المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خُلِقَ الإنسان في أحسن تقويم (بحث في الخلق والنشوء)



حازم
01-05-2006, 08:04 PM
بقلم : حاتم ناصر الشرباتي


خُلِقَ الإنسان في أحسن تقويم*



خلافاً لكل نظريات الإلحاد والشرك والكفر، وخلافاً لكل آراء ومعتقدات أصحاب الديانات الوضعية، ينظر الإسلام بلسان القرآن الكريم، وبلسان رسوله الأمين، وبأيمان أتباعه، إلى الإنسان نظرة تختلف اختلافاً جوهرياً وبالكامل عن جميع النظرات الأخرى.

في حين ينظر للإنسان من أعمى الله قلوبهم أنّه آثم خاطيء بالوراثة، أو أنّه من سلالة القرود والسعادين، أو أنه قريب من نسل الكلاب والحشرات؛ ماسخين إياه في أحط صورة؛ واصفين أصله بالوضاعة المتناهية وبالتالي حقارة ودناءة هذا المنشأ. وفي حين يعتبره بعضهم مادة للبحث يستخدمونها لإجراء التجارب عليها في معاملهم ومختبراتهم، وحقل تجارب واستكشاف لدى علماء النفس والاجتماع. فإنَّ الإسلام ينظر إليه نظرة تبجيل واحترام. فهو في نظر الإسلام مخلوق خلقه الله تعالى في أحسن تقويم، صاحب أجمل صورة. وأنّ الله صوره فأحسـن التصوير.

نعــم، إنه الإنسـان الذي سجدت له ملائكة الرحمن، الإنسان الذي كرّمه الله وزينه بالسمع والبصر والفؤاد والإدراك والتمييز وحُسن الصورة وجمالها.

قال تعالى من سورة الانفطار ( 6-8 ): ﴿(يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم  الذي خلقك فسواك فعدلك  في أي صورة ما شاء ركبك)﴾)
وقال تعالى من سورة غافر64: (﴿الله الذي جعل لكم الأرضَ قراراً والسّماء بناءاً وصوركم فأحسَنَ صُوركم وَرَزَقكُم مِنَ الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين ))﴾
وقال تعالى من سورة التغابن ( 3 ): (﴿خلقَ السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير ﴾)

ومن سورة المُلك ( 23-24 ): (﴿هُوَ الذي أنشأكم وَجَعَلَ لكمُ السّمْعَ وَالأبْصارَ وَالأفئدةَ قليلاً ما تشكرونَ  قُلْ هُوَ ذرَأكـُمْ في الأرْضِ وَإلَيْهِ تُحْشَرونَ )﴾
ومن سورة التين ( 4 ): (﴿لقدْ خلَقنا الإنسانَ في أحْسَنِ تقويمٍ ﴾)

ومن سورة الإسراء ( 70 ): (﴿وَلقدْ كرَّمْنا بني آدَمَ وَحَمَلناهُمْ في البَّرِ وَالبَحْرِ وَرَزَقناهُمْ مِنَ الطَّيِباتِ وَفَضَلناهُمْ على كثيرٍ مِما خلقنا تفضيلاً )﴾

وفي تفضيل الله تعالى الإنسان على غيره من المخلوقات يقول محمد بن جرير الطبري في تفسيره: (إنَّ التفضيل هو أن يأكل بيده وسائر الحيوانات بالفم، وروي عن إبن عباس والكلبي ومقاتل نفس ذلك، وقال الضحاك: كرّمهم بالنطق والتمييز، وقال عطاء: كرّمهم بتعديل القامة وامتدادها، وقال يمان: بحُسن الصورة) ( 1 )وله أيضاً: (بتسليطهم على سائر الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم) وقال آخرون: (بالكلام والخط، وقيل بالفهم والتمييز) [2 ]

وقال القرطبي في تفسيره مُرَجحاً: (والصحيح الذي يعول عليه أنَّ التفضيل إنّما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف، وبه يُعرف الله ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رُسُله، إلا أنّه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بُعِثت الرّسُل وأرسلت الكتب)
[3 ]

أما ابن كثير فيقول في تفسيره: (يخبر الله تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها، كقوله تعالى "ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"[ 4 ]، أن يمشي قائماً منتصباً على رجليه ويأكل بيديه، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه، وجعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً يفقه به ذلك كله وينتفع به ويفرق بين الأشياء، ويعرف منافعها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية.....) [4 ]

وقال العلامة الشيخ تقي الدين النبهاني، في كتابه "التفكير": (إنَّ الإنسـان هو أفضل المخلوقات على الإطلاق، حتى لقد قيل ~ وهو قول حق ~ إنَّه أفضل من الملائكة، والإنسان فضله إنّما هو في عقله، فعقل الإنسان هو الذي رفع شأن هذا الإنسان وجعله أفضل المخلوقات) [ 5]

وأورد محمد علي الصابوني في تفسيره: (أي لقد شرفنا ذرية آدم على جميع المخلوقات: بالعقل والعلم والنطق وتسخير جميع ما في الكون لهم... وفضلناهم على جميع من خلقنا من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات من الجن والبهائم والدواب والوحش والطير وغير ذلك) [6 ]

وأمّا صاحب الظلال فيقول: (ذلك وقد كرّم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه، كرّمه بخلقته على تلك الهيئة، بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة، فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان!! وكرمه بالاستعدادات التي أودعها في فطرته، والتي استأهل بها الخلافة في الأرض، يغير فيها ويبدل، وينتج فيها وينشئ، ويركب فيها ويحلل، ويبلغ فيها الكمال المقدر للحياة..... وكرّمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك..... وكرّمه بذلك الاستقبال الضخم الذي استقبله به الوجود، وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة ويعلن فيه الخالق جلّ شأنه تكريم الإنسان) [7 ]

قال عالِم التطور "ميلرش H.Mellersh" في كتابه "تاريخ الإنسان": (إنّ دماغ الإنسان يختلف عن أدمغة بقية الحيوانات، وهو يشكل حدثاً جديداً في الحياة. وكل الأجناس البشرية تتمتع بهذه المزية... فأقوام أستراليا البدائيون يستطيعون أن يتثقفوا في بحر جيل واحد، وهذا يدل على أنّ الإنسان سواء أكان شرقياً أو غربياً، متمدناً أو بدائياً، يتمتع بالقدرات العليا ذاتها. وهذا ما أقرّه العِلم! فالهوّة إذاً سحيقة بين الإنسان والحيوان)

أمّا مجلة "لايف Life" فقد كتبت في عددها الصادر بتاريخ 28/06/1963، شارحة تفوق الدماغ الإنساني تقول: (لخلايا الدماغ العصبية آلاف الاتصالات بعضها ببعض، وهناك اتصالات إضافية بفضل الكمية العليا من القشرة الدماغية التي تضاعف القدرة أضعافاً لا نهاية لها على استقبال وتحليل المعلومات. وهذه القدرة الاعتيادية تجعل الدماغ الإنساني بمنزلة رفيعة لا تُدانى بالنسبة إلى باقي الكائنات الحية)

وبالتالي فالهوة سحيقة جداً بين الإنسان وبين الحيوان، أو حتى بين الإنسان وبين أي مخلوق آخر، فلو كانت نظرية النشوء والارتقاء المادي أو جميع نظريات التطور المادي الأخرى صادقة لما كانت تلك الهوة السّحيقة، بل لكان التقارب النسبي واضحاً.


يقول علماء التطور المادي بوجود مراحل للذكاء، ولكننا لا نعلم بوجود ذلك مطلقاً، بل إنّ ما نعلمه "أنَّ 90% من الناس أذكياء، فعامة الناس أو أكثرهم أذكياء، والنادر هم البلداء أو الأغبياء، وهذا النادر لا حكم له." وهذا الرأي هو ما قال به العلامة النبهاني في كتابه "سرعة البديهة".[ ]

كما يزعم علماء التطور المادي بأنّ الإنسان المعروف باسم "إنسان ما قبل التاريخ" والذي يدّعون أنه انقرض كان يمثل الحلقة الوسطى. فلماذا عاشت هذه الحلقات الدنيا مثل القردة بينما انقرض إنسان ما قبل التاريخ، مع العِلم أنّ المفروض فيه حسب منطوق ومفهوم نظرياتهم أن يكون أرقى من القردة بكثير وأصلح للبقاء؟ وما الدليل على ذلك إن وُجد؟.

ويقول داروين: (قد يكون للإنسان عذره في أن يشعر بشيء من الكبرياء لأنه ارتقى إلى ذروة السّلم العضوي، ولو أنّ ذلك الارتقاء لم يكن نتيجة لجهده الخاص. وإذا كان الإنسان قد ارتقى إلى مكانه الذي يحتله الآن، ولم يوجد في الأصل ومنذ البداية في هذا المكان فإنَّ ذلك خليق بأن يعطيه بعض الأمل في مصير أفضل في المستقبل البعيد... "ومع ذلك"... ورغم كل هذه القوى المثيرة فلا يزال الإنسان يحمل في هيكله المادي وصمَةً لا يمكن محوها تشير إلى أصله الوضيع)[ ]

وصمة الأصل الوضيع!!!! هكذا ينظرون للإنسان وأصله، ونحن نقول ومعنا كل الأدلة الدامغة التي تؤكد صحة قولنا؛ وتنفي نفياً قاطعاً ادعاءات وترهات داروين والتي نسجها من خياله الواسع!!!! نقول: نعم، لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم... إنّه الإنسان العاقل، الذي علمه الله، وزينه بالعقل والإدراك. إنّه الإنسان الأول "آدم عليه السّلام" الذي هو نفس الإنسان الحالي بجميع أوصافه التي نراها وندركها. لم يتبدّل ولم يتغير ولم يتطور. وله أن يفخر بأصله بحق، وله أن يفخر بأنّ الله قد فضله على جميع مخلوقاته، إذ اختاره من دون المخلوقات جميعها ليهبه العقل المميز، وأن يُسّخِرَ له ولمنفعته كل ما خلق. الإنسانُ الذي خلقهُ الله في أحسن تقويم.

( 1 )تفسير القرطبي 10- 2694 ، تفسير الطبري 15-126 .
( 2 ) المصدر السابق
(3 )تفسير القرطبي 10 - 294
(4 )تفسير بن كثير 03 - 52
(5 )النبهاني - الشيخ تقي الدين، التفكير ص5.
(6 )الصابوني - محمد علي ، صفوة التفاسير 2 - 170
(7 ) قطب - سيد، في ظلال القرآن ، 4 - 2241 .
( * ) الموضوع منقول من : موسوعة الخلق والنشوء، حاتم ناصر الشرباتي، 1424هـ / 2002م. مكتبة الايمان - المنصورة

حازم
01-05-2006, 08:05 PM
خَلْقُ الإنسان في نصوص القرآن

إنّ القرآن الكريم ـ وهو المصدر الأول من مصادر التشريع الإسلامي ـ قد تناول قصّة خَلْق الإنسان، إبتداءاً من خلق جد البشرية آدم عليه السلام، وهو أول البشر على الإطلاق، مروراً بمن خُلِقَ بعده من البشر، وصولاً إلى محمد عليه الصلاة والسّلام وأمته الكريمة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإلى أن تكف الشمس والقمر عن الدوران، فألقى ظلالاً من نور ينير ظلام قلوب النّاس.

وفيما يلي من بحثنا سننعم في هذا الفصل إن شاء الله بدراسة بعض تلك النصوص الكريمة، والتّمعن فيها حتى تتضح الصورة، ويزهق الحق الباطل، فأمّا الزبد فيذهب هباءاً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

1. خلق آدم عليه السّلام

تبدأ قصة خلق آدم عليه السّلام، أو واقعة خلق الإنسان الأول أبي البشر، بمحاورة بين الله تعالى وملائكته، ومن هنا تبدأ أول قصّة البشريّة وخلق الإنسان. تبدأ بإعلان ميلاد الإنسان وخلقه خَلْقا مباشِراً ومتقصداً، لا وجودَ للصدفة العشوائية ولا للتطور من البهيميّة إلى البشريّة، كما أنّه ليس طفرة من طفرات الطبيعة، واحتفالاً بمولد الإنسان، وتعظيماً لقدرة الخالق المبدع الذي صوره، فقد أمر الله تعالى ملائكته بالسجود لأول البشر، وقد سجدوا جميعاً إلا إبليس لم يكن من الساجدين.
ومن هنا يرى بعض الفقهاء ، أنّ الإنسان ليس أفضل من كل الموجودات فقط، بل هو أفضل من الملائكة أيضاً.[ 1] إذ هو متميز عنهم في الخَلق، فأمرهم بالطاعة والخضوع له حين أمرهم بالسجود له.

لقد استخلف الله الإنسان في الأرض، وحتى يتحقق له هذا الإستخلاف فلا بُدّ له من أن يُمَكّّنَ من استعمال الوسائل الماديّة التي تحقق له هذا الأمر، فقد سُخِرَت لَهُ الموجودات الكونية جميعها، وَهُيِأت لَهُ الأرض وَذُلِلَت لتكون طوع تصرف الإنسان: يزرعها لتنتج له ما يأكل، ويبني عليها بيت سكنه، ويسير في شِعابها وتلالها لمعاشِه ومباشرة أعماله، وّسُخِرَ لَهُ البَحْرَ: يركبه بالفلك والسُّفن والقوارب، ومنه يأكل طعامه، كما سُخّرت النباتات والأنعام له ولمعاشه.

ولولا تمكين الله تعالى للإنسان، واعطاؤه السّيطرة بتسخير كل تلك الموجودات له، لما استطاع العيش في هذه الحَياة الدنيا، وبالرغم من كل هذه النِّعَم التي مَنَّ الله عليه بها ـ وهي كثيرة لا تُعَدُّ ولا تُحصى ـ فإنّا نراهُ قليلاً ما يكون لله المُنعم الرازق المتفضل حامداً أو شاكراً، بل كثيراً ما نراه ضالاً شاطاً، كافراً بأنعم الله، جاحِداً فضله،[ 2] متبعاً خطوات الشيطان وجنده من دعاة الماديّة والوثنية والإلحادية والعصبية القبلية والقومية، كافراً بأنعم الله طوراً ومُشركاً به أطواراً، عاصياً أوامره مُسْتَحِلاً حرماته، متمرداً على كل النواميس والسُّنن التي سنها لهم الخالق المنعم المدبر.

يُعلمنا القرآن الكريم أنّ قصة خَلق البشرية قد بدأت بآدم عليه السَّلام، وَسَبَقَ ذلك مُحاوَرَةً بين الله تعالى وبين ملائكته، مُخْبِراً إياهم بأنّهُ سيستخلفُ في الأرضِ خَليفَة وهو الإنسان متمثلاً بادئ الأمر بآدم، وأنّه سيمكن لهم في الأرض بإعطائهم السُّلطان عليها.

تعجب الملائكة ووجلت قلوبهم، لقد رأى الملائكة في أنفسهم أنهم أحق بخلافة الأرض من ذلك المخلوق المُنْتَظَر، إذ هم يسبحون بحمد الله ويقدسونه ولا يعصونه ما أمرهم، فلماذا يستخلف فيها من إذا تمكن فيها عصاه وأفسد فيها وبطش وسفك الدماء؟ فأجابهم العالِم العليم أنّه يعلم ما لا يعلمون.

وهنا يعرض القرآن الكريم تكريم آدم الإنسان، فهو علاوة على استخلافة في الأرض، قد أكرمه الله بالعقل والإدراك والتفكير، وفضَّله على الملائكة بِالعِلم، فقد علمه الله تعالى أسماء الموجودات جميعاً، ولمّا سأل الملائكة أجابوا: >سُبْحانَكَ لا عِلْم َ لَنا إلا ما عَلَمْتَنا< ] فالله تعالى وحده هو عالِم كل شئ، ذو الحكمة والعِلم، وليس لأحد كان أن يعلَم إلا ما علمه الله.

عندها طلب من آدم أن ينبئهم الأسماء، فلما طلب منه ذلك أخبرهم آدم بجميع الأسماء، وذلك ما يُظْهِرُ فضل آدم عليهم بزيادة علمه عنهم، وهنا يذكرهم الله أنّه يعلَم ما لا يعلمون، وأنّ له حكمة أرادها في خلق الإنسان واستخلافه في الأرض، فالله تعالى عليم بكل الخفايا والأسرار وبواطن الأمور، عليم بما يُظهرون بالقول والفعل، وبما قد يكتمونه في أنفسهم.

إنَّ تعليم آدم الأسماء لا يقتصر على المسميات نفسها، بل هو تَعليمٌ وَتَثْقيفٌ عام بكل المخلوقات والموجودات وكيفيّة الإستفادة منها، وَتَعْليمٌ بِصِفات الأشْياء وَخًواصِها وطرق الإستفادة منها حيث هي مسخرة له، فهو عِلْمٌ عام شامِلٌ يحوى الأسماء وصفاتها.[ ] في ذلك يقول العلامة تقي الدين النبهاني: وأمّا قوله تعالى [>وعلم آدم الأسماء كلها )فإنّ المراد منه مسميات الأشياء لا اللغات، أي علمه حقائق الأشياء وخواصها، أي أعطاه المعلومات التي يستعملها للحكم على الأشياء)[ 5]

وهنا لا بد لنا من معرفة أنّ الإنسان يختلف عن غيره من المخلوقات بالعقل أي القدرة على التفكير، والتفكير حكم على ماهية شئ أو حكم على واقع، وحتى يتم هذا التفكير بصورة تعطي الحكم الصادق الصحيح لَزم أن يستكمل هذا التفكير الشـروط اللازمة له، فعمليـة التفكير تجري بنقل الواقع المحسوس إلى الدِّماغ بواسطة إحدى الحواس مع ضرورة وجود معلومات سابقة عند الإنسان المُفَكر تفسر ذلك الواقع، فإذا إنعدمت إحدى تلك الأساسيات لا يتم الحكم على الواقع أو على الشئ بالصورة الصحيحة، وعناصر التفكير أربعة:

1. دماغ صالح.
2. واقع محسوس.
3. حواس.
4. معلومات سابقة.

وبما أنّ الله تعالى قد وَهَبَ آدم الدّماغ الصالح والحواس، وَأوْجَدَهُ في واقع معيّن، لذا لزم أن يُزَوِدَهُ الله تعالى بالمعلومات "الأسماء وصفاتها وخواصها" حتى تتم عمليّة التفكير للحكم على الأشياء والوقائع. لذا فقد علّم الله آدم كلها.

إنَّ قصَّة خَلق آدم وما رافقها من وقائع وأحداث، قد وردت مفصلة في القرآن الكريم في عدة مواضع، شارحة ومفصلة، معلمة إيانا، مبينة لنا وقائعها الحقيقية، طالبة منا الإعتقاد الجاذم بها، فإلى النُّصوص القرآنيّة التي تقص علينا ذلك، قال تعالى:
1. من سورة البقره .
>وَإذْ قالَ رَبُكَ للمَلائِكَةِ إنيّ جاعِلٌ في الأرْضِ خَليفَةً قالوا أتَجْعَلَ فيها مًنْ يُفْسِدُ وَيَسْفِكَ الدِماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إنّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمونَ  وَعَلَمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلُها ثُمَّ عَرَضَهُم عَلى المَلائِكَةِ فَقالَ أنبِؤني بِأسْماء هؤلاءِ إنْ كُنْتُم صادقين  قالوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إلا ما عَلَمْتَنا إنَّكَ أنْتَ العَليمُ الحَكيم  قالَ يا آدَمُ أنْبِئْهُم بِأسْمائِهِم فَلَمّا أنْبَأهُم بِأسْمائِهِم قالَ ألَم أقُلْ لَكُمْ أنّي أعْلَمُ غَيْبَ السَمَواتِ والأرْضِ وَاعْلَمُ ما تُبْدونَ وما كُنْتُمْ تَكْتُمون  وَإذْ قُلْنا لِلمَلائِكَةِ أسْجُدوا لآدَمَ فَسَجَدوا إلآ إبْليسَ أبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الكافرين >)
[6 ]

2. من سورة الأعراف.
>وَلَقَدْ مَكَناكُمْ في الأرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فيها مَعايِشَ قَليلاً ما تَشْكُرونَ  وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ أسْجُدوا لآدَمَ فَسَجَدوا إلآ إبليسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدينَ>)
[ 7]

جاء في الظلال: (إنّ الخَلق قد يكون معناه: الإنشاء والتّصوير، وقد يكون معناه: إعطاء الصورة والخصائص... وهما مرتبتان في النشأة لا مرحلتان... فإنّ "ثُمّ" قد لا تكون للترتيب الزمني ولكن للترقي المعنوي، والتّصوير أرقى مرتبة من مجرد الوجود فالوجود يكون للمادة الخامة، ولكن التّصويرـ بمعنى إعطاء الصورة الإنسانية والخصائص ـ يكون درجة أعلى من من درجات الوجود. فكأنّه قال: إننا نمنحكم مجرد الوجود، ولكن جعلناه وجوداً ذا خصائص راقية، وذلك كقوله تعالى: (<font >الذي أعطى كُلَّ شَيٍْ خَلْقَهُ ثم هدى)< وعلى أية حال فإنّ مجموع النصوص القرآنية في خلق آدم عليه السلام وفي نشأة الجنس البشري، ترجح أنّ إعطاء هذا الكائن خصائصه الإنسانية ووظائفه المستقلة كان مصاحباً لخلقه. وأنّ الترقي في تاريخ الإنسان كان ترقياً في بروز الخصائص ونموها وتوزيعها واكتسابها الخبرة العالية. ولكن لم يكن ترقياً في وجود الإنسان من تطور حتى انتهت إلى الإنسانيّة كما تقول الداروينية.

ووجود أطوار مترقية من الحيوان تتبع ترتيباً زمنياً ـ بدلالة الحفريات التي تعتمد عليها نظرية النشوء والإرتقاء ـ هو مجرد نظرية ظنية وليست يقينية، لأنّ تقدير أعمار الصخور ذاته في طبقات الأرض لا يتم إلا ظناً!! أي مجرد فرضٍ كتقدير أعمار النجوم من اشعاعها. وليس ما يمنع من ظهور فروض أخرى تُعَدِلها أو تُغيرها أو تنسفها نَسْفاً. على أنّه ـ على فرض العلم اليقيني بأعمار الصخور ـ ليس هناك ما يمنع من وجود أنواع من الحيوان في أزمان متوالية بعضها أرقى من بعض... ثم انقراض بعضها.. ولكن هذا لا يحتم أن يكون بعضها متطور من بعض... لاتستطيع أن تثبت في يقين مقطوع به أنّ هذا النوع تطور تطوراً عضوياً من النوع الذي قبله من الناحية الزمنية ـ وفق شهادة الطبقة الصخرية التي يوجد فيها ـ ولكنها تثبت أنّ هناك نوعاً أرقى من النوع الذي قبله زمنياً... وعندئذٍ تكون نشأة النوع الإنساني نشأة مستقلة، في الزمن الذي علم الله أنّ ظروف الأرض تسمح بالحياة والنمو والترقي لهذا النوع، وهذا ما ترجحه النصوص القرآنية في نشأة البشرية، وتفرد الإنسان من الناحية البيولوجية والفسيولوجية والعقلية والروحية. هذا التفرد الذي اضطر الداروينيون المحدثون "وفيهم الملاحدة بالله كلية" للإعتراف به، دليل مرجح على تفرد النشأة البشرية، وعدم تداخلها مع الأنواع الأخرى في تطور عضوي.)[8 ]

وقال إبن كثير : ( وذلك انه تعالى لمّا خلق آدم عليه السّلام بيده من طين لازب ، وصَوَّرَهُ بشراً سوياً ونفخ فيه من روحه ، أمر الملائكة بالسـّجود له تعظيماً لشأن الله تعالى وجلاله، فسمعوا كلهم وأطاعوا إلآ إبليس لم يكن من الساجدين، وهذا الذي قررناه هو إختيار "إبن جرير" أنّ المراد بذلك كله آدم عليه السلام. وقال سفيان الثوري عن الأعمش بن عمرو عن سعيد بن جبير عن إبن عباس "ولقد خلقناكم ثم صورناكم" قال: خلقوا في أصلاب الرجال وصوروا في أرحام النساء... ونقل إبن جرير عن بعض السّلَف أيضاً أنّ المراد بخلقناكم ثم صورناكم: الذُّرِيَة.)[9 ]

وقال الأستاذ عبد الوهاب النّجار: (خلقنا أصلكم الذي نسلكم وكنتم من أبنائه ، فَخَلْقُنا لَهُ خَلْقٌ لَكُمْ.)[10 ]

3. من سورة الحجر.
(<>ولقد خَلَقْنا الإنسانَ مِنْ صَلْصالِ مِنْ حَمَإِ مَسْنونٍ  والجانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمومِ  وَإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إني خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنون  فَإذا سَوَيْتُهُ وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ روحي فَقَعوا لَهُ ساجِدْين  فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُهُمْ أجْمَعونَ  إلاّ إبليسَ أبى أنْ يَكونَ مَِعَ السّاجِدينَ<f11]

الصَلصال: هو المنتن من الطين. الحمأ: هو الطين الأسود المنتن. المسنون: هو المتغير. وجاء في "لسان العرب": (الصلصال من الطين ما لم يُجعل خزفاً، وكل ما جَفَّ من طينٍ أو فخار. والمسنون هو المُصَوَرَ وهو المتغير المنتن. والحمأ هو الطين الأسود المنتن. من حمأ مسنون أي متغير منتن)[12 ]
امّا أبوبكر الرازي فيقول: (الصلصال هو الطين الحر خُلِطَ بِالرّمل فصار يتصلصل إذا جف، فإذا طبخ بالنّار فهو الفخار، والحمأ هو الطين الأسود، والحمأ المسنون هو المتغير المنتن)[13 ]

قال الدكتورمحمد البهي: (الصلصال هو الطين اليابس الذي له رنين وصوت، والحمأ هو الطين الأسود المتغيّر، والمسنون هو المصوّر والمصبوب، أي صورنا هيكل هذا المخلوق المعهود من طين يابس طال اختلاطه بالماء حتى تغير واسود لونه)[ 14]

كما ورد في تفسير إبن كثير: (من سلالة من طين وهو آدم عليه السلام، خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون، وقال قتاده: إستلّ آدم من الطين، فإنّ آدم عليه السلام خُلق من طين لازب وهو الصلصال من الحمأ المسنون، وذلك مخلوق من التراب كما قال تعالى: [ومن آياته أن خلقكم من تراب ثمّ إذا أنتم بَشَرٌ تنتشرون][ 15])[ 16]

1. من سورة الكهف.
>وَإذ قلنا لِلْمَلائِكَةِ إسْجُدوا لآدَمَ فَسَجَدوا إلاّ إبْليسَ كانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ أفَتَتْخِذونَهُ وَذرِيَتَهُ أولياءّ مِنْ دوني وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌ بِئْسَ لِلظالِمينَ بَدَلاًt>)
[17 ]


2. من سورة "ص":
>وَإذ قالَ رَبُّكَ لِلمَلائِكَةِ إنّي خالقٌ بَشَراً مِنْ طينٍ  فَإذا سَوَيْتُهُ وَنَفَختُ فيهِ مِنْ روحي فَقَعوا لَهُ ساجِدينَ  فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلهم أجْمَعونَ  إلاّ إبْليسَ اسْتَكبَرَ وكانَ مِنَ الكافِرينَ
3. من سورة المؤمنون.
>وَلَقَدْ خَلَقنا الإنسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طين <)
[ 19]
وفيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال :
(إنّ الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأسود والأبيض وما بين ذلك، ومنهم الخرق والسهل وبين ذلك، وإنّما سمي آدم لأنه من أديم الأرض.)[ 20]

(1 ) النبهاني - تقي الدين، التفكير، صفحة 6،-- سيد سابق،العقائد الاسلامية،صفحة111---- القرطبي-محمد بن أحمد، تفسير القرطبي، صفحة294
(2) حتى بلغ الكفر والصفاقة والوقاحة فيه أن تبجح الصليبي"ريجان" الرئيسالسابق للولايات المتحدة ، على ما تناقلت وكالات الأعلام، بعد الحرب التي شنوها على العراق، بالإدعاء بأنهم هم الذين يتحكمون بالقدر.
(3) البقرة 32
(4) البقرة 31
(5) تقي االدين النبهاني، الشخصية الاسلامية ، ج3 صفحة 117.
(6) البقرة 30-34.
(7) الأعراف 10-11.
(8) سيد قطب، في ظلال القرآن، ج3، صفحة 1264-1265
(9) تفسير بن كثير ج2 صفحة 202-203
(10) عبد الوهاب النجار، قصص الأنبياء ، صفحة 2
(11) الحجر 26-31
(12) أبن منظور ، لسان العرب، ج11، صفحة 382
(13)الرازي- أبوبكر،تفسير الصحاح، صفحة 153 و 368
(14) د. محمد البهي، تفسير سورة الحجر، صفحة 19
(15) الروم 20
(16)تفسير ابن كثير ، ج3، صفحة 551
(17) الكهف 50
(18) ص 71-72
(19) المؤمنون 12
(20) رواه مسلم في صحيحه
(21) طه 50



الموضوع منقول من : موسوعة الخلق والنشوء، حاتم ناصر الشرباتي، 1424هـ / 2002م. مكتبة الايمان - المنصورة

حازم
01-05-2006, 08:07 PM
2. إبليس ومعركته مع الإنسان
سأل الله تعالى إبليس عن سبب امتناعه عن السجود لآدم، وقد أمره الله بذلك، فكان تعليل إبليس لذلك يتضمن الغطرسة والكِبَرَ والغرور والجموح، معللاً تمرده وعصيانه وخروجه من موكب الكون الحق السائر بطاعة الله والإنقياد له أنّ أصل نشأته خير من أصل نشأة آدم، فإبليس قد خُلق من نار، في حين أنّ آدم قد خُلِقَ من مادة الطين، والنّار أعلى مرتبة من الطين، فكان تعليله لِلأمرتعليلاً مادِيّا بحتاً، فقد تعرض في تعليله لبحث المادة التي تّمَّ منها الخلق، غاضّاً الطرف عن أنّ أيٍٍ منهم لم يقم بخلق نفسه، ولم يكن له الرأي أصلاً في إختيار المادة التي خلق منها، ودون النظر في تكريم الله لِلإنسان بإختصاصه فيما لا يدخل في مجال الجسد ـ أي العقل والإدراك والتمييز والعِلم ـ وذلك كافٍ لتفضيله على الملائكة وسائر المخلوقات.

إنّ عدم انصياع إبليس لأوامر الله الخالق المدبر، هو عصيان وتمرد على الذّات الإلهيّة، وصلف وتكبر وغطرسة وجرأة، وحقّ للعاصي الظالِم نفسه أن ينال عقوبة ما أثمت يداه، فأتى العقاب رهيباً على قدر حجم المعصية، إذ أوعِدَ النار والخروج من الجنة، لأنّ الجنة ونعيمها لا يكون للمستكبرين العصاة المتردين.

طلب إبليس من ربه إمهاله إلى يوم البعث والحساب، متوعداً ذريّة آدم ـ التي بسبب أبيهم لحقه ما لحق من غضب الله ـ متوعداً إياهم بالسّعي الدائب لغوايتهم وإضلالهم بالتزيين لهم بعصيان الله وعدم حمده وشكره وتسبيحه، فأنْظَرَهُ الله تعالى متوعداً إياه ومن تبعه من ذرية آدم بعذاب يوم عظيم.

خرج إبليس من الجّنَة حقيراً ذليلاً صاغراً مطروداً من رحمة الله، متوعداً آدم وذريته بقيادتهم للمعاصي والآثام، مزيناً لهم سوء الأعمال، مبعداً إياهم ما استطاع لذلك سبيلاً عن طاعة الله، صارفاً إياهم للشرك والإلحاد والكفر والضلال.

ويتوعد الله تعالى إبليس ومن إتبعه بالعصيان من ذرية آدم: إستخف وأبعد عن الصواب من استطعت، وأفرغ جهدك بكل ما استطعت من أنواع الإغراء..... شاركهم في كسب الأموال الحرام وفي صرفها في المعاصي والمنكرات.. ساعدهم وأنسالهم على الكفر، إغرهم وزين لهم الفساد والإفساد، زين لهم النفاق والكذب والفجور، قدهم إلى كل باطل وضلال، أبعدهم عن الحق ما استطعت، ويحذر رب العزّة محذراً البشر من ذرية آدم أنّه ما يعدهم الشيطان إلاّ الغرور والكذب والضلال . أمّا من أخلص من عباد الله المؤمنين فليس للشيطان عليهم من سبيل ، فلا سلطة ولا قدرة له على إغوائهم وإضلالهم إن أخلصوا النية وأخلصوا العمل وتوكلوا على الله خالقهم ومصورهم، وكفى بالله نصيراً.

أسكن الله آدم وزوجه حواء الجنّة، مبيحاً لهما أن يتمتعا بكل النّعم فيها، يأكلان ويشربان كل ما تشتهي أنفسهما من ثمراتها وخيراتها، إلاّ شجرة واحدة أمرهما ألا يقرباها، وألا يتذوقا ثمرها، إذ هي محرمة عليهم. وإن فعلا خلاف ذلك يكونا قد ظالمي نفسيهما بعصيانهما أمر ربهما إذا خالفا أمره، أي أنهما قد وضعا أمام إمتحانٍ يترتب عليه تقرير مصيرهما، مما يترتب عليهما في حالة المخالفة والعصيان جزاء وعقاب.

(لم يخبرنا النّص القرآني ما نوع تلك الشّجرة، فقال بعضهم: الحنطة "القمح" وقال آخرون: شجرة التفاح. وقيل: هي الكرمة، لـذا حُرّمَ علينا الخمر. وقيل هي السّنبلة وقيل هي شجرة التين. وقال إبن عطية: وليس في شيْ من هذا التعيين ما يَعْضُدُهُ خبَر، وإنّما الصّواب أنْ يُعْتَقد أنّ الله تعالى نهى آدم عن شَجَرَةٍ فخالَفَ هو إليها وعصى في الأكل منها.)[ 1] وما دام القرآن لم يعلمنا ماهي تلك الشجرة الممنوعة، فليس لنا محاولة التَكهن عن ماهيتها، ولا يعنينا من أمرها شيْ. والله تعالى أعلم.

لقد كان موضوع الشجرة المحرمة على آدم وزوجه هي أول منفذٍ لإبليس ينفذ منه إلى إغواء آدم وزوجه قبل أن يبدأ في إغواء نسلهما مستقبلاً، لذا فقد سٌرَّ إبليس به واغتنمها فرصة إشفاء غليله بغواية عدوه آدم وزوجه ولينتقم منهما، فأخذ يُفْرِغ جهده بالتّزيين لهما، والتّزلف لكليهما، بإقناعهما بالأكل من تلك الشّجرة المحرمة عليهما.

كان من ضمن الوسائل التي توسل بها الشيطان لهما لحثهما على العصيان وسيلة الإغراءات بأنّ تلك الشجرة هي شَجَرَة الخلد والنّعيم المقيم الذي لا يفنى، وأنّ منع الله لهما من الأكل منها كان لئلا يصبحا مَلَكَين، ولئلا يخلدا في الجنة ذات الخيرات والنعم الكثيرة، ولكي يصدقاه فقد أقسم على أقواله بمختلف الأيمان المغلظة، مُقْسِماً على أنّه لهما النَاصح الأمين.

ومن كثرة إلحاح الشيطان عليهما، وحتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فقد نسي آدم وحواء أنّ إبليس هو في حقيقته عدوهما اللدود الحاقد إلى يوم البعث والحساب، وأنّه لا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يكون لهما النّاصح الأمين، فوقعا في مكائد الشيطان عدوهما، وعصيا أمر ربهما بأكلهما من الشّجرة المحرمة عليهما. ولمّا تذوقا طعمها تكشفت لهما عورات أنفسهما، فطفقا يجمعان من أوراق الجنّة ليواريا عوراتهما، فناداهما ربهما مؤنباً وزاجراً لهما عصيانهما:
﴿ألم أنهكما عن تلكما الشّجَرَةِ وَأقُلْ لكما أنّ الشَيْطان لكما عدوٌ مُبين﴾
[2 ] عندها أحَسّا بحجم مَعصِيَتِهما وسوءَ ما قَدْ فَعَلا، وَشَعَرا حجم معصيتهما بمخالفة أمر ربهما، فأخذهما النّدَم الشَّديد، وتوجها تائبين مبتهلين متضرعين إلى الله ربهما أن يتوب عليهما ويرحمهما ويغفر لهما مخالفتهما وعصيانهما: (﴿قالا ربنا إنّا ظلمنا أنفسنا وإنْ لّمْ تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾) [3 ]

قَبِلَ الله التّواب الرّحيم تَوْبَة آدم وحواء فغفر لهما: (﴿فَتَلقى آدم من ربه كلمات فَتاب عَليه﴾)[4 ] والإنسان خَطاء، وللخطأ والعصيان ـ حتى الإسراف بهما وحتى الكفر ـ علاج هو التّوْبَة. فالتوبة تغسل المعصية، والعاصي التائب مغفور الذّنب، فالإنسان لم يخلق آثِماً، ولم يلاحقه إثم ما صنع أبَواه، فَأبَواهُ قَدْ تابَ اللهُ عليهما، غَفَر لهما ذنبهما، ولن يأخذ الله الأبناء بذنب الآباء أبداً. قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: (كُلّ بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)[ 5] وذلك مطابق لقوله تعالى: (
قل يا عِبادِيَ الذينَ أسْرَفوا على أنْفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إنّ الله يَغفِرُ الذّنوب جميعاً، إنّهُ هُوَ الغفور الرّحيم
)[6 ]

بعد أن تاب الله على آدم أنزله وزوجه حواء من الجنة إلى الأرض، وأخبرهما أنّهُ سَيَكون بين نسلهما عداء لبعضهم البعض، وأنّ سكناهم منذ اليوم سيكون الأرض يعمرونها ويتمتعون بها مُسْتَخلفين فيها، ومُسّخرة ومن بها ومن عليها ولذرياتهم من بعدهم، إلآ أنّ تلك السُّكنى في الأرض سَتَكون إلى حين من الزّمَن، أي أنّها سَتَكون سُكنى عابِرَة لحين إنتهاء أعمارهم المقدرة عليهم، وأنّ الله سَيُزَوِدَهُم بِالهُدى والرَشاد، فمن سار على الدّرب القويم وهُدى الله تعالى فلن يقع في المآثِم والذُنوب ولن يشقى بها، وسيحيون ويموتون فيها، ومنها سَيُبعَثون يوم الحساب، حيث سيجزى كل منهم جزاء ما قدّمت يداه، خيراً كان أم شَراً. وسنستعرض إن شاء الله بعض النّص القرآني لتلك الحادثة:

1. من سورة البقرة : ( 35-38)

﴿ وَقلنـا يا آدَمُ إسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذهِ الشَّـجَرّةَ فَتَكونا مِنَ الظالمين  فَأزَلَهُمـا الشّـَيْطانُ عَنْها فَأخْرَجَهُما مما كانا فيهِ وَقُلنا إهبطـوا بَعْضُكُم لِبَعضٍ عَدُوٌ وَلَكُـمْ في الأرضِ َمُسْتَقَرٌ وَمَتاعٌ إلى حينْ  فَتَلقى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْـهِ إنّهُ هُوَ التَّوابُ الرَّحيمُ  قُلنا إهْبِطوا مِنْها جَميعاً فَإمّا يَأتِيَنّكُم مِني هُدىً فَمَـن تَبِعَ هُدايَ فلا خَوفٌ عَليْهِم ولا هُمْ يَحْزَنونَ ﴾

2. من سورة الأعراف ( 12-25 ) .

