طارق منينة
05-27-2012, 08:28 PM
"شفرة" المصريين لم يفكها أحد .الأحد، 27 أيار 2012 ..
د.إبراهيم البيومي غانم
لو أردنا تلخيص نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المصرية التي جرت يومي 23 و24 أيار الجاري في جملة واحدة، لكانت هي أنّه "لم ينجح أحد في فك شفرة الشعب المصري" حتى الآن. وأنّ نداء التوحد ولم الشمل يجب أن يعلو فوق أيّ نداء آخر، وإلاّ فإنّ الثورة ستكون في خطر داهم.
ما جرى يقول بأفصح لسان: إنّ الروح الثورية التي أطاحت برأس نظام مبارك المخلوع ضنت بنفسها عن أن يمتلكها فريق واحد أو اتجاه غالب مهما كانت قوته. ويقول إنّ هذا الشعب العظيم غاضب، وغير راض عن الجميع بدرجات متفاوتة، وأنّه لا يزال ينتظر مبادرات إيجابية تأخذ بيده لتخرجه من تيه المهاترات السياسية إلى المجال المشترك من أجل التصدي بشكل مباشر للقضايا الاقتصادية والأمنية تحديداً، وهي القضايا التي يئنّ منها السواد الأعظم من المصريين. ما جرى يؤكّد أنّ الأغلبية الساحقة لم تقتنع بما فيه الكفاية بجدية أيٍّ من المتنافسين على منصب الرئاسة في التصدي لهذه القضايا. وعلى أيّ حال فإنّ هناك تفسيرين أساسيين لاتجاهات التصويت للمرشحين على النحو الذي كشفت عنه نتائج تلك الجولة الأولى.
التفسير الأول ينبني على معيار مركب من ثنائية "الثورة" و"الثورة المضادة"، وبهذا المعيار فإنّ ثلثي أصوات الناخبين قد ذهبت إلى كل من: محمد مرسي مرشح حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين بنسبة 25.3 بالمئة، وحمدين صباحي بنسبة 20.2 بالمئة، وعبد المنعم أبو الفتوح بنسبة 17.6 بالمئة. وبالمعيار الثوري فإنّ هذه هي أصوات مزيج من قوى ثورة يناير الإسلامية والوطنية الراغبة في استكمال عملية التغيير ودحر قوى الثورة المضادة وتأسيس نظام سياسي ديمقراطي جديد. ولكن كما هو واضح فإنّ التشتت وعدم التوافق كان هو نقطة الضعف القاتلة التي أضعفت مرسي وأبو الفتوح وصباحي لمصلحة مرشحي الفلول والثورة المضادة، وليس لمصلحة منافسه من مرشحي الثورة.
مثل هذا الدرس لم يكن خافياً على أحد، وليس اكتشافاً عبقرياً تم التوصل إليه بعد أن انقشع غبار الجولة الأولى من الانتخابات، فالكل كان يعرفه حق المعرفة، ولكن الكل ركب رأسه، وأبى إلاّ أن يسير في الطريق الذي رآه لنفسه دون أن يفلح الجميع في الالتقاء عند نقطة وسط تجمعهم وتمكّنهم من حسم المعركة من الجولة الأولى. ولو تصوّرنا أنّ توافقاً من هذا النوع قد حدث لكان الحد الأدنى لفوز مرشح الثورة هو حصوله على 63 بالمئة من مجموع الأصوات، بافتراض ثبات العوامل الأخرى على ما هي عليه.
