حازم
01-16-2006, 06:21 PM
خالد أبو الفتوح
بعد أحداث سبتمبر 2001، وتحديداً في عام 2003م، وضمن جهود أمريكا لرسم خريطة التغيير المزمع اتباعها في العالم الإسلامي، نشرت مؤسسة (راند) الأميركية تقريراً استراتيجيّاً بعنوان (الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء، والموارد، والإستراتيجيات) للباحثة في قسم الأمن القومي (شيرلي بينارد)، وفي ربيع عام 2004م قامت الباحثة نفسها بنشر ملخص
ولمن لا يعرف مؤسسة (راند)، فهي مؤسسة نشأت بصفتها مركزاً للبحوث الإستراتيجية لسلاح الجو الأميركي، ثم تحولت بعد ذلك إلى مركز عام للدراسات الإستراتيجية الشاملة، ويعدها المحللون السياسيون بمثابة «العقل الاستراتيجي الأميركي».
تقرير الباحثة (بينارد) الذي اهتم بتقديم توصيات عملية لصاحب القرار الأمريكي، يتكون من تمهيد وثلاثة فصول وأربعة ملاحق وقائمة مراجع:
الفصل الأول عنوانه: «رسم خريطة للموضوعات: مقدمة لآفاق الفكر في الإسلام المعاصر»، ويناقش فيه الوضع الراهن من حيث المشكلات المشتركة والإجابات المختلفة، ويحدد مواقف التيارات الإسلامية إزاء عدد من الموضوعات الرئيسية، مثل: الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتعدد الزوجات، والعقوبات الجنائية والعدالة الإسلامية، وموضوع الأقليات، ولبس المرأة، والسماح للأزواج بضرب الزوجات.
أما الفصل الثاني فهو يمثل صلب التقرير، وعنوانه: «العثور على شركاء من أجل تطوير وتنمية الإسلام الديمقراطي»، وهو يتضمن تصنيف التيارات الإسلامية المعاصرة إلى أربعة: العلمانيين، والأصوليين، والتقليديين، والحداثيين؛ حيث يحدد السمات الرئيسية لكل تيار وموقفه من المشكلات المطروحة.
أما الفصل الثالث وعنوانه: «إستراتيجية مقترحة»، فهو يتضمن توصيات عملية موجهة لصانع القرار الأميركي لاستبعاد التيارات الإسلامية المعادية وتدعيم التيارات الإسلامية الأخرى، وخصوصاً ما يطلق عليه التقرير التيارات العلمانية والحداثية، ولأنها أقرب ما تكون إلى قبول القيم الأميركية وخاصة القيم الديمقراطية.
وتقرر (بينارد) أن الغرب يراقب بدقة الصراعات الإيديولوجية العنيفة داخل الفكر الإسلامي المعاصر، وتقول بالنص: «من الواضح أن الولايات المتحدة والعالم الصناعي الحديث والمجتمع الدولي ككل تفضل عالماً إسلامياً يتفق في توجهاته مع النظام العالمي، بأن يكون ديمقراطياً، وفاعلاً اقتصادياً، ومستقراً سياسياً، تقدمياً اجتماعياً، ويراعي ويطبق قواعد السلوك الدولي، وهم أيضاً يسعون إلى تلافي (صراع الحضارات) بكل تنويعاته الممكنة، والتحرر من عوامل عدم الاستقرار الداخلية التي تدور في جنبات المجتمعات الغربية ذاتها بين الأقليات الإسلامية والسكان الأصليين، في الغرب، وذلك تلافياً لتزايد نمو التيارات المتشددة عبر العالم الإسلامي، وما تؤدي إليه من عدم استقرار وأفعال إرهابية».
وبناء على هذه الدراسة المتعمقة يقدم التقرير عناصر أساسية لإستراتيجية ثقافية وسياسية مقترحة لفرز الاتجاهات الإسلامية الرئيسية التي يجملها التقرير في أربعة وهي: العلمانيون، والأصوليون، والتقليديون، والحداثيون. وفي ضوء هذا الفرز تشن الولايات المتحدة الأميركية حرباً ثقافية - إن صح التعبير - ضد الاتجاهات الإسلامية العدائية، وفي الوقت نفسه تصوغ إستراتيجية لدعم الاتجاهات الإسلامية القريبة من القيم الأميركية، مادياً وثقافياً وسياسياً؛ لمساعدتها في الاشتراك في ممارسة السلطة السياسية في البلاد العربية والإسلامية.
ومن هنا نفهم كلمات العنوان الفرعي للكتاب التقرير «شركاء، وموارد، وإستراتيجيات»، فكلمة (الشركاء) تشير إلى هؤلاء الفاعلين الإسلاميين الذين سيقبلون - لسبب أو لآخر - الاشتراك مع الجهود الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في عملية إعادة صياغة الأفكار الإسلامية، من خلال عملية إصلاح ديني لها خطوطها البارزة، والتي تصب في النهاية في استئصال الفكر المتطرف، مما سيؤدي بالضرورة إلى تجفيف «منابع الإرهاب»، أي: تحديد الشركاء الإسلاميين المناسبين، والعمل معهم لمكافحة التطرف والعنف و «الإرهاب»، وتشجيع قيم الديمقراطية على الطريقة الغربية الأميركية.
أما إشارة العنوان الفرعي إلى (الموارد) فمعناها ببساطة تخصيص ميزانيات ضخمة للإنفاق على المشروع، من خلال «وكلاء» يقومون بمهمة تجنيد الأنصار ونشر الكتب وإصدار المجلات التي تحمل الفكر الإصلاحي الإسلامي الجديد.
وتبقى كلمة (الإستراتيجيات) الواردة في العنوان الفرعي للكتاب، وهي تشير بكل بساطة إلى الإستراتيجية التي تقترحها الباحثة لشن حرب ثقافية ضد التيارات الأصولية الإسلامية من ناحية، والتعاون الفعال مع عناصر من التيارات العلمانية والحداثية والتقليدية الإسلامية من ناحية أخرى.
ومن الملفت للنظر أن الباحثة الأميركية ـ التي لا تتردد في وصف مهمة كتابها التقرير بأنه إسهام في عملية «إعادة بناء الدين الإسلامي Religion Building» ـ أفردت ملحقاً خاصاً لمناقشة (السنة النبوية) والتي تتمثل في الأحاديث، وقررت أنه من الضروري تنقية هذه الأحاديث؛ لأن بعضها يستخدم كأساس للفتاوى الدينية التي تستند إليها الجماعات الإسلامية المتطرفة في كراهية الآخر والهجوم على الغرب سياسة وثقافة.
لم يمض وقت طويل على هذا التقرير حتى تولى مركز ابن خلدون الذي يديره د. سعد الدين إبراهيم تنفيذ التوصيات الأميركية الخاصة بالإسهام في (إعادة بناء الدين الإسلامي) بما يتفق مع القيم الأميركية، ونظم في القاهرة مؤتمراً ـ مولته أمريكا حسماً من المعونة الأمريكية لمصر ـ موضوعه (الإسلام والإصلاح)، بمشاركة 20 باحثاً من جنسيات عربية وأوروبية وأميركية، بالتنسيق مع ثلاثة مراكز بحثية دولية، وقد صدر بيان عن المؤتمر ذكر فيه أنه تبنَّى الدعوة إلى «إعادة صياغة نسق معرفي جديد للفكر الإسلامي ومراجعة التراث الإسلامي مراجعة جذرية، والتصدي لأفكار المؤسسات التي تحتكر الحديث باسم الدين، ومواجهة وتفنيد مقولات ورؤى وأفكار التيارات الدينية المتطرفة، وتكثيف الحوار مع القوى المعتدلة والمستنيرة في المجتمعات الغربية عامة والمجتمع الأميركي خاصة، وأهمية إدماج الحركات الإسلامية في العملية الديمقراطية، وتمكين الحركات المعتدلة من حق الوجود السياسي إذا قبلت بالديمقراطية كخيار إستراتيجي، وأقرت بالمبادئ الأساسية التي تقوم عليها قيم المجتمع المدني والدولة المدنية الحديثة، وضرورة إجراء حوار عام موسع مع تيارات الإسلام السياسي السلمي».
