حنيف مسلم
05-22-2012, 03:48 PM
د. عبد العزيز بن محمد آل عبداللطيف
::: مجلة البيان - عدد 297 شهر جمادى الأولى 1433هـ
لئن كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول عن العامة: «همج رَعاع أتباع كلِّ ناعق يميلون مع كل صائح»[1].
وكذا الإمام محمد بن أسلم يقول: «احذروا الغوغاء فإن الأنبياء قتلتهم الغوغاء»[2].
فإن معـاوية بن أبي سفيان - رضـي الله عنـه - قـال فـي وصيته لابنه يزيد: اتق صيحة العامة. وكان الإمام الشعبي يقول: نِعمَ الشيء الغوغاء يسدُّون السيل، ويطفئون الحريق، ويشغبون على ولاء السوء[3].
ومهما يكن فإن لدى العامة من العفوية والإقدام ما ليس لأصحاب الروية والتفكير، كما أن لديهم من نقاء الفطرة وسلامتها ما ليس لمن عالج الشبهات وخالطها؛ فالجويني ندم على اشتغاله بعلم كلام ثم قال: «ها أنا ذا أموت على عقيدة أمي. أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور»[4].
والآمدي الأصولي المتكلم يقول: «أمعنتُ النظر في الكلام وما استفدت منه شيئاً إلا ما عليه العوام»[5].
ولما سئل عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - عن شيء من الأهواء (البدع) قال: «الزم دين الصبي في الكتَّاب والأعرابي، والْهَ عما سوى ذلك»[6].
والعالم الرباني يوصف بأنه عالم أمة، فهذا الإمام ابن تيمية كان محبوباً للعامة؛ لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً، بلسانه وقلمه[7].
وتاريخنا حافل بوقائع تكشف أن للعامة ثورات وشغباً وهيجاناً، وأن لها تأثيراً ظاهراً في سير الأحداث، وحضوراً قوياً في تلك النوازل.
ومن ذلك أن العامة هاجت على بشر المريسي المبتدع (ت 218هـ) وطالبوا الخليفة باستتابته واستجاب الخليفة لهم وأمر باستتابته[8]، وكان الصبيان يتعادون بين يدي جنازة بشر، ويقولون: من يكتب إلى مالك؟ من يكتب إلى مالك (يعنون مالكاً خازن جهنم)[9].
ثم إن هؤلاء الأطفال يرمون جنازة بشر المريسي بالحجارة[10].
والحاصل أن هيجان العامة على ذلك المبتدع المريسي قد تحقق مقصوده؛ إذ أمر الخليفةُ القاضيَّ باستتابة المريسي وتمَّ ذلك.
ومن تلك الثورات أن «المطوِّعين» تجرَّدوا للإنكار على الفساق ببغداد سنة 201هـ؛ حيث استفحل شرُّ الفساق، فكانوا يختطفون النسوان والغلمان علانيةً، واللصوص يسرقون وينهبون ثم يبيعونه وضح النهار! فطالب الأهالي السلطان أن يكفَّهم فلم يجبهم.
فقام رجل يقال له: خالد الدريوس، فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومَنَع الفساق وعزَّر السرَّاق ورفعهم إلى السلطان.
ثم قام رجل آخر يقال له: سلامة الأنصاري ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتَبعَه عامة الناس، ومَنَع المنكرات، لكن أفرط في ذلك إذ قاتل كلَّ من خالف الكتاب والسنة كائناً من كان سلطاناً أو غير سلطان. فجهز له الخليفة العساكر فغلبه وانحلَّ أمره سنة 202هـ[11].
وما فعله المحتسب الأول كان نافعاً في تحقيق الأمن وزوال الفساد، وأما ما صنعه «سلامة» فلم يكن سليماً ولا سديداً؛ فلا يتفق مع النصوص الشرعية ولا القواعد المرعية، ثم إنه حمَّل نفسه وأصحابه ما لايطيقون، فأفضى ذلك إلى انحلال أمرهم واندراس احتسابهم.
ويبدو أن الأوضاع المضطربة قد تبعث إلى الاندفاع والاسترسال، وتجرُّ لمواقف غير محررة كما في هذه الحادثة التي أودت بالاحتساب.
