المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صيحات الخطر... والْمُخَلِّص ... لسيد قطب



الفرصة الأخيرة
12-14-2005, 11:55 AM
صَيْحَـــاتُ الخَطــــر

والآن تتعالى الصيحات من هنا ومن هناك ؛ منذرة بسوء مصير البشرية في ظل هذه الحضارة المادية الخاوية من الإيمان خواءها من الروح الإنساني-حضارة الرجل الأبيض- وتتنوع هذه الصرخات.. فتارة تكون نذيراً بانحدار البشرية كلها إلى الهاوية. وتارة تكون نذيراً بانحدارها إلى الماركسية! وتتنوع كذلك الاقتراحات لدرء هذا الخطر او ذاك..
ولكنها كلها تحاول عبثاً.لأنها لا تعالج المشكلة من الأساس. ولا ترجع إلى جذور المشكلة العميقة البعيدة في التربة الأوروبية!
ومن خلال تلك الصيحات، ومن خلال هذه الاقتراحات كذلك يتبين لنا نحن مدى قصر النظر، ومدى العمى النوعي عن الرؤية! في العقلية الغربية!
وإننا نكاد نبصر بهؤلاء الحيارى سجناء في قفص من (العلم)! يشد أقدامهم بالأغلال؛ فإذا أرادوا الوثوب، كان أقصى وثوبهم قفزة في داخل القفص! او سجناء في قفص من (الواقع) يعجزهم عن الاستشراف لما وراءه!
وهي ظاهرة تلقي علينا-نحن أصحاب المنهج الإسلامي- تبعة خطيرة.. إن الإنقاذ الحقيقي للبشرية المهددة في كينونتها الإنسانية، لا يجيء إلا عن طرق تحطيم هذا القفص، والخروج منه، ورؤية الوضع كله من زاوية مستقلة تماماً: وتقديم تصور كلي شامل للمشكلة، واقتراح حلول مبتكرة ، تنبثق من هذا التصور الشامل الجديد.
ولا نريد أن نسبق السياق.. فلنبدأ بإثبات نموذجين من نماذج تلك الصيحات المنذرة بالخطر؛ وتلك الاقتراحات المقدمة من زاوية النظر القصير، او العمى النوعي!
أحد هذين النموذجين لعالم كبير من علماء هذا القرن هو دكتور ألكسيس كاريل. والآخر لسياسي خطير من ساسة هذا الجيل هو مستر دالاس وزير الخارجية الأمريكية..
* * *
كتب دكتور ألكسيس كاريل كتاباً تقع ترجمته العربية في ست وسبعين وثلاثمئة صفحة من القطع المتوسط، بعنوان: (الإنسان ذلك المجهول) ( [16]) ضمنه شهادة ضد الحضارة المادية القائمة، لقتلها أهم خصائص الإنسان؛ وأطلق فيه صيحة مدوية بالأخطار التي تهدد الجنس البشري من جراء الاعتداء على القوانين الطبيعية، التي لا تدع المعتدين عليها بلا عقوبة؛ وأعلن جهل (العلم) بحقيقة الإنسان. بل بأبسط حقائق تكوينه الجسدي ذاته!
ونحن هنا نقتطف نتفاً من هذه الشهادة؛ ومن صيحة الخطر المدوية فيها؛ ومن اقتراحاته كذلك لتلافي هذا الخطر الداهم:
(إن هدف هذا الكتاب هو أن يضع تحت تصرف كل شخص مجموعة من المعلومات العلمية التي تتعلق بالكائنات الحية في عصرنا. فقد بدأنا ندرك مدى ما في حضارتنا من ضعف.. وكثيرون يرغبون في أن يلقوا عنهم التعاليم التي فرضها عليهم المجتمع الحديث. ولهؤلاء أكتب هذا الكتاب.. كذلك كتبت لأولئك الذين يجدون من أنفسهم شجاعة كافية ليدركوا-ليس فقط ضرورة إحداث تغييرات عقلية وسياسية واجتماعية- بل أيضاً ضرورة قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري… ) (ص 11-12 مقدمة الكتاب)
(إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب، لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ أنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس، وأوهامهم، ونظرياتهم ورغباتهم . وعلى الرغم من انها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا...) (ص38)
(لقد أهمل تأثير المصنع على الحالة الفسيولوجية والعقلية للعمال، إهمالاً تاماً عند تنظيم الحياة الصناعية. إذ أن الصناعة العصرية تنهض على مبدأ: " الحد الأقصى من الإنتاج بأقل التكاليف " حتى يستطيع فرد او مجموعة من الأفراد أن يحصلوا على اكبر مبلغ مستطاع من المال. وقد اتسع نطاقها دون أي تفكير في طبيعة البشر الذين يديرون الآلات، ودون أي اعتبار للتأثيرات التي تحدثها طريقة الحياة الصناعية التي يفرضها المصنع على الأفراد، وأحفادهم...) (ص40)
(يجب أن يكون الإنسان مقياساً لكل شيء. ولكن الواقع هو عكس ذلك. فهو غريب في العالم الذي ابتدعه! انه لم يستطع أن ينظم دنياه بنفسه، لأنه لا يملك معرفة عملية بطبيعته... ومن ثم فان التقدم الهائل الذي أحرزته علوم الجماد على علوم الحياة هو إحدى الكوارث التي عانت منها الإنسانية... فالبيئة التي ولدتها عقولنا واختراعاتنا غير صالحة لا بالنسبة لقوامنا ولا بالنسبة لهيئتنا ... إننا قوم تعساء، ننحط أخلاقياً وعقلياً... إن الجماعات والأمم التي بلغت فيها الحضارة الصناعية اعظم نمو وتقدم هي على وجه الدقة، الجماعات والأمم الآخذة في الضعف؛ والتي ستكون عودتها إلى البربرية والهمجية أسرع من عودة غيرها إليها. ولكنها لا تدرك ذلك، إذ ليس هناك ما يحميها من الظروف العدائية التي شيدها العلم حولها… وحقيقة الأمر أن مدنيتنا مثل المدنيات التي سبقتها، أوجدت أحوالاً معينة للحياة من شأنها ان تجعل الحياة نفسها مستحيلة.وذلك لأسباب لا تزال غامضة… إن القلق والهموم التي يعاني منها سكان المدن العصرية تتولد عن نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية…) (ص44)
(إننا لن نصيب أية فائدة من زيادة عدد الاختراعات الميكانيكية. وقد يكون من الأجدى أن لا نضفي مثل هذا القدر الكبير من الأهمية على اكتشافات الطبيعة والفلك والكيمياء. فحقيقة الأمر أن العلم الخالص لا يجلب لنا مطلقاً ضرراً مباشراً. ولكن حينما يسيطر جماله الطاغي على عقولنا، ويستعبد أفكارنا في مملكة الجماد، فانه يصبح خطراً. ومن ثم يجب أن يحول الإنسان اهتمامه إلى نفسه والى السبب في عجزه الخلقي والعقلي. إذ ما جدوى زيادة الراحة والفخامة والجمال والمنظر وأسباب تعقيد حضارتنا إذا كان ضعفنا يمنعنا من الاستعانة بها فيما يعود علينا بالنفع؟ حقاً انه لمما لا يستحق أي عناء أن نمضي في تجميل طريق حياة تعود علينا بالانحطاط الخلقي، وتؤدي إلى اختفاء أنبل عناصر الأجناس الطيبة) (ص60)
(الإنسان نتيجة الوراثة والبيئة، وعادات الحياة والتفكير التي يفرضها عليه المجتمع العصري.. ولقد وصفنا كيف تؤثر هذه العادات في حسه وشعوره... وعرفنا انه لا يستطيع تكييف نفسه بالنسبة للبيئة التي خلقتها (التكنولوجيا) وأن مثل هذه البيئة تؤدي إلى انحلاله؛ وان العلم والميكانيكا ليسا مسؤولين عن حالته الراهنة، وإنما نحن المسؤولون لأننا لم نستطع التمييز بين الممنوع والمشروع… لقد نقضنا قوانين الطبيعة، فارتكبنا بذلك الخطيئة العظمى. الخطيئة التي يعاقب مرتكبها دائماً.. إن مبادئ (الدين العلمي) و(الآداب الصناعية) قد سقطت تحت وطأة غزو الحقيقة(البيولوجية). فالحياة لا تعطي إلا إجابة واحدة حينما تستأذن في السماح بارتياد (الأرض المحرمة).. إنها تضعف السائل! ولهذا فان الحضارة آخذة في الانهيار، لأن علوم الجماد قادتنا إلى بلاد ليست لنا. فقبلنا هداياها جميعا بلا تمييز ولا تبصر! ولقد اصبح الفرد ضيقاً، متخصصاً، فاجراً، غبياً، غير قادر على التحكم في نفسه ومؤسساته). (ص322).
ولسوف يكون من الصعب أن نتخلص من مذهب ظل يسيطر خلال اكثر من ثلاثمائة عام على عقول القوم المتحضرين..