غير أن أخطر توصية تبناها المؤتمر: دعوته إلى تنقية التراث الديني من الحديث النبوي الشريف، والاعتماد فقط على نصوص القرآن الكريم كمرجعية وحيدة، والتصدي لأفكار المؤسسات التي تحتكر الحديث باسم الدين وإيجاد مدرسة اجتهاد جديدة في القرن الحالي.
وقد قوبلت توصيات المؤتمر التي أعلنت في مؤتمر صحفي في نهايته باعتراضات عنيفة من الحضور وبعض الصحف المصرية، والتي أفاضت في ذكر الهجوم العنيف على منظم المؤتمر والمشاركين فيه، واتهامهم المباشر بالعمالة لأمريكا.
معظم ما سبق هو مقتطفات منسقة من مقالات نشرت في الفترة من 15/7 إلى 5/8/2004م، و 5/10/2004م، بجرائد الأهرام المصرية والنهار اللبنانية وملحق (وجهات نظر) من الاتحاد الإماراتية، للكاتب (السيد ياسين)، وهو كاتب غير متهم بالتطرف أو الأصولية، بل على العكس يصنفه كثيرون على أنه يقف في الخندق المواجه للتيار الإسلامي.
وبحسب الكاتب نفسه في المقالات نفسها: فإن الاهتمام بما أطلق عليه (الصحوة الإسلامية) أكاديمياً وبحثيّاً لم يكن وليد الساعة، ولكنه ظهر واضحاً عام 1979م عقب نجاح الثورة الإيرانية، بَيْدَ أن الأب الحقيقي للتيار الأكاديمي الأميركي الذي حاول بعمق شديد ونادر تأصيل الليبرالية الإسلامية، هو عالم السياسة الأميركي المعروف (ليونارد بايندر) في كتابه (الليبرالية الإسلامية: نقد للأيديولوجيات التنموية) الصادر عام 1988م عن دار نشر مطبعة جامعة شيكاغو.
ومن الأهمية بمكان في سبيل إيضاح الفكرة الجوهرية التي يقوم عليها تيار الليبرالية الإسلامية كما صاغ منطلقاته الباحثون في دراساتهم، أن نعتمد على ما قرره بايندر نفسه في شرحه لخطة كتابه، وهو يقول: «المحور الأساسي للكتاب هو دراسة العلاقة بين الليبرالية الإسلامية والليبرالية السياسية، وهو يضع في اعتباره الرأي الذي مؤداه أن العلمانية تنخفض معدلات قبولها، ومن المستبعد أن تصلح كأساس أيديولوجي لليبرالية السياسية في الشرق الأوسط، ويتساءل الكتاب عما إذا كان من الممكن بلورة ليبرالية إسلامية، ويخلص إلى أنه بغير تيار قوي لليبرالية الإسلامية فإن الليبرالية السياسية لن تنجح في الشرق الأوسط، بالرغم من ظهور دول بورجوازية».
وبعد أن يرصد (الأستاذ ياسين) بعض التطورات الفكرية والتحركات السياسية لبعض القوى الإسلامية، يقول:
وهكذا يمكن القول إن الاهتمام المبكر لعالم السياسة الأميركية (ليونارد بايندر) بالليبرالية الإسلامية منذ عام 1988م(1)، قد فتح باباً للاجتهاد الأميركي أدى من بعد - من خلال عملية تراكمية معرفية معقدة ـ إلى أن يُصدر عالم السياسة الأميركي (رايموند ويليام بيكر) عام 2003م كتاباً ملفتاً للنظر عن الإسلاميين المستقلين في مصر، عنوانه (إسلام بلا خوف: مصر والإسلاميون الجدد)، نشرته جامعة هارفارد، وقد خصصه لدراسة أفكار أربعة من الكتاب الإسلاميين المعروفين، وهم: (أحمد كمال أبو المجد)، و (طارق البشري)، و (فهمي هويدي)، ومحمد سليم العوَّا.. ويضيف كاتب المقالات نفسه إلى هؤلاء الأربعة: الشيخ يوسف القرضاوي.
بالطبع لا يعني ذلك أن محاولات أمريكا والغرب عموماً لـ (ليبرة) الإسلام بدأت منذ هذا التاريخ، فقد أشار كاتب إسلامي كبير في خمسينيات وستينيات القرن الميلادي الماضي إلى خطورة (الإسلام الأمريكي) الذي تحاول الولايات المتحدة إيجاد موطئ قدم له في العالم الإسلامي، وقد أشرت في مقالات سابقة إلى محاولات الغرب الدؤوبة لإيجاد إسلام (بروتستانتي) لا يثير العداء للغرب ولا يستفز المسلمين، خاصة الجهود التي بذلت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين(2).
ورغم الهجمة الأمريكية الشرسة والضغوط الغربية الهائلة التي تهدف إلى تمرير هذه المشروعات في عالمنا الإسلامي، فإني لم أجد جديداً أو غريباً في هذه المساعي، اللهم إلا في حجم التوجه ومقدار تكثيف الجهود في فترة زمنية محددة، ولكن الجديد حقاً كان في محيطنا الداخلي، وأعني به: ظهور فئة تنتسب إلى التيار الإسلامي (العامل) يَسِمُ أفرادها أنفسهم بأنهم (إسلاميون ليبراليون).
ويبدو أن ضغوط الواقع الاستبدادي التسلطي، وضيق ـ أو اختناق ـ مساحات الحريات، وشيوع مناخات الأحادية والمصادرة... جعل كثيراً من أفراد هذه الفئة يسترقون السمع لأي دعوى حرية، حتى ولو كانت نابتة خارج إطارنا الإسلامي، حتى ولو كانت باسم (الليبرالية). كنت أستغرب ـ ولا يُستغرب ـ أحدهم وهو ينعت نفسه بأنه (إسلامي ليبرالي)، وكأنه يصف نفسه بأنه مسلم (شافعي)، أو (مالكي)، أو حتى (شيعي)، أو كأنه ينسب نفسه بأنه (مسلم إندونيسي) أو (مسلم مغربي)، كان لا يستهجن ذلك، في حين كانت كلماته تقرع أذني وكأنها (إسلامي ماركسي) أو (إسلامي بوذي) أو (إسلامي علماني).
ومع استبعادي لعمالة هذا الشخص وأمثاله ـ أو حتى وعيه ـ للمشروع الأمريكي السابق ذكره، فإني على قناعة بأن أحدنا لا يفهم الإسلام، أو لا يفهم الليبرالية، أو لا يفهمهما معاً، هذا إذا كان هذا الشخص جاداً وصادقاً في كلامه.
وإذا كان المقام لا يتسع لعرض جميع أبعاد هذا الموضوع، فسأكتفي هنا بعرض وجهة نظري في الفرق بين الإسلام والليبرالية في أصولهما ومنطلقاتهما وما يترتب على ذلك من فروق على نطاق التصورات أو التطبيقات.
ü الليبرالية والحريات.. الأصول والمنطلقات:
بداية فإنه لا يختلف أحد من الليبراليين (الأصوليين) على أن (الفكر الليبرالي) لا يقتصر على حقل الفكر السياسي، بل يمتد إلى ما هو أبعد منه، ليكوِّن فلسفة اجتماعية شاملة ترتبط بتوجهات محددة في مجالات الأخلاق وفلسفة العلم والقيم الاجتماعية والاقتصاد، إضافة إلى السياسة.
