا جديدا ، غير النمو الذي يسحق البشر ، وحرياتهم ، نموا لا يقود بعد الآن إلى مزاعم " توازن الرعب " ، التهديد الرئيسي لأمن الشعوب وسلامها .
المطلوب نمو نوعي لا كمي ، يشبه حلم الام بنمو طفلها ، أو حلم كل منا ، فيما يتعلق بالذين نحبهم . المطلوب نمو بالمعنى الذي قصد إليه القديس غريغوري دونيس عنما قال : " الله هو الاكتشاف الابدي للنماء الابدي " .
ـ أن نفتح أبواب أوروبا للعالم ، للعالم الثالث بشكل خاص ، مع الاصغاء للحضارات الاخرى ، لان المشكلات التي تنتج عن النمط الغربي للتنمية أصبحت مشكلات العالم كله ، ولن تحل الا بالاهتمام بثقافات وحكمة شعوب العالم الثالث . إنه أحد الشروط الجوهرية لقيام سلام حقيقي لا يشوبه ظلم أو سيطرة .
ـ أن نجري تبديلا جوهريا في علوم التربية والتعليم ، وتسخيرها لتكييف الإنسان لا لحاجات النظام القائم ، بل لبناء المستقبل ، ويجب من أجل ذلك تعليم الطفل أن العالم ليس حقيقة مكتملة وقبلية ، ومتصلبة ، ولكنه عمل علينا نحن صياغته .
نعتقد أن الواجب الأول للمثقفين ، هو إزاحة القناع عن اللغة الكاذبة للكراسات المدرسية ، ووسائل الاعلام التي تخدم الغرب ، كي يحقق سيادته بواسطة أيديولوجيات خداعة تحت اسم " الحداثة " .
ليس هناك مسلمة واحدة من هذه المسلمات التي يزعم أنها عصرية إلا كاذبة ، وفي المقدمة منها مسلمات الديمقراطية ، والدفاع عن حقوق الإنسان ، والحرية .
كانت الديمقراطية دائما ، خدعة الاقلية التي تملك العبيد والثروات .
وما يسمونه " الديمقراطية الاثينية " في زمن بيركلس ، ويقدمونها لنا مثالا يحتذى ، " مثل ديمقراطية المرسيدس " ، كانت في حقيقة الامر حكومة تمثل عشرين ألف مواطن حر ، مقابل مئة ألف عبد محرومين من كل حق . كان المطلوب تراتبية مبنية على الاستعباد ، عمدت على أنها ديمقراطية .
إنها ديمقراطية الاسياد، ولا ديمقراطية للآخرين .
نادى إعلان " استقلال الولايات المتحدة " بالمساواة في حقوق كل البشر ، وبعد هذا الاعلان المهيب ، حافظت الولايات المتحدة ولمدة قرن كامل على الرق . أما التمييز العنصري ضد السود فما زال قائما حتى يومنا هذا .
إنها ديمقراطية للبيض فقط ، ولا ديمقراطية للسود .
أما إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي صدر عن الثورة الفرنسية ، فقد أكد بكل شموخ أن " كل الناس يولدون أحرارا ومتساوين في الحقوق " ، ولكن الدستور الاقطاعي الذي شكل الاعلان مقدمة له ، استبعد من حق التصويت ثلاثة أرباع الفرنسيين لأن فقرهم جعل منهم " مواطنين سلبيين " .
إنها ديمقراطية الاغنياء ولا ديمقراطية للفقراء .
ونجد الموقف نفسه في ميدان حقوق الإنسان .
لقد جرى تعداد هذه الحقوق في " الاعلان العالمي لحقوق الإنسان " الذي صدر عن الأمم المتحدة عام 1948. كانت كل هذه الحقوق تعابير متناقضة بشكل جلي مع الواقع ، وسنكتفي بايراد مثالين فقط :
ـ المثال الأول يتعلق باعلان " حق العمل " ، بينما يخلق النظام القائم ملايين العاطلين عن العمل ، ولا يتوقف عددهم عن الازدياد .
ـ المثال الثاني ، هي المادة التي تتحدث عن " حق التصويت " ، بينما نرى أن الحساب المصرفي ، قد حل محل بطاقة الانتخاب ، ليس فقط في الولايات المتحدة ، حيث تكلف الحملة الانتخابية المرشح إلى مجلس الشيوخ أو النواب 500 مليون دولار ، بل في الكثير من البلدان حيث تسمح الثروة بشراء الاداتين الضرورتين للوصول إلى السلطة : وسائل الاعلام بقصد التلاعب بالرأي العام ، وصناعة السلاح لقهر الرأي العام كحل أخير .
ويقولون عن هذا " الاعلان " أنه " عالمي " .
ويستطيع كل الناس الادعاء أنهم يعملون وفق حقوق الإنسان : المساواة الكاملة أمام القانون ، فالعاطل عن العمل والمليادير ، كلاهما يتمتعان بحق متساو في تأسيس صحيفة أو سلسلة من المحطات التلفزيونية . وتتجلى هذه المساواة مرة أخرى أمام القانون عندما نعلم أن كليهما ممنوعان من سرقة رغيف خبز ، لانهما سينالان نفس الجزاء .
هؤلاء الذين يدعون لانفسهم أنهم المدافعون عن حقوق الإنسان على امتداد العالم كله هم الاكثر ارهابا في العالم ، والاشد انتهاكا لحقوق الإنسان ، ليس فقط من خلال ماضيهم البعيد " مجزرة هنود أمريكا ، معاهدات الرقيق الاسود ، الاستعمار بشكل عام " وإنما أيضاً من خلال جرائمهم حديثة العهد ، كما جرى عندما أمطروا أرض فيتنام بالنابالم ، وزودوا بالمال والسلاح والمدربين ، جلادي رواندا ، وكما جرى في العراق ، حيث يتحملون مسؤولية موت 400 ألف انسان ، وهم المذنبون الحقيقيون في وفاة 250 ألف طفل في المستشفيات في أقل من خمس سنوات " أرقام منظمة الصحة العالمية "، وفي وفاة عدد مماثل خارج المستثفيات بسبب استمرار الحصار على العراق .
بهذا المنطق اجتمع رؤساء مجموعة السبعة ، وهي الدول الاكثر غنى في العالم ، في ليون 1996، لمحاوبة الارهاب ، برعاية الولايات المتحدة ، ولن تكرر ذلك كثيرا ، فأولئك الذين يريدون فرض نمط النتمية الليبرالية على العالم ، يعادل هذا النمط وفاة عدد مشابه لضحايا هيروشيما كل يومين .
هؤلاء الاساتذة الغرباء عن الاخلاق ، يعطون العالم مثالا للاصولية الاكثر تطرفا .
تعني " الاصولية " الزعم بامتلاط الحقيقة المطلقة ، وبالتالي ، ادعاء الاصوليين بحقهم " بل بواجبهم " في فرض هذه الحقيقة على الاخرين . وأكمل مثال على الاصولية هو الاستعمار ، إذ تحرك المستعمرون تحت راية زعم مزدوج :
أولا التبشير بالنصرانية لفرض مفهومها الخاص عن الدين على العالم . وقد حمل العسكريون والتجار مسؤولية ما تبقى وهو المجازر والاستغلال . وبعد ذلك ، وبعدما تراجعت مقولة التبشير، زعموا بأنهم يحملون " الحداثة " إلى العالم .
وعندما توحد الاستعمار تحت قيادة الولايات المتحدة ، تبين أن " النظام العالمي الجديد " ، ليس الا تكرارا للفوضى الاستعمارية القديمة ، والتي أطلق عليها منذ ذلك الحين " الليبرالية الاقتصادية الشاملة " ، والتي أعطت فاعلية أكبر للهيمنة على العالم ، وإهلاكه ، بطرق اقتصادية " دون استبعاد التدخل العسكري " . وأصبحت إسرائيل بعد الغاء التمييز العنصري في اتحاد جنوب إفريقيا وهي في الاساس احسن حليف لهذا النظام ، أصبحت الممثل الاخير للاستعمار التقليدي ، أي العنصري .
أما الاصوليات الاخرى فقد نشأت من خلال انتفاضات ضد الاصوليات الغربية الاساسية ، وضد المتواطئين معها " من إسرائيل حتى السعودية ومن إيران الشاه حتى زائير موبوتو " . وكانت الثورة الثقافية في الصين المثال الأول لرفض كلي للغرب بكل أبعاده " بدءا من الضغط الوحشي حتى موسيقى بتهوفن التي اعتبرت برجوازية " .
وكانت إيران الخميني قد شكلت ظاهرة مماثلة في رفض نظام حياة غريب على ثقافتها التي تعود إلى آلاف السنين .
وتعتبر كل الاصوليات الاخرى ، بتطرفها ، وأحيانا بلغتها المهجورة ، ردود فعل على الاصوليات الغربية الاساسية ، دفاعا عن هويتها . غالبا ما كان رد الفعل هذا عودة إلى الماضي لأنها تحلم في مواجهة الغزو الثقافي ، بعصر ذهبي سابق على هذا العدوان ، ونادرا ما نتجه نحو المستقبل وفق مشروع حقيقي .

الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
الفصل السابع

الفصل السابع
الحضارة ومعتقدات العوالم الأخرى
لاهوتيات التحرير
تعتبر مشكلة الإنسان ـ لا مشكلة اجمالي الانتاج الوطني ـ هي أحدى أصعب المشكلات التي تواجه البلدان غير الغربية، لاكتشاف المبادئ الاساسية لانجاز تنمية حقيقية . وهي مشكلة استعادة الثقافات المتوقفة بفعل خمسة قرون من الاستعمال ، والتي أعطت هذه البلدان عظمتها الاولى ، وهي قادرة اليوم أن تعلمنا كيف نبني خضارة مؤسسة على علاقات أخرى ـ غير العلاقات السائدة حتى الآن ـ مع الطبيعة ، والانسان ، والله .
أولا، في علاقاتنا مع الطبيعة : فبدلا من اعتبارها مخزنا ومستودعا ، مخزنا نستطيع أن نستخرج منه بدون نهاية ، مصادر الطاقة والمواد الاولية ، ومستودعا لفضلاتنا ، علينا أن نستعيد شعورنا بان الطبيعة ، ليست جزء منا ، بل نحن جزء منها .
ذات يوم ، قال لي صديق أفريقي أسود : تعود الطبيعة إلى مجتمع كبير جدا ، مات جزء منه ، وجزء مازال حيا، وجزء ثالث لم يولد بعد ، نحن مسؤولون أمام الجميع .
ونحن ؟ أنفكر بأحفادنا الذين عليهم بعد قرون أن يحموا انفسهم من أشعاعات مخلفاتنا الذرية.
أجاب زعيم هندي أمريكي من إقليم " ميلك ريفر" القريب من حدود مونتانا ، أجاب الغزاة الأمريكيين الذين حثوه للاسراع بتوقيع " ميثاق إقليمي " من أجل التخلي عن الأرض :
" مازال هناك وقت طويل تتألق فيه الشمس ، وتجري الانهار ، وتبقى الأرض ، لتهب الحياة للإنسان والحيوان . بما تفكرون أن الخالق قد أرسلكم ، لتنظيمنا حسب إرادتكم ، ولكن افهموا جيدا سبب حي للإرض . أنا لم أقل ابدا أن هذه الأرض ملكي استخدمها على هواي . إنما وضعت هنا من قبل الروح العظمى لخدمتها، ولذلك لن نستطيع بيعها لأنها ليست ملكنا .
في نظام يباع فيه كل شيء ويشري ، أين نحن من الاحترام للطبيعة والإله ؟
وفي لوحة صينية تعود لعصر سونج (القرن الثالث عشر) ، نعيش تحت تأثير مبدأ " تاو " : " أن تكون واحدا مع الكل " ، إن شبكات الانهار وسلاسل الجبال ، والغيوم ، والاشجار ، وهذا الإنسان الضئيل في سلم الاحجام ، كل ذلك يعطينا الاحساس أن ما يحيط بتفاصيل اللوحة ليس العين الجيومترية للإنسان الغربي ، لأن المشهد يمثل رمزا مرئيا لعالم بأكمله ، مع قوى تأتينا من كل أنحاء اللوحة ، فنغوص في نوع من الشمولية الكونية ، تقرب من الصلاة عند رسامي اللانهابة.
ماذا يبقى في حيانتا ، وفي الفنون التي يسمونها معاصرة ، من هذه المشاعر الغامرة ؟ !
وفي علاقتنا بالآخر، فقد اكتشفنا أنه إلى جانب " الانا " الصغيرة ، وهي مركز ومقياس كل شيء ، هناك الاحساس بالوحدة ، أي بالشمولية الإنسانية ، التي يشعر فيها كل إنسان أنه مسؤول عن مصير جميع الآخرين .
كانت تجربة أربعة شهور قضينها في كوخ صغير ، على الحدود بين غينيا والسنغال ، على بعد ألف كيلو متر من الشاطئ ، حيث لا يسكن المنطقة مسيحي أو مسلم ، بل من نسميهم ، لافتقارنا لمفردة أخرى " بالحيويين " ، قد تركت في نفسي أثرا عميقا جدا . وحتى في باريس ، تدلنا معاشرة المجموعات المهاجرة من المغاربة والسنيغاليين ، على ما بقي لنا أن نتعلمه منهم ، طالما أن المساعدة المتبادلة ، والمجتمع الإنساني ، يكملان " الكرم " المؤسساتي لمنظماتنا .
أما علاقتنا مع الله ، فنحن بجاجة لإيمان الآخرين ، وكذلك لشكهم وكفرهم ، كي نتحرر من آلهة القوة ، الملوحة بالصاعقة مثل زيوس وجوبيتر أو آلهة الحرب مثل الهاف ، وكل الاصنام المتشبهة بالآله ، مثل آلهة المدن القبلية أثينا ، أو الآلهة الصغار التي تهب النصر ـ أو تأمر بالمجازر لحماية " شعبها الامختار " من الآخرين . إن هذه الآله القبيلة تتوعد بالجحيم من يعصيها وبالنعيم من يطيعها .
أما المسيح الآسيوي فقد ظهر كشهادة إلهية على القدرة والعوز، والانفصال الجذري عن كل الآلهة السابقة ، ولترديد أصداء كل حكمة الشرق: حكمة كتاب " فيدا " الذي ابتدئ بكتابته انطلاقا من الألف الثاني قبل الميلاد ، والذي مكن حكيما هنديا أن يقول : إن ديانتنا " الفيدية " الخالدة ، هي منبع كل الديانات ، وكل الثقافات وكل الحضارات .
وقال الأب الجزويتي مونشانان عن الفيدا : إنه " الترنيمة الطقسية المطلقة " ، لأنها تعلن أولا عن وحدانية الكون كله، وتوحد الإنسان مع الله .
وتصدح ترانيم الرانيم الفيدا : " أسماء الله كثيرة ، ولكنه واحد " . إنها تسبح بوحدانية الله ، ووحدة الكل ، منذ ألفي عام قبل كل الحركات الروحية الأخرى . إن ترانيم الفيدا وتفاسيرها في كتاب " الاوبانيشاد " الذي ظهر بعد الفيدا بقرون ليعبر عن نفس الرؤيا ، إنما هي استبطان للإنسان المسكون بالإله : " أنت ذاك " أي إن " البراهمان " وهو الوحدة الكلية وهو ما ندعوها لله يوجد بكليته في الإنسان ، إن " الأنا " الاكثر عمقا فينا ، تتطابق معه والبرهمان أبعد مما يكون وما لا يكون ، إنه في أعماق كل ما هو كائن ، وخارج كل ما هو كائن ، شأنه شأن الملكوت الذي وعدنا به المسيح ، هذا الملكوت الذي لا ندخله بالغزو وإنما بالزهد .
ونفس التعاليم يحملها إلينا " الريشيس " ، أي زهاد الهند الذين يحثون على نبذ كل ما هو خاص بنا ، كل ما هو " ملكيتها " : أي رغباتنا الجزئية ، وأشياؤنا التي تجعلنا نشعر بالرضى ، وذلك كي لا نعمل إلا بما هو الحقيقة الباقية في العالم : الوحدة المطلقة ، وهي كائن لا يمكن تجزئته ، وضمير ، وبهجة علوية . هذه الصيغة الأولى للثالوث : صمت الرب ، الاب غير المرئي ، ثم كلام الرب ، الابن ، الذين اصبح مرئيا عن طريق حياته وكلامه وأفعاله ، وكل ما نستطيع أن نعرفه عن الإله غير المرئي ، المحتجب ، وأخيرا وجود الله ، الروح التي جعلت من كل إنسان وعدا من الله ، الذي جعل من نفسه بشرا ، لكي يستطيع الإنسان أن يصبح الها ، كما قال آباء الشرق .
كتب طاغور :
" إن الحالة ، التي تتحقق فيها اللحمة مع الجميع وتنفذ إلى كل الاشياء ، من خلال الاتحاد بالإله ، هي الهدف الاسمي ، واكتمال الإنسانية " .
هذه هي أيضاً رسالة " التاوية الصينية ، مستبعدة كل ثنائية ، وقد كتب تشوانج تسو في القرن الرابع قبل الميلاد : " كل الكائنات وأنا ، كنا في الأصل واحدا . أن تكون واحد مع الكل ".
هذا الايمان ، الوجه الداخلي لكل عمل انساني بحث ، ونعني بذلك أنه ليس له من دافع إلا خدمة " الكل " ، متخليا عن كل رغبة جزئية (ويسمى اللاهوتيون ذلك Knenose) . سواء كانت رغبة تتصل بالشخص نفسه ، أو بجماعة جزئية : كالعرق ، أو الأمة ، أو الكنيسة أو الحزب . وتعتبر هذه الفكرة نقيضة للمفهوم القبلي ، للشعب المختار " في العهد القديم ، الذي حطمه المسيح بشكل جذري . هذه هي اليقظة التي كان بوذا شاهدا عظيما عليها .
ولقد ربطت اراديا ، دعوات الحكمة السابقة هذه برسالة السيد المسيح في حياته ومماته ، لأنه الاقرب الينا منها ، وأقرب في ايمانه الموحد للبشر ، لقد جسد هذه الحكمة في شخصية واحدة . شخص واحد غيرتنا محبته ، وأعطت معنى لحياتنا . كان موته بعثا لكينوتنتا . وقد كتب أحد الروحيين البيزنطيين : " أنا أحب ، إذن أنا موجود ".
المسيح هو أولا التخلي عن الذات ، والتخلي عن انتماءاتنا الجزئية والقطيعة المطلقة : أولا مع " العهد القديم " الذي نقض ناموسه كله . أضف إلى ذلك بأننا ندرك أن القديس بولس الذي لم يرجع إليه في حياته وأعماله وأقواله ولم يبدا الاهتمام به إلا بعد موته محولا صليبه إلى مركبة للنصر وقيامته معجزة القدرة الإلهية كي يعيد في رسائله السابقة على الأناجيل بناء هذه الحياة انطلاقا من مقطع في العهد القديم وكأنه ـ أي المسيح ـ لم يأتي لنا بجديد . " لقد تنبأ الأنبياء وموسى بمن عليه أن يأتي وأنا لا أقول شيئا بعد ذلك "، وكأن المسيح كان سعيدا أن يلعب دورا في سيناريو كتبه الأنبياء . إن مسيح بولس ، ليس يسوع . فالمسيح إنما هو ترجمة يونانية للمسيا اليهودي الذي توجب عليه إعادة بناء مملكة داوود . ولهذا توجب عليه إذن أن يكون سليلا ومكملا لداوود هذا ، الرئيس الحربي لعصبة من المرتزقة الذين يروي لنا سفرا صاموئيل والملوك انتهاكاتهم الدامية وأعمال الدناءة التي ارتكبوها .
ليس يسوع داوود جديدا ولا هو ابن رب (الجنود) . وليس الحب الذي وعظنا به انجازا لثأر العهد القديم ، ولا حتى تضامنا قبليا كما جاء في سفر اللاويين حيث يحب كل واحد الآخر إنما في حدود القبيلة فقط ، كما يؤكد التلمود . عندما شرح كلمة " قريبك " في إطار التشريع في الكتاب المقدس ، حدد التلمود أنه يعني الاسرائيلي فقط لأن النص الكتابي يقود إلى هذا التفسير .
وسيكون هذا كما قال يسوع أمرا جديدا لأنه لم يظهر في ألواح موسى . هذا التحويل من " حقير جدا " إلى " سام جدا " لقائد حربي ومن أسلوب داوود ويوشع ، سيجعل من المسيحية يهودية مصححة ، ومن يسوع إكمالا لوعد قطع " للشعب المختار " وهكذا ستمحى الجدة الجذرية لرسالة يسوع من خلال مسخ حياته البائسة المتواضعة عن طريق تمجيد وظيفته كمسيح ، حاملة خاتمة منتصرة للتاريخ اليهودي .
وكتب المفسر الكبير " داوود " في كتابه (مؤسس المسيحية ) ما يلي : " تترافق المسيحية اليهودية بدور سياسي وعسكري " لإبن " داوود ، واخر ما كان يتمناه المسيح أن يلعب هذا الدور ".
ويضيف في كتابه الثاني " حكم مملكة الرب " : ليس لكلمات يسوع ما يوازيها في التعاليم اليهودية ، ويجب أن لا تعتبر رسالة يسوع وكأنها محاولة لتصحيح اليهودية ، فهو يحمل رسالة جديدة تماما ، لا يمكن توافقها مع النظام الواوث آنذاك ".
وقال آلبرت ستوفر وهو شارح آخر يعمل في كلية لاهوت زيوريخ ، بلغة اكثر تطرفا " يبلغ يسوع رسالة جديدة من الله ، ديانة جديدة ، خلق جديد ، لا رابطة بينه وبين التوراة . " من كتاب يسوع وتاريخه ".
وكتب لاهوتي آخر هو جونزالس ماوس : " إن الرب الذي دعى له يسوع ، غير الموجود في العهد القديم " .
أما بولس الذي أعاد تهويد المسيحية ، فقد كان السلف لكل الذين ربطوا بين الكنيسة والسلطة منذ القرن الرابع الميلادي : الصليبيون ، ومحاكم التفتيش ، والاستعمار الذي أخذ صيغة " التنصير " والتعاون مع فرانكو، وكذلك مع بيتان ، وما سمي بالاصلاح " الاحياء " الذي تعارض مع الانفتاح النبوي للفاتيكان ، وادانة لاهوتيات الحرية التي هي ـ ربما ـ احد أعظم الامال في عصرنا ، لأنها تحقق السمة الإلهي بعد أن توقفت عن التفكير بمصطلحات خارجة عن وعي الإنسان ، والتي تعفيه من مسؤولياته أمام الله الذي ينظم من خارج ومن أعلى ، مصائر البشر .
وعلينا الاعتراف أن التجارب التاريخية لبناء الاشتراكية والتي حملت إسما مغتصبا هو الماركسية قد فشلت . والى جانب إخفاق الإنسان فإن الخطأ النظري الرئيسي لما يسمونه " الاشتراكية التاريخية " يمكن يكمن في الزعم أنه بالامكان تحرير الإنسان عن طريق تجريده من " بعده المتعالي " .
لكن لاهوتيان التحرير لم تشاطر هذا المفهوم رأيه في التقليل من قيمة الإنسان . إنها تشارك في القناعة أن كل معركة في سبيل التحرير ، تحتاج إلى اكثير من التعالي ، أكثر مما تحتاج إلى الحتمية .
لقد فتحت هذه اللاهوتيات طريقا جديدة لاتحاد لا ينفصم بين الايمان والتاريخ .
وبنفس التوجه ، تذكر هذه اللاهوتيات الافراد ، بتعالي التاريخ ، وتذكر أفرادا آخرين بالبعد التاريخي للتعالي . وبهذا الشكل تجاوزت ثنائيتين مقلوبتين ونمطيتين تسدان الطريق أمام الحرية المطلقة للإنسان : الاولى : بالتعالي الذي ينظر إليه كخارجية أخروية مقللة بذلك أهمية الصراعات التاريخية للإنسان ، والثانية إلستزام بالتاريخ دون مرجعية مطلقة .
فقد قادت هاتان الثنائيتان الجزئيتان في الغرب إلى عجز مضاعف : عجز المسيحية عن الفهم التاريخي للحركات الاساسية لتحرير الإنسان ، والعجز الناتج عن فشل أولئك الذين حاربوا في تاريخ مغلق .
وبدلت لاهوتيات التحرير الجهد المعاصر الاكبر لوضع نهاية لهذا الطلاق .
وليست ص\فة تاريخية أن لاهوتيات التحرير هذه قد ولدت في البلاد التي سادها الاستعمار .
أولا : أمريكا اللاتينية ، هذا الاديم الإنساني الذي تشكل من المجتمعات الاصلية ، حيث ترعرع الوعي لدى المجتمعات الاكثر فقرا ، بأن الكائن الفقير ليس كائنا أبدا . وكان مفهوم للحب ، قد حول مأساة سحق الجماهير كشرط لفني بضعة أفراد إلى نوع من التجريد ، ضمن استمرار الوضع القائم .
انطلاقا من هذا الوضع التاريخي الواقعي ، الذي وجد بأكثر ما يكون حدة في أمريكا اللاتينية وإفريقيا ، تعهد لاهوتيو الحرية في كنيسة تابعة للمجتمع الديني للفاتيكان ، والبابا يوحنا الثالث عشر ، اللذين جاءا الفتح العالم بغية خدمته وليس لحكمه ، تعهدوا بفك رموز هذا العالم على ضوء أوامر السيد المسيح ، من أجل أولئك الذين أرادوا أن يتبعوه : التخلي عما يملكون ليس فقط لنجدة الفقراء ، بل ليجعلوا من أنفسهم فقراء بين الفقراء ، الفقراء بالمعنى الاكثر عمقا للكلمة : أي الذين ألغتهم جسديا الطبقة المسيطرة والمستلبة روحيا عبر الايديولوجيا المهيمنة .
وتأكد هذا " الاختيار الذي أخذ جانب الفقراء " ، بفضل لا هويتي الحرية ، عام 1968 في ميدلين ـ كولومبو ، عند انعقاد المؤتمر الاستثنائي لاساقفة القارة في المجلس الاسقفي لأمريكا اللاتينية . وقد مزق الاجتماع خدعة قاتلة وهي أنه باسم الحياد السياسي للدين والحب ، جرى ضمان إبادة الهنود ، واسترقاق السود ، اليوم يضمن انقسام العالم بين أقلية من المالكين ، وغالبية من المستعبدين .