فإذا كان على الحضارة العلمية ان تتخلى عن الطريق الذي سارت فيه منذ عصر النهضة، وتعود إلى ملاحظة المادة الجامدة ببساطة، فسوف تقع أحداث عجيبة على الفور..
ستفقد المادة سيادتها؛ ويصبح النشاط العقلي كالنشاط الفسيولوجي. وسيبدو ألا مفر من دراسة الوظائف الأدبية والجمالية والدينية، كدراسة الرياضيات والطبيعة والكيمياء..
وسوف تبدو وسائل التعليم الحالية سخيفة، وتضطر المدارس والجامعات إلى تعديل برامجها..
وسيسأل علماء الصحة عن السبب الذي يحدوهم إلى الاهتمام فقط بمنع الأمراض العضوية دون الأمراض العقلية، والاضطرابات العصبية، كما سيسألون عما يجعلهم لا يبذلون اهتماماً بالصحة الروحية؟ ولماذا يعزلون المرضى بالأمراض المعدية، ولا يعزلون أولئك الذين ينشرون الأمراض العقلية والأدبية؟ ولماذا يعتبرون العادات المسئولة عن الأمراض العضوية عادات ضارة، دون العادات التي تؤدي إلى الفساد والإجرام والجنون؟
ولسوف يدرك الاقتصاديون أن (بني الإنسان) يفكرون ويشعرون ويتألمون. ومن ثم يجب أن تقدم لهم أشياء أخرى غير العمل والطعام، والفراغ! وان لهم احتياجات روحية مثل الاحتياجات الفسيولوجية. كما سيدركون أيضاً أن أسباب الأزمات الاقتصادية والمالية، قد تكون أسباباً أدبية وعقلية..
وسوف لا نضطر إلى قبول أحوال البربرية في المدن الكبرى وطغيان المصنع والمكتب، وتضحية الكبرياء الأدبية في سبيل المصلحة الاقتصادية، او تضحية العقل للمال.. ويجب أيضاً أن ننبذ الاختراعات الميكانيكية التي تعرقل النمو البشري.
( وسوف لا يبدو الاقتصاديون، وكأنهم المرجع النهائي لكل شيء.
(ولما كان من الواضح أن تحرير الإنسان من مذهب (المادية) سوف يقلب اغلب جوانب حياتنا، فان المجتمع العصري سوف يعارض بكل قوته هذا التقدم في آرائنا)... (ص329-331)
(مهما يكن، يجب ان نتخذ دواعي الحيطة حتى لا يحدث فشل المادة رد فعل روحي. إذ لما كانت (التكنولوجيا) وعبادة المادة لم يصيبا نجاحاً، فقد يستشعر الناس إغراءً عظيماً لاختيار الطقوس المضادة.. طقوس العقل.. ولن تكون رئاسة السيكولوجيا أقل خطراً من رئاسة الفسيولوجيا والطبيعة والكيمياء! فقد احدث (فرويد) أضراراً اكثر من التي أحدثها أكثر علماء الميكانيكا تطرفاً! فان من الكوارث أن نختزل الإنسان إلى جانبه العقلي، مثل اختزاله إلى آلياته الطبيعية-الكيماوية.. ولا مفر من دراسة الصفات الطبيعية لمصل الدم وتوازنه الايوني، وقابليته اختراق البروتوبلازم... الخ. كما ندرس الأحلام والشهوة والتأثيرات السيكولوجية للصلاة وذاكرة الكلمات... الخ. بيد أن استبدال الروحي بالمادي لن يصحح الخطأ الذي ارتكبته النهضة... فاستبعاد المادة سوف يكون أكثر إضراراً بالإنسان من استبعاد العقل! وإنما سيوجد الخلاص فقط في التنحي عن جميع المذاهب (ص331-332)
* * *
هذه هي خلاصة صيحة دكتور كاريل.. فما هي اقتراحاته؟
ما الحل الذي يقترحه للخلاص؟ ما المنهج الذي يصحح غلطة عصر النهضة في الإيمان بالمادة-والمادة وحدها- وفي الوقت ذاته لا يسبب الغلطة الأخرى بإهمال المادة وإنما يسير وسطاً، يلحظ جوانب الإنسان كلها ، وجوانب الحياة الإنسانية كلها ؟ ما المنهج الذي يجعل الإنسان سيداً للمادة، دون ان يهملها او يلجأ إلى سيكلوجية فرويد المضللة، او إلى رهبانية القرون الوسطى المعطلة للحياة؟
وماذا عنده بعد هذا الإدراك العميق للكارثة التي تهدد الجنس البشري. ومناداته بضرورة (قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري) و(التنحي عن جميع المذاهب)؟.
إننا نستمع إليه فنسمع عجباً، ونرى عجباً كذلك!
( إنا ضحايا تأخر علوم الحياة عن علوم الجماد)!
( إن العلاج الوحيد الممكن لهذا الشر المستطير هو معرفة اكثر عمقاً بأنفسنا. فمثل هذه المعرفة ستمكننا من أن نفهم ما هي العمليات الميكانيكية التي تؤثر بها الحياة العصرية على وجداننا وجسمنا.. وهكذا سوف نتعلم كيف نكيف أنفسنا بالنسبة للظروف المحيطة بنا، وكيف نغيرها. إذ لم يعد هناك مفر من أحداث ثورة فيها. ولئن استطاع هذا العلم-علم الإنسان- أن يلقي الضوء على طبيعتنا الحقة، وامكانياتنا، والطريقة التي تمكننا من تحقيق هذه الإمكانيات، فانه سيمدنا بالإيضاح الصحيح لما يطرأ علينا من ضعف فسيولوجي. كذا لأمراضنا الأدبية والعقلية.
( إننا لا نملك وسيلة أخرى لمعرفة القواعد التي لا تلين لوجوه نشاطنا العضوي والروحي؛ وتمييز ما هو محظور مما هو مباح؛ وإدراك أننا لسنا أحراراً لنعدل في بيئتنا وفي أنفسنا تبعاً لأهوائنا..
وما دامت الأحوال الطبيعية للحياة قد حطمتها المدنية العصرية، فقد اصبح (علم الإنسان) اكثر العلوم ضرورة.. (ص44-45)
هذا هو كل ما في جعبة العالم العالمي الكبير؛ بعد كل هذا الإدراك العميق للكارثة المحيقة!
وانتهاء الرجل إلى هذا الاقتراح، واعتباره الحل الوحيد الممكن للمشكلة-مشكلة بقاء هذه البشرية متحفظة بإنسانيتها، او انحدارها منها وتراجعها إلى البربرية الوحشية- اعتباره إن الحل الوحيد الممكن هو (مزيد من علوم الإنسان).. هو ظاهرة تلفت النظر بشدة-كما أسلفنا- إلى فعل هذه الحضارة في تفكير أهلها وتصوراتهم، بحيث تضعهم في قفص حديدي من (حدود العلم والواقع) لا يملكون الخروج من إساره! كما ان هذه الظاهرة تجزم بأن الحل لن يجيء من هناك! لأنه يحتاج إلى راقب يرقب الوضع من خارج القفص لا من داخله!
إن تأخر علوم البشر عن علوم الجماد ليس ظاهرة تلقائية-كما يميل دكتور كاريل في كتابه إلى تقريره- وإنما نتيجة طبيعة-تكاد تكون حتمية- لتقدير قيمة الإنسان ودوره، في التصور الزائف الذي قامت عليه هذه الحضارة، حين افترقت في نشأتها عن التصور الاعتقادي الصحيح. الذي يحمل تكريم الانسان، واعتباره خليفة الله في هذه الأرض..
كما أن تلك الآفات التي ذكرها في نظام الصناعة ووسائل الإنتاج، والتي لا اعتبار فيها لإنسانية الانسان، وخصائصه الثمينة، وحاجاته الحقيقية.. إنما ترجع إلى الأنظمة الاقتصادية المنبثقة من تصورات ومناهج تتوخى العداء للتصور الاعتقادي وللأخلاق الدينية؛ وتسخر من فكرة تدخل العنصر الأخلاقي في نظام الحياة الاقتصادي!
كما أن اعتماد الناس على معلوماتهم القليلة.. او بتعبير أدق على جهلهم المطبق-كما يعبر دكتور كاريل- بفطرة الإنسان وحقيقته، في إقامة أنظمتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية.. لم يأت عفواً. إنما جاء نتيجة مباشرة لروح العداء لكل ما يجيء من عند الله؛ ومن كل ما يمدهم به المنهج الإلهي من معرفة بهذا الإنسان على حقيقته .. هذا العداء الذي قامت هذه الحضارة على أساسه. بسبب تلك الملابسات النكدة بين الكنيسة والعلم في أوروبا..
ومن هذه الإيماءات السريعة ندرك أن الأمر اعمق بكثير مما يتصوره هذا العالم العالمي الكبير؛ ويقف عنده، بسبب القيود التي تشده بها عقليته، الناشئة في ظل تلك الحضارة العقيم!
* * *
