المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : منهج التعامل مع أهل البدعة في وقت الفتنة



الفجر القادم
12-17-2005, 06:35 PM
03-06-2004

إن العلم بأصول التعامل مع أهل الافتراق عن منهج صحابة رسول الله ضرورةٌ يفرضها وجود هذه الفرق، ويحتمها ما يترتب على أسماء الدين وأحكامه من حقوق وواجبات شرعية يأثم المرء بتعطيلها، فضلًا عما يصيبه من ضنك العيش بالتفريط فيها . ولئن كان الحال كذلك في أوقات الأمن والاستقرار، فإنه في حال الفتنة والمحنة آكد، ويدرك هذه الأهمية من أدرك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: [بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا]رواه مسلم. وإنما ذلك لعِظم الفتن.

إن قضية التعامل مع أهل البدع تفرض نفسها اليوم في واقعٍ من الفتنة التي يمكن تصويرها من خلال سياقين مؤلمين تعيشهما أمتنا الإسلامية:

فأما الأول: فهو استباحة بيضة بلاد الإسلام استباحةً علنيةً لا لَبس فيها، وضابط ذلك: وجود الكافر الحربي في ديار الإسلام وجوداً علنياً سافراً.

وأما الثاني: فهو استشعار مجتمعٍ مسلم تربُص الكافر الحربي به للانقضاض عليه، واستباحة أراضيه، وأمواله، ودمائه، وأعراضه.

والمصيبة المشتركة بين السياقين في واقعنا المعاصر تتمثل في غياب الإمامة الشرعية الصحيحة عن الساحة السياسية للأمة، تلك الإمامة التي يناط بها عادةً:

المرابطة على ثغر الأمة العقدي من جهة.

وحماية كيان الأمة السياسي من جهة أخرى .

مما يفرز تساؤلات عديدة حول الأولويات والحاجات المفتقر إليها لتحقيق أمن العقيدة، ووحدة الصف السياسي للأمة، حيث إن نفس هذا الكيان الحسي للمجتمع أو البلد؛ أصبح مهدداً بالخطر في هذين السياقين. وأعتقد أن خارطة الأمة الإسلامية من الوضوح بمكان من جهة تحقق هذه السياقات على أرض الواقع بحيث إني سأعمم القول قدر المستطاع؛ ليُتمكن تنزيله على ما يستجد من وقائع مماثلة، وحتى لا نحصر تنزيل أصول وقواعد هذا المنهج في جزئيات ميدانية قابلة للتبدل فيقع الوهم واللبس.

إذا عُلم هذا، فلا بد لنا قبل الخوض في هذا الموضوع من أن نقرر جملةً من الثوابت المتعلقة بالموضوع وإن بدا بعضها بدهياً، فالغرض هنا تقريرها حتى نتحاكم إليها فيما يفرضه الواقع من متغيرات وجزئيات متبدلة، فتكون عوناً لنا على الاستنارة حيث تدلهم الخطوب:

القاعدة الأولى: إن الافتراق أمر ثابت في هذه الأمة لا يجدي جحوده ولا يقلل من خطره إنكاره: والدليل على ذلك قوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[115]}[سورة النساء].. فهذا أصلٌ في الافتراق المنهجي العلمي، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[72]}[سورة الأنفال]. فهذا أصل في وقوع المفارقة الحسية ابتداءً، وقوله تعالى :{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ...[9]}[سورة الحجرات] . فهذا أصل في وقوع المفارقة بعد وجود الاجتماع فهو افتراق طارئ .

فاتفق لنا ثلاث صور من المفارقة هي:

المفارقة المنهجية: وضابطها: الاجتماع المنهجي على أصلٍ بدعي مخالف لمنهج الصحابة.

والمفارقة الحسية الأصلية بترك اللحوق بالجماعة ابتداءً: وضابطها: التخلف عن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام مع القدرة عليها .

والمفارقة الحسية الطارئة: وضابطها: البغي على إمام مستقر بتأويل أو شبهة .

