د. أحمد إدريس الطعان
12-19-2005, 02:54 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
هل العلمانية حتمية ؟
العلمانية عند ثلة من المفكرين ليست خياراً إيديولوجياً بقدر ما هي واقع تاريخي موضوعي في آن ( ) ، وهذا يعني أنها ظاهرة حتمية لا مرد لها ( ) ، أو ظاهرة طبيعية كالزلزال والبراكين ، وهي واقعة لا محالة ، لأن الغرب هو السائق والقطار تحرك ( )، ولذلك ينصحنا دعاتهـا أن نكف عن المقـاومـة والمواجهـة لأن هـذا لن ينفعنـا ولن يجدينا شيئاً فالتيـار جارف ( ) .
ولكن السؤال : لماذا هذه الوثوقية المطلقة في تأكيد حتمية العلمانية ، ولماذا هذه المصادرة على التاريخ والمستقبل ؟
الإجابة : من منظور علماني تتمثل في كون الدراسات الأوربية والأمريكية المتطورة اعتبرت العلمانية واقعاً مُسلَّماً به ولا يختلف في ذلك اثنان ، واعتبرت العلمانية أمراً محسوماً أو يكاد ( ).!! وما دامت – أمريكا – قالت فقد صدقت !!!.
أما نحن فلا نزال نسمع نداءات تعتبر العلمانية أمراً مدسوساً ( ) ، ولا يزال الحديث عن العلمانية في واقعنا العربي يجلب التهم بالوقوع تحت هيمنة الغزو الغربي ، ويغلب على الكتابات الإسلامية المنطق العدائي ، والأفكار المتشنجة ، ومعالجـات يغلب عليها الخطاب الاحتفـالي ويلاحظ ذلك فيما يكتبه أنور الجندي ، وعماد الدين خليل ، ومحمد مهدي شمس الدين ومحسن الميلي ( ) ، هذا " النوع من المفكرين الإسلامـويين " !! ( ) الذين يستبطنـون مواقف " أيديولوجية " عن العلمانية ( ) .
ولكي يدعم الفكر العلماني رؤيته في حتمية الظاهرة العلمانية يبحث في الواقع الاجتماعي عما يؤكد ذلك :
لقد قال قاسم أمين قبل مائة سنة : "" وكل ناظر في أحوال هيئتنا الاجتماعية الحاضرة يجد فيها ما يدل على أن النساء عندنا قطعن دور الاستعباد ، ولم يبق بينهن وبين الحرية إلا حجاب رقيق إذ يرى :
- شعوراً جديداً عند المصريين بالحاجة إلى تربية بناتهم بعد أن كن جاهلات .
- انزواء ظاهرة الحجاب وتلاشيها شيئاً فشيئاً .
- تراجع الشبان عن الزواج على الطريقة التقليدية وتأففهم من الفصل بينهم وبين مخطوباتهم .
- اهتمام الحكومة وبعض أبناء البلاد وفي مقدمتهم صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده بإصلاح المحاكم الشرعية "" ( ) .
وعبر طـه حسين عن أثر العلمانية في الحياة المصرية عندما قال : "" حياتنا المادية أوربية خالصة في الطبقات الراقية وهي في الطبقات الأخرى تختلف قرباً وبعداً من الحياة الأوربية باختلاف قدرة الأفراد والجماعات ..."" ( ) .
هكذا وصف دعاة العلمانية الحال في الربع الأول من القرن العشرين فما حالها عند دعاتها اليوم ؟
"" العلمنة تكتسح اليوم تحت غطاء ديني وشعارات دينية كل أرض الإسلام ولا أحد يعلم ذلك "" ( ) والأمارات الدالة على العلمانية في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بينة أكثر من أي وقت مضى مثل تولي المحاكم المدنية لزمام القضاء ، وإزاحة المحاكم الشرعية عن مركز الصدارة وتهميشها ( ) .
وتعلْمَن الزمان باستخدام التقويم الشمسي بدلاً من التقويم القمري المرتبط بالشعائر والطقوس ، وتَعلْمَن المكان بحيث أصبح الاعتبار للوطن والقومية بدلاً من الدين ، وتَعلْمَنت المعرفة عندما استندت إلى الطبيعة والتاريخ بدلاً من الكتب المقدسة كمرجعيات ، وتعلمنت السلطة السياسية عندما اعتَبر الدستور المشاركة الشعبية بدلاً من الاستخلاف في الأرض( ).
