حازم
01-02-2006, 01:30 PM
بقلم : ابو الحارث التميمى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدي رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
وبعد،
هذه كلمة عن البراجماتية، كتبتها منذ مدة، ووجدت الحاجة إليها في هذه الأيام، وهي تناقش البراجماتية كيف ظهرت وكيف تحولت إلى آلية للتفكير أدت إلى تحقيق نتائج عملية في الواقع:
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على من لا نبي من بعده، محمد رسوله وعبده الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة، وأثني على آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وعلى من سار على سنته واتبع طريقته، وتمثل نهجه إلى يوم الدين.
قد يكون من السهل على مرتادي العبث ومعتاديه، أن يقوموا بما يريدون من أعمال دون النظر إلى تحقق ما تصبو إليه تلك الأعمال، أي دون اتخاذ معيار للنجاح أو الفشل يكون ضابطاً لصحة العمل من عدمها.
ولكن من الصعب على مرتادي الرقي ومريديه، أن يقبلوا بأدنى الحلول أو أنصافها، دون أن يحققوا القصد من أعمالهم.
هذه كلمة أود فيها أن أناقش البراجماتزم، مستشهداً بما يسر الله من الأدلة التي يستنار بها في هذا الموضوع، ناعياً على الذرائعية التي قصمت ظهر العقل عند المسلمين، وجعلت حياتهم مائعة لا لون لها إلا لون التخاذل ولا طعم لها إلا طعم التنازل ولا رائحة لها إلا رائحة الفشل، وقد اعتمدت في تعريف البراجماتية الفلسفي وتطورها إلى منهج عملي اعتمادا كبيرا على كتاب البراجماتزم أو مذهب الذرائع لكاتبه يعقوب فام، فضلا عن المراجع الأخرى.
عندما ظهرت البراجماتزم أو البراجماتية تعريباً أو الذرائعية ترجمةً، استطاعت خلال فترة وجيزة أن تقلب موازين التفكير عند الكثير من السياسيين وخاصة في منبعها الولايات المتحدة الأميركية.
والبراجماتزم معناها عملي أو صالح لغرض معين أو يؤدي إلى الغرض المطلوب، وقد ترجمها صاحب المورد من كلمة براجماتزم الإنجليزية وهي عملي أو الاستشراف العملي، وقد أطلق عليها نفسه فلسفة الذرائع فقال: فلسفة أميركية تتخذ من النتائج العملية مقياساً لتحديد قيمة الفكرات الفلسفية وصدقها.
وللوقوف على حقيقة البراجماتزم نذكر قصتها ترجمة عن أربابها بشيء من الإيجاز:
بدأ ظهور هذا المذهب في التفكير على يد تشارلس بيرس(1) في عام 1878م عندما كتب مقالاً في بوبيولار ساينس مونثلي موضوعه (كيف نوضح تفكيرنا) قال فيه: إن مبدأ الذرائعية يكمن في النظر إلى النتائج العملية التي نأمل أن نحصل عليها من وراء أفكارنا، ويقصد أن الفكرة لا تتحقق ذاتها إلا عندما تؤدي إلى نتيجةٍ فعالة، فالفكرة الصحيحة هي الفكرة الناجحة أو الفكرة التي تخرج منتصرةً من امتحان التجربة والزمن.
ويُعتبر بيرس أول من صاغ هذا الاصطلاح، ثم تناوله وليام جيمس(2) وفصله في نظام فلسفي، ونشره حتى أصبحت هذه الفلسفة تعرف بوليام جيمس ويعرف هو بها.
أتى بيرس ووضع أساس فلسفة البراجماتزم، وهو أن معنى كل اصطلاح أو فكرة ليس لها صورة حسية، إنما هو في أثر هذه الفكرة أو الاصطلاح في المحسوسات أي في الاختبار والمشاهدة. كان الفلاسفة عندما يبحثون في اصطلاح معين كالثقل أو القوة مثلاً، يحاولون بطرق المنطق أن يتوصلوا إلى القوة في ذاتها، إلى جوهر القوة أي إلى ماهيتها في نفسها، على أي هيئة توجد بغض النظر عن الأشياء الحسية التي تلبسها هذه القوة، ثم يتطوحون في البحث في هذه القضايا الميتافيزيقية في غير طائل، وهذه الأبحاث لا تغني شيئاً ولا تؤدي إلى نتيجة يستطيع الإنسان أن يستريح إليها.
نحن نعيش في دنيا مادية ونفسية وكل شيء يؤدي إلى تغيرات في هذه الدنيا، وينتج فيها آثاراً واضحة نلمسها ونحس بها ونشاهدها في هذه الدنيا، فإن لهذا الشيء وجود حقيقي، والاصطلاح الذي نطلقه على هذا الشيء صحيح وحق، فالقوة شيء له وجود حقيقي، وهذا الاصطلاح أو اللفظة (قوة) لها معنى ومدلول ولمدلولها وجود حقيقي ومعناها إنما هو في هذه الآثار التي تخلفها فيما نشاهد في الموجودات حولنا، وبمعنى آخر لا ندلل على الموجودات بالمنطق أو بالقضايا العقلية من مقدمات ونتائج ضرورية تستتبع تلك المقدمات، وإنما نتوصل إلى إثبات وجودها بالآثار الحسية التي تنتجها هذه الموجودات في الدنيا التي نعيش فيها.
وعلى ذلك يزعم بيرس أن كل اصطلاح حق إذا كان له مدلول والمدلول له وجود حقيقي إذا كان ينتج بعض النتائج في هذه الدنيا التي نشاهدها، وإلا فلا معنى للاصطلاح ولا وجود للمدلول أو الشيء ؛ فكل شيء يؤدي عملاً معيناً في هذه الدنيا له وجود حقيقي.
