حازم
01-12-2006, 10:32 PM
بقلم : د. عبد العزيز كامل
ربما لم يأخذ الفكر الليبرالي حظه من الدراسات التحذيرية في حقول الدراسات الإسلامية خلال عقود طويلة مضت، كما حدث مع الفكر الشيوعي أو القومي أو البعثي، ولعل ذلك يعود إلى أن الليبرالية كثيراً ما تسترت وراء ديكور الديمقراطية، وتنكرت أحياناً أخرى بأقنعة الحرية الفكرية، والسعادة الفردية، وقِيَم التحضر والتمدين والتحديث، في أوقات كان معظم العالم العربي والإسلامي يئن تحت وطأة نظم شمولية بأفكار قمعية تاقت الشعوب معها إلى معاني الحرية والانطلاق. وقد انهمك المثقفون والمفكرون في مناهضة الفكر الإلحادي، شرقياً كان أو غربياً، ظانين أن الفكر الليبرالي متحرر من الأيديولوجيات والثوابت أياً كانت.
ولما انهار جدار الشيوعية، فرح بذلك العالم (الحر) في أمريكا والغرب، ودق طبول النصر لعصر جديد، تتسيد فيه القيم الغربية الليبرالية بلا منافس أو منازع، ليشترك العالم بالترغيب أو الترهيب في رفع رايات انتصار خادع، على جثة نِدٍ حضاري مزيف، هو الاتحاد السوفييتي السابق، ورفع أحد فلاسفة أمريكا المعاصرين «فرنسيس فوكوياما» عقيرته بانتصار الليبرالية في المعركة الحضارية الإنسانية، ليسدل الزمان أستاره على المشهد الأخير والمثير من مسرحية «نهاية التاريخ»!
وبدأ الأمريكيون بعدها يتحركون بهستيريا لإخضاع (العبيد) أو (الهنود) للدخول قسراً في سجن الحرية الليبرالية، وأصبحنا أمام (جوانتنامو) ثقافية واقتصادية وسياسية وأمنية اسمها (العولمة)؛ حيث لا مجال للحديث معها عن ديمقراطية الأغـلـبية، ولا الذاتية الشخـصية أو الخـصوصية الثقـافـية، ولا حتى منطق المصلحة، وبخاصة إذا كانت مصلحة (الآخر).
ويؤسفنا بعد كل هذا أن نجد من بني جلدتنا من يجعل من نفسه منصة تنطلق منها صواريخ الدمار الفكري الشامل القادم من أمريكا، صوب أراضينا المكشوفة وسماواتنا المفتوحة، متعللين بحريتهم في الفكر والفعل.
إن القضية قبل أن تكون اعتناقاً لفـكر، أو اقتـناعاً بمـبدأ؛ هي قضـية إيمـان وتسـليم؛ فمن الحقـائق المقـررة في ديـننا أن الله لم يتـرك منـاهج إصـلاح البـشر للبـشر بشكل مطـلق، بل تولى ـ سبحـانه ـ ذلك بنفـسه، فأرسـل لذلك الرسـل وأنـزل الكتب، ونادى الوحي في الناس جميعاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [النساء: 174 - 176]. وإن الظن بأن البشر يمكنهم التفرد بتدبير شؤونهم بما يتفق مع غاية خلقهم، هو سوء ظن بالإله الخالق ـ سبحانه ـ وادعاء عليه بالعبثية وعدم الحكمة ـ جل ربنا عن ذلك ـ إذ كيف يخلق ويرزق، ثم يأذن للإنسان بأن يفسد باسم الإصلاح، أو يفجر باسم التحرر...؟ {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ كَالْـمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْـمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 27 - 34].
إن كل فكر إنساني لا يعبأ إلا بالحياة الدنية القصيرة، دون اكتراث بالنجاة في الحياة الآخرة الباقية؛ لهو فكر معاد للإنسانية، مهما ادَّعى أصحابه الحرص على سعادة الإنسان؛ لأن هذا الفكر في النهاية هو اتباعٌ للهوى الذي يهوي بالإنسان إلى دركات التيه والضياع.
والفكر الليبرالي (Libralisme) لم يبلوره مفكر واحد في عصر واحد، بل اشترك في وضع أصوله العديد من المفكرين في أزمنة وأمكنة مختلفة، حتى صارت له أسسٌ تشمل نواحي الحياة في جوانبها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والدينية، إلاّ أن هذا الشمول لا ينفي عن الليبرالية صفة القصور؛ لأنها اقتصرت في الجملة على تلبية الغرائز الدنيا في الإنسان، دون أدنى اعتبار للقيم العليا التي من أجلها كرّم الله بني آدم وحملهم في البر والبحر وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، بل هي فوق ذلك لا تعتمد إلا على أخس قدرات الإنسان على الفعل، وهي التمرد على إرادة الله عن طريق الكسب الاختياري الذي منحه إياه: {بَلْ يُرِيدُ الإنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 5 - 6]، وهذا هو أحط أنواع العبودية لغير الله؛ حيث يجعل من نفسه إلهاً لنفسه.
لقد نشـأ الفـكـر اللـيبرالي في بيئة غير بيئتنا، وتأصل على غير شريعتنا وأخلاقياتنا، وطُبق في غير مجتمعاتنا، واستهدف علاج آفات وإصلاح عيوب لم تعانِ منها أمتنا؛ فليس عندنا تسلط كنسي على عقول الناس، ولا احتكار كهنوتي للحقيقة، ولا خرافة طقوس تقوم على الخصومة المفتعلة بين الدين والعلم، ومع هذا، هَامَ به ـ على طريقة جُحر الضب ـ أقوام من المسلمين، وأرادوا أن يستوردوه ومعه العز والتقدم والشرف، فلم يجرُّوا بذلك على أمتهم إلا الذل والتأخر والانكسار، وصعب عليهم بعد ذلك ـ كما فعل الغراب حين أراد أن يقلد مشية الهُدْهُد ـ أن يعودوا لما كانوا عليه، فلا هم ظلوا مسلمين صلحاء أنقياء، ولا هم صاروا غربيين خلصاء بل: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إلَى هَؤُلاءِ وَلا إلَى هَؤُلاءِ} [النساء: 143].
نشأ الفكر الليبرالي عن فلسفة سياسية واقتصادية، أفرزت قناعات ثقافية وممارسات اجتماعية، حاولت بعد ذلك أن تتحول إلى منطلقـات لحـريـة ديـنية، ونـسبية اعـتقادية، تؤول إلى (اللا دين). والليبرالية، بكل تعريفاتها لكل أصنافها؛ تركز على جوهر واحد يتفق عليه جميع الليبراليين، وهو أنها: تعتبر الحرية هي المبدأ والمنتهى في حياة الإنسان، وهي وراء بواعثه وأهدافه، وهي المقدمة والنتيجة لأفعاله. فالحرية هي سيدة القيم عندهم دون أدنى حدود أو قيود، سواء كانت هذه الحدود هي (حدود الله) أو كانت تلك القيود لسبب سياسي أو اجتماعي، أو ثقافي، أما مبدأ عبودية الإنسان لخالقه كما جاءت به رسالات السماء جميعاً، فهي عند الليبراليين لون من تراث الماضي «المتخلف».
بدأ الفكر الليبرالي في مرحلته المبكرة داعياً إلى حق التمرد ضد الحكومات التي تقيد الحريات الشخصية، ولهذا أوحت الأفكار الليبرالية بالثورة الإنجليزية عام 1688م، والأمريكية عام 1775م، والفرنسية عام 1789م، وأدت هذه الثورات إلى قيام حكومات تعتمد على دساتير تقدس حق الإنسان في الحرية الشخصية بأوسع دوائرها، دون التزام تجاه شيء، إلا القوانين المصاغة أصلاً لحماية الحريات الشخصية.
صحيحٌ أن الحرية الإنسانية، بضوابطها الأخلاقية، قيمة عظيمة، يفقد الإنسان من حقوقه الآدمية بقدر ما يفقد منها، ولكن التحريف الذي لحق بدين الأوروبيين النصارى، في تقنين ألوان من العبودية، جعلتهم يثورون على تلك التطبيقات المنحرفة للأديان المحرفة، ولو كنا مكانهم تحت التسلط والاستبعاد، لثرنا مثلهم؛ لأن للحرية الإنسانية حدوداً لا يطيق الإنسان بوصفه إنساناً أن يُحرم منها على الشكل الذي شرعته الكنيسة من دون الله. ولكن الفكر الليبرالي لم يقف عند حد علاج الخلل الناشئ بسبب فساد تصورات الكنيسة في الدين والسياسة والاقتصاد والاجتماع، بل جعل الآلهة المتعددة إلهاً واحداً هو الهوى، فهو المعبود الحقيقي في الملة الليبرالية.
الليبرالية... وتأليه الهوى:
يدرك من له أدنى إلمام بتصنيفات وتفريعات أصحاب الـملل والنحل والأديان، أن الإنسان بمعزل عن هداية الوحي، عبد كل شيء من حجر وشجر وشمس وقمر، وقدَّس الكثيرَ من الحيوان والهوام، وأطاع كل طاغوت من إنسان وجان، إلا أن هناك عبادة أخرى لم تشتهر بين العبادات؛ لأن المعبود فيها غير مشخـص ولا ثابت، والعبادة فيها بلا شعائر ولا طقوس، ألا وهي عبادة الذات وتقديس الهوى، وتلك العبادة تختلف عن غيرها، بأن العبودية فيها غير واضحة المعالم؛ فهي مجرد سير أعمى وأهوج في طرق مظلمة بحثاً عن سعادة مفقودة، وغاية غير موجودة.
وهذا الظلام الحالك، هو ما أشار إليه القرآن في قول الله ـ تعالى ـ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، ففي الآية تنديدٌ بمن يأتمر بأمر هواه؛ فما رآه حسناً فعله، وما رآه قبيحاً تركه، وهذا هو جوهر التأليه؛ فكل ما يستلزم الطاعة بلا قيود فهو عبودية، والإله المعبود في الآية هو الهوى، من باب التشبيه البليغ أو الحقيقة، والطاعة هنا مستلزمة للمحبة والرغبة، فـ (هواه) بمعنى: مهويه ومرغوبه المطاع.
ولهذا فإن عِلْم عابد الهوى لا ينفعه إن كان عنده علم؛ لأن الله ختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، فلا هادي له ولا مرشد من بعد الله؛ لأنه أغلق على نفسه باب الهداية عندما عزل نفسه بنفسه عنها.
ولم نرَ في الأفكار والمناهج المنحرفة شيئاً ألصق بوصف عبادة الهوى وتقديس الذات مثل الليبرالية المعاصرة من حيث وضعها وتعريفها؛ فهي تعني طلاقة حرية الإنسان وانفلاتها من كل القيود، بحيث لا يكــون هنـاك أي مانـع أو رادع مـن فـرد أو أسرة أو جماعة أو دولة أو فكر أو دين أو تقاليد، بل يتصرف المرء وفق ما تمليه النفس وتسوق إليه الرغبة على ألا يتعدى على حرية الآخرين. صحيح أن أرباب الليبرالية يختلفون فيها بقدر اختلاف أهوائهم، إلا أنهم يتفقون على شيء واحد، وهو وصف موسوعة (لالاند) الفلسفية لها بأنها: «الانفلات المطلق بالترفع فوق كل طبيعة».