﴿قالَ ما مَنَعَكَ أن تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ قالَ أنا خَيْرٌ مِنْهُ خلقْتَني مِنْ نارٍ وَخلقْتَهُ مِنْ طين  قالَ فَاهْبِط مِنْها فَما يَكونُ لَكَ أنْ تَتَكَبّرَ فيها فَاخْرُج إنّكَ مِنَ الصّاغِرينَ  قالَ أنْظِرني إلى يَوْمِ يُبْعَثونَ  قالَ إنّكَ مِنَ المُنْظَرينّ  قالَ فَبِما أغوَيْتَنيَ لأقعُدَنَّ لَهُم صِراطَكَ المُسْتَقيم  ثُمَّ لآتِيَنَهُم مِن بَيْنِ أيْدِيَهُمْ وَمِنْ خلفِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أكْثَرَهُمْ شاكِرينَ  قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذموماً مَدْخوراً لَمَنْ تَبَعَكَ مِنْهُمْ لأمْلًئَنَّ جَهَنَمَ مِنكُمْ أجْمَعينَ  وَيا آدَمُ اسْكُن أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ قَتَكونا مِنَ الظالِمينَ  فَوَسْوَسَ لهُما الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لهُما ما وورِيَ مِنْ سَوْءاتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُكُما عَنْ هذه الشَّجَرّةِ إلآ أنْ تَكونا مَلَكَيْنِ أوْ تَكونا مِنَ الخالِدينَ  وَقاسَمَهُما إنّي لَكُمْ لَمِنَ النّاصِحينَ  فَدَلاهُما بِغُرورٍ فَلَمّا ذاقا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْءاتُهُما وَطَفَقا يَخصِفانِ عَليْهما مِنْ وّرَقِ الجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما ألَمْ أنْهّكُما عَنْ تِلْكُما الشَّجَرَةِ وَأقُلْ لَكُما إنَّ الشَيْطانَ لَكُما عَدُوٌ مُبينٌ  قالا رَبّنا ظّلَمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمَنا لَنَكونّنَّ مِنَ الخاسِرينَ  قالَ اهْبِطوا مِنها بَعْضٌكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌ وَلَكُمْ في الأرْضِ مَتاعٌ وّمُسْتَقَرٌ إلى حين  قالَ فيها تَحْيونَ وَفيها تَموتونَ وَمِنْها تَخرُجونَ ﴾

2. من سورة الكهف ( 50-51).


﴿وَإذْ قُلنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجدوا لآدَمَ فَسَجَدوا إلآ إبْليسَ كانَ مِنَ الجِنِِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّـهُ أفَتَتَخِدونَهُ وَذُرِيَتَـهُ أوْلِياءَ مِنْ دوني وَهُمْ لكُمْ عَدُوٌ بِئْسَ لِلْظالِمينَ بَدَلاً  ما أشْـهَدْتُهُمْ خلقَ السَمَوات والأرْضِ ولا خلقَ أنْفُسِهِمْ وما كُنْتُ مُتّخِذَ المُضليـنَ عَضُداً ﴾

3. من سورة "ص" ( 75-83 )

﴿قالَ يا ابليسُ ما مَنّعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ إسْتَكبَرْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ العالينَ  قالَ أنا خَيْرٌ مِنْهُ خَلقْتَني مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طينٍ  قالَ فَاخْرُجْ فَإنَّكَ رَجيمْ  وَإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِيَ إلى يَوْمِ الدّينِ  قالَ رَبِّ فَأنْظِرْني إلى يَوْمِ يُبْعَثونَ  قالَ فَإنَكَ مِنَ المُنْظَرينَ  إلى يَوْم الوَقْتِ المَعلومِ  قالَ فَبِعِزَتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أجْمَعينَ  إلآ عِبادَكَ مِنْهُمُ المُخلَصينَ﴾

4. من سورة الإسراء ( 61-65 ).

﴿وَإذْ قُلنا لِلمَلائِكَةِ إسْجُدوا لآدَمَ فَسَجَدوا إلآ إبْليسَ قالَ أأسْجُدُ لِمَنْ خلَقْتَ طيناً  قالَ أرأيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَليَّ لَئِنْ أخَرْتَنِِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ لأّحْتَنِكَنَّ ذرِّيَتَهُ إلآ قَليلاً  قالَ إذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤكُمْ جَزاءً مَوْفوراً  وَاسْتَفْزِزْ مَنِ أسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَاجْلِبْ عَليْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجْلِكَ وَشارِكْهُمْ في الأمْوالِ والأوْلادِ وَعِدْهُمْ وما يَعِدُهُمً الشَيْطانِ إلآ غُروراً  إنَّ عِبادي ليسَ لّكّ عَليْهِم مِن سُلطانٌ وكفى بِرَبِكَ وَكيلاً﴾

5. من سورة طه ( 115-123 ).

﴿وَلقَد عَهِدْنا إلى آدَمَ مِن قَبلُ فَنَسِيَ وَلم نَجِد لهُ عَزماَ  وّإذ قُلنا لِلملائِكَةِ اسجُدوا لآدَمَ فَسَجَدوا إلآ إبليسَ أبى  فَقُلنا يا آدّمُ إنَّ هذا عَدُوٌ لَكّ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخرِجَنَّكَ مِنَ الجَنَّةَ فَتَشْقى  إنَّ لَكَ ألآ تَجوعَ فيها وَلا تَعْرى  وَأنَّكَ لا تَظْمؤا فيها وًلا تَضْحى  فَوَسْوَسَ إليهِ الشَّيطانُ قالَ يا آدَمُ هَل أدُلُكَ عَلى شَجِرَةِ الخُلدِ وَمُلكٍ لا يَبْلى  فَأكلا مِنها فَبَدَتْ لهُما سَوءاتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى  ثُمَّ إجتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى  قالَ إهْبِطا مِنْها جَميعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌ فَإمّا يَأتِيَنَّكُمْ مِني هُدىً فَمَنْ إتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى ﴾

استعرضنا فيما مرّ قصّة آدم عليه السّّلام ومعركته مع إبليس، كما قصّها علينا رب العزة في محكم التّنزيل، إنها قصّة الإغواء ونوازغ الوسوسة، إبتدأها إبليس مع أول البشر وأبيهم ، وإستمرّ بها ولا زال مع ذريته، بدءاً بقابيل وهابيل إبني آدم، وسيستمر بها إلى يوم القيامة، يبين لنا النّص القرآني وقائع الحدث بتسلسل جميل، لا لنضيف إلى علمنا معلومة جديدة، ولا لنزيد قصصنا قصة أخرى مشوقة، بل ساقها إلينا لنتذكر فنعتبر، فإبليس يعمل جاهداً لغواية البشرية ما استطاع لذلك سبيلاً، وجنود إبليس دائبون جاهدون بهمة لا تفتر ونشاط مستمر في إغواء البشر وإضلالهم وصرفهم عن السير في موكب الكون الحق السائر في طاعة الله وتسبيحه... فقد كذَبَ الناس الرُّسُل، وعصوا الله ربهم، والحد وكفر بالله وأنعمه عليهم أناس، وادعى النبوة والإلوهية آخرون، وآخرون أنكروا الخلق رغم شواهده الماثلة أمام أعينهم، وآخرون عللوا وجود أنفسهم والمخلوقات جميعاً بالصّدفة العشوائية، وعللوا النّمو والتكاثر بالتطورالمادي... كل هؤلاء واولئك هم أتباع إبليس وجنوده، كما أنّ من أتباعه الكاذب والمنافق والزاني وآكل الرّبا وموكله والعلماء المفتون بجوازه... ومشايخ السّلطان الذين يقولون على الله الكذب... وأول أتباعه وجنوده وأصفقهم وجهاً من أنكر وجود الله تعالى وأنكر الخلق وكذّب الرُّسُل.

ولا أرى موجباً في هذا البحث المحدد الهدف أن نتناول بالتَّفصيل والإسهاب شرح هذه الآيات الكريمات، فقد أوفت كتب التّفسير كل آيات القرآن الكريم حقها من التّفسير، فعلى من رغب الإستزادة والتّفصيل العودة إلى كتب التّفسير وهي كثيرة وفي متناول يد الجميع.

.................................................. .................................................
1. تفسير القرطبي ، المجلد الأول ، صفحة 305
2.الاعراف 22
الأعراف 23
3. البقرة 37
4. سنن الترمذي 2499
5. الزمر 53

حازم
01-09-2006, 03:23 PM
3. خلق الزوجة (حواء)


قال تعالى:
﴿وَمِنْ آياتِهِ أنْ خلقَ لكُم مِنْ أنْفُسِكُم أزواجاً لِتَسْكُنوا إلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، إنَّ في ذلِكَ ‍لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكرون ﴾[ 1]
وَقالَ تَعالى :
﴿هُوَ الذي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إلَيها ﴾[ 2]
وقالَ رَسول الله صلى الله عليه وسلّم: (خلقت المرأة من ضلعِ أعوج فإن تنقمها تكسرها وإن تتركها تستمع بها على عوجها)[3]

قال المفسرون: (لمّا أسكنَ الله تعالى آدم الجنّة كان يمشي بها وَحْشِياً،[ 4] لم يكن له من يجالسه ويؤانسه، فألقى الله عليه النّوم، فأخذ ضِلعاً من أضلاعِه من شِقِهِ الأيسَرَ يقال له "القيصري" فخلق منه حواء من غير أن يحسَّ آدم بذلك ولا وجد ألماً، ثم ألبسها من لباس الجنَّة وزيّنها بأنواع الزّينة، وأجلسها عند رأسه، فلما هبَّ من نومه رآها قاعدة عند رأسه، فسألته الملائكة يمتحنون علمه: ماهذه ياآدم؟ فقال : إمرأه، ولما سألوه عن اسمها قال: حوّاء. ولما سألوه: لمن خلقها الله؟ قال: لتسكن إلي وأسكن إليها...)[5 ]

إن الله تعالى قد خلق "حواء" لتكون "زوجَة" لآدم، يسكن إليها وتسكن إليه. وبالتالي ليبدأ الفصل الثاني من نظام الخلق الذي سنَّهُ الله تعالى، الآ وهو التزاوج والتناسل، الذي فَرَضَهُ الله تعالى القانون الوحيد الذي يتم به وحده خلق الإنسان بعد خلق آدم وحواء، ولم يُخرج عن هذا القانون إلا "عيسى بن مريم عليه السَّلام" لحكمة أرادها الله تعالى.

لقد خلق الله الإنسان "الرَّجل والمرأة" في فطرةٍ معينةٍ تمتاز عن الحيوان، فكلاهما إنسان لا يختلف أحدهما عن الآخر في الإنسانية بشيْ، ولا يمتاز أيّ منهما بأيِّ إمتياز من إمتيازات الإنسانية مطلقاً، لذا فقد هيأهما الله سوية لخوض معترك الإنسانية في مجتمع واحد وجعل بقاء النَّوع الإنساني متوقفاً على إجتماع الرّجل والمرأة في مجتمع واحد، وقد خلق الله في كلِ منهما طاقات حيوية هي نفس الطاقات الموجودة في الأخر، وأودع في نفس كل منهما الرّغبة لإشباع جوعات وثورات تلك الطاقات، كما أودع في نفس كل منهما القابلية لإثارة تلك الطاقات لتتطلب الإشباع، وأياً كان نوع تلك الطاقات فقد أودعها الله في كليهما.

والطاقات الكامنة في نفس الإنسان نوعان، تبعاً لنوعية الإثارة ـ من داخلية وخارجية ـ وتبعاً لحتمية ألإشباع من عدمه حين تتطلبه، وتبعاً لما ينتج في حالة عدم الإشباع إثر تطلبه وهي نوعان :

1. الحاجات العضوية: مثل الجوع والعطش وقضاء الحاجة.
2. الغرائز: التي تقسم بدورها إلى ثلاث أنواع : [غريزة التدين. غريزة النوع. غريزة حب البقاء]

والغرائز جميعها هي كامنة في كليهما، فهي موجودة في المرأة كما هي موجودة في الرّجل، وبنفس الصفة والنوعية، كما أنّ في كليهما القدرة على التفكير بنفس القوة، فالعقل الموجود في أيٍ منهما هو نفس العقل الموجود في الآخر.

إلآ أنَّ "بقاء النوع الإنساني" الذي هو من الأهداف العليا لصيانة المجتمع التي حافظ عليها الإسلام، قد حُصِرَ في إجتماع الرّجل والمرأة؛ فغريزة النوع وإن أمكن أن يشبعها ذكر من ذكر "لواطاً" أو أنثى من أنثى "سحاقاً، إلا أنّ مثل هذا الإشباع ـ وإن تَمَّ ـ لا يمكن مطلقاً أن يؤدي الغاية التي من أجلها وُجِدّت تلك الغريزة في الإنسان، إلا في حالة واحدة هي أن يشبعها الذكر من الأنثى وأن تشبعها الأنثى من الذكر.

.................................................. .................................................. .................................................. ................
1- الروم - 21
2- الأعراف -189
3- العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، 9:252 > : تفسير القرطبي 1: 302
4- أي استوحش وحنّ إلى الرفيق.
5- القصة مستوحاة من : النيسابوري، قصص الأنبياء، الصفحات: 29-35 >: إبن كثير، البداية والنهاية 1:74 >: القرطبي، التفسير، 1:301-302

حازم
01-09-2006, 03:24 PM
4. . خلق الزوجة (حواء) - 2 -

لــــذا فإنّ صلة الزوجية من الناحية الجنسية هي الصلة الطبيعية التي لا غرابة فيها ، والتي تمت حكمة الله تعالى أن تكون قانون وجود النوع الإنساني، فهي الصلة الأصلية التي بها وحدها يتحقق الغرض من ايجاد الغريزة، ألا وهو بقاء النوع الإنساني. فإذا وقعت بينهما هذه الصلة على شكل الإجتماع الجنسي كان ذلك بديهياً ومنطقياً وطبيعياً وبعيداً عن الغرابة، بل كان مثل هذا الإجتماع أمراً حتمياً ولازماً لتحقق بقاء النوع الإنساني، إلا أنّ إطلاق هذه الغريزة هو أمر مضر للإنسان وحياته الإجتماعية.

ونظرة الإسلام إلى الغرض من وجود الغريزة أنَّه: "النّسْل لبقاء النوع الإنساني"، لذا فقد وَجَّهَ الإنسان لجعل نظرته لتلك الغريزة منصبَّة عل الغرض الذي وُجِدَت من أجله في الإنسان، وشدد على حصر النظرة بهدف بقاء النوع الإنساني لدى كل من الرجل والمرأة، بغض النظر عن اللذة والإستمتاع الحاصلتين طبيعياً وحتمياً نتيجة الإشباع.

وبما أنّ الإسلام يعتبر أن لا صلاح لأي جماعة إلآ بتعاون أفرادها - ذكوراً وإناثاً – بإعتبارهما أخوَين مُتضامِنَيْن تضامن مودة ورحمة، لذا فقد أكّدَ الإسلام على ضرورة ايجاد مفهومٌ عند الناس – ذكوراً وأناثاً – عن كيفية إشباع غريزة النوع وعن الغاية من وجودها، فأنشأ لهم نظاماً إجتماعياً متميزاً، يُزيل تسلط مفاهيم الإجتماع الجنسي، بجعلها أمراً طبيعياً وحتمياً للإشباع لأجل تحقق النسل والتكاثر، كما يزيل مفهوم حصر تلك الصلة باللذة والإستمتاع، وبالتالي يجعلها نظرة تستهدف مصلحة الجماعة بالتناسل والتوالد.[1 ]

وباستعراض بعض النصوص القرآنية التي تناولت الموضوع، نرى أنها أتت منصبة على "الزوجيّة" مما يثبت أن خلق الغريزة وايداعها في الإنسان ذكره وأنثاه كان أصلاً لأجل هدف سام هو: الزوجية للنسل والتكاثر بهدف بقاء النوع الإنساني. قال تعالى:

﴿هُوَ الذي خلَقَكم مِنْ نَفْسِ واحدةٍ، وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكنَ إلَيها، فَلمّا تَغَشاها حَمَلتْ حَمْلاً خفيفاَ فَمَرَت بِهِ، فَلمّا أثقلت دَّعَوا اللهَ رَبَهما لئِن آتَيْتَنا صالِحاً لنَكونَنَّ مِنَ الصّالحينّ﴾ [2 ]

﴿يا أيُها النّاس اتقوا رَبَكُم الذي خَلقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثيراً وَنِساءً واتقوا اللهَ الذي تّسآءَلونَ بِهِ وَالأرْحامَ إنَ اللهَ كانَ عَليْكمْ رَقيبا ﴾3 ]

﴿وَلَقَدْ أرْسَلنا رُسُلاً مِنْ قَبلِكَ وَجَعَلنا لهُمْ وَذُرِيَةً﴾ 4 ]

﴿وَاللهُ جَعَلَ لكمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ أزواجاً، وَجَعَلَ لكمْ مِنْ أزواجِكمْ بَنينَ وَحَفَدَةً ﴾ [5 ]

﴿وَمِنْ آياتِهِ أنْ خلقكم مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إذا أنتمْ بَشَراً تَنْتَشِرونَ  وَمِنْ آياتِهِ أنْ خلقَ لكمْ مِنْ أنفسِكمْ أزْواجاً لِتَسْكنوا إليْها وَجَعَلَ بَيْنَكمْ مَوَدَةَ وَرَحْمَةً إنَّ في ذلِكَ لآياتٍ لِقوْمٍ يتفكرونَ﴾ [ 6]

﴿فاطِرُ السَّمَواتِ والأرْضِ جَعَلَ لكمْ مِنْ أنْفُسِكمْ أزْواجاً وَمِنَ الإنْعام أزْواجاً﴾ [7 ]

﴿وَانَّهُ خلق الزَوْجَينِ الذكرَ والأنثى  مِنْ نُّطْفَةٍ إذا تَمَنّى ﴾)[8 ]

إنَّ الله تعالى قد سلط الخلق على الزوجين الذكر والأنثى من ناحية الزّوجيّة، وحصر التوالد والتكاثر بين البشر بها، هذا هو قانون الخلق الوحيد الذي به وحده يخلق ويوجد أي إنسان، وهو المفهوم الوحيد الذي غرسه في أذهان البشر، وكرر ذلك حتى يظل المفهوم والنظرة إلى الصلات بين الذكر والأنثى منصبة على الزوجيّة أي على النّسل لبقاء النوع الإنساني، نفياً ومبطلاً أي نظرة أو مفهوم يخالف ذلك.

وبدراستنا لواقع العيش في المجتمع الجاهلي في الجاهليّة الأولى، وهي الفترة التي سبقت الإسلام، وأحوال المرأة بالذات، نجد واقعها أنها كانت متاعاً أو كالمتاع، لاتملك من أمر نفسها شيئاً، ولا يُعْتَرَفُ لها برأيٍ أو إرادةٍ أو مشورةٍ حتى في شؤونها الخاصة، وقد كانت نظرة الزراية بها والهضم لحقوقها والنفي لشخصيتها تسود العالَمَ أجمع، وليس عند العرب فقط، فكانوا يكرهون أن يرزقوا الإناث. قال تعالى:

﴿وَإذا بُشِّرَ أحَدُهُمْ بِالأُنثى ظلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كظيمٌ  يَتَوارى مِنَ القوم مِنْ سوءِ ما بُشِّرَ بهِ أيُمْسِكهُ على هَوْنٍ أمْ يَدَسُّهُ في التُرابِ ألا ساءَ ما يَحْكمونَ﴾ [ 9]
.................................................. .................................................. .................................................. .................1- هذا البحث منقول بتصرف عن كتاب " النظام الاجتماعي في الاسلام" للعلامة تقي الدين النبهاني، الصفحات 18-21
2- الأعراف 189
3- النساء 1
4- الرعد 238
5- النحل 72
6- الروم 20-21
7- الشورى 11
8- النجم 45
9- النحل 58- 59
.................................................. .................................................. .................................................. ................
الموضوع منقول من : موسوعة الخلق والنشوء، حاتم ناصر الشرباتي، 1424هـ / 2002م. مكتبة الايمان - المنصورة

حازم
01-09-2006, 03:25 PM
5 . خلق الزوجة (حواء) - 3-


إنَّ الإسلام قد نظر إلى الإنسان "رجلاً كان أم إمرأة" أنّهُ إنسان فيه الغرائز والميول وفيه العقل والإدراك أيضاً، وأباح وهيأ ومكن الإنسان التمتع بلذائذ الحياة، ولكن على وجه يحفظ الجماعة والمجتمع، ويؤدي إلى تمكين الإنسان من السّير قدماً لتحقيق سعادة وهناء الإنسان داخل مجتمع متوازن تسوده الطمأنينة وتحكمه السنن والقوانين والضوابط الموافقة للفطرة التي اودعت بالإنسان. وبما أنّ حفظ النوع الإنساني من أهداف الإسلام العليا لصيانة المجتمع، ولأجل تحقق تلك الأهداف والغايات أتت ضرورة وحتمية الحفاظ على النَّسب، وبناء عليه فقد حصر الإسلام صلة الجنس بالزواج أو ملك اليمين. وللحفاظ على النسب وللحيلولة دون اختلاطه، فقد سَنَّ الأنظمة والأحكام التي تكفل المجتمع من اختلاط النّسب وتلك التي تكفل الحفاظ عليه، بجعل كل صلة أو علاقة تخالف ذلك وتخرج عنه جريمة تستوجب أقصى أنواع العقوبات الرادعة، ولبشاعة تلك الجرائم وخطورتها على المجتمع وحتى تكون العقوبات زاجرة رادعة، فقد سُنت ضمن الحدود التوقيفية التي لا يجتهد في مضمونها، محذراًَ من الرأفة والرَّحمة لمرتكبوا تلك الجرائم، قال تعالى:

﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كلَّ واحِدٍ منهما مائَةَ جَلدَةٍ ولا تَأخذكم بهما رّأفَة في دين الله إنْ كنتم تُؤمنونَ باللهِ وَاليَوْمَ الإخِرَ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ﴾ [1 ]

من هنا يتبين مدى الفرق الشاسع بين نظرة الإسلام للإتصال الجنسي المنبثق عن نظرته لطبيعة الغريزة الكامنة في الإنسان ذكره وانثاه ولطرق اشباعها، ونظرته للمرأة نفسها وللناحية الزوجية التي تقتضيها وتفرضها طبيعة وجودها مع الرجل في مجتمع واحد؛ وبين نظرة الجاهلية الحديثة، فإنَّ كل وجهات نظر الجاهلية الحديثة ومفاهيمها: مسلطة على الناحية الجنسية وكيف نستمتع بها، بل وكيف نكثر من إنتهال المتعة واللذة. وبناء على تسليطهم على الناحية الجنسية فقط كوسيلة للمتعة واللذة وكهدف وغاية ، فمن الطبيعي أن يترتب على ذلك نظرة للمرأة أنها بوتقة لإشباع الرّغبات الجنسية، لا بل وسيلة من وسائل الإثارة والايقاع واشباع الشهوات الجنسية، صاحب ذلك اعتبارهم أنَّ عدم إشباع الغريزة بالجنس المطلق بلا ضوابط، وعدم اطلاق العنان لممارسته يشكل خطر على الصحه والعقل، وكبتٌ للغريزة التي لا بد من اطلاقها، وبما أنهم فهموا أنَّ وظيفة المرأة في ذلك هو الإستمتاع بها والإثارة، كان الحل الوحيد في نظرهم للمشكلة هو ايجاد المناخ المناسب للإثارة لدى كل من الرجل والمرأة بكل الوسائل المتاحة.

وبما أنّ عقولهم قد قصرت وعجزت عن إدراك السّبب الذي من أجله خلقت الغريزة في الإنسان وهو بقاء النوع الإنساني، بالعلاوة على اعتقادهم بحيوانية الإنسان، فإنهم بالتالي قد فهموا العلاقة بين الرجل والمرأة من ناحية جنسية في شكلها البدائي الحيواني، لذا فلا مانع عندهم لا بل من الطبيعي والبديهي والمنطقي – ما دام الجنس وممارسته قد أصبحا لديهم هدفاً يُسعى إليه لتحقيق اللذة والنشوة والإستمتاع – أن يُمارَسَ الجنس بصورة حيوانية منحطة، ما دام يفي بالمطلوب ويحقق الغاية ويوصل للإشباع، فمن الطبيعي أن يُمارَسَ الجنس بصورةٍ شاذة، كأن يمارسه رجل مع رجل، أو أن تمارسه انثى مع انثى، أو إتيان المرأة في غير موضع الحَرْث "موضع الحمل والتناسل".

لقد أثبتوا بذلك نظرية التطور!!! إذ طوروا الإنسان رجعياً، فحتى الحيوان البهيم الغير عاقل، والذي تطور الإنسان بزعمهم من نسله، لم ينحط إلى درجة الشذوذ بأن يواقع الذكر منه الذكر، أو أن تواقع الأنثى منه الأنثى، أو أن يواقع الذكر منه أنثاه في غير موضع التناسل، إلا في حالات نادرة.

قال تعالى :
﴿ وَيَسْئَلونَكَ عَنِ المَحيضِ قلْ هُوَ أذىً فَاعَتَزِلوا النِساءَ في المَحيضِ ولا تَقرَبوهُنَّ حَتّى يَطهُرْنّ فَإذا تَطهَرْنَ فَأتوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكمُ اللهُ إنَّ اللهَ يُحِبُّ التوابينَ وَيُحِبُّ المتَطهرينَ  نِساؤكمْ حَرْث لكم فَأتوا حَرْثكم أنى شِئْتُم وَأتْقوا اللهَ وَاعلموا أنكم ملاقوهُ وَبَشِّرِ المؤمنين﴾
[2 ]

لقد كان خلق حواء الزوجة كما فهمه أدم عليه السلام، وكما علمه الله تعالى، لتسكن إليه ويسكن إليها، أي للزوجية التي تعني السّكن والمودة والرحمة، كما تعني التلاقح والتزاوج، والإشباع الصحيح لجوعات الغرائز وثوراتها، والمنتجة للنسل والذرية والنسب، ولايجاد النسل الإنساني، وللمحافظه على بقاء النوع الإنساني واستمرار وجوده، هذا النوع الذي سيحمل الأمانة والإستخلاف في الأرض، ولينتظم في موكب الكون السائر في طاعة الله وعبادته. وليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
.................................................. .................................................. .................................................. .................
(1) النور: (2)
(2) البقرة: (222-223)
.................................................. .................................................. .................................................. .................
الموضوع منقول من : موسوعة الخلق والنشوء، حاتم ناصر الشرباتي، 1424هـ / 2002م. مكتبة الايمان - المنصورة

حازم
01-12-2006, 09:23 PM
6- مولد عيسى بن مريم


لقد جعل الله تعالى سنته في الخلق والميلاد قائمة على قانون الزوجيّة، فشاءت قدرته تعالى الا يولد إنسان إلا بإختلاط مائي الرّجل والمرأة، ومرور هذا الإختلاط بالأطوار اللازمة لِتَكوُّنَ المخلوق في حَمْلٍ تحمله إمرأة، ثُمّ تَكوّن الجنين في رحمها بتزاوج وتلقيح.

هذه هي السُّنَة التي سَنَّها الله تعالى قانوناً وناموساً لازِماً في خلق الإنسان – كل إنسان – لا ولن يتخلف عن ذلك ولم يسبق تخلف حالة واحدة، فلا يمكن أن يوجَدَ إنسان إلا بتلك الطريقة. إلا أنَّ مشيئة الله وقدرته إقتضت أن يُخلقَ آدَمُ أوّلَ البشر مِنْ تُرابٍ أمْراً مُخالِفاً لِتِلْك القاعدةِ، وَانْ تُخلقَ حَواء مِنْ ضِلع آدَمَ الأيْسَرَ أمْراً آخَرَ مُخالِفاً لِذلكَ الناموس. وَإسْتَمَرَّ تَكوّنُ وايجاد الجِنس الإنساني بطريقة المُعاشَرَة والتزاوج بين ذكر وانثى، ليتم اختلاط المائين معاً،ً والتلقيح في رحم الأنثى التي تحمل في أحشائها ذلك الجنين الذي كان ثمرة إتصال جنسي بين ذكر وأنثى، لتحمله قدَراً مَعلوماً، يخرج بعدها بعملية ولادة بشراً سوياً.

إلآ أنَّ ميلاد نبي الله عيسى عليه السّلام، قد تم بطريقة خالفت تلك القاعدة وشذت عنها، فلم تتم بقانون الخلق وناموسه، إذ سبقت إرادته وحكمته تعالى أن يأتي هذا المولود إلى الدنيا بطريقة خارقة للقاعدة والقانون، ليخالف ميلاده الشريف ميلاد جميع من أتى قبله وجميع من سيأتي بعده مستقبلاً من البشر، أي بمعجزة تكون آية أخرى من آيات الله لتدلل على قدرته في الخلق، فكان ميلا د عيسى عليه السّلام بعملية "ولادة بدون أب Partheno senis" إذ أتى ميلاده الشريف المبارك من أم حملت به بدون أي إتصال جنسي مع رجل، فكان الحمل والميلاد من أم عذراء[1 ] بتول[2 ] لم يمسسها بشر مطلقاً، فلم يمتزج ماؤها بماء رجل بتاتاً، لِيُذكرّ الله تعالى الناس جميعاً: أنَّ مَنْ خَلقَ عيسى قد خلق من قبلِهِ آدَمَ بدون أم ولا أب. وفي ذلك قوله تعالى:
﴿إنّ مثل عيسى عِنْد الله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قالّ كن فيكون ﴾ [3 ]

وإذا تجاوز البشر حادث خلق الإنسان أصلاً وإنشاءه على هذه الصورة، فإنَّ ميلاد عيسى عليه السلام يكون أعجب ما شهدته البشرية في تاريخها الطويل. إذ هو حادث لم تعهده البشرية لا من قبل ولا من بعد، والإنسان لم يشهد خلق نفسه، وبالتالي لم يشهد خلق أول إنسان من غير أبوين، واعتاد البشر على مر التاريخ، ومن خلال تعاقب الدّهور والأيام أن يروا الخلق والتكوين يأتي مشاهداً بالسُّنَة المعهودة والطريقة الثابتة، فلم يعهدوا أن يأتي إنسان كائنا من كان إلى هذه الحياة الدنيا بلا اتصال جنسي بين رجل وامرأة، أي بين ذكر وأنثى. فأتت المعجزة الإلهية تبرز العجيبة الثانية في مولد عيسى بن مريم من غير أب ..... من أم عذراء بتول لم تمارس الجنس مطلقاَ ولم يمسسها بشر ، وذلك مخالف وخارق للعادة التي جرت منذ وُجِدَ الإنسان نفسه على هذه الإرض ، ليشهدها البشر ، ثم لتظل عالقة بإذهانهم مُذكرة الناس جميعا بمقدرة الله ، ولافتة النظر إلى المعجزة الأولى ميلاد آدم.

لقد جرت السُّنَة في الخلق واستمرار الحياة أن يكون ذلك بالتناسل والتكاثر الآتي من اتصال جنسي بين ذكر وانثى، جرت هذه السُّنَة أحقاباً طويلة، حتى استقر في تصور البشر أنّ تلك هي الطريقة الوحيدة والناموس الأوحد. ونسوا حادث وجود النوع الإنساني أصلاً، ذلك الحادث الذي لم يشاهده بشر، فشاءت إرادة الله وقدرته أن يَضرب لهم مثلاً يُشاهدونه بِأعينهم وهو ميلاد عيسى بن مريم ليذكرهم بقدرة الله المطلقة التي لا تخضع ولا تحتاج لقوانين ولا لنواميس ولا لقواعد، إذ أنّه إذا أراد شيئاً فإنّما يقول له كن فيكون.

يقص علينا القرآن الكريم قصة ميلاد عيسى بن مريم عليه السلام :

و﴿اذكرْ في الكِتابِ مَرْيَمَ إذ انتبَذتْ مِنْ أهْلها مَكاناً شَرْقِياً  فاتخذت مِن دونِهمْ حِجابا فأرْسَلنا إليها روحَنا فتمثلَ لها بَشرا سَويا  قالت إني أعوذ بِالرَّحْمن مِنكَ إنْ كنتَ تقيا  قالَ إنّما أنا رَسُولُ رَبكِ لأهَبَ لكِ غلاما زَكيا  قالت أنّى يَكونُ لي غلامٌ وَلمْ يَمْسَسني َبشَرٌ وَلمْ اكُ بَغيا  قالَ كذلكِ قالَ رَبكِ هُوَ عَليَ هَيْنٌ وَلِنَجْعَلهُ آيَة للناسِ وَرَحْمَة مِنا وَكانَِ أمْرًا مَقضيا  فَحَمَلتهُ فانتبَذتْ بِهِ مَكاناً قصِيا  فأجاءَها المَخاضُ إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مِت قبلَ هذا وَكنتُ نَسْيا مَنسيا  فناداها مِن تحْتِها ألا تحزني قدْ جَعَلَ رَبكِ تَحتكِ سَريا ﴾ [4 ]

ممن وُلدَ المسيح؟ من فتاةٍ عذراء بتول طاهرة نقية تقية، نذرت نفسها لعبادة الله ربها، لم يُعرَف عنها وعن أسرتها إلآ التُقى والصلاح والنقاء والطهارة، كانت معروفة لقومها أنها مِثال الطهارة والعفة، حتى أنها تنتسب إلى هارون أبي سدنة المعبد اليهودي المتطهرين....... أنها عذراء بتول، لم تقترف الزنا والفاحشة، ولم تمارس الإتصال الجنسي لا حلالاً ولا حراماً. يؤكد ذلك شهادة قومها: "يا أخت هارون"[5 ] وبصريح النص القرآني الذي يؤكد أن الميلاد كان من عذراء بتول تقية نقية طاهرة، لا بل مثال للطهارة والعفة، أحصنت فرجها ولم تقترف الزنا والسفاح والآثام، ذات التربية الصالحة والمنبت الطيب الأصل من سلالة الأتقياء الأطهار: ﴿ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ التي أحْصَنَتْ فَرْجَها فنفخنا فيهِ مِن روحِنا وَصَدَّقتْ بِكلِماتِ رَبِّها وَكتبِهِ وَكانتْ مِنَ القانتينَ﴾
[ 6]

.................................................. .................................................. ....
(1) العذراء: هي الأنثي التي لم تلد ولم يسبق لها الزواج أو الوط ء ، ولم تفض بكارتها.
(2) البتول: هي العذراء المنقطعة عن الزواج إلى العبادة.
(3) آل عمران: (59)
(4) مريم (16-24)
(5) يا أخت هرون هي عبارة درج يهود في ذلك الوقت إدراجها على الفتيات المشهود لهم بمنتهى العفة والطهارة والتقى والصفاء والنقاء، واحصان الفرج وغض البصر، ونقاء النسب، مما يعني شهادة من قومها في معرض التعجب والاستهجان على فعلها وقد ظنوا به اثماً.
(6) التحريم (12)
.................................................. ..................................................
الموضوع منقول من : موسوعة الخلق والنشوء، حاتم ناصر الشرباتي، 1424هـ / 2002م. مكتبة الايمان - المنصورة

حازم
01-12-2006, 09:24 PM
7- مولد عيسى بن مريم

وضعت مريم حملها آتية بالمعجزة لبني إسرائيل "﴿ولنجعله آية﴾"، تحمل لهؤلاء القوم المشهورين بالعصيان والتمرد والتشكك حتى من الآيات البينات والحقائق المعلومة بالدليل الباتر، صورة أخرى من صور أيات الله ومعجزاته علهم يتفكرون، قال تعالى:

﴿فأتت بِهِ قوْمَها تحمِلهُ قالوا يا مَرْيَمُ لقد جئتِ شيئا فرياً  يا أختَ هارونَ ما كانَ أبوكِ امرأَ سوءٍ وَما كانت أُمُّك بَغِيا  فأشارَت إليهِ قالوا كيْفَ نكلمٌ مَن كانَ بالمَهدِ صَبيًا  قالَ إني عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الكِتابَ وَجَعَلنِي نَبياً  وَجَعَلني مُبارَكاً أيْنَ ما كنتُ وَأوصاني بالصَّلاةِ والصِيام ما دمتُ حَياً  وَبَراً بوالِدَتي وَلمْ يَجْعلنِي جَباراَ شقِياً  وَالسَّلامُ عَليَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أموتُ وَيَوْمِ أبْعَثُ حَياً  ذلكَ عيسى بنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِِ الذي فيهِ يَمْترونَ  ما كانَ لِلهِ أنْ يَتخذَ وَلداً سُبْحانَهُ إذا قضى أمْراً فإنّما يَقولُ له كنْ فيَكونَ ﴾)[ 1]

لقد حملت مريم إبنة عمران العذراء البتول حملها الشريف الطاهر، ووضعته غلاماً زكياً، حملت هذا المولود وأتت به أهلها. فدُهِش القوم وهم يرون إبنتهم الطاهرة العذراء المنقطعة للعبادة، تحمل لهم طفلاً وضعته لا يعرفون له أب!!! فانطلقوا يُقرِّعونها ويوبخونها بإتيانها هذا الفِعل الفظيع المُستَنكر... طفقوا يذكرونها بتقواها وصلاحها المشهود "يا أُخت هارون". كيف لا وهي من تلك الذرية المشهود لهم بالتقى والصلاح!!! كيف تأتي بذلك الفعل الشنيع الفاحش المستهجن المستقبح وهي سليلة الصالحين الأتقياء العباد القانتين المخلصين!!!. إنّ معلوماتهم الموثقة أنه لا يمكن أن يأتي مولود إلى هذه الدنيا مطلقاً إلآ بإتصال جنسي بين ذكر وأنثى "مشروع أو غير مشروع"، فلا يمكن أن يكون حمل وولادة إلا بطريقة الزوجية المشروعة، أو بالسِفاح غير المشروع. وكلاهما تزاوج واتصال جنسي بين ذكر وأنثى يُنتج تلقيح وحمل وولادة، والسِّفاح هو تزاوج غير مشروع، لـــذا فهو مستقبح ومستهجن، خاصة إن أتى من مريم إبنة عمران، التي هي كما هوعلمهم ومعرفتهم العذراء التقية المنقطعة للعبادة، إبنة كرام الناس الأعلام الأبرار. وبما أنّها أتتهم تحمل مولوداً بلا زواج، فالقاعدة أنها ما دامت عذراء لم تتزوج بعد، فمنطقهم يقول بأنها قد حملت بمولودها سفاحاً ولا بد.