حصل هذا لدينا عندما استبدلنا المحاميين والقضاة والأساتذة المدنيين بالشيوخ والفقهاء وقضاة الشرع ، والمكاتب الرشدية بالمدارس الشرعية والكتاتيب ، ثم بالمدارس والجامعات ، وعندما اعتمدنا أسساً لمعارفنا العقلية العلوم الطبيعية والتاريخية والجغرافية بدلاً من الركون إلى المعرفة بالجن والعفاريت والزقوم ويأجوج ومأجوج ، وموقع جبل قاف !! ، والتداوي بالرقي والطلاسم والأسماء الحسنى ( ) .
حصل هذا عندما أقمنا نُظُماً قضائية تتناسب وحياة العصر وسنن الرقي ، بإلغاء أحكام الردة في الدولة العثمانية في عام 1858م وقبول شهادة الذميين في السنة نفسها ، واعتبار المسلم غير العثماني بحكم الأجنبي ، وإلغاء الجزية ، وتجنيد الأقبـاط في الجيش المصـري ابتـداء من عام 1855 م ( ) .
كما يتضح الاكتساح العلماني لمجتمعاتنا فيما نلاحظه من شيوع النماذج الغربية في وسائل الإعلام ، والمبادلات التجارية ، والمواصلات ، والسياحة ، وكل المظاهر المادية ، ويتبع ذلك كثيراً من القيم الجديدة ، وبروز الخلل واضحاً بين الاستمساك بالأنماط التقليدية في شؤون الحياة والعيش ، وبين ما نلاحظه من إقبال على التغرب بكل أشكاله الملازمة لحياتنا ( ) .
ولعل أهم المرتكزات التي تؤكد اجتياح العلمنة لحياتنا هو انقراض المدرسة القرآنية التقليدية التي كانت قائمةً في المساجد ، وظهور نظام التعليم الغربي ( ) ، بدلاً من نظام التعليم العتيق في الكتاتيب والمدارس القرآنية والجوامع ( ) .
كل هذا يؤكد – في المنظور العلماني - أن مسار العلمنة يفعل فعله في المجتمعات الإسلامية كأعمق ما يكون الفعل ، وأن العلمنة ما فتئت تغزو المجتمعات العربية في العمق ، وبصفة ثابتة لا رجعة فيها على المدى الطويل ، المدى الوحيد الذي تعترف به الحضارة ( ) . كما يؤكد "" أن الإسلام قد فقد بعدُ قسماً كبيراً من قيمة تفسيره للكون ، وهو من جهة أخرى في هذا المستوى يعيش نفس المشاكل التي تعيشها سائر الديانات التي أصبح اعتناقها ينزع شيئاً فشيئاً إلى أن يكون اختياراً قلقاً "" ( ) .
نقد وتعقيب :
بغض النظر عن اللهجة العدوانية والاستفزازية التي يتحدث بها عزيز العظمة والتي تفتقر إلى أدنى مقومات المنطق العلمي والمحاكمة العقلية ، فإن ما يشير إليه هو وعبد المجيد الشرفي من مظاهر يؤكدون بها حتمية العلمنة وسيرورتها التي لا مفر منها - كما يزعمون - ليست اختياراً ديمقراطياً للأمة ، ولم تقبله الأمة في أي يـوم من الأيام ، وكانت كل هذه المظاهر التي يتحدثون عنها مرفوضة ، ولا تزال مـرفوضة لدى الغالبية الساحقة من أبناء هذه الأمة .
إن إلغاء المحاكم الشرعية والكتاتيب وإلغاء تطبيق الشريعة الإسلامية ، وإلغاء التقويم الهجري ، وفرْض النظم والقوانين الغربية الوضعية وغير ذلك من المظاهر فُرض على هذه الأمة بالحديد والنار ، وبالقتل والإبادة ، والتعذيب والإرهاب من شرذمة من الحكام المستبدين الذين يمارسون كل ذلك تحت مباركة الاستعمار الغربي وتحالف " العلمانية الفاشية " ( ) .
إن الأمة لو أتيح لها الآن الاختيار - بعد كل سنوات العلمنة - لاختارت إسلامها وشريعتها دون تردد وإن أبرز مثال على ذلك حالة تركيا التي مُورست فيها العلمانية الفاشية بأبشع صورها على يد أتاتورك وأتباعه ولكن ماذا حصدت العلمانية ؟
يجيب على ذلك باحث تركي فيقول : "" ومع كل هذا - جهود العلمانية – فإن أهم سمة تلفت الانتباه في سلوك الأتراك هي أن رسوخ العقيدة الدينية وعمقها لم تتغيرا ، وما زالا يفعلان فعلهما في مجموعات واسعة من الشعب التركي [ بعد عقود طويلة من سياسة العلمنة ] ، ومع ذلك أيضاً لا يزال العلمانيون الأتراك يعتبرون ذلك انتصاراً للظلامية على العلم"" ).