والواقع أن كثيراً من الأفكار التي لها حظ من الصور المحسوسة إن هي إلا دلائل للعمل، أو اتجاهات إلى النشاط، وقد ننسى صورها أو أشكالها ولا يبقى منها شيء إلا قدرتها على حفز النشاط، أو قدرتها على التوجيه العملي في الحياة.
ففي محطة السكة الحديدية مثلاً رنين الأجراس لا يعني عدداً معيناً من أمواج الهواء، أو قدراً معلوماً من ذبذبات طبلة الأذن عند العالم الطبيعي الرياضي، وإنما يكون معناها عنده القطار وموعد سفره، فالمعنى الذي يؤدي إلى العمل أو إلى تغيير في البيئة التي تحيط بالإنسان، هذا المعنى هو الحق والصواب والاصطلاح الذي نطلقه على هذا المعنى حق إذا ما حفزنا إلى الاستجابات المعينة التي يتطلبها الاصطلاح.
هذه هي الخطوة الأولى في البراجماتزم، كما وضع أساسها بيرس وهي أن البراجماتزم نظام فلسفي لتفسير معنى الفكرة أو العقيدة، فالفكرة إنما هي مشروع للعمل وليست حقيقة في ذاتها كما تزعم الفلسفة العقلية، ثم تلت هذه الخطوة خطوة أخرى اتخذها جيمس فيلسوف البراجماتزم وحامل لوائها في العصر الحديث إلى مطلع القرن العشرين.
أتى جيمس وزاد على أن كل عقيدة تؤدي إلى نتيجة مرضية أو حسنة إنما هي عقيدة حقيقية فليست الفكرة مشروعاً للعمل فقط، وإنما العمل والنتائج هي الدليل على صحة الفكرة، وبذا أخرجنا من معنى الفكرة أو مدلولها إلى عالم الحقائق، فأصبح العمل أو النتائج التي ستترتب على الفكرة برهاناً على صحة الفكرة بعد أن كان معنى لها.
فقيمة الفكرة ليست في الصور والأشكال التي تثيرها في الذهن، وليست في انطباقها على حقائق الموجودات وإنما في الأعمال التي تؤدي إليها هذه الفكرة، وفي التغيرات التي تنتجها في الدنيا المحيطة بنا، ولا يهم في هذه الحالة حقائق الأشياء في ذاتها، لأننا نستطيع أن نفرض هذه الحقائق كيفما اتفق، فما جميع هذه الإحساسات إلا علامات ومعالم تقود العقل إلى التصرف والسلوك، فالحق مثلاً عند جيمس هو كل ما هو ناجح في الوصول بالإنسان إلى غرضه.
ولكي نوضح هذا النزاع بين النظريتين العقلية والبراجماتزم نضرب مثلاً واضحاً يجلو هذه النقطة ويبين الحدود بينهما بشكل ظاهر، وليكن هذا المثل فكرتنا عن الله، معظم الناس يؤمنون بالله وهذه الفكرة إما أن تكون خطأ أو صواباً في حكم المنطق، فالنظرية العقلية تقول إن الله موجود حقاً إذا تبين منطقياً وجوده.
أما البراجماتزم فتعالج هذه المسألة من ناحية أخرى، ففي رأيها أن صواب هذه الفكرة لا يتوقف على الضروريات المنطقية، وإنما يتوقف على صلاحية هذه الفكرة في حياتنا الراهنة، وفي تصرفاتنا اليومية، وفي اختباراتنا، فإذا كانت هذه الفكرة تؤدي إلى نتائج مرضية في الحياة فهي صحيحة وصائبة، وبذلك يكون الله موجوداً، بغير هذه الطريقة لا نستطيع أن نحكم على هذه الفكرة أولاً، ثم لا نستطيع أن نثق من حكمنا ثانياً.
وبعبارة أخرى تتناول البراجماتزم الفكرة من ناحية وظيفتها لا من ناحية موضوعها، كما تفعل النظرية العقلية، فالموضوع موجود إذا كان للفكرة وظيفة تؤديها كما نتعامل معه ونتصل به، والفكرة صائبة وحق إذا كانت تنفع أو تصلح لما وضعت له، ومتى كان الأمر كما ذكرنا يجوز لنا أن نؤمن بوجود مدلولها.
قلنا إن بيرس أخذ بأن معنى الاصطلاح إنما هو فيما يؤدي إليه من الأعمال، ثم زاد وليام جيمس على هذا أنما يؤدي إليه الاصطلاح من الأعمال إنما هو البرهان الحق على صدق هذا الاصطلاح وتوجه بالبراجماتزم إلى هذه الناحية، وقد طبق جيمس عام 1898م هذه النظرية على الدين والفلسفة، وذلك قبل أن يحولها إلى نظرية متكاملة عن الحقيقة عرضها في كتاب صدر له تلك السنة بعنوان البراجماتية.
ثم تبعهما جون ديوي (3) بنظريته في البراجماتزم التي سماها الآلية، وبذا خطا بهذه الفلسفة الخطوة الحاسمة التي قلبت النظم الفلسفية رأساً على عقب وحولت مجراها إلى ناحية تختلف كل الاختلاف عن النظم الفلسفية التقليدية.