وعلى الجانب الآخر، وبمعيار "الثورة المضادة" فإنّ ما يقرب من ثلث أصوات المصريين ذهب إلى مرشحي الفلول، وهما الفريق أحمد شفيق بنسبة 24 بالمئة، وعمرو موسى بنسبة 11.6 بالمئة. ورغم وجود بعض الفروق بين هذين المرشحين إلاّ أنّ أغلبية الأصوات التي ذهبت إليهما هي أصوات حرّكتها وجيّشتها وعبّأتها قوى الثورة المضادة وحلفاؤها في الخارج والداخل، وهي تشمل بعض رجال الأعمال الذين ينتمون إلى عهد المخلوع، وفلول أمن الدولة والحزب الوطني المنحل. وقد لعبت المؤسسات الإعلامية التابعة للعهد البائد دوراً كبيراً في تشويه مرشحي قوى الثورة، وعلى رأسهم الدكتور محمد مرسي. هذا إلى جانب الدور الذي قامت به قوى البيروقراطية الحكومية والإدارة المحلية التي اتّضح للجميع أنّ مفاصلها الرئيسية لا تزال في قبضة فلول النظام، وأنّ لديهم القدرة على تهديد الثورة ومساندة قوى الثورة المضادة دفاعاً عن مصالحهم، وخاصة بعد أن طالت الفترة الانتقالية وبدأ اليأس يتسلل إليه كثيرين من سوء أداء جميع القوى الثورية المتنافسة فيما بينها.
لقد انشغلت أغلب قوى الثورة في المجادلات الفضائية والعيش في العالم الافتراضي وهي تسعى لإثبات ذاتها وقهر خصومها "عبر الأثير"، بينما انهمكت قوى الثورة المضادة في العمل بعيداً عن الأنظار، وراحت تستجمع مواردها وتعيد تنظيم صفوفها وتهيء مسرح عمليات المواجهة في أرض المعركة الحقيقية هناك في قلب الريف والمناطق العشوائية والمحافظات كثيفة السكان، انتظاراً للحظة الحسم في معركة الانتخابات الرئاسية. وهو ما فوجئت به قوى الثورة في صورة تساقط معاقل تقليدية رئيسية للقوى الإسلامية في أربع محافظات هي: الغربية والدقهلية والشرقية والمنوفية على وجه التحديد، وهذه المحافظات تضم وحدها 25 بالمئة من إجمالي عدد الكتلة التصويتية على مستوى الجمهورية، بينما تتقاسم 23 محافظة أخرى 75 بالمئة من المصوتين، منها محافظتا القاهرة والجيزة وبهما وحدهما حوالي 20 بالمئة من إجمالي المصوتين، وقد تشتتت الأصوات فيهما بين جميع المتنافسين، الأمر الذي يعني أنّ الدولة العميقة وقوى الثورة المضادة أثبتت أنّها لا تزال قادرة على توظيف خبراتها السابقة بكفاءة في غفلة من جميع القوى الثورية.
التفسير الثاني ينبني على معيار مركب من ثنائية "التصويت النضالي" و"التصويت العقابي". التصويت النضالي يعني تأييد مرشح بعينه والتصويت له عن اقتناع واستعداد للوقوف بجانبه والصبر عليه حال فوزه بمنصب الرئاسة كي تتاح له فرصة مناسبة لتنفيذ برنامجه الانتخابي. أمّا التصويت العقابي فيعني تأييد مرشح والتصويت له ليس حباً فيه ولا اقتناعاً ببرنامجه، وإنّما كرها في مرشح آخر ومعاقبته لسبب أو لآخر يراه أصحاب الصوت الانتخابي، وهو تصويت "مؤقت" ينتقل صاحبه إلى حالة الانتظار الترقب دون أن يكون لديه استعداد للتضحية أو حتى التذرع بالصبر ولو إلى حين.
وقبل أن نوضح أبعاد هذا التفسير لاحظنا أنّ هناك "غفلة" عن معيار "التصويت العقابي" في تفسير ما كشفت عنه نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، بخلاف ما اعتادت عليه النخبة المصرية السياسية والإعلامية في مثل هذه المناسبات الانتخابية. وعموما فسوف يظل تحديد الوزن النسبي للتصويت العقابي مقارنة بالتصويت النضالي محل خلاف بين المحللين والخبراء. ولكن ثمة مفارقة واضحة هذه المرة في تفسير ما جرى في الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة، وهي انقلاب آلية التصويت العقابي من العمل ضد النظام وممثلي السلطة القديمة، كما كان يحدث في عهد المخلوع، إلى معاقبة بعض القوى الثورية بما في ذلك القوى الإسلامية منها.
