سيف الكلمة
01-03-2006, 04:20 PM
الجـزء الثـانـي
الذين لا يبصرون
حقـيقـة الخـلق
منقول من هارون يحيى
الدار الآخر
الدار الموعود الحق
من الواضح بالنسبة لكل إنسان يمتلك الحكمة والإدراك أنه لم تخلق في هذا الكون أي مادة، أو حادث، أو قانون عبثا أو بدون هدف. تقوم بنية الكون واستمراريته على توازن جد دقيق. هذا التوازن حقيقة غير قابلة للنقاش تثبت أن الكون "مخلوق". فهل يمكن بعد ذلك أن يقال إن الكون خلق عبثا؟ بالطبع لا.
هناك هدف حتى في أصغر عمل يقوم به كائن موجود على وجه البسيطة، هذا الكائن الذي لا يشغل مكانا بالنسبة لبلايين المجرات الكونية أكثر مما تشغله حبة رمل. إذا كيف يُعقل القول بأن الكون برمته خلق عبثا؟
أخبر الله تعالى البشر أنه لم يخلقهم عبثا:
{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115].
وجدت الحياة على سطح الأرض من خلال سلسلة طويلة من الظواهر المعجزة تمتد من الإنفجار الكبير حتى الذرات ومن الذرات حتى المجرات، ومن المجرات حتى كوكبنا. وكل احتياجات الحياة على الأرض منظمة بدقة: شمس في السماء تقدم كل الطاقة المطلوبة، والاحتياطي المخزون في الأرض، وأرض زاخرة بملايين الأنواع النباتية والحيوانية . وبالرغم من كل الحوادث الخارقة، لا يزال بإمكان الناس إنكار وجود الله. ومع اعتبار أنه من الممكن نشوء الإنسان من نطفة، إلا أن هؤلاء الأشخاص لا يؤمنون بالبعث بعد الموت كما يعلِمنا القرآن. يشير القرآن إلى المنطق الاحمق لهؤلاء ويعطيهم الجواب :
{وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم. قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} [يس: 78 ـ 79].
الله الذي خلق الموت والحياة - خلق كل شيء في الكون ولهدف معين ولذلك أوضح هو هذا السبب {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور} [الملك: 2]. وكما أشارت الآية فهذه الحياة دار امتحان وهي بذلك مؤقتة. هناك نهاية لكل الناس ولكل العالم في الزمن الذي قدره الله. والناس مسؤولون عن الحياة القصيرة التي يحيونها حسب الشرائع التي أنزلها الله لهم في القرآن . وفي الآخرة سينالون جزاءهم عما فعلوه في الدنيا .
القصاص الخالد
عرضنا في هذا الكتاب آيات الله المعجزة التي تدل على وجوده، وعرضنا لمؤيدي النظام الفكري القائم على إنكار الوجود الإلهي، ونوع الهيئات الاجتماعية التي يرغبون في تأسيسها. كل ما نوقش يتعلق "بالحياة الدنيا". إلا أن الحياة الآخرة، حياة ما بعد الموت، تستحق التأمل أيضا .
يقدم أولئك الذين يطورون الأنظمة الفكرية التي تعتمد بشدة على إنكار الذات الإلهية لأتباعهم حياة بائسة، ويسببون لهم جزاء أليما في الدار الآخرة. هناك يتبرأون مِمَن تبعهم في الحياة الدنيا. وفي المقابل يحاولون فقط إنقاذ أنفسهم كما جاء في الآية الكريمة :
{ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض جميعا لافتدت به وأسروا الندامة ..} [يونس: 54].
{قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون. وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون}. [الأعراف: 38 ـ 39].
وحسب ما فهمنا من الآية لا فرق هناك بين الأفراد الذين قالوا بالإلحاد وبين من اتبعوهم. النتيجة واحدة، ستلاقي كلا المجموعتين العذاب والخسران الذي تستحقانه في الآخرة عن أفعالهما . وصف الله عز وجل بالتفصيل الظروف التي سيكون عليها هؤلاء الناس، والجزاء الذي سيلاقونه في الآخرة يوم الحساب في جهنم .
يوم البعث
عندما ذكر الله عز وجل يوم البعث في القرآن أشار إليه { يوم يدعو الداع إلى شيء نكر..} [القمر: 6]. لا يمكن أن يعرف الإنسان الرعب الحقيقي لذلك اليوم لأنه لم يواجه شيئا يشبهه قبلا .
الله فقط من يعلم زمن هذا اليوم. وما يعرفه الناس عن هذا اليوم مرتبط بالصور القرآنية. يأتي يوم القيامة فجأة في زمن لا يتوقعه أحد من الناس .
في هذا اليوم تقبض ارواح الناس، ربما، في بيوتهم، في مكاتب عملهم، أثناء نومهم، وهم يتكلمون بالهاتف، يقرؤون كتابا، يضحكون، يبكون أو يصطحبون أطفالهم من المدرسة ، على أن هذا القبض سيكون مرعبا جدا، شديدا لم ير أحد ما يشبهه في كل العالم طوال حياته .
يبدأ يوم القيامة بنفخ الصور (المدثر 8-10). عند سماع هذا الصوت في كل أرجاء العالم، تقبض ارواح أولئك الذين لم يستغلوا وقتهم - الذي وهبهم الله في التقرب إليه - بخوف عظيم. يصف الله الأحداث الهائلة التي تحدث في ذلك اليوم :
{بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} [القمر: 46].
الآيات لنا أن صوت الصور يُتبع بصوت مروع يصم الآذان وبزلزلة هائلة ] الزلزلة: 1-8 [
وتتفتت الجبال إلى ذرات وتصبح هباء منبثا (الواقعة 5). في هذه اللحظة يدرك الناس مدى تفاهة ما تعلقوا به في هذه الدنيا، وتتلاشى كل القيم المادية التي عاشوا عليها:
{فإذا جاءت الطامة الكبرى* يوم يتذكر الإنسان ما سعى*وبرزت الجحيم لمن يرى} [النازعات: 34 ـ 36].
في هذا اليوم تختفي كل الجبال بما فيها من صخر ورمال فتصبح كالصوف المنفوش ) الواقعة 5). يدرك الإنسان حينها أن هذه القوة ليست قوة الطبيعة. ويسود خوف عظيم كل أحداث ذلك اليوم. يصعق كل حيوان وإنسان وكل حي . وتنفجر البحار (الانفطار 3)، وتشتعل فيها النار "سجرت" (التكوير 6 (.
وتبدأ السماء بالاهتزاز كالأرض تماما وتأخذ بالزوال بطريقة لم يشهدها أحد، ويتحول لون السماء الأزرق الذي اعتاد الناس عليه إلى لون النحاس الذائب (سورة المعارج (. ويظلم كل ما كان في السماء مضيئا: وتكوَّر الشمس (التكوير 1)، ويُخسف القمر (القمر1). ويجمع الشمس والقمر (القيامة 9 (.
وتسقط النساء الحاملات حملهن ، وتشيب الولدان (المزمل17). ويهرب الأطفال من أمهاتهم ، والنساء من أزواجهن. وتتفرق العائلات عن بعضها. ويعرض القرآن سبب كل هذه الأمور :
{فإذا جاءت الصاخة. يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس: 33 ـ 34].
يوم الحساب
بعد أن تأخذ الأحداث مجراها في يوم البعث ينفخ في الصور ثانية. وعلى هذا الصوت يُنشَر الناس من جديد. وتمتلئ الأرض يومئذ بالناس الذين خرجوا من قبورهم التي أمضوا فيها مئات وربما آلاف السنين. ويعرض لنا القرآن البعث في هذا اليوم المزدحم:
{ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون. قالوا يا ولينا مَن بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون. إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميعا لدينا محضرون. فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون} [يس: 51 ـ54].