وكما أحس دكتور كاريل بالخطر على مقومات الإنسان وكينونته من الحضارة الصناعية المادية.. كذلك أحس مستر دالاس وزير خارجية أمريكا بالخطر على الولايات المتحدة، وعلى العالم الغربي من الشيوعية التي يقوم نظامها الاجتماعي على أساس من (المذهب المادي) ومن (التفسير الاقتصادي للتاريخ).. ووجه مستر دالاس في كتابه:( حرب أم سلام) صيحة الذعر من هذا الخطر، وطالب بدفعه، ولكن مقترحاته كذلك جاءت جزئية، لا تعالج المشكلة من جذورها.. لقد طلب من رجال الكنيسة عنده أن يقوموا بما ليس من طوقهم، ولا في طبيعة موقفهم ان يؤدوه، بعد ذلك الواقع التاريخي في حياة الكنيسة وحياة المجتمع منذ عهد بعيد..
وفي فصل بعنوان (حاجاتنا الروحية) يقول:
( إن هناك شيئاً ما يسير بشكل خاطئ في امتنا. وإلا لما أصبحنا في هذا الحرج، وفي هذه الحالة النفسية.. لا يجدر بنا ان نأخذ موقفاً دفاعياً، وان يتملكنا الذعر.. إن ذلك أمر جديد في تاريخنا!
( إن الأمر لا يتعلق بالماديات، فلدينا أعظم إنتاج عالمي في الأشياء المادية، ان ما ينقصنا هو إيمان صحيح قوي. فبدونه يكون كل ما لدينا قليلاً. وهذا النقص لا يعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم، او الدبلوماسيون مهما كانت فطنتهم، او العلماء مهما كثرت اختراعاتهم، او القنابل مهما بلغت قوتها!
( فمتى شعر الناس بالحاجة إلى الاعتماد على الأشياء المادية. فإن النتائج السيئة تصبح أمراً حتمياً.
( وفي بلادنا لا تجتذب نظمنا الإخلاص الروحي اللازم للدفاع عنها. وهناك حيرة في عقول الناس، وتآكل لأرواحهم. وذلك يجعل أمتنا معرضة للتغلغل المعادي-كما كشف عنه نشاط الجواسيس الذين تم كشفهم حتى الآن- ولن تستطيع أي إدارة لمكافحة التجسس ان تقوم بحمايتها في هذه الظروف).
( لقد تقابلنا مع أقسى الاختبارات التي يمكن ان يلتقي بها أي شعب.. وهو اختبار الحياة في رفاهية..
( لقد قال يسوع: إن هذه الأشياء المادية سيحظى بها أولئك الذين يعملون من اجل ما أمر به الله، ومن اجل تحقيق عدالته.. ولكن عندما يحدث ذلك فعندئذ يبدأ الامتحان الأكبر. لأن هذه الأشياء المادية-كما انذر يسوع- يمكنها أن تصبح الصدأ الذي ينخر في الأرواح.
( كذلك فإن لدينا نموذجاً معروفاً. فالرجال الذين لديهم إحساس بالواجب إزاء كائن أعلى، يجاهدون لتحقيق إرادته، لأن إيمانهم يمنحهم القوة والفضيلة والحكمة المبسطة 00 إنهم لا يبنون ليومهم فقط، بل للغد؛ وليس لأنفسهم وحدهم، وإنما للجنس البشري. ومجتمع هذا أساسه ستكون من نتائجه الثروة والرفاهية للكثيرين إذا ساعدته الأحوال.. وعندما تأتي هذه المنتجات الفرعية فإنها تكون طيبة، إلى درجة أنها تشجع على الاعتقاد بأنها النهاية المرتقبة! وبذا سيبتعد الناس عن بذل الجهود الإنشائية للأجل الطويل؛ ويبدأون الصراع من أجل الحصول على الأشياء المادية.
( ومع ذلك التغير ينمو خطر متزايد. فالأمريكيون قد حصلوا على الأمن بالطريقة الوحيدة التي يمكن بها ضمان الأمن. أعني كنتيجة فرعية لمسعاهم العظيم. وعندما بدأنا نتقاعس عن سعينا، ونطلب الأمن كنهاية في ذاته، أخذ الأمن يزداد بعداً عنا! وستظل الحال دائماً هكذا، ومهما تكن درجة ثرائنا. فالأمن لا يمكن شراؤه بأي ثمن نقدي 00 وخمسة بلايين ، أو خمسون بليونا لا تكفي. فالأمن والسلام ليسا سلعتين يمكن شراؤهما. لقد حاول الأباطرة الرومان أيام انحدارهم أن يشتروا السلام. وكانت النتيجة فتح شهية أولئك الذين كانوا يسعون إلى تدميرهم.
( وبينما ينحدر نفوذنا وأمننا، فإن نفوذ الشيوعية السوفيتية وأمنها آخذان في الارتفاع 00 إنها تستطيع أن تنفذ –بل هي تنفذ فعلاً- سياسات تحمل طابع " تجربة الشيوعية السوفييتية العظمى" تلك التجربة التي استطاع بها الشيوعيون أن يجتذبوا إليهم خيال شعوب العالم. تماماً كما فعلنا نحن في القرن التاسع عشر بالتجربة الأمريكية العظمى!
( وإننا نعلم أن التصويرات الشيوعية خادعة ومضللة؛ ونعلم أن الشيوعية السوفيتية لن تفتح أبواب التجربة التي قاموا بها في وطنهم للحكم عليها حكماً حرّاً محايداً. ونعلم أن أولئك الذين يقعون في براثنهم من جراء الإغراء الزائف لهذا التصوير، سرعان ما يدركون الفرق بينها وبين الحقيقة 00 إن العنكبوت ينسج بيتاً جميلاً يتألق في ضوء الشمس ويدعوا الذباب إلى صالونه! والدعاية الشيوعية جذابة مثل بيت العنكبوت. ومتى وقع في قبضتها شعب فإن الاستبداد يمتص قواه الروحية 00 ولكن الشيوعية –كأمل- لها قبول عند الجماهير في كل مكان من آسيا، وفي جزر الباسفيك، وجنوب أمريكا، وأفريقيا 00 وحتى في أوروبا الغربية 00
( لقد قال ستالين: إن قوة وحيوية الماركسية –اللينينية، تكمن، في أنها تركز نشاطها العملي في الحاجة في تنمية الحياة المادية للمجتمع.
( ويبدو أن كثيراً من البلاد غير الشيوعية –بما في ذلك الدول المسيحية الغربية- تعطي الأولوية "لتنمية الحياة المادية للمجتمع" وتجعل من "الروحية" أمراً ثانويّاً يتعلق بالأفراد أنفسهم..
( ويتخذ الشيوعيون ذلك مثالاً لكي يثبتوا أنه حتى المجتمعات الغربية كان عليها أن تتبع النظريات المادية للشيوعية! ولا يقوم الزعماء الغربيون بإنكار ذلك بطريقة مقنعة 00 وهكذا يرتفع المستوى الأدبي للشيوعية السوفييتية في العالم بدرجة كبيرة!
( إن الصعوبة ناشئة في أننا نقف موقفاً غامضاً من إيماننا؛ ومن العلاقة التي بين هذا الإيمان ونشاطنا!
( إننا نستطيع أن نتحدث ببلاغة عن التحرر والحرية، وعن حقوق الإنسان والحريات الأساسية؛ وعن الكرامة والقيمة الإنسانية للفرد 00 ولكن معظم حديثنا مشتق من فترة كان مجتمعنا فيها قائماً على "الفردية" 00 ونتيجة لذلك فليس لها أثر كبير عند أولئك الذين يعيشون في ظروف يكون معنى الفردية فيها هو الموت المبكر..
( ونستطيع كذلك أن نتحدث ببلاغة عن التقدم المادي الذي حققناه، وعن روائع الإنتاج الجماعي، وعدد السيارات وأجهزة الراديو والتليفزيون التي يمتلكها أفراد شعبنا.. ولكن المبالغة في وصف الماديات تعطي البعض فكرة بأننا قد أفلسنا من الناحية الروحية؛ وتجعل من البعض حاسدين لنا، وأميل إلى التمجيد الشيوعي (للجهود الجماعية) من أجل تنمية الحياة المادية للمجتمع! ) ..
( إننا لا نستطيع أن نكافح الشيوعية السيوفييتية في العالم، وأن نحبط أساليبها في الخداع والإرهاب والعنف، ما لم يكن لدينا إيمان، واستعانة بالوسائل الروحية في مجتمعنا الحديث المعقد؛ والتي تحول نفسها إلى أعمال خالصة من الدناءة، وظروف الحياة الذليلة، التي لا يمكن أن تنمو فيها الروح! )
( لقد أخفقنا بشكل يدعو إلى الرثاء في أن نرى أن من الممكن الحصول على عدالة اجتماعية، دون أن نمارس الإلحاد والمادية.. إن ذلك يعتمد على الرغبة الاختيارية للفرد في قبول أو التخلي عن الالتزامات الاجتماعية تجاه الفرد الآخر..
( ونتيجة لذلك فإن كثيراً من قومنا قد فقدوا إيمانهم في مجتمع حر. وكأمة فقدنا كذلك إيماننا الديني وممارسة شعائرنا الدينية. رغم أننا ما زلنا متدينين! إننا نفرق بين الدين وممارسة الدين! ولم نعد نؤمن بأن الإيمان يتمشى مع الظروف الحديثة.. ومتى تحطمت الصلة بين الإيمان والعمل، فلن نستطيع بعد ذلك أن ننمي قوة روحية نستطيع نشرها في جميع أنحاء العالم )..