هذا الوعي لوضع تاريخي محدد تعاليم السيد المسيح ، وكذلك الوصول إلى موقف لمحاربة اللامعنى ، في عالم سخرت فيه الغالبية من صورة الإله على الاقل في العالم الثالث (ولكن ليس هناك فحسب) ـ قد قادا إلى قراءة جديدة للأناجيل ، والى قلب جذري للمسيرة اللاهوتية التقليدية في الغرب . فبدلا من الادعاء باستنتاج عقيدة اجتماعية أو سياسية من نصوص الأناجيل ، دون الاخذ بعين الاعتبار الحقائق التاريخية لكل حقبة ، فقد انطلقوا من هذا الوضع التاريخي الواقعي ، كي يحلوا رموز المعنى على ضوء رسالة يسوع ، التي اعتبرتها السلطات الدينية والسياسية في زمانه ، مدمرة جدا مما قاده إلى الصلب .
تمثل هذه الثغرة الفريدة التي فتحها السيد المسيح في تاريخ الإنسان ، النموذج الخالد للتعالي المعاش في التاريخ .
وتمثل كتب " لاهوت الحرية " للأب جوتيريز في البيرو ، و " المسيح محررا " للأب ليوناردو بوف من البرازيل ، و " تاريخ لاهوت الحرية " لانريكو دوسل من الارجنتين ، نقاط علام بارزة في مسيرة اعادة البحث هذه في عملية القلب العظيمة في فهم رسالة السيد المسيح .
ونلاحظ أن نقدهم للماركسية هو الاعمق ، إذ ليس هناك من نظرية قد فندت بمنتهى الجدية واستخرج منها آخر نقطة من الحقيقة التي تحملها ، وأعمق جذور الأخطاء فيها ، مثلما جرى للماركسية .
وقد ولدت الماركسية ، شأنها مشاريع اليوتوبيا الاشتراكية التي سبقتها ، في القرن التاسع عشر ، وفي السياق التاريخي للثورة الصناعية ، حيث أسبغت المظاهر التقنية على الرأسمالية لباسا أسطوريا على شاكلة فاوست أو بروميثيوس ، وإيمانما مسيحيا بالتقدم . هكذا دفع إلى الظل ملايين من البشر المسحوقين في المدن التي جعلتهم ضحاياها ، حيث يمسخ الإنسان إلى زائدة ، ملحقة بآله أو بالسوق .
ويسمح لنا هذا الاختيار وحده أن نعطي معنى لحياتنا ، عن طريق تحميلها مسؤولية قهر الانحرافات المميتة .
ولا تحدد لاهوتيات الحرية هذا التعالي بالتعالي باعتباره مسلمة لكل عمل تحريري ، وكأنه مسألة خارجية ، بل كإمكانية دائمة للإنقطاع عن الماضي وتجاوزه . وقد أعطانا يسوع النموذج المطلق ، عندما كرس حياته وموته للصراع ضد أشكال الهيمنة التي أعطيت صفة التقديس . ولكن القراءات التقليدية للرسالة الإلهية قد جرت من " أعلى " ، من قبل أصحاب النفوذ الاقوياء .
إن قراءة اللاهوتيين للحرية ، إنما هي قراءة من " أسفل " ، أي انطلاقا من المحرومين ، من أولئك الذين يعملون ، ويعانون ، ويعيشون ويموتون دون أن يعرفوا هدفا لعملهم ومعاناتهم ، وحياتهم وموتهم . والمستقبل عند هؤلاء هو الأمل الوحيد لهم بالبعث ، أي الانتقال من ممر الموت إلى الحياة الحقيقية ، حياة تحمل معنى وهدفا .
ولا يكون ذلك في " الإطلال " عليهم من فوق ، وإنما بالتحول ليصبح المرء واحدا منهم ، يشاركهم وجودهم وآلامهم ، ولا يكون في أن يعيش اللاهوتي ، لاهوتيته وكأنها حرفة حرة وإما كشاهد مجند للرسالة التي واجه المسيح الموت من أجلها .
وما هو جديد ، وما هو باعث للقوة في لاهوتيات الحرية ، العثور على ما هو ضروري لهذه الرسالة التي لا بديل لها ، والتحرك حسب ندائها . فالأب غوستاف جايتيريز في كتابه " لاهوت الحرية " يرى في رمز الحساب الاخير الذي يشير إليه ماثيو " خلاصة الرسالة الأنجيلية " ، فنحن لن نحاسب في محبتنا للآخرين ، وفق قانون أو حكمة ، أو حتى من خلال إيمان لا يتفتح في شكل عمل حدده المسيح : أن نطعم الجوعة ، ونكسي العراة ، ونكرم الغريب . وقد جاء في إنجيل متى:
" في كل مرة تفعل ذلك من أجل واحد من هؤلاء الصغار فإنما تفعلها لاجلي (25ـ 40) " .

الفرصة الأخيرة
12-08-2005, 01:15 PM
يقول الاب غوتيير : إن هذه الانجيلية تتحقق انطلاقا من اختيار مبدئي ، وهو الانحياز للفقراء : أي الصراع ضد كل أشكال الظلم والافساد والاستغلال، والمشاركة في خلق مجتمع تسوده أخوة وإنسانية أكبر . إنه يعني أن نعيش حب يسوع وشهادته .
ويضيف : " فقط أولئك الذين يضعون الانجيل في خدمة الاغنياء ، سيرون في هذا الموقف قهرا سياسيا " .
طرح لاهوتيو الحرية مسألة رئيسية : إن التحول الجذري الذي يحتاجه العالم كي يتجاوز اللامساواة والعنف الذي يتولد عنها ، لا يمكن أن يتحقق وفق آيديولوجية حتمية سواء عن طريق " التقدم " لدى الليبراليين أو نقيضه الديالكتيكي عند " أصوليي " الاشتراكية التي وصفت بالعلمية وهي في حقيقة الامر اشتراكية وضعية " لأن العلوم تزودنا بأفضل الوسائل لكنها لا تعلمنا أن نضع الغايات الاخيرة للحياة " .
لدينا كل الامل في التغيير ، مسقطين انحرافاتنا الجديدة ، مستخدمين ما هو نقيض للحتمية ، وهو التعالي، أي إمكانية الإنسان في قطع علاقته بالغايات الاخيرة التي يرسمها النظام القائم ، أو بالاحرى غياب هذه الغايات .
والايمان بالتعالي ، هو برهان ، مسلمة ، تماما مثل الايمان بالحتمية الكونية للتشابك الذي يكون فيه عمل لانسان ، حالة خاصة ، ضمن حركة الاشياء .
وقد أخذ لاهوتيو الحرية مأخذ الجد ، إعلان البابا الذي اعتبر فيه العالم أنه يعيش " وضع الخطئية " .
واعتبروا أن " حالة الخطئية " هذه هي مفتاح كل تفكير سياسي أو ديني ، ومفتاح كل عمل ، لانها قد شوهت " صورة الإنسان الذي خلق على مثال الله " عند الغالبية من الناس ، وإيماننا بأن " الكل للكل " . وليس التاريخ المقدس والتاريخ القصير جدا ، إلا تاريخا واحدا للتحرير ، يجتمع فيه الالهي والدنيوي في آن واحد .
إن الفصل الخادع بين خطة " الآخرة " وخطة التاريخ ، يضع الانجيل في الحقيقة في خدمة الاقوياء .
وقد ترجم هذا التناقض في كنائس أمريكا اللاتينية بشكل أخاذ من خلال صورتين ليسوع ظهرتا على شكل لوحات أو تماثيل . كانت الصورة الاولى للمسيح المنتصر والسيدة العذراء بلباس ملك وملكة . أما الصورة الثانية فتمثل " المسيح المغلوب " العاري والهزيل حتى برزت عظامه . تلك كانت صورة الغزاة والاغنياء والاقوياء ، وهذه صورة الفقراء والمذلين والمهانين .
وكتب الأب ليوناردودوف :
" وصلتنا شخصية يسوع مثقلة يسوع مثقلة ، محاطة بالالقاب والشروح الدوغماتية … التي تهدف لحجب أصالته وإخفاء وجهة الإنساني ، ونفيه من التاريخ بغية تحويله إلى أقنوم ، وكأنه نصف اله يعيش خارج عالمنا . يجب على الايمان أن يحرر شخص المسيا من الاغلال التي قيدوه بها وقللوا من شأنه . والاعلان بأن يسوع ، هو المسيح ، السيد ابن داوود ، ابن الله لن يشير إلا إلى ما يعتقدونه ، إذا لم يهتموا مسبقا ، بما تعنيه هذه الاسماء لنا في حيانتا … إن الايمان بالمسيح لا يمكن أن يختصر إلى صيغ من الكلمات المهجورة ، حتى ولو كانت جليلة ، ولا إلى علم التراث الانجيلي . إن الايمان بالمسيح ، بالمعنى الذي يتطلب عملا يلتحم بوجودي ، ويرسم لي منهجا في العيش بحيث تضاهي حياتي الشخصية والاجتماعية والكنسية والثقافية والشاملة حقيقة المسيح ".
بهذه الطريقة فقط ، يتوقف الدين عن أن يصبح أفيونا واستلابا . بهذه الطريقة فقط يصبح الايمان خميرة المستقبل بوجه إنساني ، أعني إلهي ، عن طريق المشاركة في مجيء الملكوت . ويعتبر وضع نهاية لهذا الاستعمار الديني للاهوت الذي يقدم نفسه وكأنه إتمام للتاريخ اليهودي ، أحد الوجوه الاكثر تجديدا في لاهوت الحرية ، بعد ما أصبح هذا التاريخ أوروبيا عبر الفلسفة اليونانية ، منظما حسب الطراز الامبرطوري الروماني . ولم تستطيع بقية العالم أن تتلقى رسالة يسوع الاسجينة هذه الثقافة الوحيدة التي تدعى أنه ليس هناك من " تاريخ مقدس " إلا تاريخ الشعب اليهودي ، ولا لغة دينية إلا العبرية أو اليونانية أو اللاتينية .
وكما كتب " انريكو دوسل : " كانت اكنيسة المسيحية في أمريكا اللاتينية كما هي في أفريقيا وآسيا " استطالة لتاريخ البعثات التبشيرية ".
ويضيف : الاوربيون ، هم الذين " اكتشفو " المسكونيين الآخرين ، الذين وقعوا تحت السيطرة ، بقوة السلاح والبارود والخيول والقوارب . وبقدر ما يكون المستقبل القريب شاملا وحقيقا ، بقدر ما يكون المشروع القادم انسانيا ، فهل سيعمل الاوربيون أنفسهم ، على ازدهار مثل ذلك المشروع ؟ أمريكا الهندية أمنا واسبانيا أبوبا ، ولكن الطفل الجديد ، ليس أمريكا الهندية ولا أسبانيا ولا أوروبا ولا الانكا ولا الازتك ، إنه شيء جديد: ثقافة جديدة ومولدة ومختلطة .
وهكذا ولد في أمريكا اللاتنية مفهوم متماسك عن الكون ، . كانسا بذلك التوجه الشرير " للشعب المختار " الذي استخدمه الاستعمار باسم نشر المسيحية .
وامتد هذا التحرير إلى قارتين أخريين، كانتا تخضعان للاستعمار ، أحيانا بواسطة التجارة وأحيانا بقوة السلاح ، ولكنهما استعمرتا بشكل دائم روحيا بواسطة الكنائس .
وخلال القرون الخمسة التي مضت على السيطرة المستمرة للاستعمار الديني الذي تضمن فرض المسيحية على القارات الثلاث من خلال صيغ ثقافية ألبست لبوس الغرب ، قدمت هذه الديانة للشعوب وكأن الله لم يخلق الإنسان ، وإنما خلق الإنسان الغربي فقط .
وستصبح الصلة بالله أكثر يسرا إذا افترقنا عن الثقافة اليهودية ـ الاغريقية المتفردة ، واقتربنا أكثر من وحدة الثالوث ـ بعد أن نكون عشنا النموذج الذي يقدمه لنا الأب بانيكار ، وهو تطابق الذات الفردية مع الذات الكلية ، كما ورد في الاوبانيشاد ، وتأملات " أنكارا " ، أو أن نصغي إلى الصوفيين مثل ابن عربي حين رأى في يسوع " قربة القداسة " ، والذي توحي لنا حياته من خلال خضوعه المطلق للرب ، كل ما يمكن أن يرى من الله المتعالي الذي لا يرى . عن هذا الإله قال روزبهان الشيرازي : " قبل أن توجد الأكوان ، ومصائر الأكوان ، كانت الذات الأبدية هي وحدة الحب ، وحدة الحبيب والمحبوب " .
وبدأ لاهوت جديد يبرز من الظل ، وفي واحد من أهم الاصقاع الروحانية في العالم : الهند . فمنذ بضعة سنوات أطلق لاهوتيون هنود أسس لاهوت يستند إلى تأمل وممارسة إيمان عاش في ارجاء البلاد. ففي 12 آذار 1992 ، وفي هونغ كونغ افتتحت ندوة ، شارك فيها لاهوتيون وفدوا من انحاء مختلفة من آسيا . وعقب انتهاء الندوة ، نشرت وثيقة نقدية حول موضوع : " مستقبل التقكير الاجتماعي المسيحي " وقعها كل المشاركين . واستنكر اللاهوتيون في هذه الوثيقة ، بشكل خاص ، المركزية الأوربية للتعاليم الاجتماعية للكنيسة ، التي لا تعرف أو تجهل إنجازات المؤتمرات المسكونية الاقليمية ، وخصوصيات الكنائس المحلية .
وقد حاول كهنة آسيويون وبأسلوب مبدع الربط بين التعاليم الكاثوليكية والصعوبات التي يواجهها الوضع الأسيوي . ولسوء الحظ تسعى بعثة تبشيرية إصلاحية قادمة من روما ، أن تنفذ هذه الأيام إلى آسيا . وتقيم البعثة المذكورة الوضع في آسيا بشكل تبسيطي ، ودون التوغل في أعماق المشكلات ، متوهمة ـ بأسلوب خاطئ ـ أن الأساقفة لا يتحدثون إلا عن الحوار ، والتحرير ، والجهل .. إلخ ، مهملين دعوة السيد المسيح . وقد حرضت بعثة الاصلاح هذه على التوقف عن تنمية وتطوير التفكير المتناسق لاتحاد مؤتمرات المجامع المسكونية في آسيا . وقد علق لاهوتي هندي هو فيليكس ويلفريد على هذه النوايا بقوله : " يجب أن نأمل أن إرسال الفاتيكان لبعثة كهنوتية إلى آسيا ، أمر موقت ، وظاهرة عابرة ، وأن يتابع اتحاد المؤتمرات المسكونية في المستقبل الخط الذي تشير إليه وثائق وفيرة ، وأن ينجز بنفسه ظهور صورة جديدة للمسيح مطابقة لعبقرية آسيا " .
وعلق راهب ملئ بالحماسة والنشاط في الحركة المسيحية على جدار كنيسته الرعوية لوحة كبيرة كتب عليها : " يسوع هو الجواب " ولكنه استيقظ في اليوم التالي ليكتشف أن شبانا أشرارا قد كتبوا تحت العبارة : " ولكن … ما هو السؤال ؟ " .
لقد حاول المسيحيون عبر قرون ، اكتشاف شخصية المسيح ، وحياته ورسالته ، من خلال أسئلة خاصة بهم ، نبعث من طبيعة كل مرحلة من مراحل تطور المجتمعات التي ينتمون إليها . ونتساءل هل نرفض نحن الاحتمال ذاته أي أن تطرح آسيا اليوم أسئلتها الخاصة بها ؟ أعلينا نحن أن نحمل إليها الاجابات دون أن نلقي بالا لأسئلتها ؟ لندع آسيا إذن تكتشف ، ثم تعيد اكتشاف صورة المسيح الفضلى ، والاكثر ملائمة للاجابة على تحديات القارة . وقد تنبه الفاتيكان إلى تصميم لاهوتيي آسيا ، على التفكير بمستقبل الكنيسة في هذه القارة ، بطريقة غير الاكتفاء بنقل الخطابات الرسمية من روما .
إن إرادة تجذير رسالة المسيح في الحضارات والثقافات غير الغربية ، هي واحدة من أهم الوعود الخصبة للمستقبل .
ولد آلوسيوس بيريز وهو كاهن جزويتي في سيرلانكا . وهو مؤسس ومدير مركز أبحاث تولانا في كيلينيا بالقرب من كولومبو . وهو منطقي هندي تقليدي مختص بالفلسفلة البوذية، كما اشتغل في برنامج واسع للبحث في الادب الفلسفي البوذي الوسيطي في بالي . ويرأس تحرير مجلة " حوار " المجلة الدولية للبوذيين والمسيحين ، التي يصدرها المعهد المسكوني في كولومبو . وقد كتب بغزارة عن التبشير ، ولاهوت الديانات ولاهوت الحرية الآسيوية والبوذيين .
أما ريمون بانيكار ، فقد ولد من أب هندي ، وأم من كاتالونيا ، وبذل جهدا كبيرا ليبرهن أن " إحدى البدهيات الاكثر عمقا في حكمة الهند " تلتقي في بعض وجوهها مع الثالوث المسيحي .
وفي محاولته لتفسير عقيدة الثالوث من خلال التأمل المعاش لـ ادفالييتا الفيدية " نسبة إلى فيدا " " وهي عقيدة لا ثنائية " ، قال أنها تعلمنا أن الغاية الاخيرة لكل إنسان هي معرفة أن " اتمان " " الذات الفردية " تتطابق مع براهمان (الذات الكلية ) من خلال عبارة (الاوبانيشاد) : أنت ، ذلك . وتساعدنا الهندوسية على تجاوز وهم خادع بان التفكير المتعالي هو " خارجانية " .
أعطى كتاب " الثالوث في التجربة الدينية " وهو أحسن أعماله ، تعبيرا نموذجيا لحوار حقيقي حول الإيمان ، بريء من كل نزعة عرقية .
وتكون في أفريقيا وعي يشابه هذا الوعي الآسيوي ، بضرورة أن يكون الايمان كونيا ، وهو شرط الاستمرار في القرن الحادي والعشرين .
وكان ساحل العاج قد شهد عام 1977 ، مؤتمرا للاهوتيين المسيحيين والكنيسة الكاثوليكية في أفريقيا السوداء عقد برئاسة مطران ابيدجان " ميجرياغو " وتحت شعار : " حضارة سوداء ، وكنيسة كاثوليكية " . وتحدث في المؤتمر الأب جان مارك إيلا ، من منطلق المسيحية الشاملة قائلا ما زالت الثقافة اليهودية المتوسطية تحمل المسيحية حتى الآن ، وهي ليست إلا ثقافة بين الثقافات وليست المسيحية مرادفة للرومانية .
تهدف هذه الإرادة في تحرير الإيمان من الاستعمار ، وفي جعل الثقافة الغربية سبية ، إنقاذ القيم الكونية المسيحية . وقد عبر عن هذه الارادة وبقوة الأب هجيا ، الجزويتي من الكامرون ، في كتاب له بعنون : انعتاق الكنيسة من الوصاية جاء فيه : " ليست المسيحية ديانة غربية ، إنما هي ديانة شرقية انتقلت إلى الغرب فطبعها بطابع لا يمحى من فلسفته ، وثقافته ، وقوانينه ، وقدمت إلى الشعوب الاخرى بهذا الشكل . علينا الآن ، أن نطبع نحن آثارنا التي لا تمحى على الديانة نفسها ، عن طريق التوقف عن إصباغ الالهام الإلهي على فلسفة أرسطو ـ توما ، والفكر البروتستانتي الجرماني ، والانجلو ساكسوني أو أشكال التفكير والأعراف الغاليت أو الأغريقية ـ الرومانية ، أو اللوسيانية ،والاسبانية أو الألمانية .
واستنتج الاب أوزانا من كلام مجرزويا أسقف يواندا:
" نحن الورثة الشرعيون للديانات الأفريقية التقليدية التي هيأت الإنسان الأفريقي ، كما لم تهيئ إنسانا آخر لقدوم يسوع المسيح ، فقد لعبت هذه الديانات دورا مشابها لدور العهد القديم ".
ونعتقد أن التفكير الجديد بالوحدة المتعالية ، كل اشكال الحكمة والديانات في العالم ، ضروري لتأسيس اقنومية غير محدودة بالطوائف المسيحية ، والتي ستزدهر بمساهمة كل الثقافات ، وإيمان كل الشعوب من أجل قدوم الإنسان الكامل .
وبهذا الشكل نجنب دعوة الحركات الروحية في العالم لإعادة قراءة رسالة المسيح ، من الارتباط بالاصطفائية أو التوفيقية ، إذ يتطلب الامر أن نطلق من ثقافاتنا الخاصة الحقائق الكونية الدائمة التي تقودنا إلى حياة كونية ، وتمنحنا الوعي بخصوصية شهادة يسوع في الملكوت .
لم يأت المسيح فقط ليتم وعودا وردت في العهد القديم ، إنما جاء ليرد على تساؤل كبير طرحه كل البشر حول معنى الحياة والموت .
إن الإيمان هو في البداية ، قطيعة وتعال ، وممارسة القطيعة والتحرر .
أما ما هو أكثر إثارة للحماس ومسببا للحيرة ، في أفعال المسيح ، وأقواله ، أنه لم يكن هناك أبدا حيث ننتظره ، فنحن ننتظر دوما قولا أو عملا ، يبرر عواقب غرائزنا البيولوجية ، ورغباتنا ومصالحنا وتاريخنا الفردي وثقافتنا وقوانيننا .
ولكن السمة الاكثر أسرا في حياة وموت السيد المسيح أنهما برئيا من كل تجهيز للشروط البيولوجية والنفسية والاجتماعية . إنها حياة لم تعرف الروتين يوما ، ولم يكن فيها شيء ينتج عن ماض ببساطة . كانت كل أفعاله اختيارا حرا مجردا من الأنانية أو ربقة التقاليد . إنه قرار جديد، وانبثاق شعري للإنسان .
وأنا لا أدعو للعيش وفق " قانون " المسيح ، ولكن وفق ما أسميه " شاعرية المسيح " ، أي الوعي بأن طبيعتي تملك القدرة على تجاوز الطبيعة ، والوعي أن كل فعل من أفعالي ، وكل حادث أكون شاهدا عليه ، أو أشارك فيه ، وبأن حياتي الشخصية ، وكذلك حياة المجتمع الذي أعيش فيه ، والتاريخ الذي أعاصره ، ليست كل هذه الامور إلا حلقات في سلسلة من الاسباب والنتائج ، إنها على ما هي عليه بسبب صلتها بالغاية النهائية ، وتقاس بموجبها ، فتعطيها دلالتها . إنها المعنى العميق لقدوم ملكوت يسوع .
ولا يجب وضع الملكوت في الفضاء البعيد أو بالزمن الآتي ، مثل أي يوتوبيا ، وإنما في اختبار الضرورات الآتية ، كأن ما أعتقده هاما في العالم وفي واجباتي سينهار في اللحظة الآتية ، وكأن عليّ أن أعيد النظر بكل تصرفاتي وأحكامي وفق هذه الحقيقة الاكثر عمقا والاقرب الينا من حبل الوريد ، ما دام الرب هو الآن هنا، في داخلنا ، وفي الخارج عنا . ملكوت لا يحتاج فيه العدل إلى قانون ، بل يسود في الحب كمبدأ .
وينبثق الايمان من داخلي حالما أتوقف عن سؤال نفسي : كيف ؟ أو أطالبها بالاجابة على : لماذا؟
وعندما أتساءل عن الغايات النهائية وليس عن الوسائل فقط :
ـ فإنما أتساءل عن المسألة الاساسية المتعلقة بأهدافي الشخصية والاجتماعية .
ـ اما فعل الايمان فيكسر حلقة عاداتي ومسلماتي .
ـ وعندما يتوقف السياسي عن الاهتمام بالوسيلة للتوصل إلى السلطة فقط أو حماية هذه السلطة ، ويتابع التساؤل عن الغايات الاخيرة للمجتمع البشري ، إمكانيات ابتكار ما يبرز في أعماق كل إنسان ، القدرة على اختيار هذه الغايات والمشاركة الفعالة لتحقيقها ، عندها يصبح هذا السياسي نبيا .
وعندما يتوقف الفنان عن الاهتمام فقط بتأكيد تميزه الفردي ، والعمل على هيمنة أسلوبه ، وانطلاقا من مهارته التقنية خاصة ، ويستعد للاصغاء ليصبح ضمير المجتمع ، ويجعل الوعي لمشروعه وأمله ومستقله ، عندها يصبح الفنان خلاقا .
عندما يرى المحب في حبه وسيلة عطاء لا أخذ ، لا عطاء ما عنده ، بل عطاء نفسه وذاته وعطاء حياته إلى درجة تفضيل حياة الآخرين عليها ، عندها سيتعلم ما قاله روزبيهان الشيرازي : " أن يفسر في كتاب الحب الإنساني ، لغة الحب الإلهي ".
ومع ذلك فهذا الانقطاع وهذا التعالي ليسا بعد ، الايمان .
فالايمان هو فعل التخلي عن الذات . هكذا كانت تجربة التخلي عن الذات والليلة الظلماء للقديس جان دولاكروا :
" أن أحول إلى صمت ، الرغبات التي تعتمل في داخلي بقوة ، أن انتزع نفسي من حدود وسطي الاجتماعي ، أن أمحو الصور التي تبهرني دون أن تستضيء بها نفسي ، أن انفصل عن كلمات ومفاهيم صنعت بغية التلاعب بالاشياء " .
ـ عمل التخلي هذا ، التخلي عن " الانا " الصغيرة ، بغية التخلي عن الذات ، والذي يدعوه اللاهوتيون المسيحيون Kenose والذي يدعوه بوذا في موعظة بينارس ، بالحقائق الاربعة المقدسة التي ترينا الطريق ، كما تعطينا تأملا زا ـ زن الخبرة ، هذا العمل من الزهد ، هو المقدمة الوحية الممكنة ليقظة حياة جديدة " اسم بوذا نفسه يعني اليقظة ".
تعني الحياة الجديدة أولا الوعي بأني لا استطيع الاكتفاء بذاتي ، وبأني لست موجودا إلا من خلال ترابطي مع الآخر وكل آخر ، حسب الصيغة الساطعة للصوفي البيرنطي كاليست (القرن الرابع عشر) : أنا أحب إذن أنا موجود .
ونحن هنا بعيدون عن فقر الديكارتية في مقولتها : أنا افكر إذن أنا موجود ، لانها تختصر الإنسان إلى مجرد فرد والروح إلى مجرد عقل .
وكشف الشيخ ابو سعيد وهو صوفي اسلامي من القرن الثالث عشر ، عما سماء سر الشيطان : " إذا قلت أنا تصبح شبيها بي " . والتجربة الاساسية هنا ، هي تجربة الصليب التي تنقطع عن كل الصور التقليدية للاله : القوة والجمال والعقل والعدل .