بالمعيار (النضالي) في التصويت يجب أن نعترف بأنّ أغلب الأصوات النضالية كانت من نصيب د.محمد مرسي مرشح القوى والأحزاب الإسلامية المنظمة وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة، حيث كشفت النتائج عن أنه حصل على حوالي 5.600.000 صوت. وقد قلنا في مقالنا بصحيفة السبيل (20/5/2012) الماضي أنّ مرسي يدخل الانتخابات وفي يده حوالي خمسة ملايين صوت كحد أدنى، وهي أصوات أعضاء جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة والدائرة القريبة جدا منهم، ومعنى ذلك أنّ حملة الدكتور مرسي لم تنجح إلاّ بشكل محدود جدا في رأينا في اختراق الكتلة التصويتية الكبرى التي تشمل السواد الأعظم من المصريين، أو من يسمونهم الكتلة الصامتة، وهذه نقطة يجب أن توضع موضع البحث والتحليل المتعمقين من جانب القائمين على الحملة.
وبالمعيار النضالي نفسه جاءت أغلبية الأصوات التي حصل عليها الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، وكذلك الأستاذ حمدين صباحي، مع فارق رئيسي بين الاثنين، ثم بينهما وبين مرسي، فأصوات صباحي وهي حوالي 4.625.000 صوتاً انقسمت إلى نصفين تقريباً: النصف الأول أصوات نضالية أدلى بها شباب مؤمن بالثورة والتغيير والعدالة الاجتماعية ومعجب بشخصية صديقنا العزيز حمدين، والنصف الثاني بعضه أصوات عقابية للفلول وبعضه أصوات عقابية لمرشحي التيار الإسلامي (مرسي وأبو الفتوح)، وهذا هو ما أوجد فرقاً بينه وبين أبو الفتوح؛ حيث جاءت أصواته وهي حوالي 4.000.000 صوت "نضالية" في أغلبيتها، وقد أدلى له بها المقتنعون بشخصيته الكفاحية وببرنامجه الإصلاحي، وبعضهم أدلى له ليبتعد عن مرشح الحرية والعدالة، وهناك نسبة في حدود ربع ما حصل عليه أبو الفتوح جاءت عقابية أيضاً لمرشحي الفلول عمرو موسى وأحمد شفيق.
أمّا بالمعيار العقابي فنجد أنّ أغلب الأصوات التي حصل عليها مرشحا الفلول موسى وشفيق هي عبارة عن عقوبة جماعية أوقعها السواد الأعظم من المصريين بالقوى الثورية، فأغلبية المصوتين للفلول، وخاصة في محافظات وسط الدلتا، وجدت أنّ القوى الثورية بما فيها الإسلامية قد انشغلت بهدم بعضها بعضاً، ولم تفلح في لمّ شملها لتعمل معاً من أجل إنهاء الانتظارات الطويلة لهم وتجاوز معاناتهم من البطالة وغلاء الأسعار. وزادهم الانفلات الأمني تصميماً على التصويت لشفيق على وجه التحديد ليس حباً فيه، وإنّما على سبيل التذكير والإنذار عالي الصوت للقوى الثورية بأنّ ما يقوله شفيق عن "الأمن" والقدرة على استرجاعه في 24 ساعة هو عين ما يطلبه السواد الأعظم من القوى الثورية وفي القلب منها مرشحها الفائز بالترتيب الأول الدكتور محمد مرسي.
لم يسلّم الشعب المصري مفاتيح شفرته السياسية لأيٍّ من القوى المتنافسة، ولعل جميع قوى الثورة قد استوعبت الدرس كي تلمّ شملها وتستجمع قواها، وليس أمام كل قوى الثورة إلى خيار واحد فقط هو الاحتشاد خلف محمد مرسي، وساعتها سنتمكّن من قهر مرشحي الفلول والدولة العميقة وسيفك الشعب المصري مفاتيح شفرته في صناديق الإعادة وسيقول بأغلبيته الساحقة "نعم لمحمد مرسي" ومليون لا للفلول.
http://www.assabeel.net/studies-and-essays/assabeel-essayists/90649-شفرة-المصريين-لم-يفكها-أحد.html
د.إبراهيم البيومي غانم
لو أردنا تلخيص نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المصرية التي جرت يومي 23 و24 أيار الجاري في جملة واحدة، لكانت هي أنّه "لم ينجح أحد في فك شفرة الشعب المصري" حتى الآن. وأنّ نداء التوحد ولم الشمل يجب أن يعلو فوق أيّ نداء آخر، وإلاّ فإنّ الثورة ستكون في خطر داهم.