لقد لحق مفهوم الحرية ـ الذي ارتبط بالديمقراطية في المدن الإغريقية ـ تطور هائل من المدرسة الليبرالية، خصوصاً مع (جون لوك) في القرن السابع عشر؛ فالحرية في هذا المفهوم هي حرية الفرد، وهي الاعتراف له بمجال خاص لا يجوز التعدي عليه أو التدخل فيه؛ فالحرية هنا هي الاعتراف للفرد بحقوق طبيعية أو أساسية لا يجوز التعدي عليها ولو بموافقة الأكثرية: للفرد الحق في الحياة، في العقيدة، في التعبير، في الاجتماع، في الملكية، في التعاقد.. وهكذا لم يبق للحرية مفهوم إجرائي لاختيار الحكام، أو لأسلوب اتخاذ القرارات السياسية، بل أصبح للحرية مضمون حقوقي قانوني، هو الاعتراف بالحقوق الأساسية للإنسان باعتباره إنساناً.. وهذا هو المفهوم الليبرالي للحرية.
فعندما نتحدث عن الحرية فإننا قد نقصد أموراً مختلفة، ويمكن تلخيص هذه المفاهيم المتعددة تحت ثلاثة مفاهيم: هناك ما يمكن أن نطلق عليه (الحرية الجمهورية)، وهي تتطلب المشاركة في الحياة السياسية واختيار الحكام ومسؤولياتهم، وهي تقابل المفهوم المستقر للديمقراطية السياسية، وهذه تجد جذورها في الديمقراطيات الإغريقية أو ما يطلق عليه (كونستانت) الحرية بالمفهوم القديم.
وهناك من ناحية ثانية (الحرية الليبرالية) وهي تشير إلى الاعتراف بحقوق وحريات أساسية للأفراد لا يجوز الاعتداء عليها أو التعرض لها، وهي تقابل المفهوم الحديث للحرية عند (كونستانت) أو الحرية السلبية عند (برلين)، وهي أيضاً ما يقابل ما يعرف حديثاً بـ (حقوق الإنسان) الأساسية كما صدر عن منظمات الأمم المتحدة في وثائقها المتعددة.
وأخيراً هناك ما يمكن أن نطلق عليه (الحرية المثالية) أو الحريات الاقتصادية والاجتماعية؛ حيث يتعلق الأمر بضرورة تمكين الفرد من ممارسة حرياته، بتوفير حد أدنى من المستوى الاقتصادي وتقديم الخدمات الأساسية في التعليم والصحة والخدمات العامة»(1).
وإذا كان هذا الكلام يُظهر بعض الاختلاف في نظرة الليبراليين أنفسهم إلى (الحرية)، إلا أنه يوضح أننا لا نستطيع أن نفصل مسيرة الحريات الليبرالية عن مسيرة حقوق الإنسان في الغرب؛ إذ تتشابك وتتداخل المفاهيم في كليهما.
ينقسم الحديث عن الحقوق والحريات إلى شُعب عديدة: فهناك (حق المعرفة) و (حرية الإبداع) و (حرية الاعتقاد) و (حرية الرأي ) و (حرية التعبير)، و (حرية التعليم)، و (حرية الملكية)، و (الحرية الشخصيّة)، ويمكن أن يضاف إلى ذلك: (حق تكوين الأحزاب والتكتلات). وقد تنقسم بعض هذه الشعب إلى أقسام أو فروع متعددة، كما هو الحال بالنسبة للحرية الشخصيّة، التي تشمل: (حرية التنقل) و (حق الأمن) و(حرية المسكن)، ويعد بعض الباحثين (حرية الرأي) الأصل في هذه الشُّعَب والأقسام جميعاً، وليس من هدفنا في هذا المقال تناول هذه الحريات والحقوق تفصيلياً، بقدر ما يهمنا وضع إطار كلي نستطيع من خلاله فهم النسق الذي توضع فيه هذه الحريات والحقوق وكيفية فهم خريطة العلاقات بينها.
فمفهوم قيم (الحريات) و (حقوق الإنسان) اصطبغ بالخلفية الفكرية التي خرجت منها هذه الحقوق، وخضع للمنظومة القيمية العامة للمجتمع الذي نشأت فيه، وهو ما يختلف كلية عن الخلفية الإسلامية والمنظومة الإسلامية التي تحوي المفردات أو المصطلحات نفسها.
فمن المعروف أنه يختلف مفهوم كل مصطلح وطبيعة العلاقة بين القيمة التي يحملها وقيم المصطلحات الأخرى بحسب الإطار الفكري والفضاء القيمي الذي يسبح فيه هذا المصطلح، وعليه: لا نستطيع أن نختزل مفهوماً ما ونقتبسه من بيئته الفكرية والقيمية ثم نحاول إسقاطه على بيئة أخرى ومجتمع آخر له خلفيته الفكرية الخاصة ومنظومته القيمية المتمايزة.
من الملاحظ أن تبلور الليبرالية تزامن، في القرن السابع عشر الميلادي، مع ظهور الرأسمالية في أوروبا، عندما ظهرت حاجة الرأسماليين الصاعدين وقتها لإيجاد ذريعة أخلاقية وفكرية لحق تخزين الأموال الشخصية وكنزها، واعتقد المفكرون الليبراليون الأوائل بأنه لو خُلِّيَ العالم وسيره الطبيعي فإن المشكلات البشرية سوف تتجه تلقائياً نحو الحل، وأننا لو تركنا الأفراد يعملون وفق إرادتهم الخاصة، فإن ذلك سوف يحقق المساواة في المجتمع وكذلك الأخوة، ومن ثم: اعتقدوا أن عامة الناس يمكنهم اختيار الطريق المفضي إلى سعادتهم وراحتهم، وعليه: فلا تحتاج المسألة إلى افتراض تصور أو نظام يفرض عليهم من فوقهم، سواء من رجال الدين أو غيرهم؛ فالناس أنفسهم يمكنهم تعيين الحقوق والتكاليف التي يجب أن يستجيبوا لها بدون وجود سلطة عليا من خارجهم تفرض ذلك عليهم، وهذا ما تعرض للنقد حتى من مفكرين غربيين، كـ (تشارلز فرنكل) في كتابه (أزمة الإنسان الحديث)، ففي الحقيقة أن الغرب لم يلغِ المرجعية والسلطة بإطلاق، بل استبدل مرجعية بأخرى وسلطة بغيرها، بعد أن أزاح الدين عن ساحة التوجيه والتنظيم.
الغرب في نهضته استمد خلفيته الفكرية من الفكر الفلسفي اليوناني القائم على تقديس العقل - الذي أعلى من قيمته مرة أخرى مكتشفات عصر النهضة -، كما أن الغرب في نهضته كان خارجاً لتوه من سيطرة كنسية طاغية قائمة على تخلف علمي واستدلالي يورد الفيلسوف (فرانسيس بيكون) نموذجاً لها، فيقول: «وقع بحث ونقاش سنة 1432م، في مجمع من المجامع العلمية، حول عدد أسنان الحصان. لقد جرى التفتيش عن الإجابة عن هذا الموضوع في آثار العلماء السابقين، بيدَ أن ذلك لم يقدم أي نتيجة، وبعد أربعة عشر يوماً من التحقيق أبدى أحد الطلاب رأيه بالنظر إلى فم الحصان وعد أسنانه، لكن هذا الاقتراح تم التعاطي معه على أنه كفر، وأن قائله مستوجب للتأديب الشديد، وفي نهاية المطاف، وبعد عدة أيام من البحث والجدال، أعلن المركز العلمي عدم قابلية هذه المسألة للحل؛ نظراً لعدم ورودها في كتب القدماء، فأحس الغرب بأهمية الاستدلال العقلي وبتعطشه للتجربة الحسية التي حرمته منها الكنيسة، مهدراً أي طريق آخر للمرجعية المعرفية، وأصبح إثبات الحقائق أو نفيها مرهوناً بوقوع هذه الحقائق في دائرة نشاطاتنا العقلية وتجاربنا الحسية، وهذا معناه أنه لا يجوز الاعتراف بأي شيء اعترافاً مسبقاً؛ فكل شيء قابل للتجربة أو للتجزئة والتحليل العقلانيين.