معرفة الله وشكره من خلال هذا المصلوب ، والمحبط ، والمعزول الضعيف الذي هجره الناس طالما لم يبد واحد منهم اشارة للدفاع عنه ، وطالما أن اقرب رفاقه إليه أنكره ، والضعيف جدا لأنه هجر أيضاً من قبل " أبيه " . وأمام الصرخة الاخيرة من الالم قبل أن ينتزعه الموت أطلق السؤال الممزق : لماذا هجرتني ؟
إن تجربة الايمان باكملها هي محاولة للاجابة على هذا السؤال المحير الذي يسمح لكل إنسان أن يعيش بشكل إلهي حياته كانسان ، أي حياة مع مسوولية كاملة عن مصيره الخاص وتاريخه الخاص : ليس فعل الايمان ، هو تأمل الصليب ، بل هو أن نحيا هذه التجربة المريعة والتي تحررنا من الصليب . من هنا فقط يبدأ الطريق الجديد ، طريق البعث . لأن المسيح لم يمت ، بل قتل . لقد اختار رجال أن يقتلوه وأختار هو أن يموت . هذا الفعل وهذا الاختيار يعطيان كامل معنى انبعاثه ، فموته ليس كموت كل الناس ، إنه اختيار لحياة جديدة ، ولن يكون بعثه عودة إلى حياة بيولوجية ، ولكنها بداية حياة جديدة .
والايمان هو فعل استقبال هذه الحياة الجديدة ، وانتشار هذه القوة ، وذيوع هذه البهجة .
الايمان هو تجربة الينابيع . فالايمان ليس تجربة حدودي ، إنما تجربة القدرة غير المتوقعة لتجاوز هذه الحدود . إنها ليست تجربة النقصان ، وإنما تجربة النماء في المركز وليست على الاطراف كما يقول بونهوفر .
الهوامش
ـ سونج : سلالة ملكية حكمت الصين من 960 إلى 1279 ، قضى عليها المغول .
ـ تاوـ التاوية : ديانة شائعة في الصين ، وهي مزيج من روح الطبيعة ، وروح الاجداد ، وعقائد لاوتسو ومعقتدات أخرى مختلفة . وتاو في الفكر الصيني هو المبدأ الأعلى وتجسيد لوحدة الكون والنظام . تشير عقيدة لاوتسو وتشوانج تسو إلى ضرورة تحرير الإنسان من العالم المادي الذي يعيش فيه كي يستطيع الوصول إلى العالم الحقيقي لتاو ، وهذا يعني الانخراط في تجربة روحية صوفية يستطيع المتعبد بموجبها الوصول إلى العالم الحقيقي .
ـ وقد صبغت هذه الديانة الحضارة الصينية بشكل عميق .
ـ زيوس : إله أسطوري يوناني ، هو جوبيتر عند الرومان فرض على الأرض العدل والنظام.
ـ جوبيتر : إله أسطوري عند الرومان ، يعتبر رب الأرباب وإله السماء والضوء والعاصفة والرعب ، وموزع خيرات الأرض وحامي المدينة .
ـ الفيدا: كتابات الهند المقدسة وهي كلمة تعني المعرفة ، كتبت في عصور متلاحقة ، وتتضمن مبادئ الديانة الهندوسية ويضم أشعارا وصلاوات وأدعية وتعاويذ وتسابيح ، كما تنظم بعض أقسامه الحياة اليومية للإنسان . وتعتبر الرمايانيا والمهابهارتا المصدران الرئيسيان المكتبوبان للهندوسية وخاصة القسم الاخير من كتاب المهابهارتا والمعرفف باسم باغافا جيتا . تقوم الفلسفة الهندوسية على فكرة إتحاد روح الفرد " الأنا " بالروج المطلقة ، بعد تخلصها من أدران الحياة المادية . ولكن الروح الفردية تعجز عادة عن الوصول إلى هذه الطهرية خلال حياة الإنسان القصيرة . وكي تحقق هذه الغاية النهائية على الروح أن تمر بمراحل متعاقبة ، وتطرد خلالها كل الشرور الموجودة فيها ، هذه الشرور التي تعيق الروح الفردية عن الذوبان في الروح الكلية أو المطلقة . على هذه الروح التي تسعى للوصول إلى الطهارة الكاملة أن تكفر عن كل أفعالها حتى يصبح بإمكانها الوصول إلى الحرية والخلاص . تنقسم الهندوسية إلى مرحلتين أساسيتين : المرحلة الملحمية والمرحلة البورانية . ويمثل كتاب أدفاييتافيدانتا المرحلة الثانية : ويدعوا إلى الايمان بوحدانية الوجود والعقل والمادة وتيضمن أفكار الفيلسوف الهندي سنكارا آشاريا " 820 ـ 788 ؟ ق . م " ، الذي كتب الاوبانيشاد وهو مجموعة مقالات فلسفية عميقة وسامية وتأملات ميتافيزيقية حول طبيعة وجوهر روح الكون . والعالم الظاهر بالنسبة لسنكارا وهم ، والحقيقة الوحيدة هي البراهمان أي الكائن المطلق الذي تستطيع الروح المطهرة وحدها أن تماثله . وتعتبر فكرة " أنت ، ذاك " أو " هو ، أنت " مفتاح تعاليم الاوبانيشاد . والمعرفة الصحيحة هي التي تقود النفس إلى التخلص من وهم أن لها وجودا مستقلا عن روح الكون . والمعرفة التي يقود إليها الفيدا هي التي تقود إلى زوال هذا الوهم والوصول إلى " النيرفانا " أو البركة الابدية .
ـ طاغور (1861ـ 1941) ، شاعر الهند العظيم . منح جائزة نوبل للآداب عام 1913 .
ـ يبدو أن الآيات التي تترجم رسالة يسوع والرسل إلى " خراف إسرائيل الضالة " :
1ـ لا توجد هذه الآيات إلا في إنجيل متى ، بينما لا نراها أبدا في مرقس أو لوقا .
2ـ يقول لنا شارحو السنوبس (بيريز بينو ـ بوانارو) أن هذه الآيات هي إضافات أدخلها متى مباشرة .
3ـ خالف أكثر مفسر لانجيل متى هذا التصور ، إذ أشار أن يسوع نفسه ، قد أضعف من شأن هذا الرفض لكل رسالة إلى الوثنيين عندما شفى ابنة امرأة كنعانية وثنية قائلا لها ! أيتها المرأة ، إيمانك كبير . (الاصحاح العاشر ـ غارودي) .
جاء في إنجيل متى (الاصحاح العاشر :
ـ " ثم خرج يسوع من هناك ، وانصرف إلى نواحي صور وصيدا . واذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة ارحمني يا سيد يا ابن داوود . اننتي مجنونة جدا . فلم يجبها بكلمة . فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين اصرفها لأنها تصيح وراءنا . فأجاب وقال لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة فاتت وسجدت له يا سيد أعنّي فأجاب وقال ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب فقالت نعم يا سيد والكلاب أيضاً تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها . حينئذ أجاب بسوع وقال لها : يا امرأة عظيم إيمانك ، ليكن لك كما تريدين . فشفيت ابنتها من تلك الساعة " .
ـ بوذا (563 ـ 483 ق . م) ، فيلسوف هندي مؤسس الديانة البوذية ، كرد على البراهماتية . يدعو بوذا إلى التخلي عن الشهوات والتي هي سبب آلام الإنسان ومعاناته ، وسيكون ذلك عن طريق إنكار الذات . يعتبر الدارسون موعظته الأولى ـ مشابهة في روحها وسموها الاخلاقي وأهميتها التاريخية بموعظة الجبل للسيد المسيح . تركت البوذية أثارا عميقة في معتقدات الهندوسية نفسها . قدر عدد البوذيين عام 1960 بـ 350 مليون إنسان منتشرين في الهند واليابان وتركستان وكوريا وبورما والتيبت وكمبوديا وغيرها . تأثر انتشار البوذية بالفتح الإسلامي في القرن الثاني عشر . تستند البوذية إلى مبدأين أساسيين : الآنا (الآتما) والكائن المطلق (براهمان) . وتتميز البوذية بالتسامح وانفتاحها على الطبقات ، وعلى الرجال والنساء على حد سواء ، والابتعاد عن التعصب الطائفي .
ـ جاء في أعمال الرسل ـ الاصحاح السادس والعشرين : " لأجل ذلك أمسكني اليهود في الهيكل وشرعوا في قتلي فإذا حصلت على معونة من الله بقيت إلى هذا اليوم شاهدا للصغير والكبير . وأنا لا أقول شيئا غير ما تكلم الأنبياء وموسى .
ـ فرانكو (1892ـ 1975) ، جنرال إسباني ورئيس دولة (1939ـ 1975) شارك في الحرب الأهلية (1930ـ 1939) التي قادته إلى إقامة حكم مطلق في إسبانيا .
ـ فاتيكان II : هو المجمع المسكوني الثاني ، عقد ما بين عامي 1963 ـ 1965 ، وبرعاية البابا يوحنا الثالث والعشرين ، وبولس السادس ، هدف هذا المجمع إلى تجديد الكنيسة أمام تطورات العالم المعاصر ، ولإستعادة المسيحية . وقد تميز أيضاً بحضور مراقبين غير كاثوليك ، كان المجمع المسكوني الأول قد عقد بين عامي 1869 ـ 1870 .
ـ التعالي Transcendamce : تفوق ، سمو ، عظمة ، وبالمعنى الفلسفي تعال (الوقوع وراء نطاق المعرفة أو الخبرة ، كينونة فوق الوجود المادي ومفارقة له . Tramcendant ، فائق ، مفارق (وصف يطلق للدلالة على سمو الله على المخلوقات ومفاوقته لها) .
ـ إنجيل متي : (الإصحاح الخامس والعشرون) : " ثم يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعّد لكم منذ تأسيس العالم . لأني جعت فأطعمتموني ، عطشت فسقيتموني ، كنت غريبا فآويتموني ، عريانا فكسوتموني ، مريضا فزرتموني ، محبوسا فأتيتم إلىّ فيجيبه الابرار حينئذ قائلين : يا رب متى رأيناك جائعا فأطعمناك ؟ أو عطشانا فسقيناك ؟ ومتى رأيناك غريبا فآويناك ؟ أو عريانا فكسوناك ؟ ومتى رأيناك مريضا أو محبوسا فأتينا اليك ؟ فيجب الملك ويقول لهم : الحق أقول لكم . بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الاصاغر ، في فعلتم ".
ـ بالمقارنة مع المسيحية الأولى ، في دراسة س . هـ . دود : " رموز ملكوت الله " التي جاء فيها : " لأن الوضع يتطلب تضحية ، فيبقى السؤال مطروحا . . أتريد أن تقبل ملكوت الله ؟ أتريد أن تجازف بحياتك من أجله ؟ " (غارودي) .
ـ جاء في سفر اللاويين : " لا تغضب قريبك ، بالعدل تحكم لقريبك . لا تسع في الوشاية بين شعبك . لا تقف على دم قريبك . أنا الرب . لا تبغض أخاك في قلبك . إنذارا تنذر صاحبك ، ولا تحمل لأجله خطية . لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك بل تحب قريبك كنفسك ".
ـ انجيل يوحنا الاصحاح 13 ، الآية 34 : " يا أولادي أنا معكم زمانا قليلا بعد . ستطلبونني وكما قلت لليهود حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا . أقول لكم أنتم الآن وصية جديدة أنا أعطيكم .

الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
الفصل الثامن

الفصل الثامن
كيف الخروج من المأزق ؟
انطلاقا من كشف حساب الثقافة الغريبة الذي نستنتج منه الخسارة والفشل ، ومن هذا الحج إلى الايمان وثقافة الآخرين " ونعني بذلك ايمان وثقافة أربعة أخماس سكان الكرة الارضية " يتوجب علينا أن نبرز الرؤى التالية :
ـ كيف الخروج من التناقضات والطرق المسدودة لنظام لا يستطيع قيادتنا إلا إلى الموت ؟
ـ أية استراتيجية يمكن أن تسمح لنا ببناء عالم بوجه إنساني ، نواجه به القرن الحادي والعشرين؟
يجب علينا ، من منظور " فلسفة الفعل " التي تحررنا من اشكال الهيمنة وليدة فلسفات الكائن الغربي على امتداد خمسة وعشرين قرنا ، الخروج من قياس أقرن ـ حسب تعبير المناطقة ـ كل حد من حديه خاطئ ، فحد يقول : يجب تغيير الإنسان بغية تغيير العالم ، وحد يقول : إذا غيرنا البنى ، فسيبزغ بالضرورة إنسان جديد .
لم ينجح الاخلاقيون ، وبشكل خاص المسيحيون أتباع بولس ، والمؤمنون بالطريق الاولى أي تحرير الإنسان من الهيمنات والعزل والحروب ، عن طريق الموعظة . لقد استمر هذا الفشل ألفي عام .
أما الآخرون فقد سلكوا الطريق الثاني معتقدين أنهم أكثر واقعية . وقد حملت " المسيحية " السوفيتية خلال ثلثي قرن وهما شبيها بأوهام الأولين : إذا بدلنا في بنى الاقتصاد ، ووضعنا نهاية للملكية الخاصة لوسائل الانتاج ، وألحقناها بالدولة ، فسيؤدي ذلك إلى ولادة الإنسان الجديد .
ولكنه لم يولد . أما عودة الرأسمالية ، فقد سمحت بولادة المافيا ، ونشوء ثروات مصارية وطفيلية بسرعة نمو الفطر السام ، رافقها البؤس والفساد والبغاء والمخدرات ، وكل الرذائل التي يتسم بها الانحطاط الليبيرالي .
وأصبح واضحا أننا لا نستطيع الفصل بين الخيارين : هذا الذي تأسس على تعالي الفعل الخلاق ، وذاك الذي يطلب من المبدع أن يحدد تخومه ، في هداية بعض الأرواح حتى ولو صاروا قديسين ، ولكنهم لا يملكون من الخيارات إلا الانعزال في " صومعة " أو العيش على هامش المجتمع .
في فلسفة الفعل لا يمكن فصل هاتين الصيغتين ، فليس الايمان والفعل إلا الظاهر والباطن للإنسان الكامل . فالايمان المنفصل عن الفعل سيتبخر إلى تقوى صافية ، إنما شخصية . أما الفعل المنفصل عن الايمان فيقود الإنسان إلى حيوانيته الأولى .
تنصهر الروحانية في الصراع من أجل تغيير البنى وتتشابك معه ، ولكنها لا تفقد أيا من أبعادها الباطنية .
وفي العودة اليومية للتأمل في الغايات الاخيرة لفعلنا ، ولوحدتنا الصوفية " مع الكل " ، نحمي عملنا من أن يختزل إلى البحث عن الوسائل والانتاجية والكفاية ، وسنعي أن الطبيعية بأكملها هي أجسادنا، وبأن روحنا مسكونة بكل الثقافات الإنسانية في تاريخها الكلي ، لا بـ " أنا " معزولة ، وبأن إيماني الذي يعبر عن نفسه بالثقافة يلتقي مع إيمان الآخرين الذين يعيشونه عبر ثقافاتهم ، دون رغبة " بهداية الآخر " ، أعني دون رغبة أن أختزل الايمان الاساسي للآخر ، إلى طريقتي في الحياة .
وغالبا ما يفسرون ويشوهون الصيغة التي اختصر بها لوكيه ، هذه الرؤية للإنسان : " يعمل ، ويتصرف بما عمل ، ولن يكون شيئا آخر غير ما عمله ".
ولن تشوه هذه الصيغة ، إلا عندما يحرم الفعل من بعده الباطني أو فاعليته .
واذا ما بدأت معركة بناء عالم آخر ـ وليس عالما آخر من الشطحات أو أحلام المدن الفاضلة ـ فإن عليها أن تتطور في ثلاثة مستويات : التربية ، والفن ، والسياسة ، وبطريقة ينصهر فيها فعل الايمان وفعل الخلق الفني ، والفعل السياسي ، في حركة فاعلة واحدة .
ـ قلب التربية :
ليس المطلوب اقتراحا " لإصلاح " النظام التربوي ، لأن محتوى وبنى التعليم القائم لا يحتاج إلى مجرد إصلاح ، بل إلى قلب جذري .
ولا نريد هنا أن نكتب تاريخا للتربية ، بل لنسجل فقط أنها لا تهدف حتى الآن ، إلا إلى إعادة إنتاج النظام القائم .
وينطلق نظامنا القائم من مفهوم نابليون الذي كان أول من وضع تصويبا لمجمل الدور التربوي ، بعد الثورة الفرنسية . كان همه الأول من تأسيس المدارس ، ايجاد الكوادر لجيشه ، وإداراته ، وإعادة إنتاج التعليم .
ومنذ ذلك الحين ، وبدءا من المونسينور فاتيمسنيل حتى وزراء التربية الحاليين ، جرت إصلاحات متعددة للاستجابة الافضل لاحتياجات النظام ، آخذين بالحسبان تطوره والمتطلبات الجديدة . فمع تطور الصناعة مثلا ، ازدادت الحاجة إلى تقنيين من كل المستويات ، وادى ذلك إلى ديمقراطية التعليم : الابتدائي أولا لمن لا يستطيعون أن يرتقوا إلى اكثر من ذلك بسبب ازدياد تعقيدات التنمية ، وتأهيل الآخرين ليصبحوا كوادر أو مهندسين . وقادت هذه الحاجة إلى إصلاح محتوى التعليم ، فأنزلت اللاتينية عن عرشها ، وكانت حتى ذلك الحين بطاقة المثقف ، واستبدلت بالرياضيات والعلوم الاساسية للتقنيات الجديدة .
ولكن هذا التكييف التربوي المتعاقب مع الاحتياجات الجديدة للنظام الاجتماعي ، حافظ باستمرار على ما هو ضروري : بقاء هدف النظام التربوي تكوين ، " نخبة " أصبحت متخصصة أكثر فأكثر في ميادين مثل الفيزياء النووية ، وعلم الوراثة ، والاقتصاد السياسي ، أو المعلوماتية ، ولكنها بقيت محرومة من ثقافة ، لا نقول عنها عامة ، وإنما شاملة ، أي أن تطرح هذه الثقافة مسألة الغايات الاخيرة للابحاث والمنجزات .
لهذا نقول أن الامر لا يتطلب اصلاح النظام وإنما قلبه وبشكل جذري . ولن يتحقق ذلك بمئة عملية اصلاحية ، سواء جاءت هبة من الحكومة ، أو قرارا من الهيئات الانتخابية والتشريعية . والطريق الصحيح هو تبديل العقليات التي تعمل على استمرار النظام القائم الذي لا يملك غايات إلا زيادة إجمالي الناتج القومي ، والاستهلاك ، والقوة، وغزو الاسواق .
أيتطلب الأمر أن : نفبرك " في مدارسنا اطباء اسنان ومهنيين أو عسكريين ، أم علينا أن نهيئ الإنسان كي يكون إنسانا ، نعني بهذا أن يكون خلاقا .
لهذا يتطلب الأمر تغييرا جذريا شاملا لمحتوى وبنى التربية .
وفي البداية علينا المساعدة في معالجة تراجع تعليم ثقافات الاخرين لابنائنا ، بالنسبة لثقافتنا الغربية ولا نعني أن يكون ذلك ، فقط في الكوليج دوفرانس ، أو " الدراسات العليا " ، أو اللغات الشرقية ، إنما لدى الجماهير ، لتعليمها ثقافات الاخرين ، وليس في المدرسة فقط باضافة ملحق للبرنامج المدرسي ، وإلا فلن يكون لدينا معلمون قادرين على تنفيذ هذه المباردة ، طالما أننا لا نكونهم إلاّ في " المدرسة الاوروبية " .
وسنكتفي بمثال واحد يعود إلى زمن قريب منا، وهو مثال الفلسفة ، نتساءل متى أدخل في برنامج " الاستاذية " وخارج الخط الذي يصل بين أفلاطون وهايدجر ، فلسفة تشوانغ تسو ، وفلسفة سنكارا والغزالي .
وأثناء ذلك ، وخارج المدرسة ، لن تعوز الفرص للالتقاء باولئك الذين يحملون تلك الثقافات : فليس الصينيون غائبين عن أمريكا وأوربا ، ولا الهنود عن إنكلترا ، والا العرب عن فرنسا ، ولا الترك عن ألمانيا .
الوراثة ، والاقتصاد السياسي ، أو المعلوماتية ، ولكنها بقيت محرومة من ثقافة ، لا نقول عنها عامة ، وإنما شاملة ، أي أن تطرح هذه الثقافة مسألة الغايات الاخيرة للابحاث والمنجزات .
لهذا نقول أن الأمر لا يتطلب إصلاح النظام وإنما قلبه وبشكل جذري . ولن يتحقق ذلك بمئة عملية اصلاحية ، سواء جاءت هبة من الحكومة ، أو قرارا من الهيئات الانتخابية والتشريعية . والطريق الصحيح هو تبديل العقليات التي تعمل على استمرار النظام القائم الذي لا يملك غايات إلاّ زيادة اجمالي الناتج القومي ، والاستهلاك ، والقوة ، وغزو الاسواق .
أيتطلب الأمر أن : نفبرك " في مدارسنا أطباء أسنان ومهنيين أو عسكريين ، أم علينا أن نهيئ الإنسان كي يكون إنسانا ، نعني بهذا أن يكون خلاقا .
لهذا يتطلب الأمر تغييرا جذريا شاملا لمحتوى وبنى التربية .
وفي البداية علينا المساعدة في معالجة تراجع تعليم ثقافات الاخرين لابنائنا ، بالنسبة لثقافتنا الغربية ولا نعني أن يكون ذلك ، فقط في الكوليج دوفرانس ، أو " الدراسات العليا " ، أو اللغات الشرقية ، إنما لدى الجماهير ، لتعليمها ثقافات الاخرين ، وليس في المدرسة فقط باضافة ملحق للبرنامج المدرسي ، وإلا فلن يكون لدينا معلمون قادرين على تنفيذ هذه المبادرة ، طالما أننا لا نكونهم إلاّ في " المدرسة الاوروبية " .
وسنكتفي بمثال واحد يعود إلى زمن قريب منا ، وهو مثال الفلسفة ، نتساءل متى أدخل في برنامج " الاستاذية " وخارج الخط الذي يصل بين أفلاطون وهايدجر ، فلسفة تشوانغ تسو ، وفلسفة سنكارا والغزالي .
وأثناء ذلك ، وخارج المدرسة ، لن تعوز الفرص للالتقاء بأولئك الذين يحملون تلك الثقافات : فليس الصينيون غائبين عن أمريكا وأوربا ، ولا الهنود عن إنكلترا ، ولا العرب عن فرنسا ، ولا الترك عن ألمانيا .
ربما كان هذا هو المستوى الذي يجب أن تبدأ منه الاشياء : توجه مختلف نحو المهاجرين الذين يحملون معهم ، واعين أو غير واعيين ، قيم مجتمعاتهم وإيمانهم الخاص .
وهكذا يصبح ممكنا ، في صفوف الجماهير، أن يبدأ التنبيه لوجود الاخر ، والغنى الإنساني الذي يحمله بداخله ، والوعي بأننا نستطيع أن نتعلم منه شياء ، لا أن نبحث من أعلى مركزيتنا الاوروبية ، عن طريق لاستيعابه ، أو تكامله مع انطاطنا :
ـ حيث أصبح العلم علموية .
ـ حيث أصبحت التقنية ، تكنوقراطية .
ـ حيث أصبحت السياسة ، مكيافيلية .
والعلموية : هي شكل من السحر ، أو بالاحرى أصولية شمولية ، تاسست على المسلمة التالية :
يستطيع العلم أن يحل كل المشاكل، أما مالا يستطيع العلم قياسه ، أو يخضعه للتجربة ، أو يتنبأ به فهو غير موجود . وتقضي هذه النظرية الوضيعة ، على الابعاد الاكثر سموا في الحياة : الحب ، الخلق الفني ، والايمان .
والتكنوقراطية : شبيهة بالسير أثناء النوم . فالتقنية من أجل التقنية ، دون أن تطرح اطلاقا مسألة الغايات . وتأسس هذا التفكير من مسلمة تقول : كل ما هو ممكن تقنيا ، مرغوب فيه وضروري.
هذا " العقل " يولد أسوأ اللامعقول . إنه يحتوي على السلاح النووي ، وحرب النجوم ، وديانة الوسيلة .
والميكافيلية هي هذه الحيوانية التي تتصف بها سياسة محددة بتقنية الوصول إلى السلطة ، لاهداف غير الاستجابة لغايات المجتمع الإنساني ، فتوضع الوسائل ، التي تؤدي إلى تحقيق هذه الغايات.
أمن أجل هذا نحن نفخر باستيعاب هؤلاء المهاجرين وتكاملهم معنا ؟ أليس من الافضل أن نضيف إلى إنسانية حقيقية " وعيا بأن فرنسا ، تغني ثقافتها منذ قرون بثقافات مزيج من عشرين عرق ، كما يقول ميشليه أو رينان .
ليست فرنسا " كينونة " سابقة على الفرنسيين . نحن نقول : أجدادنا الغاليين ، وكأننا لا نحمل في عروقنا إلاّ دم " فيرسنجتوري " . أو لا نحمل في ثقافتنا إلاّ هدي " كلوفيس " . إنها اساطير تستخدم حتى اليوم من أسوأ القوميين ، وكأننا لم نكن أيضاً رومانيين عندما استعمروا بلاد الغال ، أو جرمانيين مع الفرانك ، سلتيين مع البروتونيين والغزوات النورماندية ، أو عربا مع ما حمله شعراء الاندلس إلى شعراء التروبادور في الغرب .
ربما توجب علينا كي نحول ـ وعلى مستوى الجماهير ـ درب المفهوم الاستعماري ، إلى درب المفهوم المتناغم للتواصل بين الحضارات ، أن نبدل نظام التصدير الثقافي " للمتعاونين " . لقد حلمت طويلا ، ومن الخطورة أن يمتد هذا الحلم طويلا ، إلى ارسال " متعاون " من أصل آسيوي ، في الالف الثالث للميلاد ليقوم بوضع دراسة عن الاجناس التي تعيش في شبه الجزيرة هذه ، الواقعة في " أقصى آسيا " والتي تدعى أوروبا . وسيكرس عالم الاجناس هذا الذي كونته مبادئ البوذية في السيطرة على الشهوات ، أو على الاقل الحد منها ، تقاريره الأولى عن تقنيات تطور الطمع في عالم ما قبل التاريخ " لهذه القبائل البدائية " ، وتقنيات الترويج والاعلان والتسويق .