لقد ظهرت نظرية البراجماتزم فزعمت أن الدليل على حقيقة أي شيء إنما هو أثر هذا الشيء وعمله ووظيفته، ولكنها تركت العقل كما هو أداة للمعرفة فإنما وجد لكي يعرف، ولكن ديوي تخطى هذه الهوة بقفزة واحدة فزعم أن العقل في الواقع ليس أداة للمعرفة وإنما هو أداة لتطور الحياة وتنميتها، فليس من وظيفة العقل أن يعرف وليس من عمل الحقائق أن تظهر للعقل بشكل يستطيع معه أن يعرفها وإنما عمل العقل هو خدمة الحياة وتسيير السبل لها لكي تنمو وتطّرد.
كان العقل في الفلسفة التقليدية يشبه رجلاً مبصراً يجلس في أحد المقاهي بجانب رجل أعمى والمبصر هو العقل والأعمى هو الإنسان الحي الذي يعيش في هذه الدنيا ويتعامل معها، فكانت الفلسفة التقليدية أي النظرية العقلية إن عمل المبصر هو أن ينقل حقائق الكون إلى الأعمى لمجرد العلم بهذه الحقائق فقط، فكان يقول له مثلاً هذا ترام شبرا رجع إلى العتبة الخضراء، وهذا بائع ترمس، وذاك حانوت بدال، وهذا كلب يعدو من الشمال إلى الجنوب، وهذه ورقة في مهب الريح، وهذه سماء وتلك أرض، وذلك مصباح وهذا قلم، وبعبارة أخرى لا عمل لهذا الرجل المبصر إلا أن ينقل الحقائق الموضعية، الحقائق الخارجية إلى ذهن الأعمى، وليس له وظيفة أخرى أو عمل آخر على الإطلاق، كل ما ينقله إلى الأعمى صحيح، ولكنه لا عمل له إلا المعرفة، المعرفة التي لا غاية لها إلا تقرير الحقائق كما هي من غير تحريف أو تبديل.
وأما البراجماتزم فتزعم أن وظيفة هذا المبصر ليست في نقل الحقائق على أصلها، لأنه لو فعل هذا لما كان له ضرورة إلى جانب الأعمى، فليس يهم الأعمى أن هذا كلب أو ذاك رجل، إلا متى أراد أن يتعامل معها، ووظيفة المبصر في الواقع هي في أن يصل بين الحوادث وبين الأعمى بحيث يستطيع هذا الأخير أن يتصرف تصرفاً يبعده عن الأخطار فيحفظ له حياته أولاً، ثم يصل بينه وبين العناصر الضرورية للحياة من مأكل ومشرب، وبعبارة أخرى لا تعود على الأعمى فائدة من أن ترام شبرا يذهب إلى العتبة أو يرجع منها، وكل ما يهمه من الأمر أن لا يقع في طريقه حين يروح وحين يغدو وعلى المبصر أن يباعد بين الأعمى وبين الترام، ويقرب بينه وبين العناصر الضرورية للحياة، وكل ما ذكره هذا المبصر للأعمى لا يقدم ولا يؤخر في حياة هذا الأخير ما دام لا يوجد أمامه مجال للتعامل مع هذه الأشياء.
ومثل العقل في هذه الحالة كمثل أي عضو آخر في جسم الإنسان، كالعين أو الذراع، فالعين لم تخلق في الإنسان لتنقل إليه ألوان قوس قزح، وإنما خلقت فيه لتدله على مواضع الخطر تحت قدميه، فتجنبه المهالك أولاً، ثم خلقت له حتى يميز بها بين التمر والجمر فلا يعود يبلع الجمر، فالعين أداة للحياة وكذلك العقل سواء بسواء، ومن هنا سميت هذه النظرية بالآلية أي أن العقل آلة يستخدمها الإنسان في المحافظة على الحياة أولاً وفي تنميتها واضطرادها ثانياً.
وقد أسس ديوي بدوره عام 1903م مدرسة براجماتية عرفت باسم شيكاغو.
ونخلص مما تقدم أن البراجماتزم خطت في مراحلها الخطوات التالية:
1- أتى بيرس فزعم أن الفكرة التي تقود إلى العمل تكون فكرة صالحة وحقيقية.
2- وتبعه وليام جيمس فزعم أن هذا العمل الذي تؤدي إليه الفكرة إنما هو البرهان القاطع على صحتها.
3- ثم خرج ديوي بنظريته من أن الأصل في الفكر أو العقل ليس المعرفة، فليس العقل أداة للمعرفة وإنما أداة للحياة.
وقد عرفت موسوعة السياسة هذا المصطلح بأنه مذهب فلسفي سياسي يعتبر نجاح العمل هو المعيار الوحيد للحقيقة، فالسياسي البراغماتي يدعي دائماً أنه يتصرف ويعمل من خلال النظر إلى النتائج العملية المثمرة التي قد يؤدي إليها قراره. وهو لا يتخذ قراره بوحي من فكرة مسبقة أو أيديولوجية سياسية محددة بل من خلال أخذه بعين الاعتبار للنتيجة العملية المنشودة.
هذه هي البراجماتزم نقلتها لكم من أفواه أربابها ليدرك واقعها، وتعرف خطورتها، وأقول:
إن العقل يدرك الأفكار والأحداث والوقائع والأشياء بمجرد عقله لها أي بمجرد، قيامه بالعملية العقلية وهي نقل الحس بما يراد إدراكه إلى الدماغ ووجود معلومات سابقة يفسر بها هذا الواقع، فيصدر حكمه على الواقع بحسب قصده من الحكم إن كان وجوداً أو كنهاً.