ما جرى يقول بأفصح لسان: إنّ الروح الثورية التي أطاحت برأس نظام مبارك المخلوع ضنت بنفسها عن أن يمتلكها فريق واحد أو اتجاه غالب مهما كانت قوته. ويقول إنّ هذا الشعب العظيم غاضب، وغير راض عن الجميع بدرجات متفاوتة، وأنّه لا يزال ينتظر مبادرات إيجابية تأخذ بيده لتخرجه من تيه المهاترات السياسية إلى المجال المشترك من أجل التصدي بشكل مباشر للقضايا الاقتصادية والأمنية تحديداً، وهي القضايا التي يئنّ منها السواد الأعظم من المصريين. ما جرى يؤكّد أنّ الأغلبية الساحقة لم تقتنع بما فيه الكفاية بجدية أيٍّ من المتنافسين على منصب الرئاسة في التصدي لهذه القضايا. وعلى أيّ حال فإنّ هناك تفسيرين أساسيين لاتجاهات التصويت للمرشحين على النحو الذي كشفت عنه نتائج تلك الجولة الأولى.
التفسير الأول ينبني على معيار مركب من ثنائية "الثورة" و"الثورة المضادة"، وبهذا المعيار فإنّ ثلثي أصوات الناخبين قد ذهبت إلى كل من: محمد مرسي مرشح حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان المسلمين بنسبة 25.3 بالمئة، وحمدين صباحي بنسبة 20.2 بالمئة، وعبد المنعم أبو الفتوح بنسبة 17.6 بالمئة. وبالمعيار الثوري فإنّ هذه هي أصوات مزيج من قوى ثورة يناير الإسلامية والوطنية الراغبة في استكمال عملية التغيير ودحر قوى الثورة المضادة وتأسيس نظام سياسي ديمقراطي جديد. ولكن كما هو واضح فإنّ التشتت وعدم التوافق كان هو نقطة الضعف القاتلة التي أضعفت مرسي وأبو الفتوح وصباحي لمصلحة مرشحي الفلول والثورة المضادة، وليس لمصلحة منافسه من مرشحي الثورة.
مثل هذا الدرس لم يكن خافياً على أحد، وليس اكتشافاً عبقرياً تم التوصل إليه بعد أن انقشع غبار الجولة الأولى من الانتخابات، فالكل كان يعرفه حق المعرفة، ولكن الكل ركب رأسه، وأبى إلاّ أن يسير في الطريق الذي رآه لنفسه دون أن يفلح الجميع في الالتقاء عند نقطة وسط تجمعهم وتمكّنهم من حسم المعركة من الجولة الأولى. ولو تصوّرنا أنّ توافقاً من هذا النوع قد حدث لكان الحد الأدنى لفوز مرشح الثورة هو حصوله على 63 بالمئة من مجموع الأصوات، بافتراض ثبات العوامل الأخرى على ما هي عليه.