وسوف يذكرنا هذا العالم من خلال حرصه على الامانة العلمية في ذكر مراجعه ومصادره أن الصوفيين في أثينا ، وحسب أقوال أفلاطون ، اعتبروا أن الخير هو امتلاك أقوى الرغبات ، وإيجاد الوسائل لاشباعها . ويمكن لهذا العالم أن يضيف أنه وجد في نظام التنمية السائدة في " الحقبة الآثارية " للنصف الثاني من القرن العشرين نظام تنمية مازال يستند إلى مفهوم التنمية عند الصوفيين الاثينيين . لقد نجحت تقنية الطمع " الترويج ، التسويق … الخ " في خلق حاجات نمطية فأفسحت المجال بذلك ميدانيا للمشاريع المتعددة الجنسيات في العالم كله .
وسيلجا من خلال معالجة المظهر الطقسي لوحدانية السوق ، وديانة النمو في المناطق المعمورة ما قبل التاريخ ، إلى دراسة أنماط التربية لهذه العصبة المقدسة من التكنوقراطيين ، وأساتذة الحلقات الدراسية الجشعين ، والتلفزيون ووسائل الاعلام الاخرى ، انطلاقا من عقيدة اساسية : استبعاد كل ما يتعلق بالسؤال " لماذا ؟ "، وبالغايات الاخيرة للإنسان ، وسيصل من خلال بيولوجيا عصرنا ، مستفيدا من أبحاث لا يوري ، إلى نتيجة تفيد بأن تفوق شبه الجزيرة ، لم يكن نتيجة شيء آخر غير " دماغها الضخم " .
وسيتحدث لنا هذا العالم " المستغرب " ، " عن الاستشراق " هذه الحقبة ذات المركزية الاثنية ، وسيكون قرار اتهامه قاسيا ، وربما عموميا جدا ، لكنه مبني على بعض الامثلة المشهورة ، إنما مع الاسف ، بلا تعليل .
على سبيل المثال : كان المستشرق الأول ، سيد المستشرقين ، سيلفستر دوساسي الذي أطلع غوته على حضارات الشرق ، هو نفسه الذي كتب بيانات بـ ونابلرت عند غزوه مصر ، وبيانات الجيش الفرنسي عند غزوه الجزائر .
أما ماكس موللر ، وهو أحد الرجال الاكثر اهمية في تاريخ الاستشراق التقليدي ، فقد نظم في كامبردج فصولا دراسية بهدف اعداد إداريين انكليز للعمل في مستعمرتهم الهند . وكتبت السيدة روث بينديكت ، كتابها الجميل " السيف والاقحوان " عن اليابان ، بأمر من المكتب الحربي للجنرال ماك آرثر ، بغية الوصول إلى شكل افضل لدمج اليابان في النظام السياسي الأمريكي .
ويخشى أن تتحول هذه الفكرة المرعبة عن الاستشراق " إلى استغراب " ، أي الوقوف في موضع ينظر منه إلى الغرب بالمجهر ، بما يشبه فعل علماء الحشرات الذين يواقبون حشراتهم بالمجهر ، وكما نظر الغرب حتى الآن إلى البلدان غير الغريبة .
انطلاقا من التعامل مع المهاجرين يجب أن لا يبدأ تبديل التوجهات نحو الثقافات الاخرى في المدرسة أو الجامعة ، بل بين الجماهير ، منطلقين من المثالين اللذين أوردناهما ، أي المهاجرين والمفهوم أحادي الجانب للمتعاونين .
ولن نستطيع النفاذ إلى التعليم المؤسساتي إلاّ من " الاسفل " ، لان الحكومات ، اليسارية منها واليمينية والاحراب ، وحتى الطبقة الدينية ، لا يذهب أحد منها في هذا الاتجاه .
وسيكون الأمر نفسه بالنسبة للتاريخ الذي تحدث عنه بول فاليري في كتابه " نظرات على العالم المعاصر " حين يقول :
" التاريخ هو الانتاج الاخطر لكيمياء المثقف " ، فهو يجعلنا نحلم ، ويجعل الشعوب تتمثل ما يولد لديها من ذكريات كاذبة ، ويفجر ردود أفعالها ، ويلامس جروحها القديمة ، ويعذبها في فترات راحتها ويقودها إلى معاناة آلام العظماء ، أو آلام الاضطهاد ، ويعطي الأمم المرارة ، والعجرفة باطلة وغير محتملة .
ويبرزون من التاريخ ما يريدون تبريره . إنه لا يعلم شيئا على الاطلاق لانه يتضمن كل شيء ، ويعطي أمثلة على كل شيء " .
وقد رأينا سابقا الدور الذي لعبه التاريخ الرسمي في الآيديولوجيا القومية .
ويلعب نفس الدور في تبرير الاستثنائية الغربية ما داموا يقدمون لنا بشكل منسق ، معارك الماراتون ، وبواتييه ، مشوهة إلى حد كبير، فيتحدثون عن انتصارات خادعة للغرب على الشرق . فبعد قرن من نزاع الماراتون الذي افرط هيرودوت كثيرا في تقدير اهميته ممالأة للاثينيين ، الذين نقدوه أجوره فورا كما أوحى بذلك بلوتارك ، املى تيرميباز عام 386 باسم كسرى الفرس ، وبلغة السيد شروطه على المدن اليونانية بكثير من التعالي الذي أغضب ايزوقراط فخطب يقول:
" إنه هو الذي ينظم شؤون اليونان ، ويأمر بما يجب أن يفعله كل واحد منهم ، ويمانع تماما في تأسيس الحكومات في المدن .. ألن ندعوه بعد ذلك بالملك العظيم ، وكأننا سراه ؟ " .
وبعد قرون من معركة بواتييه ، كان العرب في ناريون ، فزحفوا مجددا إلى وادي الرون ، تشهد على ذلك كتابات لها طابع صوفي في كاترائية بوي وستصبح قراطبة خلال ستة قرون مركز الاشعاع الثقافي في أوروبا كلها ، ومركز اشعاع علمي كما يشهد بذلك روجر بيكون ، وشعري ، كما يشهد بذلك شعراء التروبادور في الاوكسيتاني ، وكذلك دانتي .
أما الجزء من البناء النفعي للتاريخ والمتعلق بالغايات السياسية ، لمرحلتنا المعاصرة ، فهو أكبر من سابقه بكثير ، لانه يسعى لتبرير ـ كمثال ـ الافراط في التسليح والهيمنة الاقتصادية . انهم " يفبركون " تاريخا للعدو كي يجعلوا منه شيطانا : كان الاتحاد السوفيتي، مثلا هو امبراطورية الشر ، وبعد انهياره وجد بوش في الإسلام بديلا لهذا الشيطان ، كي يجد مبررا لانتهاج نفس السياسة .
وبالمقابل فقد " الفوا تاريخا مقدسا " ، كان في البداية تاريخ العبريين ، ثم استأثر به المسيحيون الذين أرادوا أن يصبحوا هم ورثة هذا التاريخ ، كي يبرروا حروبهم الصليبية واستعمارهم للشعوب الاخرى .
يجب أن تعاد كتابة التاريخ ، لا من قبل هؤلاء المؤرخين الذين كونتهم هذه المدرسة ، وإنما انطلاقا من تبديل حقيقي في علاقات الشعوب ، وبشكل خاص مع الشعوب غير الغربية .
ويجب أن يترجم هذا الاقصاء الضروري للمركزية الاثنية الغربية ، عن مناهج التعليم ، إلى اعتراف بمنجزات كل شعب في مسيرة أنسنة الإنسان . ولكننا سنرى فيما بعد أن المدرسة لا تكفي وحدها للوصول إلى هذا الهدف .
ويلعب التاريخ الرسمي دورا قاتلا . وسوف نرى ذلك جليا عندما نتذكر كل الابداعات الصينية والهندية والاسلامية ، وكلها سبقت الغزو الغربي للعالم ، والذي وضع كل هذه الابداعات في خدمة ارادته في القوة والثروة .
إن التاريخ الرسمي الذي يعلموننا إياه في المدرسة أو في الموسوعات ، قد كتب دائما من قبل الغزاة . كانوا دائما يسعون لتصوير هيمنتهم ، أنها إنتاج تفوق ثقافتهم ، وليس فقط أسلحتهم . وفي وسط كل الاحتمالات الإنسانية ، فلم يحكى لنا إلاّ عن المنتصرين ، وعن التاريخ باعتباره تاريخ الهيمنة والسيطرة .
وينقسم التاريخ ، حسب المنظور الغربي إلى مراحل تحددها الاكتشافات التقنية . ويمكننا تقسيم حتى ما قبل التاريخ إلى عصر الحجر المقطوع ، وعصر الحجر المصقول ، وعصر البرونز، وعصر الحديد . وبهذا المنظور نفسه ، يدعون أن التاريخ الحديث بدأ عام 1492 ، مع بدايات الاستعمار ، ثم هناك عصر الآله البخارية ، والكهرباء ، ثم الذرة .
إنه المقياس الوحيد للتقدم والهيمنة ، لأن تقسيم التاريخ إلى عصور بدأ مع تشكل الإمبراطوريات ، ووجود سلالات حاكمة : في مصر أو الإمبراطورية الرومانية ، التي بنت لنفسها سدا ضخما من الحصون والجيوش ، واعتبرت كل من هو خارجه من البرابرة .
وماذا لو اختاروا معيارا آخرا ؟!
مثلا ، ولكي لا نذكر إلاّ ما ترك أثرا باقيا : الفن ، لكانت التواريخ ، والطبقات الحاكمة شيئا آخرا.
عندها يصبح رسم لحيوان البيزون للاسكو معاصرا لاقواس ماتيس ، ولوحة رولو صينية من عصر سونج في القرن الثالث عشر تكون متقدمة أو متخلفة عن أعمال روشنيرغ أو آندي فاروك ؟ وكاتدرائية تشارترز ، أليست ـ إنسانيا ـ اكثر تفوقا وأسمى من أعمدة بورن في القصر الملكي؟
أيستأهل باني تاج مجل " تغليفا " من كريستو . أين سيكون موقع الرامايانا في تسلسل التاريخ والطبقات ، بالمقارنة مع ملاحم طرزان وبطولات لا التسرمينيتور الماحق ؟ واين سنضع بروميثيوس لأسكيلوس بالمقارنة مع كتاب " سوف أبصق على قبوركم " لبوريس فيان .
وستتغير معايير التقديم أيضاً ، لو قارنا الاخلاق ببعضها وكذلك الديانات ، ولدينا عنها الكثير في الآثار المخطوطة .
ولدينا هنا أيضاً ، واحدة من اهم الثغرات في تعليمنا . لقد خلط مفهوم خاطئ للعلمانية في العلاقة بين مؤسستين : الكنيسة والدولة ، حيث اعتبر فصلهما عن بعضهما في فرنسا غزوة كبرى شهدتها بداية القرن ، وكذلك قاد خطأ في مفهوم آخر إلى الفصل بين بعدين للانسان : الايمان الذي هو بحث عن الغايات الاخيرة للحياة ، والسياسة التي هي اعمال الوسائل لتحقيق الغايات ما قبل الاخيرة والاكثر " بشرية " .
حرم هذا المفهوم المدرسة من التفكير بالغايات ، بحذفه نصوصا دينية أحادية الجانب (وهذا امر جيد لانه ضد المذهبية الضيقة لديانة ما) . ولكنه حذف مع هذا الاجراء كل النصوص المقدسة ، من الباجادافيتا إلى أنبياء إسرائيل ، ومن الانجيل إلى القرآن .
وليس من ضرورة لتضمين هذه النصوص في برنامج مدرسي ، لاننا لن نجد إلاّ القليل من المعلمين القادرين على التجرد عن الانحياز إلى دياناتهم الخاصة ، أو إلحادهم ، كي يستطيعوا مساعدة الطالب على التأمل في الغايات الكبرى التي تتوج كل الثقافات . المطلوب وضع هذه النصوص في متناول اليد ، في قاعات مخصصة لهذا الغرض يؤمها البالغون من كل الاعمار ، ومن كل المستويات الثقافية ، وسيتكون هناك معلمو المستقبل ، للتدريب على هذا التأمل للغايات الاخيرة ، أو على الاقل لخلق مواطنين واعين لمشكلة معنى الحياة .
2 ـ الفنون " التاريخ المقدس " للإنسانية " .
إن التدريب على هذه المسألة ، التي تجعل من الإنسان انسانا ، يمكن أن يتحقق أيضاً عبر الاعمال الفنية . ففي كل لحظة ينكسر فيها التاريخ ، تشع أمام الإنسان مجموعة من الاحتمالات تنتشر كالمروحة ، حيث ينتصر احتمال واحد فقط ، وهو ما يسجله التاريخ . أما الاحتمالات الاخرى ، فليس لديها شهود ، إلاّ أعمالا تنبئ عن المستقبل . ولا نتحدث هنا فقط عن أعمال العالم المستعمر ، التي كان مكانها والى عهد قريب في متاحف الاجناس كاعمال " بدائية " ، مثل الاقنعة الافريقية ، أو البولينيزية ، وانتهاءا بالتكعيبة التي أيقظوها ، أو الفنون الهندوأمريكية التي أعجب بها دوهرر ، والتي أحرقها الاسقف ديغودولاندا بإعتبارها رموزا للكفر ، على غرار محاكم التفتيش ، بينما كان يطالب بأشعار مقدسة ، وكذلك " البويول فو " التي دمرت وكأنها أوثان ، لانها كانت محفورة من الحجر أو التماثيل التي أذابها مرتزقة بيزار في سبائك لانها كانت من ذهب .
وحتى داخل أوروبا فقد ، انعكس الحصار المفروض على الأمم على المدرسة نفسها إذ لم يكن مسموحا احياء الاعمال التي تطرح مسألة معنى الحياة .
وتوجب انتقاء الخيار الروسي لإحياء دراما الممسوسين عند دوستوفسكي في الاخوة كرامازوف ، أو " الأبله " المهيب ، يسوع الذي بعث في عالم لا يمكن العيش فيه ، وكما هو في دون كيشوت لسرفانتس ، الفارس النبي الذي آمن أن المثالية هي اكثر حقيقة من الواقع . وعلينا انتقاء الخيار الانكليزي لإحياء دراما عصر النهضة عبر شكسبير أو الخيار الألماني مع وليم مايستر لغوته ، أو مع إشعار هولدرلين .
وحتى في الادب الفرنسي ، تفسح الكتب المدرسية مكانا لجان جينيه ، مثلما تعطي لرومان رولان أو برنانو أو مورياك ، وأحيانا مكانا أوسع .
ونادرون أولئك الذين تجرأوا أن يصرخوا أمام ضلالات بوبورج ، المركز الاكثر استقبالا للزوار : الملك عار! ، كما جعله ـ وبكل جرأة ـ الرسام ماثيو أو البروفيسور فورمارولي الذي استنكر ما سمي بـ " سوق الفن ".
من يتجرأ أن يقول خلسة أو همسا ، أن الديسكو بقوة 120 ديسيبل إنما يدخل في تاريخ الضجيج وليس في تاريخ الموسيقى .
سيمضي وقت طويل من القرن الحادي والعشرين ، حتى يجرؤ مؤرخ بعيد عما هو شائع ، وعن التفكير الاحادي ، والارهاب الثقافي ، أن يقيم الثلث الاخير من القرن العشرين من منظور الثقافة ، مثلما استطاع التلفزيون ، والحانات ، وصالات العرض ، أن يقنعنا بأن نيكي دوسانتغال كان نحاتا وبرنارد هنري ليفي كان فيلسوفا ، وأن كونينج كان رساما ؟
إنه عدوان تحت شعار الحداثة المزعوم ، طالما هناك " أطفال شيوخ " يحملون أفكارا بالية ، يشوهون ساعة اللوفر في باريس ، والقصر الملكي ، أو الجسر التاسع بمساعدة وزراء معادين للثقافة .
يجب أن يبدأ تكوين الحس الجمالي الحقيقي لدى الإنسان من المدرسة ، ومنذ الطفولة. ويجب أن يكون لتعليم القراءة والكتابة والحساب واستخدام النظام الآلي ، والهدف عدم تراكم المحفوظات ، لإفساح مكان للروح الخلافة بدلا من الآلة ، إذ يمكن للآلة أن تمارس أفضل منا ، كل مناهج الحفظ والتركيب ، ماعدا العمل الخلاق الذي يعطي لكل أفعالنا غايات كونية .
ولكن التربية ، لا تستطيع حتى في بنيتها أن تنمو منفردة في المدرسة ، ولا في السنوات الأولى من العمر فقط .
ولقد أصبح تطور العلوم والتقنيات المختلفة ، والعلاقات فيما بين الافراد والشعوب على مستوى العالم سريعا جدا ، بحيث نستطيع القول أن رجلا في الثمانين من عمره قد ولد في وسط التاريخ الإنساني ، إذ أن ما حدث من تطور في هذا القرن ، أكبر من ستة آلاف عام من التاريخ البشري.
ولنضرب مثالا على ذلك : يمكن لأستاذ في الطب وصل إلى عمر الثمانين أن يقول لي : أنا لم أتعلم كتلميذ أكثر من 3 % من المعارف التي استخدمها اليوم . ويمكن لفيزيائي ذرة من نفس العمر ولكنه معاصر لعلوم فيزياء الذرة الآن ، أن تكون معلوماته مساوية لمعلومات فيزيائي ذرة في الخمسين من عمره ومعاصر للعلوم ذاتها .
ولن نتحدث عن طلبة عام 1968 الذين وضعوا على مدخل السوريون لافتة كتبوا عليها : " كلية الآداب والعلوم اللاإنسانية " ، وهم محقون في ذلك .
إذن لا يمكن أن تبقى المدرسة محددة ببداية حياة الإنسان فقط ، بل لابد من وجود فترة تكون فيها الحاجات الإنسانية مشبعة ، من خلال عمل يمتد ثلاث ساعات يوميا فقط . عندها تستطيع المدرسة أن تمتد على مدى العمر كله لتخلق شعراء في كل الفنون وتلبي أعلى احتياجات الخلق لديهم .
ويجب أن يتكون التدريب ، بدءا من تدريب العمال اللازمين للصناعة ، مرورا بتشكيل الكوادر الفنية والباحثين ، هناك حيث يكون تكوين المعرفة تحويلا مستمرا : في المصنع ومراكز الادارة ومراكز الابحاث في جبهة خلاقة ، من العمل الإنساني متجددة باستمرار .
أما المدرسة ، بما هي عليه اليوم فهي مؤسسة بالية ، تتصل باحتياجات مرحلة معينة من التاريخ ، ولكنها لا تلبي الاحتياجات الحقيقية للإنسان .
وهذا هو السبب الرئيسي لسخط التلاميذ والطلبة شأنهم في ذلك شأن المعلمين والمدرسين ، ولن يستطيع أي " إصلاح " لهذا النظام أن يجعل منه أداة لتكوين المستقبل .
والمبادرة في الفعل الخلاق ، لها مكانتها المميزة في الفنون ؛ عندما لا تكون هذه الفنون ، زمن الانحطاط ، انعكاسا للفوضى المحيطة ، أو تمردا سلبيا عليها .
ومن المهم أن نتذكر دوما الدعوة الاساسية للفن : خلق إمكانيات جديدة لتقدم الوحدة الإنسانية . ويتوقف الفن عن كونه فنا عندما تغيب عن وعيه هذه الرسالة النبوية ، وهذا النداء للتعالي الإنساني ، لجوهره الصلب والخلاق ، مثلما فعل شعراء المهابهارتا ، ورسوم تاو الصيني ، والرهبان الذين ترجموا الحماسة الصوفية رسما ولونا ، ومثل روبيليو الذي أبدع أيقونة الثالوث ، ومثل الذين أبدعوا معبد بوروبودوار ، ومساجد قرطبة وكاتدرائية تشارترز ، ومثل فإن كوخ المصلوب على صليب الفن . أو سادة التجريد الغنائي مثل مانسييه أو ماتيو .
من سيعطينا من جديد حماسة بروميثيوس منحوتة في لوحة " العبيد ، مقيدين " لمكلانج ، أو التركيز على الكينونة " للحي اليقظ " لبودادوماتورا .
ومن المحتمل أن توضع أيضاً خارج المدرسة أو باستخدام تقنيات النسخ الدقيق ، وفي أيدي الجميع نسخ من الاعمال لنحاتين من كل أنحاء العالم باستخدام خلائط من الصموغ التركيبية التي تسمح بنقل المعالم بدقة نظام الميكرون . وستسمح لنا أعمال كهذه ، توضع تحت ناظرينا على الدوام ولا تكلف اكثر من ثمن وجبة طعام ، أن نتخلص من سموم موجات الرعب ، و " التأثيرات الخاصة " ، وأعمال العنف التي ترسلها هوليود إلى شاشاتنا الصغيرة ، فهذا النوع من المشاهد ، يدمر الفكر الناقد ، ليس أمام الحلم ، وإنما أمام الكابوس الامريكي ، بما يحلمه من أوهام بشعة في مسلسلات دالاس ، ورعب الديناصورات ، ورجال شرطتهم ، أو " التأثيرات الخاصة " ليوم الاستقلال الخالية من كل إنسانية .
3ـ السياسة وغائية الإنسان :
لا نرى هذا الكابوس فقط على شاشاتنا ، إنما في قلب الحياة ذاتها ، وعلينا أن نصارعه في هذا الميدان بالذات . عندها لا تصبح السياسة إلاّ الظاهر من باطن الفنون والايمان .
إن نية الولايات المتحدة في الهيمنة على العالم كله ، أصبحت واضحة جدا ، (عن طريق تدمير الحياة التي يزعمون أنهم يصدرونها ويفرضونها على العالم كله) ، وتثير غضب العالم بأكمله . وحتى أوروبا ، التي تشاركها في امتيازات الغرب ، بدأت تستيقظ من خدرها الطويل الذي منعها من أن تعي أنها بدأت تصبح تابعا إن لم تكن مستعمرة .
ويملك القادة الاسرائيليون ، الملهمون للسياسة الأمريكية وسادتها ، القدرة للوصول إلى الرأي العام في البلدان الدائرة في فلك الولايات المتحدة ، عن طريق وضع اليد على وسائل الاعلام من السينما إلى النشر ، ومن الراديو والتلفزيون إلى الصحافة المكتوبة . ويستطيعون بهذا الشكل أن يموهوا ولو لفترة من الزمن ، الانحرافات القاتلة في السياسة الأمريكية ، الهادفة إلى الهيمنة . وقد رسموا لها أهدافها المتعاقبة : العراق لتدميره أولا بالسلاح ، ثم بالحصار الذي قتل من البشر اكثر مما قتل السلاح ، وهم يطمعون بعد العراق ، في فرضها على إيران ، وليبيا ، وكوبا ، وكل الدول التي ترفض إملاءات صندوق النقد الدولي ، القاتلة لكل الشعوب .
كانت الشيابا في المكسيك ، الانتفاضة الأولى ، وهي نمط من الانفجارات الاجتماعية التي تقع بسبب سياسة الحرية الاقتصادية التي تسمح للاقوياء بالسيطرة على الاكثر ضعفا واستغلالهم . كما تبدت بأعمال العصيان ضد سياسة صندوق النقد الدولي التي تتطلب إضافة إلى الخصخصة وكل الاجراءات التي تسمح للولايات المتحدة بغزو البلاد الخاضعة لإملاءات الصندوق ، تتطلب ضغط الانفاق الاجتماعي ، بهدف تسديد القروض وفوائدها .
وأخذت المقاومة اتساعا خاصا في المكسيك ، لأن سياسة الهيمنة فرضت عليها بموجب اتفاقية التبادل الحر " المعروفة باسم ALENA بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك ، والتي ألغت كل قيود التبادل التجاري والاستثمار .
لنتذكر معا علاقة القوى الاقتصادية بين البلدان الثلاثة :
الولايات المتحدة كندا المكسيك
التصدير " بمليارات الدولارات " 8 , 393 7 , 127 2, 27
الاستيراد " بمليارات الدولارات " 8, 494 7, 116 4, 38
وأخذ العجز التجاري للمكسيك مع الولايات المتحدة يتصاعد بعد رفع الحواجز ، سنة بعد سنة . وتتوقع المادة 102 من الاتفاقية :
1ـ إلغاء العقبات في وجه التجارة ، وتسهيل حركة الممتلكات والخدمات .
2ـ تشجيع ظروف المنافسة الشريفة .
3ـ الزيادة الجوهرية في فرص الاستثمار .
إذ لا تكتفي المعاهدة بالتبادل التجاري ، فالاستثمار يشكل جزءا من الاتفاق (المادة 103) الذي ينص أن يمنح كل بلد العضوين الاخرين ، شروطا تفضيلية للاستثمار على الاقل بنفس القدر الذي تتمتع به الاستثمارات المحلية ، وذلك فيما يتعلق بالتأسيس ، والتملك ، والتوسع ، والادارة ، والبيع ، وكل الاحكام الاخرى التي تتعلق بالاستثمار .
اتجه 60% من رأس المال الاجنبي في المكسيك إلى اسواق البورصة ، وكرس ما تبقى منه (40 %) لشراء المشاريع الحكومية التي أخضعتها الحكومة للخصخصة .
ولم تكن النتيجة فقط أن رأس المال الأجنبي، لم يؤسس أية صناعة جديدة ، ولا فرص عمل جديدة ، إنما العكس هو الصحيح ، فقد أدت الخصخصة إلى انخفاض فرص العمل . أما الارباح التي تتحقق بسرعة في البورصة ، وكذلك تبخر رأس المال فهما خاضعان لظروف اليوم الواحد . فما أن تحدث مشكلة صغيرة ، أو تنخفض الارباح ، حتى تفر الرساميل بسرعة من البلاد ، لقد ادى اعتماد الاقتصاد المكسيكي على رأس المال الاجنبي إلى فقدان البلاد لسيادتها .
فاد الفارق الكبير في مستوى التطور بين المكسيك من جانب ، وكندا والولايات المتحدة من جانب آخر ، إلى لجوء الرساميل الاستثمارية الاجنبية للعمل منفصلة عن رأس المال الوطني ، مستخدمة تجهيزات تقنية اكثر تطورا من التجهيزات المحلية ، مما دفع بالمشاريع الوطنية إلى التوقف عن العمل واختفاء الايدي الماهرة العاملة في هذه المشاريع .
أما ما يتعلق بالزراعة ، فقد قادت الاجراءات التي اتخذتها المكسيك ، لتصبح مؤهلة للمشاركة في اتفاقية (ALENA ) إلى تعديل اجراءات واحكام انتقال الأرض ، وتنظيم الملكية الزراعية التي حددها الدستور ، فتحت مزاعم زيادة الانتاجية وفق منطق الحرية الجديدة ، توجب على الفلاحين مواجهة الملكيات العقارية الضخمة ، والشركات متعددة الجنسيات العاملة في ميدان الزراعات الغذائية ، ففقدوا بذلك وسيلتهم الوحيدة للقوت .
وفي سياق هذا الوضع ظهر جيش زاباتا للتحرير الوطني .