( إن علينا أن نغير كل ذلك. إننا نستطيع-بل يجب- أن نرفض كلية النظرية الماركسية القائلة: إن الأشياء المادية لها الأولوية، والروحية تابعة لها. إن العبودية والاستبداد لا يمكن ان يكونا صواباً، حتى ولو بصفة استثنائية. ويجب ألا نخشى وضع الإيمان في مرتبة الصدارة بالنسبة لحرية الإنسانية والتحرر، وان نتمسك بالرأي الديني القائل: إن الله قد خلق الإنسان لكي يكون اكثر من منتج مادي؛ وان غايته النهائية شيء آخر غير الأمن الجثماني. يجب أن نؤمن بأنه يجب تحرير الناس في كل مكان من التضييق الروحي والعقلي والاقتصادي المتزايد، بحجة أن ذلك سينمي الرفاهية الاقتصادية للمجتمع الذي ينتمون إليه! )..
( ويجب أن نفهم كذلك بوضوح أن مجتمعاً حراً ليس معناه مجتمعاً يسعى كل فرد فيه لنفسه. بل انه مجتمع متناسق. والقيود المفروضة هي، قبل كل شيء، روابط الاخوة المنبعثة من الإيمان. فان الناس خلقوا لكي يعيشوا إخواناً في رعاية الله ) ..
ثم يختم هذا الفصل بقوله:
( لن تكون هناك فائدة من إنشاء (أصوات أمريكا) أخرى عالية الصوت، إلا إذا كان لدينا شيء نقوله، يكون اكثر إغراء مما قيل حتى الآن!.
( وإيجاد هذه الرسالة هو قبل كل شيء مهمة الزعماء الروحيين لأمتنا. وبعثورهم عليها يستطيعون أن يساهموا بشكل حاسم في الإحباط السلمي للأساليب الشريرة، والخطط التي تعدها الشيوعية السوفييتية.
( إن كثيراً من الوعاظ والمعلمين يأسفون لأن المعرفة العلمية قد زادت قدرة الإنسان على الأذى إلى درجة كبيرة. ولا يجب أن نصدق ان المعرفة في حد ذاتها شيء يمكن الهرب منه.
( إن القوة المادية الكبيرة تكون خطرة في عصر المادية فقط؛ وليس في عصر روحي. والمعرفة العلمية الجديدة خطرة اليوم لأنها حدثت في وقت أخفقت فيه الزعامة الروحية أن توضح الصلة بين العقيدة والعمل. ولعله يكون اكثر أهمية لو أن العبادة الروحية تطورت بدلاً من محاولة وقف التقدم العلمي، او الرجوع به القهقري ) .
( لقد كتب الرئيس ولسون قبل وفاته بأسابيع قليلة مقالاً استعرض فيه تهديد المبادئ الثورية وأعمال الشيوعية. وختمه بقول: إن اختصار المسألة بأسرها هو ما يلي: إن حضارتنا لا تستطيع الاستمرار في البقاء من الناحية المادية، إلا إذا استردت روحانيتها..
( هذا هو التحدي النهائي لكنائسنا ومنظماتنا السياسية وللرأسماليين عندنا، ولكل فرد يخاف الله، او يحب بلده! ) ..
* * *
ولكن هذه الصيحة التي أرسلها مستر دالاس-كالصيحة التي أرسلها دكتور كاريل من قبل- لا تمكن تلبيتها بهذا السهولة! ولا بهذا التحدي الذي يضعه دالاس أمام كنائسهم ومنظماتهم والرأسماليين وكل فرد يخاف الله او يحب بلده!
إن المسألة اعمق من هذا بكثير. فالكنائس لم يعد لديها من النصرانية-منذ ما أفسدها بولس أولاً. وقسطنطين ثانياً. والكنيسة والمجامع والبابوات ثالثاً- ما يصلح أساساً شاملاً للحياة الإنسانية.
وحتى البقية الباقية من التصور النصراني-هذه التي يتحدث عنها مستر دالاس- لم تعد الحضارة الأمريكية المادية تطيقها. هذه الحضارة التي قامت ابتداء على (الفردية) الجامحة، ممثلة في النظام الرأسمالي الربوي الاحتكاري إلى أبعد الحدود..
وما أظن مستر دالاس نفسه قد فكر-وهو يرسل هذه الصيحة في ساعة الخطر- في تطبيق بقية التصور النصراني تلك. فان أول ما تقتضيه: إلغاء النظام الربوي الذي تقوم هذه الحضارة عليه، والذي يساهم بالقسط الأول والأوفر في ويلات البشرية، وويلات الحضارة المادية. والذي تحرِّمه النصرانية، كما يحرمه كل دين سماوي وكل فطرة سليمة!
إنما أراد مستر دالاس صورة باهتة من النصرانية لا تتدخل في صميم النظام الاقتصادي. وفي الوقت ذاته تخدم أغراضه السياسية الأخرى في دفع غائلة الشيوعية!
وحتى لو كان جاداً في أعمال التصور الديني في صميم الحياة كلها.. فان هنالك هوة لا تعبر، ولا يقام عليها معبر بين التعاليم النصرانية الصحيحة، وبين الحياة الواقعية عنده. اشترك في حفرها وتعميقها خمسمائة عام من الصراع المرير!
وهو يكلف رجال الكنيسة عنده والزعماء الروحيين مالا قبل لهم به. حتى يطلب إليهم، بما بين أيديهم من رصيد مهلهل للدين النصراني، ومن تاريخ مرير بين الكنيسة ورجالها والدين وأهله وبين ضمائر الناس وعقولهم، ومن فصام نكد قامت بعده كل جوانب الحياة والفكر والشعور على أساس العداء للدين كله.. أقول يكلفهم مالا قبل لهم به، وهو يطلب إليهم استحداث منهج من ذلك الرصيد المهلهل، يصل بين الإيمان والعمل. وبين الفردية والجماعية. وبين الروح والمادة. وبين التقدم العلمي والهيمنة الروحية على هذا التقدم. وبين العناية بتنمية الحياة للمجتمع مع سيطرة الروح الإيماني.. منهج لا يفرق بين الدين وممارسة الدين. ويرفض القول: بأنه من غير الممكن الحصول على عدالة اجتماعية بدون ممارسة الإلحاد والمادية. كما يرفض أن يكون للأشياء المادية الأولوية. او أن تكون العبودية والاستبداد وسيلة الإكثار من الإنتاج المادي. او أن يعتدي على الحرية العقلية والروحية والاقتصادية في سبيل هذا الإكثار.. منهج لا يطلب وقف التقدم العلمي باسم (الدين)! ولا يجعل التدين وسيلة واحدة هي عودة العلم والمعرفة القهقري!.. وفي النهاية منهج تتطور (العبادة) فيه حتى يصبح (العمل) إحدى صورها..
فأنى يجدون هذا المنهج في بقايا التصور المهلهل؛ وفي أنقاض التاريخ المرير، وفي الفجوة التي لا تعبر، والتي لا يقام عليها معبر، بين طبيعة الدين الذي عندهم-كما صاغته هذه الملابسات كلها- وبين طبيعة الحياة الإنسانية بصفة عامة، وطبيعة هذه الحضارة المادية بصفة خاصة؟!
إن الذي يملك استحداث هذا المنهج قوم آخرون.. والدين الذي يتضمن مثل هذا المنهج في اكمل صورة ليس هو ما يسمى عند قومه اليوم بالدين!
إن مستر دالاس يريد أن يجند (الدين) لحماية الأنظمة الغربية من الشيوعية.. ولكن الدين لا يملك أن يصنع شيئاً في هذه المعركة الصغيرة! بين أنظمة مادية وأنظمة مادية من نوع آخر! انه لا يملك أن يصنع شيئاً في صورته الباهتة التي تراد له.. لا يملك أن يدافع عن الناس وهو مطرود من حياتهم طرداً قبيحاً!
إن (دين الله) لا يصلح خادماً يلبس منطقة الخدم، ويقف بحضرة (أسياده)، ويوجهونه حيث يريدون! يطردونه من حضرتهم فينصرف، وهو يقبل الأرض بين أيديهم.. ثم يقف وراء الباب-في شارة الخدم- رهن الإشارة!.. ويستدعونه للخدمة، فيقبل الأرض بين أيديهم، وينحني قائلاً: لبيك يا مولاي! كما يفعل من يسمونهم (رجال الدين)!
كلا! إن (دين الله) لا يرضى إلا أن يكون سيداً مهيمناً. قوياً متصرفاً. عزيزاً كريماً. حاكماً لا محكوماً. قائداً لا مقوداً 00 وهو لا يحمي الناس من الشيوعية ولا من غير الشيوعية إلا أن تكون حياتهم كلها رهن إشارته. يصرفها بجملتها، وينظمها من أطرافها، وينسقها وفق شريعته 00 حين يتحاكم إليه الناس في أمورهم كلها: صغيرها وكبيرها. ثم يرتضون حكمه في ثقة وفي استسلام:
" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً 00 "
[النساء: 65]
ويومئذ فقط يؤدي دوره كاملاً 00 دور السيد المدبر 00 لا دور الخادم الملبي00
ويومئذ فقط ينتهي ذلك الفصام النكد. الذي أنشأ كل هذا الشقاء المرير. وكل هذا الخطر الخطير00
ويومئذ فقط يجئ المخلص، الذي تتعالى الصيحات بصفاته وسماته! هذا المخلص المرتقب للناس أجمعين 00 هو هذا الدين 00