وقد عرَّفها المفكر اليهودي (هاليفي) بأنها: «الاستقلال عن العلل الخارجية، فتكون أجناسها: الحرية المادية والحرية المدنية أو السياسية، والحرية النفسية والحرية الميتافيزيقية (الدينية)» وعرفها الفيلسوف الوجودي (جان جاك روسو) بأنها: «الحرية الحقة في أن نطبق القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا». وعرفها الفيلسوف (هوبز) بأنها «غياب العوائق الخارجية التي تحد من قدرة الإنسان على أن يفعل ما يشاء».
وهكذا نرى أن تعريفات الليبرالية تُجمِع على أنها انكفاء على النفس مع انفتاح على الهوى؛ بحيث لا يكون الإنسان تابعاً إلا لنفسه، ولا أسيراً إلا لهواه، وهو ما اختصره المفكر الفرنسي (لاشييه) في قوله: «الليبرالية هي الانفلات المطلق».
ولهذا فإننا نعجب كل العجب ممن لديه أدنى معرفة بمعنى العبودية لله في الإسلام؛ كيف يجرؤ أن يقول: (الليبرالية الإسلامية) فيجمع بين مـتنـاقضين، وهل يمكن أن ينادي مـن أسـلم بـ «انفـلات مطـلق» أو «تطبيق للقوانين التي اشترعها الإنسان بنفسه لنفسه»؟! وهل هناك في الإسلام استقلال عن كل المؤثرات الخارجية في الاعتقاد والسياسة والنفس والمادة؟! كيف يمكن أن تنسب كـل هـذه القبـائح للإسلام أو تصبغ به؟ إن الليبراليين الـغربـيـين يحـلو لهم كثيراً أن يكسوا هذه الدمامة بأصباغ من الجمـال المصطنع، فيفلسفوا اتِّباع الهوى بـ «تحكيم العقل» ويصـفـوا التـمـرد على القـيم والـثوابـت بـ «الحرية المطلقة» أو «منع المنع»، ويرددوا دائماً بأنهم ضد الاستبداد السياسي الذي يمثله استبداد الدولة، والاستبداد الاجتماعي الذي تمثله القيم والأعراف، والاستبداد الديني الذي تمثله العقائد.
ولذلك نرى الليبراليين بكل أصنافهم ينفرون من كلمة (ثوابت) ويضيق عَطَنُهم من كلمة (عقيدة) ويفرون كأنهم حمرٌ مستنفرة فرت من قسورة إذا حدثتهم عن ثبات الأحكام، ودوام الحكمة والصلاحية فيها.
وبالنظر إلى أن طبيعة الهوى وسجية أهل الأهواء هي التقلب والتغير، فقد صاحَبَ الغموضُ مصطلحَ (الليبرالية) في مرحل تطورها، إلا في أمر واحد؛ وهو: تحقيق الرفاه والترف والذاتية الفردية إلى الحد الأقصى، وتحول هذا من الإطار الذاتي إلى الإطار الجمعي لدى المجتمعات التي تبنت الأفكار الليبرالية، والتي أسمت نفسها (العالم الحر)، وأصبح هذا العالم (حراً) في أن يحقق الحد الأقصى من الرفاة والمتاع، سيراً وراء الهوى المتبع والشح المطاع للأفراد، كل ذلك على خلفية المصلحة، المرادفة في كل الأحوال للأنانية المفرطة.
ولهذا وجد الناس البَوْن شاسعاً بين شعارات الليبرالية في عالم المثال، وتطبيقاتها في عالم الواقع؛ فقد غاب العامل الإنساني، وحل محله العامل الطبقي أو العنصري، ولم يعد (الإنسان) هو قضية الليبرالية الأولى إلا بحسب لونه أو جنسه أو مستواه الاقتصادي. فالليبرالية السياسية (الديمقراطية) في الغرب تختلف عن ديمقراطيات البلدان التابعة أو المستعبَدة من الغرب، والليبرالية الاقتصادية (الرأسمالية) في الغرب يجب أن توصِل عندهم إلى نتائج مسيطِرة، وعندنا إلى نتائج مسيطَر عليها. وأما بقية مفردات الليبرالية من ثقافية واجتماعية ودينية، فهي ينبغي أن تمثل عندهم نموذج القدوة والمثال، بينما تمثل لدى مقلديهم أنماط التبعية والذوبان إلى حد الابتذال.
أما الليبرالية الفكرية الثقافية والدينية فهي الأخطر، وتعني عندهم المزيد من هجر الخصوصيات والثوابت عند الأمم، في حين يفيئون هم إلى ما يعدُّونه قِيَماً يجب تصويرها بأحسن صورة، وتصديرها على أوسع نطاق.
وقد حدثت في ذلك تجارب وتجارب، دأب المفتونون بالفكر الليبرالي فيها على أن ينقلوا إلى مجتمعاتنا أدواء الليبرالية، دون أن يستطيعوا أن يداووا بها مرضاً.
لن نتحدث هنا عن تجربة تركيا المريرة في ذلك، سواء على يد العلمانيين أو أشباه الإسلاميين؛ فقد يقال إن تركيا في قسم منها جزء من أوروبا، ولهذا تسعى للتواصل معها واللحاق بها، ولكن أمامنا تجربة أخرى عربية غير تلك التركية، وهي التجربة المصرية التي خاضها العلمانيون كاملة لتنتهي إلى نتائج وخيمة لا تزال الأجيال في مصر تعاني منها لليوم، ومع هذا فقد ظلت هذه التجربة الخاسرة جاهزة للتصدير رغم كل علامات التحذير من انتهاء صلاحيتها وفساد مكوناتها.
i تكرار التجارب... واجترار الأخطاء:
انبرى نفر من المفتونين بالفكر الليبرالي فيما مضى من العقود في مصر يبشرون بذلك الفكر على صُعُد مختلفة، ففي السياسة برز (سعد زغلول) ليكون داعية للنهج الأوروبي في الأداء السياسي، وبالبرغم من نشأته الأزهرية، إلا أن رحلاته المتعددة لأوروبا غيرت من فكره، وأقنعته بأن المحتل الأوروبي عندما يرحل ـ ولا بد أنه سيرحل ـ يجب الإبقاء على ما جاء من أجله، وهو تجذير التغيير في بنية الشعوب، لتقترب من النموذج الأوروبي، ولم يكن سعد زغلول وحيداً في حمل الهم الأوروبي رغم اقتران اسمه بالبحث عن الاستقلال، بل حمل معه هذا الهم كثيـرون ممن أُشـرِبوا في قلوبهم حب الأوروبيين من خـلال التعـليم في مـدارس الإرسـالـيات أو معـاهـد الأقـبـاط، أو ضمن البعثات الخارجية؛ حيث دشن هؤلاء (العائدون من أوروبا) حملة تغريب منظمة بالتنسيق مع قوى (الاحتلال) حيناً، وتحت راية (الاستقلال) أحياناً.
فالاستعمار الإنجليزي استمر في مصر الفترة نفسها التي استمر فيها المد الليبرالي، وتحت إشراف ذلك المستعمر، وضع الليبراليون أيديهم على كل منافذ التأثير، وقد تعاقبت على حكم مصر حكومات تنتمي إلى أحزاب سياسية، وكان أكثرها يحمل المبادئ الليبرالية في السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع، كحزب الوفد الضليع في علمانيته الذي أسسه سعد زغلول والذي تفرعت منه أو انشقت عنه أحزاب علمانية، تؤمن كلها بالمبادئ الليبرالية على اختلافٍ بينها في الوسائل، وفي المدة من (أكتوبر 1922م) وحتى قيام ثورة (يوليو 1952م) أي فيما يقرب من ثلاثين عاماً، قامت في مصر إحدى وأربعون وزارة، كان الوفديون الليبراليون أو المنشقون عن الوفديين (السعديين) يتناوبون فيها مع غيرهم من العلمانيين على كراسي رئاسة الوزراء، ولم يكن التنافس بين هذه الأحزاب في الغالب إلا بقدر إثبات قدرتها على إحداث التغيير في بيئة المجتمع المصري وفق معايير الغرب؛ فماذا كانت الحصيلة؟
w وضع دستور علماني لمصر عام (1923م) على يد حزب الأحرار الدستورين المتعاطفين مع الانجليز، وهو الدستور الذي ظل معمولاً به مدة المد الليبرالي، والذي نص صراحة على أن التشريع حق خالص للبرلمان، وهو ما يعني تنحية الشريعة، وظل ذلك تقليداً متبعاً بعد ذلك.
w أبرمت معاهدة (1936م) بين الإنجليز وبين حزب الوفد الليبرالي في إحدى فترات (مصطفى النحاس) الذي تولى رئاسة الوزراء سبع مرات، وكانت معاهدة تحالف مع الاحتلال، تتخفى وراء مفاوضات الاستقلال، وقد استمرت لثلاثة عقود، في ظل المد الليبرالي المنادي بالتحرر.
w في ظل الأحزاب الليبرالية، جرى (تأليف) أحكام مبدلة وضعية بدلاً من الأحكام الشرعية على يد (عبد الرزاق السنهوري)، وفريقه، وهي الأحكام والقوانين المحادة للشريعة والمتناقضة مع أحكامها ومقاصدها والتي أصبحت مصدراً تستمد منه معظم الدول العربية فيما بعد قوانينها، وقد أحلت تلك القوانين كثيراً من المحرمات وألغت مرجعية الشريعة بشكل عملي.
w انطلقت مؤامرة (لبرلة) أو (تحرير المرأة) من حجاب العفة والكرامة، على يد قاسم أمين (تنظيراً)، وهدى شعراوي وصفية زغلول (تطبيقاً) وانتشرت العدوى بعد ذلك إلى بلدان عربية عديدة حتى صارت بعض العربيات ينافس الأوروبيات في (الليبرالية) الاجتماعية والأخلاقية.
w أُرسيت قواعد التعامل الربوي لتُبنى عليها صروح الاقتصاد، على يد (طلعت حرب) الذي أقام اقتصاداً وطنياً حراً، ولكنه كان حرباً على الله ورسوله؛ لأنه لم يذر ما بقي من الربا، بل أقام له المؤسسات والشركات ليؤكل أضعافاً مضاعفة.
w أُصِّل «بطلان» الحكم الإسلامي على يد (علي عبد الرازق) الذي بلغت (اليبرالية الدينية) على يديه أن زعم أن المسلمين أحرار في أن يهجروا تحكيم الشريعة؛ لأن الإسلام دين لا دولة.
w جرت علمنة مناهج التعليم، على يد المستشار (دنلوب) المفوض الإنجليزي الذي كلف بوضع المعالم الرئيسة لمناهج التعليم المصرية؛ بحيث يُحَيَّد فيها الدين والتاريخ الإسلامي، وتهمش اللغة، وتستلهم المبادئ الغربية.
w أما الصحافة والإعلام فلا تسل عن تعاون الفجار مع الكفار في إنشاء مؤسساتها وإرساء قواعدها على أسس منافية للدين عقيدةً وشريعةً وأخلاقاً؛ حيث اشتهرت أسماء لأخبث قوى الهدم باسم الكتابة والفن والأدب، ولمعت أسماء كثير من النصارى واليهود الذين قاموا في ظل حماية الحكومات الليبرالية بهدم كل ما طالته أيديهم من قيم وأخلاق ومبادئ، بالتعاون مع حثالة من دروز لبنان، ونصيرية سوريا، وأقباط مصر، مع من داروا في فلكهم من سقطة القوم.