كان منع المساعدات المالية عن الانتاج الزراعي بموجب المادة 704 من اتفاقية (ألينا) . قد ترك المنتجين المتوسطين في المكسيك دون فرص أو إمكانية لمجاراة الزراعة الواسعة في الولايات المتحدة وكندا .
ونورد في هذا المجال جزءا من خطاب ألقاه احد قادة عمال النسيج المكسيكيين في المؤتمر الدولي للعمل في سان فرانسيسكو (1995) :
" ينكر القانون الجديد على كل العاملين المكسيكيين حقهم في الاضراب للمطالبة بزيادة الاجور . وأما المسموح به فهو فقط الاضرابات المتعلقة بالاخلال بنصوص العقود .
وتخضع المكسيك كلية ، لإتفاقية (ألينا ALENA ) وبدأنا نشهد إغلاق مئات المشاريع الصغيرة . لقد قبل لنا بأن " معلمي " هذه المشاريع لن يستطيعوا بعد الآن مجاراة المنتجات الاجنبية . واذا أردنا أن نساعد أصحاب هذه المشاريع كي تستمر توجب علينا نحن العمال أن نتعاون معهم . ثم استخدم التهديد بإغلاق المصانع لفرض تنازلات على العمال ، تنازلا بعد الآخر ".
وطبقا لنصوص (ألينا) فقد جرت سلسلة من عمليات الخصخصة للمشاريع الوطنية والخدمية .
كما تكاثرت الاتفاقات الانتاجية بين الحكومة وأصحاب المشاريع والنقابات الرسمية .
لم يقتصر اتفاقيات (التعاون) هذه على القطاع العام والخاص الانتاجيين ، بل أمتدت إلى قطاعي الصحة والتربية . فقد ارتفع عدد طلاب الصفوف المدرسية عمّا كان عليه ، وجرى الأمر نفسه بالنسبة للأطباء والممرضين والممرضات العاملين في الدولة ، إذ ضوعفت واجباتهم تقريباً ، مما أداى إلى انحدار مستوى الخدمات الصحية ، بشكل درامي . أما الاجازة المرضية للعاملين فقد ألغيت .
إن التنافس بين بلدين غير متساويين يؤدي إلى تدمير الاضعف منهما ، وهو منطق فقط الاربعة وعشرون مليارديراً مكسيكيا (فوق المليار دولار) .
وتولد هذه الخبرة الاولية التي نستخلصها من قيام التبادل الحر بين بلدان قوية اقتصاديا ، وبين بلدان ضعيفة بسبب تبعيتها ، تولد ما سوف يحدث على مستوى العالم كله ، فيما لو نجح القادة الأمريكان في (عولمتهم) الاستعمارية .
كما تهدينا التجربة نفسها إلى دروب التحرير : وحدة كل القوى العاملة ، والفكر المعادي للاضطهاد.
كانت جماعات هندية قد حملت السلاح في شيانا في 1 / كانون الثاني 1964 باسم (جيش التحرير الزاباتي) . وزاباتا هو اسم القائد الموهوب للعصيان الهندي الفلاحي الأول عام 1911 ، حيث أعطت المقاومة من خلاله ، الامل لكل المضطهدين .
تلقت الحركة مساندة طيبة من أسقف شياباس (شياباس ، هي المدينة التي دافع أول أسقف فيها ، عن الهنود بعد الغزو بقيادة كورتز) .
كان اسقف شياباس هو المونسينيور سامويل رويز قد وصل إلى شياناس عام 1965 . وشارك عام 1968 في مؤتمر أساقفة أمريكا اللاتينية الذي ولدت من خلاله لاهوتيات التحرير . وفي عام 1975 نشر المونسينيور رويز كتابه " اللاهوت الانجيلي للتحرير" الذي قدَّم فيه المسيح يسوع كنبي ثوري ، وأنشأ في أبرشيته 2600 مجموعة قاعدية ..
إن وضع منصب ذو طبيعة معادية للعنف ، في خدمة جيش زاباتا دفع الحكومتان المكسيكية والامريكية في آن واحد إلى اتهامه بإثارة الهنود ، ثم طلب البابا يوحنا بولس الثاني عن طريق مبعوثه البابوي في مكسيكو ، من الاسقف أن يقدم استقالته . ولكن الحكومة المكسيكية وأمام اتساع الحركة المسلحة ، وجدت نفسها مرغمة على الاستعانة به كوسيط . لذلك بقي في منصبه ، وشرح في مؤتمر عام أسباب العصيان ، فقال :
" لقد تعب السكان الاصليون في البلاد من الوعود الحكومية ، واعتقدوا أنه لم يبق أمامهم طريق آخر إلاّ حمل السلاح . لقد دُفعوا دفعا لينفد صبرهم " .
يعود تركيزنا على المكسيك إلى ثلاثة أسباب :
1 ـ لا يمكن فهم الوضع الحالي للمكسيك خارج السياق التاريخي لأمريكا اللاتينية ، والتوسع الاستعماري للولايات المتحدة ليشمل القارة بأكملها . ويرسم وضع المكسيك المسار الاكثر نمطية لتاريخ بلدان أمريكا اللاتينية .
2ـ تعتبر الازمة الحالية ، الظاهرة الأولى التي تحمل دلالة فعلية على انهيار تدريجي لنمط الليبرالية الجديدة ، المرتكزة إلى وحدانية السوق بسبب تناقضاتها الداخلية . وبسبب المعارضة المتزايدة للشعوب التي فرضت عليها . وما انتفاضة الشياباس إلاّ نموذج لما سيحدث آجلا أم عاجلا في عالم المضطهدين كله .
3 ـ أنشأت اتفاقية (آلينا) " وهي نفسها اتفاقية ناقية بلغة الاطلسي " ، سوقا حرة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك ، مستلهمة نفس المنطق الذي أوحى إلى أوروبا بوضع معاهدة مايستريخ ، وبعبارة أكثر عمومية بنفس المنطلق التجاري الحالي الذي تريد الولايات المتحدة فرضه على العالم كله .
ومنذ ذلك الحين ، أخذت حركة شياباس النموذجية ضد الهيمنة الأمريكية ، أبعادا جديدة .
قرر كلنتون لأسباب انتخابية قذرة ، وهي منافسة الجمهوريين في قاعدتهم الانتخابية ، عن طريق كسب أصوات الكوبيين المعادين للثورة ، والاقوياء في ولاية فلوريدا ، إلى تشديد الحصار على كوبا بتنفيذ القوانين التي وضعها الجمهوريون أنفسهم وبشكل خاص القانون المعروف بـ هلمز ـ بورتون ، والذي يعاقب المؤسسات الاجنبية التي تنشئ استثمارات لها في إيران وليبيا . ولم يثير الاجراء غضب ضحاياه الاوائل من أبناء الشعب بسبب تدخله في المكسيك فحسب ، بل أثار أيضاً غضب شركات متعددة الجنسيات لها استثمارات في كوبا " كما في إيران وليبيا " .
وإنه لأمر ذو دلالة أن قانون هلمز ـ بيرتون الذي أقره الكونغرس بمبادرة من الجمهوريين في 3 كانون الثاني 1996 ، قد وقعه كلينتون في 12 آذار والقاضي بفرض عقوبات دولية ضد حكومة فيدل كاسترو، بغية المساعدة في وصول وشيك وبالطريق " الديمقراطي " لتشكيل حكومة جديدة في كوبا .
ويكشف هذا الموقف عن خداع ودجل ما يسمى بالتعددية الحزبية في الولايات المتحدة ، إذ يحكمها بشكل دائم حزب واحد ، هو حزب المال (ويكشف دخول الملياردير روس بيرو حلبة الانتخابات الرئاسية عن حقيقة هذا الخداع . ويحمل قادة حزب المال سواء كانوا ديمقراطيين أو جمهوريين ، الهم الاكبر نفسه ، وهو فرض الهيمنة على العالم كله ، لفتح الاسواق لمشاريعهم بدون عوائق .
وكانت المكسيك التي قبلت نير وعبودية (ألينا) ، هي الضحية الأولى . كانت مجموعة دوموس الاختصاصية بالاتصالات اللاسلكية قد استثمرت في كوبا 700 مليون دولار ، فمنع مديرها مع عائلاتهم ، وحتى أطفالهم من الاقامة في الولايات المتحدة ، منذ أن وضع قانون هلمز ـ بورتون ، موضع التطبيق في 24 آب 1996 .
وهكذا أصبح قانون أمريكي ، له قوة القانون خارج الولايات المتحدة ، تشريعا للعام كله .
ولم يتوقف تدخلهم عند هذا الحد . ففي نفس اليوم أي في 24 آب ، ومن خلال تطبيق نفس القانون الاحادي الجانب ، وجهت ضربة للمؤسسة الكندية شيريت (انترناشيونال) ، فقد تسلمت الشركة إنذارا مدته 45 يوما لتضع حدا لاستثماراتها في مناجم كوبا " وبشكل خاص استخراج ومعالجة النيكل " . واذا تجاوز الأمر هذه المدة دون تنفيذ مضمون الانذار ، ستقوم سلطات البوليس والجمارك بمنع مديري هذه المؤسسة وعائلاتهم من دخول الولايات المتحدة ، علما أن اثنين من المديرين من بريطانيا .
أثار هذا الاجراء غضب حكومة كندا ، لانها الشريك التجاري الأول لكوبا ، إذ يبلغ حجم التبادل بين الدولتين 500 مليون دولار سنويا .
هنا ، تعطينا " اتفاقية ألينا " كل معناها الحقيقي ، إنها التجربة الأولى التي توضح كيف تؤذي الهيمنة الأمريكية شركائها " الاتباع " .
وأعلنت الحكومة المكسيكية ، يدعمها القطاع الخاص في الاقتصاد المكسيكي رفضها لهذه الاجراءات المخالفة للحقوق الدولية . كما اقترحت الاحزاب الرئيسية الاربعة التصويت على قانون للرد على مثل هذا الاعتداء على السيادة الوطنية . وقال بيان الاحزاب : ( علينا أن نطبق قانون المعاملة بالمثل : " العين بالعين والسن بالسن " ) لحماية المشاريع الوطنية من التوقف بسبب ضغوط خارجية ، ولبناء نظام معونة لمصلحة الذين سيرفضون الخضوع للضغوط الاجنبية .
وحتى حكومة زيديك ، المعروفة بخضوعها التام لأوامر واشنطن ، قامت بالتشاور مع الحكومة الكندية لتشكيل جبهة مشتركة لمواجهة مثل هذه الانتهاكات والتشاور حول الاتفاقية التي تنص المادتان 1105 و 1603 على التعامل بحقوق متساوية بين الاطراف الثلاثة ، في الاستثمار وحرية تنقل رجال الاعمال في الدول الاعضاء ، وهما مادتان انتهكتا بمنتهى الوضوح في قانون هلمز ـ بورتون .
كما قررت الحكومة المكسيكية أن تعرض الأمر على منظمة الدول الأمريكية ، والاتحاد أوروبي ، لدعم هذه الجبهة ومواجهة الاطماع الأمريكية . وكانت منظمة الدول الأمريكية قد عارضت مرارا تشديد الحصار على كوبا .
أما أوروبا ، فقد مستها أيضاً وقاحة القادة الامريكان الذين ينوون فرض قوانينهم على كل " حلفائهم " ، والذين أرادوا أن يجعلوا منهم أتباعا ، كما توحي بذلك النصوص الملحقة بمعاهدة مايستريخ " لا يمكن لأوروبا إلاّ أن تكون الركيزة الاوربية لحلف الاطلسي ".
وأعلن الناطق الرسمي باسم المفوضية الاوربية كلاوس فإن دريا ، معلقا على قرار وانشطن بمنع خمسة من قادة مجموعة الاتصالات اللاسلكية المكسيكية " دوموس " من دخول الولايات المتحدة قائلا :
(إن عمليات كهذه غير مقبولة ، ونحن لن نقلبها ) .
أما على المستوى القانوني ، فالحصانة الدبلوماسية ، والتصرف من جانب واحد ، يشيران إلى مدى انحراف قانون هلمز ـ بيرتون . لقد قررت الولايات المتحدة دون أن تستشير أحدا أن تطبق أحكام القانون بحق مواطنين ليسوا أمريكيين ، وتتعلق بأعمال تجري خارج أرضها . ويجري كل ذلك في الوقت نفسه الذي تدرس فيه الغالبية العظمى من البلدان ، وعبر المنظمة الدولية للتجارة تأسيس قواعد مشتركة لتشجيع التجارة العالمية . وهذا ما دعى إلى ظهور رد فعل أوربي جماعي لرفض هذا القانون ـ قانون هلمز ـ بورتون ، بما فيه الحكومة البريطانية .
وفور الاعلان عن قرار المنع ضد المؤسسة المكسيكية أدلى الناطق الرسمي باسم الخارجية الفرنسية بالتصريح التالي :
" أعلنت الولايات المتحدة في إطار تطبيق القانون المسمى هلمز ـ بورتون ، عن نيتها منع قادة أحد المشاريع المكسيكية من الدخول إلى أراضيها ، بسبب استثمار هذه المؤسسة أموالا لها في كوبا .
إن تصرفا أحادي الجانب كهذا ، والمناقض لقواعد التجارة الخارجية ، غير مقبول . وتأسف فرنسا لتطبيق هذا التشريع الذي تعارضه بحزم ، مثلما تعارضه شريكاتها الاوروبيات . وتقوم الحكومة الفرنسية بالتشاور مع السلطات المكسيكية حول هذا الموضوع .

الفرصة الأخيرة
12-08-2005, 01:16 PM
وسوف يستطيع المرء قريبا التحقق إن كانت هذه الاقوال الحازمة ، ستؤكدها الافعال ، لأن القانون طال أيضاً مؤسسة اوروبية ، وهي المؤسسة الايطالية " ستيت " ، التي اشترت من (دوموس) حزءا من مشروع الاتصالات الهاتفية في كوبا ، وهو ما يقع تحت طائلة المادة 3 من القانون والذي يجيز للولايات المتحدة المتابعة القضائية للمؤسسات الاجنبية التي تستخدم ممتلكات صادرتها الثورة الكاستروية . وقد دخل هذا القانون حيّز التنفيذ في الأول من شباط 1997 .
(لنتصور أن فرنسا لديها نفس الحق لاستخدام هذا النوع من العقوبات ضد مؤسسات أمريكية ، وضعت يدها على مؤسسات فرنسية في الجزائر ، صودرت عقب حصول الجزائر على الاستقلال) .
ترى ، هل تجتمع أوروبا على المطالة بانعقاد المنظمة الدولية للتجارة (الغات سابقا) ، التي تنص من حيث المبدأ على التبادل الحر الشامل والقابل للتطبيق بين كل الدول الاعضاء التي تتمتع بحقوق متساوية ؟
أو حتى دعوة محكمة العدل الدولية ؟
سيكون ذلك في نطاق المنظمة لان الدول الخمسة عشرة ، قد وضعت قيد الدراسة مشروعا لمقاطعة قانوني هلمز ـ بورتون وداماتوـ كينيدي ، الذين يطالبان هذه الدول بتشديد الحصار على ليبيا وايران .
لا يقف عائقا في وجه هذا التحرك الاوروبي إلاّ الخلافات بين الشركاء في نواياهم لمقاومة الهيمنة الأمريكية ، البعض مثل المكسيك ، لان علاقات القوى ، مع الولايات المتحدة ، هي والى حد بعيد في غير صالحهم ، والبعض الاخر، مثل كندا ، لأن تبادلهم التجاري مع الولايات المتحدة ضروري في تجارتهم الخارجية ، فخضعوا للضغوط الأمريكية ، كما حدث في الزيارة التي قام بها ستورات ابزنشتات المبعوث الخاص للبيت الابيض في أيلول 1996 ، مجددا إنذاره ، وهكذا تراجع الشركاء الاوربيون ، فتراجعت شركة شل عن مشاريعها البترولية في إيران ، كما تراجعت اليابان التي أرخت بعد ذلك قبضتها .
لم يبق إلاّ ردود الفعل في بقية العالم مستنكرة الاملاءات الأمريكية ، وهو ما يبشر بوعي قادم أن الولايات المتحدة تشكل الخطر الرئيسي على استقلال الشعوب ، كما يبشر باتساع متزايد معارض لأمريكا العدو المشترك .
يعتمد حل مشكلاتنا المتمثلة بالجوع في الجنوب والبطالة والتسريح ، حتى في أوروبا ، على استعدادنا لتوحيد كل ضحايا الهيمنة الأمريكية ، بغية عزل قادتها ، باتحادنا في مؤتمر جديد ، بمستوى مؤتمر باوندونغ ، لشعوب الجنوب التي ترفض الهيمنة الاستعمارية للولايات المتحدة التي تمارسها على اتباعها الحاليين . فأوروبا التي استفادت طويلا من سيطرتها الاستعمارية ، ترى نفسها اليوم أنها في طريقها لتصبح هي نفسها مستعمرة .
إن البرنامج الواقعي لعملية التحرير المزدوجة هذه ، سيستطيع أن يعبر عن نفسه بإعلانين متضافرين :
ـ إعلان من الجنوب بالدعوة لباندونع جديد .
ـ إعلان من أوروبا بالدعوة لوحدة عالمية منسجمة .
الهوامش
ـ أفلاطون (427ـ 347 ق . م) ، الفيلسوف اليوناني الشهير تلميذ سقراط ومعلم أرسطو . اساس فلسفته نظرية الافكار والمثل وأسمى هذه الافكار فكرة الخير . من أهم كتبه " الجمهورية " و المحاورات والشرائع " .
ـ مارتن هايدغر : فيلسوف ألماني ولد عام 1899 ، من مؤسسي الفلسفة الوجودية .
ـ الغزالي : أبو حامد (ت 1111 م) لقب بحجة الإسلام . نشأ نشأة صوفية ، ثم انصرف لدراسة الفقه والكلام والفلسفة ، علم في بغداد ، وكتب " تهافت الفلسفة " و أحياء علوم الدين " و " المنقذ من الضلال " .
ـ ميشليه (1789ـ 1874) ، مؤرخ فرنسي عرف بأفكاره الليبرالية والمعادية للكنيسة اتصفت كتاباته بروح انسانية والتعلق بغوامض الطبيعة .
ـ رينان (1823ـ 1892) ، أديب فرنسي كرس نفسه لدراسة اللغات السامية وتاريخ الديانات ، أكدت أعماله المتصلة بدراسة الكتاب المقدس وجهة نظره العنصرية .
ـ غوته (1749ـ 1823) شاعر ألماني ، من أشهر كتبه " فاوست " ، وفرتر " ، و " هرمان ودوروتيه " .
ـ ماك آرثر (1880ـ 1964) جنرال أمريكي ، قاد جيوش الحلفاء في المحيط الهادي ، وترأس القوات التي احتلت اليابان 1944 ـ 1945 .
ـ بول فاليري (1871ـ 1945) كاتب وشاعر فرنسي ، كتب في الموسيقى والرسم والعلوم .
ـ هيرودوت مؤرخ يوناني (484ـ 420 ق . م) كتب تاريخا تضمن ما هو تاريخي وأسطوري ، وقارن بين الحضارة اليونانية وما سماه بعالم البرابرة (مصر ـ الفرس ـ ميديا) .
ـ بلوتارك (50 ـ 125م) مؤرخ يوناني ، عاش في روما وجال في الشرق . فهو كتاب عن مشاهير رجال اليونان والرومان .
ـ الاوكسيتاني : مجموعة أقاليم وسط فرنسا تتكلم بلغة OC ، وهي مجموعة من اللهجات ذات اصل لاتيني .
ـ ايزوقراط (436ـ 338 ق . م) خطيب يوناني ، دعم اتحاد اليونان ومقدونيا ضد الفرس .
ـ لاسكو : كهف في مونتنياك (جنوب غرب فرنسا) ، اكتشفت فيه عام 1940 مجموعة هامة من المنحوتات والرسوم تعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد .
ـ دوستويفسكي (1821ـ 1881) ، من أكبر كتاب الرواية الروس ، ترك أثرا كبيرا في الحركة الفكرية الروسية المعاصرة .
ـ سرفانتس (1547ـ 1616) كاتب إسباني صاحب كتاب " دون كيشوت " . يتصف أسلوبه بالسخرية .
ـ هولدرلين شاعر ألماني ولد عام 1834، تميز أسلوبه بالصوفية التي توحي بالرومانتلية .
ـ جان جينيه كاتب فرنسي ولد عام 1919 ، كتب في الرواية والشعر والمسرح ، تتضمن كتاباته نقدا جارحا لرياء العالم المعاصر .
ـ رومان رولان (1866ـ 1944) ، كاتب فرنسي حائز على جائزة نوبل .
ـ جورج برنانوس (1888ـ 1948) كاتب فرنسي موزع بين الصوفية الكاثوليكية والثورة . انتقد في رواياته الوسطية واللامبالاة .
ـ فرانسوا مورياك (1885ـ 1970) كاتب فرنسي ، له عدد من الروايات ، عرض فيه صراع الإنسان بين إيمانه وحياته الخاصة ، نال جائزة نوبل للآداب عام 1952 .
ـ جورج ماتيو رسام فرنسي ، ولد عام 1921، اهتم بالفنون التطبيقية . منظر المدرسة التجريدية الغنائية .

الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
الفصل التاسع

الفصل التاسع
إعلان عالمي للواجبات
لا يمكن أن يكون القادة الرئيسيون لعملية التحرير من وحدانية السوق ، من نوع أولئك الذين ينتسبون إلى إعلان " حقوق الإنسان " ، الذين لهم الفضل ، في أعقاب الثورة الفرنسية عام 1789 بوضع نهاية للسلالات الحاكمة ، وأصحاب امتيازات الدم ، لأنهم أوجدوا بدلا منها سلالات حاكمة أخرى ، وامتيازات اخرى هي امتيازات المال .
لقد سجنوا الفرد داخل أنانيته ، وممتلكاته ، بعد أن ألغو النظام القديم ، نظام النبلاء والسلالات الملكية الحاكمة ، كي يتركوا لمن يملكون كامل الحرية لاستخدام واستغلال الجماهير المحرومة.
المطلوب اليوم ، شيء آخر غير هذا الرفض البسيط للماضي القريب .
المطلوب رفض كل اشكال الهيمنة ، ومزاعم الاستثناء الغربي ، وإيجاد تيار رئيسي وعالمي لانسنة الإنسان ، انطلاقا من إعلان للواجبات ، يدعو كل إنسان ، وكل البشر إلى تحمل مسؤلياتهم ، مذكرا ، انطلاقا من الطبيعة ، بفطرية إنسانية الإنسان .
وهذا هو المخطط الأولي الذي نقترحه لإعلان عالمي للواجبات :
ينطلق إعلان الواجبات من التفريق بين الإنسان والكائنات الاخرى ، إذ هناك فارق أساسي بين التطور البيولوجي ، والتاريخ الإنساني . فالانسان لم يصنع الأول ، أما الثاني فهو من عمله .
لهذا لا يملك الإنسان طبيعة فقط ، بل يملك أيضاً تاريخا . وهو مسكون ، واعيا لذلك أو غير واع ، بكل أعمال الخلق السابقة في الثقافة الإنسانية . لانه يستفيد من هذا التراث ، فهو عنه ، وعليه واجب المشاركة الخلاقة لاغنائه ، لمتابعة أنسنة الإنسان .
ومن هذا الواجب الاساسي تنبثق كل الواجبات الاخرى .
1 ـ ترتب علينا أنسنة الإنسان ، التي هي نتاج ثقافات كل عائلات الأرض ، واجبات لخدمة هذه العالمية .
ولا تستطيع كل الافعال ، وكل الافكار أن تمتلك قيمة إنسانية ، إذا لم تعط كل طفل ، وكل امرأة ، وكل رجل ، كائنة ما تكون ثقافتهم الاصلية ، أو إيمانهم أو موطن ولادتهم ، الوسائل الاقتصادية والسياسية والثقافية والروحية ، لتطوير إمكانياتهم الإنسانية الخلاقة التي يحملها كل منهم بين جنبيه.
ولا يمكن لأي تنظيم اجتماعي أن يكون إنسانيا إذا كان له هدف آخر غير هذا .
ويستدعى ذلك إلغاء إدعاء كائن من يكون أنه " شعب مختار " لما يتضمنه هذا الادعاء من رفض قبلي للوحدة الإنسانية .
2 ـ ترتب كل سلطة يتمتع بها أي إنسان بواقع وجوده في موقع إدارة أو منظمة في المجتمع الذي هو غضو فيه : كنيسة ، أمة مشروع إنتاجي ، مشروع خدمي ، منصب مهني ، أو أية مصلحة أخرى للمجتمع مسؤولية واجبات إضافية في أن يسهر من خلال ممارسة سلطته ، على مصلحة مجتمعه الخاص ، دون أن يؤدي العمل الخارجي لهذا المجتمع إلى الاضرار بالمجتمعات الاخرى في العالم كله .
مثلا : لو تمتع هذا الإنسان بسلطة دينية ، فيجب أن لاتصل هذه السلطة إلى درجة الضغط أو عزل أي فئة أخرى سواء كانت دينية أو لا دينية .
وتفرض عليه السلطة التي يمارسها كائنا ما يكون مستواها ، إنما بشكل خاص ممارس السلطات العليا ، واجب السهر على مصالح شعبه الخاصة دون انشاء امتيازات خاصة به ، وعلى الاقل عدم الهيمنة على شعب آخر .
3ـ تتضمن الملكية واجب استثمارها في خدمة الإنسانية جمعاء ، لأن هذا الغنى إنما هو من عمل العلم والتقنية اللذين أبدعهما الإنسان . وتعود ملكية هذه الثروة ومنذ آلاف السنين ، إلى الاجيال المتعاقبة التي ابتدعت أنواع الزراعات الجديدة ، وتقنيات الصناعة والتبادل ، وكذلك العلوم والفنون التي خلقتها هذه الاجيال أو طورتها .
وما كان منها ـ في زمن ما ـ مشاعا أو ملكا خاصا ، أو جماعيا ، فهو منها بمثابة الوكيل المسؤول . فإن لم ينجز واجباته ، توجب على المجتمع الذي هو عضو فيه ، أن يجرده من هذا التكليف ، ويعطيه شخصاً آخر أو جماعة تكون واعية لهذه الاتزامات .
4ـ الواجبات تجاه الطبيعة " إنها حالة خاصة من الواجبات تجاه الملكية . لا يجوز لفرد أو جماعة ، أن تدعي لنفسها امتيازا لإنهاك الطبيعة أو تشويهها ، أو تدمير ثرواتها من أجل متعته أو متعتها الخاصة .
وقد ورثنا طبيعة ـ بالشكل الذي هي عليه اليوم ـ عملت الاجيال العديدة المتعاقبة على أنسنة القسم الاعظم منها .