ويظهر كل ما أشاح عنه أولئك الناس، ولم يرغبوا في فهمه، وهربوا منه واضحاُ و ماثلا أمامهم. لن يتمكنوا من الهروب أو الإنكار بعد الآن .
في اللحظة التي يخرج بها هؤلاء الناس وعلامات الخزي على وجوههم، مقنعي رؤوسهم من قبورهم تشرق الأرض بنور ربها ويؤتى كل إنسان صحيفته .
في هذا اليوم الذي تجتمع فيه البشرية بأعدادها التي لا يعلمها إلا الله، يختلف موقف المؤمن عن موقف الكافر. يروي لنا القرآن هذه الحقيقة:
{وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه. ما أغنى عني مالية. هلك عني سلطانيه} [الحاقة: 25 ـ 29].
في هذا اليوم لا يُجحف الإنسان ذرة من حقه. كل إنسان يجازى بما عمل في الأرض. ويصعب يوم الحساب على الكافرين، إنه يوم أصبح خلودهم في جهنم أمراً أكيداً.
الآيات الآتية تكشف بوضوح ما ينتظر الكافرين والذين اتبعوا دعاة العبث في الحياة الدنيا من جزاء يوم الحساب .
{ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يُظلمون. ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون. وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فُتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين. قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين} [الزمر: 68 ـ72].
نار جهنم
أكبر إثم يمكن أن يقع فيه إنسان أن يثور على الله خالق الحياة وواهبها. إذا خالف الإنسان، الذي خُلق ليعبد الله، الهدف الذي خلق لأجله فهو بالطبع يستحق الجزاء على فعلته الخاطئة. وجهنم هي المكان الذي يُعرض له فيه هذا الجزاء. معظم الناس يمضون حياتهم في سُكر وغفلة دون التفكير بهذا مطلقا. ومن الأسباب الهامة لهذا الثَمَل هو عدم قدرتهم
حذر الله الناس من هذا الخطر:
{يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} [لقمان: 33].
الله مالك الصفات الحسنى، رحمن رحيم غفور، ولكن علينا أن نتذكر أيضا أن الله عادل دائما وقهار جبار؛ وأن الله قريب من المؤمنين بعيد عن الكافرين والوثنيين والمنافقين، وأنه رب الثواب والعقاب، وأن النار هي المكان الذي سيحشر فيه هؤلاء الأخيرين .
لسبب من الأسباب يؤمن الناس بمعتقدات وهمية في هذا الصدد. يزعمون أنهم سيذهبون إلى جهنم للتكفير عن أخطائهم في الحياة الدنيا، ولكنهم بعد ذلك سيدخلون الجنة ويعيشون فيها إلى الأبد. ولكن الله يخبرنا بأن المقام في الجنة أبدي وفي النار أبدي ولن يخرج أحد منهما إلا بمشيئته.
{وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله مالا تعلمون. بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} [البقرة: 80 ـ 82].
هناك سيقاسي الناس ألوان العذاب من نار وحرارة وظلمة ودخان وضيق وعمى وظمأ وماء حميم وشجرة الزقوم. وبالإضافة إلى العذاب الجسدي يتعرضون إلى عذاب روحي عظيم (سورة الهمزة). يأتي وصف العذاب الذي يعانيه الناس في جهنم في القرآن بالتفصيل.وتوضح الآيات مدى أهمية هذا الموضوع بالنسبة للإنسان. عذاب جهنم هائل لا يمكن مقارنته مع أي عذاب من عذاب الدنيا. يصف القرآن ما ينتظر الكافرين :
{كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة} [الهمزة: 4 ـ 9].
{وجوه يومئذ خاشعة. عاملة ناصبة. تصلى نار حامية. تسقى من عين آنية. ليس لهم طعام إلا من ضريع. لا يسمن ولا يغني من جوع} [الغاشية: 2 ـ 7].
{إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيراً} [الإنسان: 4].
{هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون. يطوفون بينها وبين حميم آن} [الرحمن: 43 ـ 44].
{والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور. وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير} [فاطر: 36 ـ 37].
{الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلاً} [الفرقان: 34].
{إذا رأتهم من بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا. وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا. لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيراً} [الفرقان: 12 ـ 14].
الجنة الدار الموعودة للمؤمنين
{فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17].
الجنة هي المستقر الذي وعد به المؤمنون جزاء على إيمانهم بالله وإخلاصهم له. والجنة كما تصفها الآيات الكريمة هي مكان محاط بكل أنواع النعم والهبات الإلهية وفيها يكون النعيم أبدياً. ويكافئ الله المؤمنين بالجنة على أعمالهم في الدنيا.
الجنة هي المكان الذي تظهر فيه "الرحمة الإلهية" (الرحمة التي يهبها الرحمن للمؤمنين خاصة، الرحمن الذي يكافئهم بنعيم يعيشون فيه أبدا). الجنة هي إذاً دار السعادة التي تجد فيها الروح كل ما تحبه وتشتهيه حتى أكثر من ما ذكر في الآيات.
يقتصر خيال البعض على أن الجنة مكان فيه جمال الطبيعة كما لو أنه مرج أخضر. بالطبع هناك فرق كبير بين هذا المفهوم وبين ما وصف في القرآن.
الجنة في القرآن فيها كل شيء يمكن أن يشتهيه إنسان:
{يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} [الزخرف: 71].
وتخبرنا آية أخرى أن في الجنة أكثر مما يريد الإنسان:
{لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد} [سورة ق: 35].
بتعبير آخر تحتوي الجنة على أكثر مما يمكن تخيله، فيها الكثير والكثير من النعم التي لا تراها أعين الناس في هذا العالم ولا يمكن أن تتخيلها. وسيحصل المؤمنون على هذه الجنة جزاء على طاعتهم لله في الحياة الدنيا ولتحقيق مشيئته في العيش فيها .
تناولت عدة آيات الجنة بالوصف:
{وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون} [البقرة: 25].
{إن المتقين في جنات وعيون. ادخلوها بسلام آمنين. ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين. لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين} [الحجر: 45 ـ 48].
{أولئك لهم جنات تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقاً} [الكهف: 31].
{إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون. هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون. لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون. سلام قولا من رب رحيم} [يس: 55 ـ 58].
{إن المتقين في مكان أمين. في جنات وعيون. يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين. كذلك وزوجناهم بحور عين. يدعون فيها بكل فاكهة آمنين. لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم. فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم} [الدخان: 51 ـ 57].
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين} [العنكبوت: 58].
تحذير إلى أولئك الذين يمكن أن ينجوا من العذاب المقيم
من المؤكد أن كل إنسان له الحرية في العيش كما يحب، وأن يختار الطريق الذي يريد وليس لأحد أن يجبر غيره على شيء. إلا أنه من واجبنا الديني كأناس نؤمن بالله وعدله المطلق، أن نحذر أولئك الذين ينكرون الله ولا يدرون مع أي تيار ينجرفون، وأن نبين لهم مدى خطر الحال التي هم عليها:
{أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين} [التوبة: 109].
إن الناس الذين يعرضون عن الله متعمدين ، أو ينكرون وجود الله على غير وعي لا مفر لهم من عذاب اليوم الآخر. وإذا لم يتوبوا ويهديهم الله الذي خلقهم فلا ملاذ لهم من أكبر عقاب يوقعه الله بهم. هذا العقاب الأبدي عرضه لنا القرآن:
{والذين كفروا بآياتنا أولئك أصحاب المشأمة. عليهم نار مؤصدة} [البلد: 19 ـ 20].
والطريق للخلاص من العذاب الخالد واستحقاق النعيم الخالد واضح:
أن تكون مؤمنا بالله مخلصا قبل فوات الوقت.
أن تمضي حياتك بحثا عن مرضاته.
تـحـذيـر
يكشف الفصل الذي أنت بصدد قراءته عن سر مذهل من أسرار حياتك.