وهذا ما أثر على نظرة الغرب إلى (الدين) و (الغيبيات) وتصوراته عن الكون والإنسان والحياة عموماً؛ حيث إن الدين والغيبيات لا يمكن للعقل المجرد إدراك مسائلهما، وعليه: فهي نسبية وغير يقينية ولا يستطيع أحد الزعم بأحقية تصوره وإبطال تصور الآخرين، ولذا: فهي متروكة لاعتقاد كل فرد، ومن ثَم: ينبغي على كل إنسان أن يفسح المجال لاعتقادات الآخرين وأن يتسامح معهم في معتقداتهم؛ لأنها ببساطة متساوية مع اعتقاداته في نسبتها إلى الحقيقة، أو بالأحرى: في افتقارها إلى الحقيقة. وعندما صادروا الدين والغيبيات من دائرة العقل والحواس فإنهم وضعوهما في دائرة العواطف والضمير الإنساني، وهي الدائرة التي لا ينبغي لأحد أن يتدخل فيها أو يصادرها، وفي أقصى الافتراضات: فهي عاطفة تقوم على الإقناع وليس على الإلزام.. كما أثر ذلك على نظرة الغرب إلى كيفية بحث الإنسان عن أهدافه وغاياته وعن طرق الوصول إلى تحقيق هذه الأهداف والغايات.. كما أثر ذلك أيضاً في النظرة إلى الأخلاق، حيث لا توجد أخلاق مقدسة أو مؤبدة أو مطلقة؛ فالحُسن والسوء ليسا مطلقين ولا كليين، كما أن تحديد الخير والشر والحسن والقبح يختلف من إنسان إلى آخر، ومن ثَم: لا ينبغي أن تُفرض هذه الأخلاق من سلطة عليا أيّاً كانت. وإذا كان الأمر كذلك فإن السلوك الإنساني سيتحدد من خلال الرغبات والميول البشرية، وعندها سيكون الحَسَن هو ما يحبه الأفراد أنفسهم ويرغبون فيه، والقبيح والسيئ هو ما ينفر منه هؤلاء الأفراد ويتعارض مع الرغبات الإنسانية.
لم يكن هذا هو التأثير السلبي الوحيد للكنيسة على منظومة الغرب في حقوق الإنسان وحرياته؛ فلقد أدت نظرة الكنيسة إلى الإنسان على أنه يحمل خطيئة أبدية ورثها من أبيه آدم، أي: إنه مذنب بالأصالة حتى يخلصه المسيح، أدى ذلك إلى رد فعل عكسي عند الليبراليين تمثل في تمحورهم حول الإنسان، فهو البداية وهو النهاية وهو الغاية. وإذا نظرنا إلى هذا الإنسان وفق المنظور العقلي والحسي فإنه يتجرد من (الروح) ولا يبقى منه إلا الأبعاد الذاتية والنفعية، أي: الغرائز والشهوات والماديات.
والخلاصة: أن الغرب لم يُخرج تصوراته عن منظومته في حقوق الإنسان وحرياته - في الربع الأخير من القرن الثامن عشر - إلا بعد قطيعة حادة مع الدين ممثلاً في الكنيسة الكاثوليكية - التي أذعنت في النهاية لهذه القطيعة رافعة شعار (دعوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) - ثم تجسدت هذه القطيعة في أكبر تجلياتها على أرض الواقع عبر الثورة الفرنسية عام 1789م بشعارها الماسوني المثلث (حرية - مساواة - إخاء)، وهو الشعار الذي يعد أصل كافة حقوق الإنسان في المنظور الغربي، تأسيساً على أنها حقوق عامة تشمل جميع الأفراد بموجب (الحق الطبيعي) الذي يسبق جميع الثقافات والحضارات - حسب هذا الفكر - وعليه: صدر في العام نفسه (إعلان حقوق الإنسان والمواطن).
فواضح أن المرجعية في الغرب ـ بعد انقطاعه عن الكنيسة في مجالات الحياة ـ تحولت إلى العقل إضافة إلى الحس التجريبي، ومن هذه المرجعية انبثقت هذه الحقوق والحريات، مع مراعاة البعد الاقتصادي في تطور المجتمع الغربي آنذاك، وواضح أيضاً أن المنهجية التي تأسست عليها هذه الحقوق والحريات هي العلمانية.
وإذا رصدنا ترتيب الهرم القيمي الذي استقر عليه الغرب بناءً على هذه المرجعية وهذه المنهجية نجد أن (الحرية) و (المساواة) تتبوآن قمة هذا الهرم، وعليه: فتحقيق هاتين القيمتين - حسب المفهوم المستقر لديهم - له الأولوية المطلقة التي ينبغي أن تخضع له، أو تتقيد به، أو تنتظم معه قيم المجتمع الأخرى، ومن هنا: أصبحت (الحرية) و(المساواة) على رأس (الثوابت) و(المقدسات) التي لا يمكن المساس بهما، والتي يمكن - أيضاً - التضحية بالقيم الأخرى والحقوق الأخرى من أجل المحافظة عليهما.
وعلى هــذا الأسـاس انتظـمت (الحقوق) و (الحريات) و (العلاقات). ففي العلاقات بين الأفراد نجد أن (حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين)، وفي العلاقة بين الفرد والمجتمع برزت نظرية (العقد الاجتماعي) التي نضجت قبيل الثورة الفرنسية في فكر (جان جاك روسو)، والتي بمقتضاها يتنازل كل فرد في المجتمع عن بعض إطلاقات حقوقه وحرياته للجماعة التي ينتمي إليها، والتي تجسدها الدولة، مقابل (تنظيم) هذه الدولة لممارسة تلك الحقوق والحريات بين جميع الأفراد وحمايتها لها، وهكذا تحولت هذه الحقوق والحريات (الطبيعية) إلى حقوق (مدنية) لا يسمح بالخروج عليها؛ حيث تحميها سلطة المجتمع (الدولة)، وهو الأساس الذي قامت عليه الدولة الحديثة في الغرب.
وبانتشار الفلسفة التحررية (الليبرالية) واستقرارها في غرب أوروبا في القرن التاسع عشر.. أخذت الحريات والحقوق الفردية بُعداً جديداً، عندما أصبحت هذه الفلسفة هي الأساس النظري للتنظيم السياسي والاقتصادي والقانوني للمجتمعات الغربية، فنادت الليبرالية - في الفكر السياسي - بالوقوف ضد كل أشكال التمييز الاجتماعي أو القانوني بين البشر (مساواة)، وطالبت بإطلاق كل الحريات لكل الناس (حرية)، ولكن في حدود قانون واحد يحكمهم ويحتكمون إليه دون تمييز، أو بتعبير الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكي لا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم»، فأصبح القانون هو الذي يجسد حقوق الإنسان في نهاية الأمر - حسب الرؤية الغربية - كما نادت الليبرالية بأقل قدر ممكن من القيود التي قد يفرضها المجتمع على تصرفات الأفراد (فردية منهجية).
وتوج ذلك بإصدار الغرب، المنتصر عام 1948م والمتأثر بما أشيع عن حجم المذابح التي تعرض لها اليهود في هذه الحرب، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بموافقة 48 دولة وامتناع 8 دول عن التصويت - معظمها من دول ما كان يسمى بالكتلة الاشتراكية، ثم تلاه مواثيق وعهود دولية متعددة لحقوق الإنسان، وقد جاء هذا الإعلان مهملاً لقيم لا يزنها الغرب بميزان الحقوق (حق الارتباط الأسري، حق الجوار، حق المسافر «ابن السبيل».. إلخ)، وفي الوقت نفسه: مارس - وما يزال - فرض وجهة نظره في هذه الحقوق على المجتمعات الضعيفة بلا أدنى مراعاة لحرية الاختيار وحق الاختلاف، حيث يرى الغرب في كل زمن وصوله إلى مرحلة النضج والكمال في هذا الزمن، ويرى تخلف غيره من المجتمعات، ويرى أن عليه رسالة سامية، هي (تحضير) هذه المجتمعات المتخلفة بفرض رؤيته (الحضارية) عليها.