وما يزعمه الشرفي من انقراض الكتاتيب والمدارس القرآنية كعلامة على الاكتساح العلماني قد ينطبق على البيئة التي يعيش فيها هو ، والمحيط الذي ينتمي إليه ، ولكن هذا لا يعني أكثر من أنه هو وأمثاله يعيشون في أبراجٍ عاجية بعيدين عن سواد الأمة ، فالمساجد لا تزال عامرة بالقرآن في كل بقاع العالم الإسلامي ، والمدارس القرآنية في العطلة الصيفية تنشط في كافة الأوساط الإسلامية ( ) .
إن ما أريد أن أقوله هنا : إن العلمانية في البلاد الإسلامية ظاهرة موجودة لا يمكن إنكارها ، ولكنها لم تشكل في الإسلام إلا قشرة رقيقة جداً لا تلبث طويلاً حتى تيبس ثم تتساقط متناثرة ، إنها لم تنفذ ولن تنفذ أبداً إلى جوهر الإسلام وحقيقته ، لأن الإسلام بطبيعته يستعصي على العلمنة ، وقد أثبت خلال القرنين الماضيين أنه ليس كالمسيحية في الرضوخ للعلمنة ، ذلك لأن ثوابته ومرتكزاته لا تقبل العبث مهما جهد العابثون ، والسبب هو أنها قائمة على معجزة خالدة رَسَمت حدود هذه الثوابت والمرتكزات رسماً واضحاً لا لبس فيه فجاءت كمثل المحجة البيضاء ليلها كنهارها ( ) وستظل دائماً شاهدة على زيف المزيفين ، وإرجاف المرجفين .
ولكن مع هذا فإن المشكلات التي نجمت عن مسار العلمنة وإن لم تمس جوهر الإسلام ولكنها أحدثت اضطراباً في أوساط المسلمين ( ) وفرقة في صفوفهم ، وأبرز هذه المخاطر هو استيلاء التقليد والتغرب على عقول ثلة من النخبة المفكرة ، حتى أصبحت هذه العقول في تبعية فكرية وحضارية تهدد مستقبل الأمة الحضاري .
إن شهادة التاريخ تثبت أن المسيحية الأولى كانت ضد العلمنة بصورة أكيدة وصريحة ، وقد استمر ذلك عبر التاريخ حتى دخلت المسيحية في صراع مع العلمنة ، كانت المسيحية هي الخاسرة ، لقد حاولت المسيحية عبر القرون أن تقاوم ولكنها أخفقت ، ومكمن الخطورة أنها عندما أخفقت أخذ منظروها المحدَثون يدعون المسيحيين إلى الانخراط في التيار، وتطوير المسيحية ( ).
""إن جذور العلمنة لا تكمن في عقائد الكتاب المقدس بل في تأويلات الإنسان الغربي لها ، إنها ليست ثمرة الإنجيل ، بل هي ثمرة للتاريخ الطويل للصراع الفلسفي والميتافيزيقي بين رؤيتين كليتين للوجـود يصدر عنهما الإنسان الغربي واحـدة دينية والأخـرى عقلانية خالصة "" ( ) "" وقد انفردت المسيحية وحدها من دون أديان العالم الكبرى جميعاً بأنها قد حولت مركز ظهورها من القـدس إلى روما علامة على بداية تغريبها "" ( )، وكان ذلك مؤشراً على بداية تعلمُنها ( )، وقد ظلت المسيحية تُعدّل في معتقداتها وتتنازل عن ثوابتها ، وتنقح الكتاب المقدس عبر المجامع المختلفة حتى انهارت قداستها وفقدت قيمتها كمرجعية أخلاقية دينية للإنسان الغربي .
أما الإسلام فتاريخ صراعه مع العلمنة عبر قرنين من الزمان يثبت أنها لم تؤثر فيه إلا على الشكل وقد بقي الجوهر والمضمون في غاية النقاء ، وهذا الجوهر يشد الأمة دائماً إليه فتعيد صياغة نفسها شكلاً ومضموناً . ويمكن القول إن الجوهر والمضمون في الإسلام مثله مثل الراية التي تُرفع في المعركة فيظل الجنود ينجذبون إليها ويتراصُّون حولها ، ويعيدون تنظيم أنفسهم لجولة جديدة من النزال .
إن استعصاء الإسلام على العلمنة أمرٌ أدهش باحثي علم الاجتماع فالعالم الإنجليزي " إرنست جيلنر " يقول : "" إن النظرية الاجتماعية التي تقول : إن المجتمع الصناعي والعلمي الحديث يُقوِّض الإيمان الديني - مقولة العلمنة - صالحة على العموم ، لكن عالم الإسلام استثناء مدهش وتام جداً من هذا !! إنه لم تتم أي علمنة في عالم الإسلام ، إن سيطرة الإسلام على المؤمنين به قوية ، وهي أقوى مما كانت من مائة سنة مضت ، إن الإسلام مقاوم للعلمنة في ظل مختلف النظم الراديكالية والتقليدية والتي تقف بين النوعين ... والإصلاح الذاتي استجابة لدواعي الحداثة في عالم الإسلام يمكن أن يتم باسم الإيمان المحلي ، وليس على حساب الإيمان "" ( ) .