====

( [16]) ترجمة شفيق أسعد فريد، نشر مكتبة المعارف بيروت.

..........

المصدر: فصل من كتاب (المستقبل لهذا الدين) لسيد قطب وتابع ما سبق في فصل الدين عن الدولة باطل (http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?p=29382#post29382) وانتهى دور الرجل الأبيض (http://70.84.212.52/vb/showthread.php?p=29283#post29283)
..........

الفرصة الأخيرة
12-14-2005, 11:58 AM
تابع ما قبله:



المخَلِّــص

"إن هتافات كثيرة من هنا ومن هناك، تنبعث من القلوب الحائرة وترتفع من الحناجر المتعبة 00 تهتف بمنقذ، وتتلفت على (مخلص)، وتتصور لهذا المخلص سمات وملامح معينة تطلبها فيه 00 وهذه السمات والملامح المعينة لا تنطبق على أحد إلا على (هذا الدين) 00
جاءت هذه الفقرة في الفصل الأول من هذا الكتاب 00 والفصل الذي سلف (صيحات الخطر) يتضمن التفسير الكامل لهذه الفقرة في أقوال دكتور كاريل، وفي أقوال مستر دالاس على السواء! لولا أن كلا منهما –لأمر قد قدر- لا يتجه بدعائه للمخلص الحقيقي الذي عليه وحده تنطبق هذه الأوصاف؛ وفيه وحده تتحقق هذه السمات!
* * *
إن دكتور كاريل يطلب منهجاً للحياة غير (دين الصناعة) و (التكنولوجيا).
يريد منهجاً يعتبر (الإنسان مقياساً لكل شيء) ولا يجعله (غريباً في العالم الذي ابتدعه) 00 ولا ينهض على الجهل المطبق بخصائصه ومقوماته.
منهجاً ( لا يهمل تأثير المصنع على الحالة الفسيولوجية والعقلية للعمال إهمالاً تاماً عند تنظيم الحياة الصناعية) ولا ( ينهض على مبدأ الحد الأقصى من الإنتاج بأقل قدر من التكاليف 00 حتى يستطيع فرد أو مجموعة من الأفراد أن يحصلوا على أكبر مبلغ مستطاع من المال).
منهجاً لا ينشئ بيئة (غير صالحة لا بالنسبة لقوامنا ولا بالنسبة لهيئتنا). ولا يجعلنا ( ننحط أخلاقياً وعقلياً). ولا يكبت ويعطل ( نمو وجوه النشاط العاطفي والجمالي والديني فيخلق أشخاصاً في المرتبة الدنيا. ذوي عقول ضيقة غير صحيحة).
منهجاً لا يلغي شخصية الفرد من حسابه، ولكنه كذلك لا ينسى حاجة الفرد للحياة الجماعية. فلا (نربي ونعيش ونعمل في قطعان كبيرة أشبه بقطعان الأغنام!).
منهجاً لا يلغي شخصية الذكر وشخصية الأنثى. (فإهمال انعدام المساواة بين الجنسين أمر خطر جدّاً).
منهجاً لا يدع حياة بني الإنسان نهباً (لخيالات ماركس ولينين وفرويد) و (شهوات الناس وأهوائهم ونظرياتهم ورغباتهم).
منهجاً لا يعتدي على قوانين الفطرة. ولا يشجع على (ارتياد الأرض المحرمة). ولا يصطدم من الحقائق الحيوية للكينونة الإنسانية 00
وأخيراً 00 منهجاً لا يتخذ من فشل (المادية) سبباً للنكسة إلى (الروحية) السلبية التي عرفتها أوربا في نظام الرهبنة ولا إلى سيكولوجية فرويد المضللة!
ولكن دكتور كاريل يطلب هذا المنهج الذي هذه سماته عند (علم الإنسان) الذي يطالب بإنشائه على الرغم من تقريره أن في العقل البشري بطبيعته عجزاً عن العلم بالإنسان!
* * *
وما الذي يطلبه مستر دالاس كذلك؟
إنه يطلب منهجاً (لا يعطي الأولوية المطلقة لتنمية الحياة المادية للمجتمع مع إعطاء الروحية أهمية ثانوية، ولا يعتبر الإيمان أمراً ثانوياً يتعلق بالأفراد).
منهجاً (لا يقف موقفاً غامضاً من الإيمان وعلاقته بالنشاط الحيوي)00
منهجاً (لا يقوم على الفردية المطلقة - كما عرفتها التجربة الأمريكية - هذه الفردية التي يكون معناها في بعض الظروف: الموت المبكر)00
منهجاً (لا يخفق –بشكل يدعو إلى الرثاء ! – في أن يرى أن من الممكن الحصول على عدالة اجتماعية بدون ممارسة الإلحاد والمادية).
منهجاً (لا يفرق بين الدين وممارسة الدين. ولا يحطم الصلة بين الإيمان والعمل. ولا يزعم أن الإيمان لا يتمشى مع الظروف الحديثة).
منهجاً (يرفض أن يكون للأشياء المادية الأولوية ولا يجعل الروحية تابعة لها. ويرفض أن يعتبر العبودية والاستبداد صواباً - ولو في حالة استثنائية - ويرفض اعتبار الإنسان أداة إنتاج فحسب. ويرفض الرفاهية الاقتصادية على حساب الحرية الروحية والعقلية).
منهجاً يعيش الأفراد في المجتمع الذي يقوم عليه، إخواناً في الله. روابطهم الأخوية هي القيود التي تشدهم، والتي تحفظ مجتمعهم من الفردية الطاغية ومن الجماعية الطاغية كذلك.
منهجاً يظل الروح الإيماني فيه مهيمناً على المعرفة العلمية. فلا يطلب وقف تقدم المعرفة والعلم بحجة أنها بذاتها خطرة على الإيمان الديني!
وأخيراً 00 يريد منهجاً يوضح العلاقة بين العقيدة والعمل، وتتطور فيه (العبادة) حتى يصبح العمل إحدى صورها 000
ولكن مستر دالاس يطلب هذا المنهج عند رجال الكنيسة الأمريكية، وعند الزعماء الروحيين في بلده 000 على الرغم مما يعرفه من تاريخ الكنيسة الغربية، ومن (الفصام النكد) بينها وبين المجتمع، ورواسبه المريرة!
* * *
ولكن الذي ينبغي أن يكون واضحاً 00 أنه لا (علم الإنسان) يملك أن يستجيب لصيحة دكتور كاريل، ولا الكنيسة وآباؤها الروحيون يملكون أن يستجيبوا لصيحة مستر دالاس!
إن هذه الصفات التي يطلبانها في (المخلص) لا تتوافر في أحد إلا في (هذا الدين). وإن هذا المنهج الذي يصفانه لا يملكه إلا الإسلام. من بين سائر المناهج والمذاهب والنظريات التي يعرفها بنو الإنسان!
ودكتور كاريل لا يتجه إلى هذا (المخلص) 00 لأنه - على الرغم من سعة أفقه، ومن غزارة علمه - رجل أبيض 00 يتجه بتمجيده كله للجنس الأبيض! ويؤلف كتابه لإنقاذ الجنس الأبيض! ويوجه اهتمامه لإنقاذ الجنس الأبيض من الانحلال والبوار.
والإسلام ليس من صنع الرجل الأبيض، ومن ثم لا يمكن أن يتجه إليه العالم العالمي الكبير!
ومستر دالاس كذلك لا يتجه إلى هذا (المخلص) لأنه فوق أنه (رجل أبيض)، فإن له مع هذا الدين شأناً 00 إنه الرجل الذي قام بأكبر نصيب قام به سياسي عالمي في العصر الحديث في حرب الإسلام، وإقامة الأجهزة التي ترصد لهذا الدين في كل بقاع الأرض بلا استثناء، وتحاول أن تحل محله تصورات وقيماً أخرى من صنع الإنسان!
ولكن هذا الدين، هو وحده الذي يملك تلبية تلك الصرخات وهو وحده الذي تتحقق فيه هذه السمات. وهو وحده الذي توجد عنده هذه (الوصفة) اللازمة لشفاء بني الإنسان!
* * *
إن الإسلام منهج جديد للحياة غير الذي عرفته أوروبا وعرفه العالم في فترة الفصام النكد وقبلها وبعدها كذلك 00 منهج أصيل، مستقل الجذور 00 منهج شامل متكامل. وليس مجرد تعديل للحياة الراهنة وأوضاعها القائمة 00 إنه منهج للتصور والاعتقاد؛ كما أنه منهج للعمل والواقع 00 ومن ثم فهو - وحده - الكفء للاضطلاع بمهمة إعادة إنشاء الحياة البشرية على قاعدة جديدة.
لقد أخطأ المجتمع البشري طريقه. لا من يوم أن اتجه إلى تنمية علوم الجماد وترك علوم الإنسان بدون نماء 00 ولا من يوم أن ترك الآلة تتحكم في حياته، وتكيفها هذا التكيف المناقض لطبيعة الإنسان 00 ولا من يوم أن ترك النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية تحت رحمة المستغلين يوجهونها لغير صالح البشر، ولغير احتياجاتهم الحقيقية- كما يقرر دكتور كاريل 00
كلا! فهذه مراحل متأخرة في تاريخ الانحراف00
إنما أخطأ المجتمع طريقه يوم أن جعل تلك الملابسات النكدة التي صاحبت عصر الإحياء وعصر التنوير، وعصر النهضة الصناعية 00 تصرفه عن منهج الله كله - لا عن تصورات الكنيسة وحدها- وتوقع (الفصام النكد) في حياته، بين التصور الاعتقادي الإلهي، ونظام الحياة الاجتماعي 00
ولم يعد ذلك الترقيع الجزئي عن طريق العناية بعلوم الحياة وعلوم الإنسان –كما يظن دكتور كاريل- فالناس لا يوجه حياتهم ولا يغيرها أن ( يعلموا ) ولكن يوجه حياتهم ويغيرها أن ( يعتقدوا ) والإنسان هو الإنسان!
ولقد انتظرت من دكتور كاريل - وهو يذكر "ضرورة قلب الحضارة الصناعية وظهور فكرة أخرى للتقدم البشري" – أن يثب وثبة كاملة، فيخرج من قفصه الحديدي "العلمي"! ولكنه لم يستطع هذه الوثبة الكبرى وبقي داخل القفص، يهتف بصيحة الخطر الذي يراه يتهدد البشرية المسكينة الصائرة إلى البوار!
إن الحياة البشرية المهددة في حاجة إلى هذه الوثبة الكاملة، في حاجة إلى أن ترجع إلى فطرتها التي فطرها الله عليها. وهي لا يمكن أن ترجع إلى هذه الفطرة بمبادئ ونظريات أو وسائل تنبع من ذلك التصور الحضاري الذي يكمن فيه الخطر؛ والذي قام ابتداء على أصول معادية لينابيع لفطرة 00 لابد من تصور جديد جدة حقيقية كاملة؛ يغير قاعدة الحياة من الأساس ويردها إلى الفطرة؛ ويقيمها على أساس آخر يتفق مع طبيعة التكوين الإنساني المتكامل؛ ومع الحقيقة الكونية – كما هي في الواقع لا كما تبدو من خلال المناظير الملونة، المصنوعة في معامل الحضارة المعادية!