إن المحصلة النهائية للتجربة الليبرالية التي سادت في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، أثمرت جيلاً تطلع إلى المزيد من الانحراف باسم التحرر، حتى جاء الثوريون ليثوروا على التحرريين، ويزايدوا عليهم في المناداة بمبادئ الحرية، حتى نعتوا أنفسهم بـ (الضباط الأحرار) تشبهاً بعتاة العلمانيين في تركيا، وتحت دعوى القضاء على فساد الأحزاب المتعددة في عهد الملكية، جرى جمع الفساد كله في حزب شمولي واحد أطلقوا عليه (الاتحاد الاشتراكي)، وهو الحزب الذي تسربت إليه، وتحيزت إلى صفه كل عناصر الفساد القديمة، إضافة إلى العناصر المفسدة الجديدة.
واليوم تحاول الولايات المتحدة تحت مسمى إصلاح الشرق الأوسط الكبير، أن تجدد الدماء المتجمدة في عروق الليبرالية المصرية، وتنشئ لها على عينها أجيالاً جديدة، بعد (الانقلاب الأبيض) الذي قام به الثوريون على أنفسهم، انتقالاً من النهج الاشتراكي الشرقي، إلى النهج الديمقراطي والرأسمالي الغربي؛ حيث لم يَرُقْ للأمريكيين ذلك التردد والتلكؤ الذي سلكه بقايا (جيل الثورة) في انقلابهم على النهج الاشتراكي، كما لم تقنعهم نتائج (المواجهة الشاملة) مع أصحاب النهج الإسلامي، الذين أظهروا رفضاً لكلا المنهجين المستوردين الاشتراكية والرأسمالية؛ ولهذا فإن الأمريكيين اليوم يتطلعون إلى إيصال قوى شابة، تقود المعركة من جديد لصالح الغرب مع الإسلاميين، أو بالأحرى مع الإسلام في مصر، غير تلك القوى التي قادت المعركة من قبل لصالح الشرق.
ولكن الولايات المتحدة نفسها، بدأت بنفسها في إثبات أن ما يسمى بـ (القيم الديمقراطية والليبرالية) تسقط عند أول اختبار في ميدان المصالح، وتترنح في حلبة الصراع، عندما يكون الند المحارب صاحب حق، أو طالب حرية حقيقية.
i تعدد الليبراليات وتهاوي الشعارات:
إذا كانت الليبرالية السياسية تعني حق الإنسان في اختيار النظام الذي يريده، والنواب الذين يمثلونه، بما يكفل تحقيق العدالة والمساواة والاستقلال؛ فإن هذه الليبرالية بدأت تسقط كشعار على يد الولايات المتحدة ودول الغرب المبشرة بها؛ فقد درجت الولايات المتحدة وحلفاؤها على انتهاك سيادة وحرية العديد من الدول في السنوات الأخيرة، مرة بالغزو المباشر، ومرة بالتدخل السافر، ومرات ومرات بأنواع العقوبات، وبهذا يجري بانتظام إهدار ما يعده الغرب قيماً وأعرافاً قامت لأجلها الثورات الكبرى هناك، ويحدث هذا من أمريكا بالذات على يد يمين ديني مغالٍ، يؤمن بالحرفية أكثر مما يؤمن بالحرية، حتى إن الحقوق السياسية داخل الولايات المتحدة نفسها، باتت تعيش خطراً وضرراً بدأ يصل إلى حد ارتفاع بعض الأصوات بحرمان النساء والسود والمهاجرين من حق الانتخاب، وقصر ذلك على البيض البروتستانت. وهو ما يؤكد أن مشروع الهيمنة الأمريكي ليس من أجل الحريات، بقدر ما هو بسبب المصالح العنصرية والطبقية في الداخل والخارج.
إن هذا يعني في النهاية أن مسلسل سقوط (القيم) الليبرالية قد بدأ بالفعل على يد من بشروا بها، ووضعوا خطط السيـطرة عـلى العـالم مـن أجـلـها، بل إن الديمقراطية نفسها ـ كأبرز تجليات الليبرالية السياسية ـ بدأت تفقد بريقها الخادع هنا وهناك، بعد أن بدا للجميع أنها لا تزيد عن عملية بيع وشراء، لا للسلع والمنتوجات، ولكن للذمم والأصوات، فهاهي الولايات المتحدة نفسها، ترتفع فيها تكاليف شراء المناصب العليا بمعدلات صاروخية؛ فمجموع ما أُنفق على الانتخابات الرئاسية قد ارتفع من 175 مليون دولار عام 1960م إلى أكثر من مليار ومائتي مليون دولار عام 1980م، وارتفع إلى ثلاثة مليارات ومائتي مليون دولار في التسعينيات، ووصل إلى أربعة مليارات من الدولارات في آخر التسعينيات، وفي الانتخابات الأخيرة بلغت تكاليف فوز بوش وحزبه خمسة مليارات من الدولارات.
هذا عند زعيمة العالم الليبرالي الحر في الغرب. وأما في الشرق؛ فإن الكراسي ومناصب الحكم بل مقاعد النيابة عن الشعب عند من يلهثون وراء السراب الليبرالي والديمقراطي، تُسرق ولا تُشترى، فإذا كان كبار رجال الأعمال في الغرب يشترون الأصوات شراء؛ فإن كبار المحتالين عندنا يسرقونها سرقة، بتزوير ظاهر، وتحايل مكشوف، بل بـ (بلطجة) وشيطنة وانحراف. أما في واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط (إسرائيل) فقد تكشفت مؤخراً فضيحة تورط شارون وابنه (عمير) بالكذب والتزوير وإنفاق مبالغ طائلة من أموال دولة اللصوص القائمة على الاغتصاب، لإنفاقها على العملية الانتخابية التي جاءت بشارون.
أما الليبرالية الفكرية التي تعد أساساً لليبرالية السياسية، فهي تؤصل منذ نشأتها للفوضي الفكرية، ولهذا فإن كل ما يبنى فوقها من منشآت سياسية يؤول أمره إلى الفوضى، وثورة الليبرالية على الدين وثوابته لا تلبث أن تتحول إلى ثورة على السياسية ومسالكها.
وتأتينا الليبرالية الاقتصادية (الرأسمالية) بوجهتها الانتهاـزية ونكـهتـها اليـهوديـة؛ إذ تقـوم منذ وضع أسسها (آدم سميث 1723 ـ 1790) على المصلحة، أو (الأنانية)، فهي المحرك الوحيد للنشاط الإنساني كما يقول، ولا ينبغي أن يوضع أمام المصلحة أي قيد، وهو ما عبر عنه بقوله: (دعه يعمل، دعه يمر)؛ فالاقتصاد لا ينظمه حسب النظام الرأسمالي إلا قانون العرض والطلب وقوانين الطبـيعة البشـرية، دون أي قيود أو ضوابط.
وتجيء الليبرالية الدينية، أو (الميتافيزيقية) كما يسمونها أحياناً، لتكون عاراً على كل من يتبنى الليبرالية ممن يدعي احترام المبادئ الإنسانية فضلاً عن القيم الإسلامية، فالليبرالية الديـنية، أو التعددية الدينية تسعى إلى نمط من الفكر الديني، لا يتقيد بأية قواعد، ولا يستند إلى أية مرجعية، بل يستند إلى حرية الإنسان في اختيار الإله الذي يهواه، ولو عبد كل يومٍ إلهاً.. ولو لم يعبد إلهاً على الإطلاق إلا هواه.
والليبرالية الدينية تقوم على فكرة نسبية الحقيقة، وترِّوج لمقولة: لا دين على الإطلاق يحتكر الصواب.
ولهذا كانت الليبرالية الدينية دائماً هي الأداة الخادمة والدافعة لبقية الليبراليات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية؛ لأن الليبرالية الدينية تهدم أولاً القواعد، وتزيل الحواجز، لينطلق (البناؤون الأحرار) بعدها في تشييد أبنية الضلالة على أسس الغواية، كل ذلك على خلفية إلغاء الخصوصيات الثقافية، وتدمير مفهوم (المقدس) وتبديله بمهفوم (النسبية) في الحقائق والعقائد والقيم لإزالة الثبات عنها، حتى لا يبقى هناك مجال لأصول تبنى عليها الهوية، أو ترتكن إليها القيم.
وفي عالمنا الإسلامي، وبالرغم من أن الليبرالية بدأت تظهر حقيقتها على أنها حملة استئصالية، تستهدف الدين في أصوله قبل فروعه، والأخلاق في جوهرها قبل مظهرها؛ فقد وجدت من الأفّاكين من يروِّج لها ويتحدث باسمها، بل تطور الأمر إلى أن بعض الطيبين انساق إلى الانخداع بالليبرالين والإنصات لقولهم، وصدق الله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47].
وتمخض الأمر عن ميلاد ما يعرف الآن بـ (الليبرالية الإسـلامـيـة) علـى غـرار ما كـان يعـرف بـ (اشتراكية الإسـلام) و (اليسار الإسلامي) وكذلك دعوى (ديمقراطية الإسلام) والدعوة إلى (أسلمة العلمانية).
والسؤال هنا: هل سيؤول مصير (الليبرالية الإسلامية) إلى معنى (الليـبرالية الدينية) المتمحور حول مقولة (جون هيك): «لا دين يحتكر الحقيقة»؟! نخشى أن يحدث ذلك! وهل سيقول الليبراليون (الإسلاميون) إن الإسلام لا يملك كل الحقيقة، وأن عقيدته لا تمثل كل الصواب؟ فبعض الأفراخ الجديدة للفكر اللـيـبرالي (الإسلامـي) بـدأت تكشـف عن نفسـها فـي جـراءة لا تُستغرب على من يؤمن بـ (نسبية الحقيقة) و (تطور القيم)، وهو ما قد يوصِل إلى التطابق والتماثل بين (الليبرالية الإسلامية) والعلمانية الرامية إلى فصل الدين عن الحياة، ولكن هذه قضية أخرى تحتاج إلى تفصيل وتأصيل.
غير أن إرهـاصـات التـحـول (العـربـي) الليبرالي العلني إلى محادَّة الدين تشعرنا بالقلق، من أن تتحول هذه العدوى إلى التوجه الليبرالي (الإسلامي) المدَّعى.
يثير موقع شبكة (الليبرالية الكويتية) في زاوية (من نحن؟) السؤال التالي: «هل الليبرالي علماني؟»، ويجيب: «نعم! كل الليبراليين علمانيون»، ثم يثير سؤالاً آخر: «ما هو موقفنا من تطبيق الشريعة الإسلامية؟» فيجيب: «الحقيقة هي أنه لا توجد هناك أية شريعة إسلامية، بل هناك شرائع إسلامية متعددة.. وقد أثبت التاريخ أن جميع الدول الدينية في التاريخ الإنساني هي دول دكتاتورية قمعية، ولا يوجد نموذج لشريعة إسلامية حتى الآن يتوافق مع حقوق الإنسان الأساسية» ثم ينتهي القائمون على الموقع إلى القول: «الطريق إلى العدل والمساواة والحرية يبدأ بتطبيق الديموقراطية والليبرالية الحرة، أما الدعوة إلى الشريعة؛ فما هي إلا أوهام مخلوقة من الجماعات الأصولية لبسط نفوذها».
هل يستطيع الليبراليون (الإسلاميون) تبرئة زملائهم من الليبراليين العرب في الكويت أو غيرها من هذا الإلحاد الصريح؟ وهل يستطيعون أن ينفوا عن الليبراليين (الإسلاميين) في تركيا مثلاً توقهم المتسارع والمندفع إلى نحو تلك الليبرالية الدينية..؟ لقد قال نجم الليبرالية (الإسلامية) «رجب أردوغان»: «نحن بحاجة إلى تغيير توجهنا إلى حيث الليبرالية الدينية..»، ومع هذا لا يزال «أردوغان» فارس أحلام العديد من (الإسلاميين) الليبراليين، الذين تسميهم بعض الأوساط الأمريكية (الإسلاميين الجدد).