ولبيان العوامل التي أسهمت في انخراط المسيحية في تيار العلمنة ، واستعصاء الإسلام على ذلك يمكن ملاحظة ما يلي ( ) :
أولاً : صورة الله عز وجل وعنايته بالكون : إنها في الفكر الأرسطي الذي تبنته المسيحية صورة تساعد على العلمنة فالله مجرد خالق للعالم ، لا علاقة له بتدبيره ورعايته . إن العالم كالساعة ، ووظيفة الله أن يُشغّل هذه الساعة ثم يجلس بلا عمل [ سبحانه وتعالى ] وقد أكد الفلك الكوبرنيقي هذه الصورة ، وأضاف إلى ذلك أن أزاح الإنسان عن المركز . وقد أفضنا في ذلك في الفصل الأول .
ثانياً : المقاصد الدنيوية اللاأخلاقية للقانون الروماني القائم على المنفعة المحضة دون نظر لأي اعتبارات دينية أو ماورائية . إن هذا القانون السائد في دولة ديانتها المسيحية أسهم في إخضاعها للتيار عندما أصبح جارفاً .
ثالثاً : الفصل في المسيحية بين ما لقيصر وما لله أعطى المبرر للعلمنة السياسية أولاً، ثم القانونية ، ثم الأخلاقية .
رابعاً : عقيدة الصلب التي جعلت موت الإله ممكناً في الفكر المسيحي ، فما دام الابن قد مات وهو إله ، فلماذا لا يموت الأب أيضاً . ولمْ ينتظر الغرب طويلاً فقد أعلن نيتشه عن موته . سبحانه وتعالى .
خامساً : الثنائية الحادة والمتناقضة في تاريخ العلاقة بين لاهوتيين لا عقول لهم يمثلون الكنيسة ، وعلماء طبيعيين لا أرواح ولا قلوب لهم يمثلون الدنيوية والمادية . ولا ننسى هنا الانفصام الشديد بين أخلاق الزهد والضعف والاستكانة التي تكرسها المسيحية ، وبين الواقع الذي كان يعيشه الرهبان والبابوات من بذخ وفساد وترف ، مما أفقد المسيحية الواقعية القابلة لإمكانية التطبيق .
إذا ما قورنت هذه العوامل بما يقابلها في الإسلام وجدنا :
أولاً : الله عز وجل – في الإسلام - ليس خالقاً عاطلاً عن العمل إنه - سبحانه وتعالى - خالق ومدبر أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ) بل إنه قيوم السماوات والأرض ، أي إن استمرار قيام الكون بإرادته عز وجل إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( ) وهو ما كرسه الأشاعرة في نظرية الخلق المستمر . إن الله عز وجل إذا قطع إمداده للكون بالوجود تلاشى بما فيه .
ثانياً : علاقة الدين بالدنيا قائمة على الوصل وليس الفصل ، فالدنيا خادمة للدين ، وهي مزرعة الآخرة ، وهي دار العبور ، ولا بد من التزود منها وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( ) ولكن الآخرة هي المراد والمقصد وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ... ( ) .
ثالثاً : الأخلاق في الإسلام واقعية لا تُحلِّق في المثالية ، ومن شاء أن يسمو إلى المثالية فهو وذاك . إن المراد في الإسلام هو العدل ، أما الإحسان فهو لمن أراد أن يتجاوز الحدود البشرية ويقترب من الملائكية ، فالإسلام لا يمنعه بل يبارك له جهاده وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ( ) ، ولن يضيع الله عز وجل عمله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( ) وسيكافئه على ذلك فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ( ) ولكن النزول عن مرتبة العدل إلى الظلم هو المرفوض .
رابعاً : ليس هناك مقابلة بين العقل والنقل في الإسلام ، إن ما يقابل العقل هو الجنون ، إننا نقرأ النقل بالعقل ونفهمه به ، والنقل هو القائد والهادي والمرشد .