لذلك لا يجب أن نعتبرها مستودعا للثروات لا حدود له ، لارضا شهواتنا الحاضرة ، ولا مجمع قمامة لنفاياتنا . إنها لا تعود فقط لمليارات البشر الاموات الذين أخصبوها . بل أيضاً إلى مليارات من البشر الذين لم يولدوا بعد . وعلينا واجب أن نجعلها أكثر خصبا واكثر جمالا مما تلقيناها من الاسلاف ، دون ربط للمستقبل بها .
5 ـ تعني الحرية أن لا يكون المرء أسير مصالحه الشخصية ، أو اسير أهداف خاصة بالجماعة التي ينتمي إليها ، وأن يتحرك فقط من هدف تشجيع كل أعضاء المجموعة الإنسانية .
إنها ليست صفة لفرد منعزل (وباليونانية ذرة ، بمعنى أنه جزء منفصل عن بقية الاجزاء بفروغ) . أما الفرد في الغرب فهو مركز ومقياس كل الاشياء ، ومنفصل عن كل الاخرين بحاجز حقوق مرسوم بدقة . وبالعكس نحن نرى أن الكائن البشري يعي واجباته ، أي أنه مسؤول تضامنيا عن مصير الاخرين .
6 ـ وينبثق مفهوم الامن ومقاومة كل اشكال الاضطهاد، التي لا تقع إلا من فرد أو جماعة تنكرت لواجباتها الإنسانية ، ينبثق من هذه الروح التضامنية التي يتصف بها من يعون واجباتهم .
ولن تستطيع أية قوة مادية أن تنتصر طويلا على جماعة موحدة بالوعي الجماعي لهذه الواجبات الإنسانية . وأعطانا التاريخ أمثلة كثيرة عن التفكك النهائي لكل الامبراطوريات .
7 ـ يتوجب على كل رجل وكل امرأة في موقع ما من القدرة الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية ، أو الروحية ، أن يسأل نفسه عن الفايات الكبرى ، أي معنى عمله وهدفه ، وفيما إذا كان هذا العمل يخدم ازدهار الإنسان ، كل إنسان ، أو يؤدي إلى انحطاطه ودماره ، مثل :
ـ إقامة المشاريع الانتاجية ذات النفع المادي الاكبر مثل التسليح والمخدرات .
ـ إقامة أجهزة تستفيد من سلطة اكبر للتلاعب بالافكار والتلاعب بها عن طريق وسائل الاعلام والنشر والتربية والدين والفنون .
8 ـ تنبثق حقوق الإنسان من هذه الواجبات ويمكن اجمالها في حق واحد: أن لا يواجه أحد عقبات أو حدودا مثل التمييز الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي أو الروحي أو تمنعه من أداء واجباته تجاه البشرية جمعاء .
9ـ ويمكن إرجاع كل هذه الواجبات ، إلى واجب واحد برز من خلال واحدة من أقدم الروحانيات في تاريخنا ، عندما امتلك الإنسان وعيا كاملا لإنسانيته ، أي خصوصيته بالنسبة لكل الانواع الحيوانية . فالطبيعة لا تستبعد الصراعات حتى الموت بين الانواع المختلفة ، ولا هلاك مليارات الكائنات ، وهي بالتالي لا تستطيع أن تزودنا بقوانين تتعلق بالعمل الانساني خاصة . إن واجبنا الفرد الذي تتولد منه كل الواجبات ، يأخذ صيغته الاساسية الواعية والانسانية أبدا : أن أكون " واحدا " مع " الكل " .

الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
الفصل العاشر

الفصل العاشر
برنامج عملي
أولا : مؤتمر باندونغ جديد .. للعالم الثالث .
هذا هو البديل الذي نقترحه ، كي يتمكن القرن الحادي والعشرون أن يرسم نهاية لحيوانية الإنسان في عصور ما قبل التاريخ . إن غنى أقلية صغيرة ، في عالم مقهور ، يقود إلى التبعية والاستغلال ، أو موت القسم الاعظم من الإنسانية .
1ـ لا يمكن لإحياء الوحدة الإنسانية أن يتحقق يتحقق بالطريقة التي تمزقت بها : بالعف والسلاح ، إنما بواسطة تضافر كل القوى الإنسانية ، وبشكل خاص قوى الاقتصاد والثقافة والايمان .
2ـ يعود القسم الاعظم من ضعف الشعوب المعاصرة المضطهدة ، إلى انقساماتها ، بسبب العقبات والحروب التي أثارها وغذاها سادة العالم الفعليون . ويجب أن ينصب الجهد الاساسي المطلوب على المفاوضات الهادئة لوضع نهاية لكل الصراعات التي هي لعبة الطغاة .
3ـ لابد من رفض جماعي لتسديد الديون المزعومة إلى صندوق النقد الدولي . ولهذا الموقف ثلاثة أسباب :
أ ـ من هو الطرف الدائن ؟
إن الغرب هو المدين للعالم الثالث بدين مرعب .
ـ من يدفع للبيرو " قيمة 185000 " كيلو غرام من الذهب " 16 " مليون كيلو غرام من الفضة التي اعترفت شركة " كازا كونتر كاسيون " في سيفيل أنها نقلتها ما بين عامي 1503 و 1660؟
ـ وبشمولية اكثر ، من دفع للهنود ثمن قارتهم باكملها والتي اغتصبها الغزاة ؟
ـ من سيعيد ترميم الهند القدية ، أعظم مصدر عالمي للنسيج ، اثمان ملايين الاطنان من الاقطان اخذت من المنتجين بأسعار تماثل الابتزاز بالعنف ، ومن سيعوض تدمير مشاغل النساجين الهنود لصالح المصانع الكبرى في لانكشاير ؟
ـ من يعيد لافريقيا حياة الملايين من أبنائها الاقوياء الذين نقلوا إلى أمريكا عبيدا ، بواسطة تجار الرقيق الغربيين وعلى مدى ثلاثة قرون ؟
2ـ ما هو سبب هذه المديونية ؟
دمرت بلدان الاستعمار القديم ، الاقتصاد الوطني في البلاد التي استعمرتها ، وبشكل خاص زراعاتها الحيوية لصالح زراعة نوع واحد أو إنتاج واحد ، ليشكل زائدة أو ملحقا باقتصاد الدولة المستعمرة ، ولمصلحتها بشكل مطلق . ولم يستطع هذا الشكل من الاقتصاد ، المحافظة على استقلال هذه البلدان ، ولا على كفايتها الذاتية من الغذاء ، ولا على اليد العاملة في صناعات لا تحتاجها البلاد .
وهكذا تواصلت التبعية ، وأصبحت القروض امرا لا مفر منه .
3ـ لقد جرى تسديد هذه القروض منذ زمن طويل عن طريق الفوائد الربوية التي دفعت للمقرضين الاجانب ، فقد دفعت الجزائر مثلا 6 مليار دولار سنويا فوائد قروض بلغت 26 مليار دولار . ومن المستحيل بهذا الشكل الوصول إلى أي تصحيح لهذا الوضع ، وهنا يكمن المصدر الاساسي لفكرة اكتمال سداد هذه القروض .
لقد تجاوزت المبالغ التي دفعناها فوائد للقروض ، ومنذ زمن طويل القيمة الاصلية لها . أما المساعدات المزعومة فهي أقل بكثير مما سدد من هذه القروض .
ـ لذلك نحن نرفض أن نخضع للابتزاز ، وأن ندفع إلى صندوق النقد الدولي هذه الديون المزيفة ، وما ترتب عليها من فوائد ربوية .
ـ كما نرفض المساعدات الزهيدة ، والهادفة لتمويه هذا الظلم المميت عبر مئات السنين .
ـ وسوف نؤسس مع إلغاء الديون وفوائدها ، صندوق تضامن ودعم ، يعوضنا بشكل واسع عن (المساعدات) المزعومة التي يقدمها مستغلونا .
4ـ نحن نعارض كل أشكال المقاطعة المفروضة بشكل تعسفي من قبل سادة العالم المؤقتين ، على البلدان التي ترفض هيمنتهم .
ولن نقيم لها بعد اليوم وزنا ، وسنبدأ التعامل بحرية مع إخوة لنا تأثروا بهذه المقاطعة .
5ـ ونقرر ، وبشكل أكثر شمولية ، ايجاد سوق مشتركة لشعوبنا ، ومضاعفة التبادل بين الجنوب والجنوب ، والذي تحتفظ بلدانه بـ 80 % من المصادر الطبيعية في العالم .
وسوف نتعامل في ميدان التبادل ، على قاعدة المقايضة كي نتجنب تماما النقد الشمالي ، وبشكل خاص الدولار ، ساهرين على ذلك ، كي نضع بشكل تدريجي نهاية للمضاربات ، إذ لا مكان لها في بلداننا ، وبانتظار أن نوجد نحن عملة مشتركة .
6 ـ ويتطلب هذا الموقف مقاطعة منهجية للولايات المتحدة وأتباعها ، وبشكل خاصة إسرائيل ، الدولة المرتزقة لدى الغرب ، والتي يستخدمها ضد ثقافاتنا وضد السلام .
فنحن نريد أن نضع حدا للسيطرة الاقتصادية ونها ية للعدوان الثقافي .
وسنناضل أيضاً ضد " اللاثقافة " التي تعززها مسلسلات الديناصورات الطفاة ، و" قتلة " هوليود وكذلك لعبهم الفارغة ، وكل الظواهر الاخلاقية والمادية لانحطاطهم .
7 ـ ويتطلب هذا الموقف ، سياسيا ، الانسحاب الجماعي من كل المنظمات المزعوم أنها عالمية ، والتي اصبحت اداة بيد دولة واحدة مهيمنة ، لتغطية اعتداءاتها العسكرية والاقتصادية والثقافية : الأمم المتحدة ، صندوق النقد الدولي ، البنك الدولي ، منظمة التجارة العالمية " الغات سابقا " ، وكذلك الانسحاب من المنظمات التي انبثقت عنها ، لانها أصبحت مثلها أداة تآمر لفرض الهيمنة على العالم ، وتحمل مفاهيم تحط من قدر الإنسان ، إذ تنظر إليه كمستهلك ومنتج فقط ، لا تحركه إلا مصالحه الخاصة ، وترفض أن تعطيه معنى آخر غير العمل كرقيق ، من أجل أن يستهلك اكثر ، عندما لا يكون عاطلا عن العمل أو مستعمرا ، أو معزولا .
8 ـ سوف نقاوم معا أي اعتداء أو تهديد على أي منا . سنقاوم بكل الوسائل ، وبالمجتمع الدولي كله .
9ـ لا تطبق هذه الجماعة الإنسانية ، المتطلعة لانشاء عالم بوجه إنساني ، أي عزل ديني ، أو سياسي ، لانها تهدف اساسا إلى خلق وحدة غير استعمارية ، ولكنها منسجمة في انسانيتها . وسيحمل كل شعب ، وكل جماعة إلى هذه الوحدة غناه الخاص في أرضه وثقافته وايمانه .
والباب مفتوح أمام الرسميين في الدول ، الذين يشاطروننا فكرتنا الإنسانية ، كما هو مفتوح أمام الاقليات المضطهدة ، بشرط الاعتراف لكل بلد بوحدته على اساس مبادئنا العامة .
كان الهدف الرئيسي لمؤتمر باندونغ الأول ، رفض عالم ثنائي القطبين ورفض الانحياز لاحد المعسكرين ، وحماية استقلال كل بلد من بلدان عدم الانحياز وسيبقى هذا الهدف هدفنا .
ولكن الظروف التاريخية تبدلت ، فنحن اليوم نعيش عالما احادي القطب ، وعلينا بذلك أن ندافع عن هوياتنا وثقافاتنا واقتصادنا ضد التكاملية التي توطئ للطامعين بالهيمنة على العالم من خلال وحدانية السوق ، أي حرية الاقوى في التهام الاضعف ، ليجعلوا من السوق ، أي من المال ، الناظم الوحيد للعلاقات الاجتماعية .
نحن نرفض النظر إلى العالم بدون الإنسان ، والى الحياة بدون مشروع انساني وبلا معنى ، وسوف نتوحد لنبني عالما من " الأمم المتحدة " غنيا بتنوعه ، مطمئنا لمستقبله ، من خلال امتزاج الشعوب والثقافات في ايمان واحد ، نغذيه بتجربة كل شعب وحضارته ، تتفتح فيه الحياة باستمرار وفق مشروع شامل يعطي كل طفل وكل امرأة وكل رجل مهما كان أصله ، وتقاليده الخاصة ، كل الوسائل لتبرز بشكل كامل كل إمكانياته الإنسانية التي يحملها بين جنبيه .
* * *
ثانيا : وحدة عالمية متناغمة ومنسجمة ـ مشروع لأوروبا .
إن السياسة الوحيدة اليوم التي يمكن أن يكون لها مستقبل هي التي ستحل المشاكل الاساسية المطروحة أمامنا :
ـ البطالة .
ـ الهجرة .
ـ الجوع في العالم .
ـ مع كل التبعات الاخلاقية الناتجة عنها !
ـ ويجب ملاحظة :
ـ أن هذه المشكلات لا تعمل إلاّ متضافرة ، وكأنها مشكلة واحدة .
ـ أنهم لا يقدمون لنا إلاّ الحلول الخاطئة .
إن القولين الاكثر خداعا هما :
ـ قولهم أن هذه المشاكل ستحل عن طريق التنمية .
ـ قولهم أن هذه المشاكل ستحل عن طريق أوروبا .
إنها الاكاذيب الاشد قتلا .
1ـ لن تحل التنمية أيا من مشاكلنا الحياتية :
فالولايات المتحدة ، والاحزاب السياسية في البلدان الغربية لا تلامس هذه المشكلات أبدا ، لانها مأخوذة منذ خمسة قرون بأوهام التنمية ، أي تحقيق إنتاج أكبر واكبر ، وبسرعة أشد وأشد ، لاي شيء ، مفيدا كان أو غير مفيد بل أحيانا يكون مميتا " كالسلاح والمخدرات " .
وتقدم لنا هذه التنمية عبر وسائل الاعلام ودروب السياسة وكأنها الترياق من الازمة ، ومن البطالة . لكن التنمية التي تحققت منذ عام 1975، ومن خلال زيادة الانتاجية بفضل التطور العلمي والتقني ، لم تخلق فرص عمل جديدة ، وإنما فعلت العكس ، أي أنقصت فرص العمل عندما استبدلت عمل الإنسان بعمل الآلة . لنذكر مثالا على ذلك : أنتجت بلجيكا عام 1980 / 10 / مليون طن من الفولاذ، عمل فيها 40000 عامل ، وأنتجت عام 1992 ، 5 , 12 مليون طن بـ 22000 عامل فقط .
لقد دفعت التنمية إلى الامام بسبب زيادة الانتاجية ، بفضل العلم والتنمية الذين سمحا باستبدال قسم كبير من العمل الانساني بالآلة . والآن ، سيستبدل قسم آخر ، وربما أكبر عن طريق تطور المعلوماتية والانسان الآلي " الروبوت " .
مثلا : لقد زادت الانتاجية بسبب هذين الاكتشافين 89 % وهي فرصة للانسان لتوفير الجهود الاكثر تكرارا . ولكن ما بقي سيئا أن ساعات العمل لم تنخفض وتضاعفت البطالة عشر مرات .
وهذا يدل أن التنمية الانتاجية لم تخدم مجموع البشرية ، وإنما خدمت فقط مالكي وسائل الانتاج .
إذن ، ولكي تكون هذه التنمية مفيدة للجميع ، لابد من ربط ساعات العمل تطور الانتاج .
وسيكون عملا خيرا ، إذا لم نربط الزيادة في أوقات الفراغ ، " بسوق أوقات الفراغ " ، الذي يحول وقت الفراغ إلى وقت " فارغ " ، فارغ من الإنسانية من خلال ألهيات يقدمونها لنا ، لا تؤدي إلى ازدهار ثقافي أو مادي .
وبدلا من أن يساعد هذا الحيز من الحياة الإنسان كي يكون إنسانا أي مبدعا وخلاقا، يتجه ـ بفضل نظام السوق ـ لجعله عاطلا عن العمل ، وفي أحسن الحالات مستهلكا .
ليس هناك صلة بين التنمية والبطالة .
ففي فرنسا مثلا :






وهي أرقام صادرة عن جهات رسمية .
ولا يفهم من ذلك ، أننا معادون للتنمية ، أو لتقدم العلوم والتقنيات ، مادامت تعمل على تخفيض جهد الرجال والنساء ولا تقود إلى عبوديتهم أو انحرافهم، مثلما حدث في " الاعلام السريع " الذي يسخر للتلاعب بالرأي العام خدمة للهيمنة الأمريكية .
ولكن التنمية ، وزيادة الانتاج ، حتى مع التدابير التي نقترحها لن تحل مشاكل البطالة . حتى ولو حاولنا أن نوفق فيما بينها ، عن طريق ضغط الاجور ونفقات الضمان الاجتماعي ، كما تريد الحكومة وأصحاب العمل ، فقد نستطيع ـ على الاكثر ـ أن نكسب بعض أجزاء السوق من خلال المنافسة الاوربية والامريكية واليابانية . ومع ذلك سيبقى هناك ذرائع أخرى تدعو للسخرية .
2ـ الكذبة الاخرى ـ بعد ترياق التنمية ترياق أوروبا .
لن تحل أي من المشاكل الحيوية في إطار اوروبا .
لقد وعدونا أنه مع " أوروبا " سيكون لدينا سوق تلبي حاجات 300 مليون زبون ، وتناسوا القول أن ذلك سيستدعي وجود 300 مليون متنافس في " سوق " العمالة ، لأن الاقتصاديات الاوروبية ليست متكاملة وإنما متنافسة ، إلى جانب منافسة الاقتصادين الأمريكي والياباني .
أيعني هذا أن البديل الوحيد لأوروبا ، هو الانكفاء الوطني ، لفرنسا مثلا ، لتغلق على نفسها أسوار الحماية ؟
والعكس ، لأن ذلك سيكون الاختناق بعينه .
إن الحل الوحيد المحتمل ، هو الانفتاح على العالم في شموليته . لقد مضي 500 عام على الاستعمار وخمسون عاما من تأسيس صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ومازال العالم ينوء كثيرا تحت عبء اقتصاد مشوه ، بعد أن نهب الغرب ثروات ثلثي سكان العالم ، فتركهم في فقر مدقع ، وسيبقون متاخمين لحدود المجاعة والبطالة . وبين الاثنين ستبقى الهجرة طريق العالم من المجاعة إلى البطالة . حتى لو قسنا الامور بمعايير السوق فقط ، فكيف نأمل أن نوفر العمل لأفراد بينما ملايين البشر لا يملكون الحد الأدنى لشراء غذائهم .
إن الحل الوحيد الممكن للاستجابة لجوع البعض ، وبطالة الآخر ، والرد على هجرة الجياع في بحثهم الخادع عن عمل ، يكمن في التغيير الجذري في علاقاتنا مع العالم الثالث ووضعنا نهاية لسيطرة الغرب ، وتبعية الجنوب ، لأن هذه التبعية هي التي تولد التخلف .
نحن نعيش في عالم مجزأ ، بين الشمال والجنوب ، وبين الذين يملكون والذين لا يمكون في الشمال نفسه ، وكذلك في الجنوب . ويسيطر 30 % من سكان الأرض على 80 % من المصادر الطبيعية في هذا الكوكب ، ويستولون على 83 % من عائدات العالم . أما 20 % من سكان العالم الاكثر فقرا فلا يتجاوز نصيبهم من العائدات 4 , 1 % فقط .
ويموت بسبب هذا الانقسام ، 40 ألف إنسان يوميا ، نتيجة سوء التغذية أو الجوع . ويكلف نمط التنمية الغربي العالم من الاموات ، كل يومين ، ما يعادل ضحايا قنبلة هيروشيما .
وتتسع الهوة يوما بعد يوم ، إذ ارتفعت نسبة التباعد بين الدول الغنية والدول الفقيرة ، خلال ثلاثين عاما ، من واحد إلى ثلاثين ، لتصبح واحدا إلى مئة وخمسين .
وبعد أن تمكن الاستعمار خلال 500 عام ، ونظام بويتون وودز خلال 50 عاما ، من خلق هوات لا قرار لها من عدم المساواة بين الشعوب ، أصبح نظام التبادل كافيا لتعميق الهيمنات والتبعيات .
كيف نقلب الانحرافات الحالية ؟
أولا : عن طريق تحطيم الاسطورة التي تعمد " ديمقراطية " حرية السوق ، لأن السوق الحرة تقتل الديمقراطية بسبب تراكم الثروة في قطب واحد ، والبؤس في قطب آخر .
ويتطلب هذا الأمر مجموعة من القرارات السياسية الهادفة إلى التحرر من خدعة عولمة الاقتصاد ، أي من الادارة الأمريكية التي تعمل على جعل فرنسا ، وكذلك أوروبا ، وكذلك بقية العالم ، مستعمرة تفتح الطرق للاقتصاد الأمريكي في كل القطاعات : من الزراعة الغذائية إلى الملاحة الجوية ، ومن الاعلام إلى السينما .
وفي كل يوم تزداد وضوحا حقيقة أن معاهدة مايستريخ هي سبب رئيسي للشرور ، ليس فقط للمزارعين " إذ تطالب المعاهدة بترك مساحات غير مزروعة " ، وإنما لكل العاملين ، فتشجع بذلك تحت زعم المنافسة الاوروبية ، على الوصول إلى تسوية عن طريق تعديل شروط العمل ، باسم المرونة . وهي تريد بذلك أن تلغي كل صناعاتنا ، من الطيران إلى المعلوماتية ، وأن تهين ثقافتنا بغزو تقوده السينما الأمريكية والتلفزيون الأمريكي .
كما تريد أن تجعل من جيشنا ملحقا بجيشها يشاركه التدخل في البلدان الاخرى . وتدعي معاهدة ما يستريح في ثلاثة مواضع من نصوصها ، أن أوروبا لا تستطيع إلاّ أن يكون " الركيزة الاوربية لحلف الاطلسي ".
أما ما يتعلق بالاقتصاد فقد نصت المادة 301 من القانون الأمريكي على حق أمريكا بحماية منتجاتها الوطنية ، بينما تفرض اتفاقية الجات (المسماة فيما بعد بالمنظمة العالمية للتجارة) ، التبادل الحر على كل البلدان الاخرى ، والذي يفسح المجال لكل المنتجات الأمريكية .
وجاء قانون هلمز ـ بورتون 1996 ، وقانون أماتو ـ كنيدي الذين أقرهما نفس الكونغرس الأمريكي ، طمعا في منع كل المجتمع الدولي من المتاجرة مع بلدان يحددها الكونغرس وحده . ووحدها أصبحت الولايات المتحدة تشرع للعالم كله .
ولا بد من بروز مقاومة جديدة ، لا للتخلي عن مايستريخ فقط ، ولكن للانسحاب أيضاً من صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ، وكل المنظمات الاخرى التي تستخدم أداة في يد الارادة الأمريكية في الهيمنة على العالم .
وانطلاقا من ذلك كله ، لا بد من استعادة حريتنا لبناء علاقات جديدة كل الجدة مع العالم الثالث ، بالاضافة إلى هدف محدد وهو تشجيع الشعوب الاوربية الاخرى لسلوك نفس الطريق .
ويتطلب بناء العلاقة الجديدة :
1 ـ إلغاء تام للقروض ، إذ ليست واقعية ولا مبررة .
2 ـ إلغاء كل المساعدات المالية لحكومات العالم الثالث .
مثلا :
يبلغ حجم ميزانية التنمية / 40 / مليار فرنك فرنسي ، وهو حجم ميزانية المساعدة العامة في فرنسا ، الهادفة رسميا إلى دعم البلدان الاكثر فقرا في العالم . والواقع أن 95 % من هذا المبلغ الضخم لا يشكل مساعدة فعلية لهذه البلدان ، ولا يحقق تنمية فيها، ولكنه في أحسن أحواله ، يفرغ جيوب المكلفين الفرنسيين بالضريبة ، ليملأ جيوب بضعة من المستفيدين الحكوميين (في الشمال وفي الجنوب ) . والأسوأ من ذلك أن توجه هذه المساعدات للقتل .
ونورد هنا أمثلة حديثة عن الكيفية التي تستخدم بها المساعدات :
ـ رواندا : جرى تمويل حكومة القتلة هناك إلى الحد الذي مكنها من الاستمرار ، ثم تم تمويل عملية توركواز ، لتسهيل وصول القتلة إلى زائير في محاولة لتحضير عمليتهم الثأرية .
ـ الجزائر : قدم لحكومة الجزائر التي نصبت نفسها وألغت الانتخابات بشكل غير شرعي ، ستة مليارات فرنك فرنسي . وقد بيع للحكومة نفسها طائرات هيلو كوبتر ( وهي السلاح الأمضى ضد حرب الغوار ) .
3ـ لهذا يجب أن لا تقدم القروض الحكومية والخاصة ، إلى الحكومات ، وإنما مباشرة للمنظمات القاعدية ( مثل الاتحادات التعاونية ، النقابات ، والمجموعات الانتاجية ، وأحيانا تأسيسها ) ، ولمشاريع محددة وذات نفع عام ، مع تفضيل الاقاليم الزراعية لتحقيق الاكتفاء الغذائي الذاتي ( أجهزة زراعية ، حفر آبار ، بناء طرق ومستثفيات ومدارس … الخ) .
4 ـ قبول سداد القروض بالعملة المحلية لتشجيع إعادة الاستثمار في البلد نفسه ، بدلا من عودة رؤوس الاموال المستثمرة إلى الوطن .
5 ـ العمل على تحقيق مقايسة شريفة بين أسعار المنتجات المباعة من دول الجنوب ، مع أسعار المنتجات المباعة إليها من دول الشمال .
6 ـ الوقوف في وجه عملقة المشاريع ، التي تسعى إليها الشركات الكبرى . ثم احترام التاريخ ، وثقافات كل الشعوب ، والاستخدام الاوسع للتقنيات الوطنية التي غالبا ما تكون فاعلة لملاءمتها للاحتياجات المحلية . سيكون التطور بهذه الشكل داخليا بدل أن يكون تصفحا من الخارج لا صلة له بالبلد أو حاجاته الحقيقية ، أو أن يكون على النمط الغربي اتت به الشركات الاجنبية الكبرى خدمة لمصالحها .
وقد يؤدي هذا التكيف الضروري في الصناعة استجابة للحاجات الحقيقية للجنوب ، إلى تحقيق تكييف لعقلياتنا نحن أيضاً ، استجابة لمصالحنا الحقيقية ، لا للسلاح أو ألهيات قتل الفراغ بلا جدوى .