لا نشك أن الولايات المتحدة سترعى هذه التيارات الجديدة، وستتبناها؛ لأنه أقصر طريق للوصول إلى بغيتها في ضرب ما تسميه (الإسلام الأصولي) أو (السلفي) أو (الوهابي)، بل إنها ستزرع زرعاً ـ من خلال نفوذها على الحكومات ـ مثل هذه العناصر الداعية إلى (التحرر الديني) في مناصب التأثير والتوجيه الاجتماعي، وهو ما كشف عنه تقرير معهد (راند) الشهير عن (الإسلام المدني الديموقراطي) أي (الإسلام الليبرالي) وكذلك تقرير (عقول وقلوب ودولارات).
والولايات المتحدة لم تعد تخفي رغبتها العارمة في فرض (الليبرالية الدينية) تحت مسمى (الحريات الدينية)؛ فقد بدأت منذ سنوات في إصدار تقرير سنوي باسم (تقرير الحرية الدينية في العالم) تركز فيه على العالم الإسلامي، وهذا التقرير يصدر بموجب ما يسمى بـ (قانون الحرية الإمريكي) الصادر عام (1998م) والذي يستهدف بحسب وصف موقع الخارجية الأمريكي على الإنترنت «دراسة وفحص المعوقات التي تحول دون (إطلاق) الحرية الدينية في مئة وسبعة وتسعين دولة ومنطقة في العالم».
صدر التـقرير السـابع عن الحرية الدينية في العالم في 8/11/2005، على أن يُقدَّم للكونجرس الأمريكي لمناقشته، وقد انتقد حالة الحرية الدينية في عدد من الدول العربية والإسلامية، وأثنى على (التقدم) الحاصل في دول أخرى في جوانب «التحرر» الديني. وقبل أن أذكر أبرز ما ورد في ذلك التقرير، أريد التنبيه على النقاط التالية المستخلصة من محتوى التقرير:
1 - الـولايات المـتحدة تتـجه نـحو اعتبـار قضـيـة (الحريات الدينية) من الشؤون الدولية لا من خصوصيات الدول الداخلية.
2 ـ لا تريد الولايات المتحدة أن تتعامل مع أفكار (الحرية الدينية) كمجرد أفكار تقترح أو دعوات تعرض، وإنما تريدها إملاءات، توصل إليها الإغراءات أو الضغوطات.
3 ـ (فوضى العقائد) هي السقف المحدد والغاية المرجوة من «فرض» الحرية الدينية، حتى تنفتح كل الأبواب أمام التنصير أو بالأصح التكفير الذي يستهدف بشكل خاص عوام المسلمين.
ولنمر سريعاً على لقطات من التقرير الخطير:
أ ـ ما يتعلق بإيران:
يأخذ التقرير على إيران، عدم الاعتراف بالطائفة البهائية (التي تؤمن بـ «المرزا غلام أحسن» نبياً بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم-) وينتقد إغلاق مراكز التبشير النصراني البروتستاتي في إيران، ويرى أن اتخاذ سياسة معادية لدولة (إسرائيل) يدخل ضمن عدم الالتزام بالحرية الدينية، كما يشير إلى التحيز الحاصل في إيران ضد الطائفة السنية.
ب ـ ما يتعلق بالسعودية:
يدعي التقرير ألاَّ وجود للحرية الدينية في المملكة العربية السعودية، ويدل على ذلك بـ (إجبار) الدولة مواطنيها جميعاً على اعتناق دين الإسلام فقط، وعدم سماحها للمواطن بأن يغير دينه، وينتقد أيضاً عدم الاعتراف داخل المملكة بالأديان الأخرى، فضلاً عن حمايتها، ويرى أن عدم السماح لأصحاب الأديان الأخرى من غير المواطنين بممارسة شعائرهم علناً أمر متعارض مع الحرية الدينية، ويُعد التقرير من مظاهر انتهاك هذه الحرية عدم السماح للمواطنين بالرجوع عن الإسلام، ومن مظاهر انتهاكها: إطلاق الشرطة الدينية (أهل الحسبة) لمراقبة المتهاونين في أداء الصلاة، ومن المظاهر المنتقدة أيضاً إلزام جميع الطلاب في المراحل المختلفة بدروس ومناهج دينية تتطابق مع التعاليم «السلفية». كما يرى التقرير أن معالجة الصحافة للقضايا الدينية محدودة للغاية ومقيدة.
وأشار التقرير إلى أن الحكومة الأمريكية تطالب بالالتزام العلني بالسماح بأداء الشعائر لغير المسلمين، وتحث على إلغاء التمييز بين الطوائف والأديان، وأظهر التقرير أن وزير الخارجية الأمريكي السابق (كولن باول) كان قد وصف الأوضاع بالسعودية عام 2004م بأنها مثيرة للقلق بسبب «الانتهاكات الشديدة» للحريات الدينية.
ج ـ ما يتعلق بالسودان:
يأخذ التقرير على الحكومة السودانية أنها تعتبر نفسها «حـكومة إسلامـية» وأن الحزب الحاكم يلتزم بـ (أسلمة) البلد، ولـهذا يفرض كثيراً من القيود والتمييز ضد غير المسـلمـين وغيـر الـعـرب، ويرى التقرير أن الحرية الممنوحة للمسلمين في بناء المساجد ليست ممنوحة لغير المسلمين في بنـاء معابدهم، وأشـار التقرير إلى أن وزارة الخـارجية الأمـريكية صنفت السـودان مـرات عديدة بـأنه بلد مثير للقلق فيما يخـتص بالانتهـاكات الشـديـدة للحريـة الديـنية، وأن ممثلي السفـارة الأمريكية هناك ربطوا بين تحسين العلاقة مع الخرطوم، وبين اتخاذ إجراءت للتخفيف من تلك الانتهاكات.
د ـ ما يتعلق بمصر:
يرى واضعو التقرير أن تمييز الحكومة المصرية ضد المسيحيين لا يزال مستمراً؛ فهناك تمييز في التعيين في المناصب العامة وهيئات التدريس، ويُرفض قبول المسيحيين في جامعة الأزهر! وهناك إعاقة لحرية بناء الكنائس، ويعتبر التقرير من المآخذ على الدولة المصرية أنها تمتنع عن الاعتراف بالطائفة البهائية، وينتقد محاولات «التضييق» على النشاط التبشيري بين المسلمين بذريعة منع الفتن الطائفية.
وقد أشار التقرير إلى أن المسؤولين الأمريكيين وعلى رأسهم وزيرة الخارجية الأمريكية ومساعدها للشرق الأوسط والسفير الأمريكي وغيرهم، أثاروا مع كبار المسؤولين المصريين موضوع الحرية الدينية، كما أعربوا عن قلقهم بشأن التمييز ضد البهائيين والمسيحيين، وأشار التقرير إلى أن أعضاء من الكونجرس الأمريكي أبدوا غضبهم أثناء زيارتهم لمصر مؤخراً من المقالات التي تعادي السامية، وأبلغوا بذلك رؤساء تحرير الصحف وغيرهم من الإعلاميين، وأشار التقرير كذلك إلى أن هناك برامج أمريكية في مجالات عدة لتمويل مشاريع تتعلق بالحريات الدينية، منها برامج للتعاون مع الأقباط في جنوب مصر وبرامج لتشجيع التقارب بين الطوائف الدينية، ونوه التقرير بمشاركة بعثة أمريكية في تشجيع وضع مواد دراسية تحث على الحرية الدينية في مناهج التعليم باللغتين العربية والإنجليزية.
هـ ـ ما يتعلق بالعراق:
لأن العراق أصبح ساحة مفتوحة أمام التجارب الأمريكية في تنفيذ مفاهيمها حول الحرية الدينية؛ فقد أشار التقرير إلى أن هناك تنسيقاً على مستوى عالٍ بين المسؤولين في البلدين لجعل العراق بلداً نموذجياً في إطلاق الحريات الدينية، ولهذا تستضيف الإدارة الأمريكية العديد من الندوات والحوارات حول هذا الموضوع، وتمول المشاريع الهادفة لذلك لجمع جهود المذاهب والطوائف كلها ضد ما تعتبره الولايات المتحدة إرهاباً ينبغي على الجميع محاربته.
شهادة إشادة..!
في مقابل هذه الانتقادات المتعددة لبلدان كثيرة، أشاد تقرير الحرية الدينية الأمريكي بدولة الإمارات لاستضافتها مؤتمراً دولياً لمحاربة الإرهاب والتشدد الديني؛ في حين أن حكومتها تبرعت بقطعة أرض في أواخر عام 2004م لبناء كنيسة (سانت ماري) لجالية الروم الأرثوذكس في دبي، ورحب التقرير باشتراك وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف في أبو ظبي في الاحتفالات الدينية التي أقامتها الكنيسة الإنجيلية العربية هناك بمناسبة عيد الميلاد؛ حيث حضرها وكيل وزارة شؤون المساجد ومساعد وكيل وزارة الشؤون الإسلامية. وأثنى التقرير أيضاً على قيام مستشار الوزارة للشؤون الدينية في دبي بإزاحة الستار عن حجر الأساس لبناء كنيسة (الأنبا أنطونيوس) القبطية المصرية على أرض دبي، برفقة رئيس أساقفة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر والخليج والشرق الأوسط.
وماذا بعد:
ـ فهل هذا ما يريده الليبراليون ـ علمانيين أو «إسلاميين»؟
ـ هل يطالبون بأن تتحقق (المساواة) بين التوحيد والتثليث، وتعدد الآلهة وانعدام الآلهة.. في بلاد المسلمين..؟
ـ وهل يسرهم ذلك (العدل) بين المعبودات، فلا يفرق بين عبادة خالق الكون الواحد الأحد، وبين عبادة الصلبان والنيران والجُعلان..؟
ـ هل يرضيهم أن يفرض (السلام) مع كل أعداء الإسلام، وتشن حروب الإبادة فقط على عباد الرحمن؟
ـ وهل يفرحون بانتشار الكنائس في جزيرة العرب التي أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ألا يجتمع فيها دينان..؟
ـ وهل يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتتم العودة عن الحجاب، استجابة لدعاوى التحرير والتغرير؟
ـ وهل يغتبطون باستمرار استبعاد الشريعة بحكم الدولة والقانون، ولا يبقى منها إلا نصوص مجمدة في صدور بعض الدساتير..؟
ـ وهل تنشرح نفوسهم عندما يرون التعليم والإعلام يمسخ أجيال الأحفاد بعدما دمر كثيراً في أجيال هي الآن آباء وأجداد..؟
ـ وهل يرغبون في أن تظل فئام من الأمة تأكل الربا أضعافاً مضاعفة، معرّضين أنفسهم والناس معهم لحرب من الله ورسوله..؟
لا نظن الدعوة لهذا وغيره في بلاد المسلمين تصدر إلا من دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها؛ فإن كان الليبراليون العلمانيون اللادينيون لا يستنكفون عن هذا الوصف لأنفسهم، فلا نظن أن الليبراليين «الإسلاميين» يجهلون أن هذه هي أبرز معالم البرنامج الذي يريد به الأعداء أن يردونا به إلى الوراء.
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} [النساء: 89].
اللهم اهدنا جميعاً سواء السبيل.