وعلى الجانب الآخر، وبمعيار "الثورة المضادة" فإنّ ما يقرب من ثلث أصوات المصريين ذهب إلى مرشحي الفلول، وهما الفريق أحمد شفيق بنسبة 24 بالمئة، وعمرو موسى بنسبة 11.6 بالمئة. ورغم وجود بعض الفروق بين هذين المرشحين إلاّ أنّ أغلبية الأصوات التي ذهبت إليهما هي أصوات حرّكتها وجيّشتها وعبّأتها قوى الثورة المضادة وحلفاؤها في الخارج والداخل، وهي تشمل بعض رجال الأعمال الذين ينتمون إلى عهد المخلوع، وفلول أمن الدولة والحزب الوطني المنحل. وقد لعبت المؤسسات الإعلامية التابعة للعهد البائد دوراً كبيراً في تشويه مرشحي قوى الثورة، وعلى رأسهم الدكتور محمد مرسي. هذا إلى جانب الدور الذي قامت به قوى البيروقراطية الحكومية والإدارة المحلية التي اتّضح للجميع أنّ مفاصلها الرئيسية لا تزال في قبضة فلول النظام، وأنّ لديهم القدرة على تهديد الثورة ومساندة قوى الثورة المضادة دفاعاً عن مصالحهم، وخاصة بعد أن طالت الفترة الانتقالية وبدأ اليأس يتسلل إليه كثيرين من سوء أداء جميع القوى الثورية المتنافسة فيما بينها.
لقد انشغلت أغلب قوى الثورة في المجادلات الفضائية والعيش في العالم الافتراضي وهي تسعى لإثبات ذاتها وقهر خصومها "عبر الأثير"، بينما انهمكت قوى الثورة المضادة في العمل بعيداً عن الأنظار، وراحت تستجمع مواردها وتعيد تنظيم صفوفها وتهيء مسرح عمليات المواجهة في أرض المعركة الحقيقية هناك في قلب الريف والمناطق العشوائية والمحافظات كثيفة السكان، انتظاراً للحظة الحسم في معركة الانتخابات الرئاسية. وهو ما فوجئت به قوى الثورة في صورة تساقط معاقل تقليدية رئيسية للقوى الإسلامية في أربع محافظات هي: الغربية والدقهلية والشرقية والمنوفية على وجه التحديد، وهذه المحافظات تضم وحدها 25 بالمئة من إجمالي عدد الكتلة التصويتية على مستوى الجمهورية، بينما تتقاسم 23 محافظة أخرى 75 بالمئة من المصوتين، منها محافظتا القاهرة والجيزة وبهما وحدهما حوالي 20 بالمئة من إجمالي المصوتين، وقد تشتتت الأصوات فيهما بين جميع المتنافسين، الأمر الذي يعني أنّ الدولة العميقة وقوى الثورة المضادة أثبتت أنّها لا تزال قادرة على توظيف خبراتها السابقة بكفاءة في غفلة من جميع القوى الثورية.
التفسير الثاني ينبني على معيار مركب من ثنائية "التصويت النضالي" و"التصويت العقابي". التصويت النضالي يعني تأييد مرشح بعينه والتصويت له عن اقتناع واستعداد للوقوف بجانبه والصبر عليه حال فوزه بمنصب الرئاسة كي تتاح له فرصة مناسبة لتنفيذ برنامجه الانتخابي. أمّا التصويت العقابي فيعني تأييد مرشح والتصويت له ليس حباً فيه ولا اقتناعاً ببرنامجه، وإنّما كرها في مرشح آخر ومعاقبته لسبب أو لآخر يراه أصحاب الصوت الانتخابي، وهو تصويت "مؤقت" ينتقل صاحبه إلى حالة الانتظار الترقب دون أن يكون لديه استعداد للتضحية أو حتى التذرع بالصبر ولو إلى حين.
وقبل أن نوضح أبعاد هذا التفسير لاحظنا أنّ هناك "غفلة" عن معيار "التصويت العقابي" في تفسير ما كشفت عنه نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، بخلاف ما اعتادت عليه النخبة المصرية السياسية والإعلامية في مثل هذه المناسبات الانتخابية. وعموما فسوف يظل تحديد الوزن النسبي للتصويت العقابي مقارنة بالتصويت النضالي محل خلاف بين المحللين والخبراء. ولكن ثمة مفارقة واضحة هذه المرة في تفسير ما جرى في الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة، وهي انقلاب آلية التصويت العقابي من العمل ضد النظام وممثلي السلطة القديمة، كما كان يحدث في عهد المخلوع، إلى معاقبة بعض القوى الثورية بما في ذلك القوى الإسلامية منها.