خامساً : الوضوح : فالعقائد في الإسلام واضحة لا لبس فيها ولا غموض ولا رموز ولا أسرار ولا تعقيدات ، أما في المسيحية فالعقائد غير مفهومة مبنية على الغموض والرموز ولذلك يقولون لك " آمن ثم أفهم " أما في الإسلام " إفهم ثم آمن " وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسئُولًأ ( ) والله أعلم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين
د. أحمد إدريس الطعان - كلية الشريعة - جامعة دمشق
هل العلمانية حتمية ؟
العلمانية عند ثلة من المفكرين ليست خياراً إيديولوجياً بقدر ما هي واقع تاريخي موضوعي في آن ( ) ، وهذا يعني أنها ظاهرة حتمية لا مرد لها ( ) ، أو ظاهرة طبيعية كالزلزال والبراكين ، وهي واقعة لا محالة ، لأن الغرب هو السائق والقطار تحرك ( )، ولذلك ينصحنا دعاتهـا أن نكف عن المقـاومـة والمواجهـة لأن هـذا لن ينفعنـا ولن يجدينا شيئاً فالتيـار جارف ( ) .
ولكن السؤال : لماذا هذه الوثوقية المطلقة في تأكيد حتمية العلمانية ، ولماذا هذه المصادرة على التاريخ والمستقبل ؟
الإجابة : من منظور علماني تتمثل في كون الدراسات الأوربية والأمريكية المتطورة اعتبرت العلمانية واقعاً مُسلَّماً به ولا يختلف في ذلك اثنان ، واعتبرت العلمانية أمراً محسوماً أو يكاد ( ).!! وما دامت – أمريكا – قالت فقد صدقت !!!.
أما نحن فلا نزال نسمع نداءات تعتبر العلمانية أمراً مدسوساً ( ) ، ولا يزال الحديث عن العلمانية في واقعنا العربي يجلب التهم بالوقوع تحت هيمنة الغزو الغربي ، ويغلب على الكتابات الإسلامية المنطق العدائي ، والأفكار المتشنجة ، ومعالجـات يغلب عليها الخطاب الاحتفـالي ويلاحظ ذلك فيما يكتبه أنور الجندي ، وعماد الدين خليل ، ومحمد مهدي شمس الدين ومحسن الميلي ( ) ، هذا " النوع من المفكرين الإسلامـويين " !! ( ) الذين يستبطنـون مواقف " أيديولوجية " عن العلمانية ( ) .
ولكي يدعم الفكر العلماني رؤيته في حتمية الظاهرة العلمانية يبحث في الواقع الاجتماعي عما يؤكد ذلك :
لقد قال قاسم أمين قبل مائة سنة : "" وكل ناظر في أحوال هيئتنا الاجتماعية الحاضرة يجد فيها ما يدل على أن النساء عندنا قطعن دور الاستعباد ، ولم يبق بينهن وبين الحرية إلا حجاب رقيق إذ يرى :
- شعوراً جديداً عند المصريين بالحاجة إلى تربية بناتهم بعد أن كن جاهلات .
- انزواء ظاهرة الحجاب وتلاشيها شيئاً فشيئاً .
- تراجع الشبان عن الزواج على الطريقة التقليدية وتأففهم من الفصل بينهم وبين مخطوباتهم .
- اهتمام الحكومة وبعض أبناء البلاد وفي مقدمتهم صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده بإصلاح المحاكم الشرعية "" ( ) .
وعبر طـه حسين عن أثر العلمانية في الحياة المصرية عندما قال : "" حياتنا المادية أوربية خالصة في الطبقات الراقية وهي في الطبقات الأخرى تختلف قرباً وبعداً من الحياة الأوربية باختلاف قدرة الأفراد والجماعات ..."" ( ) .
هكذا وصف دعاة العلمانية الحال في الربع الأول من القرن العشرين فما حالها عند دعاتها اليوم ؟
"" العلمنة تكتسح اليوم تحت غطاء ديني وشعارات دينية كل أرض الإسلام ولا أحد يعلم ذلك "" ( ) والأمارات الدالة على العلمانية في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بينة أكثر من أي وقت مضى مثل تولي المحاكم المدنية لزمام القضاء ، وإزاحة المحاكم الشرعية عن مركز الصدارة وتهميشها ( ) .
وتعلْمَن الزمان باستخدام التقويم الشمسي بدلاً من التقويم القمري المرتبط بالشعائر والطقوس ، وتَعلْمَن المكان بحيث أصبح الاعتبار للوطن والقومية بدلاً من الدين ، وتَعلْمَنت المعرفة عندما استندت إلى الطبيعة والتاريخ بدلاً من الكتب المقدسة كمرجعيات ، وتعلمنت السلطة السياسية عندما اعتَبر الدستور المشاركة الشعبية بدلاً من الاستخلاف في الأرض( ).
حصل هذا لدينا عندما استبدلنا المحاميين والقضاة والأساتذة المدنيين بالشيوخ والفقهاء وقضاة الشرع ، والمكاتب الرشدية بالمدارس الشرعية والكتاتيب ، ثم بالمدارس والجامعات ، وعندما اعتمدنا أسساً لمعارفنا العقلية العلوم الطبيعية والتاريخية والجغرافية بدلاً من الركون إلى المعرفة بالجن والعفاريت والزقوم ويأجوج ومأجوج ، وموقع جبل قاف !! ، والتداوي بالرقي والطلاسم والأسماء الحسنى ( ) .