وجواباً لتساؤلاتهم وشكوكهم فقد أشارت للمولود أن يسألوه ليأخذوا الرد منه وقد نذرت الصوم عن الكلام عبادة لله وامتثالاً، مما أثار استنكارهم لذلك قائلين "كيف نكلم من كان في المهد صبياً؟". فكانت المعجزة الأخرى الخارقة العجيبة، إذ تكلم المولود في مهده على غير المألوف المعهود، معجزة أخرى من معجزات الله تعالى، فتكلم المولود في المهد على غير المعهود المألوف آية أخرى من آيات الله الدالة على قدرته، ونفي لأي إرتياب أو شك قد يعلق في الأذهان بشأن طهارة أمه الوالدة، وهو بالتأكيد دليل دامغ على أنّ في ولادة المولود سرٌ جديدٌ من أسرار الخلق. هذا الخلق المعجزة. والمعجزات هي أمور خارقة للعادة للتدليل على نبوة نبي أو رسالة رسول. إذاً فإنّ خلق عيسى عليه السلام بهذه الصورة الخارقة للعادة هي أيضاً من علائم النّبوة التي تنبئنا به النّصوص القرآنية به.

﴿وإذ قالتِ المَلائِكةُ يا مَرْيَمُ إنّ اللهَ إصْطفاكِ وَطهرَكِ وَاصْطفاكِ عَلى نِساءِ العالمينَ  يا مَرْيَمُ اقنُتي لِرَبِكِ واسجُدي واركعي مَعَ الراكعينَ  ذلكَ مِنْ أنْباءِ الغَيْبِ نوحيهِ إليْكَ وما كنتَ لدَيْهِم إذْ يُلقونَ أقْلامَهُمْ أيُهُمْ يَكفلُ مَرْيَمَ وما كنْتَ لدَيْهِمْ إذ هُمْ يَختصِمونَ  إذ قالتِ المَلائِكةُ يا مَرْيَمُ إنَّ اللهَ يُبَشِرُكِ بِكلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المَسيحُ عيسى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيهاً في الدُّنيا والآخِرَةِ وَمِنَ المُقرَّبينَ  وَيُكلِمُ الناسَ في المَهْدِ وَكهْلاً وَمِنَ الصالِحينَ  قالتْ رَبِّ أنَّى يَكونُ لي وَلدٌ وَلم يَمْسَسْني بَشَرٌ قالَ كذلِكِ اللهُ يَخلُقُ ما يَشاءُ إذا قضى أمْراً فَإنَما يَقولُ لهُ كنْ فيَكونُ  وَيُعلِمُهٌ الكِتابَ وَالحِكمَةَ والتَّوْراةّ وَالإنْجيلَ  وَرَسولاً إلى بَني إسْرائيلَ إني جِئْتُكمْ بآيَةٍ مِنْ رَبكمْ أنّي أخلقُ لكمْ مِنْ الطينِ كهَيْئةِ الطير فَأنفخ فيهِ فَيَكونُ طيْراً بإذنِ اللهِ وَأبْرئُ الأكمَة والأبْرَصَ وَأحي المَوتى بِإذْنِ اللهِ وَأُنْبِئُكمْ بِما تَأكلونَ وَما تَدَّخِرونَ في بُيوتِكمْ إنَّ في ذلِكَ لكمْ إنْ كنْتمْ مؤمِنينَ  وَمُصَدِّقا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوْراةِ وَلأُحِلَّ لكمْ بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَليكمْ وَجِئْتُكمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبكمْ فاتقوا اللهَ وأطيعونِ  إنَّ اللهَ رَبي وربُّكمْ فَاعْبُدوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقيمٌ﴾ )[2]

إنَّ ولادة عيسى بن مريم عليه السّلام، بكل ما رافقها من خرق للقوانين والنواميس المعروفة لدى الناس، كانت آية من آيات الله، تُعلن قدرة الله تعالى وأنّه سبحانه وتعالى لا يتقيد ولا يلتزم ـمتى شاءـ في خلقه للأشياء بقانون الأسباب والمسببات الذي يَسيرُ العالم عليها مُجْبَراً بِأمر الله. وقد إتخذ البعض من ولادة عيسى عليه السلام بدون أب حجة على ألوهيته، كما اتخذ البعض الآخر ذلك منفذاً للطعن في أُمه أو للتشكيك في وجود المسيح، وهؤلاء جميعاً يخاطبهم الله تعالى في القرآن الكريم: (إنَّ مثل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين.)[3 ] فتعالى الله الأحد الصمد عما يدعون (قل هو الله أحد  الله الصمد  لم يلد ولم يولد  ولم يكن له كفواً أحد )[4 ]

حملت مريم بالمسيح عليهما السلام بمجرد نفخ الرّوح، وطبيعي أنها مرَّت بجميع أدوار الحمل إلى أن وضعت حملها وأتت بمولودها، والنّص القرآني لم يذكر لنا شيئاً عن تلك الأدوار. يقول البيضاوي في تفسيره: (وكانت مدة حملها سبعة أشهر، وقيل ستة، وقيل ثمانية، ولم يعش مولود وضع لثمانية غيره، وقيل ساعة). ولما أذن الله تعالى أن يكون وضع وميلاد، ألجأها المخاض إلى جذع نخلة في موضع في مدينة "بيت لحم" من أعمال فلسطين. يقول البيضاوي: (إنَّ الزَّمن كان شتاء والنخلة يابسة، وإنّما كان مجيئها لتستتر أو لتعتمد عليها). أما إبن كثير فيقول: (ثم الظاهر أنها حملت به تسعة أشهر كما تحمل النساء ويضعن لميقات أجلهن ووضعهن، إذ لو كان خلاف لذكر)[ 5]
.................................................. .................................................. ....

1- مريم (27-35)
2- آل عمران (42-51)
3- آل عمران (59)
4- ص (1-4)
5- البداية والنهاية، إبن كثير، جزء (2)، صفحة (65)
.................................................. .................................................. ....

الموضوع منقول من : موسوعة الخلق والنشوء، حاتم ناصر الشرباتي، 1424هـ / 2002م. مكتبة الايمان - المنصورة

حازم
01-16-2006, 04:57 PM
8- مولد عيسى بن مريم


وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلآ الله وحده لآ شريك له، وأنَّ محمداً عبده ورسوله، وأنّ عيسى عبده ورسوله، وكلمة ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)[ 1]

إنَّ مدة الحمل التي ذكرنا من روايات المفسرين ليس لها سند من دليل قطعي، فالنّص القرآني لم يتعرض له، كما لم يرد في الحديث الشريف أي ذكر لذلك الحمل الشريف كيف تمَّ وكم كانت مدته، ولم يذكر لنا هل كان حملاً عادياً كحمل بقية النساء أم غير ذلك، إذ إقتصر الإخبار بنفخ الروح والحمل والميلاد فقط. قال تعالى:

﴿والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين﴾

(﴿ومريم إبنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من ﴾القانتين
(3)

نعم يعلمنا الله تعالى في محكم التنزيل بنفخ الروح، ثم يعرج ليقص لنا كيف تم الميلاد :
﴿ فَحَمَلتْهُ فإنْتبَذتْ بِهِ مَكاناً قصِياً  فأجاءَها المَخاضُ إلى جذع النخلةِ قالتْ يا ليتني مِتُّ قبلَ هذا وَكنتُ نَسْياً مَنسِياً ﴾[4 ]

إنَّ الحمل المعهود يتم بتلقيح بويضة المرأة من نطفة الرجل، فتبدأ النطفة الأمشاج "الملقحة" في النشاط والنمو في أطوار معروفة، إذ تكون علقة فمضغة، ثم تكسى العظام باللحم بعد أن ينشز اللحم، إلى أن يستكمل الجنين أيامه المعهودة.[ 5]

ونعود إلى حمل مريم بعيسى عليهما السلام، فهل تمت مراحل هذا الحمل بعد نفخ الروح؟ أم هل تولد الجنين بعد نفخ الروح مختصراً المراحل المعهودة فأتى الوضع والميلاد بعد نفخ الروح مختصراً المراحل المعهودة فأتى الوضع والميلاد رأساً بعد نفخ الروح، فكان حملاً خفيفاً في مدة مختصرة؟. إنَّ أياً من تلك الإحتمالات لم نجد له جواباً شافياً لها، بل لم يتعرض له النص القرآني. وبما أنّ الموضوع من متعلقات العقيدة، والعقيدة لا تُأخذ إعتقاداً إلآ بالنص القطعي من قرآن أو حديث متواتر، لــــــذا فنقتصر في ذلك على ما ورد به النص، وليس لنا الإجتهاد أو التخمين في ذلك، والله تعالى أعلم.

يعلمنا النص القرآني أنَّ مريم بعد أن حملت حملها انتبذت من أهلها مكاناً نائياَ قصياً بعيداَ عن الأنظار، لتواجه المخاض الذي ألجأها إلى جذع النخلة، لتضع حملها الطاهر، ولتواجه المجتمع والناس كافة بالآية المعجزة.

هذه هي قصة ميلاد رسول الله عيسى بن مريم عليه السَلام، كما أتت في محكم التنزيل، مكذبة كل الإدعاءأت والروايات المختلقة الملفقة، عبد الله ورسوله، بشر كباقي البشر، أتى بحمل وميلاد من أنثى حاضرة شاهدة معروفة، تعيش بينهم، تأكل مما يأكلون وتشرب مما يشربون، فهو ليس ابن الله ولا ثالث ثلاثة، إنسان بشر ليس إله ولا رب ولا أبن رب، ولا ملاك، استعرضناها في بحثنا كصورة فريدة ومميزة من صورخلق وميلاد الإنسان.

﴿ذلِكَ عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترونَ  ما كانّ لِله أن يَتّخِذَ وَلداً سُبْحانهُ إذا قضى أمْراً فَإنَّما يَقولُ لهُ كنْ فيَكونَ﴾<6]

إنّه عيسى بن مريم الإنسان، عبد الله ورسوله. الشريف الطاهر المبارك، المرسل رحمة إلى بني إسرائيل العصاة المكابرين، ليعيد الضالين منهم إلى عقيدة التوحيد، مصدقاً للتوراة كتاب الله المنزل على نبي الله موسى، ومرسلاً بكتاب الله "الإنجيل" المتضمن رسالته إليهم بشرائع وأحكام جديدة، بعضها مثبتاً لما أتت به التوراة، والبعض الآخر مبدلاً ومخالفاً لما أتت به التوراة، أتاهم بشواهد ومعجزات تدلل على رسالته، معجزة في مولده، ومعجزة في تكلمه في مهده، ومعجزة إحياءه الموتى وشفاءه للمرضى، ومبشراً برسول يأتي من بعده أسمه أحمد.

إن عيسى عليه السلام الوليد الناطق في المهد، عبد الله ورسوله، ليس ابن الله وليس رباً ولا إلهاً ولا ثالث ثلاثة، كما يلحد إليه المشركون الكافرون... هذه هي حقيقته في مولده وفي نشأته، لقد أنكر المولود كل تلك الإتهامات إذ تكلم في المهد على غير عادة المواليد، خارقاً النواميس في مهده تماماً كما خرقها في ميلاده.


﴿قالَ إني عَبْدُ اللهِ آتاني الكِتابَ وَجَعَلني نَبِياً  وَجَعَلني مُباركاً أيْنَ ما كنْتُ وَأوْصاني بِالصَلاةِ والزَكاةِ ما دُمْتُ حَيا  وَبَراً بِوالِدَتي وَلمْ يَجعَلني جَباراً شقِياً  وَالسَّلامُ عَليَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أموتُ وَيَوْمَ أبْعَثُ حَياً ﴾<)[ 7]
.................................................. .................................................. .................................................. ................
1- رواه الشيخان
2- الأنبياء (91)
3- التحريم: (12)
4- مريم : (22-23)
5- وذلك ما سنتعرض له بالتفصيل في " الباب الرابع " من الكتاب ، إن شاء الله.
6- مريم : (34-35)
7- مريم: (30-33)

طالب عوض الله
02-09-2006, 11:27 PM
السلام عليك يا أخ حازم وشكراً لك على الموضوع، وكتاب ( موسوعة الخلق والنشوء ) من تأليف الأستاذ حاتم ناصر الشرباتي هي من الكتب التي أجادت فعلاً في تناول قضية الخلق بالحذر والتفصيل، وفي هذا الباب جاء المؤلف لوجهة نظر الاسلام في موضوع الخلق بعد أن نقض النظريات التطورية بالدليل، منتظرين من الأخ حاتزم اتحافنا بالمزيد من رائعة الأستاذ حاتم الشرباتي ، وجزاك الله كل الخير

:emrose: :emrose: :emrose:

حاتم ناصر الشرباتي
03-27-2006, 12:18 PM
السلام عليك يا أخ حازم وشكراً لك على الموضوع، وكتاب ( موسوعة الخلق والنشوء ) من تأليف الأستاذ حاتم ناصر الشرباتي هي من الكتب التي أجادت فعلاً في تناول قضية الخلق بالحذر والتفصيل، وفي هذا الباب جاء المؤلف لوجهة نظر الاسلام في موضوع الخلق بعد أن نقض النظريات التطورية بالدليل، منتظرين من الأخ حاتزم اتحافنا بالمزيد من رائعة الأستاذ حاتم الشرباتي ، وجزاك الله كل الخير

:emrose: :emrose: :emrose:



بارك الله في الأخ حازم وأثابه الله كل خير

ويمكنك نقل كتاب ( موسوعة الخلق والنشوء )، وأي كتاب من كتبي من خلال الموقع الشخصي:

http://sharabati.tripod.com/main.htm

أو من خلال : مكتبة العقاب

http://www.alokab.com/almaktaba/ind...ion=file&id=524

أو من خلال مجموعة ( الخلافة فرض الفروض )

http://groups.yahoo.com/group/KHILAFAH_FARD_ALFOROOD/
مرة أخرى: بارك الله في الأخ حازم ، وجعله الله في ميزان حسناتك

أكمل أخي أثابك الله واصطفاك من المقربين في مقعد صدق عند عزيز مقتدر

حاتم ناصر الشرباتي
03-30-2006, 06:27 PM
- أصحاب الكهف والرّقيم


قال تعالى: (﴿اللهُ يَتَوَفى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالتي لمْ تَمُتْ في مَنامِها فَيُمْسِكُ التي قضى عَليْها المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أجَلٍ مُسَمىً إنَّ في ذلِكَ لآياتٍ لِقوْمٍ يَتفكرونَ﴾)[1 ]

إنَّ قصة الفتية الذين فروا بدينهم من بطش وجبروت الطغاة، هي قصة تتكرر كل يوم وفي كل مكان، وفي كل الأمم والشعوب والأقوام. (إنَ أصحاب المبادئ والمعتقدات الصحيحة في كرب وشدّة وبلاء دائم، منذ أن خلقَ اللهُ الخلقَ إلى يومنا هذا، وذلك أنّه ما من أمة أو شعب أو قوم إلآ ولهم عقائد يعتنقونها، وأفكار يحملونها، وأحكام ينظمون بها أمورهم، إرتضوا لأنفسهم هذه العقائد والأفكار والأحكام وألفوها على مرور الزمن، واستعدوا للدفاع عنها، وذلك أنها غدت جزءاً من حياتهم، وهذه سنة الله في خلقه لم تتخلف في الأمم والشعوب والأقوام، لــــذا فإنّه ما من نبي أو رسول جاء لقومه بعقائد وأفكار وأحكام جديدة مغايرة لما هم عليه إلا ورفضوه وما يدعوهم إليه، وكذبوه وآذوه، فنال كل نبي أو رسول من صنوف الأذى وألوان العذاب ما نجده في كتاب الله تعالى:
(﴿وَلقدْ كذِبَتْ رُسُلٌ مِنْ قبْلِكَ فصَبَروا عَلى ما كذِبوا وأوذوا حَتى أتاهُمْ نصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكلِماتِ اللهِ وَلقدْ جاءَكَ مِنْ نبَإى المُرْسَلينَ﴾)[2 ]

وحيث أنَّ أتباع الأنبياء والرُّسُل يحملون الدعوات من بعدهم، فهم كذلك يتعرضون للأذى والتعذيب)[ 3] قال تعالى:
(﴿وَالسَمآءِ ذاتِ البُروجِ  وَاليَوْمِ المَوْعودِ  وَشاهِدٍ وَمَشْهودٍ  قتِلَ أصْحابُ الأُخدودِ  النّارِ ذاتِ الوُقودِ  إذ هُمْ عَليْها قعودٌ  وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلونَ بالمؤمنينَ شُهودٌ  وَما نقموا مِنْهُمْ إلآ أنْ يُؤمِنوا بِاللهِ العَزيزِ الحَميدِ  الذي لَهُ مُلكُ السَمَواتِ والأرْضِ واللهُ على كُلِ شَئٍ شَهيدٌ  إنَّ الذينَ فتنوا المؤمِنينَ والمُؤمِناتِ ثمَّ لمْ يَتوبوا فلهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلهُمْ عَذابَ الحَريقَ﴾ )[4 ] (ولما جاء في الحديث الشريف عن خباب بن الأرت : (... قال: كان الرجل قبلكم يُحفر له في الأرض، ويجعل فيه فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق بإثنتين، وما يصدّه ذلك عن دينه، ويمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه... )[5 ] فحامل المبدأ الصحيح مشعل هداية للناس من رسل وأنبياء أو من أتباعهم ومن إهتدى بهديهم وسار على نهجهم، فإنه لا يهادن ولا ينافق، ولا يخضع لضغوط الإمتحان والفتنة.)[6 ]

(وقد نال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونال أصحابه من أذى قريش وقبائل العرب ماهو معروف ومشهور، لكنّ الأنبياء والرُّسُل وكذلك أتباعهم من بعدهم ما كانوا ليتركوا حمل الدّعوة وتليغ الشَّرائع والأحكام خضوعاَ للعذاب والأذى، بل كانوا يصبرون ويصبرون على ما يلاقونه حتى يحكم الله بينهم وبين أقوامهم، وما عُرفَ أنّ نبياً أو رسولاً أو أتباع نبي أو رسول تركوا حمل الدّعوة وتخلوا عن حمل الأمانة خضوعاً للإمتحان والتعذيب، فالصبر على العذاب والأذى سنة لا تتخلف في كل من يحمل الدّعوة الحق من أنبياء ورسل واتباعٌ على مر العصور والدّهور).[7 ]

(إنَّ حمل الدّعوة يعني بالتأكيد ضرب العقائد والأفكار والأحكام المألوفة لدى الناس، واستبدال عقائد وأفكار وأحكام أخرى بها، كما يعني التعرض للأذى والعقاب والإمتحان والفتنة، وما يجب حياله من التحلي بالصبر وتحمل المكاره، وانتظار الفرج من رب العالمين. فالبلاء والعذاب أمران لا بد من حصولهما أثناء حمل الدّعوة، كما أنّ الصبر والتحمل أمران لا بد من وجودهما لدى حامل الدّعوة، وعندما تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم للتعذيب من أهل الطائف توجه إلى ربه داعياً مبتهلاً، كما روى محمد بن كعب القرظي):[ 8]

(اللهم إليك أشكوا ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين: أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى قريب يتهجمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل علي غضبك..)[9 ]

(إنّ الفتنة والإمتحان التي يتعرض لها حملة الدّعوة كانت وتكررت وستكون وتتكرر، فما دام تعاقب الليل والنهار فسيكون هناك جلادون ومن يجلدون، وحامل الدّعوة يتحدى ولا بد الجلادين العُتاه، يتحدى المجتمع "وقادته والناس كافة" بعقائده وأفكاره ومفاهيمه وأحكامه وأعرافه وتقاليده، كما يتحدى الحكام والجلادين، ثابتاً على المبدأ، مسفهاً العقائد والأفكار والأحكام والمفاهيم والعادات والأعراف، صابراً على الأذى والعذاب والبلاء الذي سيتعرض له نتيجة ثباته على المبدأ. لذا فقد صنفه الرسول صلى الله عليه وسلم في صف واحد مع سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، مصداقاً لقوله تعالى: (﴿كُلُ نَفسٍ ذائِقةُ المَوْتِ وَإنّما توَفونَ أُجورَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ فمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النّارِ وَاُدْخِلَ الجَنَّةَ فقدْ فازَ وَما الحَياةُ الدنيا إلآ مَتاعُ الغُرورِ﴾)[ 10]

وحتى يتم أمر الله تعالى فإنّ الأعداء يفتحون السجون والمعتقلات، ويشهرون العصي والسياط، ويحاربون حملة الدعوة بقطع الأرزاق وحتى بقطع الأعناق، يعلنون الحرب على حملة الدعوة في كل المجالات، ليحولوا بينهم وبين حمل الدعوة والثبات عليه والإستمرار فيه ، فَمَنْ فتِنَ ومن ترك حمل الدعوة استجابة للضغوط فقد سقط، وحقق المفتون والساقط لأعداء الدعوة وأعداء الله ما يصبون إليه ويطمحون فيه.)[ 11]

.................................................. .................................................. .................................................. ................
1- الزمر (42)
2- الأنعام (34)
3- عويضه - محمود عبد اللطيف، حمل الدعوة واجبات وصفات، الصفحات (100-101 ) بتصرف
4- البروج ( 1-10)
5- رواه البخاري وأحمد وأبو داوود.
6- عويضه - محمود عبد اللطيف، حمل الدعوة واجبات وصفات، الصفحات (100-101 ) بتصرف
7- عويضه - محمود عبد اللطيف، حمل الدعوة واجبات وصفات، الصفحات (102-106 ) بتصرف
8- عويضه - محمود عبد اللطيف، حمل الدعوة واجبات وصفات، الصفحات (102-106 ) بتصرف
9- رواه ابن هشام في السيره،ورواه البغوي في التفسير، ورواه الطبراني في المعجم الكبير، عن طريق عبد الله بن جعفر.
10- آل عمران (185)
11- عويضه - محمود عبد اللطيف، حمل الدعوة واجبات وصفات، الصفحات (109) بتصرف
.................................................. .................................................. .................................................. .............
الموضوع منقول من : موسوعة الخلق والنشوء، حاتم ناصر الشرباتي، 1424هـ / 2002م. مكتبة الايمان - المنصورة
http://sharabati.tripod.com/main.htm
.................................................. .................................................. .................................................. .................

يتبع إن شاء الله.>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

حاتم ناصر الشرباتي
03-30-2006, 06:33 PM
10- أصحاب الكهف والرّقيم-2-


(وكما ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدعوة وعلى حملها، فقد ثبت صحابته رضوان الله عليهم ثباتاً لا نظير له، والأمثلة على ذلك كثيرةً ومعروفة ومشهورة، وما قصة تعذيب بلال في بطحاء مكة وثباته على الحق، وما قصة آل ياسر وتعذيبهم برمضاء مكة وصبرهم بخافية على أحد، وكتب السيرة تقص علينا قصص ثباتهم على حمل الدعوة، كما تقص علينا أساليب التعذيب التي استعملها طغاة مكة مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع صحابته من بعده.)[ 1]

وكما ثبت الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته على المبدأ فلم يهنوا ولم يضعفوا، فكان منهم بلال وآل ياسر وسمية وخبيب وغيرهم صابرين محتسبين، فقد ثبت قبلهم فتية الأخدود كما أعلمنا الله في سورة البروج، الذين صبروا على العذاب وثبتوا على المبدأ حتى فاضت أرواحهم الطاهرة إلى بارئها مستبشرة بلقائه، وقد أعطانا الرسول صلى الله عليه وسلم نماذج صادقة من الثبات على الحق، وهم أصحاب عيسى بن مريم عليه وعليهم السلام الذين نشروا بالمناشير وحملوا على الخشب، فلم يهنوا ولم يُفتنوا، بل صبروا وثبتوا.

كما أن ممن ثبت على المبدأ أخوة لنا عذبوا حتى الموت فلو يهنوا ولم يضعفوا، لا بل صبروا وصمدوا محتسبين حتى فاضت أرواحهم الطاهرة الزكية إلى بارئها مستبشرة بلقائه، كما حصل مع العلامة "سيد قطب" ومن سبقه من قتلى الثبات على المبدأ الحق ومن لحقهم بعد ذلك من إخوانهم الذين استشهدوا على يد عبد الناصر وخلفائه من حكام مصر. وكما حصل مع قتيل الثبات على المبدأ الحق "عبد الغني الملاح" الذي استشهد عام 1963 في بغداد تحت تعذيب حكام البعث له. وكذلك "ناصر سريس وبديع حسن بدر" ورفاقهم من شهداء الثبات على المبدأ الذين قتلهم وسحلهم في الشوارع طاغية ليبيا معمر القذافي. والمهندس "ماهر الشهبندر" ورفاقه من الشهداء الذين قتلهم طاغية العراق صدام حسين.. كل هؤلاء وغيرهم كثير ممن سبقهم ومن أتى بعدهم، لقوا ربهم وهم على عهدهم لم يتزعزع لهم إيمان، ولم تلن لهم قناة، ولم يحنوا هاماتهم للطغاة، لم يُفتنوا بل اختاروا الثبات على المبدأ والتحدي به. اليست كل نفس ذائقة الموت؟ أليس لكل أجل كتاب؟

كما أنّ اخواناً لنا كانوا ولا يزالوا متعرضين للفتنة والإمتحان، يلاقون كل أصناف الفتن والعذاب في سجون الطغاة في اوزباكستان، وفي سجون رعاة البقر الأمريكان في معتقلات غوانتنامو في كوبا، وفي كل مكان، فمنهم من قضى نحبه شهيداً صابراً محتسباً، ومنهم من ينتظر ثابتاً على المبدأ متحدياً الطغاة. وأخيراً إخواننا الملتجئون للكهوف والمغر في أفغانستان الصابرة، والحرب الصليبية الغاشمة التي تصب عليهم حمم الموت والعذاب والإبادة، صابرين محتسبين غير مفتونين متحدون أصحاب الفيل وحلفائهم من شرار الناس، لم يخضعوا ولم تلن لهم قناة. قال تعالى: (﴿مِنَ المُؤمنونَ رِجالٌ صَدَقوا ما عاهَدوا الله عَليْه فمِنْهُمْ مَن قضى نحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتظِرُ وَما بَدّلوا تبْديلاً﴾)[2 ]

لقد إلتجأ نفر من الصحابة حملة المبدأ رضوان الله عليهم إلى الحبشة فراراً بدينهم وعقيدتهم، وهرباً من ظلم الطغاة وفتنتهم، وحديثا هرب فتية آمنوا بربهم من المسلمين إلى الكهوف في أفغانستان هرباً من ظلم وجبروت الطغاة الصليبيين الكفرة وأحلافهم الشيطانية. وقصة الفتية الذين التجئوا للكهف هي قصة المؤمن صاحب العقيدة الذي فر بدينه وعقيدته من الطغاة ثابتاً على المبدأ، فاراً من الفتنة والظلم والطغيان، قال تعالى: (﴿نَحْنُ نقصُّ عَليْكَ نبَأهُمْ بالحَق إنَّهُمْ فِتيَة آمَنوا برَبهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً  وَرَبَطنا عَلى قلوبِهِمْ إذ قاموا فقالوا رَبُنا رَبُّ السَمَواتِ وَالأرْضِ لنْ نَدْعوا مِنْ دونِهِ إلهاً لقدْ قلنا إذاً شططاً  هَؤلآءِ قوْمُنا إتَخذوا مِنْ دونِهِ آلِهَةً لّوْلا يَأتونَ عَليْهِمْ بسُلطانٍ بَيَِنٍ فمَنْ أظلَمُ مِمَنْ إفترى عَلى اللهِ كَذِباً  وإذ اعْتزَلتُموهُمْ وَما يَعْبُدونَ إلآ اللهَ فأوا إلى الكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَئ لكُمْ مِنْ أمْركُمْ مِرْفقا﴾ )[ 3]

إلتجأ الفتية إلى الكهف ليضرب الله عليهم النعاس، فيستغرقون في نومهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا.

(﴿وَتَرى الشَّمْسَ إذا طلعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ اليَمينِ وَإذا غَرَبَتْ تَقرِضُهُمْ ذاتَ الشِمالِ وَهُمْ في فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فهُوَ المُهْتَدِ وَمَنْ يُضلِلْ فلنْ تَجِدَ لهُ وَلِياً مُرْشِداً  وَتحْسَبُهًمْ أيْقاظاً وَهُمْ رُقودٌ وَنُقلِبُهُمْ ذاتَ اليَمينِ وذاتَ الشِمالِ وَكَلبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بالوَصيدِ لَوْ إطَلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ﴾)[4 ]

وهنا معجزة أخرى من معجزات الخلق، الدالة على قدرة الله الخالق، تلك المعجزة التي ساقها النص القرآني لتخاطب العقول التائهة والباحثة عن الحقيقة على حد السواء، إذ فجأة تدب فيهم الحياة بعد ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً من النوم: (﴿وَكَذلِكَ بَعَثناهُمْ لِيَتَسائَلوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثتُمْ قالوا لَبتنا يَوْماً أوْ بَعْضَ يَوْمٍ فابْعَثوا أحَدَكُمْ بوَرِقِكُمْ هذِهِ إلى المَدينَةِ فليَنْظُرْ أيُها أزكى طًعاماً فليَأتِكُمْ برِزقٍ مِنْهُ وَيَتلطَفَ وَلا يُشْعِرَنَّ بكُمْ أحَداً  إنَهُمْ إنْ يَظهَروا عَلَيْكُمْ يَرْجُموكُمْ أوْ يُعيدوكُمْ في مِلَتِهِمْ وَلَنْ تفلِحوا إذاً أبَد﴾اً )[ 5]

إنّهُم لم يعرفوا كم لبثوا في نومهم هذا فها هم يتناجون فيما بينهم حذرين خائفين على دينهم وعقيدتهم من فتنة وجبروت الطغاة الكفرة، لايدركون أنّ مئات الأعوام قد مرت، وأنَ أجيالاً قد تعاقبت، وأنّ مدينتهم التي شهدت طفولتهم وشبابهم والتي فارقوها ونزحوا عنها فراراً بدينهم وخوفاً من الإمتحان قد تغيرت معالمها، وأنّ الظلمة الطغاة المتسلطين قد دالت دولتهم، وأنّ خبرهم كفتية فروا بدينهم وعقيدتهم في عهد الملك الظالم قد أصبحت تاريخاً يرويه الخلف عن السّلف، وأنّ الأقاويل والروايات قد تباينت حولهم وحول عقيدتهم، وحول الفترة التي مضت منذ هربهم وانقطاع أخبارهم..... ولنا أن نتصور ضخامة المفاجئة التي اعترت الفتية بعد تيقن زميلهم طول الزمن وبعده منذ فارقوا مدينتهم هرباً بدينهم، وتبدل أحوال الدنيا حولهم، حيث لم يعد في مدينتهم شئ من الباطل الذي أنكروه وقاوموه وهجروا مدينتهم فراراً منه، وأنهم بالتالي من جيل مضت عليه السنين والقرون ، وأنهم بالتالي أعجوبة في نظر الناس، وآية من معجزات الله تعالى القائل: (﴿أمْ حَسِبْتَ أنَّ أصْحابَ الكَهْفِ والرَّقيم كانوا مِنْ آياتِنا عَجَباً  إذ أوَى الفِتْيَةُ إلَى الكَهْفِ فقالوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَئ لنا مِنْ أمْرِنا رَشَداً  فَضَرَبْنا عَلّى آذانِهِمْ في الكَهْفِ سِنينَ عَدَداً  ثُمَّ بَعَثناهُمْ لِنَعْلَمَ أيُّ الحِزبَينِ أحْصى لِما لَبثوا أمَداً  نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأهُمْ إنَّهُمْ فِتيَةٌ آمَنوا برَبِّهِمْ وَزِدْناهُم هُدى ﴾)[ 6]

والكهف: هو الغار الواسع في الجبل. أما الرَّقيم: فقد قال أبن عباس: هي قرية خرجوا منها. وقال مجاهد: الرّقيم واد. وقال السّدي: الصخرة التي كانت على الكهف. وقال ابن زيد: كتاب. وقال آخرون: كتاب في لوح من نحاس. وقال ابن عباس: بل من رصاص. ولإبن عباس أيضاً: الرّقيم كتاب مرقوم عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به.

لقد إختلف المؤرخون في مكان الكهف، فقال كثيرون بأرض ايلة، وقال آخرون: نينوى . وقيل في البلقاء، وقيل في بلاد الشام، وقيل في بلاد الروم.

ويذهب "عطية زاهده" إلى أنّ الكهف هو في خربة (قمران) بجانب البحر الميت إلى الشمال من الفشخة في فلسطين، حيث يقول: (وعلى أيَة حال فإنَّ أحداً من الناس لم يسبق له أن أشار إلى علاقة أهل الكهف بمخطوطات البحر الميت، وكان مؤلف الكتاب هو من أول من بَيَّنَ أنَّ أصحاب الكهف والرّقيم كانوا في قمران قرب البحر الميت، والوثائق الرّسمية التي في حوزته، علاوة على على المصادر العلمية تثبت ذلك...)[7 ]

إنّ قصة أصحاب الكهف والرقيم هي آيـة أُخرى من آيات الله، آيات الخلق الشاهدة على قدرة الله تعالى، لذا رأيت أن يفـرد لها هذا الجزء لرؤيتي علاقتها الأكيدة بالخلق وقدرة الله تعالى على الخلق والبعث، استئناسأ بقوله تعالى: (﴿وَضَـرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خلقَهُ قالَ مَنْ يُحْي العِظامَ وَهِيَ رَميـمٌ  قُلْ يُحْييهـا الذي أنشَـأها أوَلَ مَرَةٍ وَهُوَ بكُلِّ خلقٍ عَليمُ  الذي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخضَرِ ناراً فَإذا أنْتُمْ مِئْهُ توقدونَ  أوَ لَيْسَ الذي خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ بِقادِرٍ على أنْ يَخلُقَ مِثلَهُمْ بَلى وَهُوَ الخَلآقُ العَظيمُ  فَسُبْحنَ الذي بِيَدِهِ مَلّكوتُ كُلِ شّئٍ وَإلَيْهِ تُرْجَعونَ ﴾)[ 8]

.................................................. .................................................. .................................................. ................
1- المصدر السابق ، صفحة (113)، بتصرف.
2- الأحزاب(23)
3- الكهف (13-16)
4- الكهف (17-18)
5- الكهف(19-20)
6- الكهف(9-13)
7- زاهده - عطيه عبد المعطي، أصحاب الكهف والرقيم، صفحة (1)
8- يسن (78-83)

.................................................. .................................................. .................................................. .............