بالمعيار (النضالي) في التصويت يجب أن نعترف بأنّ أغلب الأصوات النضالية كانت من نصيب د.محمد مرسي مرشح القوى والأحزاب الإسلامية المنظمة وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة، حيث كشفت النتائج عن أنه حصل على حوالي 5.600.000 صوت. وقد قلنا في مقالنا بصحيفة السبيل (20/5/2012) الماضي أنّ مرسي يدخل الانتخابات وفي يده حوالي خمسة ملايين صوت كحد أدنى، وهي أصوات أعضاء جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة والدائرة القريبة جدا منهم، ومعنى ذلك أنّ حملة الدكتور مرسي لم تنجح إلاّ بشكل محدود جدا في رأينا في اختراق الكتلة التصويتية الكبرى التي تشمل السواد الأعظم من المصريين، أو من يسمونهم الكتلة الصامتة، وهذه نقطة يجب أن توضع موضع البحث والتحليل المتعمقين من جانب القائمين على الحملة.
وبالمعيار النضالي نفسه جاءت أغلبية الأصوات التي حصل عليها الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، وكذلك الأستاذ حمدين صباحي، مع فارق رئيسي بين الاثنين، ثم بينهما وبين مرسي، فأصوات صباحي وهي حوالي 4.625.000 صوتاً انقسمت إلى نصفين تقريباً: النصف الأول أصوات نضالية أدلى بها شباب مؤمن بالثورة والتغيير والعدالة الاجتماعية ومعجب بشخصية صديقنا العزيز حمدين، والنصف الثاني بعضه أصوات عقابية للفلول وبعضه أصوات عقابية لمرشحي التيار الإسلامي (مرسي وأبو الفتوح)، وهذا هو ما أوجد فرقاً بينه وبين أبو الفتوح؛ حيث جاءت أصواته وهي حوالي 4.000.000 صوت "نضالية" في أغلبيتها، وقد أدلى له بها المقتنعون بشخصيته الكفاحية وببرنامجه الإصلاحي، وبعضهم أدلى له ليبتعد عن مرشح الحرية والعدالة، وهناك نسبة في حدود ربع ما حصل عليه أبو الفتوح جاءت عقابية أيضاً لمرشحي الفلول عمرو موسى وأحمد شفيق.
أمّا بالمعيار العقابي فنجد أنّ أغلب الأصوات التي حصل عليها مرشحا الفلول موسى وشفيق هي عبارة عن عقوبة جماعية أوقعها السواد الأعظم من المصريين بالقوى الثورية، فأغلبية المصوتين للفلول، وخاصة في محافظات وسط الدلتا، وجدت أنّ القوى الثورية بما فيها الإسلامية قد انشغلت بهدم بعضها بعضاً، ولم تفلح في لمّ شملها لتعمل معاً من أجل إنهاء الانتظارات الطويلة لهم وتجاوز معاناتهم من البطالة وغلاء الأسعار. وزادهم الانفلات الأمني تصميماً على التصويت لشفيق على وجه التحديد ليس حباً فيه، وإنّما على سبيل التذكير والإنذار عالي الصوت للقوى الثورية بأنّ ما يقوله شفيق عن "الأمن" والقدرة على استرجاعه في 24 ساعة هو عين ما يطلبه السواد الأعظم من القوى الثورية وفي القلب منها مرشحها الفائز بالترتيب الأول الدكتور محمد مرسي.
لم يسلّم الشعب المصري مفاتيح شفرته السياسية لأيٍّ من القوى المتنافسة، ولعل جميع قوى الثورة قد استوعبت الدرس كي تلمّ شملها وتستجمع قواها، وليس أمام كل قوى الثورة إلى خيار واحد فقط هو الاحتشاد خلف محمد مرسي، وساعتها سنتمكّن من قهر مرشحي الفلول والدولة العميقة وسيفك الشعب المصري مفاتيح شفرته في صناديق الإعادة وسيقول بأغلبيته الساحقة "نعم لمحمد مرسي" ومليون لا للفلول.
http://www.assabeel.net/studies-and-essays/assabeel-essayists/90649-شفرة-المصريين-لم-يفكها-أحد.html