حصل هذا عندما أقمنا نُظُماً قضائية تتناسب وحياة العصر وسنن الرقي ، بإلغاء أحكام الردة في الدولة العثمانية في عام 1858م وقبول شهادة الذميين في السنة نفسها ، واعتبار المسلم غير العثماني بحكم الأجنبي ، وإلغاء الجزية ، وتجنيد الأقبـاط في الجيش المصـري ابتـداء من عام 1855 م ( ) .
كما يتضح الاكتساح العلماني لمجتمعاتنا فيما نلاحظه من شيوع النماذج الغربية في وسائل الإعلام ، والمبادلات التجارية ، والمواصلات ، والسياحة ، وكل المظاهر المادية ، ويتبع ذلك كثيراً من القيم الجديدة ، وبروز الخلل واضحاً بين الاستمساك بالأنماط التقليدية في شؤون الحياة والعيش ، وبين ما نلاحظه من إقبال على التغرب بكل أشكاله الملازمة لحياتنا ( ) .
ولعل أهم المرتكزات التي تؤكد اجتياح العلمنة لحياتنا هو انقراض المدرسة القرآنية التقليدية التي كانت قائمةً في المساجد ، وظهور نظام التعليم الغربي ( ) ، بدلاً من نظام التعليم العتيق في الكتاتيب والمدارس القرآنية والجوامع ( ) .
كل هذا يؤكد – في المنظور العلماني - أن مسار العلمنة يفعل فعله في المجتمعات الإسلامية كأعمق ما يكون الفعل ، وأن العلمنة ما فتئت تغزو المجتمعات العربية في العمق ، وبصفة ثابتة لا رجعة فيها على المدى الطويل ، المدى الوحيد الذي تعترف به الحضارة ( ) . كما يؤكد "" أن الإسلام قد فقد بعدُ قسماً كبيراً من قيمة تفسيره للكون ، وهو من جهة أخرى في هذا المستوى يعيش نفس المشاكل التي تعيشها سائر الديانات التي أصبح اعتناقها ينزع شيئاً فشيئاً إلى أن يكون اختياراً قلقاً "" ( ) .
نقد وتعقيب :
بغض النظر عن اللهجة العدوانية والاستفزازية التي يتحدث بها عزيز العظمة والتي تفتقر إلى أدنى مقومات المنطق العلمي والمحاكمة العقلية ، فإن ما يشير إليه هو وعبد المجيد الشرفي من مظاهر يؤكدون بها حتمية العلمنة وسيرورتها التي لا مفر منها - كما يزعمون - ليست اختياراً ديمقراطياً للأمة ، ولم تقبله الأمة في أي يـوم من الأيام ، وكانت كل هذه المظاهر التي يتحدثون عنها مرفوضة ، ولا تزال مـرفوضة لدى الغالبية الساحقة من أبناء هذه الأمة .
إن إلغاء المحاكم الشرعية والكتاتيب وإلغاء تطبيق الشريعة الإسلامية ، وإلغاء التقويم الهجري ، وفرْض النظم والقوانين الغربية الوضعية وغير ذلك من المظاهر فُرض على هذه الأمة بالحديد والنار ، وبالقتل والإبادة ، والتعذيب والإرهاب من شرذمة من الحكام المستبدين الذين يمارسون كل ذلك تحت مباركة الاستعمار الغربي وتحالف " العلمانية الفاشية " ( ) .
إن الأمة لو أتيح لها الآن الاختيار - بعد كل سنوات العلمنة - لاختارت إسلامها وشريعتها دون تردد وإن أبرز مثال على ذلك حالة تركيا التي مُورست فيها العلمانية الفاشية بأبشع صورها على يد أتاتورك وأتباعه ولكن ماذا حصدت العلمانية ؟
يجيب على ذلك باحث تركي فيقول : "" ومع كل هذا - جهود العلمانية – فإن أهم سمة تلفت الانتباه في سلوك الأتراك هي أن رسوخ العقيدة الدينية وعمقها لم تتغيرا ، وما زالا يفعلان فعلهما في مجموعات واسعة من الشعب التركي [ بعد عقود طويلة من سياسة العلمنة ] ، ومع ذلك أيضاً لا يزال العلمانيون الأتراك يعتبرون ذلك انتصاراً للظلامية على العلم"" ).