وهذا يذكِّرنا بفتنة ابن الأشعث سنة 81هـ؛ حيث لم يقتصر ابن الأشعث الكندي ومَن تبعَه على خلع الحَجَّاج الثقفي حتى تجاوزوه إلى خلع الخليفة عبد الملك بن مروان القرشي، ثم نفروا من مصالحة الخليفة على عزل الحجاج. فأعقب هذه الفتنة شرٌّ كبير، وهلك خلق كثير، وتولَّد عنها الإرجاء[12].
وسطَّر ابن خلدون كلاماً متيناً بشأن تعثُّر الثوار القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأورد حكاية سلامة الأنصاري وكثرة أتباعه من العامة والدهماء الذين تجمعهم هذه الدعوة الدينية، لكنهم يفتقدون إلى القبائل والعشائر الذين تذبُّ عنهـم، فابن خلـدون يجزم أن الدعـوة الدينيـة لا تتم من غير عصبية أو قبيلة تنتصر لهم، وأن هؤلاء الثوار القائمين بتغيير المنكر يعرِّضون أنفسهم للمهالك؛ فالدول القوية لا يهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما عبَّر ابن خلدون[13].
ومن ثورات العامة أن في سنة 308هـ ارتفع الغلاء والمكوس في بغداد فاضطربت العامة لذلك وأوقعوا شغباً...وعندئذٍ أزيلت المكوس وهبطت الأسعار[14].
فهيجان العامة آنذاك كان سبباً في زوال الضرائب ورخص الأسعار.
وفي سنة 227هـ خرج رجل بالشام يُقال له: أبو حرب المبرقع اليماني لما اعتدى أحد الجنود على امرأته، فقَتَل أبو حرب ذلك الجنديَّ، ثم تحصَّن في الجبال، واتبعه على ذلك خلق كثير من الفلاَّحين والحراثين، وبلغ أتباعُه قرابة مائة ألف مقاتل، فلما حان وقت حراثة الأرض تفرَّق عنه الناس إلى أراضيهم! ولم يبقَ معه إلا شرذمة قليلة فتمَّ أسره والذهاب به إلى الخليفة العباسي المعتصم[15].
فما أسرع استجابة الحرَّاثين حال الفراغ والبطالة، وما أعجل تنصُّلهم وقت الحرث، وركونهم للزرع!
ومن ثورات العامة أن في سنة 403هـ في عهد الخليفة العباسي القادر بالله توفيت زوجة أحد رؤساء النصارى ببغداد فأُخرجت جنازتها ومعها الطبول والصلبان، فأنكر ذلك بعض الهاشميين، فضربه بعض النصارى بدبوس في رأسه، فثار المسلمون، ووقع شغب وقتال، وانتشرت الفتنة، وغلِّقت جوامع، ثم أُخِذ هذا النصراني لدار الخلافة فسكنت الأمور[16].
ويبدو أن هذه الحادثة كانت سبباً في إلزام النصارى بالشروط العمرية، وفيها: «لا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر صليباً»[17].
وقد أحسن الخليفة القادر بالله بإحيائه هذه الشروط التي جددها الخلفاء السابقون أمثال: عمربن عبد العزيز، وهارون الرشيد، والمتوكل.
وكان عهدالقادر لا يخلو من أحداث تحكي شغب النصارى، وبغيَهم على المسلمين، وظلمَ بعض عامة المسلمين للنصارى[18]، لكن بإلزام النصارى الشروط العمرية سنة 403 هـ اختفى الشغب واستقرت الأحوال، كما اعترف بذلك جان موريس فييه أحد النصارى المعاصرين[19].
والحاصل أن هيجان العامة و ثوراتهم كانت سبباً في ظهور الشروط العمرية واستقرار الأحوال وتحقق العدل.
وفي سنة 429 هـ أمر جلال الدولة أن يلقَّب بـــ «شاهنشاه»[20] وخُطِب له بذلك على المنابر، فنفر العامة ورجموا الخطباء، ووقعت فتنة شديدة، فاستفتى الفقهاء، فأجازه بعضهم، ومنعه آخرون[21].
والمقصـود أن العـامة بفطـرتهم نفـروا من منـازعـة اللـه - تعالى - في أسمائه وما يختص به، وهو ما جعل السلطان يستفتي العلماء في هذا اللقب.