مجلة البيان
ربما لم يأخذ الفكر الليبرالي حظه من الدراسات التحذيرية في حقول الدراسات الإسلامية خلال عقود طويلة مضت، كما حدث مع الفكر الشيوعي أو القومي أو البعثي، ولعل ذلك يعود إلى أن الليبرالية كثيراً ما تسترت وراء ديكور الديمقراطية، وتنكرت أحياناً أخرى بأقنعة الحرية الفكرية، والسعادة الفردية، وقِيَم التحضر والتمدين والتحديث، في أوقات كان معظم العالم العربي والإسلامي يئن تحت وطأة نظم شمولية بأفكار قمعية تاقت الشعوب معها إلى معاني الحرية والانطلاق. وقد انهمك المثقفون والمفكرون في مناهضة الفكر الإلحادي، شرقياً كان أو غربياً، ظانين أن الفكر الليبرالي متحرر من الأيديولوجيات والثوابت أياً كانت.
ولما انهار جدار الشيوعية، فرح بذلك العالم (الحر) في أمريكا والغرب، ودق طبول النصر لعصر جديد، تتسيد فيه القيم الغربية الليبرالية بلا منافس أو منازع، ليشترك العالم بالترغيب أو الترهيب في رفع رايات انتصار خادع، على جثة نِدٍ حضاري مزيف، هو الاتحاد السوفييتي السابق، ورفع أحد فلاسفة أمريكا المعاصرين «فرنسيس فوكوياما» عقيرته بانتصار الليبرالية في المعركة الحضارية الإنسانية، ليسدل الزمان أستاره على المشهد الأخير والمثير من مسرحية «نهاية التاريخ»!
وبدأ الأمريكيون بعدها يتحركون بهستيريا لإخضاع (العبيد) أو (الهنود) للدخول قسراً في سجن الحرية الليبرالية، وأصبحنا أمام (جوانتنامو) ثقافية واقتصادية وسياسية وأمنية اسمها (العولمة)؛ حيث لا مجال للحديث معها عن ديمقراطية الأغـلـبية، ولا الذاتية الشخـصية أو الخـصوصية الثقـافـية، ولا حتى منطق المصلحة، وبخاصة إذا كانت مصلحة (الآخر).
ويؤسفنا بعد كل هذا أن نجد من بني جلدتنا من يجعل من نفسه منصة تنطلق منها صواريخ الدمار الفكري الشامل القادم من أمريكا، صوب أراضينا المكشوفة وسماواتنا المفتوحة، متعللين بحريتهم في الفكر والفعل.
إن القضية قبل أن تكون اعتناقاً لفـكر، أو اقتـناعاً بمـبدأ؛ هي قضـية إيمـان وتسـليم؛ فمن الحقـائق المقـررة في ديـننا أن الله لم يتـرك منـاهج إصـلاح البـشر للبـشر بشكل مطـلق، بل تولى ـ سبحـانه ـ ذلك بنفـسه، فأرسـل لذلك الرسـل وأنـزل الكتب، ونادى الوحي في الناس جميعاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [النساء: 174 - 176]. وإن الظن بأن البشر يمكنهم التفرد بتدبير شؤونهم بما يتفق مع غاية خلقهم، هو سوء ظن بالإله الخالق ـ سبحانه ـ وادعاء عليه بالعبثية وعدم الحكمة ـ جل ربنا عن ذلك ـ إذ كيف يخلق ويرزق، ثم يأذن للإنسان بأن يفسد باسم الإصلاح، أو يفجر باسم التحرر...؟ {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ كَالْـمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْـمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 27 - 34].
إن كل فكر إنساني لا يعبأ إلا بالحياة الدنية القصيرة، دون اكتراث بالنجاة في الحياة الآخرة الباقية؛ لهو فكر معاد للإنسانية، مهما ادَّعى أصحابه الحرص على سعادة الإنسان؛ لأن هذا الفكر في النهاية هو اتباعٌ للهوى الذي يهوي بالإنسان إلى دركات التيه والضياع.
والفكر الليبرالي (Libralisme) لم يبلوره مفكر واحد في عصر واحد، بل اشترك في وضع أصوله العديد من المفكرين في أزمنة وأمكنة مختلفة، حتى صارت له أسسٌ تشمل نواحي الحياة في جوانبها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والدينية، إلاّ أن هذا الشمول لا ينفي عن الليبرالية صفة القصور؛ لأنها اقتصرت في الجملة على تلبية الغرائز الدنيا في الإنسان، دون أدنى اعتبار للقيم العليا التي من أجلها كرّم الله بني آدم وحملهم في البر والبحر وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، بل هي فوق ذلك لا تعتمد إلا على أخس قدرات الإنسان على الفعل، وهي التمرد على إرادة الله عن طريق الكسب الاختياري الذي منحه إياه: {بَلْ يُرِيدُ الإنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 5 - 6]، وهذا هو أحط أنواع العبودية لغير الله؛ حيث يجعل من نفسه إلهاً لنفسه.
لقد نشـأ الفـكـر اللـيبرالي في بيئة غير بيئتنا، وتأصل على غير شريعتنا وأخلاقياتنا، وطُبق في غير مجتمعاتنا، واستهدف علاج آفات وإصلاح عيوب لم تعانِ منها أمتنا؛ فليس عندنا تسلط كنسي على عقول الناس، ولا احتكار كهنوتي للحقيقة، ولا خرافة طقوس تقوم على الخصومة المفتعلة بين الدين والعلم، ومع هذا، هَامَ به ـ على طريقة جُحر الضب ـ أقوام من المسلمين، وأرادوا أن يستوردوه ومعه العز والتقدم والشرف، فلم يجرُّوا بذلك على أمتهم إلا الذل والتأخر والانكسار، وصعب عليهم بعد ذلك ـ كما فعل الغراب حين أراد أن يقلد مشية الهُدْهُد ـ أن يعودوا لما كانوا عليه، فلا هم ظلوا مسلمين صلحاء أنقياء، ولا هم صاروا غربيين خلصاء بل: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إلَى هَؤُلاءِ وَلا إلَى هَؤُلاءِ} [النساء: 143].
نشأ الفكر الليبرالي عن فلسفة سياسية واقتصادية، أفرزت قناعات ثقافية وممارسات اجتماعية، حاولت بعد ذلك أن تتحول إلى منطلقـات لحـريـة ديـنية، ونـسبية اعـتقادية، تؤول إلى (اللا دين). والليبرالية، بكل تعريفاتها لكل أصنافها؛ تركز على جوهر واحد يتفق عليه جميع الليبراليين، وهو أنها: تعتبر الحرية هي المبدأ والمنتهى في حياة الإنسان، وهي وراء بواعثه وأهدافه، وهي المقدمة والنتيجة لأفعاله. فالحرية هي سيدة القيم عندهم دون أدنى حدود أو قيود، سواء كانت هذه الحدود هي (حدود الله) أو كانت تلك القيود لسبب سياسي أو اجتماعي، أو ثقافي، أما مبدأ عبودية الإنسان لخالقه كما جاءت به رسالات السماء جميعاً، فهي عند الليبراليين لون من تراث الماضي «المتخلف».
بدأ الفكر الليبرالي في مرحلته المبكرة داعياً إلى حق التمرد ضد الحكومات التي تقيد الحريات الشخصية، ولهذا أوحت الأفكار الليبرالية بالثورة الإنجليزية عام 1688م، والأمريكية عام 1775م، والفرنسية عام 1789م، وأدت هذه الثورات إلى قيام حكومات تعتمد على دساتير تقدس حق الإنسان في الحرية الشخصية بأوسع دوائرها، دون التزام تجاه شيء، إلا القوانين المصاغة أصلاً لحماية الحريات الشخصية.
صحيحٌ أن الحرية الإنسانية، بضوابطها الأخلاقية، قيمة عظيمة، يفقد الإنسان من حقوقه الآدمية بقدر ما يفقد منها، ولكن التحريف الذي لحق بدين الأوروبيين النصارى، في تقنين ألوان من العبودية، جعلتهم يثورون على تلك التطبيقات المنحرفة للأديان المحرفة، ولو كنا مكانهم تحت التسلط والاستبعاد، لثرنا مثلهم؛ لأن للحرية الإنسانية حدوداً لا يطيق الإنسان بوصفه إنساناً أن يُحرم منها على الشكل الذي شرعته الكنيسة من دون الله. ولكن الفكر الليبرالي لم يقف عند حد علاج الخلل الناشئ بسبب فساد تصورات الكنيسة في الدين والسياسة والاقتصاد والاجتماع، بل جعل الآلهة المتعددة إلهاً واحداً هو الهوى، فهو المعبود الحقيقي في الملة الليبرالية.
الليبرالية... وتأليه الهوى:
يدرك من له أدنى إلمام بتصنيفات وتفريعات أصحاب الـملل والنحل والأديان، أن الإنسان بمعزل عن هداية الوحي، عبد كل شيء من حجر وشجر وشمس وقمر، وقدَّس الكثيرَ من الحيوان والهوام، وأطاع كل طاغوت من إنسان وجان، إلا أن هناك عبادة أخرى لم تشتهر بين العبادات؛ لأن المعبود فيها غير مشخـص ولا ثابت، والعبادة فيها بلا شعائر ولا طقوس، ألا وهي عبادة الذات وتقديس الهوى، وتلك العبادة تختلف عن غيرها، بأن العبودية فيها غير واضحة المعالم؛ فهي مجرد سير أعمى وأهوج في طرق مظلمة بحثاً عن سعادة مفقودة، وغاية غير موجودة.
وهذا الظلام الحالك، هو ما أشار إليه القرآن في قول الله ـ تعالى ـ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، ففي الآية تنديدٌ بمن يأتمر بأمر هواه؛ فما رآه حسناً فعله، وما رآه قبيحاً تركه، وهذا هو جوهر التأليه؛ فكل ما يستلزم الطاعة بلا قيود فهو عبودية، والإله المعبود في الآية هو الهوى، من باب التشبيه البليغ أو الحقيقة، والطاعة هنا مستلزمة للمحبة والرغبة، فـ (هواه) بمعنى: مهويه ومرغوبه المطاع.
ولهذا فإن عِلْم عابد الهوى لا ينفعه إن كان عنده علم؛ لأن الله ختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، فلا هادي له ولا مرشد من بعد الله؛ لأنه أغلق على نفسه باب الهداية عندما عزل نفسه بنفسه عنها.
ولم نرَ في الأفكار والمناهج المنحرفة شيئاً ألصق بوصف عبادة الهوى وتقديس الذات مثل الليبرالية المعاصرة من حيث وضعها وتعريفها؛ فهي تعني طلاقة حرية الإنسان وانفلاتها من كل القيود، بحيث لا يكــون هنـاك أي مانـع أو رادع مـن فـرد أو أسرة أو جماعة أو دولة أو فكر أو دين أو تقاليد، بل يتصرف المرء وفق ما تمليه النفس وتسوق إليه الرغبة على ألا يتعدى على حرية الآخرين. صحيح أن أرباب الليبرالية يختلفون فيها بقدر اختلاف أهوائهم، إلا أنهم يتفقون على شيء واحد، وهو وصف موسوعة (لالاند) الفلسفية لها بأنها: «الانفلات المطلق بالترفع فوق كل طبيعة».