عليك قراءته بتعمق وانتباه لأنه يتناول موضوعا سيكون مسؤولا عن إحداث
تغييرات أساسية في نظرتك إلى العالم الخارجي.
الموضوع القادم ليس وجهة نظر ولا طريقة في الفهم، أو فكرة فلسفية تقليدية:
إنه حقيقة يجب أن يعترف بها المؤمن والكافر على حد سواء،
حقيقة أثبتها العلم الحديث.
طريقة مختلفة جدا لفهم المادة
عندما يتأمل الناس المحيط الذي يعيشون فيه بحكمة وموضوعية، يعرفون أن كل ما في الكون مخلوق. والسؤال هو من يكون خالق كل هذه الأشياء؟
من الواضح أن "حقيقة الخلق" التي تعلن عن نفسها في كل وجه من وجوه الكون، لا يمكن أن تكون نتاجا عن الكون نفسه. لا يمكن أن تكون حشرة البق قد أوجدت نفسها، كما لا يمكن أن يكون النظام الشمسي قد خلق نفسه أو قام بتنظيم ذاته. ولم تقم النجوم ولا الإنسان، أو البكتريا أو الكريات الحمر أو الفراشات بإحضار ذاتها إلى الوجود. كذلك إمكانية كونها قد نُظمت عن طريق المصادفة أمر لا يمكن حتى تخيله .
وهكذا وصلنا إلى هذه النتيجة: إن كل شيء حولنا مخلوق ولكن لا شيء منه يمكن أن يكون خالقا. الخالق مختلف عن كل ما تراه أعيننا وأسمى منه إنه قوة عليّة غير مرئية ولكن يدل على وجودها وصفاتها كل موجود .
هذه النقطة يعترض عليها المنكرون لوجود الله. هؤلاء الناس يشترطون لإيمانهم رؤية الله أمام أعينهم. وهم ينكرون "الخلق" ويتجاهلون حقيقة براهين "الخلق" التي يحكيها الكون، ويحاولون إثبات أن الكون وكل ما هو موجود فيه لم يُخلق خلقا. ونظرية التطور هي أبلغ مثال على ما وصلوا إليه .
يشترك الذين ينكرون الله في هذا الخطأ الكبير مع العديد من الناس الذين لا ينكرون الله ولكن لديهم مفاهيم خاطئة حوله. فهم لا ينكرون الوجود الإلهي ولكن لديهم معتقدات وهمية حول "مكان" وجوده. إذ يعتقد غالبيتهم أن الله في السماء وأنه موجود أبعد من أبعد كوكب وأنه نادرا ما يتدخل في "الشؤون الدنيوية"، وقد لا يتدخل أبدا. يتخيلون أنه خلق الكون وتركه وشأنه وترك البشر يتدبرون أمورهم ويحددون مصائرهم بأنفسهم.
هناك آخرون سمعوا ما يقوله القرآن من أن الله في كل مكان، إلا أنهم لم يدركوا تماما معنى ذلك. يعتقدون أن الله في كل مكان مثل موجات الأثير أو الغاز الشفاف الذي لا يمكن رؤيته.
وفي جميع الأحوال تقوم هذه الاعتقادات وغيرها من التي لا تستطيع تحديد "مكان الله" على خطأ شائع. إنهم يقولون بحكم مسبق دون دليل أو أرضية صلبة يقفون عليها، وبهذا يشكلون مفهوما خاطئا عن الله. ولكن ما هو هذا الحكم المسبق؟
هذا الحكم المسبق هو حول الطبيعة وخصائص المادة. نحن محدودون جدا بظنوننا حول وجود المادة حتى إننا لا نتساءل ما إذا كانت موجودة أو غير موجودة أو أنها قد تكون خيالا. العلم الحديث يدحض هذا الحكم المسبق ويكشف عن حقيقة غاية في الأهمية. سنحاول في الصفحات القادمة، أن نشرح هذه الحقيقة العظيمة التي يشير إليها القرآن .
عالم الإشـارات الكهربـائيـة
تنتقل إلينا كافة المعلومات التي نستقيها من العالم الخارجي عن طريق الحواس الخمس. والعالم من حولنا،بدوره، يتكون مما تراه أعيننا وتحسه أيدينا ويشمه أنفنا وتسمعه آذاننا وتتذوقه ألسنتنا. لم يخطر في بالنا في وقت من الأوقات أن يكون هذا العالم الخارجي شيئاً آخر غير ما تنقله إلينا حواسنا التي اعتمدنا عليها منذ نعومة أظفارنا .
وضع العلم الحديث في حقوله المختلفة فهما مختلفا تماما وخلق شكا خطيرا حول حواسنا والعالم الذي ندركه بحواسنا.
نقطة البداية لهذه الطريقة الفكرة التي تقول أن "العالم الخارجي" المتشكل في دماغنا ما هو إلا استجابة تنشأ في الدماغ عن طريق الإشارات الكهربائية. إن لون التفاحة الأحمر، صلابة الخشب، وحتى والدتك، ووالدك، عائلتك، وكل ما يخصك، عملك، وأسطر هذا الكتاب التي تقرؤها، جميعها مركبة من إشارات كهربائية.
يشرح فريدريك فيستر Fredrick Veste النقطة التي توصل إليها العلم في هذا الموضوع:
"يبدو أن بعض التعابير العلمية التي وضعها بعض العلماء من أن "الإنسان خيال، وكل ما نتعامل معه مؤقت ومخادع، وأن هذا الكون هو خيال "قد أثبتها العلم الحديث."25
ويعلق الفيلسوف المشهور جورج بيركلي Gorge Berkeley على هذا الموضوع:
نحن نؤمن بوجود الأشياء فقط لأننا نراها ونحسها وأنها تنعكس إلينا عن طريق حواسنا. إلا أن حواسنا ما هي إلا أفكار في عقولنا. لهذا فإن الأشياء التي نلتقطها عن طريق حواسنا ما هي إلا أفكار، وهذه الأفكار غير موجودة في أي مكان عدا عقلنا...وبما أن كل هذا غير موجود إلا في عقلنا، فهذا يعني أننا نعيش في خداع عندما نفكر بأن الكون والأشياء من حولنا موجودة خارج عقولنا. وهكذا لا وجود لأي شيء في محيطنا خارج عقولنا.26
ومن أجل مزيد من التوضيح،لنتأمل حواس الرؤيا لدينا التي تزودنا بأكبر كمية من المعلومات عن العالم الخارجي .
كيف نرى ونسمع ونتذوق ؟
تتم عملية الرؤية بالتدريج. تقطع الحزم الضوئية (الفوتونات) المسافة من المادة إلى العين وتعبر العدسات العينية في مقدمة العين حيث تنعكس بصورة مقلوبة وتقع على الشبكية في الجزء الخلفي من العين. هنا يتحول الضوء الواصل إلى العين إلى إشارات كهربائية يتم نقلها بواسطة العصبونات إلى نقطة صغيرة جدا تدعى مركز الرؤيا في المنطقة الخلفية من الدماغ. يتم إدراك هذه الإشارة الكهربائية كصورة في مركز الدماغ بعد سلسلة من العمليات. تأخذ عملية الرؤيا مكانها الحقيقي في نقطة من الجزء الخلفي من الدماغ وهي البقعة المظلمة وهي معزولة تماما عن الضوء .
لنتأمل الآن هذه العملية التي تبدو اعتيادية .عندما نقول "إننا نرى" فنحن في الواقع نرى آثار النبضات التي تصل إلى أعيننا وتُستقرأ في دماغنا، بعد أن تتحول إلى إشارات كهربائية.، أي أننا عندما نقول "نحن نرى" فنحن في الواقع نشاهد الإشارات الكهربائية في دماغنا.