هذه هي حقيقة العقل وواقعه الذي لا يملك أي إنسان، فيلسوفاً كان أو سياسياً أو مفكراً أي ينكره، ولا يمكن تعطيل وظيفة هذا العقل بأي حال من الأحوال، وهو أي العقل إذا قام بوظيفته فإنه يحكم على الواقع لمجرد الحكم عليه دون النظر إلى النتائج المرجوة من هذا الواقع، فقد يكون الحكم على الواقع لمعرفته أو لتعريفه وفق مقياس معين، أو يكون لمعرفة فائدته من عدمها وهذه لا تتحقق أصلاً إلا بعد إدراك الواقع ابتداء، فالعالم الطبيعي عندما يفكر بالأجراس في محطة القطار من حيث تحليل مادتها أو وظيفتها فإنه يفكر فيها على هذا الأساس فيدرك أنها ذبذبات صوتية وما إلى ذلك، وإذا ما فكر فيها كإنذار لتحرك القطار فإنه يفكر فيها على هذه الشاكلة، والمفكر عندما يفكر في وجود الله من حيث إثبات وجوده فإنه يُعمل عقله لمجرد إدراك وجود الله بغض النظر عن فائدته من هذا الوجود وعدمها، وإذا فكر في الله من حيث الفائدة المرجوة منه فإنه يفكر بموضوعية أخرى، وهكذا، فالبحث هو في التفكير في الواقع لما يراد في التفكير لا لما يراد من الواقع، والبراجماتيون نسفوا وظيفة العقل هذه وحصروها في التفكير فيما يمكن أن تحققه الفكرة من نتائج عملية، فأنا كبراجماتي لا أفكر في المبدأ لأعرف أنه حق أم باطل ولا لأتبعه أو أرفضه، وإنما أفكر فيه لأعرف إن كنت سأستفيد منه أم لا فإن استفدت منه فهو صحيح عندي وإن لم أستفد منه فلا قيمة للتفكير فيه أصلاً، على الرغم من وجوده الذي لا أستطيع أن أنكره أو أزيله.
هذه ببساطة هي البراجماتزم، حرف بالعقل عن وظيفته التي خلقه الله لها، وهي إدراك الواقع.
لقد نسفت البراجماتزم دور العقل في الحكم على الأشياء ابتداء، وانتقلت من دور الحكم على الواقع إلى دور الاستفادة من الواقع، وجعلت الاستفادة من الواقع هي الدليل على صحة وجوده أو على صحته بشكل عام، فالإسلام عندهم مثلاً لا يبحث من ناحية كونه حقاً أم باطلاً، عقيدته صحيحة أم باطلة، وإنما يبحث فيه أمران الأمر الأول الفائدة التي يمكن أن تتحقق منه، وهو مرتبط مباشرة بالأمر الثاني وهي إمكانية تطبيقه، فإن كان هذا المبدأ يحقق فائدة ولو آنية فإنه يؤخذ به ويعتبر صحيحاً، وإن كان لا فلا.
إن العقل الإنساني قادر على الحكم على الأشياء والأفكار والمبادئ، من ناحية وجودها، كما هو قادر على الحكم عليها من حيث كنهها، فإذا ثبت وجودها لديه فإنه يصدر حكمه تجاه التعامل معها وفقاً لمقاييسه وقناعاته. ولا عبرة بالفائدة التي سيحققها منها، ولا أثر لها على عملية الإدراك، فقد تكون الفكرة باطلة وتأتي للإنسان بفائدة يتصورها وذلك كالربا، وقد تكون صحيحة ولا تحقق له أية فائدة يتصورها وذلك كالنهوض بأعباء الأمة والتضحية في سبيلها، قال تعالى: ((كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)) .
ولعل البراجماتزم قد نقضت نفسها بنفسها لتعطيلها دور العقل في الحكم ابتداء، ولست بحاجة كبيرة لنقضها.
على أنه من المجدي أن نتعرض لها كطريقة في التعامل مع الواقع، كان لها أثر كبير على الإنسان في العصر الحديث، وخاصة في أميركا، وقد انسحب أثرها على طريقة التفكير عند المسلمين.
وقد يبدو لأول وهلةٍ اتفاق البراجماتزم مع فكرة التأثر بالواقع، ولا بأس من مناقشة هذا الأمر بإيجاز، فالتأثر بالواقع قد يوجد مع وجود الفكرة الصحيحة، ومع وجود التداخل أيضاً بينها وبين الواقع من حيث تأثيره، فالمسلمون مثلاً عندما رأوا الواقع الغربي تأثروا بمظاهره وانبهروا بها، وكان لهذا التأثر دور في تعاملهم مع الواقع، فأدى هذا بهم إلى التنازل عن ثوابت مبدئهم وإن كان هذا التنازل مبرراً بالمصالح والمقاصد.
فالتأثر بالواقع قد يوجد مع وجود الفكرة الصحيحة، وقد يكون وليد لحظته عندما يؤخذ الحل من الواقع دون النظر إلى صحة الأفكار التي عالجت الواقع من الخارج، أما البراجماتزم فهي ترفض أصلاً أية فكرة ما لم تكن هذه الفكرة مفيدة في تطبيقها في الواقع، أي ما لم تكن عملية حسب ما يتصور البراجماتيون.
وقد نسفت البراجماتزم فكرة المثل الأعلى كما أسلفنا، أو فكرة العقيدة أو فكرة الأيدلوجية، عندما لم تعتبرها في التعامل مع الواقع، أي دون أن تكون هناك معايير توجه العقل في حكمه على الواقع وأخذه له، فالشذوذ الجنسي مثلاً لا يبحث فيه معيار كونه حراماً أو حيوانية أو انحرافاً خلقياً أو مسخاً للفطرة الإنسانية، وإنما يبحث فيه النتائج التي تعود على الإنسان من قبوله والتعامل معه، فإن كانت هذه النتائج إيجابية وتحقق فائدة يؤخذ ولو عارض جميع الأعراف.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدي رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
وبعد،
هذه كلمة عن البراجماتية، كتبتها منذ مدة، ووجدت الحاجة إليها في هذه الأيام، وهي تناقش البراجماتية كيف ظهرت وكيف تحولت إلى آلية للتفكير أدت إلى تحقيق نتائج عملية في الواقع:
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على من لا نبي من بعده، محمد رسوله وعبده الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة، وأثني على آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وعلى من سار على سنته واتبع طريقته، وتمثل نهجه إلى يوم الدين.