إن علمنا القليل المحدود عن الكائن البشري - أو جهلنا المطبق بهذا الكائن البشري- كما وصفه هذا العالم العالمي الكبير، لا يسمح إطلاقاً بأن نكون نحن - البشر- الذي نتولى وضع (التصميم) الأساسي ابتداءً لحياة هذا الكائن 00 ولو كان هذا مدى علمنا - أو مدى جهلنا - بجهاز مادي صغير، ما أمن صاحبه أن يتركه لنا لإصلاحه - بله تركيبه! - ولكننا بهذا الجهل – نتصدى لإقامة نظام (للإنسان) 00 أعز وأثمن ما في هذه الأرض جميعاً! ولا نبالي ما يصيبه من جراء (هذا النظام!).
لقد أدركنا الغرور، ونحن نرى العقل البشري يبدع في عالم المادة، ويأتي بما يشبه الخوارق! فوهمنا أن العقل الذي يبدع الطائرة والصاروخ؛ ويحطم الذرة وينشئ القنبلة الأيدروجينية؛ ويعرف القوانين الطبيعية ويستخدمها في هذا الإبداع 00 وهمنا أن هذا العقل جدير بأن نكل إليه كذلك وضع (نظام) الحياة البشرية 00 وقواعد التصور والاعتقاد، وأسس الأخلاق والسلوك 00 ناسين أنه حين يعمل في (عالم المادة) فإنه يعمل في عالم يمكن أن يعرفه، لأنه مجهز بإدراك قوانينه 00 أما حين يعمل في (عالم الإنسان) فهو يعمل في متاهة واسعة بالقياس إليه! هو غير مجهز ابتداء بإدراك حقيقتها الهائلة الغامضة.
ومن عجب أن الذي يقرر هذه الحقيقة هو العالم العالمي الكبير الذي يطلب هذه الحقيقة عند (علم الإنسان)!!
* * *
وفي مقابل ذلك الوهم الكبير، يوجد وهم آخر كبير!
إن بعض الناس يظن أن هيمنة المنهج الإيماني على الحياة، من شأنه طرد العلوم المادية ونتائجها الحضارية من الحياة!
وهو وهم ساذج - على الرغم من أنه وهم كبير! - بل وهم مضحك! ولكنه - مع الأسف - يرتكن في الغرب وفي التاريخ الحضاري له، على واقع تاريخي طويل. حتى ليحتاج من مستر دالاس إلى ذلك الفصل المطول في كتابه: (حرب أم سلام) 00 فصل: (حاجاتنا الروحية) الذي اقتطعنا منه في الفصل السابق تلك الصرخات؛ وتلك التحديات!
غير أن الأمر في المنهج الإلهي الصحيح ليس على هذا النحو 00 إن (الدين) ليس بديلاً من العلم والحضارة. ولا عدوّاً للعلم والحضارة. إنما هو إطار للعلم والحضارة، ومحور للعلم والحضارة، ومنهج للعلم والحضارة في حدود إطاره ومحوره الذي يحكم كل شؤون الحياة.
والإسلام - بالذات - كان هو الإعلان الشامل لحرية العقل البشري تجاه الكون المادي، وقوانينه، وقواه، ومدخراته. وكان الإيذان العام بانطلاق هذا العقل ليعمل ويبدع في ذلك الملك العريض الذي استخلفه ربه فيه. وكانت هذه إحدى الحقائق التي تضمنها التصور الإسلامي عن حقيقة علاقة الخلق بالخالق؛ ومركز الإنسان في هذا الكون، وحدود اختصاصه( [17]) 00 ومن ثم ازدهرت في ظل الإسلام حضارة كاملة بكل مقوماتها الإبداعية التي كانت تتيحها لها الأدوات والوسائل في حينها -والأدوات والوسائل قابلة دائماً للتطور والترقي- والإسلام يدفع هذا النمو ويقوده، ولكنه يحفظه دائماً داخل إطار الفطرة؛ لا يصطدم بطبيعة الإنسان وخصائصه الثمينة، ولا يحطمها ويكبتها، كما يقرر دكتور كاريل عن الحضارة المعاصرة!
ولقد كان الإسلام هو الذي أنشأ - بطبيعة واقعية منهجه - المنهج التجريبي، الذي انتقل إلى أوربا من جامعات الأندلس؛ والذي أقام عليه (روجر بيكون) و (فرنسيس بيكون) - الذي يسمونه افتراء (أبا المنهج التجريبي) - منهجهما كما قرر ذلك بريفولت وجوهرنج من الكتاب الغربيين أنفسهم( [18]).
إن الإسلام يكل رسم (التصميم) الأساسي للحياة البشرية، إلى العلم الكامل الشامل، المبرأ من الجهل والقصور والهوى كذلك يكله إلى علم الله - سبحانه - بما أن الله هو الذي أبدع الكون وما فيه؛ وأبدع قوانينه وطاقاته؛ وأبدع الإنسان وزوده باستعداداته للعمل في مادة هذا الكون العريض 00 وهو الذي يعلم - وحده - كل حقائق الكينونة البشرية وكل حقائق الطبيعة الكونية 00 فهو- وحده - القادر على أن يصنع للإنسان نظام حياة؛ شاملاً لحياته الفردية والجماعية؛ ولحياته في الكون المحيط به 00 عن (علم مطلق) يقابل (جهلنا المطبق) 00 وفي الوقت ذاته لا يلغي العقل البشري - كما أرادت الكنيسة ذات يوم- هذه الأداة العظيمة، التي وهبها الله للإنسان ليعمل بها ويبدع؛ لا ليغلها أو يلغيها! وفقط يحوطها بالسياج الواقي من الهوى، ومن التهور، ومن الخبط في التيه، ومن النكسة والانحدار. ويضع لها المنهج الذي يقوّمها منها فلا تميل؛ ويهديها فلا تضل؛ ويكفل لها حريتها واستقامتها على السواء.
وبهذا يظل (الإنسان) هو سيد (المادة) بضمانة من المنهج الذي أبدعه له مبدع الإنسان والمادة. وبالتصور الذي يشعره بكرامته على الله؛ كما يشعره بعبوديته لله. وفي الوقت ذاته يشعره بأنه مستخلف في هذا الملك العريض 00
* * *
ومن هذا كله يتبين أن الإسلام - وحده - هو المنهج الذي يستصرخه مستر دالاس - ولكنه لا يتجه إليه!- المنهج الذي يملك أن يتقدم لتخليص البشرية من بربرية الحضارة الصناعية –كما يعبر دكتور كاريل - ومن مصيدة الشيوعية - كما يقول مستر دالاس- وأننا نحن أصحاب المنهج الإسلام - وحدنا - الذين نملك تلك الوثبة الكبرى!
إن هذه الحضارة الصناعية التي تحيط بالبشرية اليوم، تحطم أهم ما في كيان (الإنسان) وتحارب أرفع مقوماته الإنسانية، وفي الوقت الذي تقدم له تلك التسهيلات الرائعة - وإن كانت هذه التسهيلات قد تكون مؤذية لكيانه المادي ذاته - كما يقرر العالم العالمي الكبير، في مواضع شتى من كتابه القيم 00
والإسلام - بطبيعة تصوره لحقيقة الكون ودور الإنسان فيه، وبطبيعة منهجه الواقعي التجريبي- لن يعمد إلى المصانع فيحطمها! ولن يعمد إلى تلك التيسيرات التي تقدمها الصناعة للحياة البشرية فيلغيها!
ولكن الإسلام سيعمد - ابتداء - إلى تغيير النظرة إلى هذه الحضاريات وقيمتها 00 سيمنحها قيمتها الحقيقية بلا مبالغة وبلا بخس كذلك! بحيث يصبح الروح الإنساني المؤمن هو المسيطر عليها. لا أن تكون هي المسيطرة عليه، وعلى تصوراته ومشاعره وأوضاعه وأنظمته ..
إن الإسلام سيقر في خلد الإنسان قيمته العلوية ومقوماته الكريمة 00 سيستنقذ الروح الإنساني من المهانة التي فرضها عليه (دارون) و (كارل ماركس) وأشباههم! وعندئذ سيشعر أنه هو السيد، الذي ينبغي أن يسيطر على الآلة، وعلى الإبداع المادي، والحضارة 00
وحين يصبح الروح الإنساني المؤمن هو المسيطر، فيومئذ سيصبح متمتعاً بحريته - في إطار عقيدته - قادراً على الاختيار 00 فالاختيار هو العنصر الهام الذي يفتقده الروح الإنساني الآن. وهو مجبر مقهور ذليل للآلة؛ وللتصورات المنبثقة من دورتها الآلية!
والقدرة على الاختيار ستتيح للروح الإنساني المؤمن، أن يستبعد العناصر الضارة في هذه الحضاريات، وينمي العناصر الصالحة، المتفقة مع الحاجات الحقيقية للكينونة الإنسانية. كما أن سيطرة الروح الإنساني المؤمن ستتيح له التحرر من الأوضاع المنافية لكرامته، ومن طرائق الإنتاج وأنظمه العمل التي تهدر فيها مقومات الإنسان الكريمة ، فليست طرائق الإنتاج وأنظمة العمل شرائع مقدسة! إنما هي مجرد وسائل استغلالية لتنمية مقادير الإنتاج المادي، على حساب المقومات الإنسانية! فإذا تقرر أن (الإنسان) أكرم وأغلى من (الأشياء) تغيرت طرائق الإنتاج وأنظمة العمل بحيث توائم بين وفرة الإنتاج ومقومات الإنسان الكريمة 00
وفي حالة نشأة تصورات وقيم جديدة، منبثقة من المنهج الإسلامي للحياة 00 وما يتبع هذه النشأة من سيطرة الروح الإنساني المؤمن على الحضارة الصناعية وأدواتها وطرائقها، مع القدرة على الاختيار التي هي وليدة تلك السيطرة 00 في هذه الحالة فقط يصبح المزيد من (علوم الإنسان) ذا قيمة حقيقية في إطار التصميم الكلي. كما يصبح من الممكن تلبية هتاف مستر دالاس إلى المنهج الذي يصف سماته، ولا يجده بين يديه؛ ولا تملك كنيسته ولا آباؤه الروحيون - وهو أحدهم! - أن تقدمه له!
ومن حسن الحظ أن الفطرة الإنسانية ذاتها- كما أبدعها الله- متناسقة مع فطرة الكون. وأن فطرة الكون، كفطرة الإنسان، تحتوي على عناصر الحركة والإبداع والنمو والترقي 00 ومن ثم ستجد الفطرة أن الكثير من هذه الحضاريات يلبي ويتمشى مع حاجاتها الحقيقية المترقية 00 ولن تصطدم إلا بما هو ضار بكينونة الإنسان ذاته. وهذا ما يجب أن يطرد وينفى 00 وهذا ما يكفله منهج الله للحياة00 هذا الدين 00 المخلِّص الذي يطلبه الغرب ولكنه يأباه !!!