وقد يجتمع الافتراق المنهجي والحسي، فتصبح للفرقة المجتمعة على أصل بدعي أو أكثر شوكة تهدد الأمنين العلمي والسياسي لجماعة المسلمين.. وكل هذه الصور موجودة اليوم على مدى الخارطة الإسلامية نسأل الله السلامة والعافية.

القاعدة الثانية: خطر الافتراق علميٌ منهجي أو عمليٌ سياسي وقد يجتمعان: وإن أهمية التمييز بين أنواع الافترق المذكورة آنفاً تتمثل في معرفة مناط الخطر من هذا الافتراق أهو الأمن العقدي العلمي الذي يُخشى أن يفتتن الناس به في دينهم ..أم هو الأمن الحسي الجماعي الذي يُخشى أن يتخطف به الناس من أمنهم واستقرارهم. فهذا الافتراق ليس مسألة جماعة من الناس اختارت لنفسها رأياً، أو طريقاً خاصاً يحتمل السكوت عنه تحت تأثير وَهم حرية الرأي والتعبير، وإنما هو خطر حقيقي يضر بأمن المسلمين علمياً وعملياً .

فأما الضرر العلمي العقدي: فهو ما يدخل قلوب المسلمين من شبهات تشكك في العقيدة، وتنكت النكت السوداء في القلب، ولقد نبه الله إلى خطورة هذا المسلك حين مارسه طائفة من أعداء الدين الأصليين حين كانت الدعوة في مهدها، تأمل معي قوله تعالى:{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[72]}[سورة آل عمران] . وهكذا أهل الافتراق البدعي يوهمون الانتساب إلى منهج الحق، ويحشدون في التدليل على ذلك حشود متشابه القرآن والسنة الموضوعة إن أعياهم تأويل الصحيحة، فإذا هم يضللون ويلبسون على الناس دينهم؛ لعل الناس يرجعون عن جادة الحق، ويتبعون سُبُل أهل الأهواء .

والغالب في منهج أهل الفرقة والهوى هو لَبس الحق بالباطل كما كان منهج اليهود والنصارى حيث قال تعالى:{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ[71]}[سورة آل عمران] .

وأما الضرر العملي: فحسبك عليه منبهاً قوله تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ[107]}[سورة التوبة]. وتأمل حولك اليوم لترى كم من مساجد الضرار، وكم من هيئات الضرار، وكم من فتاوى الضرار.. يطلع علينا بها عُبَّاد الأهواء من المنظرين لجماعات الافتراق والتفريق، الذين قطَّعوا الأمة إرباً إرباً تحت شتى رايات البدع والضلال.

وإذا عجبت فالعجب لا ينقضي ممن يكيل التهم لأهل الحق، ويتهمهم ببذر بذور الفتنة والشقاق حين ينبهون أهل الأهواء من غفلتهم، أو يفضحونهم حين يصرون على ما هم سادرون فيه، ويتجاهل عمداً، أو سهواً الإنكار على المتسبب في وقوع الفرقة أصلاً، فمثل هؤلاء كمثل من ينكر على من صاح على القاتل، ولا ينكر على القاتل نفسه!

وأما اجتماع الخطرين: فيحدث حينما تكون لأهل الافتراق المنهجي شوكة تعكر على جماعة المسلمين صفو دينهم وأمنهم، ولعل الطامة الكبرى تكون حين يلجأ بعض أهل الفرقة والهوى اليوم إلى التماس الشوكة من أعداء الإسلام المتربصين كجحافل الصليب المستأسدة، فيرتمون في أحضانها طلباً للشوكة والمنعة، ويتجاهلون استحالتهم أدوات طعن في جسد هذه الأمة التي يزعمون الانتساب إليها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

القاعدة الثالثة: أتباع منهج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمتحنون الناس: قال الله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ ...[94]}[سورة النساء]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلَا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ]رواه البخارى. قال الحافظ ابن حجر في شرحه:' وفيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر, فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك'.

فالحاصل أن أتباع منهج الصحابة يأخذون بظواهر الناس التي قررها الشرع، ولا ينقبون عما في قلوبهم، وهذا كله حيث بقيت هذه البدع مستورة في قلوب حامليها فلا ينقب عنها، أما إذا أظهر أهل البدعة بدعتهم، فذاك مقامٌ آخر من حيث الإنكار الشرعي بضوابطه المعروفة.