وقد عرَّفها المفكر اليهودي (هاليفي) بأنها: «الاستقلال عن العلل الخارجية، فتكون أجناسها: الحرية المادية والحرية المدنية أو السياسية، والحرية النفسية والحرية الميتافيزيقية (الدينية)» وعرفها الفيلسوف الوجودي (جان جاك روسو) بأنها: «الحرية الحقة في أن نطبق القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا». وعرفها الفيلسوف (هوبز) بأنها «غياب العوائق الخارجية التي تحد من قدرة الإنسان على أن يفعل ما يشاء».
وهكذا نرى أن تعريفات الليبرالية تُجمِع على أنها انكفاء على النفس مع انفتاح على الهوى؛ بحيث لا يكون الإنسان تابعاً إلا لنفسه، ولا أسيراً إلا لهواه، وهو ما اختصره المفكر الفرنسي (لاشييه) في قوله: «الليبرالية هي الانفلات المطلق».
ولهذا فإننا نعجب كل العجب ممن لديه أدنى معرفة بمعنى العبودية لله في الإسلام؛ كيف يجرؤ أن يقول: (الليبرالية الإسلامية) فيجمع بين مـتنـاقضين، وهل يمكن أن ينادي مـن أسـلم بـ «انفـلات مطـلق» أو «تطبيق للقوانين التي اشترعها الإنسان بنفسه لنفسه»؟! وهل هناك في الإسلام استقلال عن كل المؤثرات الخارجية في الاعتقاد والسياسة والنفس والمادة؟! كيف يمكن أن تنسب كـل هـذه القبـائح للإسلام أو تصبغ به؟ إن الليبراليين الـغربـيـين يحـلو لهم كثيراً أن يكسوا هذه الدمامة بأصباغ من الجمـال المصطنع، فيفلسفوا اتِّباع الهوى بـ «تحكيم العقل» ويصـفـوا التـمـرد على القـيم والـثوابـت بـ «الحرية المطلقة» أو «منع المنع»، ويرددوا دائماً بأنهم ضد الاستبداد السياسي الذي يمثله استبداد الدولة، والاستبداد الاجتماعي الذي تمثله القيم والأعراف، والاستبداد الديني الذي تمثله العقائد.
ولذلك نرى الليبراليين بكل أصنافهم ينفرون من كلمة (ثوابت) ويضيق عَطَنُهم من كلمة (عقيدة) ويفرون كأنهم حمرٌ مستنفرة فرت من قسورة إذا حدثتهم عن ثبات الأحكام، ودوام الحكمة والصلاحية فيها.
وبالنظر إلى أن طبيعة الهوى وسجية أهل الأهواء هي التقلب والتغير، فقد صاحَبَ الغموضُ مصطلحَ (الليبرالية) في مرحل تطورها، إلا في أمر واحد؛ وهو: تحقيق الرفاه والترف والذاتية الفردية إلى الحد الأقصى، وتحول هذا من الإطار الذاتي إلى الإطار الجمعي لدى المجتمعات التي تبنت الأفكار الليبرالية، والتي أسمت نفسها (العالم الحر)، وأصبح هذا العالم (حراً) في أن يحقق الحد الأقصى من الرفاة والمتاع، سيراً وراء الهوى المتبع والشح المطاع للأفراد، كل ذلك على خلفية المصلحة، المرادفة في كل الأحوال للأنانية المفرطة.
ولهذا وجد الناس البَوْن شاسعاً بين شعارات الليبرالية في عالم المثال، وتطبيقاتها في عالم الواقع؛ فقد غاب العامل الإنساني، وحل محله العامل الطبقي أو العنصري، ولم يعد (الإنسان) هو قضية الليبرالية الأولى إلا بحسب لونه أو جنسه أو مستواه الاقتصادي. فالليبرالية السياسية (الديمقراطية) في الغرب تختلف عن ديمقراطيات البلدان التابعة أو المستعبَدة من الغرب، والليبرالية الاقتصادية (الرأسمالية) في الغرب يجب أن توصِل عندهم إلى نتائج مسيطِرة، وعندنا إلى نتائج مسيطَر عليها. وأما بقية مفردات الليبرالية من ثقافية واجتماعية ودينية، فهي ينبغي أن تمثل عندهم نموذج القدوة والمثال، بينما تمثل لدى مقلديهم أنماط التبعية والذوبان إلى حد الابتذال.
أما الليبرالية الفكرية الثقافية والدينية فهي الأخطر، وتعني عندهم المزيد من هجر الخصوصيات والثوابت عند الأمم، في حين يفيئون هم إلى ما يعدُّونه قِيَماً يجب تصويرها بأحسن صورة، وتصديرها على أوسع نطاق.
وقد حدثت في ذلك تجارب وتجارب، دأب المفتونون بالفكر الليبرالي فيها على أن ينقلوا إلى مجتمعاتنا أدواء الليبرالية، دون أن يستطيعوا أن يداووا بها مرضاً.
لن نتحدث هنا عن تجربة تركيا المريرة في ذلك، سواء على يد العلمانيين أو أشباه الإسلاميين؛ فقد يقال إن تركيا في قسم منها جزء من أوروبا، ولهذا تسعى للتواصل معها واللحاق بها، ولكن أمامنا تجربة أخرى عربية غير تلك التركية، وهي التجربة المصرية التي خاضها العلمانيون كاملة لتنتهي إلى نتائج وخيمة لا تزال الأجيال في مصر تعاني منها لليوم، ومع هذا فقد ظلت هذه التجربة الخاسرة جاهزة للتصدير رغم كل علامات التحذير من انتهاء صلاحيتها وفساد مكوناتها.
i تكرار التجارب... واجترار الأخطاء:
انبرى نفر من المفتونين بالفكر الليبرالي فيما مضى من العقود في مصر يبشرون بذلك الفكر على صُعُد مختلفة، ففي السياسة برز (سعد زغلول) ليكون داعية للنهج الأوروبي في الأداء السياسي، وبالبرغم من نشأته الأزهرية، إلا أن رحلاته المتعددة لأوروبا غيرت من فكره، وأقنعته بأن المحتل الأوروبي عندما يرحل ـ ولا بد أنه سيرحل ـ يجب الإبقاء على ما جاء من أجله، وهو تجذير التغيير في بنية الشعوب، لتقترب من النموذج الأوروبي، ولم يكن سعد زغلول وحيداً في حمل الهم الأوروبي رغم اقتران اسمه بالبحث عن الاستقلال، بل حمل معه هذا الهم كثيـرون ممن أُشـرِبوا في قلوبهم حب الأوروبيين من خـلال التعـليم في مـدارس الإرسـالـيات أو معـاهـد الأقـبـاط، أو ضمن البعثات الخارجية؛ حيث دشن هؤلاء (العائدون من أوروبا) حملة تغريب منظمة بالتنسيق مع قوى (الاحتلال) حيناً، وتحت راية (الاستقلال) أحياناً.
فالاستعمار الإنجليزي استمر في مصر الفترة نفسها التي استمر فيها المد الليبرالي، وتحت إشراف ذلك المستعمر، وضع الليبراليون أيديهم على كل منافذ التأثير، وقد تعاقبت على حكم مصر حكومات تنتمي إلى أحزاب سياسية، وكان أكثرها يحمل المبادئ الليبرالية في السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع، كحزب الوفد الضليع في علمانيته الذي أسسه سعد زغلول والذي تفرعت منه أو انشقت عنه أحزاب علمانية، تؤمن كلها بالمبادئ الليبرالية على اختلافٍ بينها في الوسائل، وفي المدة من (أكتوبر 1922م) وحتى قيام ثورة (يوليو 1952م) أي فيما يقرب من ثلاثين عاماً، قامت في مصر إحدى وأربعون وزارة، كان الوفديون الليبراليون أو المنشقون عن الوفديين (السعديين) يتناوبون فيها مع غيرهم من العلمانيين على كراسي رئاسة الوزراء، ولم يكن التنافس بين هذه الأحزاب في الغالب إلا بقدر إثبات قدرتها على إحداث التغيير في بيئة المجتمع المصري وفق معايير الغرب؛ فماذا كانت الحصيلة؟
w وضع دستور علماني لمصر عام (1923م) على يد حزب الأحرار الدستورين المتعاطفين مع الانجليز، وهو الدستور الذي ظل معمولاً به مدة المد الليبرالي، والذي نص صراحة على أن التشريع حق خالص للبرلمان، وهو ما يعني تنحية الشريعة، وظل ذلك تقليداً متبعاً بعد ذلك.
w أبرمت معاهدة (1936م) بين الإنجليز وبين حزب الوفد الليبرالي في إحدى فترات (مصطفى النحاس) الذي تولى رئاسة الوزراء سبع مرات، وكانت معاهدة تحالف مع الاحتلال، تتخفى وراء مفاوضات الاستقلال، وقد استمرت لثلاثة عقود، في ظل المد الليبرالي المنادي بالتحرر.
w في ظل الأحزاب الليبرالية، جرى (تأليف) أحكام مبدلة وضعية بدلاً من الأحكام الشرعية على يد (عبد الرزاق السنهوري)، وفريقه، وهي الأحكام والقوانين المحادة للشريعة والمتناقضة مع أحكامها ومقاصدها والتي أصبحت مصدراً تستمد منه معظم الدول العربية فيما بعد قوانينها، وقد أحلت تلك القوانين كثيراً من المحرمات وألغت مرجعية الشريعة بشكل عملي.
w انطلقت مؤامرة (لبرلة) أو (تحرير المرأة) من حجاب العفة والكرامة، على يد قاسم أمين (تنظيراً)، وهدى شعراوي وصفية زغلول (تطبيقاً) وانتشرت العدوى بعد ذلك إلى بلدان عربية عديدة حتى صارت بعض العربيات ينافس الأوروبيات في (الليبرالية) الاجتماعية والأخلاقية.
w أُرسيت قواعد التعامل الربوي لتُبنى عليها صروح الاقتصاد، على يد (طلعت حرب) الذي أقام اقتصاداً وطنياً حراً، ولكنه كان حرباً على الله ورسوله؛ لأنه لم يذر ما بقي من الربا، بل أقام له المؤسسات والشركات ليؤكل أضعافاً مضاعفة.
w أُصِّل «بطلان» الحكم الإسلامي على يد (علي عبد الرازق) الذي بلغت (اليبرالية الدينية) على يديه أن زعم أن المسلمين أحرار في أن يهجروا تحكيم الشريعة؛ لأن الإسلام دين لا دولة.
w جرت علمنة مناهج التعليم، على يد المستشار (دنلوب) المفوض الإنجليزي الذي كلف بوضع المعالم الرئيسة لمناهج التعليم المصرية؛ بحيث يُحَيَّد فيها الدين والتاريخ الإسلامي، وتهمش اللغة، وتستلهم المبادئ الغربية.
w أما الصحافة والإعلام فلا تسل عن تعاون الفجار مع الكفار في إنشاء مؤسساتها وإرساء قواعدها على أسس منافية للدين عقيدةً وشريعةً وأخلاقاً؛ حيث اشتهرت أسماء لأخبث قوى الهدم باسم الكتابة والفن والأدب، ولمعت أسماء كثير من النصارى واليهود الذين قاموا في ظل حماية الحكومات الليبرالية بهدم كل ما طالته أيديهم من قيم وأخلاق ومبادئ، بالتعاون مع حثالة من دروز لبنان، ونصيرية سوريا، وأقباط مصر، مع من داروا في فلكهم من سقطة القوم.