قد يكون من السهل على مرتادي العبث ومعتاديه، أن يقوموا بما يريدون من أعمال دون النظر إلى تحقق ما تصبو إليه تلك الأعمال، أي دون اتخاذ معيار للنجاح أو الفشل يكون ضابطاً لصحة العمل من عدمها.
ولكن من الصعب على مرتادي الرقي ومريديه، أن يقبلوا بأدنى الحلول أو أنصافها، دون أن يحققوا القصد من أعمالهم.
هذه كلمة أود فيها أن أناقش البراجماتزم، مستشهداً بما يسر الله من الأدلة التي يستنار بها في هذا الموضوع، ناعياً على الذرائعية التي قصمت ظهر العقل عند المسلمين، وجعلت حياتهم مائعة لا لون لها إلا لون التخاذل ولا طعم لها إلا طعم التنازل ولا رائحة لها إلا رائحة الفشل، وقد اعتمدت في تعريف البراجماتية الفلسفي وتطورها إلى منهج عملي اعتمادا كبيرا على كتاب البراجماتزم أو مذهب الذرائع لكاتبه يعقوب فام، فضلا عن المراجع الأخرى.
عندما ظهرت البراجماتزم أو البراجماتية تعريباً أو الذرائعية ترجمةً، استطاعت خلال فترة وجيزة أن تقلب موازين التفكير عند الكثير من السياسيين وخاصة في منبعها الولايات المتحدة الأميركية.
والبراجماتزم معناها عملي أو صالح لغرض معين أو يؤدي إلى الغرض المطلوب، وقد ترجمها صاحب المورد من كلمة براجماتزم الإنجليزية وهي عملي أو الاستشراف العملي، وقد أطلق عليها نفسه فلسفة الذرائع فقال: فلسفة أميركية تتخذ من النتائج العملية مقياساً لتحديد قيمة الفكرات الفلسفية وصدقها.
وللوقوف على حقيقة البراجماتزم نذكر قصتها ترجمة عن أربابها بشيء من الإيجاز:
بدأ ظهور هذا المذهب في التفكير على يد تشارلس بيرس(1) في عام 1878م عندما كتب مقالاً في بوبيولار ساينس مونثلي موضوعه (كيف نوضح تفكيرنا) قال فيه: إن مبدأ الذرائعية يكمن في النظر إلى النتائج العملية التي نأمل أن نحصل عليها من وراء أفكارنا، ويقصد أن الفكرة لا تتحقق ذاتها إلا عندما تؤدي إلى نتيجةٍ فعالة، فالفكرة الصحيحة هي الفكرة الناجحة أو الفكرة التي تخرج منتصرةً من امتحان التجربة والزمن.
ويُعتبر بيرس أول من صاغ هذا الاصطلاح، ثم تناوله وليام جيمس(2) وفصله في نظام فلسفي، ونشره حتى أصبحت هذه الفلسفة تعرف بوليام جيمس ويعرف هو بها.
أتى بيرس ووضع أساس فلسفة البراجماتزم، وهو أن معنى كل اصطلاح أو فكرة ليس لها صورة حسية، إنما هو في أثر هذه الفكرة أو الاصطلاح في المحسوسات أي في الاختبار والمشاهدة. كان الفلاسفة عندما يبحثون في اصطلاح معين كالثقل أو القوة مثلاً، يحاولون بطرق المنطق أن يتوصلوا إلى القوة في ذاتها، إلى جوهر القوة أي إلى ماهيتها في نفسها، على أي هيئة توجد بغض النظر عن الأشياء الحسية التي تلبسها هذه القوة، ثم يتطوحون في البحث في هذه القضايا الميتافيزيقية في غير طائل، وهذه الأبحاث لا تغني شيئاً ولا تؤدي إلى نتيجة يستطيع الإنسان أن يستريح إليها.
نحن نعيش في دنيا مادية ونفسية وكل شيء يؤدي إلى تغيرات في هذه الدنيا، وينتج فيها آثاراً واضحة نلمسها ونحس بها ونشاهدها في هذه الدنيا، فإن لهذا الشيء وجود حقيقي، والاصطلاح الذي نطلقه على هذا الشيء صحيح وحق، فالقوة شيء له وجود حقيقي، وهذا الاصطلاح أو اللفظة (قوة) لها معنى ومدلول ولمدلولها وجود حقيقي ومعناها إنما هو في هذه الآثار التي تخلفها فيما نشاهد في الموجودات حولنا، وبمعنى آخر لا ندلل على الموجودات بالمنطق أو بالقضايا العقلية من مقدمات ونتائج ضرورية تستتبع تلك المقدمات، وإنما نتوصل إلى إثبات وجودها بالآثار الحسية التي تنتجها هذه الموجودات في الدنيا التي نعيش فيها.
وعلى ذلك يزعم بيرس أن كل اصطلاح حق إذا كان له مدلول والمدلول له وجود حقيقي إذا كان ينتج بعض النتائج في هذه الدنيا التي نشاهدها، وإلا فلا معنى للاصطلاح ولا وجود للمدلول أو الشيء ؛ فكل شيء يؤدي عملاً معيناً في هذه الدنيا له وجود حقيقي.