======

( [17]) يراجع بتوسع كتاب: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته.
( [18]) يراجع كتاب: هذا الدين ص 70-74.

.........

الفرصة الأخيرة
12-14-2005, 12:00 PM
تابع ما قبله



المستَقبل لهذا الدّين

وحين يتقرر أن الإسلام هو - وحده - القادر على إنقاذ البشرية مما يحدق بها من أخطار ماحقة، تدلف إليها مقودة بسلاسل الحضارة المادية البراقة. وهو - وحده - القادر على منحها المنهج الملائم لفطرتها ولاحتياجاتها الحقيقية. وهو - وحده - الذي ينسق بين خطاها في الإبداع المادي وخطاها في الاستشراف الروحي. وهو - وحده - الذي يملك أن يقيم لها نظاماً واقعياً للحياة يتم فيه هذا التناسق الذي لم تعرفه البشرية قط إلا في النظام الإسلامي - وحده - على مدى التاريخ 00
حين يتقرر هذا كله تتضح معه شناعة الجريمة التي يرتكبها - في حق البشرية كلها - أولئك الذين يوجهون الضربات الوحشية لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان - وفي أولهم مستر دالاس الذي يصرح ويستصرخ في طلب مثل هذا المنهج - والذين يجندون قواهم كلها، لطمس معالم المنهج الإسلامي، ومواراته عن أعين البشرية المتطلعة إلى منقذ، المتلفتة على (مخلص)، وتنفيرها منه بشتى الخدع والتمويهات والأكاذيب!
إنها جريمة بشعة - في حق البشرية كلها - البشرية المسكينة المنكوبة بهذه الحضارة المناقضة لفطرتها ولاحتياجاتها الحقيقة - كما يقرر العالم الغربي الكبير- المهددة بغلبة الفلسفة المادية عليها - كما ينذر مستر دالاس – البشرية التي تدلف إلى الهاوية، مقودة بسلاسل هذه الحضارة المادية البراقة، وهي في كل لحظة تقترب من الهوة الرعيبة، ولا منقذ لها إلا هذا الدين، الذي يحاربه أعداء البشرية، في كل مكان على وجه الأرض، بشتى الخطط والمؤامرات والأساليب!
إلا أن هذه الحرب المشبوبة على الإسلام لا تفقدنا الثقة المطلقة في أن (المستقبل لهذا الدين).
لقد صمد الإسلام في حياته المديدة، لما هو أعنف وأقسى من هذه الضربات الوحشية، التي توجه اليوم إلى طلائع البعث الإسلامي في كل مكان. وكافح - وهو مجرد من كل قوة غير قوته الذاتية- وانتصر، وبقى، وأبقى على شخصية الجماعات والأوطان، التي كان يحميها، وهو مجرد من السلاح!
إن الإسلام هو الذي حمى الوطن الإٍسلامي في الشرق من هجمات التتار؛ كما حماه من هجمات الصليبيين على السواء 00 ولو انتصر الصليبيون في الشرق كما انتصروا في الأندلس قديماً، أو كما انتصر الصهيونيون في فلسطين حديثاً، ما بقيت قومية عربية، ولا جنس عربي ولا وطن عربي 00 والأندلس قديماً وفلسطين حديثاً كلاهما شاهد على أنه حين يطرد الإسلام من أرض، فإنه لا تبقى فيها لغة ولا قومية، بعد اقتلاع الجذر الأصيل!
والمماليك الذين حموا هذه البقعة من التتار، لم يكونوا من جنس العرب إنما كانوا من جنس التتار! ولكنهم صمدوا في وجه بني جنسهم المهاجمين، حمية للإسلام، لأنهم كانوا مسلمين! صمدوا بإيحاء من العقيدة الإسلامية، وبقيادة روحية إسلامية من الإمام المسلم (ابن تيمية) الذي قاد التعبئة الروحية، وقاتل في مقدمة الصفوف!
ولقد حمى صلاح الدين هذه البقعة من اندثار العروبة منها والعرب واللغة العربية 00 وهو كردي لا عربي 00 ولكنه حفظ لها عروبتها ولغتها حين حفظ لها إسلامها من غارة الصليبيين. وكان الإسلام في ضميره هو الذين كافح الصليبيين. كما كان الإسلام في ضمير الظاهر بيبرس، والمظفر قطز، والملك الناصر 00 هو الذي كافح التتار المتبربرين!
والإسلام هو الذي كافح في الجزائر مئة وخمسين عاماً. وهو الذي استبقى أرومة العروبة فيها. حتى بعد أن تحطمت مقوماتها الممثلة في اللغة والثقافة، حينما اعتبرت فرنسا اللغة العربية –في الجزائر- لغة أجنبية محظوراً تعليمها! هنالك قام الإسلام - وحده - في الضمير، يكافح الغزاة، ويستعلي عليهم، ولا يحنى رأسه لهم لأنهم أعداؤه (الصليبيون)! وبهذا - وحده - بقيت روح المقاومة في الجزائر، حتى أزكتها من جديد الحركة الإسلامية التي قام بها عبد الحميد بن باديس، فأضاءت شعلتها من جديد 00 وهذه الحقيقة التي حاول أن يطمسها المغفلون والمضلِّلون، يعرفها الفرنسيون والصليبيون جيداً لأنهم (صليبيون)!
إنهم على يقين أن (الإسلام)، باستعلاء روحه على أعدائه، هو الذي يقف في طريقهم في الجزائر. ومن ثم يعلنونها حرباً على (المسلمين) 00 لا على (العرب) ولا على (الجزائريين)!
والإسلام هو الذي هب في السودان في ثورة المهدي الكبير على الاحتلال البريطاني للقسم الشمالي من الوادي (مصر) ثم القسم الجنوبي (السودان) ومراجعة إعلانات (المهدي) الكبير ، ورسائل (عثمان دقنة) لكتشنر وكرومر وتوفيق، تشهد بحيوية هذا الباعث الأصيل.
والإسلام هو الذي كافح في برقة وطرابلس ضد الغزو الطلياني 00 وفي أربطة السنوسية وزواياها نمت بذرة المقاومة. ومنها انبثق جهاد عمر المختار الباسل النبيل..
وأول انتفاضة في مراكش، كانت منبثقة من الروح الإسلامي. وكان (الظهير البربري) الذي سنه الفرنسيون سنة 1931 وأرادوا به رد قبائل البربر هناك إلى الوثنية، وفصلهم عن الشريعة الإسلامية 00 هو الشرارة التي ألهبت كفاح مراكش ضد الفرنسيين.
لقد كافح الإٍسلام - وهو أعزل - لأن عنصر القوة كامن في طبيعته. كامن في بساطته ووضوحه وشموله، وملاءمته للفطرة البشرية، وتلبيته لحاجاتها الحقيقية 00 كامن في الاستعلاء عن العبودية للعباد بالعبودية لله رب العباد؛ وفي رفض التلقي إلا منه، ورفض الخضوع إلا له من دون العالمين .. كامن كذلك في الاستعلاء بأهله على الملابسات العارضة كالوقوع تحت سلطان المتسلطين. فهذا السلطان يظل خارج نطاق الضمير مهما اشتدت وطأته .. ومن ثم لا تقع الهزيمة الروحية طالما عمر الإسلام القلب والضمير، وإن وقعت الهزيمة الظاهرية في بعض الأحايين.