والحاصل أن للعامة تأثيراً بيِّناً في الشغب على ولاة السوء، والهيجان على أهل الكفر والابتداع، فسذاجة العامة وعفويتهم تبعث على الشجاعة والإقدام، مع ما قد يكتنفها من البغي والعدوان، والولوج في مزالق لا يطيقونها، كما أنهم قد ينفضُّون سريعاً كما وقع لأتباع أبي حرب المبرقع.
وبالجملة فالعامة يمكن أن يحققو مكاسب للأمة، وإنجازات لبلادهم، ما لا يحققه النُخَب الذين أنهكهم التفكير وأقعد طاقاتهم التنظير، والثورات الحاضرة خير شاهد على ذلك.
::: مجلة البيان - عدد 297 شهر جمادى الأولى 1433هـ
[1] أخرجه أبو نعيم في الحلية: 1/79.
[2] أخرجه أبو نعيم في الحلية: 9/240.
[3] أخرجه أبو نعيم في الحلية: 4/324، وهو في السير للذهبي: 4/312.
[4] الحموية لابن تيمية، ص210، وشرح الطحاوية: 1/245.
[5] الدرء لابن تيمية: 3/262.
[6] أخرجه الصابوني في عقيدة السلف، ص247.
[7] انظر: الجامع لسيرة ابن تيمية، ص 408.
[8] المنتظم لابن الجوزي: 10/106.
[9] تاريخ بغداد: 7/64.
[10] السنة للخلال: 5/114.
[11] انظر: المنتظم لابن الجوزي: 10/ 92 - 93 - 107، ومقدمة ابن خلدون: 2/530 - 531.
[12] انظر: البداية لابن كثير: 9/35 - 54.
[13] انظر: مقدمة ابن خلدون: 2/528 - 532.
[14] انظر: المنتظم: 13/194.
[15] انظر: البداية: 10/295.
[16] انظر: المنتظم: 15/91 - 92.
[17] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم: 2/330، وأحكام أهل الذمة لابن القيم: 2/659.
[18] انظر: الكامل: 9/136، والبداية: 11/330.
[19] انظر: أحوال النصارى في خلافة بني العباس لجان فييه، ص265.
[20] شاهانشاه: ملك الملوك، وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «إن أخنع اسم عند الله رجل تسمَّى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله»، أخرجه البخاري ومسلم.
[21] ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب: 1/84، والمنتظم لابن الجوزي: 15/265.
::: مجلة البيان - عدد 297 شهر جمادى الأولى 1433هـ
لئن كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول عن العامة: «همج رَعاع أتباع كلِّ ناعق يميلون مع كل صائح»[1].
وكذا الإمام محمد بن أسلم يقول: «احذروا الغوغاء فإن الأنبياء قتلتهم الغوغاء»[2].
فإن معـاوية بن أبي سفيان - رضـي الله عنـه - قـال فـي وصيته لابنه يزيد: اتق صيحة العامة. وكان الإمام الشعبي يقول: نِعمَ الشيء الغوغاء يسدُّون السيل، ويطفئون الحريق، ويشغبون على ولاء السوء[3].
ومهما يكن فإن لدى العامة من العفوية والإقدام ما ليس لأصحاب الروية والتفكير، كما أن لديهم من نقاء الفطرة وسلامتها ما ليس لمن عالج الشبهات وخالطها؛ فالجويني ندم على اشتغاله بعلم كلام ثم قال: «ها أنا ذا أموت على عقيدة أمي. أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور»[4].
والآمدي الأصولي المتكلم يقول: «أمعنتُ النظر في الكلام وما استفدت منه شيئاً إلا ما عليه العوام»[5].
ولما سئل عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - عن شيء من الأهواء (البدع) قال: «الزم دين الصبي في الكتَّاب والأعرابي، والْهَ عما سوى ذلك»[6].
والعالم الرباني يوصف بأنه عالم أمة، فهذا الإمام ابن تيمية كان محبوباً للعامة؛ لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً، بلسانه وقلمه[7].
وتاريخنا حافل بوقائع تكشف أن للعامة ثورات وشغباً وهيجاناً، وأن لها تأثيراً ظاهراً في سير الأحداث، وحضوراً قوياً في تلك النوازل.
ومن ذلك أن العامة هاجت على بشر المريسي المبتدع (ت 218هـ) وطالبوا الخليفة باستتابته واستجاب الخليفة لهم وأمر باستتابته[8]، وكان الصبيان يتعادون بين يدي جنازة بشر، ويقولون: من يكتب إلى مالك؟ من يكتب إلى مالك (يعنون مالكاً خازن جهنم)[9].