الموضوع منقول من : موسوعة الخلق والنشوء، حاتم ناصر الشرباتي،
1424هـ / 2002م. مكتبة الايمان - المنصورة
http://sharabati.tripod.com/main.htm
.................................................. .................................................. .................................................. .................

يتبع إن شاء الله.>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

حاتم ناصر الشرباتي
03-30-2006, 06:36 PM
أكمل أخي حازم رعاك الله

حاتم ناصر الشرباتي
04-16-2006, 05:20 PM
. إعــادة الحيــاه


إنَّ الروح هي سِرُّ الحياة، كما أنَّ لها مظاهر وآثاراً تدل عليها، ومن مظاهر الروح: الفقه والعقل والإستماع والإبصار والحركة الإرادية، فلا توجد إلآ بوجود الروح، فإذا نزعت الروح فقدت كل تلك الآثار والمظاهر وانعدمت الحياة، وفي النَّوم يتوفى الله الأنفس ويقبض الأرواح، لذلك فالنائم يفقد مظاهر الروح من الفهم والإدراك والإبصار والإستماع والحركة الإرادية، قال تعالى : (﴿اللهُ يَتَوَفَى الأنْفُسَ حينَ مَوْتِها وَالتي لَمْ تَمُتْ في نَوْمِها فيمسِكُ التي قضى عَليها المَوْت وَيُرْسِل الأخرى إلى أجَلٍ مُسَمى﴾)[1 ]

وحادثة "أصحاب الكهف والرَّقيم" هي من الشّواهد الدّالة على قدرته تعالى، حين أوقف حياة هؤلاء الفتية وقبض أرواحهم ـ إلى أجل مُسَمى ـ فأستغرقوا في سّبات عميق لمدة قرون عدة، ثُمَّ أعاد إليهم الحياة ليكونوا آية دالة على عظمته وقدرته تعالى.

وليست تلك الحادثة هي فريدة نوعها، إذ يورد لنا النَّص القرآني حادثة مشابهة جرى فيها إعادة الحياة، تلك الحادثة يسوقها النص القرآني في "سورة البقرة" في معرض الحديث عن سرّ الحياة والموت والخلق والبعث، ومن ضمن الآيات العديدة التي يركز فيها القرآن على الجانب العقائدي لإنشاء التصورالصحيح لحقائق هذا الوجود، ليدرك المسلم حقائق عقيدته من خلال رؤية واعية عميقة ومستنيرة، تلك الرؤية القائمة على الأدلة والشواهد المؤدية إلى الجذم واليقين الثابت المطمئن، ليؤدي للتصور الشامل لحقيقة هذا الوجود وارتباطه بخالقه، ومن ثم إلى إدراك الإنسان لصلته بالله الخالق إدراكاً يقينياً ثابتاً، بحيث يوجد لدى الإنسان ايماناً أي تصديقاً جاذماً مطابقاً لهذا الواقع الذي أحسه وأدركه عن دليل عقلي ثابت، يبعد عن الظّن والوهم والشك ونظريات الإحتمال. فإلى النّص القرآني: (﴿أوْ كَالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَة على عُروشِها قالَ أنى يُحْيِ هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأماتَهُ اللهُ مائَةَ عامٍٍ ثُمَّ بَعّثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أوْ بَعْضُ يَوْمٍ ٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَهْ وَانْظُرْ إلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلناسِ وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسوها لَحْمًا فَلَما تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أعْلَمُ أنَّ اللهُ عَلى كُلِ شَئٍ قّديرٌ﴾)[2 ]

لم يعلمنا النّص القرآني من هوالرجل المارعلى القرية، كما لم يعلمنا من تلك القرية الخاوية على عروشها، ولو شاء لأعلمنا، ولو كانت حكمة النّص لا تتحقق إلآ بهذا الإفصاح ما أهمل القرآن ذكره. والذي يعنينا من ذكر تلك القصة هو عظمة الحدث وجلاله، والعِبَر التي نستخلصها من الحدث، والدلائل التي يدل عليها، بغض النظر عن اسم الشخص الذي حدثت معه، وبغض النظر عن اسم القرية.

ولأنَّ النَص القرآني لم يذكر الأسماء وتجاهلها، فقد إختُلِفَ فيها، إذ قال عكرمة وقتادة والربيع بن أنس والضحاك والسّدي: أنّ المار هو "عزير بن شرحيا". وقال وهب بن منبه وآخرون: هو "أرمياء بن خلفياء"[3 ]. أمّا القرية التي مرّ عليها، فقال عكرمة ووهب وقتاده: هي "بيت المقدس". وقال الضحاك: هي "الأرض المقدسة". وقال السدي: هي "سلماباد". وقال الكلبي: هي "دير ساير". وقيل: هي "دير هرقل". وقيل: هي "قرية العنب"[4 ] على بعد فرسخين من بيت المقدس.

لقد ذهب أغلب المؤرخين إلى أنّ المار بالقرية هو "العزير"، واشتهرت القصة بينهم بإسمه، وهي كما يرويها إبن كثير عن إسحق بن بشر بإسناده: [إنَّ عُزيراً كان عبدٌ صالحاً حكيماً في بني إسرائيل ممن تعلم التوراة وحفظها، خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها، فلما انصرف أتى إلى قرية خالية خاوية على عروشها حين قامت الظهيرة وأصابه الحر، فدخل القرية الخربة وهو على حماره، ونزل عن حماره ومعه سلّة تين وأخرى فيها عنب، فنزل في ظلِّ تلك الخربة وأخرج قصعة معه فاعتصر من العنب الذي كان معه في القصعة، ثم أخرج خبزاً يابساً معه فألقاه في القصعة ليبتل في العصير ليأكله، ثم اسـتلقى على قفاه، وأسند رجليه إلى الحائط، فنظر سقف تلك البيوت ورأى ما فيها وهي قائمة على عروشها، وقد باد أهلها، ورأى عظاماً بالية نخرة، فقال: "أنى يحي هذه الله بعد موتها". والقول هنا ليس قول المتشكك المنكر للبعث والإحياء، بل هو قول ينطوي على التعجب. فبعث الله ملك الموت فقبض روحه، وأماته مائة عام.

فلما أتت عليه مائة عام، وكان فيما بين ذلك في بني إسرائيل أمور وأحداث. قال: فبعث الله إلى عزير ملكاً فخلق قلبه ليعقل، وعينيه لينظر بهما فيعقل كيف يحي الله الموتى، ثم ركّب حَلقَهُ وهو ينظر، ثم كسى عظامه باللحم والشعر والجلد، ثم نفخ فيه الروح، كل ذلك وهو يرى ويعقل فاستوى جالسأ. فقال له المَلَك: كم لبثتَ؟. قال: لبثتُ يوماً أو بعض يوم، وذلك أنه كان لبث صدر النهار عند الظهيرة، وبعث في آخر النهار والشمس لم تغب، فقال أو بعض يوم ولم يتم لي يوم. فقال له المَلَك: بل لبثتَ مائة عام، فانظر إلى طعامك وشرابك، يعني بالطعام الخبز اليابس، وشرابه العصير الذي اعتصره في القصعة، فإذا بهما لم يتغير حالهما، فذلك قوله تعالى "لم يتسنه" يعني لم يتغير، وكذلك التين والعنب غض لم يتغير شئ من حالهما. فكأنّه أنكر في نفسه في قلبه فقال له المَلَكَ: أنكرت ما قلت لك؟ أُنظر إلى حمارك، فنظر إلى حماره قد بليت عظامه وصارت نخرة، فنادى المَلَكُ عظام الحمار فأجابت وأقبلت من كل ناحية حتى رَكَبَّهُ المَلَكَ وعزير ينظر إليه، ثم ألبسها العروق والعصب، ثم كساها اللحم، ثم أنبت الجلد والشعر، ثم نفخ فيه الروح، فقام الحمار رافعاً رأسه وأُذنيه إلى السَّماء ناهقاً. فذلك قوله تعالى: (وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية ، وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً) يعني: وانظر إلى عظام حمارك كيف يركب بعضها بعضاً في أوصالها حتى إذا صارت عظاماً مصوراً بلا لحم، ثم انظر كيف نكسوها لحماً. (فلما تبين له قال أعلم أنّ الله على كل شئ قدير ) أي من إحياء الموتى.][ 5]

ولرب سائل يتساءل: هل هذا الرجل المار على تلك القرية الخربة المحطمة على قواعدها كان ملحد كافر بالخلق والبعث بعد موت فألقى جملته "أنى يحي هذه الله بعد موتها "إنكارأ وجحوداً؟. وعلى هذا التساؤل يجيب صاحب الظلال:
[إنَّ القائل ليعرف أنّ الله هناك، ولكن مشهد البلى والخواء ووقعه العنيف في حسه يجعله يحار: كيف يحي هذه الله بعد موتها؟ وهذا أقصى ما يبلغه مشهد من العنف والعمق في الإيحاء... وهكذا يلقي التعبير القرآني ظلاله وايحاءاته، فيرسم المشهد كأنّما هو اللحظة شاخص تجاه الأبصار والمشاعر. "أنى يحي الله هذه بعد موتها!! كيف تدبُّ الحياة في هذا الموات؟ "فأماته الله مائة عام، ثُمَّ بعثه. لم يقل له كيف، إنَّما أراه في عالم الواقع كيف!!! فالمشاعر والتأثرات تكون أحياناً من العنف والعمق بحيث لا تُعالَجُ بالبرهان العقلي، وحتى بالمنطق الوجداني، ولا تعالج كذلك بالواقع العام الذي يراه العيان... إنّما يكون بالتّجربة الشخصية الذاتية المباشرة، التي يمتلئ فيها الحس، ويطمئن بها القلب، دون كلام!.. (﴿قال كم لبِثْتَ قال لبثتُ يوماً أو بعض يوم﴾). وما يُدريه كم لبثَ، والإحساس بالزمن لا يكون إلآ مع الحياة والوعي؟ على أنَّ الحس الإنساني ليس المقياس الوحيد للحقيقة، فهو يُخدَعُ وَيَضِل فيرى الزمن المديد قصيراً لملابسة طارئة، كما يرى اللحظة الصغيرة دهراً طويلاً لملابسة طارئة كذلك!: ﴿(قالَ لبثتُ مائة عام﴾).

وتبعاً لطبيعة التجربة، وكونها تجربة حسّية واقعية، نتصور أنَّهُ لا بُدَّ كانت هُناك آثار محسوسة تصور فعل مائة عام... وهذه الآثار المحسوسة لم تكن في طعامه وشرابه، فلم يكونا آسنين متعفنين: (﴿فأنظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه﴾) وإذأ فلا بد أنّ هذه الآثار المحسوسة كانت ممثلة في شخصه أو في حماره: (﴿وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً﴾)... أية عظام؟ عظامه هوَ؟. لو كان الأمر كذلك ـ كما يقول بعض المفسّرين أنّ عظامه هي التي تعرت من اللحم ـ للفتَ هذا نظره عندما استيقظ، ووخز حسه كذلك، وَلمَا كانت إجابته: (﴿لَبِثتُ يوماً أو بعض يوم﴾).

لذك نُرَجِحُ أنَّ الحمار هو الذي تعَرَّت عظامه وتفسّخت، ثمَّ كانت الآية هي ضَمُ هذه العظام بعضها إلى بعض وكُسْوَتها باللحم وردها إلى الحَياة، على مرأى من صاحبه الذي لم يمسه البلى، ولم يصب طعامه ولا شرابه العفن، ليكون هذا التباين في المصائر والجميع في مكان واحد، مُعَرَّضونَ لِمُؤثرات جوية وبيئية واحده، آية أُخرى على القدرة التي لا يُعْجِزها شئ، والتي تتصرف مطلقة من كل قيد، وليدرك الرجل كيف يحي هذه الله بعد موتها!!!][6 ]

نعــــم، إنَّ ظلال النَّص القرآني توحي إلينا بخطأ ما ذهب إليه إبن كثير وغيره من رواية "بشر بن إسحق" السابقة من تعري عظام صاحب العظام وإعادة كسوتها باللحم، فالآية كانت فيه (﴿ولِنجعلك آية للناس﴾)، وذلك يعني أنّه لم تُبلى عظامه في حين بليت عظام حماره.

كانت تلك قصّة من القصص العديدة، التي أتى بها القرآن الكريم لِلَفت إنتباه الإنسان إلى قدرة الله المطلقة في الخلق والإنشاء والإماتة وإعادة البَعْث، لتكون برهانأ آخر يُضاف إلى البراهين العديدة في طريق الإيمان، وهكذا قالَ الرَّجُل الذي مرّت به التجربة شخصياً ولم تُنْقَلُ إليه نقلاً أو روايَةً، بل شاهدها بعينيه وأحسها ولمسها بنفسه: ﴿(أعْلَمُ أنّ الله على كل شئ قدير﴾)... قدير على الخلق من عَدَم... وقدير على قبض الروح ونزع الحياة متى شاء... وقدير على إعادة الحياة وبعث الإنسان من جديد.
.................................................. .................................................. .................................................. .................
1- الزمر (42)
2- البقرة (259)
3- قالوا أنّ " آرمياء بن خلفياء " هو الخضر عليه السلام.
4- أي مدينة " الخليل" من اعمال فلسطين.
5- ابن كثير،قصص القرآن، الصفحات 0631-632) .كذلك: ابن كثير، البداية والنهاية، مجلد (1)، الصفحات (43-46).
6- سيد قطب، في ظلال القرآن، مجلد (1)، جزء(3)، الصفحات (229-300)
.................................................. .................................................. .................................................. .................
الموضوع منقول من : موسوعة الخلق والنشوء
حاتم ناصر الشرباتي
1424هـ / 2002م. مكتبة الايمان - المنصورة
http://www.sharabati.org/
.................................................. .................................................. .................................................. .................

يتبع إن شاء الله.>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

حاتم ناصر الشرباتي
04-21-2006, 10:32 AM
عملية الحمل والولادة وتكوّن الإنسان

[1] الشّهوة والجهاز
[2] التّكوين
[3] عملية الحمل وأطواره
[4] مُدّة الحمل
[5] الخلق في السُّنة الشريفة
[6] أطوار الجنين ( مراحل الحمل )
[7] خلق الإنسان في أحسن تقويم
[8] من هو الأصلح للبقاء
[9] النَّســـب
.................................................. .................................................. .................................................. .................

الفصل الأول

الشَّـــهوة والجهـــاز


إن بقي في النفوس شئ من الشّك والرّيب بعد كل ما أعلمنا الله به وهدانا إليه، إذا بقي أي شك في البعث والحساب بعد الموت، فليتفكر الإنسان في نفسه وفي مراحل تكونه وتخلقه يجد البرهان والدليل. قال تعالى "﴿وَفي الإرْضِ آياتٌ لِلموقِنينَوفي أنْفُسِكُمْ أفلا تبصِرونَ )[﴾1 ]

لقد خلق الله سبحانه وتعالى البشر بني آدَمَ، وكرّمهم على غيرهم من المخلوقات، وجعل بقاء النوع الإنساني مرتبطاً بالزوجية والتناسل الحاصل بينهما، لذا فقد خلق الله لكل من الزوجين جهازاً تناسلياً خاصاً، يُقابل جهازاً تناسلياً آخر خاصاً بالطرف الآخر، ومن كل من الجهازين مجتمعين يتخلق الإنسان.



ولم يوكل التكاثر والتناسل إلى هذين الجهازين العضويين فحسب، إنَّما زرع في كُلٍّ من الذكر والأُنثى الغريزة القوية الدافعة، فيبرز إندفاع تلك الغريزة في مظهر الجوعات الجنسية المتطلبة الإشباع، فشاءت إرادة الله تعالى أن تثور جوعة الجنس متطلبة الإشباع ليتحقق بقاء النوع الإنساني. وفي ذلك يقول "إبن القيم الجوزية":

(ثم لمّا أراد الله سبحانه وتعالى أن يذر نسلهما ـ أي آدم وحواء ـ في الأرض ويكثره، وضع فيهما حرارة الشّهوة ونار الشّوق والطَلَب. وَألْهَمَ كُلاً منهما اجتماعه بصاحبه، فاجتمعا على قدر... تُمَّ اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن قدّرَ لخروجها ـ الشّهوة ـ أقوى الأسباب المستفرغة لها من خارج وداخل... فقيض لها صورة حَسَّنها في عين الناظر وشوقه إليها. وساق أحدهما إلى الآخر بسلسلة الشَّهْوَةِ والمَحَبَةِ، فَحَنَّ كل منهما إلى امتزاجه بصاحبه واختلاطه به، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً... وجعل هذا محل الحَرْث وهذا محل البَذر ليلتقي الماءان على أمر قد قُدِّر )[2 ]

هذا بالنسبة للغريزة وشهوتها ـ أي ثورتها متطلبة الإشباع ـ. أمّا بالنسبة للتركيب العضوي : فالجهاز التناسلي المذكر ـ محل البذر ـ " Male Genitalia " يتكون من مصنع للنطف "Spermatozzons" ومن مجموعة من الأنابيب الدقيقة الملتفة التي توصل تلك النطف عبر السائل المنوي إلى الإحليل "Penis"، والإحليل "القضيب" هو عضو انتصابي بانصباب الدّم فيه حتى يمكن ايلاجه في الفرج "Tiller"، وقذف هذه النطف بالقرب من عنق الرحم في المرأة.

ويتكون الجهاز التناسلي الأنثوي ـ محل الحرث ـ "Female Genitalia" من أعضاء تناسلية ظاهرة وأخرى باطنة. أمّـا الظاهرة فتشتمل على فتحة الفرج "Insertion Vent" وعلى حافتيه الشفران الصغيران والشفران الكبيران، وتقع فتحة الفرج في الدهليز... ويقع أمام فتحة الفرج صماخ[ 3] قناة مجرى البول. وعند التقاء الشفرين الصغيرين من أمام يقع البظر"Clitoris". أما إلتقاء الشفرين الكبيرين من أمام فيكون جبل الزهرة.

أمّا الأعضاء الباطنة فتشمل مصنع النطف الأنثوية وهم : المبيضان " Ovaris " ، والرحم " Viterus " وقناتيه ، والمهبل " Vegina " ، مخزن الحرث حيث يختزن الجنين .

إنّ بقاء النوع الإنساني متوقف على الزوجية المنتجة للذرية. والزوجية تعتمد على التقاء وتزاوج جهازين تناسليين، أحدهما ذكري والآخر أنثوي، ليقوما معاً بإنتاج المخلوق في عملية دقيقة، كما يعتمد ذلك أيضاً على الشهوة الكامنة في الإنسان ذكره وأنثاه وهي غريزة النوع التي تثور طالبة الإشباع، ودافعة كلا الزوجين "الذكر والأنثى" إلى الإلتقاء الجنسي والتزاوج، إذ اودعت لدى كل منهما الشّهوة للإلتقاء بقرينه بقصد الإشباع بالإستمتاع واللذة، ليتم أمر الله تعالى الذي قُدر، بالتناسل لبقاء النوع الإنساني.

(وهكذا نجد بأنّ نظام الزّوجية هو الوسيلة الوحيدة لبقاء الحياة التي شاء الله بقاءها واستمرارها على الأرض بالتناسل. ونظام الزّوجية هو الدليل الثابت على ما في إطراد الزّوجية في النبات والحيوان من دليل على القصد ونفي المصادفة، ويظل التكوين الجنيني للإنسان في تصويره، وخلقته وعظامه وكسوته، وقراره المكين إلى قدره ومدته، في زوايا ظلمته..... أعظم دليل على القصد الإلهي. قال تعالى: (نخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً بعد خلقٍ في ظلمات ثلاث)[4 ]

بويضة (Ovum) مثل بيضة الدجاجة، ولكنها أصغر منها بكثير، قطرها يتراوح بين جزء وبين جزئين من (10) أجزاء من المليمتر. ووزنها جزء من مليون جزء من الغرام وفيها مُح (cytopalasme) وفي المح (الحويصلة الجرثومية (Nuyauالتي يبلغ قطرها جزءاً من (700) جزء من القيراط.[5 ] وفيها تكمن (النطفة الجرثومية Nucleole) التي يبلغ قطرها جزءاً من (3000) جزء من القيراط.... هذه هي البويضة. تتكون في ظلمة المبيض ضمن حويصلة تسبح في سائلها الألبوميني (الزلالي Albumin). فإذا نمت هذه الحويصلة وازداد السائل الذي في باطنها، يتمدد غشاؤها ويرق ثم ينفجر وتخرج البويضة منها ومن المبيض كله .

وتسير البويضة إلى فم (البوق Oviduct) وهو عبارة عن طريق ضيق دقيق قطره قطر شعرة ، يختبئ وراء (الرحم Uterus) ويمتد منه إلى (المبيض Ovay) ويدخل (الحيوان المنوي المذكرMale Spermatzoon) من الرحم حتى يصل إلى (البوق Oviduct) حيث يلتقي بالبويضة. ولكن هذا الحيوان صغير جداً جداً بالنسبة إلى البويضة، فطوله عبارة عن 60 جزءاً من ألف جزء من المليمتر، يسبح بسرعة هائلة في السائل (المنويSpermatic) الذي يقذف به ، وسباحته تتم في حركة لولبية حى تؤتي السّرعة المطلوبة، وجوهر هذا الحيوان المَنَـوِيُّ في رأسه لا في ذنبه، ولذلك جعل له رأس مُكوّز وَجُعِلَ برأسه عنق لولبي، وَجُعِلَ لعنقه ذنب طويل يَضرب به الماء الذي يسبح فيه ويقذف بنفسه، وجعل هذا الذيل معقوداً بأنشوطة لينفكَّ عنه إذا دخل البويضة.

أما عدد الحيوانات المنوية الذكرية (Male Spermatzoons) فيربو على (200) مليون، ولكنه لا يصل إلى البويضة إلاّ من كان أقواها وأسرعها، حتى يمكنه اختراق الباب الخاصّ الذي يوصله إلى البويضه، الباب المسمى: باب الجاذبية (Cone d`attraction) فعندما يدخل الحيوان المنوي ينغلق الباب، وتنقطع الجاذبية وبذلك تموت جميع الحيوانات المنوية الأخرى. ثم تستقرّ البويضة في (الرَّحْم Uterus)، فتفتح خلايا غشائه المخاطي، وتتسع الشعيرات الدموية فيه، وتنشط الغدد، ثم يبدأ العمل المشترك ما بين الحيوان المنوي والبويضة في بناء الإنسان الجديد. فيمشج الشريكان كلٌ ما عنده بما عند الآخر من عناصر التخطيط النووي (الكروموزات Chromosomes) وما فيها من الخلق المخلقة (الجينات Genes) التي خطّتها وخلّقتها وسوّتها يدُ المٌقدِّر الخالق لها قانوناً وسُنّةً عبر الأجيال من الجدود والآباء إلى الأبناء والأحفاد من (سلالة من طين) ثم (سلالة من ماء مهين) لتتكوّن من هذا الإختلاط (النطفة الأمشاج Fertilized Ovem) التي أشار إليها أحسن الخالقين:
(﴿إنّا خَلقنا الإنسانَ مِنْ نُّطفةٍ أمْشاجٍ نَبْتليهِ فَجَعَلناُ سَميعاً بَصيراً﴾)[6 ]

.................................................. .................................................. .................................................. .................
1- الذاريات: (20-21)
2- ابن قيم الجوزية، التبيان في أقسام القرآن، صفحة: (338)
3- صماخ : تقب
4- الزمر : (6)
5- القيراط: هو جزء من 20 جزء من المثقال، الذي يساوي 25 جرام.
6- الإنسان: ( 2)
.................................................. .................................................. .................................................. .................
الموضوع منقول من : موسوعة الخلق والنشوء، حاتم ناصر الشرباتي، 1424هـ / 2002م. مكتبة الايمان - المنصورة
.................................................. .................................................. .................................................. .................

يتبع إن شاء الله.>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

حاتم ناصر الشرباتي
04-21-2006, 10:34 AM
عملية الحمل والولادة وتكوّن الإنسان

الفصل الأول

الشَّـــهوة والجهـــاز - 2 -



وعناصر التخطيط والتخليق والتسوية التي يخلِقُ الله بها المضغة لتكون بشراً سوياً فرداً يتميز عن غيره من الناس بكل صفاته الجسدية والعقلية من شكلٍ وقدٍ ولون وذكورةٍ وأنوثةٍ وجمال وذكاء وأخلاق ترسم كلها للفرد الخطوط الأولى من حظه في الحياة.

وهكذا فإنّ البويضةّ التي تحمل في نواتها عناصر التخطيط المذكورة، تسير النطفة الأمشاج سيراً رهواً بطيئاً في البوق فلا تنتهي منه إلى الرّحم إلآ بعد ثمانية أو عشرة أيام، تقوم خلالها بتقسيم نفسها تقسيماً بعد تقسيم لكي تهيأ لكل قسم وتعدّه للدور الذي سيقوم به في تكوين الجنين الجديد أو في حفظه وحمايته ووقايته أو تغذيته.

وعندما تصل تلك البويضة الملقحة إلى الرّحم تلتصق بجداره، وتبدأ خلايا ألأقسام عملها العظيم بالتعاون مع بعضها أو مع خلايا جدار الرّحم، فتجعل حول الجنين غلافاً فوق غلاف فوق غلاف....

فالغلاف الأول الظاهر الذي يحيط بجميع الأغشية ويسمى (السّلي Chortion) فهو المعدّ في جانبه الملتصق بجدار الرّحم كوسيلة للتغذية الأولية ثم لتكوين المشيمة الحجبية، وفي جانبه الظاهر غير الملتصق بجدار الرّحم كوسيلة لوقاية الجنين وحفظه.

والغلاف الثاني ينسج تحت الكوريون ليحيط بالجنين إحاطة كاملة من وراء غلاف مائي يحيط بالجنين إحاطة مباشرة ليقيه مع الغلافين الأولين كل صدمة أو رجة تأتي من الخارج. وتبدأ في الوقت نفسه، الخلايا الجرثومية (المخلّقة) التي تكون الجنين سيرها في تطورها من نطفة إلى علقة إلى مضغة، على الترتيب الذي القرآن الكريم.

ومن هذه المضغة المخططة المخلقة بكروموزوماتها المتخالطة وجنيناتها يبدأ تكوين الأعضاء والأحشاء، كما بدأ تكوين أغشية الحفظ والوقاية والتغذية من خلايا المحّيّة غير المخلقة. فيقوم قسم من الخلايا الجرثومية بتكوين مباديء القلب، بينما يقوم قسم آخر منها بتكوين المخ ومباديء العمود الفقري، إلى جانب خلايا أخرى تقوم بتكوين مباديء الأحشاء من الجهاز الهضمي والتنفسي والتناسلي، إلى جانب خلايا أخرى تقوم بتكوين العظام، كل في دائرة اختصاصه. فلا ينتهي الشّهر الثاني إلآ وتكاد المضغة تصبح إنساناً كاملاً بجميع أعضائه وأحشائه وأعصابه. وهنا السِّر في الخلق، إذ أنّ هذه الخلايا لها من فطرة الخالق ما يعطيها القدرة على أن تسوّي إنساناً كاملاً، ولكنها تصير عاجزة حين تصبح هي نفسها إنساناً كاملاً عن أن تخلق ذبابة. (﴿فسُبْحانَ الذي أعطى كل شيء خلقه ثُمَّ هدى﴾)[1 ]

أمّا الوظيفة التي تقوم بها المشيمة (Placenta)[ 2] فهي آية أخرى من آيات الإعجاز فخلايا الكوريون وخلايا جدار الرّحم تشترك كما قلنا في صنع المشيمة للجنين... وهذا الجنين الجديد، يحتاج إذا صار مضغة وتكونت أعضاؤه إلى طريقة من التغذية غير الطريقة الإمتصاصية الإرتشاحية الساذجة التي تحصل بين خمل الكوريون وبين جيوب الدم الرّحمية، لأنّ حاجة الجنين إلى الدّم إذا كبر ستكون أكبر، وحاجة الدّم إلى التصفية إذاً ستكون أكثر، وبما أنّه لا يجوز أن يدخل دم الأم بذاته إلى الجنين، وأنّ دَمَ الجنين يجب أن يتخلص من أقذاره وسمومه كما يتخلص كل حيوان، فلا بد من وجود آلة كبرى تتولى هذا الترشيح والتوريد والتصدير بين دم الأم الوارد المطهَّر ودم الجنين الصادر القذر، فكانت المشيمة العجيبة التي بنتها الخلايا من خمل الكوريون واهدابه ومن جيوب الدّم الرحمية، وجعلتها موصولة بسّرة الجنين بحبل يحمل منها إليه عناصر الغذاء والأوكسجين التي تستخلصها المشيمة من دم الأم، ثم الحبل من الجنين إلى المشيمة في وريد آخر ما يتكون في الجنين من سموم وأقذار، حتى إذا خرج الجنين إلى عالَم النور والهواء والثدي وأصبح قادراً على تنفس الهواء برئتيه وامتصاص الغذاء بشفتيه، وقادراً على حرق قمامته في سَحْره، ولفظها من نحره، قطعت المشيمة عن الولد وسُدّ باب السّرة إلى الأبد.[3 ]

إنَّ هذا النظام الغريب، والجهاز المعقد الدقيق، والتصميم العجيب في خلق الإنسان من بين الصلب والترائب، في حيوان الذكر المنوي وبويضة الأنثى، ثم تخلقه في الأجنّة في بطون النساء، لهو الآية الكبرى والدليل الدامغ على قدرة الله تعالى في الخلق والتصوير... ولو تأمل الإنسان وتفكر لوعى وتبصر. ويكفي الإنسان الواعي الباحث عن الحقيقة المجردة التأمل والتفكير في الدّقة المتناهية في هذا الجهاز البالغ التعقيد والنظام البديع الذي يُسَيّره، بحيث لا يترك أي مجال للصدفة. بل تنظيم دقيق جداً لا يترك شاردة ولا واردة إلآ وأعد لها نظام سيرها مسبقاً، ليتم التناسل والتكاثر بموجبه حِفاظاً على النوع الإنساني. لذا يوجه الله تعالى الدعوة للإنسان للتأمل والتفكير في خلق نفسه، بما في ذلك هذا الجهاز المعقد الدقيق والنظام البديع المسير له:

(﴿فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب، إنّه على رجعه لقادر﴾)[4 ] ()[5 ] ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنّه الحق﴾

هذا هو الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم، وجعل أصل وجوده من طين وتراب الأرض، وأوجب عليه أن يتم خلقه ووجوده بقانون واحد هو: الزوجية المؤدية إلى التناسل والتكاثر، وليتم ذلك فقد خلق لكل من الذكر والأُنثى هذا الجهاز المعقد، وزرع في نفس كل منهما الشهوة الغريزية إلى الجنس الآخر، لتثور متطلبة الإشباع، ليتم أمر الله من التوالد والتناسل والتكاثر، للمحافظة على بقاء النوع الإنساني.
ومما يجدر الإنتباه إليه {{أنّ المسافة بين النطفة في خصية الرجل أو بويضة المرأة حتى يجتمعا معاً مسافة بعيدة، ففي الأنثى تتكون البويضة منذ كانت هي جنيناً في بطن أمها... وتنمو ببطء شديد، ثم تتوقف عن النمو هامدة فترة طويلة من الزمان... وتبدأ نموها مرة أخرى بعد البلوغ.... بويضة واحدة كل شهر، لا تتوقف منذ البلوغ إلى سنّ اليأس، إلا عند حدوث الحمل. أمّا في الذكر فإنّ خلايا الخصية تظلّ هامدة حتى سنّ البلوغ، عندها تستيقظ من رقدتها وهجعتها الطويلة، وتبدأ في إنتاج وإخراج ملايين الحيوانات المنوية. وتحتاج الخصية إلى ستة أسابيع تقريباً حتى يكتمل فيها نمو الحيوان المنوي. فإذا ما التقى الحيوان المنوي "نطفة الرجل" بالبويضة "نطفة الأنثى" ولقحها بأمر الله... تكوّنت عندئذٍ النطفة الأمشاج المختلطة من ماءي الذكر والأنثى، وتحتاج إلى أسبوع تقريباً حتى تبدأ في العلوق في جدار الرحم، ويتم علوقها وانغرازها في يومين، فتكون مرحلة ما تستغرقه النطفة الأمشاج أربعين يوماً كاملة}}[6 ]
إنّه جهاز دقيق... بقوانين ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، فرضها من خلقها وأبدعها، وألزم هذا الجهاز السّير بهذا القانون لا يخالفه. (﴿إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج﴾)[7 ]

.................................................. .................................................. .................................................. .................
1- طه : (50)
2- المشيمة أو السخذ:عضو مؤقت متصل بباطن جدار الرحم عند معظم الثدييات، بواسطتها يتلقى الجنين غذاؤه، وهي مؤلفة من أنسجة مستمدة من الأم والجنين معاً، وتتصل بالجنين بحبل سري غليظ تمتد أوعية الجنين الدموية عبر هذا الحبل إلى المشيمة ثمّ ترتدج راجعة إلى الجنين، تمتص المشيمة الغذاء والاوكسجين من الأم فينقلان عبر الأوعية الدموية في الحبل السري إلى الجنين، وتحمل الفضلات التي يفرزها الجنين إلى المشيمة فيمتصها دم الم إلى خرج الجسم.
3- الزين - سميح عاطف، مجمع البيان الحديث - قصص الأنبياء في القرآن الكريم، الصفحات (61-66) بتصرف
4- الطارق 5-8)
5- فصلت: (35)
6- المصدر السابق، صفحه (57) بتصرف
7-ة الدهر: (2).
.................................................. .................................................. .................................................. .................
الموضوع منقول من : موسوعة الخلق والنشوء، حاتم ناصر الشرباتي، 1424هـ / 2002م. مكتبة الايمان - المنصورة
.................................................. .................................................. .................................................. .................

يتبع إن شاء الله.>>>>>>>>>>>>>>>>>>>





--------------------

حاتم ناصر الشرباتي
04-21-2006, 10:35 AM
عملية الحمل والولادة وتكوّن الإنسان

الفصل الأول

التكويــــن[ 1]



قال الله تعالى :
[1] (﴿أوَ لَمْ يَرَ الذينَ كَفَروا أنَّ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ كَانَتا رَتقاً فّفّتَقناهُما وَجَعَلنا مِنَ الماءِ كُلَّ شيءٍ حيٍٍ أفَلآ يؤُمِنونَ﴾)[ 2]

لقد كانت السموات والأرض منسدتين، ففتق السّموات فجعلها سبعاً والأرض سبعاً. وكانت السّماء لا تُمطر، وبعد فتقها بدأت تمطر، والأرض لم تكن تنبت، فبدأت بالإنبات، وصارت صالحة للحياة.

[2] (﴿وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملاً﴾)[3 ]

والمراد بخلق السموات والأرض هو جمع اجزائها وفصلها وفتقها من سائر ما يختلط بها من المواد المشابهة المركومة. وكان عرشه سبحانه يومها على الماء، أي أنّ المادة الأولى التي كان يتألف منها الكون هي الماء. وأمّا قوله سبحانه وتعالى (ثم استوى على العرش) فيعني احتواءه السموات والأرض، وأخذه في تدبيرهما.

[3] ( ﴿والسّماء بنيناها بِأييدٍ وَإنّا لمُوَسِعونَ  وَالأرْضَ فَرَشْناها فنِعْمَ الماهدونَ  وَمِنْ كُلِّ شَيءٍ خلقنا زَوْجَين لعَلكُمْ تذكَرونَ﴾ )[ 4]
[4] (﴿وَسِعَ كُرْسِيُهُ السَّمَواتِ وَالأرْضَ وَلا يَئودُهُ حِفظُهُما وَهُوَ العلي العظيم﴾)[5 ]

[5] (﴿أفلم يَنْظُروا إلى ألسَّمآءِ بَنَيْناها فوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيْناها وَما لهل مِنْ فُروجْ  وَالأَرْضَ مَدَدْناها وَألْقَيْنا فيها رَواسِيَ وَأنْبَتْنا فيها مِنْ كُلّ زَوْجٍ بَهيج  تَبْصِرَةً وَذِكْرى لكل عَبْدٍ مُنيب ﴾)[ 6]

[6] (﴿الذّي خَلقَ المَوْتَ والحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزيزُ الغفورُ  الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَواتٍ طِباقاً ما تَرَى في خَلْقِ الرَّحْمانِ مِنْ تَفاوُتٍ فَأرْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فٌطورٍ  ثُمَّ أرْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسيرٍ﴾)[7 ]

طباقا :
أي بعضها فوق بعض من غير مماسة .
ماترى في خلق الرّحمن من تفاوت : أي تباين وعدم تناسب .
فأرجع البصر :
أي أعده إلى السّماء .
هل ترى من فطور :
أي هل ترى من صدوع وشقوق .
ينقلب إليك البصر خاسئاً :
أي ذليلاً لعدم إدراك الخلل .
وهو حسير :
أي كليل منقطع عن رؤية الخلل .

نحن لا نريد البحث في العوالم السماوية، وما خلق الله فيها، وما هي عليه من أحكام وتنظيم، بل نترك هذا لِمَنْ يريد أن يعرف ما في هذا الكون من إتساع ودقة وإنتظام، فيعود إلى علم الفلك، ليرى في الحقائق التي أثبتها ذلك العلم ما يدهش العقول، ويرمي النفوس في الذهول. لكننا نكتفي بالإشارة هنا إلى ما له علاقة بموضوع خلق الإنسان وتكوينه من خلال العلم المذكور، ولإن كان في إشارتنا جزء يسير من ذلك الفيض الذي لا ينبض.
لقد توصل علماء الفلك إلى التقرير بإنّ المجرة[8 ] التي يقع في طرفها النظام الشمسي والتي تسمى "درب التبان" ويسميها الإفرنج "الطريق اللبنية" أو "الدرب اللبنية Milky way galaxy"، يقع ورائها كثير من "السُّدُم nebolas"[ 9]، ومن جملته "سديم المرأة المسلسلة" الذي يبعد عنا مليون سنة ضوئية، وقد قدّرالعلماء حتى الآن، من هذه السدوم بعدما رأوها في الآت التصوير حوالي (500) ألف سديم، ويقولون أنّه لو تقدمت تلك الآلات وازدادت إتقاناً فلربما رأوا أكثر من مليون سديم.