القاعدة الرابعة:توعد أهل الافتراق والبدع بالنار لا يستلزم كفرهم: فقوله صلوات الله وسلامه عليه في حديث افتراق أمته كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً] رواه ابن ماجه وأحمد . من باب الوعيد . فإذا عُلم هذا فليعلم كل مسلم أن أهل النجاة هم أتباع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في فهم وتطبيق الكتاب والسنة، وكل من عداهم قد سلكوا من الضلال مسلكاً قد يقف بهم عند حدود المخالفة والفسق، فيكون وعيدهم بالنار من جنس وعيد عصاة الموحدين من أصحاب الكبائر، وقد يفضي بهم مسلك الضلال إلى مهالك الكفر، فيكون وعيدهم بالنار من جنس ما وعد الله تعالى به الكفار، والمشركين، والمنافقين .. وبهذا يندفع الإشكال المتوهم من أن أتباع منهج السنة والجماعة يكفرون غيرهم من المنتسبين إلى القبلة.

القاعدة الخامسة:مكافحة أهل الأهواء والبدعة والفرقة علمية وعملية: وهذا مهم جداً ويدور مع طبيعة الافتراق الحاصل كما بينا في القاعدة الأولى، فحيث كانت الفُرقة علمية منهجية كانت مجاهدتها بالحجة والبيان، وحيث كانت الفُرقة عملية حسية كانت منازلتها بالشوكة والسنان، ولا يستلزم القتال والقتل في الأخيرة تكفيرًا ولا خروجًا عن الملة، وإن كان يحتمله بحسب حال الأصل البدعي المفارَق عليه.

ومنهج التعامل مع أهل الفرق والأهواء إنما ينطبق في أكمل صوره على حالة الاستقرار السياسي العقدي للأمة بحيث يكون للأمة إمام تقوم به شوكة الدين، ويعلو به عَلَمُ السنة، أما والحال كما ذكرنا من سياقات ضاعت فيها الإمامة الشرعية، واستباحت بيضةَ الدين فيها جحافلُ الحربيين الكفرة في جزء من بلاد الإسلام، وتربصت جحافل أخرى بما تبقى منها، فكيف يكون مسلك مكافحة البدعة والفرقة، وأين أولوية قتال أهل الافتراق حفاظاً على أمن الأمة السياسي من قتال جحافل الكفر التي تتهدد الكيان السياسي للأمة برمته؟

إن الإجابة على هذه التساؤلات تقوم على أساس التمييز بين ما يختص بالثوابت العقدية الراسخة القائمة على التوقيف المطلق، وبين ما يتعلق بفقه السياسة الشرعية القائم على أساس موزانة المفاسد والمصالح درءاً وجلباً على الترتيب.

والأصل فيما سنعرض له من معالم هذا المنهج يقوم على التفريق بين مقام النهي في قوله تعالى:{ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ[8]وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[9]}[سورة القلم]، وبين مقام الرخصة في قوله تعالى:{ ...إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ...[28]}[سورة آل عمران]، إنه التفريق بين مقام المداهنة المنهي عنها شرعاً، ومقام التألف، والمداراة المرخص به شرعاً ، وفيما يلي تقرير بعض معالم منهج التعامل هذا:

أولاً: لا مداهنة في مسائل الاعتقاد: إذ أن الغاية من كل ما نجاهد لأجله هو الحفاظ على هذا المعتقد، وكل ما نسعى إلى تحقيقه من الاجتماع الحسي السياسي، وإقامة قلعة الإسلام وأمة الإسلام إنما هو من جنس الوسائل، وإنه لمن السفه بمكان أن نفرط في شيء من المقصد وهو مجموع مفردات العقيدة بحجة المحافظة على وسائل حمايتها .