إن المحصلة النهائية للتجربة الليبرالية التي سادت في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، أثمرت جيلاً تطلع إلى المزيد من الانحراف باسم التحرر، حتى جاء الثوريون ليثوروا على التحرريين، ويزايدوا عليهم في المناداة بمبادئ الحرية، حتى نعتوا أنفسهم بـ (الضباط الأحرار) تشبهاً بعتاة العلمانيين في تركيا، وتحت دعوى القضاء على فساد الأحزاب المتعددة في عهد الملكية، جرى جمع الفساد كله في حزب شمولي واحد أطلقوا عليه (الاتحاد الاشتراكي)، وهو الحزب الذي تسربت إليه، وتحيزت إلى صفه كل عناصر الفساد القديمة، إضافة إلى العناصر المفسدة الجديدة.
واليوم تحاول الولايات المتحدة تحت مسمى إصلاح الشرق الأوسط الكبير، أن تجدد الدماء المتجمدة في عروق الليبرالية المصرية، وتنشئ لها على عينها أجيالاً جديدة، بعد (الانقلاب الأبيض) الذي قام به الثوريون على أنفسهم، انتقالاً من النهج الاشتراكي الشرقي، إلى النهج الديمقراطي والرأسمالي الغربي؛ حيث لم يَرُقْ للأمريكيين ذلك التردد والتلكؤ الذي سلكه بقايا (جيل الثورة) في انقلابهم على النهج الاشتراكي، كما لم تقنعهم نتائج (المواجهة الشاملة) مع أصحاب النهج الإسلامي، الذين أظهروا رفضاً لكلا المنهجين المستوردين الاشتراكية والرأسمالية؛ ولهذا فإن الأمريكيين اليوم يتطلعون إلى إيصال قوى شابة، تقود المعركة من جديد لصالح الغرب مع الإسلاميين، أو بالأحرى مع الإسلام في مصر، غير تلك القوى التي قادت المعركة من قبل لصالح الشرق.
ولكن الولايات المتحدة نفسها، بدأت بنفسها في إثبات أن ما يسمى بـ (القيم الديمقراطية والليبرالية) تسقط عند أول اختبار في ميدان المصالح، وتترنح في حلبة الصراع، عندما يكون الند المحارب صاحب حق، أو طالب حرية حقيقية.
i تعدد الليبراليات وتهاوي الشعارات:
إذا كانت الليبرالية السياسية تعني حق الإنسان في اختيار النظام الذي يريده، والنواب الذين يمثلونه، بما يكفل تحقيق العدالة والمساواة والاستقلال؛ فإن هذه الليبرالية بدأت تسقط كشعار على يد الولايات المتحدة ودول الغرب المبشرة بها؛ فقد درجت الولايات المتحدة وحلفاؤها على انتهاك سيادة وحرية العديد من الدول في السنوات الأخيرة، مرة بالغزو المباشر، ومرة بالتدخل السافر، ومرات ومرات بأنواع العقوبات، وبهذا يجري بانتظام إهدار ما يعده الغرب قيماً وأعرافاً قامت لأجلها الثورات الكبرى هناك، ويحدث هذا من أمريكا بالذات على يد يمين ديني مغالٍ، يؤمن بالحرفية أكثر مما يؤمن بالحرية، حتى إن الحقوق السياسية داخل الولايات المتحدة نفسها، باتت تعيش خطراً وضرراً بدأ يصل إلى حد ارتفاع بعض الأصوات بحرمان النساء والسود والمهاجرين من حق الانتخاب، وقصر ذلك على البيض البروتستانت. وهو ما يؤكد أن مشروع الهيمنة الأمريكي ليس من أجل الحريات، بقدر ما هو بسبب المصالح العنصرية والطبقية في الداخل والخارج.
إن هذا يعني في النهاية أن مسلسل سقوط (القيم) الليبرالية قد بدأ بالفعل على يد من بشروا بها، ووضعوا خطط السيـطرة عـلى العـالم مـن أجـلـها، بل إن الديمقراطية نفسها ـ كأبرز تجليات الليبرالية السياسية ـ بدأت تفقد بريقها الخادع هنا وهناك، بعد أن بدا للجميع أنها لا تزيد عن عملية بيع وشراء، لا للسلع والمنتوجات، ولكن للذمم والأصوات، فهاهي الولايات المتحدة نفسها، ترتفع فيها تكاليف شراء المناصب العليا بمعدلات صاروخية؛ فمجموع ما أُنفق على الانتخابات الرئاسية قد ارتفع من 175 مليون دولار عام 1960م إلى أكثر من مليار ومائتي مليون دولار عام 1980م، وارتفع إلى ثلاثة مليارات ومائتي مليون دولار في التسعينيات، ووصل إلى أربعة مليارات من الدولارات في آخر التسعينيات، وفي الانتخابات الأخيرة بلغت تكاليف فوز بوش وحزبه خمسة مليارات من الدولارات.
هذا عند زعيمة العالم الليبرالي الحر في الغرب. وأما في الشرق؛ فإن الكراسي ومناصب الحكم بل مقاعد النيابة عن الشعب عند من يلهثون وراء السراب الليبرالي والديمقراطي، تُسرق ولا تُشترى، فإذا كان كبار رجال الأعمال في الغرب يشترون الأصوات شراء؛ فإن كبار المحتالين عندنا يسرقونها سرقة، بتزوير ظاهر، وتحايل مكشوف، بل بـ (بلطجة) وشيطنة وانحراف. أما في واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط (إسرائيل) فقد تكشفت مؤخراً فضيحة تورط شارون وابنه (عمير) بالكذب والتزوير وإنفاق مبالغ طائلة من أموال دولة اللصوص القائمة على الاغتصاب، لإنفاقها على العملية الانتخابية التي جاءت بشارون.
أما الليبرالية الفكرية التي تعد أساساً لليبرالية السياسية، فهي تؤصل منذ نشأتها للفوضي الفكرية، ولهذا فإن كل ما يبنى فوقها من منشآت سياسية يؤول أمره إلى الفوضى، وثورة الليبرالية على الدين وثوابته لا تلبث أن تتحول إلى ثورة على السياسية ومسالكها.
وتأتينا الليبرالية الاقتصادية (الرأسمالية) بوجهتها الانتهاـزية ونكـهتـها اليـهوديـة؛ إذ تقـوم منذ وضع أسسها (آدم سميث 1723 ـ 1790) على المصلحة، أو (الأنانية)، فهي المحرك الوحيد للنشاط الإنساني كما يقول، ولا ينبغي أن يوضع أمام المصلحة أي قيد، وهو ما عبر عنه بقوله: (دعه يعمل، دعه يمر)؛ فالاقتصاد لا ينظمه حسب النظام الرأسمالي إلا قانون العرض والطلب وقوانين الطبـيعة البشـرية، دون أي قيود أو ضوابط.
وتجيء الليبرالية الدينية، أو (الميتافيزيقية) كما يسمونها أحياناً، لتكون عاراً على كل من يتبنى الليبرالية ممن يدعي احترام المبادئ الإنسانية فضلاً عن القيم الإسلامية، فالليبرالية الديـنية، أو التعددية الدينية تسعى إلى نمط من الفكر الديني، لا يتقيد بأية قواعد، ولا يستند إلى أية مرجعية، بل يستند إلى حرية الإنسان في اختيار الإله الذي يهواه، ولو عبد كل يومٍ إلهاً.. ولو لم يعبد إلهاً على الإطلاق إلا هواه.
والليبرالية الدينية تقوم على فكرة نسبية الحقيقة، وترِّوج لمقولة: لا دين على الإطلاق يحتكر الصواب.
ولهذا كانت الليبرالية الدينية دائماً هي الأداة الخادمة والدافعة لبقية الليبراليات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية؛ لأن الليبرالية الدينية تهدم أولاً القواعد، وتزيل الحواجز، لينطلق (البناؤون الأحرار) بعدها في تشييد أبنية الضلالة على أسس الغواية، كل ذلك على خلفية إلغاء الخصوصيات الثقافية، وتدمير مفهوم (المقدس) وتبديله بمهفوم (النسبية) في الحقائق والعقائد والقيم لإزالة الثبات عنها، حتى لا يبقى هناك مجال لأصول تبنى عليها الهوية، أو ترتكن إليها القيم.
وفي عالمنا الإسلامي، وبالرغم من أن الليبرالية بدأت تظهر حقيقتها على أنها حملة استئصالية، تستهدف الدين في أصوله قبل فروعه، والأخلاق في جوهرها قبل مظهرها؛ فقد وجدت من الأفّاكين من يروِّج لها ويتحدث باسمها، بل تطور الأمر إلى أن بعض الطيبين انساق إلى الانخداع بالليبرالين والإنصات لقولهم، وصدق الله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47].
وتمخض الأمر عن ميلاد ما يعرف الآن بـ (الليبرالية الإسـلامـيـة) علـى غـرار ما كـان يعـرف بـ (اشتراكية الإسـلام) و (اليسار الإسلامي) وكذلك دعوى (ديمقراطية الإسلام) والدعوة إلى (أسلمة العلمانية).
والسؤال هنا: هل سيؤول مصير (الليبرالية الإسلامية) إلى معنى (الليـبرالية الدينية) المتمحور حول مقولة (جون هيك): «لا دين يحتكر الحقيقة»؟! نخشى أن يحدث ذلك! وهل سيقول الليبراليون (الإسلاميون) إن الإسلام لا يملك كل الحقيقة، وأن عقيدته لا تمثل كل الصواب؟ فبعض الأفراخ الجديدة للفكر اللـيـبرالي (الإسلامـي) بـدأت تكشـف عن نفسـها فـي جـراءة لا تُستغرب على من يؤمن بـ (نسبية الحقيقة) و (تطور القيم)، وهو ما قد يوصِل إلى التطابق والتماثل بين (الليبرالية الإسلامية) والعلمانية الرامية إلى فصل الدين عن الحياة، ولكن هذه قضية أخرى تحتاج إلى تفصيل وتأصيل.
غير أن إرهـاصـات التـحـول (العـربـي) الليبرالي العلني إلى محادَّة الدين تشعرنا بالقلق، من أن تتحول هذه العدوى إلى التوجه الليبرالي (الإسلامي) المدَّعى.
يثير موقع شبكة (الليبرالية الكويتية) في زاوية (من نحن؟) السؤال التالي: «هل الليبرالي علماني؟»، ويجيب: «نعم! كل الليبراليين علمانيون»، ثم يثير سؤالاً آخر: «ما هو موقفنا من تطبيق الشريعة الإسلامية؟» فيجيب: «الحقيقة هي أنه لا توجد هناك أية شريعة إسلامية، بل هناك شرائع إسلامية متعددة.. وقد أثبت التاريخ أن جميع الدول الدينية في التاريخ الإنساني هي دول دكتاتورية قمعية، ولا يوجد نموذج لشريعة إسلامية حتى الآن يتوافق مع حقوق الإنسان الأساسية» ثم ينتهي القائمون على الموقع إلى القول: «الطريق إلى العدل والمساواة والحرية يبدأ بتطبيق الديموقراطية والليبرالية الحرة، أما الدعوة إلى الشريعة؛ فما هي إلا أوهام مخلوقة من الجماعات الأصولية لبسط نفوذها».
هل يستطيع الليبراليون (الإسلاميون) تبرئة زملائهم من الليبراليين العرب في الكويت أو غيرها من هذا الإلحاد الصريح؟ وهل يستطيعون أن ينفوا عن الليبراليين (الإسلاميين) في تركيا مثلاً توقهم المتسارع والمندفع إلى نحو تلك الليبرالية الدينية..؟ لقد قال نجم الليبرالية (الإسلامية) «رجب أردوغان»: «نحن بحاجة إلى تغيير توجهنا إلى حيث الليبرالية الدينية..»، ومع هذا لا يزال «أردوغان» فارس أحلام العديد من (الإسلاميين) الليبراليين، الذين تسميهم بعض الأوساط الأمريكية (الإسلاميين الجدد).