إن كل المشاهد التي نراها في حياتنا تتشكل في مركز الرؤية ، الذي يحتل بضعة سنتمترات مكعبة في دماغنا. إن الأسطر التي نقرأها في هذا الكتاب والمرج الذي يمتد أمامنا عندما ننظر إلى الأفق، كلاهما ينطبقان في هذه البقعة الصغيرة. النقطة الثانية التي علينا أخذها بعين الاعتبار هي، وكما أسلفنا، أن الدماغ معزول عن الضوء ؛وتسود الظلمة في داخله، أي أنه لا صلة مباشرة له بالضوء نفسه .
يمكن أن نشرح هذه الوضعية المثيرة بمثال. لنفترض أنه يوجد أمامنا شمعة مشتعلة. يمكننا أن نجلس في مواجهتها ونراقبها طويلا. خلال فترة المراقبة هذه لا يتشكل أي اتصال مباشر بين دماغنا وضوء الشمعة هذا. ففي الوقت الذي نرى فيه ضوء الشمعة، يلف دماغنا ظلام دامس. نحن نرى عالما مضيئا وزاخرا بالألوان داخل دماغنا المظلم.
يعطينا غريغوري Gregory R . L. تفسيرا لهذه النواحي المعجزة في آلية الرؤيا والذي نسلم به ونعتبره صحيحا:
" نحن متآلفون جدا مع عملية الرؤية ، لدرجة أننا بحاجة إلى قفزة في خيالنا كي ندرك أن هناك مشاكل يجب حلها، ولكن لنتأمل. تصل إلى عيننا صورة مشوهة مقلوبة، ونحن نرى أشياء صلبة أمامنا في الفضاء المحيط. من نماذج المحاكاة في الشبكية ندرك عالم الأشياء وهذا لا يتعدى كونه معجزة صغيرة.27
تنطبق نفس الوضعية على باقي الحواس. يُنقل، الصوت، اللمس، الشم، الذوق إلى الدماغ على شكل إشارات كهربائية ويتم إدراكها في المراكز ذات العلاقة.
وتتم آلية السمع بطريقة مشابهة للرؤيا. يتم تلقي الأصوات عن طريق الصوان ، وتُوجه إلى الأذن الوسطى. وتنقل الأذن الوسطى الاهتزازات الصوتية إلى الأذن الداخلية وتضخمها. وتترجم الأذن الداخلية الاهتزازات إلى إشارات كهربية وتنقلها إلى الدماغ. وتماما كما هو الحال مع العين، يأخذ السمع مكانه الأخير في مركز السمع في الدماغ. والدماغ معزول عن الصوت كما هو معزول عن الضوء. لذلك لا يهم كم تكون الضوضاء في الخارج، فالدماغ غارق في صمت مطبق.
يدرك الدماغ الأصوات المنخفضة، و أذن الإنسان السليمة تسمع كل شيء ودون تشويش أو تداخلات صوتية. وفي دماغك المعزول عن الصوت تسمع المقطوعات الموسيقية، وكل أصوات الجموع المحتشدة وتدركها جميعا ضمن مدى واسع من الترددات اعتبارا من حفيف الشجر وحتى صوت هدير الطائرة النفاثة. ومع ذلك إذا ما قيس مستوى الصوت في دماغك بواسطة مقياس حساس في هذه اللحظة، فستكون النتيجة صمت تام يسود المكان .
وبنفس الطريقة تتم عملية الشم. تصل الجزيئات الطيارة. التي تنبعث من الأشياء مثل الفانيليا أو الورد إلى الشعيرات الدقيقة في منطقة الظهارة في الأنف وتدخل ضمن تفاعلات الجزيئات الطيارة. هذه التفاعلات تنتقل إلى الدماغ ويتم إدراكها كرائحة. كل الروائح التي نشمها، الزكية منها والكريهة ليست إلا إدراكاً دماغياً لتفاعلات الجزيئات الطيارة التي تنتقل إلى الدماغ بعد أن تتم ترجمتها إلى إشارات كهربائية . أنت تدرك روائح العطر ،الزهور، الطعام و البحر، التي تحبها والتي لا تحبها في دماغك. لا تصل الجزيئات نفسها إلى الدماغ تماما كما في الرؤيا والصوت. الذي يصل إلى دماغك ببساطة هو الاشارات الكهربية. بتعبير آخر، إن كل الروائح التي شممتها مذ كنت طفلا وحتى الآن ما هي إلا شارات كهربائية تستشعرها من خلال أعضائك الحسية .
وبشكل مشابه توجد أربعة أنواع من المتلقيات الكيميائية في الجزء الأمامي من اللسان تمثل المذاقات الأربع: الحلو والمر والحامض والمالح. تحول هذه المتلقيات هذه المذاقات إلى إشارات كهربائية عبر سلسلة من العمليات الكيميائية ثم تنقلها إلى الدماغ؛ ويدرك الدماغ هذه الإشارات على أنها مذاقات. إن مذاق الشوكولاته أو الفاكهة التي تأكلها ما هو إلا تفسير لإشارات كهربائية تجري في الدماغ. لا يمكنك أن تصل إلى شيء في العالم الخارجي؛ لا يمكنك مطلقا أن ترى أو تشم أو تذوق الشوكولات ه نفسها . على سبيل المثال، إذا ما انقطعت أعصاب الذوق التي تصل إلى الدماغ فإن مذاق الأشياء التي تأكلها لن يصل إلى الدماغ؛ ستفقد حس الذوق تماما .
هنا نصل إلى حقيقة أخرى: لا يمكننا التأكد من أن المذاق الذي نجده نحن والمذاق الذي يجده غيرنا لنفس المادة واحد، أو ان ما يدركه سمعنا وما يدركه سمع غيرنا لنفس الصوت واحد. يقول لينكولن بارنت Lincoln Barnett لا يمكن أن نعرف أننا وغيرنا لدينا نفس الإدراك للون التفاحة الأحمر أو أننا نسمع المقطوعة الموسيقية س بنفس الطريقة.28
إحساسنا باللمس لا يختلف عن غيره من الأحاسيس. عندما نلمس شيئا من العالم الخارجي، فإن المعلومات التي تساعدنا على التعرف على هذا الشيء الخارجي تنتقل إلى الدماغ عن طريق أعصاب اللمس الموجودة في الجلد. ويتشكل الشعور باللمس في الدماغ. وعلى عكس المعتقد السائد، فإن مركز الشعور باللمس لا يوجد في أطراف الأصابع أو في الجلد، بل في مركز إدراك الحس في الدماغ. وبسبب التفسير الدماغي للاستثارة الحسية التي جاءت من العالم الخارجي، يمكننا أن ندرك أن هذا الشيء طري أو قاسٍ، بارد أو حار. نأخذ كل التفاصيل التي تساعدنا على إدراك الشيء من هذه الاستثارة. وباعتبار هذا، كانت أفكار كل من الفيلسوفين راسل و فيتغنشتاين L. Wittgenstein and B. Rusell كالتالي:
"سواء كانت الليمونة موجودة أم لا أو كيف جاءت إلى الوجود فهذا ليس موضوع بحث. تتضمن الليمونة من مذاق نستشعره بالفم ورائحة نشمها بالأنف وشكل نراه بالعين، هذه المواد فقط التي يمكن أن تكون محط بحث. لا يمكن للعلم أبدا أن يعرف العالم الظاهري."29
من المستحيل بالنسبة لنا الوصول إلى العالم الخارجي . كل الأشياء التي حولنا عبارة عن مجموعة من المدارك مثل الرؤية والسمع واللمس. فعن طريق معالجة المعلومات في مركز الرؤية وأخرى في مركز الحس، فإن دماغنا، وخلال حياتنا، لا يقابل " أصل " المادة الموجودة في المحيط في الخارجي ولكنه يقابل صورة متشكلة في داخله. وهنا نخطأ عندما نعتقد أن هذه الصور هي أمثلة عن المادة الحقيقية الموجودة خارجنا .