فكلمة التوحيد هي مناط النجاة، ولو انفرط عقد الجماعة، ولو ضاعت معالم الأمة بحيث لم يبق منها إلا أطياف من البشر متناثرين هنا وهناك، ولن تجد نصاً في الكتاب ولا السنة يشير إلى مجرد اجتماع الناس في صورة أمة، أو جماعة، أو دولة يحقق لهم النجاة بمنأى عن العقيدة؛ ولهذا يجب أن يستقر في أذهاننا أن مفردات العقيدة ثوابت راسخة لا يصح أن تكون مجال مداهنة، أو تنازل، مهما كانت الحجة والمبرر كالتذرع بالمحافظة على الجماعة، وعدم تشرذم الأمة، ونحو ذلك مما يسمى المصلحة الوطنية والوحدة الوطنية .

ومهما أمكن الموزانة بين تحقيق الاجتماع الحسي والسلامة في المعتقد، فقد وجب ذلك، وأنه مهما ألجأ الواقع إلى التفريط بأحدهما دون الآخر، فلا مندوحة عن تفويت كل ما عدا ثوابت العقيدة في سبيل الحفاظ عليها .

وتأمل معي كلام الله تعالى حكايةً عن إنكار موسى عليه السلام واقعَ الشرك الذي تلبَّس به بنو إسرائيل :{ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا[92]أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي[93]قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي[94]}[سورة طه] فها هو نبي الله هارون عليه السلام يرجح كفة الاجتماع، ويحاول قدر الإمكان استيعاب بدعة الشرك التي جاء بها السامري .

ولربما عذر موسى عليه السلام لأخيه هارون عليه السلام اجتهاده، ولكنه لم يقره عليه البتة حيث انصرف للتو يطهر هذه الجماعة من رجز الشرك ولوثة العقيدة ، تأمل :{ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ[95]قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي[96]قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا[97]إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا[98]}[سورة طه].

فلم يراع موسى عليه السلام أمام تهديد أمن العقيدة أي شيء آخر فالسامري صاحب فكرة وأتباع يُخشى بمجابهته انفراط عقد الجماعة، ولكن إذا تعين ذلك لحفظ العقيدة؛ فلا ضير، والعجل له عُبّاده ومريديه-وما أكثر عجول اليوم- وربما أدى تحريقه إلى انفراط عقد الجماعة ولكن لا ضير.

ألا فليعلم كل مسلم أن لو استلزم الأمر التضحية بكل سامري، وخسارة كل عابد عجل في مقابل تحقيق أمن العقيدة ألا فليكن، ألا ولبئس الجماعة التي تحتضن شاكلة السامري وأتباعه بل أي معنى يبقى للجماعة إذا كان مدار تأليف القلوب الإقرار بالشرك بالله، أو السكوت عليه على أقل تقدير.

ثانياً: المداراة مشروعة لدفع الضرر ودرء المفسدة فتقدر بقدرها: وهذا من أبجديات فقه السياسة الشرعية، ولتعلم أن الضابط في مشروعية المداراة: غياب شوكة أهل الحق، وأن الضابط في حد المداراة ومداه: ما يندفع به الأذى والضرر عن جماعة المسلمين فحسب.

فتنبه لهذا فإنه دقيق جداً، وبالغفلة عنه ينجرف البعض في تيارات المداهنة والتمييع والملاطفة ليصبح حاله حال من غصَّ فكاد يختنق فشرعت له شربة خمر متعينة لتذهب غصته فإذا به يسترسل في زجاجة الخمر سادراً متمتعاً! والحاصل أنه لا يجوز أن يتحول الإذن بالمداراة المرتبط بالضرورة الملجئة إلى مجال تنازل عن شيء من الثوابت العقدية التي إنما فارق أهل البدعة أهلَ السنة بتركها .

ففرق بين أن تداري وتتألف قلوب فرقة ضالة، لها شوكة يُخشى أن يتضرر منها جماعة المسلمين، وبين أن نلغي هذه الأسس العقدية التي افترقنا عليها، ونعلن للناس أنه اختلاف بسيط لا يفسد للود قضية، وأن التقارب والتقريب بين الفريقين مشروع، بل مطلوب بحجة وحدة الصف، وحسبك مثالاً واضحاً اليوم ما تزل به أقدام العديد من حملة العلم المنتسبين إلى السنة من الإعلان بمشروعية ومندوبية – بل ربما وجوب - التقريب مع أهل الرفض، ولا أعني بأهل الرفض عوامهم بل منظريهم وعلماءهم وسادتهم ممن يعلمون حقيقة الفساد العقدي الذي يُضلون الخلق به.