وهكذا نرى أن ملامح الإطار الفكري والفضاء القيمي الذي خرجت منه الحريات والحقوق في الغرب تتمثل في أن:
1 - العقل المجرد هو مرجعية هذا الحقوق والحريات، حتى وإن اقتبس هذا العقل بعض قيم الدين ـ كما في تأثر الليبرالية بالبروتستانتية ـ فإن العقل المجرد يبقى هو الحاكم على هذه القيم بالرفض والقبول.
2 - العلمانية (فصل الدين عن الحياة وعن الدولة) هي المنهجية التي تنتظم فيها هذه الحقوق والحريات.
3 - (الحرية) و (المساواة) هما أعلى قيم المجتمع التي تخضع لها وتنتظم معها قيم المجتمع الأخرى، فهما (ثوابت) و (مقدسات) لا يمكن المساس بهما.
4 - إعلاء قيمة (الفرد) ومصالحه مقابل تقليص دور المجتمع ومصالحه.
وعلى هذه الأسس نستطيع رد الأحداث الجزئية إلى أصولها وتفسيرها تفسيراً منطقياً:
ففي الغرب يحق لأي شخص اعتناق الدين الذي يروق له سواء أكان سماوياً أو غير سماوي أو أن يكون ملحداً أو أن يغير دينه (انظر: المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)؛ لأن ذلك يدخل في إطار حق (حرية الاعتقاد)، وهو حق (شخصي / فردي) لا يجوز التدخل فيه. وواضح هنا أن تصور (الاعتقاد، أو الدين) جاء منسجماً مع النظرة العلمانية الغربية للدين التي تفصل بين الدين والحياة؛ فالدين عندهم لا علاقة له بالعقل ـ أي: لا يوزن بمعيار الصحة والخطأ ـ أو بنظام المجتمع، ولكنه عاطفة أو ضمير يكنه الشخص داخل نفسه فقط.
وعلى ذلك: فلو أن شخصاً ما كان من دينه الذي (يعتقده) إباحة تعدد الزوجات مثلاً وأراد ممارسة ذلك فإن الدولة تتدخل لـ (تقييد) هذه الحرية وتمنعه من ذلك؛ لأن تلك الممارسة خارجة عن حقه في (حرية الاعتقاد)؛ إذ إنها خرجت عن إطار (العاطفة والضمير الشخصي)، ولأن في ذلك خرقاً للقانون وللعقد الاجتماعي وللنظام الذي ارتضاه معظم الأفراد (فصل الدين عن الحياة)، ولأن فيه تعدياً على حقوق أفراد آخرين (المرأة، حتى ولو كانت راضية) حسب زعمهم، ولكن في الوقت نفسه: يباح لهذا الشخص معاشرة نساء أخريات خارج إطار الزوجية، ما دام ذلك يتم برضاهن ـ حتى لو كان ذلك مخالفاً لدينه الذي ينتسب إليه - لأن في ذلك إشباعاً لحاجات غريزية يمارسها أفراد بمقتضى (حريتهم) الشخصية التي لم يقيدها القانون؛ فالمسلم في هذه البلاد يستطيع أن (يعتقد) و (يعبر) بحرية عما يعتقد ـ وذلك افتراضاً؛ فتداعيات أحداث سبتمبر كشفت قشرة التجمل الديمقراطية ـ ولكنه لا يستطيع أن يمارس بالحرية نفسها تطبيق ما يعتقده ويعبر عنه (تأمل أيضاً قضية حجاب الفتيات المسلمات في فرنسا، ومنع الذبح الشرعي في أكثر من دولة أوروبية، ومصادرة كتب إسلامية لأكثر من كاتب في أحد معارض الكتب بباريس «عاصمة النور!»، وتأمل معها في الوقت نفسه: الموقف من سلمان رشدي وأمثاله).
وفي الغرب رُفعت قضايا عديدة ضد أكثر من مفكر وكاتب ومؤرخ لمجــرد أنه (عبــر عن رأيه) بالتشكــيك في محارق النــازية لليهــود (الهولوكــست) نفياً لوجودها أو تقليلاً من عدد ضحاياها، وقد كانت حجج اليهود أن في ذلك معاداة للسامية، وهي عنصرية تعمل على إشاعة الكراهية ومضادة (الإخـاء) و (المسـاواة)، وهي (ثوابت) و (مقدسات) في المجتمع الغربي، يجب المحافظة عليها حتى ولو اقتضى ذلك تقييد (حرية الرأي) ومصادرة (حرية التعبير) لأفراد مفكرين، يمكن أن يكون مآلهم السجن (عكس الحرية تماماً) أو الحكم بالغرامة المالية، بـدلاً من تشـجيعهم عـلى البــحث الحــر والرأي الحر.
في الغرب يقوم نظام الحكم على الديمقراطية (وهي من أكبر عمليات النصب الفكري في التاريخ، ولهذا حديث آخر) التي قوامها القبول بالتعددية، وضماناً لإعمال هذا المبدأ تقوم أنظمة الحكم الغربية بإطلاق (حرية تكوين الأحزاب السياسية والتكتلات) ومع ذلك نجد أن بعض هذه الدول تشترط عدم خروج الأحزاب على بعض المبادئ الأساسية في المجتمع (تقييد هذا الحق وتوجيهه) فلا تسمح بقيام حزب جمهوري في بلد ملكي، أو قيام حزب ملكي في بلد جمهوري، أو قيام حزب انفصالي في بلد اتحادي، أو قيام حزب شيوعي في بلد رأسمالي (كما في أمريكا مثلاً)، أو قيام حزب نازي أو فاشي في بلد ليبرالي - وخاصة ألمانيا وإيطاليا - ولو حدث اختراق لبعض هذه الشروط والقيود تحت مسميات ومظلات أخرى فإن العقوبات تكون بالمرصاد لهذا الاتجاه ولزعيمه ولبلده، وحالة حزب الحرية (القومي النمساوي) وزعيمه (يورج هايدر) ليست ببعيدة.
وأسباب ذلك التقييد والتضييق قريبة من الأسباب المذكورة في النقطة السابقة.
وباختصار: ماذا لو خرج في الغرب ـ مِن منطلق الحريات ـ مَن يطالب بهدم (ثابت) الحرية (المقدسة) وإسقاطه؟ الرد الفوري الجاهز من أنصار الحرية سيكون الشعار المعروف: (لا حرية لأعداء الحرية) بدعوى أن هؤلاء (سيستخدمون الحرية لقتل الحرية).
وبالطبع فإنهم لا يعدون هذه القيود انتقاصاً للحقوق والحريات، بل يعدونها حماية لهذه المكتسبات التي أصبحت ثوابت (مقدسة) وضبطاً لها؛ حتى لا تتحول إلى فوضى يضيع معها نظام المجتمع.
بعد أحداث سبتمبر 2001، وتحديداً في عام 2003م، وضمن جهود أمريكا لرسم خريطة التغيير المزمع اتباعها في العالم الإسلامي، نشرت مؤسسة (راند) الأميركية تقريراً استراتيجيّاً بعنوان (الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء، والموارد، والإستراتيجيات) للباحثة في قسم الأمن القومي (شيرلي بينارد)، وفي ربيع عام 2004م قامت الباحثة نفسها بنشر ملخص
ولمن لا يعرف مؤسسة (راند)، فهي مؤسسة نشأت بصفتها مركزاً للبحوث الإستراتيجية لسلاح الجو الأميركي، ثم تحولت بعد ذلك إلى مركز عام للدراسات الإستراتيجية الشاملة، ويعدها المحللون السياسيون بمثابة «العقل الاستراتيجي الأميركي».