الذين لا يبصرون
حقـيقـة الخـلق
منقول من هارون يحيى
الدار الآخر
الدار الموعود الحق
من الواضح بالنسبة لكل إنسان يمتلك الحكمة والإدراك أنه لم تخلق في هذا الكون أي مادة، أو حادث، أو قانون عبثا أو بدون هدف. تقوم بنية الكون واستمراريته على توازن جد دقيق. هذا التوازن حقيقة غير قابلة للنقاش تثبت أن الكون "مخلوق". فهل يمكن بعد ذلك أن يقال إن الكون خلق عبثا؟ بالطبع لا.
هناك هدف حتى في أصغر عمل يقوم به كائن موجود على وجه البسيطة، هذا الكائن الذي لا يشغل مكانا بالنسبة لبلايين المجرات الكونية أكثر مما تشغله حبة رمل. إذا كيف يُعقل القول بأن الكون برمته خلق عبثا؟
أخبر الله تعالى البشر أنه لم يخلقهم عبثا:
{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115].
وجدت الحياة على سطح الأرض من خلال سلسلة طويلة من الظواهر المعجزة تمتد من الإنفجار الكبير حتى الذرات ومن الذرات حتى المجرات، ومن المجرات حتى كوكبنا. وكل احتياجات الحياة على الأرض منظمة بدقة: شمس في السماء تقدم كل الطاقة المطلوبة، والاحتياطي المخزون في الأرض، وأرض زاخرة بملايين الأنواع النباتية والحيوانية . وبالرغم من كل الحوادث الخارقة، لا يزال بإمكان الناس إنكار وجود الله. ومع اعتبار أنه من الممكن نشوء الإنسان من نطفة، إلا أن هؤلاء الأشخاص لا يؤمنون بالبعث بعد الموت كما يعلِمنا القرآن. يشير القرآن إلى المنطق الاحمق لهؤلاء ويعطيهم الجواب :
{وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم. قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} [يس: 78 ـ 79].
الله الذي خلق الموت والحياة - خلق كل شيء في الكون ولهدف معين ولذلك أوضح هو هذا السبب {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور} [الملك: 2]. وكما أشارت الآية فهذه الحياة دار امتحان وهي بذلك مؤقتة. هناك نهاية لكل الناس ولكل العالم في الزمن الذي قدره الله. والناس مسؤولون عن الحياة القصيرة التي يحيونها حسب الشرائع التي أنزلها الله لهم في القرآن . وفي الآخرة سينالون جزاءهم عما فعلوه في الدنيا .
القصاص الخالد
عرضنا في هذا الكتاب آيات الله المعجزة التي تدل على وجوده، وعرضنا لمؤيدي النظام الفكري القائم على إنكار الوجود الإلهي، ونوع الهيئات الاجتماعية التي يرغبون في تأسيسها. كل ما نوقش يتعلق "بالحياة الدنيا". إلا أن الحياة الآخرة، حياة ما بعد الموت، تستحق التأمل أيضا .
يقدم أولئك الذين يطورون الأنظمة الفكرية التي تعتمد بشدة على إنكار الذات الإلهية لأتباعهم حياة بائسة، ويسببون لهم جزاء أليما في الدار الآخرة. هناك يتبرأون مِمَن تبعهم في الحياة الدنيا. وفي المقابل يحاولون فقط إنقاذ أنفسهم كما جاء في الآية الكريمة :
{ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض جميعا لافتدت به وأسروا الندامة ..} [يونس: 54].
{قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون. وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون}. [الأعراف: 38 ـ 39].
وحسب ما فهمنا من الآية لا فرق هناك بين الأفراد الذين قالوا بالإلحاد وبين من اتبعوهم. النتيجة واحدة، ستلاقي كلا المجموعتين العذاب والخسران الذي تستحقانه في الآخرة عن أفعالهما . وصف الله عز وجل بالتفصيل الظروف التي سيكون عليها هؤلاء الناس، والجزاء الذي سيلاقونه في الآخرة يوم الحساب في جهنم .
يوم البعث
عندما ذكر الله عز وجل يوم البعث في القرآن أشار إليه { يوم يدعو الداع إلى شيء نكر..} [القمر: 6]. لا يمكن أن يعرف الإنسان الرعب الحقيقي لذلك اليوم لأنه لم يواجه شيئا يشبهه قبلا .
الله فقط من يعلم زمن هذا اليوم. وما يعرفه الناس عن هذا اليوم مرتبط بالصور القرآنية. يأتي يوم القيامة فجأة في زمن لا يتوقعه أحد من الناس .
في هذا اليوم تقبض ارواح الناس، ربما، في بيوتهم، في مكاتب عملهم، أثناء نومهم، وهم يتكلمون بالهاتف، يقرؤون كتابا، يضحكون، يبكون أو يصطحبون أطفالهم من المدرسة ، على أن هذا القبض سيكون مرعبا جدا، شديدا لم ير أحد ما يشبهه في كل العالم طوال حياته .
يبدأ يوم القيامة بنفخ الصور (المدثر 8-10). عند سماع هذا الصوت في كل أرجاء العالم، تقبض ارواح أولئك الذين لم يستغلوا وقتهم - الذي وهبهم الله في التقرب إليه - بخوف عظيم. يصف الله الأحداث الهائلة التي تحدث في ذلك اليوم :
{بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} [القمر: 46].
الآيات لنا أن صوت الصور يُتبع بصوت مروع يصم الآذان وبزلزلة هائلة ] الزلزلة: 1-8 [
وتتفتت الجبال إلى ذرات وتصبح هباء منبثا (الواقعة 5). في هذه اللحظة يدرك الناس مدى تفاهة ما تعلقوا به في هذه الدنيا، وتتلاشى كل القيم المادية التي عاشوا عليها:
{فإذا جاءت الطامة الكبرى* يوم يتذكر الإنسان ما سعى*وبرزت الجحيم لمن يرى} [النازعات: 34 ـ 36].
في هذا اليوم تختفي كل الجبال بما فيها من صخر ورمال فتصبح كالصوف المنفوش ) الواقعة 5). يدرك الإنسان حينها أن هذه القوة ليست قوة الطبيعة. ويسود خوف عظيم كل أحداث ذلك اليوم. يصعق كل حيوان وإنسان وكل حي . وتنفجر البحار (الانفطار 3)، وتشتعل فيها النار "سجرت" (التكوير 6 (.
وتبدأ السماء بالاهتزاز كالأرض تماما وتأخذ بالزوال بطريقة لم يشهدها أحد، ويتحول لون السماء الأزرق الذي اعتاد الناس عليه إلى لون النحاس الذائب (سورة المعارج (. ويظلم كل ما كان في السماء مضيئا: وتكوَّر الشمس (التكوير 1)، ويُخسف القمر (القمر1). ويجمع الشمس والقمر (القيامة 9 (.
وتسقط النساء الحاملات حملهن ، وتشيب الولدان (المزمل17). ويهرب الأطفال من أمهاتهم ، والنساء من أزواجهن. وتتفرق العائلات عن بعضها. ويعرض القرآن سبب كل هذه الأمور :
{فإذا جاءت الصاخة. يوم يفر المرء من أخيه. وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس: 33 ـ 34].
يوم الحساب
بعد أن تأخذ الأحداث مجراها في يوم البعث ينفخ في الصور ثانية. وعلى هذا الصوت يُنشَر الناس من جديد. وتمتلئ الأرض يومئذ بالناس الذين خرجوا من قبورهم التي أمضوا فيها مئات وربما آلاف السنين. ويعرض لنا القرآن البعث في هذا اليوم المزدحم:
{ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون. قالوا يا ولينا مَن بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون. إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميعا لدينا محضرون. فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون} [يس: 51 ـ54].