وقريب من هذا المجال من يتمادى مع منظري وكبراء العلمانية بحجة وحدة الصف الوطني، ثم يتخذ من مشروعية المداراة ذريعة لذلك.

وغفل هؤلاء، أو ما دروا أن هذه المداراة ما شُرعت إلا حيث تعينت طريقاً للحفاظ على سلامة أهل السنة باعتبارهم حملة منهج الحق لا باعتبار ذواتهم وأشخاصهم، فمهما أفضت المداراة إلى تمييع منهج الحق، أو تضييع شيء من ثوابته؛ لم تعد مشروعةً البتة.

وهذا كله يعود إلى الأصل القرآني فيما أبيح للضرورة حيث قال تعالى:{ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[173]}[سورة البقرة]، فمن تجاوز المدارة إلى المداهنة، فقد بغى، واعتدى، وخرج عن حد الإباحة قولاً واحداً.

فمبدأ المداراة يقوم في الجملة على ترك الاستعداء، وترك الإعلان بالعداوة والبغض في الله لأعيانهم، وذوي الشوكة منهم لا لمناهجهم وأصولهم التي لا تنقطع مجاهدتها بالبيان الأولى بالأولى، ولا يقوم أبداً على الاستخذاء، والاسترضاء لرءوس البدعة ودعاتها، إن المداراة في حقيقتها أقرب إلى التحييد المؤقت لهذه الفئة حتى يُتفرغ لمن هو أعظم خطراً منها، وإن مشروعية المداراة والتألف مع هؤلاء يجب أن تقتصر على هذا التحييد ولا تتجاوزه إلى شيء من العلاقة الإيجابية، اللهم إلا ما دخل في جنس التعاون على البر والتقوى والمعروف مما لا شرط له كدفع صائل، ونصرة مظلوم، ونحو ذلك مما تتطلبه طبيعة المرحلة، وهذا وفق قاعدة ' للمسلمين نفعه وعليه وزره '.

ثالثاً: مداراة وتألُّف أهل البدع والافتراق ليست تقريراً لهم على بدعتهم وضلالاتهم: إن استحضار هذا الأصل يقي من الانجراف وراء أوهام التقريب التي قد تكون أوقات الفتنة مروجةً لها؛ ولذا نؤكد على ما سبق في الأصل السابق، وهو أن مداراة هؤلاء لا يُقصد منها سوى دفع الضرر الأكبر عن المسلمين وعنهم، ولا يراد بها تقريرهم على بدعتهم البتة . فالتألف والمداراة دفع لأعظم الضررين بالنسبة لكل من أهل الحق وأهل البدعة، وإرجاء للتعامل الحاسم مع أهل البدعة إلى حين انطفاء نار الفتنة، وعودة الشوكة لأهل الحق .

رابعاً: إن مداراة أهل البدعة زمن الفتنة لا يعطل جهادهم بالبيان: فزمن الفتنة أدعى لانحسار السنة، وافتتان الناس بباطل التأويلات، وزيف البدع والضلالات؛ فكان الواجب المرابطة على ثغور السنة بالعلم والبيان والمحاجة العلمية بالدليل، فيجب على أهل العلم وحملته أن يجتهدوا ويشمروا في بيان معالم الحق، والكلام في كل ما يشكل على الناس من أصول دينهم، لا سيما ما له علاقة بطبيعة الفتنة الحاصلة كأن يدهمهم العدو، أو يشغر الزمان عن إمام، ونحو ذلك.