تقرير الباحثة (بينارد) الذي اهتم بتقديم توصيات عملية لصاحب القرار الأمريكي، يتكون من تمهيد وثلاثة فصول وأربعة ملاحق وقائمة مراجع:
الفصل الأول عنوانه: «رسم خريطة للموضوعات: مقدمة لآفاق الفكر في الإسلام المعاصر»، ويناقش فيه الوضع الراهن من حيث المشكلات المشتركة والإجابات المختلفة، ويحدد مواقف التيارات الإسلامية إزاء عدد من الموضوعات الرئيسية، مثل: الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتعدد الزوجات، والعقوبات الجنائية والعدالة الإسلامية، وموضوع الأقليات، ولبس المرأة، والسماح للأزواج بضرب الزوجات.
أما الفصل الثاني فهو يمثل صلب التقرير، وعنوانه: «العثور على شركاء من أجل تطوير وتنمية الإسلام الديمقراطي»، وهو يتضمن تصنيف التيارات الإسلامية المعاصرة إلى أربعة: العلمانيين، والأصوليين، والتقليديين، والحداثيين؛ حيث يحدد السمات الرئيسية لكل تيار وموقفه من المشكلات المطروحة.
أما الفصل الثالث وعنوانه: «إستراتيجية مقترحة»، فهو يتضمن توصيات عملية موجهة لصانع القرار الأميركي لاستبعاد التيارات الإسلامية المعادية وتدعيم التيارات الإسلامية الأخرى، وخصوصاً ما يطلق عليه التقرير التيارات العلمانية والحداثية، ولأنها أقرب ما تكون إلى قبول القيم الأميركية وخاصة القيم الديمقراطية.
وتقرر (بينارد) أن الغرب يراقب بدقة الصراعات الإيديولوجية العنيفة داخل الفكر الإسلامي المعاصر، وتقول بالنص: «من الواضح أن الولايات المتحدة والعالم الصناعي الحديث والمجتمع الدولي ككل تفضل عالماً إسلامياً يتفق في توجهاته مع النظام العالمي، بأن يكون ديمقراطياً، وفاعلاً اقتصادياً، ومستقراً سياسياً، تقدمياً اجتماعياً، ويراعي ويطبق قواعد السلوك الدولي، وهم أيضاً يسعون إلى تلافي (صراع الحضارات) بكل تنويعاته الممكنة، والتحرر من عوامل عدم الاستقرار الداخلية التي تدور في جنبات المجتمعات الغربية ذاتها بين الأقليات الإسلامية والسكان الأصليين، في الغرب، وذلك تلافياً لتزايد نمو التيارات المتشددة عبر العالم الإسلامي، وما تؤدي إليه من عدم استقرار وأفعال إرهابية».
وبناء على هذه الدراسة المتعمقة يقدم التقرير عناصر أساسية لإستراتيجية ثقافية وسياسية مقترحة لفرز الاتجاهات الإسلامية الرئيسية التي يجملها التقرير في أربعة وهي: العلمانيون، والأصوليون، والتقليديون، والحداثيون. وفي ضوء هذا الفرز تشن الولايات المتحدة الأميركية حرباً ثقافية - إن صح التعبير - ضد الاتجاهات الإسلامية العدائية، وفي الوقت نفسه تصوغ إستراتيجية لدعم الاتجاهات الإسلامية القريبة من القيم الأميركية، مادياً وثقافياً وسياسياً؛ لمساعدتها في الاشتراك في ممارسة السلطة السياسية في البلاد العربية والإسلامية.
ومن هنا نفهم كلمات العنوان الفرعي للكتاب التقرير «شركاء، وموارد، وإستراتيجيات»، فكلمة (الشركاء) تشير إلى هؤلاء الفاعلين الإسلاميين الذين سيقبلون - لسبب أو لآخر - الاشتراك مع الجهود الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في عملية إعادة صياغة الأفكار الإسلامية، من خلال عملية إصلاح ديني لها خطوطها البارزة، والتي تصب في النهاية في استئصال الفكر المتطرف، مما سيؤدي بالضرورة إلى تجفيف «منابع الإرهاب»، أي: تحديد الشركاء الإسلاميين المناسبين، والعمل معهم لمكافحة التطرف والعنف و «الإرهاب»، وتشجيع قيم الديمقراطية على الطريقة الغربية الأميركية.
أما إشارة العنوان الفرعي إلى (الموارد) فمعناها ببساطة تخصيص ميزانيات ضخمة للإنفاق على المشروع، من خلال «وكلاء» يقومون بمهمة تجنيد الأنصار ونشر الكتب وإصدار المجلات التي تحمل الفكر الإصلاحي الإسلامي الجديد.
وتبقى كلمة (الإستراتيجيات) الواردة في العنوان الفرعي للكتاب، وهي تشير بكل بساطة إلى الإستراتيجية التي تقترحها الباحثة لشن حرب ثقافية ضد التيارات الأصولية الإسلامية من ناحية، والتعاون الفعال مع عناصر من التيارات العلمانية والحداثية والتقليدية الإسلامية من ناحية أخرى.
ومن الملفت للنظر أن الباحثة الأميركية ـ التي لا تتردد في وصف مهمة كتابها التقرير بأنه إسهام في عملية «إعادة بناء الدين الإسلامي Religion Building» ـ أفردت ملحقاً خاصاً لمناقشة (السنة النبوية) والتي تتمثل في الأحاديث، وقررت أنه من الضروري تنقية هذه الأحاديث؛ لأن بعضها يستخدم كأساس للفتاوى الدينية التي تستند إليها الجماعات الإسلامية المتطرفة في كراهية الآخر والهجوم على الغرب سياسة وثقافة.
لم يمض وقت طويل على هذا التقرير حتى تولى مركز ابن خلدون الذي يديره د. سعد الدين إبراهيم تنفيذ التوصيات الأميركية الخاصة بالإسهام في (إعادة بناء الدين الإسلامي) بما يتفق مع القيم الأميركية، ونظم في القاهرة مؤتمراً ـ مولته أمريكا حسماً من المعونة الأمريكية لمصر ـ موضوعه (الإسلام والإصلاح)، بمشاركة 20 باحثاً من جنسيات عربية وأوروبية وأميركية، بالتنسيق مع ثلاثة مراكز بحثية دولية، وقد صدر بيان عن المؤتمر ذكر فيه أنه تبنَّى الدعوة إلى «إعادة صياغة نسق معرفي جديد للفكر الإسلامي ومراجعة التراث الإسلامي مراجعة جذرية، والتصدي لأفكار المؤسسات التي تحتكر الحديث باسم الدين، ومواجهة وتفنيد مقولات ورؤى وأفكار التيارات الدينية المتطرفة، وتكثيف الحوار مع القوى المعتدلة والمستنيرة في المجتمعات الغربية عامة والمجتمع الأميركي خاصة، وأهمية إدماج الحركات الإسلامية في العملية الديمقراطية، وتمكين الحركات المعتدلة من حق الوجود السياسي إذا قبلت بالديمقراطية كخيار إستراتيجي، وأقرت بالمبادئ الأساسية التي تقوم عليها قيم المجتمع المدني والدولة المدنية الحديثة، وضرورة إجراء حوار عام موسع مع تيارات الإسلام السياسي السلمي».
غير أن أخطر توصية تبناها المؤتمر: دعوته إلى تنقية التراث الديني من الحديث النبوي الشريف، والاعتماد فقط على نصوص القرآن الكريم كمرجعية وحيدة، والتصدي لأفكار المؤسسات التي تحتكر الحديث باسم الدين وإيجاد مدرسة اجتهاد جديدة في القرن الحالي.
وقد قوبلت توصيات المؤتمر التي أعلنت في مؤتمر صحفي في نهايته باعتراضات عنيفة من الحضور وبعض الصحف المصرية، والتي أفاضت في ذكر الهجوم العنيف على منظم المؤتمر والمشاركين فيه، واتهامهم المباشر بالعمالة لأمريكا.
معظم ما سبق هو مقتطفات منسقة من مقالات نشرت في الفترة من 15/7 إلى 5/8/2004م، و 5/10/2004م، بجرائد الأهرام المصرية والنهار اللبنانية وملحق (وجهات نظر) من الاتحاد الإماراتية، للكاتب (السيد ياسين)، وهو كاتب غير متهم بالتطرف أو الأصولية، بل على العكس يصنفه كثيرون على أنه يقف في الخندق المواجه للتيار الإسلامي.