أمّا الأرض " Earth ": وهي ما لها علاقة مباشرة ووثيقة بالإنسان وحياته، إذ هو يعيش فوقها فهي ـ في علم الفلك ـ إحدى الكواكب السّيارة في النظام الشّمسي الذي يقع في طرف مجرتنا، والتي ورائها مئات الآلاف من المجرات والسُّدُم ... وهي الكوكب السيّارة الوحيد التي أُتيح لها من بين الكواكب الأخرى في هذا النظام أن تكون صالحة للحياة، وذلك بما خصّها الله به من كثافة وجاذبية وحركة وهواء وماء وما إلى غيرها من أسباب الحياة.

إنّ في النظام الشمسي عدة سيارات كبار غير الأرض، منها ما هو أقرب إلى الشّمس من الأرض، ومنها ما هو أبعد، ومنها ما هو أكبر، ومنها ما هو أصغر، ومنها ما هو أسرع دوراناً حول الشمس وحول محوره، ومنها ما هو أبطأ، ولكنها كلها منفتقة عن السّماء - كما يقول القرآن الكريم- أو منفصلة عن الشّمس -كما يقول علماء الفلك- والمعنى واحد. وأشهر السيارات في النظام الشمسي هي:

عطارد "Mercury" :
يدور كالأرض حول نفسه وحول الشمس، ومدّة هذا الدوران 88 يوماً في الحالتين، وهذا يعني أنّ عطارد له وجهان، أحدهما موجه دائماً نحو الشمس، فنصفه شمس والنصف الآخر زمهرير... وكثافته تقارب كثافة الأرض، الجاذبية به قليلة. ليس فيه هواء ... ولهذه الأسباب فهو لا يصلح للحياة.

الزهرة "Venus" :
تدور هي الأخرى على نفسها في نفس المدة التي تدور بها حول الشّمس، أي خلال 225 يوماً، وهي مثل القمر، تتجه بأحد وجهيها نحو الشّمس، والوجه المتجه نحو الشّمس حرارته 90 درجة، بينما الوجه الثاني 20 درجة تحت الصفر. ليس فيها هواء ولا ماء، بل فيها بخار سميك، وتلك المزايا تجعلها غير صالحة للحياة.

المريخ "Mars" :
يدور حول نفسه مرة كل 24 ساعة تماماً كما الأرض، ولكنه يدور حول الشمس 687 يوماً، ويبعد عن الشّمس 142 مليون ميل، وحرارته في النهار بضع درجات فوق الصفر، ولكنها في الليل تنزل إلى 70 درجة تحت الصفر، سطحه بر لا بحر فيه ولا ماء، وإن توهم بعض الباحثين في النصف الأول من القرن العشرين أنّ على سطحه أحياء... هواؤه مؤلف من غاز أثقل من الأوكسيجين. جاذبيته 1/3 جاذبية الأرض، فلا تكفي إذاً لحفظ الأوكسيجين في هواؤه. ولهذه الأسباب فهو لا يصلح أبداً للحياة على رأي المحققين من العلماء.

المشتري "Jupiter":
يتم دورته حول الشّمس في 12 سنة، ويدور على محوره في كل 10 ساعات، يبعد عن الشمس 484 مليون ميل تقريباً، ودرجة الحرارة فيه 130 درجة تحت الصفر، كثافته ¼ كثافة الأرض، ويرجح العلماء أنه كتلة من الغاز والمواد الذائبة، فمن البديهي ألا يكون صالحاً للحياة.

زُحَل "Satorn" :
يتم دورته في 29 سنة حول الشمس، ودورته على محوره في 10 ساعات، وبعده عن الشمس 887 مليون ميل، فيصل إليه من حرارة الشمس جزء من 90 جزء مما يصل إلى الأرض، كثافته أقل من ¼ كثافة الأرض، ويظهر أنّ مادة سطحه مائعة متحركة، فمن الطبيعي أنّه لا يصلح للحياة.

امّا "أورانوس Uranus" و "نبتون Neptune"[ ] و "بلوتو Pluto"[ ]
فعدم صلاحها للحياة أظهر لأسباب كثيرة، لاسيما وأنّ الأول يتم دورته حول الشّمس كل 48 سنة تقريباً، ويدور على محوره في 10 ساعات، وبعده عن الشّمس 172 مليون ميل. أمّا الثاني فيتم دورته حول الشّمس في 169 سنة تقريباً، ويدور حول محوره في 10 ساعات، وبعده عن الشّمس 2792 مليون ميل تقريباً. أمّا الثالث فيتم دورته حول الشّمس في 247 سنة، وبعده عنها 3670 مليون ميل تقريباً. فيكون كل من فصلي الشتاء والصيف في أحدهما 42 سنة، والثاني 84 سنة، والثالث 123 سنة، أما النهار فهو خمس ساعات في كل منهم، وكذلك الليل.





.................................................. .................................................. .................................................. .................
1- هذا النص بالكامل ( بدون الحواشي السفلية ) منقول بتصرف عن كتاب: مجمع البيان الحديث - قصص الأنبياء في القرآن الكريم - ، سميح عاطف الزين، الصفحات (39-57).
2- الأنبياء (30)
3- هود : (8)
4- الذاريات: 47-49) . بأيد: يعني بقوة
5- البقرة(255) - آية الكرسي - ، لا يؤوده: يعني لا يعجزه حفظهما.
6- ق: 06-8) . ، فروج: أي شقوق تعيبها.
7- الملك: (2-4)
8- المَجَرَّة " Galaxy ": نظام سماوي يتألف من نجوم وسُدُمْ " Nebolas " ومادة بَيْنَجيمية " Interstellar ". والمجرة التي يؤلف نظامنا الشمسي جزءاً منها تشتمل على ما يقارب مئة مليار نجم. وهي تدعى " الطريق اللّبنية". وفي هذا الكون عدد لا يحصى من المجرات. وقالوا أنّه يوجد نحواً من خمسمائة مليون مجرّة. وهي تنزع إلى التجمع في عناقيد، أكبرها " عنقود كوما Coma cluster " الذي يتألف من عشرة آلاف مجرة تقريباً.
9- السّديم Haze: هو ضباب رقيق ناشئ عن وجود الدخان أو الغبار أو الملح في الهواء، أو عن وجود بعض جسيمات الماء البالغة الصغر فيه، وقد ينشأ السّديم في شهور الصيف الحارّة عن إحترار الهواء على نحو غير متوازن مما يؤدي إلى تفاوت في الكثافة وتفاوت في انكسار موجات الضوء أيضاً. أما المقصود في البحث فهو ما يسمى " السّديم أو الغيمة السديمية Nebula " وهي كتلة سحابية الشكل من غاز أو غبار أو منهما معاً، تكون في الفضاء البينجمي " أي الواقع بين النجوم " وتتوهج بفعل أشعة النجوم المجاورة المنعكسة عليها. أما إذا عدمت هذه الأشعة فعندئذ تبدو أشبه بكتلة سوداء تحجب ضياء النجوم الأكثر بعداً وهي تعرف في هذه الحال " السد يم المظلم dark nebula ".
وهناك نظرية وضعها الرياضي الفرنسي " لابلاس " عام ( 1796 ) تسمى " السّديمية Nebular hypothesis "وهي تقول بأنّ الشمس نشأت من سديم غازي ضخم ساخن دوّار، برد شيئاً فشيئاً وتقلص متخذاً شكل كرة. ولقد كان من نتائج هذا التقلص أن انفصلت عن الشمس حلقات غازية ما لبثت أن تقلصت بدورها وشكلت الكواكب السّيارة، وهكذا نشأ في رأيه النظام الشمسي.
ولقد أخذ علماء الفلك بتلك النظرية طوال القرن التاسع عشر، تكاثرت بعها سهام النقد الموجهة إليها، ومن ثم أخذ العلماء بنظرية جديدة معارضه هي " النظرية الكويكبية Planetesimal hypothesis " وهي افتراض طلع به العالمان الأمريكيان " توماس تشمبرلين وفورست مولتون " عام ( 1906 ) لتقسير نشوء الكواكب السيارة. وهي تقول أنّ الشمس لم يكن لها في الماضي السحيق كواكب سيارة تدور حولها، وأنّ كتلاً ضخمة من المادة فصلت عنها بفعل جاذبية نجم أكبر منها، وإنّ هذه الكتل التي تدعى الكويبكات اتخذت لها مدارات اهليليجية حول الشمس ثم اتحدت لتشكل ما يعرف " الكواكب السيارة.
أما " الكويكب أو السيير Plantoid - asteroid " فهو كما يقولون جرم سماوي صغير يدور مثل الأرض وسائر الكواكب حول الشمس. وتقع مدارات السييرات أو الكويبكات بين مداري المريخ والمشتري في المقام الأول، ويقولون أنّهم اكتشفوا حتى الآن أكثر من ( 1700 ) كويكب، ومعظم السييرات صغير يقل قطره عن ميل واحد.
وللباحث "عطية زاهدة" نظرية نشرها سنة (1988)، في كتابه "من يصدق أنّ الشمس لا تضئ" ينفي بها أن تكون الشمس هي المصدر الحقيقي للضوء والحرارة. وإذا ثبت صحة تلك النظرية فذلك يعني إعادة النظر في كل النظام الشمسي برمته، وإعادة تقييم المعلومات الفلكية المتداولة ـ جميعها أو معظمها ـ على وجه آخر جديد.


.................................................. .................................................. .................................................. ................
الموضوع منقول من : موسوعة الخلق والنشوء، حاتم ناصر الشرباتي، 1424هـ / 2002م. مكتبة الايمان - المنصورة
.................................................. .................................................. .................................................. .................

يتبع إن شاء الله.>>>>>>>>>>>>>>>>>>>



--------------------

حاتم ناصر الشرباتي
04-21-2006, 10:37 AM
عملية الحمل والولادة وتكوّن الإنسان

الفصل الأول

التكويــــن[ 2]


أمّا الأرض والتي أنعم الله علينا بخلقها لسكنانا ومعاشنا في آيات كثيرة، وذكّرنا بمافي هذا الخلق من دلائل القصد والحكمة والنظام، فهي الكوكب السيّار الوحيد الذي جعله الله صالحاً للحياة دون غيرها من الكواكب: فقربها من الشّمس معتدل، وحرارتها معتدلة، ودورتها اليومية معتدلة وكافية لإحداث ليل ونهار معتدلين صالحين للسعي والراحة معاً ودورتها السنوية معتدلة وصالحة لإرواء الزروع وانضاجها، علاوة على امتيازها بالماء والهواء الصالحين للحياة.

وهذه المزايا السبع هي التي فرض الخالق قوانيها لتجعل الأرض صالحة للحياة، ذلك أنّ حجمها أصغر من حجم الشّمس بمليون و300 ألف مرة، وكتلتها أي وزنها أقل من وزن الشّمس ب332 ألف مرة تقريباً - حسب أقوال علماء الفلك - وأنها أكثف من الكواكب السيارة جميعاً، بل أكثف من الشّمس نفسها، لأنّ كثافة الشّمس هي ربع كثافة الأرض، فالثقل النوعي لكل جسم في الشّمس أخف من الثقل النوعي للجسم نفسه وهو على الأرض، وإنّ بعدها عن الشّمس 93 مليون ميل، ودورتها اليومية حول الشّمس تتم في365,25 يوم، وشكل مدارها حول الشّمس أهليلجي، وسرعة دورانها حول نفسها ألف ميل في الساعة، وسرعة دورانها حول الشّمس بمعدل 18 ميل في الثانية، أي نحو 65 ألف ميل في الساعة. ووضعها على مدارها مائل بزاوية قدرها 23 درجة.

ويقول العلماء - افتراضاً - أنّه لوكان حجم الأرض أكبر أو أصغر، ولو كان ثقلها وكثافتها أقل أو أكثر، لاختل أمر الحياة أو تغير أو تشوه. لأنّ حجمها متناسب مع سرعتها ومع دورتها ومع ثقلها وتناسب مع قوّة جذبها، فلو زاد الحجم أو نقص لتغيرت السرعة والمدّة، ولو قلّ جذبها لأفلت الأوكسيجين منها، ولولا الدورة اليومية لما كان هناك ليل ونهار دائبين ثابتين.

ولو زادت سرعة دورانها حول نفسها عن ألف ميل في الساعة أو قلت، كما هو الحال في بقية السيارات، فكانت مثلاً مئة ميل في الساعة لأصبح طول النهار 120 ساعة، أو لأحترقت زروعنا في لهيب النّار، وذوت في زمهرير الليل، ولإختل ميزان العمل في النهار والراحة والنوم في الليل، لكن هذه السرعة ثابته لم يطرأ تبديل في ثانية واحدة منذ خلقها الله الحكيم الخبير وفرض عليها قوانينها، ولولا الجاذبية التي تربطنا بالأرض لَطِرنا عن ظهرها وانتثرنا انتثاراً نحن وبيوتنا، بل لولا التعادل الدقيق بين الجاذبية التي تلصقنا بالأرض، وقوّة البعد عن المركز "force centrifuge" التي تطردنا عن سطحها، لطرنا وطارت بيوتنا، وزحلت بحارنا من وسط الأرض إلى القطبين... فسبحان الذي قدّر كل شئ بكل الإتقان والدّقة، مما جعل الأرض صالحة للحياة .

وبعد،، إذا تأملنا في تلك القوانين التي جعلت من الأرض وحدها دون سائر السيارات الأخرى، فإننا قد نتسائل:

ولم كانت الأرض وحدها هكذا؟ ... من أجل أن تكون فيها حياة.
ولمن تكون هذه الحياة؟ ... لمن شاء الله أن يكون خليفة في الأرض.
ومن هو هذا الخليفة؟ ... إنّه الإنسان.
ومم خلق الإنسان؟ ... من تراب الأرض وطينها، أي من الأرض نفسها.
وماذا يعني ذلك؟ ... يعني أنّ الله سبحانه وتعالى عندما جعل الأرض وحدها هي الصالحة، فقد شاءت قدرته وإرادته لمن يعمر تلك الأرض أن يتكوّن منها، وأن ترتبط حياته بها، ثم يعود إلى أصله من التراب، فكما يبدأ من تراب يعود إلى تراب....... وهذه آية الله الكُبرى ومشيئته العُظمى في تكوين الإنسان وخلقه، فقد شاء أن يجبل الإنسان الأول من طين الأرض وصلصالها ويُخلطَ بمائها، ثُمَ يُعجن حتى تتكون الصورة التي أراده عليها، وما أن يلفحها الهواء وتصلها حرارة الشّمس حتى تستمسك وتصلب وتشتد، ويأتيها الروح بإذنه تعالى، فتستوي بشراً سَوِياً.


وهكذا يكون أصل الإنسان من الأرض، وقد خصّها الله بالحياة، فمن الطبيعي أن يكون الإنسان كائناً حياً، وحياته تستمر من الأرض الحيّة، لأنّّ هذه الأرض هي التي تمده بالغذاء والماء، وبدونها لا حياة، فكل ما يأكله الإنسان إنما أصله من الأرض سواء أكان لحماً أو خضاراً أو فواكه أو حبوباً، حتى إذا امتنع الإنسان عليه أكل وشرب ما تعطيه الأرض فقد بعد عن الحياة، وبعد فقدانه حياته فإنه إلى ألأرض يعود، قال تعالى: (﴿مِنها خلقناكُمْ وَفيها نُعيدُكُمْ وَمِنها نُخرجُكُمْ تارَةً أخرى﴾)[1 ].

لقد سمى الله الإنسان الأول (آدم) لأنه خلقه من أدمة الأرض، والأدمة في اللغة إنّما هي مشبهة بلون التراب، وآدم أدماً بين القوم. (أصلح وألف ووفق بينهم) وفي هذه الخصيصة الأخيرة معنى جوهري، وهو للدلالة على خواصّ الفكر والإرادة والنطق التي يتصف بها الإنسان عن سائر المخلوقات. وهنا السِّر الإلهي أيضاً، إذ جعل اسم الإنسان الأول يقترن بأصله، وبالتالي يحمل المزايا والصفات التي لا تكون إلآ للإنسان من سائر المخلوقات، وفي ذلك من التأكيد على العناية بالإنسان.

إنّ الإرادة التي جعلت هذا الكون المترامي الأطراف، الذي لم يقدر العقل البشري على أن يُلِمَّ به أو أن يعرف له حصراً على هذه الصورة من التكوين، وجعلت له هذا النظام الخارق في الدّقة والإتقان، بحيث تسْبَحُ الأفلاك والمجرات والكواكب والكويبكات التي لا تُعَدُّ ولا تحصى، في نطاق محدد ومحدود معين ثابت لايحيد عنه ومجبر على التقيد التام بأنظمته وقوانيه المفروضة عليه. إنّ تلك الإرادة التي أقامت هذا الإنتظام الشامل الكامل الدقيق، وهي على ما هي عليه من القوّة والإقتدار لقادرة على أن تمنح من قدرتها قدرة لأي كائن حتى تصبح له القدرة والحركة، وعلى سبيل التشبيه مع الفارق: فبمقدار ما يُعطي الإنسان الآلة التي يصنعها طاقة حرارية أوشحنات كهربائية، تكون تلك الآلة قادرة على التحرك والسرعة. وهكذا فإنّ النفخة الإلهية في الإنسان وهي ما عليه من إقتدار وقوّه قد فعلت فعلها في الجسم الترابي، عندما نفخ الله فيه من روحه، فاستوى بشراً ذا قدرات خارقة تكمن في ما انطوت عليه تلك الروح التي جعلها فيه، وتقف عند الحدّ الذي شاءت القدرة الواهبة لها أن تحْتدَ بهِ.

وفي هذا العصر أثبت العِلم أنَّ مادة هذا الكون تتألف من العناصر الأربعة:
التراب ، الماء ، النار ، الهواء
وأنّ هذه العناصر الأربعة تتكون هي نفسها من عناصر وعناصر، وأنّ هذه العناصر الكثيرة تتكون من أجزاء صغيرة، وأنّ تلك الأجزاء الصغيرة مكونة من أجزاء أصغر منها بكثير هي (الذرات Atomes) التي تبلغ من الصغر حداً كبيراً، إذ قدّر حجم الذرة الواحدة بجزء من خمسين مليون جزء من البوصة، أمّا وزنها فيتراوح على اختلاف العناصر، بين جزئين و395 جزءاً من مليون مليار من الغرام، وهذا الحجم مع صغره المتناهي يراه العُلماء عظيماً بالنسبة لحجم الألكترونات والبروتونات التي تتألف منها الذرّة، إذ الفرق بين حجم الذرّة كلها وبين حجم الألكترون الذي هو فيها كالفرق بين حجم ذرّة غبار وبين غرفة في منزل.

إنّ للذرّة غلاف تدور فيه نواة أو نوايات كثيرة، أمّا الغلاف فهو مؤلف من (الكترون Electron) واحد أو ألكترونات كثيرة بحسب العناصر، وأمّا (النواة Rucleus) فتتكون من (بروتون Proton) واحد أو أكثر، أو بروتونات كثيرة، وتتكون من (نوترونNeotron) واحد أو نوترونات كثيرة، إلا في الهيدروجين فلا يوجد فيه نوترون. أما الألكترون فهو وحدة كهربائية سالبة، والبروتون هو وحدة كهربائية موجبة، والنوترون هو وحدة كهربائية محايدة، لا سالبة ولا موجبة.

وحسب هذا المفهوم، فالمادة والعالَم كله ونحن معه، عبارة عن وحدات أو شحنات كهربائية. أي أن العالم كله يتألف من طاقات كهربائية متجمدة بشكل ذرات وعناصر.

.................................................. .................................................. .................................................. ...............
1- طه: (55)
.................................................. .................................................. .................................................. ................
الموضوع منقول من : موسوعة الخلق والنشوء، حاتم ناصر الشرباتي، 1424هـ / 2002م. مكتبة الايمان - المنصورة
.................................................. .................................................. .................................................. .................

يتبع إن شاء الله.>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

حاتم ناصر الشرباتي
06-29-2006, 02:00 PM
التكويــــن[ 3]


وقد كان العالم "اينشتاين A. Einstein" هو أوّل من جاء بنظرية النسبية[ 1] التي تقول بأنّ المادة والقوة هي شئ واحد، وقد صحت نظريته علمياً عندما أمكن فلق الذرة وتحويل مادتها إلى قوة، وبناء على نفس النظرية فما دام ثبوت أنّ المادة والقوة شئ واحد، فقد أمكن أن تتحّول المادة إلى قوة،[ 2] كما ثبت علمياً بتحطيم الذرة، فقد يثبت يوماً إمكان تحويل القوة إلى مادة، مما يكون دليل للمتشككين بإمكان خلق مادة العالَم من العَدَمْ.

وهكذا فإنّ "اينشتاين" قد وضع أساس العِلم الحديث الذي يقول بالوحدة بين المادة والقوة، وبتحويل المادة إلى قوة وفنائها، وقد استنتج من خلال نظريته النسبيّة فكراً محدداً حول الخلق والفناء، خلافاً للقول: "لاشئ في الطبيعة يخلق، ولا شئ يفنى" ، وبذلك أوصله علمه وتفكيره العميق المستنير إلى الإيمان بالله تعالى خالقاً لهذه الموجودات من العدم وإلى أنّ العِلم لا يستقيم في سيره بدون إيمان، وأنّ إعمال العقل في التفكر في المخلوقات لا بد أن يوصل إلى اٌيمان بالله تعالى، وفي ذلك قوله:

(إنّ أجمل هزّة نفسيّة نشعر بها هي تلك الهزّة التي تَعْرونا عندما نقف على عتبة الخفاء من باب الغيب، إنّها النواة لمعرفة الحق في كل فن وعلم، وإنّه لمَيت ذلك الذي يكون غريباً عن هذا الشعور، فيَعيش مُسْتغلقاً رُعْباً، من غير أن تجد روعة التّعجب إلى نفسه سبيلاً، إنّ جوهر الشُّعور الديني في صميمه هو أن نعلم بأنّ ذلك الذي لا سبيل إلى معرفة كُنه ذاته موجوداً حقاً ويتجلّى بأسمى آيات الحكمة وأبهى أنوار الجمال، التي لا تستطيع ملكاتنا العقلية المسكينة أنْ تدرك منها إلآ الجِبليّة في السطح دون الدقائق في الأعمال. أيَّ ايمان عميق بالحكمة التي بُنِيَ عليها الكون كان إيمان كبلر ونيوتن؟[3 ] وأيّ شوق لهّاب كان شوقهما لأنْ يريا أضأل شُعاع من نور العقل المتجلي في هذا الكون؟..... إنني لا أستطيع أن أتصور عالِماً حقاً لا يُدرِكُ أنّ المبادئ الصحيحة لعالم الوجود مبنيّة على حكمة تجعلها مفهومة عند العقل، إنّ العِلمَ بلا إيمان ليمشي مشية الأعرج، وإنّ الإيمان بلا عِلم ليتلمّس تلمّس الأعمى)

أما الرّبط القرآني بين أول الخلق وبين تتابع هذا الخلق فهو واضح وصريح في قوله تعالى: (وَلقدْ خلقنا الإنْسانَ مِنْ سُلالةٍ مِنْ طينٍ  ثُمَّ جَعَلناهُ نطفةً في قرارٍ مَكينٍ  ثُمَّ خلقنا النُطفةَ عَلقةً فخلقنا العَلقةَ مُضغةً فخلقنا المُضغةَ عِظاماً فكَسَوْنا العِظامَ لحْماً ثُمَّ أنشَأناهُ خلقاً ءآخرَ فتبارَكَ اللهُ أحْسَنَ الخالقينَ)[4 ]

"ولقد خلقنا الإنسان" إيجاداً من العدم مع عدم سبق وجود المادة الأصلية. أما قوله "من سُلالة" فيشير إلى أنّ المواليد كلها أصول للإنسان، وأنّه المقصود بالذات الجامع لطبائعها. "ثم جعلناه نطفة" بالإنضاج والتخليص الصادر عن القوى المعدّة لذلك، ففي قوله هذا "ثم جعلناه نطفة": تحقيق لما صار إليه الماء من خلع الصور البعيدة، وقوله "في قرار مكين" يعني الرّحم، ومكين تعني - كما ثبت لاحقاً- أنّ الرحم مجهز في تكوينه وفي خصائصه بما يُمَكن أشدّ التمكين للجرثومة التي يكون منها اللقاح من الحفظ والوقاية والدفاع عنها.

أمّا الطور الثالث فهو "ثم خلقنا النطفة علقة": أي صَيَّرناها دماً قابلاً للتّمدد والتخلق والعلوق باللزوجة والتماسُك، ومما يميز العلقة عن غيرها من الأطوار هي النشوب والتعلق واحاطة النطفة الملقحة بالدّم المتجمد الغليظ. وقد ثبت في علم الأجنّة أنّ النطفة التي يتكون منها اللقاح في مني الرجل، تعلو رأسها نازعة كالسنان فتهاجم البويضة في الرّحم، وتخرقها لتعلق بها، ولذا سميت علقة، فإذا امتزجتا يكون التحول الأول للنطفة إلى علقة، ولما كان بين هذه المراتب من المهلة والبعد ما ستقرره، فقد عطفها ب "ثم" المقتضية المهلة ما بين هذا الدور والأدوار الأخرى.
وبعد انقضاء المهلة المحددة يأتي الدور التالي وهو تحويل العلقة مضغة، أي تحويل ذلك الدّم الغليظ جسماً صلباً قابلاً للتفصيل والتخليط والتصوير والحفظ وجعل مرتبة المضغة في الوسط وقبلها ثلاث حالات وبعدَها كذلك، لأنّها الواسطة بين الرّطوبه السَيّالة والجسم الحافظ للصور.

ثم يأتي دور العظام "فخلقنا المضغة عظاماً" أي صلبنا تلك الأجسام بالحرارة والشدّة حتى قبلت التوثيق والرّبط والإحكام والضبط، وذلك بعد تخلق الأعضاء المشاكلة للعظام ويتحول دم المحيض مُغذيا، وقوله "فكسونا العظام لحْماً" يعني حال تحويل الدّم إلى لحم وشحم والدور الذي يكون فيه الإنسان كالنبات: (والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً)[5 ]

بهذا تكون أطوار الخلق سبعة. وقد ربط بعض المفكرين بينها وبين عدد الكواكب السّيارة السبعة، كما ربطوا بينها وبين عدد السموات وهو سبعاً، وعدد الأيام التي يتكون منها وهي سبعاً، وتسمية القرآن بالسبع المثاني.

وبعدما يشتدُّ المخلوق ويفيض بالحياة والحركة مِن نفخ الرّوح فيه، يستوي بشراً سوياً، إنساناً فيه من دقة الخلق والتصميم والتصوير مما يشير إلى عظمة الخالق المصور المبدع "ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين" ومعنى خلقاً آخر هو تكوينه على صورة الإنسان، بعدما كان خلقه في أطواره الأولى متشابهاً مع خلق الحيوانات الأخرى، كما يشير إلى ذلك العِلم الحديث، فإنّ العالِم الطبيعي الألماني "فون باير Von Baer"[ 6]، قام بجمع أجنة حيوانات مختلفة في مرحلة خاصة من مراحل تطورها، واحتفظ بها في وعاء زجاجي به مطهر حافظ من التعفن والتمصّل، ولثقته في نفسه، لم يضع على كل جنين ما يوضح هويته أو نوعه، وعندما عاد إليها ليدرسها لم يستطع أنْ يرجع معظمها إلى أصولها التي جاءت منها، لـــذا فقد كتب في مذكراته: (إنني لا أستطيع أنْ أحدّد إطلاقاً إلى أيّة فصيلة أو رتبة تنتمي هذه الأجنّة... فقد تكون لسّحالي أو لطيور صغيرة أو لحيوانات ثديية في مراحل نموها المبكّر..... فكم هي متشابهة في أشكالها وتكوينها هذه البدايات لأجنّة تلك الحيوانات!!!)

ومما لاشكّ فيه أنّ هذا التكوين للمخلوقات إنّما هو نتاج لنظام الزّوجيّة، هذا النظام الذي يقول العلماء بأنه مطرد وشامل لجميع الأحياء من الحيوانات والنباتات كلها بطريقة واحدة ونَسَقٌ واحد، وأعضاء متماثلة ولقاءً متماثلاً، فيتسائلون كيف اتفق هذا الإطراد والشمول والتماثل في كل حي؟ لقد استلفت هذا الإطراد نظر الفيلسوف "هنري برغسون Henri Bergson"[ 7]. فبعد أن تكلم عن حاسّة الإبصار، واستبعد أنْ يكون اطرادها في الإنسان وفي جميع الحيوانات على نسق واحد، وتركيب مماثل أثراً من آثار المصادفة، قال:

(وإذا سلمنا بأنّ هذه المصادفة جائزة الحدوث في تكوين حاسة الإبصار الواحدة في جميع الحيوانات، وقلنا أنّ الحيوانات ترجع إلى نوع واحد، فماذا نقول في النبات وهو نوع آخر يسير في طريق مختلفة كل الإختلاف عن طريق الحيوان إذا نحن رأيناهما يسيران على طريقة واحدة واحدة في عملية التناسل؟ فكيف أتفق أن اخترع الحيوان الذكورة والأنوثة، ووفق النبات إلى الطريق نفسها وبالمصادفة نفسها؟)

ونحن نضيف إلى تسـاؤلات هذا الفيلسـوف تساؤل آخر وهو: لماذا ألزمت تلك المخلوقات نفسها وأبناء جنسها بتلك الطريق وفرضتها على نفسها وعلى غيرها قانوناً وحيداً لا يتخلف ولا يتبدل للتكاثر والنشوء ؟ !!!.[8 ]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ الهامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] نظرية النسبية " Relativity " نظرية في الكون وضعها آينشتاين عام ( 1905 )، تبحث في حركة المادة وسرعة الضوء والجاذبية، والعلاقة بين المادة والقوة.
[2] وبناء عليه فقد تمكن العقل البشري من إنتاج القنبلة الذرية " atomic bomb " تلك الآلة الشيطانية التي تستمد قوتها المدمرة من انشطار بعض العناصر الثقيلة كالبولتوليوم واليورانيوم وتحولها إلى طاقة لقذفها بوابل من النيوترونات ونشوء ما يعرف ب "التفاعل المتسلسل chain reaction ". وقد صُنِعَت أولى القنابل الذرية المدمرة في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية، وقام رأس الكفر الصليبي بإلقاء أول قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما باليابان في 6 أغسطس 1945. بأمر من رئيسهم المجرم هاري ترومان، فجعلتها قاعاً صفصفاً، وقضت على عدد لا يحصى من سكانها الأبرياء لإشفاء غل الكفار الحاقدين، وليتمكنوا من استعمار العالم والتحكم في مصائر الناس. وبعد ثلاثة أيام ألقى الكفرة الأمريكيون قنبلتهم الجهنمية الثانية على مدينة ناغازاكي باليابان، فقتلت أربعين ألف شخص من المدنيين الأبرياء وجرحت أربعين ألف آخرين ومحت جزءاً كبيراً من المدينة. ليظل عملهم هذا ناطقاً أبد الدهر ومذكراً البشرية جمعاء بإجرام هؤلاء الكفرة المتباهون بدموقراطيتهم العفنة حيناً، وبعلمانيتهم الكافرة حيناً آخر، وبصليبيتهم الكافرة الحاقدة أحياناً أخرى. وبعد رأس الكفر الولايات المتحدة صنع الإتحاد السوفييتي البائد قنبلته الذرية الأولى، وتبعه كل من بريطانيا الصليبية وفرنسا الصليبية والصين الشعبية... على التعاقب.
[3] كَبْلر جوهانس " Jphannes Kepler " (1571–1630): عالِم فلك ورياضيات وبصريات ألماني، يُعتبر المؤسس الحقيقي لعلم الفلك الحديث، وضع ثلاثة قوانين شهيرة خاصة بحركات الكواكب، تعرف باسم: "قوانين كبلر Kepler`s Laws" ينص القانون الأول منها:على أنّ جميع الكواكب تدور حول الشمس في مسار يتخذ شكل قطعْ ناقص " ellipse " يقع مركز الشمس في بؤرتيه أو مركزيهُ. وينص القانون الثاني:على أنّ الخط الذي يصل مركز الشمس بمركز الكواكب يرسم مساحات متساوية في فترات متساوية من الزمن. أما القانون الثالث: فينص على أنّ مربع المدة الزمنيّة التي يستغرقها دوران الكوكب حول الشمس يتناسب تناسباً طردياً مع مكعب بعده المتوسط عن الشمس.
أما الثاني فهو "سير إسحق نيوتن Sir Isaac Newton" (1643–1727): رياضي وفيزيائي إنكليزي، يعتبر أحد أبرز وجوه الثورة العلمية في القرن السابع عشر، وأحد أعظم العباقرة في تاريخ العلم الحديث، وضع "النظرية الجسيمية في الضوء Corpuscular theory " وهي نظرية في الفيزياء. قال فيها أنّ الضوء يتكون من جسيميات مادية تنطلق في جميع الاتجاهات من سطوح الأجسام المضيئة. وقد حل محل النظرية السابقة " النظرية الموجبة Wave theory " للعالم الهولندي " كريستيان هايجنز ". أما النظرية الثانية فهي: "قانون الجاذبية والتجاذب Gravity and gravitation a" الذي ينص على أنّ قوة التجاذب بين كتلتين تتناسب تناسباً طردياً مع حاصل ضرب الكتلتين، وتتناسب تناسباً عكسياً مع ربع المسافة التي تفصل بين مركزيهما. وأما نظريته الثالثة فكانت: " قوانين الحركة في الديناميكا Dyanamics Law " التي تقول على أنّ الجسم الساكن يظل ساكناً، والجسم المتحرك يظل متحركاً بسرعة ثابتة في خط مستقيم ما لم تؤثر عليه في كلتا الحالتين قوة خارجية، وأنّ هذه القوة الخارجية تُسَرِّع حركة الجسم في اتجاهها هي وهذا التسارع يتناسب تناسباً طردياً مع القوة الخارجيّة، ويتناسب تناسباً عكسياً مع كتلة الجسم. وأنّ لكل فعل ردّة فعل مساوياً له في المقدار ولكنه مضاد له في الاتجاه.....وقوانين الحركة في الديناميكا هي أساس الديناميكا الكلاسيكية، اما حين تبدأ سرعة الأجسام في الاقتراب من سرعة الضوء فيستعاض عن قوانين نيوتن بنظرية النسبية التي وضعها " آينشتاين ". ومن أشهر مصنفات نيوتن " علم البصريات Optics " عام ( 1704 ).
(4) المؤمنون: (12-14)
(5) نوح: (17)
[ 6] فون باير " Von Baer " ( 1792 – 1872 ): عالم طبيعي بروسي، تخصص في علم الأجنة، له نظريات في التطور الطبيعي الجنيني.... انظر صفحه (49) – الفصل الثالث – الباب الأول.
[7] هنري برغسون: فيلسوف فرنسي ( 1859 – 1941 )، قال بأنّ العالم المادي قوّة كامنة تعمل على تطوير المتعضيات والكائنات. وقد دعا هذه القوة " دفعة الحياة " أو " الدافع الحيوي " ( élan vital ).ومن أشهر آثاره: " التطور الخلاق L`Evolution creatrice " عام ( 1907 )، منح جائزة نوبل في الآداب عام (1927 ).
[8] هذا الفصل بالكامل ( بدون الحواشي السفلية ) منقول بتصرف عن كتاب: - معجم البيان الحديث – قصص الأنبياء في القرآن الكريم )، سميح عاطف الزين، الصفحات ( 39 – 57 ).
ـــــــــــــــــــــــــــــ

الموضوع منقول من :
موسوعة الخلق والنشوء
حاتم ناصر الشرباتي
1424هـ / 2002م.
مكتبة الايمان - المنصورة

يتبع إن شاء الله.>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

طالب عوض الله
06-30-2006, 09:15 AM
وبارك الله في الأخ الحبيب ( حازم )
وقد ابتدأ بالخبير وقام بداية بنشر الموضوع
ويسرنا أن يشاركنا بالرأي فيما ابتدأه من خير
وننتظر

حاتم ناصر الشرباتي
07-26-2006, 07:41 PM
عملية الحمل وأطواره (1)


لقد كان أصل الخلق من تراب، كان هذا في الخلق الأول، خلق آدم عليه السلام، ثم تم خلق حواء من ضلعه الأيسر، وخلق في كليهما غريزة النوع التي من آثارها الميل الجنسي، ميل كلا الجنسين للجنس الآخر، أما ثورة الغريزة فإنها تتطلب الإشـباع، والإشباع يتم بمعاشـرة جنسيـة بين ذكر وأنثى (جماع)، وفي اجتماع الزوجين الذكر والأُنثى والذي يتم بمعاشرة جنسية ليتم في نهايتها قذف السّائل المنوي من قضيب الرّجل المولج في فرج الأنثى وبالذات في رحمها أو مهبلها، وتكون لحظة بلوغ المرأ قمّة اللذه والنشوة الجنسيّة ، فيندفع هذا السائل المتدفق من قضيب الرّجل والمحتوي على النطفة مُلقحاً بويضة المرأة ، ليُكوّن هذا التلقيح إتحاداً بين افرازات النسل الذكرية وبين افرازات النسل الأنثوية، مكوناً "النطفة الأمشاج" التي هي: النطفة المختلطة من الحيوان المنوي الملقِح لبويضة المرأة، أي ما يُدعى: "البويضة الملقحة Fertilized Ovum" التي تتحرّك في قناة الرحم لتصل إلى الرّحم "القرار المكين" فتستقرّ فيه وقد تحولت إلى قطعة متجمدة من الدّم، ثم تتطور إلى قطعة من اللحم مصورة فيها معالِمُ الإنسان، أو غير مصورة المعالِم، ليبين لنا الله قدرته على الإبداع في التكوين والتغيير من حال إلى حال، وبمشيئته تعالى يُسْقِطُ من الأرحام ما يشاء وَيُقِرُ بها ما يشاء، حتى تكتمل الشهور التسعة المقدرة لمدة الحمل في العادة (أو أكثر أو أقل)، ليخرج الطفل من رحم أمه بشرأ سوياً مكتمل الخلق حاملاً لكل الصفات الإنسانية، وفي ذلك قوله تعالى من سورة الحج :

(يا أيُّها النّاس إنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فإنّا خلقناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفةٍ ثُمَّ مِنْ عَلقةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلقةٍ وَغَيْرِ مُخَلقَةٍ لِنُبَيِنَ لكُمْ وَنُقِرُ في الأرْحامِ ما نَشاءُ إلى أجَلٍ مُسَمى ثُمَّ نُخرِجَكُمْ طِفلاً ثُمَّ لِتَبْلُغوا أشُدَكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفى وّمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلى أرْذَلِ العُمْرِ لِكَيْلا يَعْلَمّ مِنْ بَعْدِ عِلمٍ شَيْئأ وَتَرى الأرْضَ هامِدَةً فَإذا أنْزَلنا عَلَيْها الماءَ إهْتَزَتْ وَرَبَتْ وَأنبَتّتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهيجْ  ذالِكَ بِأنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأنَّهُ يُحْيِ المَوْتى وّانَهُ عَلى كُلِّ شَئٍ قدير  وَأنَّ الساعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فيها وَأنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ في القبورِ )[2 ]

ونستطيع أن نحدد المراحل والأطوار التي يمر بها الحمل حسب السياق القرآني الوارد في سورة الحج كما يلي:

(1) النُطفة : وهي نطفة يقذفها جهاز الرّجل التناسلي من خلال القضيب في مهبل المرأة لتتلقفها نطفة الأنثى، والنطفة نوعان :

1. النطفة المذكرة "نطفة الرّجل": وهي الحيوانات المنوية الموجودة في سائل الرجل المنوي "المني" المتدفق من قضيبه.
2. النطفة المؤنثة "نطفة الأنثى": وهي البويضة التي يفرزها مبيض المرأة مرَّة كل شهر.
أمّا المني : فهو لفظ يطلق على الإفرازات التناسلية للرجل، ويتكون من الحيوانات المنوية "النطفة" والسائل المنوي الحامل لتلك الإفرازات ويغذيها.