خامساً: مراعاة الترتيب الشرعي، وسياق الحال في مكافحة البدعة:فمن البدعة ما هو مكفر، ومنها ما هو مفسق، ومن البدعة ما هو أقرب إلى الواقع العملي، ومنها ما هو أقرب إلى التأصيل العلمي النظري، ولا يصح في الأذهان الانشغال بما هو أقل ضرراً عما هو أشد ضرراً، ولا الانشغال بما هو نازلةٌ واقعة بما هو نظري تأصيلي يحتمل التأخير.

وهذا مأخوذ من أصول الشرع الدالة على وجوب الانشغال بالأهم كما صح في حديث بعث معاذ رضي الله عنه إلى أهل الكتاب حيث أمره صلى الله عليه وسلم بدعوتهم إلى التوحيد، ثم إلى الصلاة، ثم إلى الزكاة كما هو معروف.

فعلى سبيل المثال: نجد اليوم إحياءً لمفهوم الإرجاء من زاوية خفية قاتلة هي زاوية تعطيل الولاء والبراء، والتدليس على الناس بمفهوم التسامح الديني المغلوط؛ إذ أن ترويج مفهوم الإرجاء يقدم قاعدة وأرضاً خصبة لبذر بذور تولي الكفار، وخذلان المؤمنين طالما أن إيمان أهل الإرجاء لا يختل بذلك، فمن المهم حينما ننكر على بدعة الإرجاء اليوم ألا ننحصر في سياقاتها التاريخية، وأعيان رجالاتها الذين أفضوا إلى ما قدموا، ولكن نبرز خطورة بدعة الإرجاء من خلال ثمرات الحنظل المرة المتمخضة في واقعنا اليوم .

فنبين للناس كيف أن دعوى سلامة الإيمان، وتحققه مع اجتماع النواقض العملية للإيمان؛ دعوى هدامة قد جرَّت على المسلمين الويل والثبور، فوطأت بلادهم بل وفرشهم أقدام العدو الكافر بتعاون خياني حقير من هؤلاء الذين لم يروا بأساً في مد يد العون إلى كافر محارب، ولا في خذلان مسلم مقهور، وأخذوا يخدرون حس المسلم الذي آلمه ذلك كله بجرعات من الإيمان الإرجائي الذي لا يضر معه معصية، ولا كفر عملي طالما أن القلب يعرف لا إله إلا الله – بزعمهم - واللسان يتمتم بها دون وعي، ولا أثر عملي في حياة قائلها.

وقل مثل هذا في أصحاب بدعة العلمانية، والاعتزال، والرفض، والخروج: نعم إن لهذه البدع جذوراً تاريخية يهم العالم والباحث معرفتها ودراستها، ولكننا نتحدث عن نشر علم السنة بين أبناء المجتمع عوامه ومتعلميه وعلمائه، فينبغي الربط بالواقع ما أمكن، وتأصيل الجزئيات ما أمكن، وتخصيص النواحي العلمية التخصصية بأهل العلم المتخصصين ما أمكن.

فالناس لا يهمها كثيراً أن تعرف الجعد بن درهم، ولا واصل بن عطاء، ولا القاضي عبد الجبار، ولكن يهمها أن تعرف رموز العلمانية وأذناب الاستعمار والاستشراق، وزنادقة العصر، وتعرف أن الذين يقتحمون بيوتهم، وينتهكون أعراضهم من الكفار المحاربين قد جاءوا بعون من هؤلاء على اختلاف وتفاوت في مقدار العون بين منظِّر وناعق بوق لأفكار الهدم والتضليل، وبين ماد يد العون العملية بفكر ووشاية وردء وتوجيه، وبين مشاركة حسية عملية عسكرية في مد يد العدوان الأثيم على حرمات المسلمين مع التستر بشتى أنواع التبرير والتضليل المنتسب إلى العلم والإسلام وفتاوى التدجين، فتأمل.