ومن أجل هذه الخصائص في الإسلام يحاربه أعداؤه هذه الحرب المنكرة، لأنه يقف لهم في الطريق، يعوقهم عن أهدافهم الاستعمارية الاستغلالية، كما يعوقهم عن الطغيان والتأله في الأرض كما يريدون!
ومن أجل هذه الخصائص يطلقون عليه حملات القمع والإبادة، كما يطلقون عليه حملات التشويه والخداع والتضليل!
ومن أجل هذا يريدون أن يستبدلوا به قيماً أخرى، وتصورات أخرى، لا تمت بسبب إلى هذا المناضل العنيد؛ لتستريح الصهيونية العالمية، والصليبية العالمية، والاستعمار العالمي من هذا المناضل العنيد!
إن خصائص الإسلام الذاتية هي التي تحنق عليه أعداءه الطامعين في أسلاب الوطن الإسلامي 00 هذه هي حقيقة المعركة؛ وهذا هو دافعها الأصيل..
* * *
ولكن الذي لا شك فيه - على الرغم من ذلك كله - هو أن (المستقبل لهذا الدين)..
( فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين؛ ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع، في أن المستقبل لهذا الدين. وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه - أراد أعداؤه أم لم يريدوا - وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى - كما لا يملك منهج آخر- أن يؤديه. وأن البشرية بجملتها لا تملك كذلك أن تستغني طويلاً عنه ) 00 كما قلنا في صدر هذا الكتاب00
ولا حاجة بنا إلى المضي في توكيد هذه الحقيقة على هذا النحو. فنكتفي في هذا الموضع بعرض عبرة عن الواقع التاريخي للإسلام، لعلها أنسب العبر في هذا المقام:
بينما كان (سراقة بن مالك) يطارد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصاحبه أبا بكر رضي الله عنه - وهما مهاجران خفية عن أعين قريش 00 وبينما كان سراقة يعثر به فرسه كلما هم أن يتابع الرسول وصاحبه، طمعاً في جائزة قريش المغرية التي رصدتها لمن يأتيها بمحمد وصاحبه أو يخبر عنهما 00 وبينما هو يهم بالرجوع –وقد عاهد النبي- صلى الله لعيه وسلم- أن يكفيهما من وراءه 00
في هذه اللحظة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا سراقة. كيف بك وسوارى كسرى؟ ) 00 يعده سوارى كسرى شاهنشاه الفرس! (ملك الملوك!).
والله وحده يعلم ما هي الخواطر التي دارت في رأس سراقة؛ حول هذا العرض العجيب؛ من ذلك المطارد الوحيد 00 إلا من صاحبه الذي لا يغني شيئاً عنه، والمهاجــر - سرّا ً- معه!
ولكن كالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان عارفاً بالحق الذي معه، معرفته بالباطل الذي عليه الجاهلية في الأرض كلها يومذاك 00 وكان واثقاً من أن هذا الحق لابد أن ينتصر على هذا الباطل. وأنه لا يمكن أن يوجد (الحق) في صورته هذه، وأن يوجد (الباطل) في صورته هذه، ثم لا يكون ما يكون!
كانت الشجرة القديمة قد تآكلت جذورها كلها، بحيث لا يصلها ري ولا سماد 00 كانت قد خبثت بحيث يتحتم أن تجتث 00 وكانت البذرة الطيبة في يده هي المعبأة للغرس والنماء 00 وكان واثقاً من هذا كله ثقة اليقين 00
* * *
نحن اليوم في مثل هذا الموقف بكل ملابساته، وكل سماته. مع الجاهلية كلها من حولنا 00 فلا يجوز - من ثم - أن ينقصنا اليقين في العاقبة المحتومة. العاقبة التي يشير إليها كل شيء من حولنا. على الرغم من جميع المظاهر الخادعة التي تحيط بنا!
إن حاجة البشرية اليوم إلى هذا المنهج، ليست بأقل من حاجتها يومذاك 00 وإن وزن هذا المنهج اليوم - بالقياس إلى كل ما لدى البشرية من مناهج - لا يقل عنه يومذاك 00
ومن ثم ينبغي ألا يخالجنا الشك في أن ما وقع مرة في مثل هذه الظروف لابد أن يقع. ولا يجوز أن يتطرق إلى قلوبنا الشك، بسبب ما نراه من حولنا، من الضربات الوحشية التي تكال لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان، ولا بسبب ما نراه كذلك من ضخامة الأسس التي تقوم عليها الحضارة المادية00 إن الذي يفصل في الأمر ليس هو ضخامة الباطل، وليس هو قوة الضربات التي تكال للإسلام. إنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ومدى الصمود للضربات!
إننا لسنا وحدنا 00 إن رصيد الفطرة معنا 00 فطرة الكون وفطرة الإنسان 00 وهو رصيد هائل ضخم 00 أضخم من كل ما يطرأ على الفطرة من أثقال الحضارة 00 ومتى تعارضت الفطرة مع الحضارة، فلا بد أن يكتب النصر للفطرة 00 قصر الصراع أم طال( [19]).
* * *
أمر واحد يجب أن يكون في حسابنا 00 إن أمامنا كفاحاً مريراً شاقاً طويلاً. لاستنقاذ الفطرة من الركام. ثم لتغليب الفطرة على هذا الركام.
كفاحاً مريراً يجب أن نستعد له استعداداً طويلاً 00
يجب أن نستعد بأن نرتفع إلى مستوى هذا الدين 00
نرتفع إلى مستواه في حقيقة إيماننا بالله. وفي حقيقة معرفتنا بالله فإننا لن نؤمن به حق الإيمان حتى نعرفه حق المعرفة 00
ونرتفع إلى مستواه في عبادتنا لله. فإننا لن نعرف الله حق المعرفة إلا إذا عبدناه حق العبادة.
ونرتفع إلى مستواه في وعينا بما حولنا، ومعرفتنا لأساليب عصرنا 00 ورحم الله رجلاً عرف زمانه واستقامت طريقته.
ونرتفع إلى مستواه في إحاطتنا لثقافة عصرنا وحضارته؛ وممارسة هذه الثقافة وهذه الحضارة ممارسة اختبار واختيار 00 فإننا لا نملك الحكم على ما ينبغي أن نأخذ منها وما ينبغي أن ندع، إلا إذا سيطرنا عليها بالمعرفة والخبرة. فمن المعرفة والخبرة نستمد سلطان الاختيار 00
ونرتفع إلى مستواه في إدراكنا لطبيعة الحياة البشرية وحاجاتها الحقيقية المتجددة، فنرفض ما نرفض من هذه الحضارة، ونستبقي ما نستبقي عن خبرة بالحياة ذاتها تعادل خبرتنا بهذه الحضارة كذلك!
وهذا كفاح مرير 00 وكفاح طويل 00 ولكنه كفاح بصير وفاح أصيل..
والله معنا 00 "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون" 00
وصدق الله العظيم.

======

( [19]) راجع فصل "رصيد الفطرة" في كتاب: "هذا الدين".


..........