وبحسب الكاتب نفسه في المقالات نفسها: فإن الاهتمام بما أطلق عليه (الصحوة الإسلامية) أكاديمياً وبحثيّاً لم يكن وليد الساعة، ولكنه ظهر واضحاً عام 1979م عقب نجاح الثورة الإيرانية، بَيْدَ أن الأب الحقيقي للتيار الأكاديمي الأميركي الذي حاول بعمق شديد ونادر تأصيل الليبرالية الإسلامية، هو عالم السياسة الأميركي المعروف (ليونارد بايندر) في كتابه (الليبرالية الإسلامية: نقد للأيديولوجيات التنموية) الصادر عام 1988م عن دار نشر مطبعة جامعة شيكاغو.
ومن الأهمية بمكان في سبيل إيضاح الفكرة الجوهرية التي يقوم عليها تيار الليبرالية الإسلامية كما صاغ منطلقاته الباحثون في دراساتهم، أن نعتمد على ما قرره بايندر نفسه في شرحه لخطة كتابه، وهو يقول: «المحور الأساسي للكتاب هو دراسة العلاقة بين الليبرالية الإسلامية والليبرالية السياسية، وهو يضع في اعتباره الرأي الذي مؤداه أن العلمانية تنخفض معدلات قبولها، ومن المستبعد أن تصلح كأساس أيديولوجي لليبرالية السياسية في الشرق الأوسط، ويتساءل الكتاب عما إذا كان من الممكن بلورة ليبرالية إسلامية، ويخلص إلى أنه بغير تيار قوي لليبرالية الإسلامية فإن الليبرالية السياسية لن تنجح في الشرق الأوسط، بالرغم من ظهور دول بورجوازية».
وبعد أن يرصد (الأستاذ ياسين) بعض التطورات الفكرية والتحركات السياسية لبعض القوى الإسلامية، يقول:
وهكذا يمكن القول إن الاهتمام المبكر لعالم السياسة الأميركية (ليونارد بايندر) بالليبرالية الإسلامية منذ عام 1988م(1)، قد فتح باباً للاجتهاد الأميركي أدى من بعد - من خلال عملية تراكمية معرفية معقدة ـ إلى أن يُصدر عالم السياسة الأميركي (رايموند ويليام بيكر) عام 2003م كتاباً ملفتاً للنظر عن الإسلاميين المستقلين في مصر، عنوانه (إسلام بلا خوف: مصر والإسلاميون الجدد)، نشرته جامعة هارفارد، وقد خصصه لدراسة أفكار أربعة من الكتاب الإسلاميين المعروفين، وهم: (أحمد كمال أبو المجد)، و (طارق البشري)، و (فهمي هويدي)، ومحمد سليم العوَّا.. ويضيف كاتب المقالات نفسه إلى هؤلاء الأربعة: الشيخ يوسف القرضاوي.
بالطبع لا يعني ذلك أن محاولات أمريكا والغرب عموماً لـ (ليبرة) الإسلام بدأت منذ هذا التاريخ، فقد أشار كاتب إسلامي كبير في خمسينيات وستينيات القرن الميلادي الماضي إلى خطورة (الإسلام الأمريكي) الذي تحاول الولايات المتحدة إيجاد موطئ قدم له في العالم الإسلامي، وقد أشرت في مقالات سابقة إلى محاولات الغرب الدؤوبة لإيجاد إسلام (بروتستانتي) لا يثير العداء للغرب ولا يستفز المسلمين، خاصة الجهود التي بذلت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين(2).
ورغم الهجمة الأمريكية الشرسة والضغوط الغربية الهائلة التي تهدف إلى تمرير هذه المشروعات في عالمنا الإسلامي، فإني لم أجد جديداً أو غريباً في هذه المساعي، اللهم إلا في حجم التوجه ومقدار تكثيف الجهود في فترة زمنية محددة، ولكن الجديد حقاً كان في محيطنا الداخلي، وأعني به: ظهور فئة تنتسب إلى التيار الإسلامي (العامل) يَسِمُ أفرادها أنفسهم بأنهم (إسلاميون ليبراليون).
ويبدو أن ضغوط الواقع الاستبدادي التسلطي، وضيق ـ أو اختناق ـ مساحات الحريات، وشيوع مناخات الأحادية والمصادرة... جعل كثيراً من أفراد هذه الفئة يسترقون السمع لأي دعوى حرية، حتى ولو كانت نابتة خارج إطارنا الإسلامي، حتى ولو كانت باسم (الليبرالية). كنت أستغرب ـ ولا يُستغرب ـ أحدهم وهو ينعت نفسه بأنه (إسلامي ليبرالي)، وكأنه يصف نفسه بأنه مسلم (شافعي)، أو (مالكي)، أو حتى (شيعي)، أو كأنه ينسب نفسه بأنه (مسلم إندونيسي) أو (مسلم مغربي)، كان لا يستهجن ذلك، في حين كانت كلماته تقرع أذني وكأنها (إسلامي ماركسي) أو (إسلامي بوذي) أو (إسلامي علماني).
ومع استبعادي لعمالة هذا الشخص وأمثاله ـ أو حتى وعيه ـ للمشروع الأمريكي السابق ذكره، فإني على قناعة بأن أحدنا لا يفهم الإسلام، أو لا يفهم الليبرالية، أو لا يفهمهما معاً، هذا إذا كان هذا الشخص جاداً وصادقاً في كلامه.
وإذا كان المقام لا يتسع لعرض جميع أبعاد هذا الموضوع، فسأكتفي هنا بعرض وجهة نظري في الفرق بين الإسلام والليبرالية في أصولهما ومنطلقاتهما وما يترتب على ذلك من فروق على نطاق التصورات أو التطبيقات.
ü الليبرالية والحريات.. الأصول والمنطلقات:
بداية فإنه لا يختلف أحد من الليبراليين (الأصوليين) على أن (الفكر الليبرالي) لا يقتصر على حقل الفكر السياسي، بل يمتد إلى ما هو أبعد منه، ليكوِّن فلسفة اجتماعية شاملة ترتبط بتوجهات محددة في مجالات الأخلاق وفلسفة العلم والقيم الاجتماعية والاقتصاد، إضافة إلى السياسة.
لقد لحق مفهوم الحرية ـ الذي ارتبط بالديمقراطية في المدن الإغريقية ـ تطور هائل من المدرسة الليبرالية، خصوصاً مع (جون لوك) في القرن السابع عشر؛ فالحرية في هذا المفهوم هي حرية الفرد، وهي الاعتراف له بمجال خاص لا يجوز التعدي عليه أو التدخل فيه؛ فالحرية هنا هي الاعتراف للفرد بحقوق طبيعية أو أساسية لا يجوز التعدي عليها ولو بموافقة الأكثرية: للفرد الحق في الحياة، في العقيدة، في التعبير، في الاجتماع، في الملكية، في التعاقد.. وهكذا لم يبق للحرية مفهوم إجرائي لاختيار الحكام، أو لأسلوب اتخاذ القرارات السياسية، بل أصبح للحرية مضمون حقوقي قانوني، هو الاعتراف بالحقوق الأساسية للإنسان باعتباره إنساناً.. وهذا هو المفهوم الليبرالي للحرية.
فعندما نتحدث عن الحرية فإننا قد نقصد أموراً مختلفة، ويمكن تلخيص هذه المفاهيم المتعددة تحت ثلاثة مفاهيم: هناك ما يمكن أن نطلق عليه (الحرية الجمهورية)، وهي تتطلب المشاركة في الحياة السياسية واختيار الحكام ومسؤولياتهم، وهي تقابل المفهوم المستقر للديمقراطية السياسية، وهذه تجد جذورها في الديمقراطيات الإغريقية أو ما يطلق عليه (كونستانت) الحرية بالمفهوم القديم.