لا نشك أن الولايات المتحدة سترعى هذه التيارات الجديدة، وستتبناها؛ لأنه أقصر طريق للوصول إلى بغيتها في ضرب ما تسميه (الإسلام الأصولي) أو (السلفي) أو (الوهابي)، بل إنها ستزرع زرعاً ـ من خلال نفوذها على الحكومات ـ مثل هذه العناصر الداعية إلى (التحرر الديني) في مناصب التأثير والتوجيه الاجتماعي، وهو ما كشف عنه تقرير معهد (راند) الشهير عن (الإسلام المدني الديموقراطي) أي (الإسلام الليبرالي) وكذلك تقرير (عقول وقلوب ودولارات).
والولايات المتحدة لم تعد تخفي رغبتها العارمة في فرض (الليبرالية الدينية) تحت مسمى (الحريات الدينية)؛ فقد بدأت منذ سنوات في إصدار تقرير سنوي باسم (تقرير الحرية الدينية في العالم) تركز فيه على العالم الإسلامي، وهذا التقرير يصدر بموجب ما يسمى بـ (قانون الحرية الإمريكي) الصادر عام (1998م) والذي يستهدف بحسب وصف موقع الخارجية الأمريكي على الإنترنت «دراسة وفحص المعوقات التي تحول دون (إطلاق) الحرية الدينية في مئة وسبعة وتسعين دولة ومنطقة في العالم».
صدر التـقرير السـابع عن الحرية الدينية في العالم في 8/11/2005، على أن يُقدَّم للكونجرس الأمريكي لمناقشته، وقد انتقد حالة الحرية الدينية في عدد من الدول العربية والإسلامية، وأثنى على (التقدم) الحاصل في دول أخرى في جوانب «التحرر» الديني. وقبل أن أذكر أبرز ما ورد في ذلك التقرير، أريد التنبيه على النقاط التالية المستخلصة من محتوى التقرير:
1 - الـولايات المـتحدة تتـجه نـحو اعتبـار قضـيـة (الحريات الدينية) من الشؤون الدولية لا من خصوصيات الدول الداخلية.
2 ـ لا تريد الولايات المتحدة أن تتعامل مع أفكار (الحرية الدينية) كمجرد أفكار تقترح أو دعوات تعرض، وإنما تريدها إملاءات، توصل إليها الإغراءات أو الضغوطات.
3 ـ (فوضى العقائد) هي السقف المحدد والغاية المرجوة من «فرض» الحرية الدينية، حتى تنفتح كل الأبواب أمام التنصير أو بالأصح التكفير الذي يستهدف بشكل خاص عوام المسلمين.
ولنمر سريعاً على لقطات من التقرير الخطير:
أ ـ ما يتعلق بإيران:
يأخذ التقرير على إيران، عدم الاعتراف بالطائفة البهائية (التي تؤمن بـ «المرزا غلام أحسن» نبياً بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم-) وينتقد إغلاق مراكز التبشير النصراني البروتستاتي في إيران، ويرى أن اتخاذ سياسة معادية لدولة (إسرائيل) يدخل ضمن عدم الالتزام بالحرية الدينية، كما يشير إلى التحيز الحاصل في إيران ضد الطائفة السنية.
ب ـ ما يتعلق بالسعودية:
يدعي التقرير ألاَّ وجود للحرية الدينية في المملكة العربية السعودية، ويدل على ذلك بـ (إجبار) الدولة مواطنيها جميعاً على اعتناق دين الإسلام فقط، وعدم سماحها للمواطن بأن يغير دينه، وينتقد أيضاً عدم الاعتراف داخل المملكة بالأديان الأخرى، فضلاً عن حمايتها، ويرى أن عدم السماح لأصحاب الأديان الأخرى من غير المواطنين بممارسة شعائرهم علناً أمر متعارض مع الحرية الدينية، ويُعد التقرير من مظاهر انتهاك هذه الحرية عدم السماح للمواطنين بالرجوع عن الإسلام، ومن مظاهر انتهاكها: إطلاق الشرطة الدينية (أهل الحسبة) لمراقبة المتهاونين في أداء الصلاة، ومن المظاهر المنتقدة أيضاً إلزام جميع الطلاب في المراحل المختلفة بدروس ومناهج دينية تتطابق مع التعاليم «السلفية». كما يرى التقرير أن معالجة الصحافة للقضايا الدينية محدودة للغاية ومقيدة.
وأشار التقرير إلى أن الحكومة الأمريكية تطالب بالالتزام العلني بالسماح بأداء الشعائر لغير المسلمين، وتحث على إلغاء التمييز بين الطوائف والأديان، وأظهر التقرير أن وزير الخارجية الأمريكي السابق (كولن باول) كان قد وصف الأوضاع بالسعودية عام 2004م بأنها مثيرة للقلق بسبب «الانتهاكات الشديدة» للحريات الدينية.
ج ـ ما يتعلق بالسودان:
يأخذ التقرير على الحكومة السودانية أنها تعتبر نفسها «حـكومة إسلامـية» وأن الحزب الحاكم يلتزم بـ (أسلمة) البلد، ولـهذا يفرض كثيراً من القيود والتمييز ضد غير المسـلمـين وغيـر الـعـرب، ويرى التقرير أن الحرية الممنوحة للمسلمين في بناء المساجد ليست ممنوحة لغير المسلمين في بنـاء معابدهم، وأشـار التقرير إلى أن وزارة الخـارجية الأمـريكية صنفت السـودان مـرات عديدة بـأنه بلد مثير للقلق فيما يخـتص بالانتهـاكات الشـديـدة للحريـة الديـنية، وأن ممثلي السفـارة الأمريكية هناك ربطوا بين تحسين العلاقة مع الخرطوم، وبين اتخاذ إجراءت للتخفيف من تلك الانتهاكات.
د ـ ما يتعلق بمصر:
يرى واضعو التقرير أن تمييز الحكومة المصرية ضد المسيحيين لا يزال مستمراً؛ فهناك تمييز في التعيين في المناصب العامة وهيئات التدريس، ويُرفض قبول المسيحيين في جامعة الأزهر! وهناك إعاقة لحرية بناء الكنائس، ويعتبر التقرير من المآخذ على الدولة المصرية أنها تمتنع عن الاعتراف بالطائفة البهائية، وينتقد محاولات «التضييق» على النشاط التبشيري بين المسلمين بذريعة منع الفتن الطائفية.
وقد أشار التقرير إلى أن المسؤولين الأمريكيين وعلى رأسهم وزيرة الخارجية الأمريكية ومساعدها للشرق الأوسط والسفير الأمريكي وغيرهم، أثاروا مع كبار المسؤولين المصريين موضوع الحرية الدينية، كما أعربوا عن قلقهم بشأن التمييز ضد البهائيين والمسيحيين، وأشار التقرير إلى أن أعضاء من الكونجرس الأمريكي أبدوا غضبهم أثناء زيارتهم لمصر مؤخراً من المقالات التي تعادي السامية، وأبلغوا بذلك رؤساء تحرير الصحف وغيرهم من الإعلاميين، وأشار التقرير كذلك إلى أن هناك برامج أمريكية في مجالات عدة لتمويل مشاريع تتعلق بالحريات الدينية، منها برامج للتعاون مع الأقباط في جنوب مصر وبرامج لتشجيع التقارب بين الطوائف الدينية، ونوه التقرير بمشاركة بعثة أمريكية في تشجيع وضع مواد دراسية تحث على الحرية الدينية في مناهج التعليم باللغتين العربية والإنجليزية.
هـ ـ ما يتعلق بالعراق:
لأن العراق أصبح ساحة مفتوحة أمام التجارب الأمريكية في تنفيذ مفاهيمها حول الحرية الدينية؛ فقد أشار التقرير إلى أن هناك تنسيقاً على مستوى عالٍ بين المسؤولين في البلدين لجعل العراق بلداً نموذجياً في إطلاق الحريات الدينية، ولهذا تستضيف الإدارة الأمريكية العديد من الندوات والحوارات حول هذا الموضوع، وتمول المشاريع الهادفة لذلك لجمع جهود المذاهب والطوائف كلها ضد ما تعتبره الولايات المتحدة إرهاباً ينبغي على الجميع محاربته.
شهادة إشادة..!
في مقابل هذه الانتقادات المتعددة لبلدان كثيرة، أشاد تقرير الحرية الدينية الأمريكي بدولة الإمارات لاستضافتها مؤتمراً دولياً لمحاربة الإرهاب والتشدد الديني؛ في حين أن حكومتها تبرعت بقطعة أرض في أواخر عام 2004م لبناء كنيسة (سانت ماري) لجالية الروم الأرثوذكس في دبي، ورحب التقرير باشتراك وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف في أبو ظبي في الاحتفالات الدينية التي أقامتها الكنيسة الإنجيلية العربية هناك بمناسبة عيد الميلاد؛ حيث حضرها وكيل وزارة شؤون المساجد ومساعد وكيل وزارة الشؤون الإسلامية. وأثنى التقرير أيضاً على قيام مستشار الوزارة للشؤون الدينية في دبي بإزاحة الستار عن حجر الأساس لبناء كنيسة (الأنبا أنطونيوس) القبطية المصرية على أرض دبي، برفقة رئيس أساقفة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر والخليج والشرق الأوسط.
وماذا بعد:
ـ فهل هذا ما يريده الليبراليون ـ علمانيين أو «إسلاميين»؟
ـ هل يطالبون بأن تتحقق (المساواة) بين التوحيد والتثليث، وتعدد الآلهة وانعدام الآلهة.. في بلاد المسلمين..؟
ـ وهل يسرهم ذلك (العدل) بين المعبودات، فلا يفرق بين عبادة خالق الكون الواحد الأحد، وبين عبادة الصلبان والنيران والجُعلان..؟
ـ هل يرضيهم أن يفرض (السلام) مع كل أعداء الإسلام، وتشن حروب الإبادة فقط على عباد الرحمن؟
ـ وهل يفرحون بانتشار الكنائس في جزيرة العرب التي أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ألا يجتمع فيها دينان..؟
ـ وهل يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتتم العودة عن الحجاب، استجابة لدعاوى التحرير والتغرير؟
ـ وهل يغتبطون باستمرار استبعاد الشريعة بحكم الدولة والقانون، ولا يبقى منها إلا نصوص مجمدة في صدور بعض الدساتير..؟
ـ وهل تنشرح نفوسهم عندما يرون التعليم والإعلام يمسخ أجيال الأحفاد بعدما دمر كثيراً في أجيال هي الآن آباء وأجداد..؟
ـ وهل يرغبون في أن تظل فئام من الأمة تأكل الربا أضعافاً مضاعفة، معرّضين أنفسهم والناس معهم لحرب من الله ورسوله..؟
لا نظن الدعوة لهذا وغيره في بلاد المسلمين تصدر إلا من دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها؛ فإن كان الليبراليون العلمانيون اللادينيون لا يستنكفون عن هذا الوصف لأنفسهم، فلا نظن أن الليبراليين «الإسلاميين» يجهلون أن هذه هي أبرز معالم البرنامج الذي يريد به الأعداء أن يردونا به إلى الوراء.
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} [النساء: 89].
اللهم اهدنا جميعاً سواء السبيل.
مجلة البيان