ومتى اختلطت مياه الرجل بمياه المرأة ، يتم تلقيح بويضة المرأة من الحيوان المنوي للرجل فيكونان "النطفــة الأمشاج" أو "البويضة الملقحةFertilized Ovum"

الجهاز التناسلي المذكريتكون من مصنع للنطف " Spermatozzons " التي يحملها السائل المنوي من خلال المني ، والتي يقذفها جهاز الرجل التناسلي من خلال القضيب في مهبل المرأة لتتلقفها نطفة الأنثى ، ليتم التلاقح المنتج للإنسان..

(2) العلقة : وقد فسَّرَها بعض المفسرين بِ "الدّم الغليظ المتجمد Colt"[ 3] وقال إبن الجوزي: وقيل سميت علقة لرطوبتها وتعلقها بما تمر به.[4 ] وجاء في "المصباح المنير" : علقت المرأة أي حبلت. وجاء في "لسان العرب": علق بالشئ عَلقاً وعلقه: نشب فيه، والعلق: هو الدّم الجامد الغليط. وقال الأطباء: العلقة هي المرحلة التي تعلق فيها النطفة الأمشاج بجدار الرحم وتنشب فيه.[ 5]

وفي استعراض معاجم اللغة العربية نرى أنّ لفظ العلقة يطلق أساساً وعادةً على ما ينشب ويعلق، وكذلك تفعل العلقة إذ تنشب في جدار الرّحم وتنغرز فيه محاطة بالدّم المتجمد من كل حياتها. ويذكر الأطباء أنّ حجم العلقة عند بدأ انغرازها لا يزيد على ربع مليمتر، لـذا ندرك لماذا أصرَّ بعض المفسرين القدامى على أنّ العلقة هي الدّم الغليظ، فذلك ناتج عن الملاحظة بالعين المجردة وهو تفسير صحيح،. فالعلقة الملتصقة بجدار الرّحم متعلقة به والتي لا تكاد تُرى بالعين المجردة هي محاطة بالدّم الغليظ غير منفصلة عنه بحيث يراه هكذا كل ذي عينين. لـذا فإنَّ وصف العلقة هو أدقُ وصف، وأهم ما يميز هذه المرحلة من مراحل تخلق الجنين ونموه، وقد وصفها علماء الأجنّة بأنّها "مرحلـة الإلتصاق والإنغراز Attachment and Implation" وذلك حينما تقترب العلقـة من الغشاء المخاطي المبطن للرحم، والذي استعد أيما استعداد لإستقبال النطفة الأمشاج "البويضة الملقحة" فتعلق بجدار الرحم منغرزة به.
(3) المُضغه: وهي القطعة من اللحم بمقدار ما يُمضغ ولم ينضج. ويفسرها بعض الأطباء بأنَّ المقصود بها مرحلة "الكتل البدنيّة Somites" التي تحمل الجنين وكأنّه مضغة من اللحم الغير ناضج ، وفي هذه المرحلة يبدو الجنين فيها وكأنَّ أسناناً إنغرزت فيه ولاكته ثم قذفته[6 ]

(4) مخلقة وغير مخلقة: وذلك - كما ذهب إليه المفسرون - هو وصف للمضغة، وقال بعضهم أنّ المخلقة هي المصورة، وغير المخلقة هي غير المصورة. روي عن الحسن البصري عن إبن عباس رضي الله عنهما أنّه قال: مخلقة أي تامة الخلق لا عيب فيها ولا نقص، وغير مخلقة أي أنّ بها عيب ونقص........ وفسّرها بعضهم أنّ غير المخلقة هي "السُقط أي الجهيض Abortive".


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهامش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- هذا الفصل بالكامل - دون الهوامش السفلية - منقول بتصرف عن كتاب ( معجم البيان الجديث - قصص الأنبياء في القرآن الكريم)، سميح عاطف الزين، الصفحات (39-57)
2- الحج: (5-7)
3- البار: محمد علي، خلق الانسان بين الطب والقرآن، صفحة: (202)، نقلاً عن : سيد قطب، في ظلالا القرآن . والمراغي في تفسيره وآخرين.
4- المصدر السابق، نقلاً عن : ابن الجوزي، زاد المسير في علم التفسير.
5- المصدر السابق، صفحة : ( 211-223)
6-المصدر السابق، صفحة 367 وما بعدها بتصرف.

]ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــ[/B]

الموضوع منقول من : موسوعة الخلق والنشوء
حاتم ناصر الشرباتي
1424هـ / 2002م.
مكتبة الايمان - المنصورة

]ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ[/CENTER]

يتبع إن شاء الله.>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

حاتم ناصر الشرباتي
08-08-2006, 12:57 PM
عملية الحمل وأطواره
(الحلقة 2)

وفي موضع آخر من محكم التنزيل يقص علينا الله تعالى قصة المراحل التي بدأت بخلق آدم عليه السّلام من خلاصة الطين، ثم يعرج إلى خلق نسله بطريق الزوجيّة والتّوالد، الذي يكون في أول مراحله "نطفة" من مني الرجل: الذي هو ماء فيه كل عناصر الحياة الأولى، تستقر في الرّحم الذي هو مكان للإستقرار حصينٌ ومهيأ لحماية تلك النطفة، ثم صَيَّرَ النطفة بعد تلقيح البويضة والإخصاب دماً، ثم كوَّنَ الدَّمَ بعد ذلك قطعة من اللحم، الذي تحوّل تخلقها بعد ذلك فصارت هيكلاً عظمياً، وكسا العظام باللحم، ثم أتم خلقه إنساناً كاملاً لا روح فيه، متمماً الخلق بعد نفخ الروح فيه خلقاً مغايراً لمبدأ تكوينه. فتعالى الله في عظمته وقدرته. وفي ذلك قوله تعالى من سورة المؤمنون:

(وَلقدْ خلقنا الإنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طينٍ  ثمَّ جعَلناهُ نُطفةً في قرارٍ مَكينٍ  ثُمَّ جَعَلنا النطفةَ عَلقةً فخلقنا العَلقةَ مُضغةً فخلقنا المضغة عِظاماً فكَسَوْنا العِظامَ لحْماً تُمَّ أنْشأناهُ خلقاً آخرَ فتبارَكَ اللهُ أحْسَنَ الخالقينَ )[ 1]
وهنا إعلامٌ لنا بالمراحل التي تم فيها خلق الإنسان، فالمرحلة الأولى هي خلق آدم عليه السّلام بالطريقة التي أعلمنا بها القرآن في أكثر من موضع: وهو سلالة الطين. أمّا الثانية: فهو تَكَوّنُ كافة البشر بعد آدم بطريقة واحدة تخضع لقانون الزوجية والتلاقُح وأطوار تكون الجنين.

من سُـلالـةٍ من طين: وهذا نص يشير إلى أطوارالنشـأة الإنسـانية ولا يحددها، فيفيد أنّ الإنسان قد مرَّ بأطوارمُسلسلة من الطين إلى الإنسان، فالطين هو الطور الأول لتكون الإنسان، ومنه خُلق آدم أول البشرية "الإنسان الأول، وهذا يعني أنَّ الطين هو أصل نشأة الجنس الإنساني التي كانت من سلالةٍ "خلاصةٍ" من طين..... وأمّا نشـأة الفرد الإنساني بعد آدم، فتمضي في طريق آخر معروف هو ما سيحدثنا عنه القرآن بعد ذلك.

القرار المكين: هو رحم المرأة الذي تنمو فيه النطفة الملقحة حتى تصير جنيناً، ثم تحافظ عليه في بقية أطواره حتى تخرجه طفلاً كامل الخلقة سوي التكوين.... لذا لا بد له أن يكون محروساً ومهيئاً للمحافظة على تلك النطفة. وأول شئ نلاحظه هو أنّ الرحم موضوع في في الحوض الحقيقي لهيكل المرأة مما يوفر له الحمايـة الكاملة من أي عدوان خارجي، ثم نجد الأربطة والصفاقات المختلفة التي تمسك بالرحم، ومع ذلك تسمح له بالحركة والنمو حتى أنّ حجمه ليتضاعف أكثر من ثلآثة آلآف مرة في نهاية الحمل، ومع ذلك يبقى الرحم في مكانه والأربطة ممسكة به، وبايجاز أن هناك عوامل كثيرة تحفظ الرحم في مكانه وتجعله القرار المكين.


ولرُبَّ سائل يتسائل : هل يخلق الإنسان من ماء الرجل أم من ماء المرأة أم من كليهما ؟ وهل للمرأة ماء كما للرجل؟ .

لقد وقع الخلاف والنزاع قديماً حول هذه النقطة، كما يقول الإمام "الفخر الرازي" في كتابه: المباحث الشرقية"[2 ]، فقد نفى "أرسطو"[3 ] أن يكون للمرأة مني... أمّا "جالينوس"[4 ] وهو أشهر أطباء اليونان القديمة فقد أكثر من التشنيع عليه في ذلك، مثبتاً أنّ للمرأة منياً، وإن كان يختلف عن مني الرجل في طبيعته، وأنه لا يقذف ولا يندفع بل يسيل على العضو المخصوص وأنه رطوبة بيضاء.[ 5]

امّا العِلم الحديث فيقرر أنّ الماء الذي لا يقذف ولا يندفع بل يسيل على العضو المخصوص إنّما هو افرازات المهبل وغدد "بارثلون" المتصلة به، وخروج الماء من فرج المرأة هو أمر طبيعي ومشاهد عند الجماع أو الإحتلام. والإسلام يعتبره موجباً للغسل، وعند الجماع يختلط هذا الماء بمني الرجل... ويتقلص الرحم تقلصات عديدة تدفع بهذا الماء المختلط من مني الرجل وماء المرأة إلى الرحم ومنه إلى قناة الرحم، حيث يلتقي الحيوان المنوي ببويضة المرأة ليلقحها[ 6]. وبالدراسة يتضح أنّ للمرأة نوعين من الماء :

1. ماء لذج يسيل ولا يتدفق وهو ماء المهبل، وليس له أي علاقة في تكوين الجنين، سوى مساعدته في سهولة الإيلاج وفي ترطيب المهبل وتنظيفه من الجراثيم والميكروبات.

2. ماء متدفق يخرج مرة واحدة في الشهر من حويصلة "جراف" بالمبيض عندما تقترب هذه الحويصلة المليئة بالماء الأصفر من حافة البويضة. وفيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنّ ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر"[7 ] وعند تمام نموها تنفجر فتنذلق المياه على أقتاب البطن، ويتلقف البوق "وهو في نهاية الرحم" البويضة فيدفعها دفعاً خفيفاً حتى تلتقي بالحيوان المنوي الذي يلقحها في الثلث الوحشي من قناة الرحم. وهذا الماء يحمل البويضة "النطفة المؤنثة" كما يحمل ماء الرجل الحيوانات المنوية "النطفة المذكرة". وكلاهما متدفق .... وكلاهما يخرج من بين "الصلب والترائب"، أي من الغدد التناسلية المنتجة. ماء دافق يندفق من خصية الرجل يحمل النطفة المذكرة. وماء دافق يخرج من حويصلة جراف بمبيض المرأة يحمل النطفة المؤنثة.[8 ]

وفي الحديث الشريف :
(أخرج الإمام أحمد في مسنده: أنّ يهودياً مَرَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه. فقالت قريش: يا يهودي إنّ هذا يزعم أنّه نبي، فقال: يا محمد، مم يخلق الإنسان؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا يهودي، من كل يخلق، من نطفة الرجل، ومن نطفة المرأة. فقال اليهودي: هكذا كان يقول من قبلك)[9 ]


ـــــــــــــ الهامش ــــــــــــــــ
[1] المؤمنون: ( 12 – 14 ).
[2] الرازي – فخر الدين، المباحث الشرقية، جزء ( 2 )، صفحه ( 243 ). والرازي – فخر الدين، (1149-1209 م )، فقيه ومفسر مسلم، ولد في الرّي بإيران، وتوفي في هَراة بأفغانستان، عُرف بدفاعه الشديد عن آراء مذهب " أهل السنة "، فطارت له شهرة واسعة... وضع نحواً من مائة مجلد بعضها موسوعي الطابع، أشهر آثاره تفسيرٌ للقرآن الكريم دعاه " مفاتيح الغيب. وهو من أشهر وأوثق التفاسير.
[3] أرسطو "أرسطوطاليس Aristotle" (384- 322 ق.م.): فيلسوف يوناني، تلميذ أفلاطون وأستاذ الإسكندر المقدوني. جرت فلسفته في اتجاه مغاير لمثالية أفلاطون، وتعاظم اهتمامها شيئاًُ فشيئاً بالعلم وظواهر الطبيعة. ويعتبر واحداً من أعظم فلاسفة العالم، وقد انسحب أثره على جميع المفكرين في عصره ممن أتى بعده حنى مُنبلج العصر الحديث، من أشهر آثاره: " الأورغانون " في المنطق، وكتاب السياسة، وكتاب ما وراء الطبيعة، وكتاب الشعر.
[4] جالينوس Galleons: طبيب يوناني، له مذهب في الطب يدعى " الجاليسونية Galennism "، وهو يقوم على أساس القول بأنّ الأخلاط الأربعة " الدم والبلغم و الصفراء والسوداء " هي التي تقرر صحة الإنسان ومزاجه.
[5] البار – محمد علي ، خلق الإنسان بين الطب والقرآن ، صفحه ( 121 – 122 ) .
[6] البار – د. محمد علي، خلق الإنسان بين الطب والقرآن، صفحه ( 122 ).
[7] رواه مسلم.
[8] المصدر السابق، صفحه ( 123 – 124 ).
[9] المقصود بمن قبلك: أي الأنبياء.


ـــــــــــــــــــــ 324 - 329 ــــــــــــــــــ

[
]الموضوع منقول من :
موسوعة الخلق والنشوء
حاتم ناصر الشرباتي
1424هـ / 2002م.
مكتبة الايمان - المنصورة[/

http://www.sharabati.org/
يتبع إن شاء الله.>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

حاتم ناصر الشرباتي
08-28-2006, 11:21 AM
عملية الحمل وأطواره
(الحلقة 3)

وقال العسقلاني: (المراد أنّ المني يقع في الرحم حين انزعاجه بالقوة الشهوانية الدافعة مبثوثاً متفرقاً فيجمعه الله في محل الولادة من الرحم. والمراد بالنطفة المني، وأصله الماء الصافي القليل، والأصل في ذلك أنّ ماء الرجل إذا لاقى ماء المرأة بالجماع، وأراد الله أن يخلق من ذلك جنيناً هيأ أسباب ذلك، لأنّ في رحم المرأة قوتين: قوة انبساط عند ورود مني الرجل حتى ينتشر في جسد المرأة، وقوة انقباض بحيث لا يسيل من فرجها مع كونه منكوساً ومع كون المني ثقيلاً بطبعه، وفي مني الرجل قوة الفعل، وفي مني المرأة قوة الإنفعال، وقيل في كل منهما قوة فعل وانفعال ولكن الأول في الرجل أكثر، والثاني في المرأة أكثر. وزعم كثير من أهل التشريح أنّ مني الرجل لا أثر له في الولد إلآ في عقده، وأنّه إنّما يتكون من دم الحيض، وأحاديث الباب تبطل ذلك. وما ذكر أولاً أقرب إلى موافقة الحديث. والله أعلم)[ 1]

ويقول الإمام أبن القيم: (ومني الرجل وحده لا يتولد منه الولد ما لم يماذجه مادة أخرى من الأنثى... إنّ الأعضاء والأجزاء والصورة تكونت من مجموع المائين، وهذا هو الصواب.)[2 ]

أمّا القرآن الكريم، فيجيب على نفس التساؤلات في مطلع سورة الإنسان:
(هَلْ أتى على الإنسان حينٌ مِنَ الدّهْر لم يكن شيئاً مذكوراً  إنّا خلقناهُ مِنْ نُطفةٍ أمشاج نَبْتَليه فجَعَلناهُ سَميعاً بَصيراً )[ 3]

قال إبن جرير الطبري في تفسيره :
(إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج: إنّا خلقنا ذرية آدم من نطفة، يعني من ماء الرجل وماء المرأة. والنطفة كل ماء قليل في وعاء - كان ذلك في ركية أو قربة أو غير ذلك - وقوله "أمشاج" يعني أخلاط، واحدها مَشَجَ ومَشيج، يقال إذا مشجت هذا بهذا أي خلطته، وهو مشوج به ومشيج أي مخلوط... وهو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة)[4 ]

وقال عكرمة: أمشاج نبتليه: ماء الرجل وماء المرأة يمشج أحدهما بالآخر، أي ماء الرجل وماء المرأة يختلطان. وعن إبن عباس رضي الله عنهما: ماء الرجل وماء المرأة يختلطان. وعن الربيع بن أنس قال: إذا اجتمع ماء الرجل وماء المرأة. وقال الحسن البصري: مشج "خلط" ماء المرأة مع ماء الرجل. وقال مجاهد: خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة.[5 ] وقد قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شُعوباً وقبائل لِتَعارفوا إنّ أكرَمَكُم عِندَ الله أتقاكُمْ.)[ 6]

أما إبن كثير فيقول في تفسيره :
(يقول تعالى مُخبِراً الإنسان أنّه وُجدَ بَعْدَ أن لمْ يّكُن شيئاً مذكوراً لضعفه وحقارته) ثم يستطرد مفسراً ("أمشاج" أي أخلاط، والمشج والمشيج المختلط بعضه مع بعض)

ويقول صاحب الظلال رحمه الله :
(ألأمشاج: الأخلاط. وربما كانت هذه اشارة إلى تكوّن النطفة من خلية الذكر وبويضة الأنثى بعد التلقيح. وربما كانت هذه الأخلاط تعني الوراثات الكامنة في النطفة والتي يمثلها علمياً ما يسمونه علمياً: "الجينات" وهي وحدات الوراثة الحاملة للصفات المميزة لجنس الإنسان أولاً، ولصفات الجنية العائلية أخيراً. وإليها يُعزى سير النطفة الإنسانية في رحلتها لتكون جنين إنسان لا جنين أي حيوان آخر، كما تُعزى إليها وراثة الصفات الخاصة في الأسرة، ولعلها في هذه الأمشاج المختلطة من وراثات شتى)[ 7]
وبذلك نرى أنّ غالبية المفسرين من قدامى ومحدثين متفقون على أنّ النطفة الأمشاج هي النطفة المختلطة من ماء الرجل وماء المرأة، وأنّ الخلق يتكون من نطفتيهما. ويؤكد القرآن الكريم على حقيقة حصر الخلق في الزوجية في أكثر من موضع في محكم التنزيل، أكتفي منها بما جاء في سورة الحجرات: (يا أيها الناس إنّأ خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم)[ 8] وفي تفسير تلك الآية يقول إبن جرير الطبري في تفسيره: (يا أيها الناس إنّا أنشأنا خلقكم من ماء ذكر من الرجال ومن ماء انثى من النساء، وبنحو ذلك الذي قلنا قال أهل التأويل)... وروى بسنده عن مجاهد قال: (لأنَّ الله تعالى يقول من ذكر وأنثى).

وقال إبن كثير في تفسيره: (يقول تعالى أنّه خلقهم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها وهما آدم وحواء، أي من ذكر وأنثى)[ 9]

ويقول القرطبي في تفسيره: (ذهب قوم من الأوائل إلى أنَّ الجنين إنّما يكون من ماء الرجل وحده، ويتربى في رحم الأم ويستمد من الدّم الذي يكون فيه.... والصحيح أنّ الخلق إنّما يكون من ماء الرجل وماء المرأة - لهذه الآية - فإنها نَصٌ لا يحتمل التأويل، ولقوله تعالى (خلِق من ماء دافق يخرج من بين الصّلب والترائب)[10 ] والمراد منه أصلاب الرجال وترائب النساء... وأما ما احتجوا بهِ فليس فيه أكثر من أنّ الله ذكر خلق الإنسان من الماء والسلالة والنطفة، ولم يضفها إلى أحد الأبوين دون الآخر. فدلَّ على أنَّ الماء والسُّلالة لهما "والنطفة منهما" بدلالة ما ذكرنا. وبأنَّ المرأة تُمنى كما يُمنى الرجل)[ 11]

يتضح بجلاء مما تقدم أنّ ما إكتشـفة الإنسان وعلومه مؤخراً (في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين) قد سبقه القرآن الكريم بوضوح لا يحتمل أي تأويل أو شك. وزادت عليه الأحاديث الشريفة توضيحاً، فقدما الأجوبة الصريحة الدقيقة لإستفسارات الإنسان وتساؤلاته. كما أنّ نجوم هذه الأمة الصحابة الكرام ومن تبعهم من المفسرين والفقهاء قد فهموا من نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف ما نفهمه نحن اليوم منهم، ويأكد فهمنا هذا الإكتشافات العلمية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ
[1] العسقلاني، فتح الباري – شرح صحيح البخاري، مجلد ( 11 )، صفحه ( 479 – 480 ).
[2] الجوزية - الإمام أبن القيم، التبيان في أقسام القرآن، صفحه ( 242 – 256 ).
[3] الإنسان: ( 1 – 2 ).
[4] الطبري – إبن جرير، جامع البيان في تفسير القرآن، جلد ( 29 )، صفحه ( 120 ).
[5] البار- محمد علي، خلق الإنسان بين الطب والقرآن، صفحه ( 192 ).
[6] الحجرات: ( 13 ).
[7] قطب – سيد، في ظلال القرآن، جلد ( 6 )، صفحه ( 3779 ).
[8] الحجرات: ( 13 ).
[9] إبن كثير، تفسير إبن كثير، جزء ( 4 )، صفحه ( 454 ).
[10] الطارق: ( 6 – 7 ).
[11] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، جلد ( 16 )، صفحه ( 343 ).

الموضوع منقول من :
موسوعة الخلق والنشوء
حاتم ناصر الشرباتي
1424هـ / 2002م.
مكتبة الايمان - المنصورة[/

http://www.sharabati.org/
يتبع إن شاء الله.>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

حاتم ناصر الشرباتي
09-24-2006, 10:39 PM
عملية الحمل وأطواره
(الحلقة4)

يتضح بجلاء مما تقدم أنّ ما إكتشـفة الإنسان وعلومه مؤخراً (في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين) قد سبقه القرآن الكريم بوضوح لا يحتمل أي تأويل أو شك. وزادت عليه الأحاديث الشريفة توضيحاً، فقدما الأجوبة الصريحة الدقيقة لإستفسارات الإنسان وتساؤلاته. كما أنّ نجوم هذه الأمة الصحابة الكرام ومن تبعهم من المفسرين والفقهاء قد فهموا من نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف ما نفهمه نحن اليوم منهم، ويأكد فهمنا هذا الإكتشافات العلمية.

أمّا في سورة المرسلات، فإنّ الله تعالى يطلب من الإنسان كل إنسان إعمال عقله والتفكر في الخلق: للإهتداء إلى وجود الخالق المدبر المصور، والدعوة أتت على صورة أسئلة تذكيرية هادفة لتوجه الإنسان إلى الطريقة المنتجة للتفكير: ألم يتم خلقكم من ماء مهين حقير هو النطفة "الحيوان المنوي المذكر والبويضة المؤنثة" وجعلنا تلك النطفة بعد أن تلقحت وامتزجت في مكان آمن حصين تتمكن فيه، فيتم الخلق والتصوير إلى وقت محدود قرره الله تعالى؟ فقدرنا على خلقه وتصويره واخراجه للوجود بشراً سوياً!!! فنعم الخالقون نحن المقدرون له. وبعد كل تلك الأدلة التي لا مجال لدحضها بتاتاً فالويل والثبور لكل من أنعمَ الله تعالى عليه بعقل مفكر ورغم ذلك يُكذب الحقائق ويُنكر ويكفر بنعمة الخلق والتقدير. لقد جاء هذا التساؤل والتذكير والوعيد في سورة المرسلات:

( ألمْ نخلقكُمْ مِن ماءٍ مَّهينٍ  فجَعَلناهُ في قرارٍ مَكينٍ  إلى قدَرٍ مَعْلومٍ  فقدَرْنا فَنِعْمَ القادرونَ  وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلمُكذبينَ )[ 1]

والمقصود "بماء مهين": أي ضعيف حقير بالنسبة إلى قدرة الباري عز وجل وهو النطفة. أما المقصود ب "قرارمكين" فيعني جمعناه في الرحم وهو قرار المائين من الرجل والمرأة، فالرحم معد لذلك تماماً، حافظ لما اودع فيه من من ذلك الماء. وأما قوله تعالى:
"إلى قدر معلوم" فيعني إلى مدة معينة "تسعة أشهر أو أكثر أو أقل". أما "فقدرنا" أي قررنا أو أقدرنا.

قال القرطبي في تفسيره: (ألم نخلقكم من ماء مهين: أي ضعيف حقير وهو النطفة - وقد تقدم -. وهذه الآية أصل لمن قال: إنّ خلق الجنين هو من ماء الرجل وحده - وقد مضى القول فيه –[2 ]. "فجعلناه في قرار مكين" أي مكان حريز وهو الرحم. "إلى قدر معلوم" قال مجاهد: إلى أن نصوره، وقيل: إلى وقت الولادة. "فقدرنا" أي فقررنا وقت الولادة وأحوال النطفة في التنقيل من حالة إلى أخرى حتى صارت بشرأ سوياً، أو الشقي والسعيد، أو الطويل والقصير)[3 ]

ودعوة أخرى إلى إعمال العقل والتفكر في صورة سؤال يحوى في طياته التحدي والتذكير الجميل والوعيد كما يحوى التعليم أيضاً، وإعلام بكيفية الخلق والتكوين... أيظن أو يحسب هذا الإنسان المُلحِد المُنكِر لِلبَعث أن يُترَكَ مُهملاً فلا يُحاسَب!!! ألَم يكن ذلك الإنسان نفسه في طور من أطوار تخلقه نطفة من مني قدر تكوينه وحفظه في الرحم؟ ثم صار علقة مع دم جامد، فخلقه الله وسواه في أحسن تقويم!!! وجعل منه صنفي الإنسان الذكر والأنثى، أليس ذلك الخالق المبدع المصور المصور الفعال لِما يُريد، أليس بقادر على إعادة الأحياء ثانية للموتى بعد جمع عظامهم تارة أخرى وقد خلقهم أصلاً من عدم!!! إستعمل عقلك أيها الإنسان المُنكِر للبعث ثانية والحساب، وتفكر في الخلق إنشاءاً من العدم، هل من أنشأ من العدم عاجز عن إعادة الإنشاء ثانية!!! فإلى سورة القيامه:

(أيَحْسَبُ الإنسانُ أن يُترَكَ سُدى  ألَمْ يَكُ نُطفةً مِنْ مِنِيٍ يُمْنى  ثُمَّ كانَ عَلقةً فخلق فسوّى  فجَعَلَ مِنْهُ الزّوْجَينِ الذكَرَ وَالأنثى  أليْسَ ذلِكَ بقادِرٍ عَلى أنْ يُحْيى المَوْتى )[ 4]
وهنا لفتة طريفة، ففي هذه الآية الشّريفة يتحدث خالق النطفة ومنشئها، فيُعَلمنا التمييز بين النطفة وبين المني، : إذ جعل النطفة جزء من المني.

ويفسّر ذلك حديثه عليه الصلاة والسّلام: (من كل الماء يولد الولد، وإذا أراد الله خلق لم يمنعه شئ)[5 ] ويتطابق هذا أيضاً مع ما جاء في سورة السّجدة: (ثُمَّ جَعَلنا نَسْلهُ مِنْ سُلالةٍ مِنْ ماءٍ مهين)[6 ] والسُّلالة كما يقول المفسرون هي الخُلاصة. أي جعل نسل بني آدم من خلاصة الماء المهين الذي هو المني. ونحن نعلم الآن أنَّ جزءاً يسيراً جداً من المني هو اللازم لتلقيح البويضة، أي اللازم لعملية تخلق وتكوين الولد. فالدفقة الواحدة من المني تحمل كما يقول العِلم الحديث مائتي مليون حيوان منوي... والذي يقوم بالتلقيح للبويضة هو حيوان منوي واحد من هذا الكم الهائل فقط.

وعندما تحدى رأس الكفر "أمية بن خلف" رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلف، منكراً البعث ومستهزئاً باعتقاد المسلمين به. أتى ذلك الكافر الملحد الرسول صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ففته بين يديه وقال: يامحمد أترى الله يحيي هذا بعدما أرم؟[ 7] فأجابه عليه الصلاة والسلام راداً التحدي بأعظم منه: (نعم، يبعث الله هذا ويميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم)[ 8]

ويأتي وحي السّماء مصدقاً لتأكيد رسول السّماء، وليؤكد كفر والحاد أمية بن خلف، ومؤكداً صدق إيمان المسلمين بالخلق والبعث والحساب. فيأتي السياق القرآني في صورة سؤال وتعجب واستهزاء، لافتاً النظر للتفكر بالخلق وقوانينه التي إن أُعمِلَ العقل بدراستها بتمعن ورغبة صادقة في الوصول إلى الحقيقة سيصل حتماً للجواب القاطع الغير قابل للجدل والعناد والمكابرة. أجحد الإنسان وجود الله وقدرته؟ أنسي أنا خلقناه بعد العدم وبعد أن لم يكن؟ ألا يعلم أنا خلقناه من نطفة مهينة حقيرة؟ ومع هذا إذا به مجادل شديد الخصومة مبين للحجة، يري بذلك أنّه بعد أن لم يكن شيئاً مذكورأ خصيماً مبيناً، وساق لنا هذا الخصم المبين مثلاً ينكر فيه قدرتنا على إحياء العظام بعد أن تبلى. ونسي أنّا خلقناه بعد أن لم يكن إذ قال ملحداً منكراًُ ومستبعداً قدرتنا على ذلك: "من يحيي العظام وهي رميم؟". قل يا محمد: يحييها الذي أنشأها أول مرة من العدم، ففي استطاعة من بدأ الخلق أول مرة أن يعيده ثانية، إن من كان عظيم العِلم بكل ما خلق لا يعجزه جمع الأجزاء بعد تفرقها. لقد جاء هذا التحدي الرائع الجميل في سورة يسن: (أوَ لَمْ يَرَ الإنسانُ أنّا خلَقناهُ مِن نطفةٍ فإذا هُوَ خصيمٌ مُبين  وَضَرَبَ لنا مَثَلاً وَنَسِيَ خلقهُ قالَ مَنْ يُحْيي العِظامَ وَهِيَ رَميمْ  قُلْ يُحْييها الذي أنْشَأها أوَلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بكلّ خلق عَليمٌ)[ ]

إنّ هذا الرّد الذي يحمل قمة التحدي، هو في نفس الوقت حوار هادف، يقوم بتعليم هذا العُتل الزنيم كيفية إعمال العقل في المشاهدات والدلائل القاطعة للتوصل إلى الجواب الشافي لمن أراده، وليس المكابر المجادل الخصيم المبين.
ـــــــ الهامش
[1] المرسلات: ( 20 – 24 ).
[2] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، جزء (12 )، صفحه ( 7 ).
[3] المصدر السابق، جزء ( 19 )، صفحه ( 159 – 160 ).
[4] القيامة: ( 36 – 40 ).
[5] صحيح مسلم.
[6] السجدة: ( 8 ).
[7] حائل: أي متقتت. وأرم : تعني بالي .
[8] النيسابوري، أسباب النزول، صفحه ( 209 ).

الموضوع منقول من :
موسوعة الخلق والنشوء
حاتم ناصر الشرباتي
1424هـ / 2002م.
مكتبة الايمان - المنصورة[/

http://www.sharabati.org/

يتبع إن شاء الله.>>>>>>>>>>>>>>>>>>>
08-08-2006 06:27 AM

حاتم ناصر الشرباتي
10-28-2006, 01:14 PM
عملية الحمل وأطواره
(الحلقه 5)



فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً. ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله تعالى المَلَكَ فينفخ فيه الروح).

وفي سورة السّجدة يقول المَلك الجبارالعزيز الرحيم، أنّه قد أتقن كلّ شئ خلقه، أتقنه خلقاً متكاملاً بما فيه من الخصائص والطاقات الكامنة التي كونها فيه. أمّا الإنسان الأول فقد إبتدأ خلقه من طين: ذلك هو آدم أوّل البشر عليه السّلام. أمّا نسله وذراريه وهم كل البشر بلا استثناء فقد جعل خلقهم بعد ذلك من ماء حقير ضعيف "مهين" لا يُؤبه له في العادة، ثم قوَّمَهُ ونفخ فيه من روحه، أي أمده بالروح التي هي سرّ الحياة، وخلق له موهِباً إياه ومُزَيِنَهُ بالسّمع والإبصار والإدراك والحس والعقل، ليسمع ويبصر ويدرك ويعقل ويتفكر.