ثم إن هؤلاء الأطفال يرمون جنازة بشر المريسي بالحجارة[10].
والحاصل أن هيجان العامة على ذلك المبتدع المريسي قد تحقق مقصوده؛ إذ أمر الخليفةُ القاضيَّ باستتابة المريسي وتمَّ ذلك.
ومن تلك الثورات أن «المطوِّعين» تجرَّدوا للإنكار على الفساق ببغداد سنة 201هـ؛ حيث استفحل شرُّ الفساق، فكانوا يختطفون النسوان والغلمان علانيةً، واللصوص يسرقون وينهبون ثم يبيعونه وضح النهار! فطالب الأهالي السلطان أن يكفَّهم فلم يجبهم.
فقام رجل يقال له: خالد الدريوس، فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومَنَع الفساق وعزَّر السرَّاق ورفعهم إلى السلطان.
ثم قام رجل آخر يقال له: سلامة الأنصاري ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتَبعَه عامة الناس، ومَنَع المنكرات، لكن أفرط في ذلك إذ قاتل كلَّ من خالف الكتاب والسنة كائناً من كان سلطاناً أو غير سلطان. فجهز له الخليفة العساكر فغلبه وانحلَّ أمره سنة 202هـ[11].
وما فعله المحتسب الأول كان نافعاً في تحقيق الأمن وزوال الفساد، وأما ما صنعه «سلامة» فلم يكن سليماً ولا سديداً؛ فلا يتفق مع النصوص الشرعية ولا القواعد المرعية، ثم إنه حمَّل نفسه وأصحابه ما لايطيقون، فأفضى ذلك إلى انحلال أمرهم واندراس احتسابهم.
ويبدو أن الأوضاع المضطربة قد تبعث إلى الاندفاع والاسترسال، وتجرُّ لمواقف غير محررة كما في هذه الحادثة التي أودت بالاحتساب.
وهذا يذكِّرنا بفتنة ابن الأشعث سنة 81هـ؛ حيث لم يقتصر ابن الأشعث الكندي ومَن تبعَه على خلع الحَجَّاج الثقفي حتى تجاوزوه إلى خلع الخليفة عبد الملك بن مروان القرشي، ثم نفروا من مصالحة الخليفة على عزل الحجاج. فأعقب هذه الفتنة شرٌّ كبير، وهلك خلق كثير، وتولَّد عنها الإرجاء[12].
وسطَّر ابن خلدون كلاماً متيناً بشأن تعثُّر الثوار القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأورد حكاية سلامة الأنصاري وكثرة أتباعه من العامة والدهماء الذين تجمعهم هذه الدعوة الدينية، لكنهم يفتقدون إلى القبائل والعشائر الذين تذبُّ عنهـم، فابن خلـدون يجزم أن الدعـوة الدينيـة لا تتم من غير عصبية أو قبيلة تنتصر لهم، وأن هؤلاء الثوار القائمين بتغيير المنكر يعرِّضون أنفسهم للمهالك؛ فالدول القوية لا يهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما عبَّر ابن خلدون[13].
ومن ثورات العامة أن في سنة 308هـ ارتفع الغلاء والمكوس في بغداد فاضطربت العامة لذلك وأوقعوا شغباً...وعندئذٍ أزيلت المكوس وهبطت الأسعار[14].
فهيجان العامة آنذاك كان سبباً في زوال الضرائب ورخص الأسعار.
وفي سنة 227هـ خرج رجل بالشام يُقال له: أبو حرب المبرقع اليماني لما اعتدى أحد الجنود على امرأته، فقَتَل أبو حرب ذلك الجنديَّ، ثم تحصَّن في الجبال، واتبعه على ذلك خلق كثير من الفلاَّحين والحراثين، وبلغ أتباعُه قرابة مائة ألف مقاتل، فلما حان وقت حراثة الأرض تفرَّق عنه الناس إلى أراضيهم! ولم يبقَ معه إلا شرذمة قليلة فتمَّ أسره والذهاب به إلى الخليفة العباسي المعتصم[15].
فما أسرع استجابة الحرَّاثين حال الفراغ والبطالة، وما أعجل تنصُّلهم وقت الحرث، وركونهم للزرع!