وما يزعمه الشرفي من انقراض الكتاتيب والمدارس القرآنية كعلامة على الاكتساح العلماني قد ينطبق على البيئة التي يعيش فيها هو ، والمحيط الذي ينتمي إليه ، ولكن هذا لا يعني أكثر من أنه هو وأمثاله يعيشون في أبراجٍ عاجية بعيدين عن سواد الأمة ، فالمساجد لا تزال عامرة بالقرآن في كل بقاع العالم الإسلامي ، والمدارس القرآنية في العطلة الصيفية تنشط في كافة الأوساط الإسلامية ( ) .
إن ما أريد أن أقوله هنا : إن العلمانية في البلاد الإسلامية ظاهرة موجودة لا يمكن إنكارها ، ولكنها لم تشكل في الإسلام إلا قشرة رقيقة جداً لا تلبث طويلاً حتى تيبس ثم تتساقط متناثرة ، إنها لم تنفذ ولن تنفذ أبداً إلى جوهر الإسلام وحقيقته ، لأن الإسلام بطبيعته يستعصي على العلمنة ، وقد أثبت خلال القرنين الماضيين أنه ليس كالمسيحية في الرضوخ للعلمنة ، ذلك لأن ثوابته ومرتكزاته لا تقبل العبث مهما جهد العابثون ، والسبب هو أنها قائمة على معجزة خالدة رَسَمت حدود هذه الثوابت والمرتكزات رسماً واضحاً لا لبس فيه فجاءت كمثل المحجة البيضاء ليلها كنهارها ( ) وستظل دائماً شاهدة على زيف المزيفين ، وإرجاف المرجفين .
ولكن مع هذا فإن المشكلات التي نجمت عن مسار العلمنة وإن لم تمس جوهر الإسلام ولكنها أحدثت اضطراباً في أوساط المسلمين ( ) وفرقة في صفوفهم ، وأبرز هذه المخاطر هو استيلاء التقليد والتغرب على عقول ثلة من النخبة المفكرة ، حتى أصبحت هذه العقول في تبعية فكرية وحضارية تهدد مستقبل الأمة الحضاري .
إن شهادة التاريخ تثبت أن المسيحية الأولى كانت ضد العلمنة بصورة أكيدة وصريحة ، وقد استمر ذلك عبر التاريخ حتى دخلت المسيحية في صراع مع العلمنة ، كانت المسيحية هي الخاسرة ، لقد حاولت المسيحية عبر القرون أن تقاوم ولكنها أخفقت ، ومكمن الخطورة أنها عندما أخفقت أخذ منظروها المحدَثون يدعون المسيحيين إلى الانخراط في التيار، وتطوير المسيحية ( ).
""إن جذور العلمنة لا تكمن في عقائد الكتاب المقدس بل في تأويلات الإنسان الغربي لها ، إنها ليست ثمرة الإنجيل ، بل هي ثمرة للتاريخ الطويل للصراع الفلسفي والميتافيزيقي بين رؤيتين كليتين للوجـود يصدر عنهما الإنسان الغربي واحـدة دينية والأخـرى عقلانية خالصة "" ( ) "" وقد انفردت المسيحية وحدها من دون أديان العالم الكبرى جميعاً بأنها قد حولت مركز ظهورها من القـدس إلى روما علامة على بداية تغريبها "" ( )، وكان ذلك مؤشراً على بداية تعلمُنها ( )، وقد ظلت المسيحية تُعدّل في معتقداتها وتتنازل عن ثوابتها ، وتنقح الكتاب المقدس عبر المجامع المختلفة حتى انهارت قداستها وفقدت قيمتها كمرجعية أخلاقية دينية للإنسان الغربي .
أما الإسلام فتاريخ صراعه مع العلمنة عبر قرنين من الزمان يثبت أنها لم تؤثر فيه إلا على الشكل وقد بقي الجوهر والمضمون في غاية النقاء ، وهذا الجوهر يشد الأمة دائماً إليه فتعيد صياغة نفسها شكلاً ومضموناً . ويمكن القول إن الجوهر والمضمون في الإسلام مثله مثل الراية التي تُرفع في المعركة فيظل الجنود ينجذبون إليها ويتراصُّون حولها ، ويعيدون تنظيم أنفسهم لجولة جديدة من النزال .
إن استعصاء الإسلام على العلمنة أمرٌ أدهش باحثي علم الاجتماع فالعالم الإنجليزي " إرنست جيلنر " يقول : "" إن النظرية الاجتماعية التي تقول : إن المجتمع الصناعي والعلمي الحديث يُقوِّض الإيمان الديني - مقولة العلمنة - صالحة على العموم ، لكن عالم الإسلام استثناء مدهش وتام جداً من هذا !! إنه لم تتم أي علمنة في عالم الإسلام ، إن سيطرة الإسلام على المؤمنين به قوية ، وهي أقوى مما كانت من مائة سنة مضت ، إن الإسلام مقاوم للعلمنة في ظل مختلف النظم الراديكالية والتقليدية والتي تقف بين النوعين ... والإصلاح الذاتي استجابة لدواعي الحداثة في عالم الإسلام يمكن أن يتم باسم الإيمان المحلي ، وليس على حساب الإيمان "" ( ) .