سادساً: تحرير مناط استحلال السيف في رقاب المنتسبين للبدعة إن اضطر إليه:مهما قلنا عن ضرورة استفراغ الوسع في جهاد أهل البدعة بالبيان فإن سياق الفتنة قد يفرز واقعاً يتمحض فيه ضرر بعض المنتسبين إلى البدعة وخطرهم العظيم على أهل الإسلام بحيث يكون السكوت عنهم واحتمالهم في جسد المسلمين الواحد أشبه بالصبر على عضو مسموم في الجسد أخذ يبث ذيفاناته وخبثه في باقي الجسد، ويوشك أن يأتي عليه، وفي هذه الحالات المتعينة قد لا يكون أمام الجماعة المسلمة بدٌ من توجيه السنان وتسليط السيف حيث لم تنجع المداواة بالحجة، والقرآن، والسنة،

وهنا ينبغي التنبه إلى أمور:

منها: ضرورة عدم التوسع في هذا المسلك اتقاء الفتنة.

ومنها: ضرورة تحرير مناط استباحة دماء هؤلاء، وبيان ذلك بما لا يوهم أن سبب استباحة دمه مجرد انتسابه للبدعة، وليس الأمر بسبب الخجل، أو الخوف من الحكم الشرعي، وإنما الخوف من التعميم في الحكم، والتوسع فيه بدون مبرر شرعي .

ولنتذكر أننا نتحدث عن واقع الفتنة لا عن واقع الاستقرار وظهور الشوكة، فتلك حالة أخرى يتسنى فيها للإمام المسلم، أو موكله أن يقيم الحجة، ويحكم بالحكم الشرعي القضائي في هؤلاء، إن متأولين تائبين، أو أهل أهواء مصرين، أو زنادقة أو مرتدين.

فعلى سبيل المثال: إذا ظهر في واقع الفتنة أن بعض المنتسبين إلى البدعة يستحلون تقديم الردء والمظاهرة للكافر المحارب على المسلمين، وقرر أهل العلم والخبرة أن إراحة المسلمين من هؤلاء متعينة؛ فيجب أن يكون العذر الشرعي في استباحة دماء هؤلاء هذه المظاهرة والخيانة لله ولرسوله لا مجرد انتسابهم للبدعة، وهذا مهم جداً لتقليل الهرج والفوضى في زمن الفتنة، وحتى لا يتهاون الناس في دماء معصومة، فتنبه لهذا كله فإنه دقيق .

سابعاً: قاعدة جليلة في رد التنازع إلى الله ورسوله:ولقد تركنا المسك للختام حيث إنه مهما أعيت المُنَافِحَ عن السنة الحيلةُ في رد الخصوم، وبيان تهافت الضلالات؛ فإن له ملاذاً آمناً لا يخذله البتة، ألا وهو قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[59]}[سورة النساء] . قال الإمام أحمد رحمه الله:'أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم'[أصول السنة].

ولهذا: فإنك مهما وجدت صاحب فرقة وهوى يزعم الانتساب إلى الكتاب والسنة، فإنك لن تجده ينتسب إلى منهج الصحابة البتة، بل إن علامة أهل الفرقة ترك منهج الصحابة، وأمامك تاريخ الفرق وأهل الأهواء تأمله وراجعه؛ لتوقن أن أحداً منهم لا ينتسب إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء، فمهما لبَّس عليك هؤلاء بتأويل آية متشابهة، أو حمل حديث على غير وجه الحق؛ فخاصمهم بسنن الصحابة رضوان الله عليهم، فإن كان لهم فيهم سلف وإلا، فهم صدر هذه الأمة ؛ إجماعهم حجة لازمة، واختلافهم رحمة واسعة، ولن تجد الحق خارجاً عن مجموع أقوالهم البتة، فتأمل.

وبعد، فإن هذا الموضوع من المواضيع الدقيقة والحرجة، ولا شك أن حيثيات كل جزئية من الواقع قد تتعلق بها من الملابسات ما يحتاج مزيد نظر وتأمل واجتهاد وتدقيق، وأذكر نفسي وإخواني في كل مكان سواء المرابطين على الثغور، أم المنشغلين في التنظير والتوجيه لعموم الأمة بضرورة التشاور والتريث، وعدم استعجال الأمور، ولنتذكر نحن أهل السنة والجماعة عظم المسئولية الملقاة على عاتقنا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

من :' منهج التعامل مع أهل البدعة في وقت الفتنة ' للدكتور/ وسيم فتح الله


اخوكم في الله : الفجر القادم