المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : النسبي والمطلق‏



الجندى
12-19-2005, 03:51 PM
النسبي والمطلق‏(1‏ـ ‏5)‏
بقلم‏:‏ د‏.‏ علي جمعـة
مفتي جمهورية مصر العربية
نقلا عن جريدة الأهرام بتاريخ ‏17 ذى القعدة 1426 هـ


المتأمل في الفكر الإسلامي يجد أن المسلمين قد آمنوا بالمطلق‏,‏ واعترفوا بالنسبي‏,‏ وإيمانهم بالمطلق تمثل في إيمانهم بالله فالله سبحانه وتعالي كان قبل الزمان والمكان والأشخاص والأحوال وهي الجهات الأربع التي تحكم الواقع المعيش‏,‏ والتي ينسب إليها‏,‏ ولذلك نسمي هذا المتغير بالنسبي‏,‏ نسبي في الزمان أو نسبي في المكان أو نسبي في الأشخاص أو نسبي في الأحوال‏,‏ والله سبحانه وتعالي هو المطلق الفرد الذي لايحده شيء من ذلك كله‏.‏

وآمنوا بإطلاقية القيم‏,‏ فالعدل عدل في كل ذلك ـ أعني هذه الأربع ـ والرحمة رحمة والظلم ظلم‏,‏ والقسوة قسوة‏,‏ ولذلك نري في القرآن الكريم قوله تعالي‏:(‏ ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولايجرمنكم شنآن قوم علي الا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوي واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون‏)[‏ المائدة‏:8]‏

ويقول ربنا سبحانه وتعالي‏:(‏ وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لانكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربي وبعهد الله اوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون‏)[‏ الأنعام‏:152]‏ فالإيمان بالمطلق بهذا المعني أحد أركان الإسلام‏,‏ والمكون الأساسي للعقل المسلم‏,‏ فهو من النموذج المعرفي الذي يواجه به المسلم الواقع ويفسره به‏,‏ ويقومه من خلاله‏.‏
وقد نستطيع ان نعرف العلمانية‏,‏ بأنها تؤمن بالنسبية المطلقة‏,‏ وأن الإيمان بالنسبية المطلقة هو الذي يمثل ما اسماه الدكتور عبدالوهاب المسيري بالعلمانية الشاملة‏)‏ وحينئذ فلا بأس عند ذلك المعتقد ان ينكر الله‏,‏ ولا بأس عنده ان ينحيه من التلقي منه سبحانه وتعالي‏,‏ أو من تهميشه من الحياة‏,‏ وتحويل مسألة الإيمان بالله الي مسألة شخصية جانبية تمثل إيمانا خاصا‏,‏ ولاتمثل قضية للوجود‏.‏

وهذه النسبية المطلقة تؤثر كثيرا في التفسيرات اللغوية‏,‏ وتجعل الكون لا حقيقة له في نفسه‏,‏ بل انه كما يراه الراصد‏,‏ وكما يراه كل إنسان علي حدة‏,‏ فليس للأشياء حقيقة ثابتة‏,‏ وهو ماينقلنا الي مذهب السوفسطائية القدماء والي مذهب الغموصية الحلولية والتي يتصور الإنسان فيها الله جل جلاله داخل الكون‏,‏ وليس مفارقا له‏.‏

وهو التيار الذي شاع في أواسط حركة مع بعد الحداثة‏,‏ وكاد يتحكم في التيار العام للفكر الغربي في العصر الحديث‏.‏ وعليه يمكن لنا أن نطبق هذا المدخل علي تفصيلات تزيده وضوحا في كيفية التعامل بواسطته مع النصوص الشرعية ومع الواقع المعيش‏.‏

‏1‏ـ إن هناك فارقا بين معني إطلاقية القرآن‏,‏ وبين تفسيره بصورة واقعية وبين تفسيره من خلال منظومة النسبية المطلقة‏,‏ فإطلاقية القرآن عرفها تاريخ الفكر الإسلامي في صورة القول بأنه غير مخلوق‏,‏ وكلنا يتذكر محنة الإمام أحمد بن حنبل إمام اهل السنة والجماعة‏,‏ وأحد الأئمة الأربعة المتبوعين الي يومنا هذا‏,‏ حيث وقف وقفة صلبة في قضية الدعوة لخلق القرآن والتي تؤدي مباشرة الي انه محصور في زمانه‏,‏ او مكانه‏,‏ او للأشخاص الذين خاطبهم‏,‏ او في الحال الذي نزل فيه‏,‏ وهو الامر الذي رفضه جماهير المسلمين‏,‏ لأنهم يعلمون لازم ذلك المذهب وهو مايسميه بعضهم في العصر الحاضر بتاريخنية القرآن‏,‏ بمعني انه نزل لعصر بعينه‏,‏ وان العصر قد انقضي بظروفه وأشخاصه ومصالحه‏,‏ وانه لم يبق لنا من القرآن إلا مايمكن ان نؤمن به‏,‏ او نستعمله في عصرنا الحاضر‏,‏ ويتم بذلك تنحية القرآن عن واقع الناس‏,‏ وتنحيته عن كونه كتاب هداية‏,‏ وتنحية الإسلام عن عالميته‏,‏ وعن مفهوم النسق المفتوح الذي جاء به‏,‏ ولم يفرق فيه بين عربي واعجمي‏,‏ ولا بين ابيض واسود‏,‏ ولابين رجل وامرأة‏,‏ كما انه يفتح القول بالنسبية المطلقة التي نراها قد أدت الي نفي حقائق الأشياء‏