7 ـ أما ما يتعلق بمصادر الطاقة فيجب أن نعطي الافضلية دوما (إلا في حالة الاستحالة المطلقة) لمصادر الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية وغيرها .
أنستطيع أن نتحدث عن السوق العالمية ، وأمامنا ثلاثة مليارات من اصل خمسة مليارات ، لا يستطيعون تأمين قوتهم اليومي.
أيمكننا ، نتحدث عن سوق عالمية تلبي فقط احتياجات الغرب ، وتنسجم مع ثقافته ، الغرب الذي لا يفعل سوى أن يصدر فائض منتجاته إلى العالم الثالث ؟
هل علينا أن نقبل بحتمية استمرار عدم التوازن في علاقات العالم باعتباره واقعا لا يمكن تجاوزه ، واقعا يؤدي إلى مظاهر العنف ، والتعصب القومي والاصولية ، دون أن نتساءل عن المسببات الحقيقية لهذه الفوضى العالمية ؟ .
1ـ علينا أن نعمل على خلق عولمة حقيقية بدلا من العولمة الاقتصادية الكاذبة التي ليست إلاّ إرثا خلفته الهيمنة الاستعمارية بقيادة الولايات المتحدة .
2ـ وضد أوهام التنمية العمياء التي تنبثق من اقتصاد السوق الذي يتحكم بكل العلاقات الاجتماعية ، لابد من العمل بالتصحيح الضروري الذي يسمح لنا بالوصول إلى الاشتراكية كما عرفها ماركس : إعطاء كل الأطفال ، كل النساء ، كل الرجال الوسائل الاقتصادية والسياسية والثقافية لتحقيق تنمية حقيقية ، وبشكل كامل ، لكل الغنى يحملونه بين حناياهم .
الولايات المتحدة طليعة الانحطاط
الخاتمة
الخاتمة
تهدف هذه الافكارالمبعثرة إلى التحضير للقرن الحادي والعشرين كي يمكن العيش فيه حتى النهاية ، إذ لو تابعنا العيش حسب الانحرافات القائمة ، نكون قد بدأنا تدمير البشر : مليارات من الناس ستموت جوعا في جنوب الكوكب ، حيث يكلفنا نمط التنمية الغربية كل يومين ما يعادل ضحايا هيروشيما .
وفي بلادنا ـ أوروبا ـ سنشاهد أحياء بلا هدف ، وحياة بلا أفق ، إذا لم نضع حدا لهذا الانفصام الذي يشهده العالم بسبب تزايد البطالة والتسريح ، والعنف والمخدرات .
ويعتبر هذا الكتاب دعوة لمقاومة اللامعنى، ولبناء عالم من الأمم المتحدة ، مبنيا على مبادئ أخرى ، غير المبادئ التي قادت الغرب بكامله إلى الانحطاط ، وقادت العالم إلى المعاناة .
في النصف الثاني من هذا القرن ماتت الآمال ، بعد حربين قتلتا 80 مليون إنسان ، وبعد فشل ثورة ، أعطت ، فوق خرائب الحرب الأولى ، بوادر أمل للبشر ، وقدمت خلال الحرب الثانية اكبر نصيب من البطولة والتضحية بغية قهر الوحش النازي . ولكنها خانت الاشتراكية عن طريق تقليد نمط التنمية في الغرب ، ومركزية بيروقراطية جنونية.
والوهم المئوي " بحلم أمريكي " ، قد تحول إلى " كابوس أمريكي " بسبب رغبة القادة الأمريكيين في الهيمنة على العالم ، والافراط البربري في إنتاج السلاح وامتلاكه ، وخبث مبدأ الليبرالية الاقتصادية المفروضة على كل الشعوب .
وكذلك بإسباغ صفة الشيطانية على ما أسموه " امبراطوريات الشر" المتتابعة ، كي يبرروا تحت زعم الصراع ضد الارهاب ، إرهاب الخاص ، وجرائمهم ضد الإنسانية : بحق الهنود ، والافارقة ، وفيتنام ، وكذلك الحصار المفروض على كوبا وليبيا وايران والعراق ، العراق الذي تحمل وفاة 250 ألف طفل ، حسب أرقام الصليب الاحمر الدولي .
وفي الولايات المتحدة ، يموت طفل من كل ثمانية ، جوعا لأنه لا يجد ما يأكله . هؤلاء المدافعون عن حقوق الإنسان ، بالاضافة إلى الجرائم ضد البشرية في الخارج ، يحتفظون لانفسهم باكثر الارقام العالمية مدعاة للحزن في استهلاك المخدرات ، وانتحار المراهقين ، والجريمة ، والفساد . أما السينما لديهم فتتستر على كل ذلك ، فتقدم لنا في ظل ديكور حالم ، ضراوة أسماك القرش في مسلسلات دالاس وواقع العنف لدى الديناصورات ، والترمنيتور الماحق .
أما وسائل الاعلام ، والتلفزيون والاعلام السريع ، فهي شعاع الموت الذي يدمر على مستوى العالم ، الفكر النقدي ، وثقافة الايمان ، والامل والحب لدى خمسة مليارات انسان .
ويقصد هذا الكتاب إلى التدليل على أن نهضة الإنسانية أو على الاقل استمرارها يتطلب بناء المستقبل على أسس أخرى .
يجب أن لا يتضمن كشف الحساب كشف حساب هذا القرن ، فشلا لماركس الذي خانوا اشتراكيته ، إنما فشل آدم سميث الذي تهددنا ليبراليته التي دفعت إلى أقصى مدى لها ، تهددنا بانتحار كوني.
كيف نستطيع فتح أفق جديد ، مستقبل جديد بوجه انساني من خلال ساحات الدمار الذي أنتجته حيوانية ما قبل التاريخ مع نهاية هذا القرن ؟
لابد لنا من البحث عن الخطأ في توجه عقارب التاريخ .
كان الانفصال الأول للغرب ، مع سقراط (الذي ابتدأ معه الانحطاط كما يقول نيتشه ) ، وتلميذيه أفلاطون وارسطو . الذين أفسدوا ، خلال ألفين وخمسمائة عام التاريخ الثقافي للغرب من خلال " فلسفة الكائن " أساس كل الهيمنات .
وقد جربنا أن نستعيد مسيرة فلسفة " الفعل " ، وهي مسيرة باقي الإنسانية برمتها منذ اكتشاف الادوات الاولى ، ومنذ حفر القبر الأول ، ومنذ الحلم الأول بحياة خلاقة متحدة .
وكان الانفصال الثاني للغرب ، أيام الصليبين ، وفتوحاتهم المتكررة ومحاكم التفتيش ضد كل حكمة الشرق .
وكان الانفصال الثالث ، بدءا مما سمي بعصر النهضة ، حيث استخدموا الاكتشافات العلمية والتقنية التي حققها الشرق ( مثل البوصلة ، والدفة المحورية في السفن ، والبارود والطباعة) ، وجعلوا منها أدوات لغزو الشعوب والنفوس . وابتدأ عام 1492 ، بعد الاستبعاد الاخير لثقافات الشرق ، بالاستيلاء على غرناطة ، وغزو وتدمير ثقافات أمريكا الهندية ، تعطشا للذهب بدءا من كريستوف كولومبوس .
هذه هي مسيرة 2500 سنة من فلسفة الهيمنة التي تدعونا لأن نطرح مسألة فتح آفاق جديدة للانسان ، ونقترح بديلا للوحدة الاستعمارية للعالم : وحدة متناسقة ، داعين حكمة العالم الثالث وثقافته لوضع الإنسانية من جديد في الدرب الواسع للاخصاب المتبادل بين كل الثقافات، وللانتهاء من الاهداف القاتلة للمركزية الاثنية الاوروبية ، ومن الهيمنة .
استدعى ذلك أن نجد معايير أخرى للتقدم غير القوة التقنية ، وقوة الثروة ، والناتج الوطني الاجمالي ، لنتمكن أن نحدد من خلال هذه التعابير، لا من خلال النمو الاقتصادي ، وإنما من خلال ازدهار الإنسان .
كما استدعى الأمر ، في المستوى اللاهوتي ، أن نعيد للانسان بعده الاساسي : التعالي ، منظورا إليه ، كالظاهر من إله ملك ، يدير من الخارج ومن الاعلى مصير البشر والامبراطوريات ، إنما كانبثاق جديد جذريا ، بفعل خالق الإنسان ، مع الوعي ( ونستخدم إلها . ويجب أن نتوقف عن الاحكام المسبقة التي تقول بأن التاريخ المقدس ، هو تاريخ قبيلة واحدة ، بينما يكشف هذا التاريخ عن جذوره لدى كل عائلات الأرض ، وفي كل الثقافات والحضارات من أمريكا الهندية إلى أفريقيا إلى آسيا .
وعلى المستوى الاخلاقي افترضنا ضرورة ، إجراء قلب عميق ، في دراستنا للعمل الانساني الخلاق . لم نقصد أن نقلل من جمال النمط الغربي لانجازات اليونان أو عصر النهضة في القرن السادس عشر، وإنما اردنا أن نخرج من متاحف الاجناس ، أقنعة البولونيز وأفريقيا ، والاعمال النحتية والفن المعماري لهنود أمريكا ، وأن نتعرف من جديد على الابعاد النبوية للوحات الصيد في عهد سونغ ، والنداءات الداخلية لبوذا أو بوديساتغلس في جنوب آسيا .
هكذا فقط تستطيع الفنون أن تخرج من " أخاديد المحاكاة " التي وضعها فيها أرسطو، والتي لم تقيم من خلال معايير المنظور والتشريح منذ عصر النهضة (ولا الحذلقة التي تعاقبت لدى الاساتذة خلال ثلاثة قرون) . وكذلك الخروج من الاخدود الآخر وهو الرفض لمجرد الرفض والتمرد اللذين قادا إلى انحطاط فن وصفوه " بالمعاصر" ، وهو فن ظنوا أنه يكون حديثا بقدر ما يكون جاهلا بالماضي. وقد وصل بهم الأمر أن يطلقوا اسم لوحة أو منحوتة على ما يشبه أرضا بور تلقى فيها القمامة، وأن يستبدلوا تاريخ الموسيقى بالضجيج ، والرقص بحركات هستيرية فارغة من كل دلالة انسانية .
قال جوان جري ، وهو أحد الرسامين الاكثر تجديدا في عصرنا ، ورائد من رواد المدرسة التكعيبية : " تعتمد عظمة الفنان على قوة الماضي الذي يحمله في داخله : ليس بغرض محاكاة القدماء ، وحفظ تقاليدهم ، بل كي تستمر الشعلة النبوية التي حملها العظماء منهم لانارة الامكانيات المتجددة دائما في إنسانية الإنسان " .
ويستدعى ذلك أيضاً ، في المستويين الاقتصادي والسياسي ، تحطيم أصنام زعم أنها " علوم إنسانية " ، التي نسخ أسلوبها عن أسلوب علوم الطبيعة ، فنتج عن ذلك مفهوم مهين للانسان: " الإنسان كائن اقتصادي " . فهو بذلك لن يكون إلا منتجا أو مستهلكا ، تحركه مصالحه الخاصة . إنها مسألة قاتلة ، شأنها شأن " الاقتصاديين " الذين يحاولون من خلال حاشية أو تعليق رياضي خداع وعويص ، إعطاء المظهر العلمي ، لايديولوجيا مهمتها استمرار النظام القائم .
ويعني قلب المنظور ، إعادة البحث ، كي نتعلم من كل المفاهيم الاخرى للانسان ، التي ولدت في أحضان الثقافات الاخرى ، الوسائل كيف نخلق شروطا تقنية واقتصادية وسياسية وروحية ، تلائم الجميع ، وتسمح لكل كائن إنساني (رجل أو امرأة) أن يصبح اكثر انسانية ، أي " شاعرا " ، بأعمق معاني الكلمة ، أي خلاقا لإمكانيات جديدة للمستقبل .
هذه هو الهدف الذي سعينا لتثبيته ، وهو يتجاوز بهذا الشكل امكانياتنا ، لأنه ليس حتى الآن إلا اقتراحات متناثرة ، ليس لها من طموح إلا المساهمة في نشر نظرتنا إلى العالم ، إلى أن تتمكن نفوس أرحب مدى ، وتعمل من خلال تفاعل الحبث والايمان ، على بناء عالم إنساني .
في نهاية كشف الحساب هذا ، وفي نهاية هذه الدراسة التي تجمع بين العرض والاقتراحات المستقبلية ، وصية لحياة ، حاولت أن تتمائل مع حياة القرن الآفل، من خلال " فلسفة الفعل " التي قادني البحث فيها لأن اشق طريقي عبر " الفعل " المسيحي عند موريس بلوندل ، والجهد الجبار لماركس ، والرؤية الديناميكية للعالم في القرآن الكريم ، وما يسيطر على من الاحساس باقتراب حياتي الشخصية من النهاية هو أقل بكثير من شعوري بالسعادة التي تغمرني لأني استشف الملامح الأولى لحياة جديدة للقرن الذي سيولد والذي ربما لن أراه .
30 ـ آب ـ 1996
روجيه غارودي
ملاحظة
ليس هذا الكتاب خطاب تأبين ورثاء ، ولا صلاة جنائزية بسيطة على حضارة قضت نحبها ، حضارة الغرب الذي يوحي اسمه ، ببلاد تغرب فيها الشمس ، بلاد الغسق الآفلة .
وفي الشرق ، في البلاد التي تشرق فيها الشمس ، بلاد الفجر التي بدأ النهار فيها يبزغ . إنه السابع من أيار 1996 في بكين . وسصف المجلد الثاني من هذه السلسلة venre du large، ورشة العمل التي افتتحت منذ ثلاث سنوات ، من أجل هذا الامل بوحدة متناسقة للعالم ، انطلاقا من طريق الحرير الجديد الممتد من شنغهاي إلى نوتردام ، انطلاقا من حضارة استوائية نلمسها في الامازون ، ومن " الصحراء " التي كانت قبل عشرة الاف عام غابات ومراع ، والتي يمكن أن ترتدي حلة خضراء في عشر سنوات .
لم يخصص سطر واحد في صحفنا ومجلاتنا ، واذاعاتنا ، ومحطاتنا التلفزيونية ، لهذه الولادة ، ولادة " عالم جديد " حقيقي .
وسيكون الكتاب الثاني من مجموعتنا عمل جماعي وضعه (صينيون وايرانيون واتراك ، وهنود وماليزيون وغيرهم ) وسيكون عنوانه :
لقد بدأ المستقبل
الهوامش
ـ قانون هلمز ـ بورتون :
ـ يجيز قانون هلمز ـ بورتون الذي فرض الحصار والمقاطعة على كوبا ، يجيز لكل الأمريكيين ، والكوبيين المتجنسين ، والذي صودرت ممتلكاتهم من قبل الحكومة الكوبية ، أن يقاضوها أم القضاء ، وكذلك يحق لهم مقاضاة أي أو مؤسسة أو شخص كائنا ما كان ، يتعامل مع المشاريع المصادرة أو أن يشارك فيها .
ـ قانون أمادو ـ كينيدي : يحرم القانون الشركات التي تستثمر أكثر من أربعين مليون دولار من كل ضمانة مصرفية في ميداني الاستيراد والتصدير ومن إجازات استيراد بضائع للشركة المعاقبة ، ومن كل قروض أو اعتمادات تزيد عن عشرة ملايين دولار ، تفتح لدى المؤسسات المصرفية الأمريكية ، ومن كل احتمالات اجراء عقود مع الحكومة الأمريكية ومن كل استيراد إلى الولايات المتحدة … الخ .
ـ أثار تطبيق هذا القانون مؤخرا أزمة بين الولايات المتحدة وفرنسا ، وذلك عندما قامت شركة توتال بتوقيع عقد شراكه مع إيران .
ـ وأكدت وزارة الخارجية الأمريكية أن موقف فرنسا في القضية غير مفهوم ، وأعربت عن خيبة أملها لرؤية شركاء الولايات المتحدة يرفضون فساتدتها في الجهود التي تبذلها ضد إيران ، مشيرة أن ضيج أموال في إيران إجراء لا يساعد الولايات المتحدة . واعلنت أو لبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية عن خيبة أملها إزاء قدرة الولايات المتحدة في إقناع الدول الاخرى لصحة وجهة نظرها بشأن (الدول الخارجية عن القانون) .
ـ وكان هذا العقد قد اعتبر انتصار لإيران واوروبا وضربه للهيمنة الأمريكية .
الدولار والإنسان
بقلم أناتول فرانس
في بداية هذا القرن ، وبالتحديد عام 1908 ، كشف أناتول فرانس في كتابه " جزيرة البطريق" عن الروح التي تقاس فيها السياسة الأمريكية واصفها اياها أنها بلا روح . يصور المقطع التالي البروفيسور أوبنوبيل الذي يزور الولايات المتحدة ويحضر جلسة للكونغرس الأمريكي ويقدم لنا التحليل التالي :
رئيس الجلسة ـ : انتهت الحرب التي أشعلت لفتح اسواق زيلاند الثالثة ، بشكل يرضي الولايات المتحدة . وأقترح عليكم أن نرسل الحساب إلى مفوض الادارة المالية .
ـ هل من معارض ؟
حسن ، فاز الاقتراح .
ـ وسأل البروفيسور اوبنوبيل مترجمه المرافق له :
هل سمعت جيدا ؟ ماذا ! أنتم الشعب الصناعي تشغلون أنفسكم بكل هذه الحروب .
ـ أجاب المترجم :
بلا شك . فهذه الحروب ، حروب صناعية ، والشعوب التي لا تمتلك صناعة ولا تجارة غير ملزمة بخوض الحرب . أما الشعوب التي لديها أعمال . فهي مرغمة على سياسة الغزو ، ولهذا ارتفع بالضرورة عدد الحروب التي اشعلناها ، مع ازدياد نشاطنا الانتاجي . عندما تجد صناعة من صناعاتنا أنها لن تستطيع تصريف منتجاتها ، فلا بد من اشعال حرب ما كي نفتح سوقا جديدة . وهذا ما فعلناه هذا العام في حرب الكربون وحرب النحاس ، وحرب زيلاندا الثالثة ، قتلنا ثلثي السكان لنجبر الثلث الباقي على شراء المظلات والقمصان الداخلية .
وفي هذه اللحظة صعد إلى المنصة رجل ضخم كان يجلس على كرسي في وسط المجتمعين وقال:
أطالب بإعلان الحرب على حكومة جمهورية ايميرود ، التي تنازع خنازيرنا بوقاحة ، السيطرة على تجارة الجامبون والسحق في كل اسواق العالم .
ـ فسأل الدكتور أو بنوبيل :
من هو هذا المشرع ؟
ـ فأجاب المترجم :
إنه تاجر خنازير .
ـ قال رئيس الجلسة :
هل من معارض ؟ … إذن اطرح هذا الاقتراح على التصويت .
وهكذا جرى التصويت برفع الايدي على اشهار حرب ضد جمهورية ايميرود وفاز الاقتراح بالاغلبية الساحقة .
ـ قال أوبنوبيل :
ولكن كيف ؟ ابهذه السرعة واللامبالاة تقرون أشعال الحرب ؟
ـ أجاب المترجم :
أوه ! إنها حرب لا أهمية لها ، إذ لن تكلف اكثر من 8 مليون دولار .
ـ والرجال ؟
ـ الرجال ؟ إنهم ضمن ال 8 مليون دولار .
أناتول فرانس " جزيرة البطريق " 1908
* أناتول فرانس (1844 ـ 1924) كاتب وروائي فرنسي منح جائزة نوبل للآداب عام 1921.
رمز طاحونة الشيطان
سنحاور أن نشرح هذا النظام الذي يختلط فيه التطورالاقتصادي مع تطور الإنسان ، من خلال أمثولة يوحي بها كتاب ميشان ، بعنوان " ثمن التنمية " أما نحن فندعوه :
" أمثولة طاحونة الشيطان "
أقرت حكومة بلد ما ، متطور جدا ، حق الافراد في حمل السلاح ، استنادا إلى الحرية الفردية . وهكذا شهدت صناعة السلاح ازدهارا لا سابقة له . وتبارى المنتجون المتنافسون ، بما لديهم من قوة مخيلة ، وانتشار ، في اغراق السوق الحرة بانواع مختلفة وبلا حدود ، من المسدسات والقنابل المنمنمة ِ. وقد تراوحت الاشكال والانواع بين الممتاز جدا المعقود إلى سلسلة ، وبين النوع المتواضع جدا لصالح الاستخدام اليومي ، ومن المروع كاتم الصوت المكفول في اصابة الهدف إلى السلاح الذي قيل أنه لاثارة الرعب فقط ، إذ تستمر اصوات انفجاراته المروعة لابعاد المعتدي المحتمل دون التصويب في مسار خاص . وحرية الاختيار عند المستهلك مؤكدة بشكل تام .
ورواج السوق من الناحية العملية ، لا يحده حد ، بسبب العصبية التي تخلقها نزاعات العمل ، وازدحام السير في المدينة ، والتراع المستمر على القيم " الاكثر قدسية " ، والاثارة الجنسية ، والنزاعات المالية . كل ذلك يجعل المرء ، حتى الاكثر هدوءا ، أو المرأة الاقل جاذبية واغراء ، لا يخاطران في السير في الشارع ، دون أن يحمل أي منهما مسدسا أو مسدسين ، وبعض الذخيرة.
ومن جهة أخرى ، يساعد مستوى المعيشة المرتفع جدا ، والذي تحقق بفضل التوسع في النشاط الاقتصادي ، يساعد فرد على شراء العديد من الأسلحة . إن زمن القحط والبؤس الإنساني قد ولى . وولدت صناعات جديدة ، برهنت على ديناميكية استثنائية ، منها صناعة السترات الواقية من الرصاص ، والخوذات ، والاحذية ذات المشابك المعدنية ، والاقنعة الكاتمة ، والمركبات المصفحة ، وزجاج العربات المضاد للرصاص ، ومصاريع فولاذية للبيوت . ويبرهن ازدهار صناعة الحديد على الوضع الصحي لاقتصاد البلاد ، وروح المبادرة لدى الصناعيين ، وفضائل المؤسسة الحرة ، والفكر الثاقب للحكومات. وفي إطار البهجة التي خلقها هذا الازدهار ، غابت كل مظاهر الكآبة .
وفي الحقيقة ، تتلقى كل قطاعات النشاط الوطني دعما منشاطا . إنه العصر الذهبي لاشكال التامين المختلفة ، والعيادات الخاصة ، والمخابر الدوائية التي تستجيب بشكل محموم ، وبلا انقطاع للحاجة المتزايدة للمهدئات . أما الاستخدام بدوام كامل فهو مضمون تماما ، فطرق العمل مفتوحة للشباب بلا حدود ، وحتى العمال غير المؤهلين ، فهم مطمئنون أنهم سيجدون اعمالا تثيبهم بشرف ، ولا تتطلب إلاّ تأهيلا سريعا ، مثل حمل نقالات الاسعاف لالتقاط الجرحى أو الموتى .
وقد جرت مناقشة الميزانية ، على ضوء التوسع الكامل للاقتصاد الوطني ، وأبرزت ـ وهي محقة في ذلك ـ أن العلم قد استفاد من نتائج السماح بصناعات السلاح ، وبالتسلح الشخصي ، والمتمثلة بالانهاك السريع لمصادر الثروة المعدنية . وقد قادت الابحاث إلى اكتشاف مواد تركيبية اكثر مقاومة لاستخدامها في الدروع ، وسيؤدي ذلك إلى تحقيق تقدم مماثل في صناعة القذائف ، وكما قال واحد من أبلغ خطبائنا البرلمانيين في هذا المجال : " إن لولب التقدم قد انفتح نحو اللانهاية " .
أوجدت الجراحة ، والطب ، والطب النفسي ، منافذ مذهلة في شفاء امراض غير معهودة . لقد جدد ارتداء الدروع المحكمة ، المفاهيم حول الايضية ، كما قاد حمل الأسلحة إلى اكتشافات تتعلق بالقلق والكرب ، والعدوانية ، هذه المواضيع التي تربك مستقبل علم النفس .
أي تجديد تشهده البلاد في ميدان الثقافة ، وخاصة في ميدان العلوم الإنسانية ! لقد انفتح أمام علم الاجتماع الوضعي افق بلا نهاية ، كي يستطيع تطبيق أساليبه . ويلعب هذا العلم دورا رياديا لقيامه بأبحاث مشتركة مع علوم أخرى حول علم " المسدسات " . وعمل رجال الاحصاء على بلوغ تقنيات التقديرات الاستقرائية مبلغ الكمال ، لحساب دقيق ومتوازن للعام الذي سيصبح فيه حجم ووزن الأسلحة معادلا لحجم الأرض ووزنها ، وقد استطاع فيها أحد الاسلاف اللامعين أن يحدد في أي عام ، لن يترك فيه النمو السكاني في كرتنا الأرضية إلا مترا مربعا واحدا لكل فود . ومن جهة أخرى قلب علم السكان الاتجاه ، بالتخلص من القانون اللوغاريتمي للابادة ، مفسحا المجال لامكانية التنبؤ باليوم الذي سيقوم فيه آخر رجل ، بتوجيه طلقة خلاص الاخيرة إلى جاره الذي يقف أمام ناظره .
وتصبح المستقبلية الوضعية ، من هذا المنظور العلمي ملكة العلوم متمتعة بنفس المستوى النظري كالفيزياء أو العلوم اللغوية . ويلعب اتحاد " الرند " " اسم شركة كبرى " ومنافسوه الذين امتلكوا خبرة كبيرة في " نظرية الالعاب " الاستراتيجية ، دورا مدهشا كمستشارين وأنبياء امام مديرين كبار في صناعة الموت ، وقد اقترح باحث ، وربما كان واحدا من أعظم العبقريات في قرننا هذا معتمدين في هذا التقييم على تنبؤاته على المدى الطويل ، طرازا جديدا في الهندسة المعمارية وهندسة المدن ، وللفن بشكل عام ، يستجيب لحاجات العصر " المسدساتي " ، فالشوارع منحنية للحد من سير القذائف ، وانطلاقا من هذا الطراز الجديد فقد تحققت ثورة في عالم الاشكال ، تلبية لهذه الحاجة . واستنادا إلى التماسك الداخلي لهذا النظام ، وهي الخاصة التي تتصف بها كل الحضارات العظيمة ، عندما تصل ذروتها ، فإن البلاد تشهد ازدهار ثقافة جديدة ، وكلاسيكية جديدة .