ويظهر كل ما أشاح عنه أولئك الناس، ولم يرغبوا في فهمه، وهربوا منه واضحاُ و ماثلا أمامهم. لن يتمكنوا من الهروب أو الإنكار بعد الآن .
في اللحظة التي يخرج بها هؤلاء الناس وعلامات الخزي على وجوههم، مقنعي رؤوسهم من قبورهم تشرق الأرض بنور ربها ويؤتى كل إنسان صحيفته .
في هذا اليوم الذي تجتمع فيه البشرية بأعدادها التي لا يعلمها إلا الله، يختلف موقف المؤمن عن موقف الكافر. يروي لنا القرآن هذه الحقيقة:
{وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه. ما أغنى عني مالية. هلك عني سلطانيه} [الحاقة: 25 ـ 29].
في هذا اليوم لا يُجحف الإنسان ذرة من حقه. كل إنسان يجازى بما عمل في الأرض. ويصعب يوم الحساب على الكافرين، إنه يوم أصبح خلودهم في جهنم أمراً أكيداً.
الآيات الآتية تكشف بوضوح ما ينتظر الكافرين والذين اتبعوا دعاة العبث في الحياة الدنيا من جزاء يوم الحساب .
{ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يُظلمون. ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون. وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فُتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين. قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين} [الزمر: 68 ـ72].
نار جهنم
أكبر إثم يمكن أن يقع فيه إنسان أن يثور على الله خالق الحياة وواهبها. إذا خالف الإنسان، الذي خُلق ليعبد الله، الهدف الذي خلق لأجله فهو بالطبع يستحق الجزاء على فعلته الخاطئة. وجهنم هي المكان الذي يُعرض له فيه هذا الجزاء. معظم الناس يمضون حياتهم في سُكر وغفلة دون التفكير بهذا مطلقا. ومن الأسباب الهامة لهذا الثَمَل هو عدم قدرتهم
حذر الله الناس من هذا الخطر:
{يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} [لقمان: 33].
الله مالك الصفات الحسنى، رحمن رحيم غفور، ولكن علينا أن نتذكر أيضا أن الله عادل دائما وقهار جبار؛ وأن الله قريب من المؤمنين بعيد عن الكافرين والوثنيين والمنافقين، وأنه رب الثواب والعقاب، وأن النار هي المكان الذي سيحشر فيه هؤلاء الأخيرين .
لسبب من الأسباب يؤمن الناس بمعتقدات وهمية في هذا الصدد. يزعمون أنهم سيذهبون إلى جهنم للتكفير عن أخطائهم في الحياة الدنيا، ولكنهم بعد ذلك سيدخلون الجنة ويعيشون فيها إلى الأبد. ولكن الله يخبرنا بأن المقام في الجنة أبدي وفي النار أبدي ولن يخرج أحد منهما إلا بمشيئته.
{وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله مالا تعلمون. بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون} [البقرة: 80 ـ 82].
هناك سيقاسي الناس ألوان العذاب من نار وحرارة وظلمة ودخان وضيق وعمى وظمأ وماء حميم وشجرة الزقوم. وبالإضافة إلى العذاب الجسدي يتعرضون إلى عذاب روحي عظيم (سورة الهمزة). يأتي وصف العذاب الذي يعانيه الناس في جهنم في القرآن بالتفصيل.وتوضح الآيات مدى أهمية هذا الموضوع بالنسبة للإنسان. عذاب جهنم هائل لا يمكن مقارنته مع أي عذاب من عذاب الدنيا. يصف القرآن ما ينتظر الكافرين :
{كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة} [الهمزة: 4 ـ 9].
{وجوه يومئذ خاشعة. عاملة ناصبة. تصلى نار حامية. تسقى من عين آنية. ليس لهم طعام إلا من ضريع. لا يسمن ولا يغني من جوع} [الغاشية: 2 ـ 7].
{إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيراً} [الإنسان: 4].
{هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون. يطوفون بينها وبين حميم آن} [الرحمن: 43 ـ 44].
{والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور. وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير} [فاطر: 36 ـ 37].
{الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلاً} [الفرقان: 34].
{إذا رأتهم من بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا. وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا. لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيراً} [الفرقان: 12 ـ 14].
الجنة الدار الموعودة للمؤمنين
{فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [السجدة: 17].
الجنة هي المستقر الذي وعد به المؤمنون جزاء على إيمانهم بالله وإخلاصهم له. والجنة كما تصفها الآيات الكريمة هي مكان محاط بكل أنواع النعم والهبات الإلهية وفيها يكون النعيم أبدياً. ويكافئ الله المؤمنين بالجنة على أعمالهم في الدنيا.
الجنة هي المكان الذي تظهر فيه "الرحمة الإلهية" (الرحمة التي يهبها الرحمن للمؤمنين خاصة، الرحمن الذي يكافئهم بنعيم يعيشون فيه أبدا). الجنة هي إذاً دار السعادة التي تجد فيها الروح كل ما تحبه وتشتهيه حتى أكثر من ما ذكر في الآيات.
يقتصر خيال البعض على أن الجنة مكان فيه جمال الطبيعة كما لو أنه مرج أخضر. بالطبع هناك فرق كبير بين هذا المفهوم وبين ما وصف في القرآن.
الجنة في القرآن فيها كل شيء يمكن أن يشتهيه إنسان:
{يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون} [الزخرف: 71].
وتخبرنا آية أخرى أن في الجنة أكثر مما يريد الإنسان:
{لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد} [سورة ق: 35].
بتعبير آخر تحتوي الجنة على أكثر مما يمكن تخيله، فيها الكثير والكثير من النعم التي لا تراها أعين الناس في هذا العالم ولا يمكن أن تتخيلها. وسيحصل المؤمنون على هذه الجنة جزاء على طاعتهم لله في الحياة الدنيا ولتحقيق مشيئته في العيش فيها .
تناولت عدة آيات الجنة بالوصف:
{وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون} [البقرة: 25].
{إن المتقين في جنات وعيون. ادخلوها بسلام آمنين. ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين. لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين} [الحجر: 45 ـ 48].
{أولئك لهم جنات تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقاً} [الكهف: 31].
{إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون. هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون. لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون. سلام قولا من رب رحيم} [يس: 55 ـ 58].
{إن المتقين في مكان أمين. في جنات وعيون. يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين. كذلك وزوجناهم بحور عين. يدعون فيها بكل فاكهة آمنين. لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم. فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم} [الدخان: 51 ـ 57].
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين} [العنكبوت: 58].
تحذير إلى أولئك الذين يمكن أن ينجوا من العذاب المقيم
من المؤكد أن كل إنسان له الحرية في العيش كما يحب، وأن يختار الطريق الذي يريد وليس لأحد أن يجبر غيره على شيء. إلا أنه من واجبنا الديني كأناس نؤمن بالله وعدله المطلق، أن نحذر أولئك الذين ينكرون الله ولا يدرون مع أي تيار ينجرفون، وأن نبين لهم مدى خطر الحال التي هم عليها:
{أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين} [التوبة: 109].
إن الناس الذين يعرضون عن الله متعمدين ، أو ينكرون وجود الله على غير وعي لا مفر لهم من عذاب اليوم الآخر. وإذا لم يتوبوا ويهديهم الله الذي خلقهم فلا ملاذ لهم من أكبر عقاب يوقعه الله بهم. هذا العقاب الأبدي عرضه لنا القرآن:
{والذين كفروا بآياتنا أولئك أصحاب المشأمة. عليهم نار مؤصدة} [البلد: 19 ـ 20].
والطريق للخلاص من العذاب الخالد واستحقاق النعيم الخالد واضح:
أن تكون مؤمنا بالله مخلصا قبل فوات الوقت.
أن تمضي حياتك بحثا عن مرضاته.
تـحـذيـر
يكشف الفصل الذي أنت بصدد قراءته عن سر مذهل من أسرار حياتك.
