المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فشتان ما بين القولين!!!



فيصل...
12-22-2005, 06:15 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ومن والاه وبعد،

لكل بدعة منشأ وهذا المنشأ لا محالة يرجع بالدرجة الأولى إلى الإعراض عن الكتاب والسنة -دواء القلوب - والتماس الهدى واليقين في غير ذلك مما وضعه البشر من عند أنفسهم من غير سلطان أتاهم.

من ذلك بلية أهل الكلام وافتتانهم بآراء ومذاهب أهل الفلسفة والتمنطق وتحريفهم لدلالات نصوص الكتاب والسنة بحجة تعارضها مع العقل.

ولا شك أن الإسلام قد أعطى للعقل اعتباره اللائق بل إنه الدين الوحيد الذي يحتل فيه العقل منزلة رفيعة، ولذلك تجد ثناء الله في كتابه الكريم على أهل العقول الراجحة والكاملة، وتجد كذلك حث العقل وتحفيزه على التفكر في هذا الكون العظيم لأخذ العبر والعظات ولفهم نواميس هذا الكون ودقتها المتناهية:

قال تعالى: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ))

وقال سبحانه: ((قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ))

وقال عز من قائل: ((أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ))

وقال : ((وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ))وغيرها كثير

و"العقل الصريح لا يخالف الشرع الثابت الصحيح" من أعظم القواعد التي قامت عليها العقيدة الإسلامية المستمدة من كتاب الله الكريم وسنة نبيه وخالفت بذلك وامتازت على سائر الديانات المحرفة والآراء والمذاهب البشرية، ولذلك منعت بعض المراجع الدينية –وخاصة النصرانية- أتباع ديانتهم من البحث العلمي والمناظرة لأتباع الديانات الأخرى، وذلك لقناعتهم بتناقض عقائدهم –كالتثليث- مع صريح العقل ومع ما جاء به الأنبياء والمرسلون قاطبة.

((ولهذا ينهون جمهورهم عن البحث والمناظرة في ذلك، لعلمهم بان العقل الصريح متى تصور دينهم علم انه باطل)) الجواب الصحيح 3/189.

أما العقيدة الإسلامية الصحيحة فلم يرد فيها ما يحجر على العقل أو يعطل وظيفته التي خلق من أجلها، بل ورد فيها ما يصون هذا العقل عن أن يضل أو يزل، ولذلك فإن كل ما يعوز الاستدلال عليه من جهة العقل، قد جاء في الكتاب والسنة مبيناً بيانا ً واضحاً مفعماً خالصاً نقياً من شوائب التفلسف، وما كان من قبيل ما يعجز العقل عن إدراك تفاصيله فقد قربت معاني كلياته وأرست ضوابط امكانه وقواعده وهذا الأخير اعني ما يعجز العقل عن إدراك تفاصيله لا يخالف بحال ضرورات العقل السليم.

((واعلم أن عامة مسائل أصول الدين الكبار مثل الإقرار بوجود الخالق وبوحدانيته وعلمه وقدرته ومشيئته وعظمته والإقرار بالثواب وبرسالة محمد وغير ذلك مما يعلم بالعقل قد دل الشارع على أدلته العقلية وهذه الأصول التى يسميها أهل الكلام العقليات وهى ما تعلم بالعقل فانها تعلم بالشرع ...وما دل الشارع عليه ينتظم جميع ما يحتاج الى علمه بالعقل وجميع الأدلة والبراهين وأصول الدين ومسائل العقائد بل قد تدبرت عامة ما يذكره المتفلسفة والمتكلمة والدلائل العقلية فوجدت دلائل الكتاب والسنة تأتى بخلاصته الصافيه عن الكدر وتأتى بأشياء لم يهتدوا لها ، وتحذف ما وقع منهم من الشبهات والأباطيل مع كثرتها واظطرابها)) مجموع الفتاوى 19/230-233

والله قد ((جعل للعقول في إدراكها حداً تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلاً إلى إدراك كل مطلوب. ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري عز وجل في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون...فمعلومات الله لا تتناهى ومعلومات العبد متناهية والمتناهي لا يساوي ما لا يتناهى))الاعتصام 2/318

ولعدم إدراك أهل الكلام هذه الحقيقة وهي محدودية إدراك العقل البشري وقع الضلال والحيرة والاضطراب عند الفلاسفة ومن تبعهم من أهل الكلام لأنهم راموا إدراك ما لا سبيل إلى إدراكه إلا بوحي ممن يعلم كل شيء سبحانه. وقد رفعوا العقل إلى درجة الإحاطة بكل شيء والحكم على كل شيء حتى وصل بهم الحال إلى إنكار مالم تدركه عقولهم من مسائل الدين وهم يرتكزون على أن ان الوجود كله –المنظور وغير المنظور، الحسي وغير الحسي والمادي وما وراء المادة- يدرك العقل ذواته وأحواله وكيفياته بأسبابها وعللها بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية!!

وهذا الكلام باطل لا شك في ذلك فالشيء الواحد من ذوات هذا الوجود واحواله وصفاته يكون علم الإنسان به عادة قاصراً وناقصاً فكيف بكل الوجود ذواته واحواله وصفاته فضلاً عن تعليلها على الوجه الصحيح-المصدر السابق 2/318-

ومن أبرز الأمثلة التي قد تذكر هنا مسالة الروح التي في أجساد الأحياء فرغم أنها موجودة ((تصعد وتنزل وتذهب وتجيء..فالعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها، لأنهم لم يشاهدوا نظيراً))التدمرية ص56، فكيف بالإدعاء بأن الذوات في الوجود كله وأحوالها وصفاتها وحقائقها مدركة بالعقل !!