وفي كل مرة تسترجع الحكومة بفخر مشروع الامكانيات ، تبرز نتائج التوسع الذي حققته : معدل تنمية أعلى من كل المعدلات السابقة ، مع كل ما يحمله من نتائج : عملة صعبة ، فرص استخدم كاملة ، ميزان مدفوعات لمصلحة البلد ، غزو لا ينقطع لاسواق جديدة لتصدير السلاح ، لأن الحجم الداخلي لانتاجنا من المسدسات ، قد أعطى اسعارنا وضعا تنافسيا للغاية .
وقد تضاعف الانتاج الوطني الاجمالي ، في عشر سنوات ، واجتمعت لدينا كل علائم الاقتصاد الصحي والقومي ، كما اكتملت كل أحلام اقتصاد التنمية .
ومن العدالة ، والحالة هذه ، أن نأمل بالهيمنة على العالم ، ليس فقط بسبب غنانا وقوتنا بل بسبب حكمتنا أيضاً .
ما وراء حملة كلينتون
ضد الارهاب
في 5 أب 1996 ، وقع الرئيس كلينتون ، قانون أماتو ـ كينيدي معلنا استثناء إيران وليبيا من القانون الدولي . وكان حريصا أن يقف أمام عدسات التلفزيون ، محيطا نفسه بطريقة تبدو طبيعية بأسر وأقرباء ضحايا لوكربي ، في العملية التي جرت ضد طائرة عائدة لشركة البان أمريكان في 20 كانون الأول 1988 ، حيث حملت الحكومة الأمريكية ليبيا مسؤولية العملية ، على الرغم من التحقيقات المتوازية التي كذبت هذه الرواية .
كان الاحتفال الرمزي ، ذو دلالة كبيرة على السياسة التي تنوي واشنطن وضعها موضع التنفيذ : الارهاب هو العدو الاكبر . وقد جرى تعبئة الرأي العام حول هذا الموضوع ، واعتبرت البلدان المعنية أعداء للولايات المتحدة . وكبداية ، ستكون العقوبات الاقتصادية هي السلاح الذي اشهر في وجه هذه البلدان ، وإن أمكن الحصار الاقتصادي .
وتتضمن قرارات واشنطن ، والتي اتخذتها منفردة انتهاكا صريحا للمبادئ الاساسية لمنظمة التجارة العالمية ، وتشكل تنكرا من الولايات المتحدة لالتزاماتها الدولية . وتعتبر المعركة ضد ما يسمى بالارهاب ، احد المحاور الرئيسية في السياسة الخارجية لرئيس الولايات المتحدة ، وسيكون هذا الموضوع جاهزا باستمرار ، لاثارته كلما احتاجته الدبلوماسية الأمريكية .
اهو اختيار انتخابي ، حدث على ضوء التصويت للرئاسة في نوفمبر 1996 ؟
نعم بالتأكيد . فقانون هلمز ـ بورتون الذي صدر في 12 آذار 1996 ، والذي يشدد الحصار على كوبا ، استطاع أن يخلق صدى كبيرا بين 400 ألف امريكي من اصل كوبي ، سيدلون باصواتهم في ولاية فلوريدا . ولكن يفوت روبرت دول ، المرشح الجمهوري للرئاسة الفرصة على كلينتون ، زاود على مواقف خصمه من الارهاب . واصفا " بالهش " مسلك الادارة الديمقراطية تجاه كوبا وايران .
وتعطي الحكومة الأمريكية اليوم لقهر الارهاب واهدافه بغية القضاء عليه ، حضورا عالميا منهجيا ، ولكنه بسيط بشكل مذهل ومتعمد . " سيكون الارهاب اكثر التهديدات خطورة ، والمواجهة ضد أمتنا في القرن الحادي والعشرين " .
هذا ما قاله كلينتون عشية الاجتماع الذي عقده في 30 تموز 1996 وزراء خارجية الدول السبع ، الذين كرسوا مقولة كلينتون . وطور الأمر مرحليا في تقرير نشرته وزارة الخارجية ، عددت فيه النشاطات الارهابية في العالم ، وحددت معالم السياسةالامريكية بهذا الخصوص .
وتبرز من قراءة هذا التقرير ثلاث نقاط :
ـ لا نرى في الارهابيين إلا مجرمين ، وبالتالي لا يجوز أن يعقد معهم أي اتفاق من أي نوع . وتجب ملاحقتهم ، بغية الحصول على ادانات ملموسة اكثر .
ـ يجب ممارسة ضغط كبير ومستمر على الدول التي تتعامل معهم وتمدهم بالسلاح ، والمعونات المالية ، وتستخدمهم .
سيكون الضغط باتخاذ اجراءات سياسية دبلوماسية واقتصادية فعالة . واذا فشلت هذه الاجراءات ، اتخاذ اجراءات أخرى .
لم يتضمن هذا التوجه الحاسم ، أي مضمون سياسي أو قومي أو اقليمي أو حتى سياسي وعسكري ، ولم يأخذ بالحسبان أي جواب تطرحه هذه المسألة التي طرحتها مجلة الايكونوميست في آذار 1996 ، فقالت : ليس الارهاب ظاهرة بسيطة ومحسومة ، وليس عمل عصبة من الشبان الاشقياء ، كما نحب نحن أن ندعوهم . من هو الارهابي ؟ هل هو حامل القنبلة الانتحاري ؟ أم الثوري المتمرد هل هو جبهة التحرير ، أم القوى المسلحة في الدولة ؟
على كل حال ، هذا هو المفهوم الذي تريد الولايات المتحدة ، أن ترجحه وتعتبره موضوعيا .
وتقدم الولايات المتحدة الارهاب كوجه جديد لصراع الخير ضد الشر فهي تريد أن تعبئ العالم وتحت أي اسم ، حول سياستها وتحليلاتها . وليتهم استوحوا ببساطة من اهتماماتهم الانتخابية الاهداف الحقيقية ، لكانوا قد توقفوا بعد انتهائها عن متابعة هذه النظرة المثالية عن الخير، وليس من دلالة اكبر بهذا الخصوص من قائمة الدول التي حددوها كمذنبة في دعم الارهاب : إيران وليبيا والسودان .
ومهما كان رأي المرء بأنظمة هذه البلدان ، أو نشاطاتها الخارجية وهي انشطة مختلفة في البلدان الثلاثة ، فإن المطلوب وبشكل واضح أي بلد تناولت التغييرات السياسية فيه ، بشكل أو بآخر النفوذ الأمريكي : ثورة 1969 في ليبيا التي طالبت بجلاء القواعد العسكرية الانجلوا ـ امريكية عن اراضيها ، وقلب نظام الرئيس النميري في السوادان عام 1979 ، الذي كان مرتبطا بالسياسة الأمريكية في المنطقة ، وسقوط نظام الشاه الذي كانت تعامله الولايات المتحدة وكأنه محمية .
وهناك أسماء حاضرة ، وإن كانت غائبة من القائمة المذكورة : العراق ، الذي كان اسمه موجودا على القائمة ن ولكنه سحب منها ، لان صدام حسين قام بعملية تقارب مع الولايات المتحدة زمن الحرب العراقية الايرانية ، فقررت الولايات المتحدة مساندته ، وأعادت علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسية مع بغداد .
وكذلك سورية ، التي كانت دائما موجودة على قائمة الولايات المتحدة ، لاتهامها بدعم الارهاب ، على الرغم من عدم اتهامها في السنوات الاخيرة ، باعتبارها من الشركاء الرئيسين في مفاوضات السلام حول الشرق الاوسط . وتكفي هذه الامثلة ، لتكشف أن الحملة ضد الارهاب تدخل وقبل كل شيء في إطار السياسة الخارجية للولايات المتحدة خدمة لمخططاتها .
وأعطى البيت الابيض في الشهور الاخيرى ، بعدا جديدا لهذه الحملة . أولا عن طريق مؤتمر شرم الشيخ في 13 آذار 1996 عقب عمليتي القدس واشكون ، عشية الازمة اللبنانية الاسرائيلية ، ثم في اجتماع قمة رؤساء ورؤساء وزارات الدول السبع الاغنى في العالم في ليون في حزيران.
أما مؤتمر شرم الشيخ فقد عقد ارتجالا وعلى عجل لدعم فرصة شيمون بيريز رئيس الوزراء في الانتخابات التي كانت ستجري في إسرائيل بعد بضعة أسابيع . وقد تزاحمت الحكومات المشاركة في المؤتمر ، على توقيع بيانات ضد الارهاب الذي تخضع له هذه الحكومات . ولكن الرئيس كلينتون أراد أن يفيد من هذه الفرصة ، فطلب الاشارة إلى إيران بالاسم كمسؤولة عن الارهاب في المنطقة طبقا لتأكيدات ترددها إسرائيل على الدوام . ونستطيع في هذه المناسبة التأكيد أن الدبلوماسية الأمريكية ، وتحت لواء مقاومة الارهاب تسعى أن تعيد ـ ولمصلحتها ـ بناء حلف شبيه بالحلف الذي خاض حرب الخليج ، ولكنه هذه المرة ضد إيران التي تعتبرها الولايات المتحدة الآن عدوها المميز ، كما كان العراق قبل ست سنوات .
ويحمل سيناريو ليون دلالة أعمق . لقد أراد كلينتون ، كما كان الحال في شرم الشيخ ، أن يجعل من مسألة الارهاب الموضوع الهام في قمة الدول السبع في 28 حزيران 1996 . ومن جديد عارضت الاليزيه ذلك ، تجنبا لتقزيم المواضيع الاخرى المطروحة أو تنحيتها جانبا . ولكن واشنطن حملت الأمر هذه المرة إلى باريس نفسها . وعند اختتام جلسة العشاء التي ضمت الرؤساء ورؤساء حكومات الدول السبع ، تبنى المجتمعون " وبالاجماع " بيانا حول الارهاب . وقد يكون هذا الأمر طبيعيا ، لولا أن هذه الوثيقة التي تدين الارهاب كتحد رئيسي " لمجموع مجتمعاتنا ودولنا " ، اشارت بشكل خاص إلى محاولة حزيران 1996 ضد القاعدة الأمريكية في خبر في السعودية ، والتي وصفت بأنها عمل برري لا مبرر له ، وأعلنت الدول السبع الموقعة على هذه الوثيقة تضامنها الكامل مع الولايات المتحدة والعربية السعودية . وبذلك تكون الدول السبع قد وافقت ضمنيا على بقاء التشكيلات العسكرية الأمريكية في الشرق الادنى ، وبعبارة اكثر دقة في الخليج ، وهو أمر تقاومه بشدة كل القوى الاجتماعية والسياسية التي رفضت هذا القرار لأنه يتعارض مع استقلال بلدانهم .
لقد كشف هذا الحدث أيضاً ـ كما في شرم الشيخ ـ عن المخططات الاستراتيجية للحملة ضد الارهاب ، التي تقودها الولايات المتحدة ، والتي تسعى دائما للحصول على تأييد شركائها لها . ومهما كان الأمر، فقد أوحى غياب الادانة الكاملة الواضحة وبالاسم ، إلى وجود تحفظات على ضوء العداء الذي تثيره الولايات المتحدة في البلدان التي تعتبرها مذنبة بجريمة الارهاب . وقد رفضت الحكومات الاوروبية ، وكذلك كندا بعد ذلك ، أن تستجيب لقانون أمادو ـ كينيدي ، وأن تجبر المؤسسات الخضوع لاحكام قانون هلمز ـ بورتون المتعلق بكوبا ، ولكن علينا أن لا نعطي هذا الرفض قيمة أكبر من حقيقته ، فأوروبا لم تتخذ أي إجراء معاكس عملي . وكان الاتجاه تخفيف الخلافات الأمريكية ـ الاوروبية ، وتجنب كل ما يمكن أن يظهر وكأنه سلسلة من أعمال الثأر المالي والتجاري .
بعد بضعة ساعات من توقيع كلينتون على قانون أمادو ـ كينيدي ، طرح الناطق الرسمي في الخارجية الأمريكية نيكولاس بومز مسألة المصالح الفرنسية في إيران . أوضح الناطق الرسمي أن شركة توتال ، ستأخذ بالضرورة مكان للشركة كونوكو الأمريكية ، وحصلت على عقد كان سيكون مجزيا جدا للشركة الأمريكية . نحن نريد أن نعاقب المؤسسات التي سيكون لديها مثل هذه التوجه في المستقبل .
ونشك بمثل هذا الارهاب ، أن تمد الشركات الاوروبية في المستقبل مشاريعها الاستثمارية إلى إيران وليبيا اللتين تزودان الاتحاد الاوروبي بـ 20 % من الهيدروكاريور ، حتى لو طالبت أن لا يكون للقانون المذكور وتعليمات الحكومات أثر رجعي . وسيكون أقل فاعلية أن تستجيب لمثل هذه القانون دول كالصين ، أو دول الشرق الاقصى .
وترسم الحملة الارهابية ضد " الارهاب " ، غالبا ، عدوا رئيسيا : الحركات الإسلامية المتطرفة والرافضة والثورية في آن واحد والتي ترى في إيران المنبع والمثال . ووضع المسألة بهذا الشكل بما يحمله من عموميه ، لا يتصل مع ذلك بتباين الاعمال الارهابية نفسها . وليس من شيء إيراني في اعتداء 19 نيسان 1995 في أوكلاهوما ستي والذي نفذته مجموعة يمينية متطرفة ، ولا في اعتداء 9 تشرين الأول 1995 على قطار ميامي ـ لوس أنجلوس الذي أعلنت مسؤوليتها عنه مجموعة تحمل اسم " أبناء الجوستابو " ولا اعتداء 3 نيسان 1996 ، الذي نفذه أستاذ رياضيات يدعى تيودور كازانسكي ، الذي أختبأ خلف اسم " أونا برمبر " والذي لجأ إلى عملية الطرود الملفوفة ، ولا حتى قضية " الرجال الاحرار " الذين قاوموا في ربيع 1996 الشرطة واحدا وثمانين يوما في مزرعتهم في مونتانا .
ومع كل هذه الوقائع لابد ، من وجهة نظر أمريكا ـ من وجود حركة إسلامية ما تكون هي الملهم الرئيسي والمنفذ للارهاب .
ولا تشكل المعارضة الأمريكية للقوى السياسية والدول التي تتدعي لنفسها لتفتش مفهوما أصوليا إسلاميا موقفا ثابتا ، بأي شكل من الاشكال أو تقليديا ، والعكس هو الصحيح .
فقد وضعت الولايات المتحدة ، تاريخيا ، قدمها في الشرق الادنى عبر المملكة العربية السعودية ، حيث رجحت كفة مصالحها البترولية بين الحربين العالميتين . ومنذ ذلك الحين لم تتوقف الولايات المتحدة أبدا ـ عن اعتبار السعودية شريكها المفضل على الرغم من أنها تعتبر الدولة الاكثر اصولية في العالم . كما أنها حمت بكل عناية دكتاتور السودان السابق جعفر النميري ، وهو أول من أراد في القارة الافريقية فرض " الشريقة " على كل قوانين البلاد . كما اختارت شريكا مهما لها في جنوب غرب آسيا ، نظام ضياء الحق ، الذي فعل نفس الشيء . وعلينا أن لا ننسى أنها هي التي أوحت ، ونظمت ، وزودت بالسلاح المنظمات الاكثر أصولية في العالم التي عارضت النظام الافغاني المدعوم من الاتحاد السوفيتي .
وسنكون مخطئين جدا إذا لم نعط تأثير أعمال التواطؤ هذه حقها من الاهمية ، في تزويد الاعمال الارهابية في السنوات الاخيرة ، وفي الدرجة الأولى نتائج الحرب الافعانية . فقد دخل افغانستان خمسة عشر ألف رجل من اثني عشر بلدا ، قاتلوا إلى جانب المنظمات الإسلامية الافغانية . وقد عاشوا في نفس المخيمات ، وتطبعوا بنفس العقيدة ، وأسسوا في نهاية الأمر منظمات عديدة للعمل في ميادين أخرى خارج أفعانستان ـ محتفظين فيما بينهم بعلاقات قوية أو ضغيفة .
وكانت مصر الساحة الأولى لاحدى هذه المنظمات ، التي اغتالت الرئيس أنور السادات ، ثم رفعت المحجوب رئيس الجمعية الوطنية في أيلول 1990 ، ثم الكاتب فرج فوده في 8 حزيران 1992 . ثم انسحب رجال المنظمة بعد ذلك إلى السودان ، ومنها كانوا يجتازون الحدود في فترات مختلفة ، ويعتقد أن أحد قادة هذه المنظمة ، يدعى محمد شوقي الاسلامبولي ، شقيق خالد الاسلامبولي الذي اغتال أنور السادات .
وسنجد في الجزائر أيضاً ما يشير إلى أفغانستان ، فقد كان قادة المنظمة الإسلامية المسلحة ، وهي المنظمة الإسلامية السرية الأولى ، مقاتلين قدامى في افغانستان مثل طيب الافغاني الذي هاجم الموقع الحدودي في غويما في تشرين الثاني 1991 ، ومثل مراد الافغاني الذي قاد الهجوم على مركز البحرية في الجزائر ، وقمر الدين الخرمان والحاج بولوه ، اللذان جعلا من فرنسا قاعدة لهما.
ويعتبر أبو المعاطي ، وهو احد المقاومين الافغان ، المسؤول الرئيسي عن المجاهدين في البوسنة . كان مركز قيادته في زينيكا . وكانت قواته قد اندمجت ولمدة طويلة في الكتيبة الثالثة للميليشيا المسلمة في البوسنة ، وقد تلقت هذه الميليشيات مساعدات مادية من بلدان إسلامية كثيرة ، وبشكل خاص من العربية السعودية ، التي قد ملكها شخصيا مبلغ 40 مليون دولار إلى الرئيس البوسني عزت بيجوفتش عند زيارته الرياض ـ إضافة إلى 43 مليون دولار أتت من إمارات الخليخ . كما وصل البوسنة ما يقرب . من ألفين وخمسائة رجل من افغانستان عبر ألبانيا ـ في اشد أوقات المواجهة بين المسلمين والكروات .
وقد أثار وجود المجموعات الإسلامية في البوسنة ، كثيرا من الصعوبات لأن رحيلها كان أحد التدابير الواجب اتخاذها طبقا لإتقاقية دايتون ولن تبقى هذه المجموعات ، على الاقل في البوسنة ، حيث يحتفظون باحتياطي جيد من المال .
وانطلاقا من هذه الاحداث ، التي تدلنا على الطبيعة المشكوك فيها والمبهمة للسياسة الأمريكية فيما يتعلق بظاهرة الارهاب ، نستنتج أن هناك اعتبارات سياسية واستراتيجية أصبحت معروفة جيدا ، هي التي توجه عدوانية الولايات المتحدة ضد الحركات الإسلامية : الرغبة في قهر ، أو على الاقل إضعاف النظام الإيراني ، ومجابهة حركة حماس الفلسطينية ، وحزب الله اللبناني ، اللذين يخوضان معركتين متوازيتين ضد إسرائيل .
مقاطع من مقال بقلم بول ماري دولاغورس .
في اللوموند ديبلوماستيك ـ شباط 1997
تعقيب :
نشر دوم هيلدر كامارا أسقف أوليندا وريسف في البرازيل كتابا بعنوان " لولب العنف " باسم القارة التي كانت اكثر من عانى ـ وقبل كل الاخرين ـ من الاضطهاد الاستعماري .
وقد أوضح في هذا الكتاب وبطريقة قاطعة ، جوانب هذه المشكلة مميزا بين ثلاثة اشكال للعنف:
1 ـ العنف المؤسسات : وهو عنف الظلم الذي يفرض على الجماهير من خلال شروط عيش إنسانية .
2 ـ العنف الثوري : الذي يتوجه ضد العنف السابق .
3 ـ العنف القمعي : الذي يقوم بسحق العنف الثوري لمصلحة العنف المؤسساتي .
لكن الخداع ، لا يسمى عنفا ، إلا العنف الثوري .
لقد عرفت الشعوب المستعمرة لأكثر من خمسة قرون ، وأوروبا التي عانت من السيطرة الهتلرية ، التضليل الذي يخلط بين " الارهاب " ، و " المقاومة " ، مقاومة الاضطهاد وجرائم النهب . ويستخدم القادة الأمريكيون والمتآمرون معهم نفس اللغة ، بغية فرض سيطرتهم على العالم .
لاهوت السيطرة الأمريكية
أعلن الرئيس تافت عام 1912 :
" إن من واجبي أن أحمي شعبنا ، وممتلكاته في المكسيك إلى أن تفهم الحكومة المكسيكية أن هناك ربا في إسرائيل ، ومن الواجب إطاعته " .
ويظهر هذا التعبير ، وغالبا بصيغة " إسرائيل الرب الجديدة " ، كثيرا في التاريخ الأمريكي منذ ماى فلاور ، وتأسيس مستعمرة بلايموث عام 1620 .
يالها من قصة جملية ومؤثرة : شعب منفىٌ ، شعب صغير ، يفر إلى هيمنة تحميه ، باحثا عن بداية جديدة .
وعقد حلف فوق جبل سيناء ، فقد أعطى يهوه اليهود المنفيين الوعد الخاص بأن يكونوا الأمة الأكثر تفضيلا . وأصبح اليهود " شعب الله المختار " ، " مع أرض ميعاد " ، وعهد اليهم على هذه الشاكلة بدور هام جدا في قيادة باقي الشعوب .
والآباء المؤسسون للولايات المتحدة ، البيوريتانيون ، هم أيضاً " شعب مختار " منذ قرون ، لا يقرأ إلاّ التوارة ، ويعتبر نفسه شعبا مختارا ، إن لم يكن عن طريق يهوه ، فعلى الاقل عن طريق الرب المسيحي .
لماذا لا تصبح هذه الأرض ، إذن ، أرض الميعاد ، ولماذا لا يصبح شعبها النور والهادي والقائد للشعوب الاخرى، ما دام شعبا مختارا من الله ؟
ولكن أرض الميعاد ليست صحراء .
والفكرة الاساسية ، هي أن الرب يساعد الشعب المختار ، وأن نجاح هذا الشعب ، لا يشير فقط إلى استقامته وصوابيته في نظر الرب ، ولكنه أيضاً يدل أن الوسائل التي استخدمت لتحقيق الظفر هي أيضاً مبررة ومسوغة .
وكما زود العهد القديم ، الأمريكيين الأوائل ، بوهم ملائم لعلاقتهم مع السكان الاصليين للبلاد ، قام البيوريتانيون بدورهم بتزويد الاسرائيلين بوهم ملائم لعلاقتهم مع الفلسطينيين والنتيجة المسلم بها ، إنشاء جبهة مشتركة ضد الإسلام .
اعتقاد اليهود بأنهم شعب مختار ، يتماشى تماما مع اعتقاد الولايات المتحدة بأنها الامة الاكثر قربا من الله ، من أي أمة أخرى ، معبرة عن هذا الاعتقاد في الشعار المطبوع على الدولار " نحن نثق بالله " .
و " البلاد الاكثر قربا من الله " هي أيضا ممثل الله على الأرض ، الذي يحمل معه ثلاثة من صفات الله : العليم بكل شيء ، القدرة الكلية ، والاحسان . وذلك يعني واقعيا المراقبة الالكترونية في العالم كله ، لكل أولئك الذين يشك بانهم حملة الشر ، ويعود للولايات المتحدة وحدها تقرير من الذي يدخل في طبقة الاشرار هذه . ولا حاجة لأن يكون هناك محكمة استئناف طالما أن الولايات المتحدة تحتكر اصدار الاحكام . وهكذا فهي تمارس سلطة ثقافية ، وسلطة اقتصادية ، وسلطة عسكرية تحت اشراف البنتاغون والمخابرات المركزية .
وتستحق امبراطورية الشر، أن تمطر بالقنابل ، حتى تعود إلى العصر الحجري .. وهذا واجب.
وأية ديانة يمكن أن تكون أسمى من اليهودية المسيحية عقيدة يمكن أن تكون أسمى من الليبرالية المحافظة بصيغتها الرأسمالية ؟
ولا يجوز لأية مؤسسة دولية أن تكون فوق الولايات المتحدة . وينطبق هذا الأمر على الأمم المتحدة ، على الاقل لأن هذه المنظمة هي وسيلة الولايات المتحدة لممارسة نفوذها المسيطر على العالم كله . وفيما يتعلق بتراتبية الأمم ، تقع الولايات المتحدة في القمة ، يحيط بها الذين يمثلون مركز العالم : الحلفاء الذين يتصفون على الاقل باثنتين من الخصائص الثلاثة التالية :
ـ اقتصاد حرية السوق .
ـ الايمان بالرب اليهودي والمسيحي .
ـ الانتخابات الحرة .
وفي الطرف الثاني من هذا العالم ، المقسوم بين الخير والشر ، تتكون امبراطورية الشر من البلدان التي لا تؤمن باقتصاد حرية السوق ، ولا بالايمان اليهودي ـ المسيحي ، ولا بالديمقراطية على غرار النظام الأمريكي .
الولايات المتحدة المتحدة متحالفة مع الله ، والبلدان الاخرى متحالفة مع الولايات المتحدة ، ويتصف هذا التحالف بعلاقات خضوع المحيط للمركز ، وخضوع دول الغرب للولايات المتحدة ، وخضوع الولايات المتحدة لله . هذا هو اللاهوت الغامض للسياسة الدولية للولايات المتحدة .
جوهان جالتونغ من
كتاب " السياسة الخارجية للولايات المتحدة في مظهرها اللاهوتي ".

elserdap
12-08-2005, 07:50 PM
والله جزاك الله خيرا أخي الحبيب الفرصة الأخيرة على هذا الكتاب الرائع ..:hearts:
خاصة وأن هذا الكتاب الرائع كان عندي وفقدته منذ حوالي خمس سنوات فجزاك الله خيرا أخي الحبيب :hearts:
وأسأل الله أن يحفظك لنا أخا كريما ومعينا على نشر الخير والنفع للعباد :emrose: :emrose: :emrose: :emrose:

الفرصة الأخيرة
12-08-2005, 08:30 PM
والله جزاك الله خيرا أخي الحبيب الفرصة الأخيرة على هذا الكتاب الرائع ..:hearts:
خاصة وأن هذا الكتاب الرائع كان عندي وفقدته منذ حوالي خمس سنوات فجزاك الله خيرا أخي الحبيب :hearts:
وأسأل الله أن يحفظك لنا أخا كريما ومعينا على نشر الخير والنفع للعباد :emrose: :emrose: :emrose: :emrose:
حينما يمر صديقي الحبيب السرداب على موضوع لي فهنا يجب علي أن أتيه عجبا بمروره وتشريفه.. حفظك الله وبارك لنا فيك أخي الحبيب... وأسأل الله عز وجل أن يجعلني عند حسن ظنك.

ولك عندي هدية أخي... فراجع الخاص مشكورا :emrose: :emrose: :emrose: :emrose: :emrose: ولو قدرت لوضعت كافة ورود الدنيا لك حبًّا فيك وسعادة بك.