والواقع أن كثيراً من الأفكار التي لها حظ من الصور المحسوسة إن هي إلا دلائل للعمل، أو اتجاهات إلى النشاط، وقد ننسى صورها أو أشكالها ولا يبقى منها شيء إلا قدرتها على حفز النشاط، أو قدرتها على التوجيه العملي في الحياة.
ففي محطة السكة الحديدية مثلاً رنين الأجراس لا يعني عدداً معيناً من أمواج الهواء، أو قدراً معلوماً من ذبذبات طبلة الأذن عند العالم الطبيعي الرياضي، وإنما يكون معناها عنده القطار وموعد سفره، فالمعنى الذي يؤدي إلى العمل أو إلى تغيير في البيئة التي تحيط بالإنسان، هذا المعنى هو الحق والصواب والاصطلاح الذي نطلقه على هذا المعنى حق إذا ما حفزنا إلى الاستجابات المعينة التي يتطلبها الاصطلاح.
هذه هي الخطوة الأولى في البراجماتزم، كما وضع أساسها بيرس وهي أن البراجماتزم نظام فلسفي لتفسير معنى الفكرة أو العقيدة، فالفكرة إنما هي مشروع للعمل وليست حقيقة في ذاتها كما تزعم الفلسفة العقلية، ثم تلت هذه الخطوة خطوة أخرى اتخذها جيمس فيلسوف البراجماتزم وحامل لوائها في العصر الحديث إلى مطلع القرن العشرين.
أتى جيمس وزاد على أن كل عقيدة تؤدي إلى نتيجة مرضية أو حسنة إنما هي عقيدة حقيقية فليست الفكرة مشروعاً للعمل فقط، وإنما العمل والنتائج هي الدليل على صحة الفكرة، وبذا أخرجنا من معنى الفكرة أو مدلولها إلى عالم الحقائق، فأصبح العمل أو النتائج التي ستترتب على الفكرة برهاناً على صحة الفكرة بعد أن كان معنى لها.
فقيمة الفكرة ليست في الصور والأشكال التي تثيرها في الذهن، وليست في انطباقها على حقائق الموجودات وإنما في الأعمال التي تؤدي إليها هذه الفكرة، وفي التغيرات التي تنتجها في الدنيا المحيطة بنا، ولا يهم في هذه الحالة حقائق الأشياء في ذاتها، لأننا نستطيع أن نفرض هذه الحقائق كيفما اتفق، فما جميع هذه الإحساسات إلا علامات ومعالم تقود العقل إلى التصرف والسلوك، فالحق مثلاً عند جيمس هو كل ما هو ناجح في الوصول بالإنسان إلى غرضه.
ولكي نوضح هذا النزاع بين النظريتين العقلية والبراجماتزم نضرب مثلاً واضحاً يجلو هذه النقطة ويبين الحدود بينهما بشكل ظاهر، وليكن هذا المثل فكرتنا عن الله، معظم الناس يؤمنون بالله وهذه الفكرة إما أن تكون خطأ أو صواباً في حكم المنطق، فالنظرية العقلية تقول إن الله موجود حقاً إذا تبين منطقياً وجوده.
أما البراجماتزم فتعالج هذه المسألة من ناحية أخرى، ففي رأيها أن صواب هذه الفكرة لا يتوقف على الضروريات المنطقية، وإنما يتوقف على صلاحية هذه الفكرة في حياتنا الراهنة، وفي تصرفاتنا اليومية، وفي اختباراتنا، فإذا كانت هذه الفكرة تؤدي إلى نتائج مرضية في الحياة فهي صحيحة وصائبة، وبذلك يكون الله موجوداً، بغير هذه الطريقة لا نستطيع أن نحكم على هذه الفكرة أولاً، ثم لا نستطيع أن نثق من حكمنا ثانياً.
وبعبارة أخرى تتناول البراجماتزم الفكرة من ناحية وظيفتها لا من ناحية موضوعها، كما تفعل النظرية العقلية، فالموضوع موجود إذا كان للفكرة وظيفة تؤديها كما نتعامل معه ونتصل به، والفكرة صائبة وحق إذا كانت تنفع أو تصلح لما وضعت له، ومتى كان الأمر كما ذكرنا يجوز لنا أن نؤمن بوجود مدلولها.
قلنا إن بيرس أخذ بأن معنى الاصطلاح إنما هو فيما يؤدي إليه من الأعمال، ثم زاد وليام جيمس على هذا أنما يؤدي إليه الاصطلاح من الأعمال إنما هو البرهان الحق على صدق هذا الاصطلاح وتوجه بالبراجماتزم إلى هذه الناحية، وقد طبق جيمس عام 1898م هذه النظرية على الدين والفلسفة، وذلك قبل أن يحولها إلى نظرية متكاملة عن الحقيقة عرضها في كتاب صدر له تلك السنة بعنوان البراجماتية.
ثم تبعهما جون ديوي (3) بنظريته في البراجماتزم التي سماها الآلية، وبذا خطا بهذه الفلسفة الخطوة الحاسمة التي قلبت النظم الفلسفية رأساً على عقب وحولت مجراها إلى ناحية تختلف كل الاختلاف عن النظم الفلسفية التقليدية.