ومع كل تلك النِّعَم العظيمة التي لا تقدر، فإنّ هذا الإنسان المُنعَم عليهِ بما لم يُنْعَمَ على غيره من المخلوقات الكثيرة، لا يقوم بواجب الشكر لله والحمد له على تلك النعم إلآ في القليل النادر. حتى أنّ الملاحدة من الناس المنكرين للبعث والحساب قالوا متسائلين يعتريهم العجب: أيعقل أننا بعد أن نصبح تراباً مختلطاً وممزوجاً بأديم الأرض ومتحداً معه بحيث لا يتميز عنه، أيعقل أننا سنعود في خلق جديد؟ إنّ هؤلاء وأمثالهم بالحادهم لا يُنكرون البعث والحساب وحده، بل بجميع ما بعد الحياة الدنيا "أي الآخرة" هم مكذبون. وفي هذا جاء الرّد القرآني في سورة السّجدة:
(ذلِكَ عالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهادَةِ العَزيزُ الرَّحيمُ ! الذي أحْسَنَ كُلَّ شَئٍ خلقهُ وَبَدَأ خَلقَ الإنسانِ مِنْ طينٍ ! ثُمَّ جَعَلَ نَسْلهُ مِنْ سُلالةٍ مِنْ ماءٍ مَهينٍ ! ثُمَّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فيهِ مِنْ روحِهِ وَجَعَلَ لكُمْ السَّمْعَ وَالأبْصارَ وّالأفئِدَةَ قليلاً ما تَشْكُرونَ ! وَقالوا أءِذا ضَللنا في الأرضِ أءِنا لفي خلقٍ جَديدٍ ، بَلْ هُمْ بلِقاءِ رَبّهِمْ كافِرونَ ! قُلْ يَتَوَفاكُمْ مَلكُ المَوْتِ الذي وُكلَ بِكُمْ ثُمّ إلى رَبِكُمْ تُرْجَعونَ !)[1 ]

بعد قرون طويلة من اتمام نزول القرآن، وفي منتصف القرن العشرين، توصل العِلم الحديث إلى معرفة حقيقة ظلت مجهولة لكل الناس - إلآ المسلمين الذين دونت في كتبهم وأسفارهم نقلاً عن القرآن الكريم - وهي أنّ ماء الرجل المنوي يتكون في عظام الظهر الفقارية، وأنّ المرأة تنتج هي الأخرى ماءاً يتكون في عظام الصدر العلوية، حيث يلتقي الماءان بعد ذلك "ماء الرجل وماء المرأة" من خلال الإتصال الجنسي "الجماع" فيتماذجان ويتحدان في مقر حصين آمن حافظ "مكين" الذي هو رحم المرأة مكوناً أول مراحل تخلق الجنين الإنساني.
وقد بينت الدراسات الجنينية الحديثة أنّ نواة الجهاز التناسلي والجهاز البولي في الجنين تظهر بين الخلايا الغضروفية المكونة لعظام العمود الفقري، وبين الخلايا المكونة لعظام الظهر، وأنَّ الأعضاء التناسلية وما يغذيها من أعصاب وأوعية دموية تنشأ في موضع من الجسم بين الصلب والترائب "العمود الفقري Vertebral column" و "القفص الصدري Thoracic cavity". أليس هذا الذي توصل إليه العِلم الحديث بعد أن جنّد كافة امكاناته المادية من مختبرات وأجهزة وتجارب وتشريح وأشعة ومواد كيماوية... علاوة على الأطباء والعلماء والمشرحين وغيرهم.... أليس هو عين ما تعنيه الآية الكريمة التالية من سورة الطارق؟ ألَمْ يّأنِ لهؤلاء العلماء أن يطأطؤا رؤوسهم إجلالاً واحتراماً وأن تخشع قلوبهم من خشية الله وإقراراً بعجزهم أمام قدرته تعالى؟:
(فَليَنظُر الإنسانَ مِمَ خلِقْ ! خلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ! يَخرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلبِ وَالتَرائِبْ ! إنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لقادِر !)[2 ]

ماء: يعني ماءي الرجل والمرأة. دافق: متدفق ومصبوب بدفع وسرعة إلى الرحم. الصّلب: الشديد، وباعتبار الصّلابة سمي الظهر صلباً. الترائب: ضلوع الصّدر.

ذكر القرطبي في تفسيره عن الحسن البصري وغيره[ 3]: بأنَّ الماء الدّافق يخرج من صلب الرجل وترائبه، وصلب المرأة وترائبها. وذكر الألوسي في تفسيره مثل هذا.[ 4] وقد أوضح ذلك ببيان جلي الشيخ المراغي رحمه الله حيث يقول في تفسيره للقرآن:
(وإذا رجعنا إلى علم الأجنّة وجدنا في منشأ خصية الرجل ومبيض المرأة ما يفسر لنا هذه الآيات التي حيرت الألباب، وذهب فيها المفسرون مذاهب شتى، كل على قدر ما أوتي من عِلم... وإن كان بعيداً عن الفهم الصحيح والرأي السائد.
ذاك أنّه في الأسبوع السادس والسابع من حياة الجنين في الرحم ينشأ ما يسمى "ولف" وقناته على كل جانب من جانبي العمود الفقري. ومن جزء من هذا تنشأ الخصية وبعض الجهاز البولي... ومن جزء آخر تنشأ الخصية في الرجل والمبيض في المرأة. فكل من الخصية والمبيض في بدأ تكوينهما يجاور الكلى ويقع بين الصلب والترائب، أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريباً ومقابل أسفل الضلوع.

ومما يفسر لنا صحه هذه النظرية أنَّ الخصية والمبيض يعتمدان في نموهما على الشريان الأورطي في مكان يقابل مستوى الكلى الذي يقع بين الصلب والترائب، ويعتمدان على الأعصاب التي تمد كلاً منهما، وتتصل بالضفيرة الأورطية ثم بالعصب الصدري العاشر، وهو يخرج من النخاع من بين الضلع العاشر والحادي عشر، وكل هذه الأشياء تأخذ موضعها من الجسم فيما بين الصلب والترائب.)[5 ]

(والآية الكريمة تحثنا على النظر والتمعن في تخلق الإنسان من هذا الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب، وسبب تدفقه هو تقلصات جهاز الحويصلة المنوية والقناة القاذفة للمني مع تقلصات عضلات العجان، فتدفع بالسائل المنوي بمحتوياته من ملايين الحيوانات المنوية عبر الإحليل إلى المهبل. وهذا هو سبب الرّعشة عند الإنزال. وذلك كله متعلق بِالجهاز العصبي اللاارادي، والمسمى بِ "الجهاز التعاطفي Sypathetic nerves".

أمّا الإنتشار والإنتصاب فسببه أعصاب خاصة من الجهاز العصبي اللآارادي المسمى "نظير التعاطفي Para Sypathetic" وبواسطته تمتلئ الأوردة الدموية الكثيفة في القضيب فتسبب الإنتشار. وهذه الأعصاب تأتي من منطقة بين الصلب والترائب. ونرى أنّ ذلك كله موكول إلى جهاز غير إرادي ولا تتحكم فيه الإرادة حتى يخرج أمر الخلق والتخلق من كل شبهة للإرادة الإنسانية.)[ 6]

تقول الآية الكريمة أنّ الماء الدافق يخرج من بين الصلب والترائب، ونحن قلنا أنَّ الماء الدافق "المني" إنّما يتكون في الخصية وملحقاتها، كما تتكون البويضة في مبيض المرأة. فكيف تتطابق تلك الحقيقة العلمية مع الحقيقة القرآنية؟.

على هذا السؤال يجيب الدكتور محمد علي البار قائلاً :
(إنّ الخصية والمبيض إنّما تتكونان من الحدبة التناسلية بين صلب الجنين وترائبه، والصلب هو العمود الفقري، والترائب هي الأضلاع ، وتتكون الخصية والمبيض من هذه المنطقة بالضبط أي بين الصلب والترائب. ثم تنزل الخصية تدريجياً حتى تصل إلى كيس الصفن "خارج الجسم" في أواخر الشهر السابع من الحمل.... بينما ينزل المبيض إلى حوض المرأة ولا ينزل أسفل من ذلك. ومع هذا فإنّ تغذية الخصية والمبيضين بالدماء والأعصاب واللمف تبقى من حيث أصلها... أي بين الصلب والترائب. فشريان الخصية أو المبيض يأتي من الشريان الأبهر "الأورطي البطني Aorta artery" من بين الصلب والترائب، كما أنَّ وريد الخصية يصب في نفس المنطقة... يصب الوريد الأيسر في الوريد الكلوي الأيسر، بينما يصب وريد الخصية الأيمن في الوريد الأجوف السفلي... وكذلك أوردة المبيض وشريانها تصب قي نفس المنطقة أي بين الصلب والترائب... كما أنّ الأعصاب المغذية للخصية أو المبيض تأتي من المجموعة العصبية الموجودة تحت المعدة من بين الصلب والترائب... وكذلك الأوعية الليمفاوية تصب في نفس المنطقة أي بين الصلب والترائب.

فهل يبقى بعد كل هذا شك أنَّ الخصية أو المبيض إنّما تأخذ تغذيتها ودمائها وأعصابها بين الصلب والترائب؟ ... فالحيوانات المنوية لدى الرجل أو البويضة لدى المرأة إنّما تستقي مواد تكوينها من بين الصلب والترائب، كما أنّ منشأها ومبدأها هو من بين الصلب والترائب والآية الكريمة إعجاز كامل حيث تقول "من بين الصلب والترائب"... فكلمة "بين" ليست بلاغية فحسب، وإنّما تعطي الدقة العلمية المتناهيه)[ 7]

هذا هو التفسير العلمي، والذي أتى مطابقاً لما ورد في القرآن الكريم. أمّا قول بعضهم أنّ المني يخرج من صلب الرجل، أما ماء المرأة فيخرج من ترائبها ويتكون في ترائبها، فإنّ هؤلاء لم ينتبهوا إلى كلمة "بين" الواردة في النص القرآني، لذا فقد وقعوا في الخطأ. ذلك الخطأ الذي وقع فيه عدد من المفسرين قد تنبه إليه الإمام أبن القيم، حيث ورد في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين" ما يلي: (ولا خلاف أنّ المُراد بالصّلب صلب الرجُل. واختلف في الترائب، فقيل المراد ترائبه أيضاً، وهي عظام الصدر بين الترقوة إلى الثندوة... وقيل المراد بها ترائب المرأة. والأول أظهر لأنه سبحانه قال "يخرج من بين الصلب والترائب" ولم يقل "من الصلب والترائب"، فلا بد أن يكون ماء الرجل خارجاً من بين هذين الملتقيين كما قال في اللبن "يخرج من بين فرث ودم"... وهذا لا يدل على إختصاص الترائب بالمرأة، بل يُطلقُ على كل من الرجل والمرأة. قال الجوهري: الترائب عظام الصدر بين الترقوة إلى الثندوة)[ 8]

أمّا القرطبي فيقول في تفسيره: (يخرج من صلب الرجل وترائب الرجل، ومن صلب المرأة وترائب المرأة،... وأيضاً المكثر بالجماع يجد وجعاً في ظهره وصلبه، وليس ذلك إلا لخلو صلبه عما كان محتبساً من الماء.)[9 ] وللألوسي في تفسيره والشيخ المراغي كذلك نفس الفهم، وقد نبهنا إلى رأيهما في موضع سابق من هذا الفصل.
يتضح مما تقدم أنّ تخلق الإنسان قد حصل من جراء الزوجية المتمثلة بالجماع الحاصل بين ذكر وأنثى، فيتكون الجنين من اختلاط وتلاقح مائيهما، وكلا المائين دافق، وكلا المائين يخرج من بين الصلب والترائب: من الغدة التناسلية: الخصية في الرجل، أو المبيض في المرأة، وكلاهما يتكون من بين الصّلب والترائب، كما أنَّ تغذيتهما وترويتهما بالدماء والأعصاب تأتي من بين الصُّلب والترائب. فيتضح لنا معاني الآية الكريمة في إعجازها الدقيق الرائع: ماء دافق من الخصية يحمل الحيوانات المنوية... وماء دافق من حويصلة جراف بالمبيض يحمل البويضة ....ومن كلاهما يتخلق الإنســـان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] السجده: ( 6 – 11 ).
[2] الطارق: ( 5 – 8 ).
[3] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، جلد ( 20 )، صفحه ( 4 – 6 ).
[4] تفسير الألو سي " روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني "، سورة الطارق.
[5] البار – د. محمد علي، خلق الإنسان بين الطب والقرآن، صفحه ( 120 – 121 )، نقلاً عن: تفسير المراغي.
[6] المصدر السابق، صفحه ( 114 – 116 )، بتصرف.
[7] البار – د. محمد علي، خلق الإنسان بين الطب والقرآن، صفحه ( 114 – 116 )، بتصرف.
[8] ابن القيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، جزء ( 20 ) صفحه ( 158 ).
[9] تفسير القرطبي، جزء ( 20 ) صفحه ( 7 ).

الموضوع منقول من :
موسوعة الخلق والنشوء
حاتم ناصر الشرباتي
1424هـ / 2002م.
مكتبة الايمان - المنصورة
http://www.sharabati.org/

يتبع إن شاء الله.>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

حاتم ناصر الشرباتي
02-05-2007, 01:38 PM
مـــدة الحـمــــل

إنّ أقل مدّة الحمل ستة أشهر. لما روى الأثرم بإسناده عن أبي الأسود أنه رفع إلى عمر امرأة ولدت لستة أشر فهم عمر برجمها، فقال علي: ليس لك ذلك. قال تعالى: (والوالدات يُرضعنَ أولادهن حولين كاملين)[2 ] وقال تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً)[ 1]، فحولان وستة أشهر ثلاثون شهراً، لا رجم عليها. فخلّى عمر سبيلها. وولدت امرأة أخرى لذلك الحد. ورواه الأثرم أيضاً عن عكرمة عن ابن عباس قال ذلك الأحول: فقلت لعكرمة أنا بلغنا أنَّ علياً قال ذلك، فقال عكرمة: لا ما قال هذا إلآ ابن عباس. وذكر ابن قتيبة في "المعارف" أنَّ عبد الملك بن مروان وُلِدَ لستة أشهر، وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم.[ 3]

وظاهر مذهب الحنابلة أنّ أقصى مدة الحمل أربع سنين، بِهِ قال الشافعي، وهو المشهور عن مالك. وروي عن أحمد أنَّ أقصى مدته هو سنتان، وروي ذلك عن عائشة، وهو مذهب سفيان الثوري وأبي حنيفة، لما روت جميلة بنت سعد عن عائشة: "لا تزيد المرأة عن سنتين في الحمل."، ولأنّ التقدير إنّما يُعلمَ بتوقيف أو اتفاق، ولا توقيف ههنا ولا اتفاق، وإنّما هو على ما ذكرنا وقد وُجِدَ ذلك، فإنًّ الضحاك بن مزاحم وهرم بن حيان حملت أمُ كل منهما به سنتين، وقال الليث بن سعد: "أقصاه ثلاث سنين، حملت مولاة لعمر بن عبد الله ثلاث سنين." وقال عباد بن العوام: خمس سنين. وعن الزهري قال: قد تحمل المرأة ست سنين، وسبع سنين. وقال أبو عبيد: ليس لأقصاه وقت يوقف عليه.[4 ]

ولنا أنَّ ما لا نَصَّ فيه يُرجَعُ فيه إلى الوجود. وقد وُجدَ الحمل لأربع سنين، فقد روى الوليد بن مسلم قال: (قلت لمالك بن أنس حديث جميلة بنت سعد عن عائشة قالت لا تزيد المرأة عن سنتين في الحمل، قال مالك: سبحان الله! من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن تلد) وقال الشافعي: بقي محمد بن عجلان في بطن أُمِّهِ أربع سنين، وقال أحمد: (نساء بني عجلان يحملن أربع سنين، وامرأة عجلان حملت ثلاث بطون كل دفعة أربع سنين، وبقي محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي في بطن أُمه أربع سنين، وهكذا إبراهيم بن نجيح العقيلي، حكى ذلك أبو الخطاب، وإذا تقرر وجوده وجب أن يُحكم به ولا يُزاد عليه لأنه ما وُجِد. ولأنَّ عمر ضَرَبَ لامرأة المفقود أربع سنين ولم يكن ذلك إلا لأنه غاية الحَمل، وروي عن عثمان وعلي وغيرهما)[5 ]

أمّا أكثر الحمل عند الأطباء فلا يزيد عن شهر بعد موعده، وإلا لمات الجنين في بطن أمه، ويعتبرون ما زاد على ذلك خطأ في الحساب.[ 6]

أمّا الإمام علي بن أحمد بن حزم الظاهري فيقول في "المُحَلّى":
(لا يجوز أن يكون حمل أكثر من تسعة أشهر، ولا أقل من ستة أشهر، لقول الله تعالى: "وحمله وفصاله ثلاثون شهراً"[7 ] وقال تعالى "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"[8 ] فمن ادعى حملاً وفصالاً يكون في أكثر من ثلاثين شهراً فقد قال الباطل والمحال ورد كلام الله عز وجل جهاراً.)[9 ] وبعد أن ذكر مختلف الأقوال في مدد ا5لحمل التي قال بها الفقهاء - والتي سبق أن ورد بعضها في بداية الفصل - بعد أن ذكر كل تلك الآراء قال: (وكل هذه أخبار مكذوبة راجعة إلى من لا يصدق ولا يُعرف من هو ولا يجوز الحكم في دين الله بمثل هذا.)[ 10]

إلا أنَّ الجنين قد يموت في بطن أمه ويبقى فيها أمداً طويلاً، وقد يتكلس[11 ] الجنين بعد موته ثم يقذفه الرحم بعد فترة، وقد يقذفه على فترات متقطعة. وهذا أمر معروف عند الأطباء ومشهور لديهم.[ 12] وقد نقل عن ابن حزم عن الإمام علي قال: (إلا أنَّ الولد قد يموت في بطن أمه فيتمادى بلا غاية حتى تلقيه متقطعاً في سنين...)[13 ]

وينفي د. محمد علي البار إمكانية حدوث هذا الحمل الطويل الممتد سنيناً..... حيث يذكر أنّهُ قد وجدت نساء ممن كُنَّ يترددن على عيادته في اليمن يزعمن أنَّهُنَّ حوامل لعدة سنوات.... وبالفحص تبين أنهن لم يَكُنَّ حوامل... ويعلل ذلك بأنهُ كان ذلك "الحمل الكاذب Pseudo pregnancy"[14 ]

أمّا الغالب في مدّة الحمل فقد حَدّدَ أحد الأطباء المسلمين مدّة الحمل، فقد حدّدها الطبيب العربي "أحمد بن محمد البلدي" والذي عاش قبل أكثر من ألف عام في كتابه "تدبير الحبالى والأطفال والصبيان" حيث قال: (إنّما نجد جميع من يلد من النساء يكن ولادهن في الأيام التي فيما بين مائتين وثمانين يوماً ونصف بالتقريب، وبين مائتين وأربعة وسبعين يوماً على التقريب)[ 15]

وهذا التحديد هو الشائع الآن، وهو ما يقول به أطباء أمراض النساء والولادة، أي أنَّ معدل مدّة الحمل هي 280 يوماً، أو عشرة أشهر قمرية، من الممكن أن تزيد قليلاً. أمّا أقل مدّةٍ للحمل التي هي ستة أشهر، فقد اتفق عليها الفقهاء كما ذكر ابن القيم الجوزية في كتابه "التبيان في أقسام القرآن"، كما أنّ أطباء الولادة يوافقون المسلمين في ذلك.

فتعتبر مدّة الحمل الطبيعية (280 يوماً )، تُحسب من بدء آخر حيضة حاضتها المرأة ، وبما أنَّ التلقيح وبداية الحمل يحدث عادة في اليوم الرابع عشر من بدء الحيض تقريباً ... فإنَّ مُدّة الحمل الحقيقية تكون (280 – 14=266) يوماً . أي حوالي تسعة أشهر في الغالب وأقله ستة أشهر وأكثره سنتان.[ 16]
ــــــــــــــــــــــــ
[1] البقره: ( 233 ).
[2] الأحقاف: ( 15 ).
[3] ابني قدامة، المغني والشرح الكبير، جزء ( 9 )، صفحه ( 116 ).
[4] المصدر السابق، صفحه ( 117 ).
[5] المصدر السابق، صفحه ( 117 – 118 ).
[6] البار – د. محمد علي، خلق الإنسان في الطب والقرآن، صفحه ( 452 ).
[7] الأحقاف: ( 15 ).
[8] البقرة: ( 233 ).
[9] المصدر – ابن حزم - علي بن أحمد، المحلى، جزء (10)، صفحه (316)، طباعة دار الفكر – بيروت.
[10] المصدر السابق .
[11] يتكلس: يعني ترسب فيه أملاح الكالسيوم فيصبح مثل الجير.
[12] البار – د. محمد علي، خلق الإنسان في الطب والقرآن، صفحه ( 453 ).
[13] المحلى لإبن حزم، جزء ( 10 )، صفحه ( 316 ).
[14] الحمل الكاذب: Pseudopregncy حالة سيكوسوماتية ( أي جسدية نفسية ) تتوهم المرأة الباحثة عن الإنجاب تتوهم أنها حامل، وتكون مصحوبة عادةً ببعض الأعراض الطبيعية الواضحة، كانقطاع الطمث وتضخم البطن، وبحركة جنينية ظاهرة، وباضطراب في عمل الغدد الصم شبيه بذلك الذي يرافق الحمل ولكنه أقل وضوحاً. وتعتقد المرأة مع هذه أنها حامل فعلاً، رغم تأكيد كل الفحوصات الطبية بعدم وجود الحمل. وقد يحدث لأحدى هؤلاء الواهمات بالحمل الكاذب الذي تتصور أنه بقي سنيناً... قد يحدث فعلاً أنها تحمل فعلاً... فتضع طفلاً طبيعياً في فترة حمله، فتتصور أنها قد حملته لسنين عدة.
[15] البلدي – أحمد بن محمد، كتاب تدبير الحبالى والأطفال والصبيان، تحقيق الدكتور محمود الحاج قاسم محمد، الطبعة العراقية سنة ( 1987 )، صفحه ( 115 ).
[16] النبهاني – الشيخ تقي الدين، النظام الاجتماعي في الإسلام، صفحه ( 169 ).



الموضوع منقول من :
موسوعة الخلق والنشوء
حاتم ناصر الشرباتي
1424هـ / 2002م.
مكتبة الايمان - المنصورة

http://www.sharabati.org/


يتبع إن شاء الله.>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

حاتم ناصر الشرباتي
03-03-2007, 06:04 PM
الخلق في السُّنة الشريفة


بعد أن قمنا باستعراض بعض نصوص القرآن الكريم - المصدر الأول للتشريع - التي تتناول تفسير عملية الحمل وأطواره، وبما أنّ السنة الشريفة - وهي المصدر الثاني للتشريع - قد تناولت ذلك مبينة وشارحة لما ورد في القرآن الكريم، فسنستعرض إن شاء الله بعض ما جاء فيها:

1. أخرج الإمام أحمد في مسنده: أنَّ يهودياً مَرَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدّث أصحابه. فقالت قريش: يا يهودي إنَّ هذا يزعم أنّه نبي. فقال لأسألنّه عن شيء لا يعلمه إلا نبي، فقال: يا محمد، مم يخلق الإنسان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا يهودي، من كل يخلق، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة. فقال اليهودي: هكذا كان يقول من قبلك. "أي الأنبياء".

2. إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكاً قال يا رب مخلقة أو غير مخلقة، فإن قال غير مخلقة مجتها الأرحام دماً.[1 ]

3. وعن أنس رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: وكل الله بالرحم ملكاً يقول: أي رب نطفة؟ أي رب علقة؟ أي رب مضغة؟ فإذا أراد الله أن يخلق خلقاً قال: يا رب ذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه.[2]

4. وعن حذيفة بن أسيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون، بعث الله ملكاً فصورها وخلق سمعها و بصرها وجلدها وعظمها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك.[3 ]

5. وفي رواية لعبد الله بن مسعود عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة. ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة في ذلك مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح. ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد.[4 ]

6. ما من كل الماء يولد الولد. وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء.[5 ]

7. يقول المصطفى عليه السلام لليهودي الذي سأله عن الولد: ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكر بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنث بإذن الله، قال اليهودي: صدقت وإنك لنبي.[6 ]

8. وعن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين يقول: إنَ النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتصور عليها الملك فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيجله الله ذكراً أو أنثى. ثم يقول يارب أسويٌ أم غير سوي؟ فيجعله الله سوياً أو غير سوي. ثم يقول: يا رب ما رزقه؟ ما أجله؟ ما خُلقُهُ؟ ثم يجعله الله شقياً أو سعيداً.[7 ]

9. عن أنس رضي الله عنه أنّ عبد الله بن سلام رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: من أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: وأمّا الشبهُ في الولد فإنّ الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماءه كان الشبه له، وإذا سبقت كان الشبه لها.[ 8]

10. إذا مكثت النطفة في رحم المرأة أربعين ليلة جاءها الملك فاختلجها ثم عرج بها إلى الرحمن عز وجل، فيقول: اخلق يا أحسن الخالقين، فيقضي الله بها ما يشاء من أمره، ثم تُدفع إلى الملك فيقول: أسَقطٌ أم تمام؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب أواحدٌ أم توأمين ؟ فيبين له، ثم يقول: أشقي أم سعيد؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب اقطع له رزقه مع أجله، فيهبط بها جميعاً. فوَ الذي نفسي بيده لا ينال من الدنيا إلا ما قسم له.[9 ]

11. إذا خلق الله النسمة قال مَلكُ الأرحام: يا رب أذكر أم أنثى؟ قال: فيقضي الله أمره، ثم يقول: أي رب أشقي أم سعيد؟ فيقضي الله أمره. ثم يكتب ما أمره الله بين عينيه حتى النكبة ينكبها.[ 10]


ـــــــــــــــــــ
[1] أخرجه إبن أبي حاتم وابن رجب في " جامع العلوم والحكم " وابن القيم في " طريق الهجرتين ".
[2] رواه البخاري ومسلم.
[3] رواه مسلم في كتاب القدر.
[4] رواه البخاري ومسلم.
[5] أخرجه مسلم.
[6] أخرجه مسلم.
[7] أخرجه مسلم.
[8] أخرجه البخاري.
[9] أخرجه الألكاني عن عبد الله بن عمر. وذكره إبن رجب الحنبلي في كتابه " جامع العلوم والحكم ". وذكره العسقلاني في " فتح الباري "
[10] أخرجه البزار عن إبن عمر.



الموضوع منقول من :
موسوعة الخلق والنشوء
حاتم ناصر الشرباتي
1424هـ / 2002م.
مكتبة الايمان - المنصورة

http://www.sharabati.org/


يتبع إن شاء الله.>>>>>>>>>>>>>>>>>>> أطوار الجنين (مراحل الحمل)346

حاتم ناصر الشرباتي
04-06-2007, 07:53 AM
أطوار الجنين* (مراحل الحمل)

من استعراض النصوص المتعددة في القرآن الكريم والحديث الشريف التي تعرضت لموضوع مراحل الحمل وتطور خلق الجنين الإنساني، نستطيع أن نحدد معالم أطوار التخلق الإنساني والتي أكدتها أيضاً مصادر علم الأجنة حديثاً، وهي:

أولاً: مرحلة النطفة:
عند الجماع والقذف تنطلق ملايين الحيوانات المنوية التي تحوى "النطفة المذكرة" دافقة قاصدة الرحم لتلتقي مع "النطفة المؤنثة" التي هي بويضة الأنثى، لتتزاوج وتختلط معها مكونة "النطفة الأمشاج"، وهذا ما يسمونه علمياً "العلوق" أو "الإخصاب" والذي يعني حصول الحمل.

ثانياً: مرحلة العلقة:
تستغرق المرحلة الأولى أسبوعاً كاملاً حتى تعلق هذه النطفة الأمشاج بجدار الرحم، إذ يبدأ العلوق في اليوم السابع بعد التلقيح بالالتصاق بجدار الرحم، وتستغرق هذه المرحلة أسبوعين تنمو خلالها العلقة.

ثالثاً: مرحلة المضغة:
في نهاية الأسبوع الثالث للتلقيح تبدأ المرحلة الثالثة في الظهور ككتل بدنية
"Somites"، وتتحول إلى قطعة من اللحم كمن مضغتها الأسنان ثم قذفتها، وهي في هذه المرحلة إما أن تكون مضغة كاملة مخلقة، أو مضغة غير تامة الخلق "سقط"، فيقر في الرحم المضغة التامة، أما الغير تامة فتسقط إجهاضاً طبيعياً.

رابعاً: مرحلة العظام:
وهذه المرحلة تستغرق الأسابيع الخامس والسادس والسابع، إذ تتحول المضغة إلى عظام وفي آخر هذه المرحلة تُكسى العظام باللحم وتتكون العضلات.

خامساً: مرحلة الإنشاء "التسوية والتصوير والتعديل"
وتبدأ هذه المرحلة بعد الأسبوع السابع، إذ يتكون بالكامل تصوير الإنسان، الذي يشمل جميع الأعضاء والأطراف، ويدخل في هذه المرحلة تكون المولود ذكراً أم أنثى، إذ تتميز الأعضاء التناسلية الخارجية بحيث يمكن التمييز بين الذكر والأنثى في نهاية الشهر الثالث.

سادساً: مرحلة نفخ الروح:
بعد نهاية الشهر الثالث، وبعد أن يكتمل إنشاء الجنين وتصويره، يمكن سماع أو الإحساس بتحرك الجنين إرادياً، وهو علامة من علامات نفخ الروح فيه.

سابعاً: الــولادة:
بعد اكتمال الوقت المقرر للجنين وهو تسعة أشهر "أو تزيد أو تنقص" يكون الجنين قد اكتمل بشراً سوياً، فيخرج إلى الحياة إنساناً كاملاً مستقلاً كامل الصفات والأوصاف.

أما المراحل حسب ما يراه علماء الأجنة فهي كالتالي :

[1] مرحلة البويضة الملقحة "النطفة الأمشاج" Fertilized ovum
[2] مرحلة الحمل Embryo
1. الإنغراز " العلقة " Implanotation
2. الجنين ذو الطبقتين Bilaminar Germ Disc
3. مرحلة الجنين ذو الثلاث طبقات Trilaminar Germ Disc
4. الكتل البدنية " مضغة " Somites
5. تكون الأعضاء " الإنشاء" Oregano Genesis
[3] مرحلة الجنين Fetus
[4] الولادة Accouchement

هذه هي المراحل كما يقررها مشاهير علماء الأجنة، في حين أنّ بعضهم يقسم المرحلة الثانية تقسيماً آخر، ومما لا شك فيه أنّ التقسيم القرآني لمراحل نمو الجنين الإنساني هو أصح وأدق بكثير من وصف علماء الأجنة... وإن كان التقسيم القرآني يلتقي مع كثير من تقسيماتهم كالنطفة والعلقة والمضغة... ولا يركز علماء الأجنة على مرحلة العلقة كما يركز عليها التقسيم القرآني... وكذلك التصوير والتسوية والتعديل. على أنه يجب أن يكون واضحاً بجلاء أننا كمسلمين نأخذ بالحقيقة القرآنية فقط وبدون أي تحفظات، وبإيمان وتصديق كاملين في حالة التعارض بين الحقيقة القرآنية وبين النظريات العلمية.

أما نفخ الروح، وهو أهم أقسام ما في الإنشاء والتخلق، فهو مما لا تفسير مادي له عند علماء الأجنة، لذا فإنهم لا يتعرضون له في استعراضهم لمراحل الحمل، بل يتعمدون تجاهل الخوض في بحثه، ولكون تعاملهم هو مع المادة والوقائع المادية التي تخضع للاختبارات وصور الأشعة، فهم بالتالي ينكرون أو يتجاهلون أهم طور في أطوار تخلق الجنين البشري، إذ لولاه لكان ذلك الجنين مجرد مادة لا يمكنها بحال التحول إلى إنسان سوي إلا بنعمة الله الكبرى التي لا تدركها عقولهم ألا وهي نفخ الروح التي بها وبها وحدها يكون سـر الحياة.

ونظراً لأهمية هذا الموضوع في مسألة الخلق والإنشاء، والذي أشكل فهمه على جهابذة علماؤهم وكبراؤهم سنفرد له بحثاً خاصاً باسم "الحياة والروح".[1 ]

ـــــــــــــــــــ


منقول: موسوعة الخلق والنشوء، حاتم ناصر الشرباتي، الصفحات ( 349-354)
http://www.sharabati.org
[1] يمكن الرجوع إلى بحث " الحياة والروح " وبحث " الموت " في الباب الخامس.
[COLOR="Red"]للبحث بقية >>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

حاتم ناصر الشرباتي
07-22-2007, 07:55 AM
خُلِقَ الإنسان في أحسن تقويم*


خلافاً لكل نظريات الإلحاد والشرك والكفر، وخلافاً لكل آراء ومعتقدات أصحاب الديانات الوضعية، ينظر الإسلام بلسان القرآن الكريم، وبلسان رسوله الأمين، وبأيمان أتباعه، إلى الإنسان نظرة تختلف اختلافاً جوهرياً وبالكامل عن جميع النظرات الأخرى.

في حين ينظر للإنسان من أعمى الله قلوبهم أنّه آثم خاطيء بالوراثة، أو أنّه من سلالة القرود والسعادين، أو أنه قريب من نسل الكلاب والحشرات؛ ماسخين إياه في أحط صورة؛ واصفين أصله بالوضاعة المتناهية وبالتالي حقارة ودناءة هذا المنشأ. وفي حين يعتبره بعضهم مادة للبحث يستخدمونها لإجراء التجارب عليها في معاملهم ومختبراتهم، وحقل تجارب واستكشاف لدى علماء النفس والاجتماع. فإنَّ الإسلام ينظر إليه نظرة تبجيل واحترام. فهو في نظر الإسلام مخلوق خلقه الله تعالى في أحسن تقويم، صاحب أجمل صورة. وأنّ الله صوره فأحسـن التصوير.

نعــم، إنه الإنسـان الذي سجدت له ملائكة الرحمن، الإنسان الذي كرّمه الله وزينه بالسمع والبصر والفؤاد والإدراك والتمييز وحُسن الصورة وجمالها.

قال تعالى من سورة الانفطار: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم  الذي خلقك فسواك فعدلك  في أي صورة ما شاء ركبك )[ 1]
وقال تعالى من سورة غافر: (الله الذي جعل لكم الأرضَ قراراً والسّماء بناءاً وصوركم فأحسَنَ صُوركم وَرَزَقكُم مِنَ الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين )[2 ]

وقال تعالى من سورة التغابن: (خلقَ السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير )[ 3]

ومن سورة المُلك: (هُوَ الذي أنشأكم وَجَعَلَ لكمُ السّمْعَ وَالأبْصارَ وَالأفئدةَ قليلاً ما تشكرونَ  قُلْ هُوَ ذرَأكـُمْ في الأرْضِ وَإلَيْهِ تُحْشَرونَ )[4 ]

ومن سورة التين: (لقدْ خلَقنا الإنسانَ في أحْسَنِ تقويمٍ )[5 ]

ومن سورة الإسراء: (وَلقدْ كرَّمْنا بني آدَمَ وَحَمَلناهُمْ في البَّرِ وَالبَحْرِ وَرَزَقناهُمْ مِنَ الطَّيِباتِ وَفَضَلناهُمْ على كثيرٍ مِما خلقنا تفضيلاً )[6 ]

وفي تفضيل الله تعالى الإنسان على غيره من المخلوقات يقول محمد بن جرير الطبري في تفسيره: (إنَّ التفضيل هو أن يأكل بيده وسائر الحيوانات بالفم، وروي عن إبن عباس والكلبي ومقاتل نفس ذلك، وقال الضحاك: كرّمهم بالنطق والتمييز، وقال عطاء: كرّمهم بتعديل القامة وامتدادها، وقال يمان: بحُسن الصورة)[7 ] وله أيضاً: (بتسليطهم على سائر الخلق، وتسخير سائر الخلق لهم) وقال آخرون: (بالكلام والخط، وقيل بالفهم والتمييز)[8 ]

وقال القرطبي في تفسيره مُرَجحاً: (والصحيح الذي يعول عليه أنَّ التفضيل إنّما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف، وبه يُعرف الله ويفهم كلامه، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رُسُله، إلا أنّه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بُعِثت الرّسُل وأرسلت الكتب)[9 ]

أما ابن كثير فيقول في تفسيره: (يخبر الله تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها، كقوله تعالى "ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"[10 ]، أن يمشي قائماً منتصباً على رجليه ويأكل بيديه، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه، وجعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً يفقه به ذلك كله وينتفع به ويفرق بين الأشياء، ويعرف منافعها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية.....)[11 ]

وقال العلامة الشيخ تقي الدين النبهاني، في كتابه "التفكير": (إنَّ الإنسـان هو أفضل المخلوقات على الإطلاق، حتى لقد قيل ~ وهو قول حق ~ إنَّه أفضل من الملائكة، والإنسان فضله إنّما هو في عقله، فعقل الإنسان هو الذي رفع شأن هذا الإنسان وجعله أفضل المخلوقات)[12 ]

وأورد محمد علي الصابوني في تفسيره: (أي لقد شرفنا ذرية آدم على جميع المخلوقات: بالعقل والعلم والنطق وتسخير جميع ما في الكون لهم... وفضلناهم على جميع من خلقنا من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات من الجن والبهائم والدواب والوحش والطير وغير ذلك)[ 13]

وأمّا صاحب الظلال فيقول: (ذلك وقد كرّم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه، كرّمه بخلقته على تلك الهيئة، بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة، فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان!! وكرمه بالاستعدادات التي أودعها في فطرته، والتي استأهل بها الخلافة في الأرض، يغير فيها ويبدل، وينتج فيها وينشئ، ويركب فيها ويحلل، ويبلغ فيها الكمال المقدر للحياة..... وكرّمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك..... وكرّمه بذلك الاستقبال الضخم الذي استقبله به الوجود، وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة ويعلن فيه الخالق جلّ شأنه تكريم الإنسان)[14 ]

قال عالِم التطور "ميلرش H.Mellersh" في كتابه "تاريخ الإنسان": (إنّ دماغ الإنسان يختلف عن أدمغة بقية الحيوانات، وهو يشكل حدثاً جديداً في الحياة. وكل الأجناس البشرية تتمتع بهذه المزية... فأقوام أستراليا البدائيون يستطيعون أن يتثقفوا في بحر جيل واحد، وهذا يدل على أنّ الإنسان سواء أكان شرقياً أو غربياً، متمدناً أو بدائياً، يتمتع بالقدرات العليا ذاتها. وهذا ما أقرّه العِلم! فالهوّة إذاً سحيقة بين الإنسان والحيوان)

أمّا مجلة "لايف Life" فقد كتبت في عددها الصادر بتاريخ 28/06/1963، شارحة تفوق الدماغ الإنساني تقول: (لخلايا الدماغ العصبية آلاف الاتصالات بعضها ببعض، وهناك اتصالات إضافية بفضل الكمية العليا من القشرة الدماغية التي تضاعف القدرة أضعافاً لا نهاية لها على استقبال وتحليل المعلومات. وهذه القدرة الاعتيادية تجعل الدماغ الإنساني بمنزلة رفيعة لا تُدانى بالنسبة إلى باقي الكائنات الحية)

وبالتالي فالهوة سحيقة جداً بين الإنسان وبين الحيوان، أو حتى بين الإنسان وبين أي مخلوق آخر، فلو كانت نظرية النشوء والارتقاء المادي أو جميع نظريات التطور المادي الأخرى صادقة لما كانت تلك الهوة السّحيقة، بل لكان التقارب النسبي واضحاً.