عليك قراءته بتعمق وانتباه لأنه يتناول موضوعا سيكون مسؤولا عن إحداث
تغييرات أساسية في نظرتك إلى العالم الخارجي.
الموضوع القادم ليس وجهة نظر ولا طريقة في الفهم، أو فكرة فلسفية تقليدية:
إنه حقيقة يجب أن يعترف بها المؤمن والكافر على حد سواء،
حقيقة أثبتها العلم الحديث.
طريقة مختلفة جدا لفهم المادة
عندما يتأمل الناس المحيط الذي يعيشون فيه بحكمة وموضوعية، يعرفون أن كل ما في الكون مخلوق. والسؤال هو من يكون خالق كل هذه الأشياء؟
من الواضح أن "حقيقة الخلق" التي تعلن عن نفسها في كل وجه من وجوه الكون، لا يمكن أن تكون نتاجا عن الكون نفسه. لا يمكن أن تكون حشرة البق قد أوجدت نفسها، كما لا يمكن أن يكون النظام الشمسي قد خلق نفسه أو قام بتنظيم ذاته. ولم تقم النجوم ولا الإنسان، أو البكتريا أو الكريات الحمر أو الفراشات بإحضار ذاتها إلى الوجود. كذلك إمكانية كونها قد نُظمت عن طريق المصادفة أمر لا يمكن حتى تخيله .
وهكذا وصلنا إلى هذه النتيجة: إن كل شيء حولنا مخلوق ولكن لا شيء منه يمكن أن يكون خالقا. الخالق مختلف عن كل ما تراه أعيننا وأسمى منه إنه قوة عليّة غير مرئية ولكن يدل على وجودها وصفاتها كل موجود .
هذه النقطة يعترض عليها المنكرون لوجود الله. هؤلاء الناس يشترطون لإيمانهم رؤية الله أمام أعينهم. وهم ينكرون "الخلق" ويتجاهلون حقيقة براهين "الخلق" التي يحكيها الكون، ويحاولون إثبات أن الكون وكل ما هو موجود فيه لم يُخلق خلقا. ونظرية التطور هي أبلغ مثال على ما وصلوا إليه .
يشترك الذين ينكرون الله في هذا الخطأ الكبير مع العديد من الناس الذين لا ينكرون الله ولكن لديهم مفاهيم خاطئة حوله. فهم لا ينكرون الوجود الإلهي ولكن لديهم معتقدات وهمية حول "مكان" وجوده. إذ يعتقد غالبيتهم أن الله في السماء وأنه موجود أبعد من أبعد كوكب وأنه نادرا ما يتدخل في "الشؤون الدنيوية"، وقد لا يتدخل أبدا. يتخيلون أنه خلق الكون وتركه وشأنه وترك البشر يتدبرون أمورهم ويحددون مصائرهم بأنفسهم.
هناك آخرون سمعوا ما يقوله القرآن من أن الله في كل مكان، إلا أنهم لم يدركوا تماما معنى ذلك. يعتقدون أن الله في كل مكان مثل موجات الأثير أو الغاز الشفاف الذي لا يمكن رؤيته.
وفي جميع الأحوال تقوم هذه الاعتقادات وغيرها من التي لا تستطيع تحديد "مكان الله" على خطأ شائع. إنهم يقولون بحكم مسبق دون دليل أو أرضية صلبة يقفون عليها، وبهذا يشكلون مفهوما خاطئا عن الله. ولكن ما هو هذا الحكم المسبق؟
هذا الحكم المسبق هو حول الطبيعة وخصائص المادة. نحن محدودون جدا بظنوننا حول وجود المادة حتى إننا لا نتساءل ما إذا كانت موجودة أو غير موجودة أو أنها قد تكون خيالا. العلم الحديث يدحض هذا الحكم المسبق ويكشف عن حقيقة غاية في الأهمية. سنحاول في الصفحات القادمة، أن نشرح هذه الحقيقة العظيمة التي يشير إليها القرآن .
عالم الإشـارات الكهربـائيـة
تنتقل إلينا كافة المعلومات التي نستقيها من العالم الخارجي عن طريق الحواس الخمس. والعالم من حولنا،بدوره، يتكون مما تراه أعيننا وتحسه أيدينا ويشمه أنفنا وتسمعه آذاننا وتتذوقه ألسنتنا. لم يخطر في بالنا في وقت من الأوقات أن يكون هذا العالم الخارجي شيئاً آخر غير ما تنقله إلينا حواسنا التي اعتمدنا عليها منذ نعومة أظفارنا .
وضع العلم الحديث في حقوله المختلفة فهما مختلفا تماما وخلق شكا خطيرا حول حواسنا والعالم الذي ندركه بحواسنا.
نقطة البداية لهذه الطريقة الفكرة التي تقول أن "العالم الخارجي" المتشكل في دماغنا ما هو إلا استجابة تنشأ في الدماغ عن طريق الإشارات الكهربائية. إن لون التفاحة الأحمر، صلابة الخشب، وحتى والدتك، ووالدك، عائلتك، وكل ما يخصك، عملك، وأسطر هذا الكتاب التي تقرؤها، جميعها مركبة من إشارات كهربائية.
يشرح فريدريك فيستر Fredrick Veste النقطة التي توصل إليها العلم في هذا الموضوع:
"يبدو أن بعض التعابير العلمية التي وضعها بعض العلماء من أن "الإنسان خيال، وكل ما نتعامل معه مؤقت ومخادع، وأن هذا الكون هو خيال "قد أثبتها العلم الحديث."25
ويعلق الفيلسوف المشهور جورج بيركلي Gorge Berkeley على هذا الموضوع:
نحن نؤمن بوجود الأشياء فقط لأننا نراها ونحسها وأنها تنعكس إلينا عن طريق حواسنا. إلا أن حواسنا ما هي إلا أفكار في عقولنا. لهذا فإن الأشياء التي نلتقطها عن طريق حواسنا ما هي إلا أفكار، وهذه الأفكار غير موجودة في أي مكان عدا عقلنا...وبما أن كل هذا غير موجود إلا في عقلنا، فهذا يعني أننا نعيش في خداع عندما نفكر بأن الكون والأشياء من حولنا موجودة خارج عقولنا. وهكذا لا وجود لأي شيء في محيطنا خارج عقولنا.26
ومن أجل مزيد من التوضيح،لنتأمل حواس الرؤيا لدينا التي تزودنا بأكبر كمية من المعلومات عن العالم الخارجي .
كيف نرى ونسمع ونتذوق ؟
تتم عملية الرؤية بالتدريج. تقطع الحزم الضوئية (الفوتونات) المسافة من المادة إلى العين وتعبر العدسات العينية في مقدمة العين حيث تنعكس بصورة مقلوبة وتقع على الشبكية في الجزء الخلفي من العين. هنا يتحول الضوء الواصل إلى العين إلى إشارات كهربائية يتم نقلها بواسطة العصبونات إلى نقطة صغيرة جدا تدعى مركز الرؤيا في المنطقة الخلفية من الدماغ. يتم إدراك هذه الإشارة الكهربائية كصورة في مركز الدماغ بعد سلسلة من العمليات. تأخذ عملية الرؤيا مكانها الحقيقي في نقطة من الجزء الخلفي من الدماغ وهي البقعة المظلمة وهي معزولة تماما عن الضوء .
لنتأمل الآن هذه العملية التي تبدو اعتيادية .عندما نقول "إننا نرى" فنحن في الواقع نرى آثار النبضات التي تصل إلى أعيننا وتُستقرأ في دماغنا، بعد أن تتحول إلى إشارات كهربائية.، أي أننا عندما نقول "نحن نرى" فنحن في الواقع نشاهد الإشارات الكهربائية في دماغنا.