لقد ظهرت نظرية البراجماتزم فزعمت أن الدليل على حقيقة أي شيء إنما هو أثر هذا الشيء وعمله ووظيفته، ولكنها تركت العقل كما هو أداة للمعرفة فإنما وجد لكي يعرف، ولكن ديوي تخطى هذه الهوة بقفزة واحدة فزعم أن العقل في الواقع ليس أداة للمعرفة وإنما هو أداة لتطور الحياة وتنميتها، فليس من وظيفة العقل أن يعرف وليس من عمل الحقائق أن تظهر للعقل بشكل يستطيع معه أن يعرفها وإنما عمل العقل هو خدمة الحياة وتسيير السبل لها لكي تنمو وتطّرد.
كان العقل في الفلسفة التقليدية يشبه رجلاً مبصراً يجلس في أحد المقاهي بجانب رجل أعمى والمبصر هو العقل والأعمى هو الإنسان الحي الذي يعيش في هذه الدنيا ويتعامل معها، فكانت الفلسفة التقليدية أي النظرية العقلية إن عمل المبصر هو أن ينقل حقائق الكون إلى الأعمى لمجرد العلم بهذه الحقائق فقط، فكان يقول له مثلاً هذا ترام شبرا رجع إلى العتبة الخضراء، وهذا بائع ترمس، وذاك حانوت بدال، وهذا كلب يعدو من الشمال إلى الجنوب، وهذه ورقة في مهب الريح، وهذه سماء وتلك أرض، وذلك مصباح وهذا قلم، وبعبارة أخرى لا عمل لهذا الرجل المبصر إلا أن ينقل الحقائق الموضعية، الحقائق الخارجية إلى ذهن الأعمى، وليس له وظيفة أخرى أو عمل آخر على الإطلاق، كل ما ينقله إلى الأعمى صحيح، ولكنه لا عمل له إلا المعرفة، المعرفة التي لا غاية لها إلا تقرير الحقائق كما هي من غير تحريف أو تبديل.
وأما البراجماتزم فتزعم أن وظيفة هذا المبصر ليست في نقل الحقائق على أصلها، لأنه لو فعل هذا لما كان له ضرورة إلى جانب الأعمى، فليس يهم الأعمى أن هذا كلب أو ذاك رجل، إلا متى أراد أن يتعامل معها، ووظيفة المبصر في الواقع هي في أن يصل بين الحوادث وبين الأعمى بحيث يستطيع هذا الأخير أن يتصرف تصرفاً يبعده عن الأخطار فيحفظ له حياته أولاً، ثم يصل بينه وبين العناصر الضرورية للحياة من مأكل ومشرب، وبعبارة أخرى لا تعود على الأعمى فائدة من أن ترام شبرا يذهب إلى العتبة أو يرجع منها، وكل ما يهمه من الأمر أن لا يقع في طريقه حين يروح وحين يغدو وعلى المبصر أن يباعد بين الأعمى وبين الترام، ويقرب بينه وبين العناصر الضرورية للحياة، وكل ما ذكره هذا المبصر للأعمى لا يقدم ولا يؤخر في حياة هذا الأخير ما دام لا يوجد أمامه مجال للتعامل مع هذه الأشياء.
ومثل العقل في هذه الحالة كمثل أي عضو آخر في جسم الإنسان، كالعين أو الذراع، فالعين لم تخلق في الإنسان لتنقل إليه ألوان قوس قزح، وإنما خلقت فيه لتدله على مواضع الخطر تحت قدميه، فتجنبه المهالك أولاً، ثم خلقت له حتى يميز بها بين التمر والجمر فلا يعود يبلع الجمر، فالعين أداة للحياة وكذلك العقل سواء بسواء، ومن هنا سميت هذه النظرية بالآلية أي أن العقل آلة يستخدمها الإنسان في المحافظة على الحياة أولاً وفي تنميتها واضطرادها ثانياً.
وقد أسس ديوي بدوره عام 1903م مدرسة براجماتية عرفت باسم شيكاغو.
ونخلص مما تقدم أن البراجماتزم خطت في مراحلها الخطوات التالية:
1- أتى بيرس فزعم أن الفكرة التي تقود إلى العمل تكون فكرة صالحة وحقيقية.
2- وتبعه وليام جيمس فزعم أن هذا العمل الذي تؤدي إليه الفكرة إنما هو البرهان القاطع على صحتها.
3- ثم خرج ديوي بنظريته من أن الأصل في الفكر أو العقل ليس المعرفة، فليس العقل أداة للمعرفة وإنما أداة للحياة.
وقد عرفت موسوعة السياسة هذا المصطلح بأنه مذهب فلسفي سياسي يعتبر نجاح العمل هو المعيار الوحيد للحقيقة، فالسياسي البراغماتي يدعي دائماً أنه يتصرف ويعمل من خلال النظر إلى النتائج العملية المثمرة التي قد يؤدي إليها قراره. وهو لا يتخذ قراره بوحي من فكرة مسبقة أو أيديولوجية سياسية محددة بل من خلال أخذه بعين الاعتبار للنتيجة العملية المنشودة.
هذه هي البراجماتزم نقلتها لكم من أفواه أربابها ليدرك واقعها، وتعرف خطورتها، وأقول:
إن العقل يدرك الأفكار والأحداث والوقائع والأشياء بمجرد عقله لها أي بمجرد، قيامه بالعملية العقلية وهي نقل الحس بما يراد إدراكه إلى الدماغ ووجود معلومات سابقة يفسر بها هذا الواقع، فيصدر حكمه على الواقع بحسب قصده من الحكم إن كان وجوداً أو كنهاً.