ومن ثورات العامة أن في سنة 403هـ في عهد الخليفة العباسي القادر بالله توفيت زوجة أحد رؤساء النصارى ببغداد فأُخرجت جنازتها ومعها الطبول والصلبان، فأنكر ذلك بعض الهاشميين، فضربه بعض النصارى بدبوس في رأسه، فثار المسلمون، ووقع شغب وقتال، وانتشرت الفتنة، وغلِّقت جوامع، ثم أُخِذ هذا النصراني لدار الخلافة فسكنت الأمور[16].
ويبدو أن هذه الحادثة كانت سبباً في إلزام النصارى بالشروط العمرية، وفيها: «لا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر صليباً»[17].
وقد أحسن الخليفة القادر بالله بإحيائه هذه الشروط التي جددها الخلفاء السابقون أمثال: عمربن عبد العزيز، وهارون الرشيد، والمتوكل.
وكان عهدالقادر لا يخلو من أحداث تحكي شغب النصارى، وبغيَهم على المسلمين، وظلمَ بعض عامة المسلمين للنصارى[18]، لكن بإلزام النصارى الشروط العمرية سنة 403 هـ اختفى الشغب واستقرت الأحوال، كما اعترف بذلك جان موريس فييه أحد النصارى المعاصرين[19].
والحاصل أن هيجان العامة و ثوراتهم كانت سبباً في ظهور الشروط العمرية واستقرار الأحوال وتحقق العدل.
وفي سنة 429 هـ أمر جلال الدولة أن يلقَّب بـــ «شاهنشاه»[20] وخُطِب له بذلك على المنابر، فنفر العامة ورجموا الخطباء، ووقعت فتنة شديدة، فاستفتى الفقهاء، فأجازه بعضهم، ومنعه آخرون[21].
والمقصـود أن العـامة بفطـرتهم نفـروا من منـازعـة اللـه - تعالى - في أسمائه وما يختص به، وهو ما جعل السلطان يستفتي العلماء في هذا اللقب.
والحاصل أن للعامة تأثيراً بيِّناً في الشغب على ولاة السوء، والهيجان على أهل الكفر والابتداع، فسذاجة العامة وعفويتهم تبعث على الشجاعة والإقدام، مع ما قد يكتنفها من البغي والعدوان، والولوج في مزالق لا يطيقونها، كما أنهم قد ينفضُّون سريعاً كما وقع لأتباع أبي حرب المبرقع.
وبالجملة فالعامة يمكن أن يحققو مكاسب للأمة، وإنجازات لبلادهم، ما لا يحققه النُخَب الذين أنهكهم التفكير وأقعد طاقاتهم التنظير، والثورات الحاضرة خير شاهد على ذلك.
::: مجلة البيان - عدد 297 شهر جمادى الأولى 1433هـ
[1] أخرجه أبو نعيم في الحلية: 1/79.
[2] أخرجه أبو نعيم في الحلية: 9/240.
[3] أخرجه أبو نعيم في الحلية: 4/324، وهو في السير للذهبي: 4/312.
[4] الحموية لابن تيمية، ص210، وشرح الطحاوية: 1/245.
[5] الدرء لابن تيمية: 3/262.
[6] أخرجه الصابوني في عقيدة السلف، ص247.
[7] انظر: الجامع لسيرة ابن تيمية، ص 408.
[8] المنتظم لابن الجوزي: 10/106.
[9] تاريخ بغداد: 7/64.
[10] السنة للخلال: 5/114.
[11] انظر: المنتظم لابن الجوزي: 10/ 92 - 93 - 107، ومقدمة ابن خلدون: 2/530 - 531.
[12] انظر: البداية لابن كثير: 9/35 - 54.
[13] انظر: مقدمة ابن خلدون: 2/528 - 532.
[14] انظر: المنتظم: 13/194.
[15] انظر: البداية: 10/295.
[16] انظر: المنتظم: 15/91 - 92.
[17] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم: 2/330، وأحكام أهل الذمة لابن القيم: 2/659.
[18] انظر: الكامل: 9/136، والبداية: 11/330.
[19] انظر: أحوال النصارى في خلافة بني العباس لجان فييه، ص265.
[20] شاهانشاه: ملك الملوك، وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «إن أخنع اسم عند الله رجل تسمَّى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله»، أخرجه البخاري ومسلم.
[21] ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب: 1/84، والمنتظم لابن الجوزي: 15/265.