قل تعالى : ((َيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً))

فالعقل أمام الوحي شاهد ومصدق لما هو من مدركاته ولا يمكن أن يقع التعارض بينهما وهو أيضاً منقاداً ومسلماً لما لا يدركه مما صح به الوحي والخوض في هذا المضمار بغير هداية الوحي ضرب من الخطل في القول والعمل والضلال في الاعتقاد نسأل الله العافية وحسن الختام.

وقد تجرأ المتكلمين على الخوض فيما لا قبل لهم وعلى سبيل المثال-العجيب!!- فقد ذهب النظام المعتزلي إلى أن الله ((خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن: معادن ونباتاً وحيواناً، وإنساناً، ولم يتقدم خلق آدم خلق أولاده!! ، غير أن الله أكمن بعضها في بعض، فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها من مكامنها، دون حدوثها ووجودها))الملل1/58

وهذا المثال غيض من فيض وغرفة من بحر في خوض هؤلاء وتخبطاتهم فيما لا قبل لهم به.

وخذ هذه الخلاصة المركزة المختصرة من كلام أبي الحسن الأشعري رحمه الله: ((وإذا ثبت بالآيات صدقه، فقد علم صحة كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وصارت أخباره عليه السلام أدلة على سائر ما دعانا إليه من الأمور الغائبة عن حواسنا وصفات فعله، وصار خبره عليه السلام عن ذلك سبيلاً إلى إدراكه، وطريقاً إلى العلم بحقيقته))رسالة إلى أهل الثغر ص184.

==========
وبعد هذه المقدمة القصيرة والمقتضبة لهذا الموضوع المهم جداً عن العقل والذي انصح من أراد التوسع فيه بالرجوع للكتب التي تكلمت فيه بشيء من التبسيط ككتاب ((مسالك أهل السنة فيما أشكل من نصوص العقيدة)) رسالة دكتوراة من تأليف الدكتور عبدالرزاق بن طاهر معاش

أقول بعد هذه المقدمة القصيرة نأتي للمراد من هذا الموضوع وهو أن المتكلمين لما ظنوا أن دلالات النصوص يلزم منها محال ركبوا ما هو أعظم منه فمن ذلك ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله في مواضع لا تحصى –كما اعترف بذلك التفتازاني- من علو الله وفوقيته على عرشه من فوق سبع سموات وقد صح من كلام الصحابة والتابعين وتابعيهم والسلف الصالح في تقرير هذا الشيء الكثير وهو شيء فطر الله عباده عليه كما قال الحافظ ابن عبد البر بخاري المغرب : (( ومن الحجة في انه سبحانه وتعالى على العرش فوق السموات السبع أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو نزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء ونصبوا أيديهم رفعين مشيرين بها إلى السماء يستغيثنون الله تبارك وتعالى وهذا أشهر واعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته لأنه اضطراري لم يخالفهم فيه أحد ولا أنكره عليهم مسلم)) التمهيد 7/134 وهذا الأمر الفطري والذي كنت أحاور احد الأشاعرة في الماسنجر عنه متطلباً منه أثراً واحد عن صحابي أو تابعي قال الله ليس فوق العرش أو نفى علو الله مع أن الوارد العكس فقال لي في النهاية: تصدق يا فيصل ، قلت : نعم ، قال: سألني ابني الصغير قبل أيام أين الله فقلت في السماء!! وهذا الأمر اعترف الغزالي أنه لا يتميز في النفس عن الأوليات القطعية.

أقول: نفى متأخري المتكلمين هذا الأمر بحجة أنه لو كان فوق العرش فوق سبع سموات للزم أن يكون جسماً ولزم أن يتجزأ ويتبعض ولزم أن يكون كذا وكذا والعالم شكل هندسي فيلزم كذا وكذا الخ

والأجوبة على هذه الشبه كثيرة لكن الذي يهمني أنهم هم يقولون أن الله لا داخل الأمكنة ولا خارجها ولا داخل العالم ولا خارجها ولا هو عين الكون ولا هو غير الكون!!

فيقال: نحن نؤمن بما دل عليه الكتاب والسنة ولا يلزم من هذا ما تقولون

إن قالوا: مستحيل

قيل لهم: هل حكم الله هو حكم المخلوقات والماديات ؟؟

إن قالوا نعم

قيل: فيستحيل أن يكون لا داخل المكان ولا خارجه ولا داخل العالم ولا خارجه

فإن قالوا لا فالله ليس كمثله شيء وهذا من حكم الوهم والخيال

قيل: وكذلك نحن نقول لكم لا لا يلزم ما قلتموه والله ليس كمثله شيء وهذا من حكم الوهم والخيال قطعاً غير أن الفرق أننا قلنا بما دل عليه القرآن والسنة وإجماع السلف والفطرة السوية فسلمنا وآمنا وأنتم أتيتم بقول منكر خبيث تستنكره الفطر السليمة ولا نقل من وحي ولا عن أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم فلا عقل ولا نقل فشتان ما بين القولين.

حجج تهافت كالزجاج تخالها *** حقاً وكل كاسر مكسور


وعلو الله يتبع فيه قولاً وعلماً العلم والقول في ذاته والله تعالى أعلم.