هذه هي حقيقة العقل وواقعه الذي لا يملك أي إنسان، فيلسوفاً كان أو سياسياً أو مفكراً أي ينكره، ولا يمكن تعطيل وظيفة هذا العقل بأي حال من الأحوال، وهو أي العقل إذا قام بوظيفته فإنه يحكم على الواقع لمجرد الحكم عليه دون النظر إلى النتائج المرجوة من هذا الواقع، فقد يكون الحكم على الواقع لمعرفته أو لتعريفه وفق مقياس معين، أو يكون لمعرفة فائدته من عدمها وهذه لا تتحقق أصلاً إلا بعد إدراك الواقع ابتداء، فالعالم الطبيعي عندما يفكر بالأجراس في محطة القطار من حيث تحليل مادتها أو وظيفتها فإنه يفكر فيها على هذا الأساس فيدرك أنها ذبذبات صوتية وما إلى ذلك، وإذا ما فكر فيها كإنذار لتحرك القطار فإنه يفكر فيها على هذه الشاكلة، والمفكر عندما يفكر في وجود الله من حيث إثبات وجوده فإنه يُعمل عقله لمجرد إدراك وجود الله بغض النظر عن فائدته من هذا الوجود وعدمها، وإذا فكر في الله من حيث الفائدة المرجوة منه فإنه يفكر بموضوعية أخرى، وهكذا، فالبحث هو في التفكير في الواقع لما يراد في التفكير لا لما يراد من الواقع، والبراجماتيون نسفوا وظيفة العقل هذه وحصروها في التفكير فيما يمكن أن تحققه الفكرة من نتائج عملية، فأنا كبراجماتي لا أفكر في المبدأ لأعرف أنه حق أم باطل ولا لأتبعه أو أرفضه، وإنما أفكر فيه لأعرف إن كنت سأستفيد منه أم لا فإن استفدت منه فهو صحيح عندي وإن لم أستفد منه فلا قيمة للتفكير فيه أصلاً، على الرغم من وجوده الذي لا أستطيع أن أنكره أو أزيله.
هذه ببساطة هي البراجماتزم، حرف بالعقل عن وظيفته التي خلقه الله لها، وهي إدراك الواقع.
لقد نسفت البراجماتزم دور العقل في الحكم على الأشياء ابتداء، وانتقلت من دور الحكم على الواقع إلى دور الاستفادة من الواقع، وجعلت الاستفادة من الواقع هي الدليل على صحة وجوده أو على صحته بشكل عام، فالإسلام عندهم مثلاً لا يبحث من ناحية كونه حقاً أم باطلاً، عقيدته صحيحة أم باطلة، وإنما يبحث فيه أمران الأمر الأول الفائدة التي يمكن أن تتحقق منه، وهو مرتبط مباشرة بالأمر الثاني وهي إمكانية تطبيقه، فإن كان هذا المبدأ يحقق فائدة ولو آنية فإنه يؤخذ به ويعتبر صحيحاً، وإن كان لا فلا.
إن العقل الإنساني قادر على الحكم على الأشياء والأفكار والمبادئ، من ناحية وجودها، كما هو قادر على الحكم عليها من حيث كنهها، فإذا ثبت وجودها لديه فإنه يصدر حكمه تجاه التعامل معها وفقاً لمقاييسه وقناعاته. ولا عبرة بالفائدة التي سيحققها منها، ولا أثر لها على عملية الإدراك، فقد تكون الفكرة باطلة وتأتي للإنسان بفائدة يتصورها وذلك كالربا، وقد تكون صحيحة ولا تحقق له أية فائدة يتصورها وذلك كالنهوض بأعباء الأمة والتضحية في سبيلها، قال تعالى: ((كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)) .
ولعل البراجماتزم قد نقضت نفسها بنفسها لتعطيلها دور العقل في الحكم ابتداء، ولست بحاجة كبيرة لنقضها.
على أنه من المجدي أن نتعرض لها كطريقة في التعامل مع الواقع، كان لها أثر كبير على الإنسان في العصر الحديث، وخاصة في أميركا، وقد انسحب أثرها على طريقة التفكير عند المسلمين.
وقد يبدو لأول وهلةٍ اتفاق البراجماتزم مع فكرة التأثر بالواقع، ولا بأس من مناقشة هذا الأمر بإيجاز، فالتأثر بالواقع قد يوجد مع وجود الفكرة الصحيحة، ومع وجود التداخل أيضاً بينها وبين الواقع من حيث تأثيره، فالمسلمون مثلاً عندما رأوا الواقع الغربي تأثروا بمظاهره وانبهروا بها، وكان لهذا التأثر دور في تعاملهم مع الواقع، فأدى هذا بهم إلى التنازل عن ثوابت مبدئهم وإن كان هذا التنازل مبرراً بالمصالح والمقاصد.
فالتأثر بالواقع قد يوجد مع وجود الفكرة الصحيحة، وقد يكون وليد لحظته عندما يؤخذ الحل من الواقع دون النظر إلى صحة الأفكار التي عالجت الواقع من الخارج، أما البراجماتزم فهي ترفض أصلاً أية فكرة ما لم تكن هذه الفكرة مفيدة في تطبيقها في الواقع، أي ما لم تكن عملية حسب ما يتصور البراجماتيون.
وقد نسفت البراجماتزم فكرة المثل الأعلى كما أسلفنا، أو فكرة العقيدة أو فكرة الأيدلوجية، عندما لم تعتبرها في التعامل مع الواقع، أي دون أن تكون هناك معايير توجه العقل في حكمه على الواقع وأخذه له، فالشذوذ الجنسي مثلاً لا يبحث فيه معيار كونه حراماً أو حيوانية أو انحرافاً خلقياً أو مسخاً للفطرة الإنسانية، وإنما يبحث فيه النتائج التي تعود على الإنسان من قبوله والتعامل معه، فإن كانت هذه النتائج إيجابية وتحقق فائدة يؤخذ ولو عارض جميع الأعراف.