‏2‏ـ أما التفسير الواقعي‏,‏ فهو يؤمن بإطلاقية القرآن‏,‏ وانه متجاوز للجهات الأربع المذكورة‏,‏ وانه غير مخلوق‏,‏ بل هو كلام الله الذي مازال سبحانه وتعالي يتكلم‏,‏ وكأن القرآن قد نزل الآن‏,‏ وكأنه دائما يخاطب قارئه‏,‏ وهو دائما كتاب هداية لايختلف عن الواقع المعيش‏,‏ لكنه يقيده بأخلاق مطلقة‏,‏ وبقيم ثابته‏,‏ وفيه من الأنظمة ماجعله الله سبحانه وتعالي ثابتا كنظام الشهادات‏,‏ وفيه من الإجمال ما جعله الله صالحا لكل زمان ومكان‏,‏ وبذلك نراه حمال أوجه‏,‏ كما وصفه سيدنا علي بن ابي طالب‏(‏ رضي الله عنه وأرضاه‏)‏ عندما قال لعبد الله بن عباس رضي الله عنه وهو يفاوض الخوارج‏0(‏لا تخاصمهم بالقرآن‏,‏ فإن القرآن حمال ذو وجوه‏,‏ تقول ويقولون‏)[‏ نهج البلاغة‏,‏ شرح الإمام محمد عبده‏,‏ وصية رقم‏315].‏

وكما وصفه رسول الله صلي الله عليه وسلم فيما يرويه علي بن ابي طالب أنه قال‏:(‏ إنها ستكون فتنة‏,‏ قال قلت فما المخرج؟ قال‏:‏ كتاب الله فيه نبأ من قبلكم‏,‏ وخبر ما بعدكم‏,‏ وحكم مابينكم‏,‏ هو الفصل ليس بالهزل‏,‏ من تركه من جبار قصمه الله‏,‏ من ابتغي الهدي‏(‏ او قال العلم‏)‏ من غيره اضله‏,‏ هو حبل الله المتين‏,‏ وهو الذكر الحكيم‏,‏ وهو الصراط المستقيم‏,‏ وهو الذي لاتزيغ به الأهواء‏,‏ ولاتلتبس به الألسنة‏,‏ ولايشبع منه العلماء‏,‏ ولا يخلق عن كثرة الرد ولاتنقضي عجائبه‏,‏ هو الذي تناهي الجن إذ سمعته حتي قالوا‏:(‏ إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلي الرشد‏)‏ من قال به صدق‏,‏ ومن عمل به أجر‏,‏ ومن حكم به عدل‏,‏ ومن دعي اليه هدي الي صرط مستقيم‏)[‏ رواه البيهقي في الشعب‏]‏

ونحن نري في القرآن دساتير كثيرة تنظم الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بوضع المبادئ والأسس لهذه المناحي من مناحي الحياة‏,‏ ولكنها لاتدخل في التفاصيل الجزئية لمرونتها وهي التي في هذا المقام يمكن ان نسميها‏(‏ بنسبية جزئية‏)‏ أي أنها ليست نسبية مطلقة تصل الي حد اختلاف التضاد‏,‏ بل هي نسبية جزئية‏,‏ تشتمل علي اختلاف التنوع الذي نقدر معه علي تحصيل تلك المرونة‏.‏

كل هذا كان مقدمة لابد منها لمناقشة هذه القضية‏,‏ التي نرجو ان نتوصل فيها الي أسس تميز بين الغث والسمين‏,‏ في قضية تفسير القرآن في العصر الحديث‏.‏

الفرصة الأخيرة
12-20-2005, 02:11 AM
جزاك الله خيرًا أخي الجندي على هذا المقال الجميل حقًا.