ولبيان العوامل التي أسهمت في انخراط المسيحية في تيار العلمنة ، واستعصاء الإسلام على ذلك يمكن ملاحظة ما يلي ( ) :
أولاً : صورة الله عز وجل وعنايته بالكون : إنها في الفكر الأرسطي الذي تبنته المسيحية صورة تساعد على العلمنة فالله مجرد خالق للعالم ، لا علاقة له بتدبيره ورعايته . إن العالم كالساعة ، ووظيفة الله أن يُشغّل هذه الساعة ثم يجلس بلا عمل [ سبحانه وتعالى ] وقد أكد الفلك الكوبرنيقي هذه الصورة ، وأضاف إلى ذلك أن أزاح الإنسان عن المركز . وقد أفضنا في ذلك في الفصل الأول .
ثانياً : المقاصد الدنيوية اللاأخلاقية للقانون الروماني القائم على المنفعة المحضة دون نظر لأي اعتبارات دينية أو ماورائية . إن هذا القانون السائد في دولة ديانتها المسيحية أسهم في إخضاعها للتيار عندما أصبح جارفاً .
ثالثاً : الفصل في المسيحية بين ما لقيصر وما لله أعطى المبرر للعلمنة السياسية أولاً، ثم القانونية ، ثم الأخلاقية .
رابعاً : عقيدة الصلب التي جعلت موت الإله ممكناً في الفكر المسيحي ، فما دام الابن قد مات وهو إله ، فلماذا لا يموت الأب أيضاً . ولمْ ينتظر الغرب طويلاً فقد أعلن نيتشه عن موته . سبحانه وتعالى .
خامساً : الثنائية الحادة والمتناقضة في تاريخ العلاقة بين لاهوتيين لا عقول لهم يمثلون الكنيسة ، وعلماء طبيعيين لا أرواح ولا قلوب لهم يمثلون الدنيوية والمادية . ولا ننسى هنا الانفصام الشديد بين أخلاق الزهد والضعف والاستكانة التي تكرسها المسيحية ، وبين الواقع الذي كان يعيشه الرهبان والبابوات من بذخ وفساد وترف ، مما أفقد المسيحية الواقعية القابلة لإمكانية التطبيق .
إذا ما قورنت هذه العوامل بما يقابلها في الإسلام وجدنا :
أولاً : الله عز وجل – في الإسلام - ليس خالقاً عاطلاً عن العمل إنه - سبحانه وتعالى - خالق ومدبر أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ) بل إنه قيوم السماوات والأرض ، أي إن استمرار قيام الكون بإرادته عز وجل إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( ) وهو ما كرسه الأشاعرة في نظرية الخلق المستمر . إن الله عز وجل إذا قطع إمداده للكون بالوجود تلاشى بما فيه .
ثانياً : علاقة الدين بالدنيا قائمة على الوصل وليس الفصل ، فالدنيا خادمة للدين ، وهي مزرعة الآخرة ، وهي دار العبور ، ولا بد من التزود منها وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( ) ولكن الآخرة هي المراد والمقصد وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ... ( ) .
ثالثاً : الأخلاق في الإسلام واقعية لا تُحلِّق في المثالية ، ومن شاء أن يسمو إلى المثالية فهو وذاك . إن المراد في الإسلام هو العدل ، أما الإحسان فهو لمن أراد أن يتجاوز الحدود البشرية ويقترب من الملائكية ، فالإسلام لا يمنعه بل يبارك له جهاده وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ( ) ، ولن يضيع الله عز وجل عمله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( ) وسيكافئه على ذلك فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ( ) ولكن النزول عن مرتبة العدل إلى الظلم هو المرفوض .
رابعاً : ليس هناك مقابلة بين العقل والنقل في الإسلام ، إن ما يقابل العقل هو الجنون ، إننا نقرأ النقل بالعقل ونفهمه به ، والنقل هو القائد والهادي والمرشد .
خامساً : الوضوح : فالعقائد في الإسلام واضحة لا لبس فيها ولا غموض ولا رموز ولا أسرار ولا تعقيدات ، أما في المسيحية فالعقائد غير مفهومة مبنية على الغموض والرموز ولذلك يقولون لك " آمن ثم أفهم " أما في الإسلام " إفهم ثم آمن " وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسئُولًأ ( ) والله أعلم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين
د. أحمد إدريس الطعان - كلية الشريعة - جامعة دمشق