يقول علماء التطور المادي بوجود مراحل للذكاء، ولكننا لا نعلم بوجود ذلك مطلقاً، بل إنّ ما نعلمه "أنَّ 90% من الناس أذكياء، فعامة الناس أو أكثرهم أذكياء، والنادر هم البلداء أو الأغبياء، وهذا النادر لا حكم له." وهذا الرأي هو ما قال به العلامة النبهاني في كتابه "سرعة البديهة".[15 ]

كما يزعم علماء التطور المادي بأنّ الإنسان المعروف باسم "إنسان ما قبل التاريخ" والذي يدّعون أنه انقرض كان يمثل الحلقة الوسطى. فلماذا عاشت هذه الحلقات الدنيا مثل القردة بينما انقرض إنسان ما قبل التاريخ، مع العِلم أنّ المفروض فيه حسب منطوق ومفهوم نظرياتهم أن يكون أرقى من القردة بكثير وأصلح للبقاء؟ وما الدليل على ذلك إن وُجد؟.

ويقول داروين: (قد يكون للإنسان عذره في أن يشعر بشيء من الكبرياء لأنه ارتقى إلى ذروة السّلم العضوي، ولو أنّ ذلك الارتقاء لم يكن نتيجة لجهده الخاص. وإذا كان الإنسان قد ارتقى إلى مكانه الذي يحتله الآن، ولم يوجد في الأصل ومنذ البداية في هذا المكان فإنَّ ذلك خليق بأن يعطيه بعض الأمل في مصير أفضل في المستقبل البعيد... "ومع ذلك"... ورغم كل هذه القوى المثيرة فلا يزال الإنسان يحمل في هيكله المادي وصمَةً لا يمكن محوها تشير إلى أصله الوضيع)[16 ]

وصمة الأصل الوضيع!!!! هكذا ينظرون للإنسان وأصله، ونحن نقول ومعنا كل الأدلة الدامغة التي تؤكد صحة قولنا؛ وتنفي نفياً قاطعاً ادعاءات وترهات داروين والتي نسجها من خياله الواسع!!!! نقول: نعم، لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم... إنّه الإنسان العاقل، الذي علمه الله، وزينه بالعقل والإدراك. إنّه الإنسان الأول "آدم عليه السّلام" الذي هو نفس الإنسان الحالي بجميع أوصافه التي نراها وندركها. لم يتبدّل ولم يتغير ولم يتطور. وله أن يفخر بأصله بحق، وله أن يفخر بأنّ الله قد فضله على جميع مخلوقاته، إذ اختاره من دون المخلوقات جميعها ليهبه العقل المميز، وأن يُسّخِرَ له ولمنفعته كل ما خلق. الإنسانُ الذي خلقهُ الله في أحسن تقويم.
ــــــــــــــــــــــــ

منقول: موسوعة الخلق والنشوء، حاتم ناصر الشرباتي، الصفحات ( 355-361)
http://www.sharabati.org
[1] الانفطار: ( 6 – 8 ).
[2] غافر: ( 64 ).
[3] التغابن: ( 3 ).
[4] المُلك: ( 23-24 ).
[5] التين: ( 4 ).
[6] الإسراء: ( 70 ).
[7] تفسير القرطبي، جلد ( 10 ) صفحه ( 294 ) أيضاً: تفسير الطبري، جلد (15)، صفحه (126).
[8] المصدر السابق.
[9] تفسير القرطبي، جلد ( 10 )، صفحه ( 294 ).
[10] التين: ( 4 ).
[11] - تفسير ابن كثير ، مجلد (3) ، صفحه (52).
[12] النبهاني – الشيخ تقي الدين، كتاب " التفكير "، صفحه ( 5 ).
[13] الصابوني – محمد علي، صفوة التفاسير، جلد ( 2 )، صفحه ( 170 ).
[14] قطب – سيد، في ظلال القرآن، جلد ( 4 )، صفحه ( 2241 ).
[15] النبهاني – الشيخ تقي الدين، سرعة البديهة، صفحه ( 23 ).
[16] دورية " عالم الفكر "، المجلد الثالث، العدد الرابع ( 1973 )، صفحه ( 152 ).

يتبع بحول الله >>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

حاتم ناصر الشرباتي
09-25-2007, 05:33 PM
من هو الأصلح للبقاء ؟


إنَّ الخلود في هذه الحياة الدُنيا ليس هدفاً للمسلم، وليس غاية يُسعى لتحقيقها، فالمسلم يعتبرها دار امتحان ومعاش وعبادة؛ وهي دار ممر إلى حياة الخلود التي لا يموت الإنسان فيها ولا يشقى، فعقيدة المسلم أنَّ الإنسان قد وُجدَ في هذه الحياة الدنيا فترة من الزمن ليعبد الله ويُقدسه، قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)[ 1]

أمّا فكرة "الصراع" فهي فكرة استعمارية كافرة نشأت وأنشأت في عصر النهضة الاستعمارية، تلك النظرية التي تعتمد على القوة كوسيلة لغلبة القوي على الضعيف، فهي شريعة الغاب التي سادت في الحروب الاستعمارية وانطبعت فيها العقلية الجاهلية.

والصراع لغلبة القوي على الضعيف هي فكرة مادية لا أخلاقية، تهدف إلى الاستيلاء على موارد الغير بالقوة والعنف، وبسبب حمل المجتمعات الجاهلية لتلك الفكرة كانت الحروب العالمية والثورة الفرنسية، كما كانت السبب في ظهور الفاشية والنازية والشيوعية والقومية؛ ولنفس السبب قامت الحروب الصليبية وغزواتها على بلاد المسلمين. وبهذا المنطق احتلت روسيا الشيوعية أفغانستان المسلمة.

وما الحرب التي دارت رحاها حديثاً، ولا تزال آثارها ومصائبها إلى اليوم وفي هذه اللحظات على أرض الإسلام من أراضي الخليج العربي والتي أسموها "حرب الخليج" أو "عاصفة الصحراء" أو "حرب تحرير الكويت"، والتي قادتها قوى الكفر والشر بقيادة رأس معسكر إبليس الولايات المتحدة وغيرها من الدول الصليبية الكافرة مثل رؤوس الكفر والحقد بريطانيا وفرنسا، إلا صراع لتحقيق غلبة القوي المتغطرس المتمثل في الدولة العظمى الأولى وحليفاتها، على الضعيف المحدود القوة المتمثل في العراق، للاستيلاء على خيرات وموارد بلا د المسلمين، ولإجبار المسلمين على الخنوع لصلف وغطرسة الكفرة. ومما يعزز هذا ما نراه من تصرفات حاقدة بعد أن وضعت الحرب أوزارها، المتمثلة في استغلال اسم "هيئة الأمم" و "مجلس الأمن" وما يسمى بِ "الشرعية الدولية" لتركيع وتجويع شعب العراق المسلم وإذلاله، وقتل الشيوخ الرّكع والأطفال الرّضع والبهائم الرّتع، وإهلاك الزرع والحرث والنسل. يُساندهم في ذلك كل قوى الشر والكفر والعدوان في شرقي العلم وغربيه على اختلاف مللهم ونحلهم وعقائدهم!!!!

وعلى إثر تفجيرات يوم الثلاثاء المشهود 11/09/2001، في مدن نيويورك وواشنطن الأمريكيتين، هذا الحادث الذي أظهر عجز الدولة العظمى عن حماية بلادها ورعاياها، وكشف البرقع الشفاف من الجبروت والخيلاء الذي يخفي هوان وعوار تلك الدولة العظمى وقلة حيلتها، فقام رئيس الولايات المتحدة الأمريكية "بوش الإبن" بالسير على نهج وسلف وجبروت أباه، وبأسلوب رعاة البقر الشائع في أمريكا Cowboy، فأعلنها حرب صليبية حاقدة كافرة ضد الإسلام والمسلمين، بادعاء محاربة الإرهاب، فجَيَّشَ الجيوش وحَشدَ الحُشود، وجمع دول "أصحاب الفيل" في تحالف آثم حقود ضمّ دول الصليب الحاقد جميعاً من بريطانيا إلى فرنسا إلى إيطاليا ألذي استعرض حاكمها عضلاته واستغلها فرصة لمهاجمة حضارة الإسلام، وبقية دول الصليب بلا استثناء، كما ضم هذا التحالف الكافر دول الكفر الأخرى كروسيا الأرثوذكسية واليابان الوثنية، وقد قام هذا التحالف أيضاً باسم "الشرعية الدولية" وضم فيه معظم الدول القائمة في العالم الإسلامي عرباً وعجماً بمن فيهم حاكم السودان صاحب العمامة البيضاء والذي أوهم سذج ورعاع الأمة يوماً أنّه إمام المسلمين وخليفتهم!!! ومن شابه منهم أبو جهل وأبو لهب وأبو رغال وأرناط وشاور، والهدف المُعلن كان مكافحة الإرهاب ولقتل الشيخ أسامة بن لادن رئيس تنظيم القاعدة، للشك بلا دليل ثابت في اشتراكه في تدبير الحادث اللهم إلا الظن والهدف الحاقد، ولمعاقبة دولة أفغانستان لحمايتها له. ومما يثبت كذب ادعائهم هذا إعلان كبرائهم استمرار الحرب لمدة طويلة، وإعلانهم أنها ستطال شعوب ودول ومنظمات وجمعيات عدة كلهم عرب ومسلمين، وتهديدهم كل دول العالم بأسلوب هوليودي بأن من لم ينضم معنا فهو مع الإرهاب!!!

وصب أصحاب الفيل جام غضبهم على أصحاب العقيدة والمبدأ، وأمطروهم خلال مدة تقارب الشهرين بل تزيد، بوابل من حمم النار والقنابل المدمرة على اختلاف أنواعها، المحرمة في قوانينهم وغير المحرمة على السواء، تصبها عليهم أحدث الطائرات الحربية، والمنطلقة من مطارات وقواعد حربية في بلاد المسلمين، فدمروا البلاد، وهدموا المساجد والمصحات، وقتلوا الأطفال والشيوخ والجياع العراة، وشردوا الناس الذين هاموا على وجوههم في الفيافي والقفار هاربين من البلاء إلى الضياع، وارتكبوا كل أنواع المنكرات، وقاموا بأبشع أنواع الإرهاب الذين يدعون محاربته، وكشفوا عن مكنون الغل والحقد الذي تخفيه نفوسهم. حتى امتد غلهم وحقدهم إلى مواطنيهم من حملة الجنسية الأمريكية من المسلمين فاعتدوا عليهم بالقتل والسجن والتعذيب ومصادرة الأموال وتحريق البيوت وكشف عورات النساء، وكل ما يعد مخالفاً لقوانينهم ومبادئهم، وداسوا الحرية الشخصية للأفراد أمام صنمهم المعبود "تمثال الحرية".

والهدف الحقيقي لهذه الحملة الصليبية الحاقدة الكافرة والتي قادها رعاة البقر، هو بسط سيطرتهم وجبروتهم على مدن العالم الإسلامي، لاستغلال مواردهم ونهب خيراتهم، وسرقة أموالهم، (وقد فعلوها علانية بتدخلهم في ودائع الأشخاص والهيئات في بنوك العالم، ومصادرة ما يشاءون منها خلافاً لقوانينهم وتشريعاتهم، قوانين الصليب والغاب وقوانين رعاة البقر، واعتداءا ًصارخاً على الملكية الفردية). وللحيلولة بين هذه الأمة الكريمة وبين نهضتها وبعثها من مرقدها. إنّه الصراع بين الحق والباطل.

وأخيراً قيام إمبراطورية الشر "الولايات المتحدة الأمريكية" وحليفاتها بتاريخ 20/3/2003م بشن حرب صليبية غاشمة على العراق ومن ثم احتلاله بالكامل يوم 9/4/2003م واستعماره بعد معركة صبوا بها جميع أنواع وحمم الأسلحة المتطورة الفتاكة من قنابل إنشطارية جهنمية وصواريخ محتوية اليورانيوم المنضب والغير منضب على السواء، فدمروا البلاد وقتلوا العباد ومثلوا بجثثهم، ونهبوا الخيرات وأهلكوا الحرث والنسل، وروعوا الناس، وهتكوا الأعراض، وعاثوا في البلاد الفساد، يساندهم سراً وعلانية جميع دول الصليب الأوروبية بما في ذلك فرنسا وألمانيا وروسيا علاوة على بريطانيا وأسبانيا واستراليا... كما شاركهم وساعدهم في ذلك صراحة كل المحافل السياسية العالمية ومنها الأمم المتحدة ومجلس الأمن وسكرتير عام الأمم المتحدة ومنظمة الصليب الأحمر ومنظمات حقوق الإنسان وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ووفود الدول العربية في الأمم المتحدة، وحجتهم في ذلك عن "أسلحة الدمار الشامل" التي ليس لها وجود!!!!

لم تعتمد صراعاتهم مبدأ عدل يسعون لنشره، أو إصلاحاً يعملون لتحقيقه، أو دعوة حق يحملون لوائها، بل من أجل المادة والاستعمار والتسلط، والتحكم في مصائر البشر ومصادر رزقهم وعيشهم، واستغلالهم ونهب أموالهم وموارد بلادهم وخيراتها.

[وأصل فكرة الصراع هي نظرة التفكير الرأسمالي بالعيش، وما صاغ به الحياة الإنسانية كلها من صياغة معينة، تُري ما جلبت هذه الصياغة للحياة الإنسانية كلها من شقاء وتعاسة، وجعل الإنسان يقضي حياته كلها يركض وراء الرّغيف. وكيف جعلت العلاقات بين الناس علاقات خصام دائم، هي علاقة الرّغيف بيني وبينك آكله أنا أو تأكله أنت، فيستمر بيننا الصراع حتى ينال أحدنا الرّغيف ويحرم منه الآخر، أو يعطي أحدنا ما يبقيه ليوفر باقي الرّغيف للآخر ويزيد من خبزه. فنظرة واحدة لهذه الصياغة التي صاغها التفكير الرأسمالي للحياة تُري كيف جعلت الحياة الدنيا دار شقاء وتعاسة، ودار خصام دائم بين الناس. وذلك بأنّ التفكير الرأسمالي بالعيش، وإن كان قد بناه على فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، أي وإن كان بناه على فكرة كلية أي نظرة معينة في الحياة، فإنّه وإن حقق نهضة الشعوب والأمم التي سارت على هذا الطراز من التفكير بالعيش، فإنّه أشقى تلك الشعوب والأمم، وأشقى الإنسـانية بأجمعها. فهو الذي خلق وأوجد فكرة الاستعمار والاستعباد والاستغلال. وهو الذي أتاح لأفراد أن يعيشوا في مستوى هيأ لهم أن يأخذوا الرسائل التي تأتيهم على طبق من ذهب يقدمه إليهم الخدم، أي العبيد، وحرم أفراداً حتى من أن يكونوا خدماً وعبيداً لأبناء عائلاتهم أو عشيرتهم أو أمتهم يستطيعون أن ينعموا بفضلات العيش وفتات الموائد. وفي أمريكا الغنية المتغطرسة، وإنجلترا التي لا تزال تحلم بأمجاد الإمبراطورية المتناهية الأطراف، وفي فرنسا التي يسبح خيالها بسراب العظمة والمجد، نماذج عديدة من تلك الحياة، فضلاً عما فعلته فكرة الاستعمار والاستغلال في غير أوروبا وأمريكا من استعباد ومص دماء. وكل هذا إنّما كان لأنّ التفكير بالعيش ليس تفكيراً مسؤولاً، أي ليس تفكيراً فيه المسؤولية الحقيقية، حتى وإن كانت تظهر فيه أحياناً المسؤولية عن العائلة والعشيرة أو القوم أو الأمة، ولكنه في حقيقته خالٍ من المسؤولية، لأنه ليس فيه إلا ما يضمن الإشباع][2 ]


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منقول: موسوعة الخلق والنشوء، حاتم ناصر الشرباتي، الصفحات ( 355-361)
http://www.sharabati.org
[1 ] الذاريات: ( 56 ).
[2] النبهاني – الشيخ تقي الدين، كتاب " التفكير " صفحه ( 78 - 79 ).

يتبع بحول الله >>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

حاتم ناصر الشرباتي
04-04-2012, 06:47 PM
[وأصل فكرة الصراع هي نظرة التفكير الرأسمالي بالعيش، وما صاغ به الحياة الإنسانية كلها من صياغة معينة، تُري ما جلبت هذه الصياغة للحياة الإنسانية كلها من شقاء وتعاسة، وجعل الإنسان يقضي حياته كلها يركض وراء الرّغيف. وكيف جعلت العلاقات بين الناس علاقات خصام دائم، هي علاقة الرّغيف بيني وبينك آكله أنا أو تأكله أنت، فيستمر بيننا الصراع حتى ينال أحدنا الرّغيف ويحرم منه الآخر، أو يعطي أحدنا ما يبقيه ليوفر باقي الرّغيف للآخر ويزيد من خبزه. فنظرة واحدة لهذه الصياغة التي صاغها التفكير الرأسمالي للحياة تُري كيف جعلت الحياة الدنيا دار شقاء وتعاسة، ودار خصام دائم بين الناس.

وذلك بأنّ التفكير الرأسمالي بالعيش، وإن كان قد بناه على فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، أي وإن كان بناه على فكرة كلية أي نظرة معينة في الحياة، فإنّه وإن حقق نهضة الشعوب والأمم التي سارت على هذا الطراز من التفكير بالعيش، فإنّه أشقى تلك الشعوب والأمم، وأشقى الإنسـانية بأجمعها. فهو الذي خلق وأوجد فكرة الاستعمار والاستعباد والاستغلال. وهو الذي أتاح لأفراد أن يعيشوا في مستوى هيأ لهم أن يأخذوا الرسائل التي تأتيهم على طبق من ذهب يقدمه إليهم الخدم، أي العبيد، وحرم أفراداً حتى من أن يكونوا خدماً وعبيداً لأبناء عائلاتهم أو عشيرتهم أو أمتهم يستطيعون أن ينعموا بفضلات العيش وفتات الموائد. وفي أمريكا الغنية المتغطرسة، وإنجلترا التي لا تزال تحلم بأمجاد الإمبراطورية المتناهية الأطراف، وفي فرنسا التي يسبح خيالها بسراب العظمة والمجد، نماذج عديدة من تلك الحياة، فضلاً عما فعلته فكرة الاستعمار والاستغلال في غير أوروبا وأمريكا من استعباد ومص دماء. وكل هذا إنّما كان لأنّ التفكير بالعيش ليس تفكيراً مسؤولاً، أي ليس تفكيراً فيه المسؤولية الحقيقية، حتى وإن كانت تظهر فيه أحياناً المسؤولية عن العائلة والعشيرة أو القوم أو الأمة، ولكنه في حقيقته خالٍ من المسؤولية، لأنه ليس فيه إلا ما يضمن الإشباع][1 ]

لقد استغل دعاة العنصرية نظرية "داروين" في القول ببقاء الأصلح، مبرراً لاضطهاد الشعوب الملونة، وغالوا في ذلك حتى أنكروا حق النفس السّوداء - نسبة إلى لون البشرة - في الوجود على نحو ما عبر عنه "مونتسيكو" في كتابه، وفي ذلك يقول "الدكتور محمد بدوي" في كتابه "كتاب التطور": (استطاع العنصريون أن يتخذوا من نظرية داروين البيولوجية أساساً لنظرية اجتماعية داروينية، بمعنى أنّهم نادوا بما يسمى بالاختيار الاجتماعي ليقابل مبدأ الاختيار، ومن ثم فإن المجتمع يختار أصلح من يقود هذه المجتمعات في امتياز بعض الشعوب على بعضها الآخر.)

وفي طريقة تعامل بيض البشرة من الشعوب الصليبية الوافدة حديثاً إلى الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة الأولى في العالم، وقائدة ما يسمى بالعالم الحر، ورائدة الديموقراطية العفنة، تلك الدولة التي تتبجح وتتباهى بأنها بلد الحريات، مع أهل البلاد الأصليين سود البشرة "الزنوج"، أبشع صور لتلك النظرة ووصمة عار لا تمحى في جبين عالم القرن العشرين وفي جبين ذلك النظام الديموقراطي الفاسد العفن. كما يماثلها ويقاربها في البشاعة والانحطاط عنصرية المستعمر الصليبي الكافر تجاه الأفارقة سود البشرة في بلادهم المحتلة في جنوبي أفريقيا ووسطها وشرقها وغربها وشمالها، وفي مناطق متعددة من العالم، والمصائب التي حلت بهم من المستعمر الكافر إنجليزي وفرنسي وإيطالي وأسباني وبرتغالي وهولندي ومن كل هؤلاء الكفرة على اختلاف جنسياتهم سواء بسواء. تلك العنصرية الرعناء التي تنظر إلى هؤلاء الناس وتعاملهم على أنهم ليسوا نوعاً من البشر الذي ينتمون إليه. وفي هذا يقول "جوان توماس" في كتاب "خرافات عن الأجناس":

(إنَّ الاستعمار يحاول تبرير القول بأنَّ الزنجي ليس أحط من الرجل الأبيض فحسب، بل أنّه لا يختلف إلا بقدر يسير عن الحيوان وإنّ نظرية داروين الخاصة ببقاء الأصلح رَحَبَ بها البيض واعتبروها وسيلة لتدعيم سياسة التوسع والعدوان على حساب الشعوب المنحطة. وبناء على ذلك اعتقد الأبيض أنَّ استعباد أو إفناء المجموعات البشرية المنحطة بواسطة الرصاص الأوروبي ليس إلا تنفيذاً لنظرية استبدال مجتمعات منحطة بأخرى راقية.

لقد رَحَّبَ الماديون بفكرة داروين لأن عقيدتهم تقوم على العنف وصراع الطبقات، ولم يكن الدّافع لتبني نظرية داروين الأدلة العلمية - فهي أبعد عنها - وإنّما كان مذهبهم السياسي، علاوة على أنَّ نظرية نشوء الإنسان من الحيوان تلائم النظرة المادية الشيوعية.

لقد ذكر القرآن الكريم أنّ الصلاح هو سبب بقاء الأمم والحضارات في الدنيا، وسبب تغلب الضعفاء العقائديين المتقون على الأقوياء الكفرة. وأنّ الفسق والفجور والضلال والعصيان والكفر والإلحاد والشرك والوثنية والجاهلية هم سبب الهلاك والزوال وانتقام الله، وفي ذلك قوله تعالى من سورة آل عمران:

(إنَّ الذينَ كفروا لن تُغنيَ عَنهُمْ أمْوالهُمْ وَلا أوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأوْلئِكَ هُمْ وَقودُ النّارِ  كدَأبِ آلِ فِرْعَونَ والذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذّبوا بِآياتِنا فَأخذهُمُ اللهُ بِذُنوبِهِمْ وَاللهُ شَديدُ العِقابِ  قُلْ للذينَ كفروا سَتُغلبونَ وَتُحْشرونَ إلى جَهَنَّمَ وَبئسَ المِهادُ  قدْ كانَ لكُمْ آيَة في فِئتينِ التقتا فِئة تُقاتِلُ في سَبيلِ اللهِ وَأُخرى كافِرَة يَرَوْنهُمْ مِثليهِمْ رَأيَ العَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِدُ مَنْ يَشآءُ إنَّ في ذلِكَ لعِبْرَةً لأولي الأبْصارِ )[2 ]

هذه النظرة التي طرحها الإسلام بمفاهيمها وقيمها الإنسانية الكريمة عن النزاع القائم في الحياة الدنيا. فرفع الإنسان فكرياً وسلوكياً عن مستوى الغاب وشريعته التي تنادي بالبقاء للأقوى، إلى المستوى الإنساني الفاضل الذي ينادي بالبقاء للصالح فعلاً. فهلاك الأمم والشعوب واندثارها هو بسبب الذنوب والمعاصي والآثام، منذ خلق الله الأرض ومن عليها، وإلى أن يرثها ومن عليها، وفي ذلك قوله تعالى من سورة الأعراف: (أوَ لمْ يَهْدِ للذينَ يَرِثونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أهْلِها أنْ لوْ نَشاءُ أصَبْناهُمْ بذنوبِهِمْ وَنَطبَعُ عَلى قُلوبِهِمْ فَهُمْ لآ يَسْمَعونَ  تِلكَ القرى نَقُصُّ عَليْكَ مِنْ أنْبائِها وَلقدْ جائتهُمْ رُسُلهُمْ بالبَيناتِ فما كانوا لِيُؤمنوا بِما كَذّبوا مِنْ قبْلُ كَذلِكَ يَطبَعُ اللهُ على قلوبِ الكافرينَ )[ 3] وقوله تعالى من سورة الكهف: (وَتِلكَ القرى أهْلكناهُمْ لمّا ظلموا وَجَعَلنا لمهلكهم مَوْعِداً )[4 ] وقوله تعالى من سورة يونس: (وَلقدْ أهْلكنا القرونَ مِنْ قبْلكمْ لمّا ظلموا )[ 5]
________________________
[1] النبهاني – الشيخ تقي الدين، كتاب " التفكير " صفحه ( 78 - 79 ).
[2] آل عمران: ( 10 – 13 ).
[3] الأعراف: ( 100 – 101 ).
[4] الكهف: ( 59 ).
[5] يونس: ( 13 ).
362-365
منقول: موسوعة الخلق والنشوء، حاتم ناصر الشرباتي، الصفحات ( 355-361)
http://www.sharabati.org
يتبع بحول الله >>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

حاتم ناصر الشرباتي
12-04-2018, 08:26 PM
ويذهب "عطية زاهده" إلى أنّ الكهف هو في خربة (قمران) بجانب البحر الميت إلى الشمال من الفشخة في فلسطين، حيث يقول: (وعلى أيَة حال فإنَّ أحداً من الناس لم يسبق له أن أشار إلى علاقة أهل الكهف بمخطوطات البحر الميت، وكان مؤلف الكتاب هو من أول من بَيَّنَ أنَّ أصحاب الكهف والرّقيم كانوا في قمران قرب البحر الميت، والوثائق الرّسمية التي في حوزته، علاوة على على المصادر العلمية تثبت ذلك...)[[6]]
______________________
[6] زاهدة - عطية عبد المعطي، أصحاب الكهف والرّقيم، صفحه ( 1 ).

[/URL]http://4.bp.blogspot.com/_LI47zUS7S40/TKGK6GtHasI/AAAAAAAAAkQ/hMPaTL4BGH4/s1600/map+of+entire+area-qumran01.jpg (http://4.bp.blogspot.com/_LI47zUS7S40/TKGK6GtHasI/AAAAAAAAAkQ/hMPaTL4BGH4/s1600/map+of+entire+area-qumran01.jpg)

http://files.shabab.ps/vb/images_cash/up15/120510202624vEYd.jpg (http://files.shabab.ps/vb/images_cash/up15/120510202624vEYd.jpg)

[URL="http://www.sorah.org/id/2f92d8df75ef0bd2b83a34692b4c1c9d.jpg"]http://www.sorah.org/id/2f92d8df75ef0bd2b83a34692b4c1c9d.jpg (http://www.sorah.org/id/2f92d8df75ef0bd2b83a34692b4c1c9d.jpg)

حاتم ناصر الشرباتي
12-04-2018, 08:40 PM
نعم .....لقد ذكر القرآن الكريم أنّ الصلاح هو سبب بقاء الأمم والحضارات في الدنيا، وسبب تغلب الضعفاء العقائديين المتقون على الأقوياء الكفرة. وأنّ الفسق والفجور والضلال والعصيان والكفر والإلحاد والشرك والوثنية والجاهلية هم سبب الهلاك والزوال وانتقام الله، وفي ذلك قوله تعالى من سورة آل عمران:

(إنَّ الذينَ كفروا لن تُغنيَ عَنهُمْ أمْوالهُمْ وَلا أوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأوْلئِكَ هُمْ وَقودُ النّارِ  كدَأبِ آلِ فِرْعَونَ والذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذّبوا بِآياتِنا فَأخذهُمُ اللهُ بِذُنوبِهِمْ وَاللهُ شَديدُ العِقابِ  قُلْ للذينَ كفروا سَتُغلبونَ وَتُحْشرونَ إلى جَهَنَّمَ وَبئسَ المِهادُ  قدْ كانَ لكُمْ آيَة في فِئتينِ التقتا فِئة تُقاتِلُ في سَبيلِ اللهِ وَأُخرى كافِرَة يَرَوْنهُمْ مِثليهِمْ رَأيَ العَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِدُ مَنْ يَشآءُ إنَّ في ذلِكَ لعِبْرَةً لأولي الأبْصارِ )[ 1]

هذه النظرة التي طرحها الإسلام بمفاهيمها وقيمها الإنسانية الكريمة عن النزاع القائم في الحياة الدنيا. فرفع الإنسان فكرياً وسلوكياً عن مستوى الغاب وشريعته التي تنادي بالبقاء للأقوى، إلى المستوى الإنساني الفاضل الذي ينادي بالبقاء للصالح فعلاً. فهلاك الأمم والشعوب واندثارها هو بسبب الذنوب والمعاصي والآثام، منذ خلق الله الأرض ومن عليها، وإلى أن يرثها ومن عليها، وفي ذلك قوله تعالى من سورة الأعراف: (أوَ لمْ يَهْدِ للذينَ يَرِثونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أهْلِها أنْ لوْ نَشاءُ أصَبْناهُمْ بذنوبِهِمْ وَنَطبَعُ عَلى قُلوبِهِمْ فَهُمْ لآ يَسْمَعونَ  تِلكَ القرى نَقُصُّ عَليْكَ مِنْ أنْبائِها وَلقدْ جائتهُمْ رُسُلهُمْ بالبَيناتِ فما كانوا لِيُؤمنوا بِما كَذّبوا مِنْ قبْلُ كَذلِكَ يَطبَعُ اللهُ على قلوبِ الكافرينَ )[ 2] وقوله تعالى من سورة الكهف: (وَتِلكَ القرى أهْلكناهُمْ لمّا ظلموا وَجَعَلنا لمهلكهم مَوْعِداً )[3 ] وقوله تعالى من سورة يونس: (وَلقدْ أهْلكنا القرونَ مِنْ قبْلكمْ لمّا ظلموا )[4 ]

وليس ببعيد عن أذهاننا قصة فرعون حين علا وتغطرس وتجبر ببني إسرائيل، ولم يكن المنتصر فيها القوي الجبار المتغطرس، بل كان المنتصر الفئة المؤمنة المستضعفة. وفي ذلك قوله تعالى من سورة يونس: (وَجاوَزنا بِبَني إسْرائيلَ البَحْرَ فَأتبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنودُهُ بَغياً وَعَدْواً حَتىّ إذا أدْرَكَهُ الغرَقَ قالَ آمَنتُ أنّهُ لآ إلهَ إلآ الذي آمَنَتْ بِهِ بَنو إسْرائيلَ وَأنا مِنَ المُسْلِمينَ  ءآلنَ وَقدْ عَصَيْتَ قبْلُ وَكُنْتَ مِنَ المُفسِدينَ  فاليَومَ ننَجيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكونَ لِمَنْ خلفكَ آيَةً وَإنَّ كثيراً مِنَ الناسِ عَنْ آياتِنا لغافِلونَ )[5 ]

لقد قصَّ علينا القرآن الكريم كيف أهلك الله تعالى قوم نوح بالإغراق، وكيف انتقم وأهلك قوم لوط، وكيف انتقم من الفراعنة وكل الجبابرة العتاة، وقصّ علينا من أمثال العذاب والهلاك في الدنيا التي سلطها الله تعالى على الكفرة العتاة الظلمة، علّ ذلك يكون عبرة لكل معتبر. ولنتمعن في هذه الآيات البينات من سورة الأنبياء: (وَنوحاً إذ نادى مِن قبْلُ فاسْتجَبْنا لَهُ فنجَيناهُ وَأهْلهُ مِنَ الكَرْبِ العَظيمِ  وَنصَرْناهُ مِنَ القوْم الذينَ كذبوا بآياتِنا إنَّهُمْ كانوا قوْمَ سوءٍ فَأغرَقناهُمْ أجْمَعينَ )[6 ] وقال تعالى من سورة الحاقة: (كَذّبَتْ ثمودُ وَعادٌ بالقارِعَة  فأمّا ثمودُ فأُهْلِكوا بالطاغِيَةِ  وَأمّا عادٌ فأُهْلِكوا بريحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ  سَخرَها عَليْهِمْ سَبْعَ ليالٍ وَثمانِيَة أيامٍ حُسوماً فترى القَوْمَ فيها صَرْعى كأنَّهُمْ أعْجازُ نحلٍ خاوِيَة  فهَلْ ترى لهُمْ مِنْ باقِيَة )[7 ] وقصص أخرى من قصص الهلاك ومع سورة الفجر: (ألَمْ تَرَ كَيْفَ فعَلَ رَبُّكَ بعادٍ  إرَمَ ذاتِ العِمادِ  التي لَمْ يُخلَقْ مِثلها في البلادِ  وَثَمودَ الذينَ جابوا الصَّخرَ بالوادِ  فأكثَروا فيها الفَسادَ  فصَبًّ عَلَيْهِمْ رَبُكَ سَوْطَ عَذابٍ  إنَّ رَبّكَ لَبالمِرْصادِ )[ 8] وصورة أخرى هي الهلاك بالمطر ومع سورة النمل: (وَلوطاً إذ قالَ لِقَوْمِهِ أتأتونَ الفاحِشَة وَأنتُمْ تبْصِرونَ  أئِنَّكُمْ لًتأتونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دونِ النِساءِ بَلْ أنتُمْ قوْمٌ تجْهَلونَ  فما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إلآ أنْ قالوا أخرِجوا آلَ لوطٍ مِنْ قرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أناسٌ يَتطَهَرونَ  فأنْجَيْناهُ وَأهْلهُ إلآ إمْرَأتَهُ قدَّرْناها مِنَ الغابِرينَ  وَأمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فسـاءَ مَطَرُ المُنذَرينَ )[9 ]

أما المسخ فقد سلطه الله تعالى على قوم من اليهود لعصيانهم أمر الله بصيدهم الحيتان في السّبت وقد حُرّم عليهم ذلك، على قول إبن عباس في رواية عكرمة الواردة في كتاب "المستدرك"، إذ مسخهم الله قردة جزاءَ عصيانهم لأوامر الله تعالى، وفي ذلك قوله تعالى من سورة الأعراف:

(وَاسْألهُمْ عَنِ القرْيَةِ التي كانَتْ حاضِرَةَ البَحْرِ إذ يَعْدونَ في السَّبْتِ إذ تَأتيهُمْ حيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبتونَ لا تَأتيهِمْ كًذلِكَ نبْلوهُمْ بما كانوا يَفسُقونَ  وَإذ قالتْ أُمَّة مِنْهُمْ لِمَ تعِظونَ قوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مُعَذِبُهُمْ عَذاباً شَديداً قالوا مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلّهُمْ يتقونَ  فلمّا نَسُوا ما ذكِروا بِهِ أنجَينا الذينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السّوءِ وَأخذنا الذينَ ظَلموا بِعَذابٍ بَئيسٍ بِما كانوا يَفسُقونَ  فلما عَتوا عِنْ ما نُهوا عَنْهُ قلنا لهُمْ كونوا قِرَدَةً خاسِئينَ )[ 10]

[وقصة المسخ تلك في جماعة من يهود كانوا يسكنون في إيلات في خليج العقبة، فحرّم الله تعالى عليهم الصيد يوم السبت، فكانت الحيتان تأتيهم ظاهرة مشرعة بكثرة يوم سبتهم، فإذا كان بقية الأسبوع اختفت، وذلك امتحان لهم من ربهم. فابتدأ نفر منهم بوضع الشباك لها يوم الجمعة ويمسكوا بها يوم السبت ليأخذونها يوم الأحد تحايلاً على أمر الله. فلما ظهر فيهم هذا الأمر انقسموا إلى ثلاث طوائف: طائفة تحايلت على أمر الله ... وطائفة نهت عن المنكر ... وطائفة سكتت ...، وكـان ابن عباس رضي الله عنهما يرى أنّ الذين نجوا هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر منهم فقط، ويرى أنَّ الذين سكتوا وقالوا لِمَ تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً مع الهالكين... ثم يبكي خشية أن يكون من الذين رأوا المنكر فلم ينهوا عنه وذلك في أيام بني أمية... فجاء مولاه عكرمة وأقنعه بأنّ الذين كرهوا وسكتوا هم الناجون، فسر بذلك رضي الله عنه... وأما الطائفة الثالثة فقد مسخها الله قردة][ 11]

_______________
[1] آل عمران: ( 10 – 13 ).
[2] الأعراف: ( 100 – 101 ).
[3] الكهف: ( 59 ).
[4] يونس: ( 13 ).
[4] يونس: ( 90 – 92 ).
[1] الأنبياء: ( 76 – 77 ).
[2] الحاقة: ( 4 – 8 ).
[3] الفجر: ( 6 – 13 ).
[1] النمل: ( 54 – 58 ).
[2] الأعراف: ( 163 – 166 ).
[11] تفسير ابن كثير، (2: 158)- تفسير الطبري، (13: 185) – تفسيير القرطبي، (7: 306) - في ظلال القرآن، (9 : 1383)