إن كل المشاهد التي نراها في حياتنا تتشكل في مركز الرؤية ، الذي يحتل بضعة سنتمترات مكعبة في دماغنا. إن الأسطر التي نقرأها في هذا الكتاب والمرج الذي يمتد أمامنا عندما ننظر إلى الأفق، كلاهما ينطبقان في هذه البقعة الصغيرة. النقطة الثانية التي علينا أخذها بعين الاعتبار هي، وكما أسلفنا، أن الدماغ معزول عن الضوء ؛وتسود الظلمة في داخله، أي أنه لا صلة مباشرة له بالضوء نفسه .
يمكن أن نشرح هذه الوضعية المثيرة بمثال. لنفترض أنه يوجد أمامنا شمعة مشتعلة. يمكننا أن نجلس في مواجهتها ونراقبها طويلا. خلال فترة المراقبة هذه لا يتشكل أي اتصال مباشر بين دماغنا وضوء الشمعة هذا. ففي الوقت الذي نرى فيه ضوء الشمعة، يلف دماغنا ظلام دامس. نحن نرى عالما مضيئا وزاخرا بالألوان داخل دماغنا المظلم.
يعطينا غريغوري Gregory R . L. تفسيرا لهذه النواحي المعجزة في آلية الرؤيا والذي نسلم به ونعتبره صحيحا:
" نحن متآلفون جدا مع عملية الرؤية ، لدرجة أننا بحاجة إلى قفزة في خيالنا كي ندرك أن هناك مشاكل يجب حلها، ولكن لنتأمل. تصل إلى عيننا صورة مشوهة مقلوبة، ونحن نرى أشياء صلبة أمامنا في الفضاء المحيط. من نماذج المحاكاة في الشبكية ندرك عالم الأشياء وهذا لا يتعدى كونه معجزة صغيرة.27
تنطبق نفس الوضعية على باقي الحواس. يُنقل، الصوت، اللمس، الشم، الذوق إلى الدماغ على شكل إشارات كهربائية ويتم إدراكها في المراكز ذات العلاقة.
وتتم آلية السمع بطريقة مشابهة للرؤيا. يتم تلقي الأصوات عن طريق الصوان ، وتُوجه إلى الأذن الوسطى. وتنقل الأذن الوسطى الاهتزازات الصوتية إلى الأذن الداخلية وتضخمها. وتترجم الأذن الداخلية الاهتزازات إلى إشارات كهربية وتنقلها إلى الدماغ. وتماما كما هو الحال مع العين، يأخذ السمع مكانه الأخير في مركز السمع في الدماغ. والدماغ معزول عن الصوت كما هو معزول عن الضوء. لذلك لا يهم كم تكون الضوضاء في الخارج، فالدماغ غارق في صمت مطبق.
يدرك الدماغ الأصوات المنخفضة، و أذن الإنسان السليمة تسمع كل شيء ودون تشويش أو تداخلات صوتية. وفي دماغك المعزول عن الصوت تسمع المقطوعات الموسيقية، وكل أصوات الجموع المحتشدة وتدركها جميعا ضمن مدى واسع من الترددات اعتبارا من حفيف الشجر وحتى صوت هدير الطائرة النفاثة. ومع ذلك إذا ما قيس مستوى الصوت في دماغك بواسطة مقياس حساس في هذه اللحظة، فستكون النتيجة صمت تام يسود المكان .
وبنفس الطريقة تتم عملية الشم. تصل الجزيئات الطيارة. التي تنبعث من الأشياء مثل الفانيليا أو الورد إلى الشعيرات الدقيقة في منطقة الظهارة في الأنف وتدخل ضمن تفاعلات الجزيئات الطيارة. هذه التفاعلات تنتقل إلى الدماغ ويتم إدراكها كرائحة. كل الروائح التي نشمها، الزكية منها والكريهة ليست إلا إدراكاً دماغياً لتفاعلات الجزيئات الطيارة التي تنتقل إلى الدماغ بعد أن تتم ترجمتها إلى إشارات كهربائية . أنت تدرك روائح العطر ،الزهور، الطعام و البحر، التي تحبها والتي لا تحبها في دماغك. لا تصل الجزيئات نفسها إلى الدماغ تماما كما في الرؤيا والصوت. الذي يصل إلى دماغك ببساطة هو الاشارات الكهربية. بتعبير آخر، إن كل الروائح التي شممتها مذ كنت طفلا وحتى الآن ما هي إلا شارات كهربائية تستشعرها من خلال أعضائك الحسية .
وبشكل مشابه توجد أربعة أنواع من المتلقيات الكيميائية في الجزء الأمامي من اللسان تمثل المذاقات الأربع: الحلو والمر والحامض والمالح. تحول هذه المتلقيات هذه المذاقات إلى إشارات كهربائية عبر سلسلة من العمليات الكيميائية ثم تنقلها إلى الدماغ؛ ويدرك الدماغ هذه الإشارات على أنها مذاقات. إن مذاق الشوكولاته أو الفاكهة التي تأكلها ما هو إلا تفسير لإشارات كهربائية تجري في الدماغ. لا يمكنك أن تصل إلى شيء في العالم الخارجي؛ لا يمكنك مطلقا أن ترى أو تشم أو تذوق الشوكولات ه نفسها . على سبيل المثال، إذا ما انقطعت أعصاب الذوق التي تصل إلى الدماغ فإن مذاق الأشياء التي تأكلها لن يصل إلى الدماغ؛ ستفقد حس الذوق تماما .
هنا نصل إلى حقيقة أخرى: لا يمكننا التأكد من أن المذاق الذي نجده نحن والمذاق الذي يجده غيرنا لنفس المادة واحد، أو ان ما يدركه سمعنا وما يدركه سمع غيرنا لنفس الصوت واحد. يقول لينكولن بارنت Lincoln Barnett لا يمكن أن نعرف أننا وغيرنا لدينا نفس الإدراك للون التفاحة الأحمر أو أننا نسمع المقطوعة الموسيقية س بنفس الطريقة.28
إحساسنا باللمس لا يختلف عن غيره من الأحاسيس. عندما نلمس شيئا من العالم الخارجي، فإن المعلومات التي تساعدنا على التعرف على هذا الشيء الخارجي تنتقل إلى الدماغ عن طريق أعصاب اللمس الموجودة في الجلد. ويتشكل الشعور باللمس في الدماغ. وعلى عكس المعتقد السائد، فإن مركز الشعور باللمس لا يوجد في أطراف الأصابع أو في الجلد، بل في مركز إدراك الحس في الدماغ. وبسبب التفسير الدماغي للاستثارة الحسية التي جاءت من العالم الخارجي، يمكننا أن ندرك أن هذا الشيء طري أو قاسٍ، بارد أو حار. نأخذ كل التفاصيل التي تساعدنا على إدراك الشيء من هذه الاستثارة. وباعتبار هذا، كانت أفكار كل من الفيلسوفين راسل و فيتغنشتاين L. Wittgenstein and B. Rusell كالتالي:
"سواء كانت الليمونة موجودة أم لا أو كيف جاءت إلى الوجود فهذا ليس موضوع بحث. تتضمن الليمونة من مذاق نستشعره بالفم ورائحة نشمها بالأنف وشكل نراه بالعين، هذه المواد فقط التي يمكن أن تكون محط بحث. لا يمكن للعلم أبدا أن يعرف العالم الظاهري."29
من المستحيل بالنسبة لنا الوصول إلى العالم الخارجي . كل الأشياء التي حولنا عبارة عن مجموعة من المدارك مثل الرؤية والسمع واللمس. فعن طريق معالجة المعلومات في مركز الرؤية وأخرى في مركز الحس، فإن دماغنا، وخلال حياتنا، لا يقابل " أصل " المادة الموجودة في المحيط في الخارجي ولكنه يقابل صورة متشكلة في داخله. وهنا نخطأ عندما نعتقد أن هذه الصور هي أمثلة عن المادة الحقيقية الموجودة خارجنا .