وهناك من ناحية ثانية (الحرية الليبرالية) وهي تشير إلى الاعتراف بحقوق وحريات أساسية للأفراد لا يجوز الاعتداء عليها أو التعرض لها، وهي تقابل المفهوم الحديث للحرية عند (كونستانت) أو الحرية السلبية عند (برلين)، وهي أيضاً ما يقابل ما يعرف حديثاً بـ (حقوق الإنسان) الأساسية كما صدر عن منظمات الأمم المتحدة في وثائقها المتعددة.
وأخيراً هناك ما يمكن أن نطلق عليه (الحرية المثالية) أو الحريات الاقتصادية والاجتماعية؛ حيث يتعلق الأمر بضرورة تمكين الفرد من ممارسة حرياته، بتوفير حد أدنى من المستوى الاقتصادي وتقديم الخدمات الأساسية في التعليم والصحة والخدمات العامة»(1).
وإذا كان هذا الكلام يُظهر بعض الاختلاف في نظرة الليبراليين أنفسهم إلى (الحرية)، إلا أنه يوضح أننا لا نستطيع أن نفصل مسيرة الحريات الليبرالية عن مسيرة حقوق الإنسان في الغرب؛ إذ تتشابك وتتداخل المفاهيم في كليهما.
ينقسم الحديث عن الحقوق والحريات إلى شُعب عديدة: فهناك (حق المعرفة) و (حرية الإبداع) و (حرية الاعتقاد) و (حرية الرأي ) و (حرية التعبير)، و (حرية التعليم)، و (حرية الملكية)، و (الحرية الشخصيّة)، ويمكن أن يضاف إلى ذلك: (حق تكوين الأحزاب والتكتلات). وقد تنقسم بعض هذه الشعب إلى أقسام أو فروع متعددة، كما هو الحال بالنسبة للحرية الشخصيّة، التي تشمل: (حرية التنقل) و (حق الأمن) و(حرية المسكن)، ويعد بعض الباحثين (حرية الرأي) الأصل في هذه الشُّعَب والأقسام جميعاً، وليس من هدفنا في هذا المقال تناول هذه الحريات والحقوق تفصيلياً، بقدر ما يهمنا وضع إطار كلي نستطيع من خلاله فهم النسق الذي توضع فيه هذه الحريات والحقوق وكيفية فهم خريطة العلاقات بينها.
فمفهوم قيم (الحريات) و (حقوق الإنسان) اصطبغ بالخلفية الفكرية التي خرجت منها هذه الحقوق، وخضع للمنظومة القيمية العامة للمجتمع الذي نشأت فيه، وهو ما يختلف كلية عن الخلفية الإسلامية والمنظومة الإسلامية التي تحوي المفردات أو المصطلحات نفسها.
فمن المعروف أنه يختلف مفهوم كل مصطلح وطبيعة العلاقة بين القيمة التي يحملها وقيم المصطلحات الأخرى بحسب الإطار الفكري والفضاء القيمي الذي يسبح فيه هذا المصطلح، وعليه: لا نستطيع أن نختزل مفهوماً ما ونقتبسه من بيئته الفكرية والقيمية ثم نحاول إسقاطه على بيئة أخرى ومجتمع آخر له خلفيته الفكرية الخاصة ومنظومته القيمية المتمايزة.
من الملاحظ أن تبلور الليبرالية تزامن، في القرن السابع عشر الميلادي، مع ظهور الرأسمالية في أوروبا، عندما ظهرت حاجة الرأسماليين الصاعدين وقتها لإيجاد ذريعة أخلاقية وفكرية لحق تخزين الأموال الشخصية وكنزها، واعتقد المفكرون الليبراليون الأوائل بأنه لو خُلِّيَ العالم وسيره الطبيعي فإن المشكلات البشرية سوف تتجه تلقائياً نحو الحل، وأننا لو تركنا الأفراد يعملون وفق إرادتهم الخاصة، فإن ذلك سوف يحقق المساواة في المجتمع وكذلك الأخوة، ومن ثم: اعتقدوا أن عامة الناس يمكنهم اختيار الطريق المفضي إلى سعادتهم وراحتهم، وعليه: فلا تحتاج المسألة إلى افتراض تصور أو نظام يفرض عليهم من فوقهم، سواء من رجال الدين أو غيرهم؛ فالناس أنفسهم يمكنهم تعيين الحقوق والتكاليف التي يجب أن يستجيبوا لها بدون وجود سلطة عليا من خارجهم تفرض ذلك عليهم، وهذا ما تعرض للنقد حتى من مفكرين غربيين، كـ (تشارلز فرنكل) في كتابه (أزمة الإنسان الحديث)، ففي الحقيقة أن الغرب لم يلغِ المرجعية والسلطة بإطلاق، بل استبدل مرجعية بأخرى وسلطة بغيرها، بعد أن أزاح الدين عن ساحة التوجيه والتنظيم.
الغرب في نهضته استمد خلفيته الفكرية من الفكر الفلسفي اليوناني القائم على تقديس العقل - الذي أعلى من قيمته مرة أخرى مكتشفات عصر النهضة -، كما أن الغرب في نهضته كان خارجاً لتوه من سيطرة كنسية طاغية قائمة على تخلف علمي واستدلالي يورد الفيلسوف (فرانسيس بيكون) نموذجاً لها، فيقول: «وقع بحث ونقاش سنة 1432م، في مجمع من المجامع العلمية، حول عدد أسنان الحصان. لقد جرى التفتيش عن الإجابة عن هذا الموضوع في آثار العلماء السابقين، بيدَ أن ذلك لم يقدم أي نتيجة، وبعد أربعة عشر يوماً من التحقيق أبدى أحد الطلاب رأيه بالنظر إلى فم الحصان وعد أسنانه، لكن هذا الاقتراح تم التعاطي معه على أنه كفر، وأن قائله مستوجب للتأديب الشديد، وفي نهاية المطاف، وبعد عدة أيام من البحث والجدال، أعلن المركز العلمي عدم قابلية هذه المسألة للحل؛ نظراً لعدم ورودها في كتب القدماء، فأحس الغرب بأهمية الاستدلال العقلي وبتعطشه للتجربة الحسية التي حرمته منها الكنيسة، مهدراً أي طريق آخر للمرجعية المعرفية، وأصبح إثبات الحقائق أو نفيها مرهوناً بوقوع هذه الحقائق في دائرة نشاطاتنا العقلية وتجاربنا الحسية، وهذا معناه أنه لا يجوز الاعتراف بأي شيء اعترافاً مسبقاً؛ فكل شيء قابل للتجربة أو للتجزئة والتحليل العقلانيين.
وهذا ما أثر على نظرة الغرب إلى (الدين) و (الغيبيات) وتصوراته عن الكون والإنسان والحياة عموماً؛ حيث إن الدين والغيبيات لا يمكن للعقل المجرد إدراك مسائلهما، وعليه: فهي نسبية وغير يقينية ولا يستطيع أحد الزعم بأحقية تصوره وإبطال تصور الآخرين، ولذا: فهي متروكة لاعتقاد كل فرد، ومن ثَم: ينبغي على كل إنسان أن يفسح المجال لاعتقادات الآخرين وأن يتسامح معهم في معتقداتهم؛ لأنها ببساطة متساوية مع اعتقاداته في نسبتها إلى الحقيقة، أو بالأحرى: في افتقارها إلى الحقيقة. وعندما صادروا الدين والغيبيات من دائرة العقل والحواس فإنهم وضعوهما في دائرة العواطف والضمير الإنساني، وهي الدائرة التي لا ينبغي لأحد أن يتدخل فيها أو يصادرها، وفي أقصى الافتراضات: فهي عاطفة تقوم على الإقناع وليس على الإلزام.. كما أثر ذلك على نظرة الغرب إلى كيفية بحث الإنسان عن أهدافه وغاياته وعن طرق الوصول إلى تحقيق هذه الأهداف والغايات.. كما أثر ذلك أيضاً في النظرة إلى الأخلاق، حيث لا توجد أخلاق مقدسة أو مؤبدة أو مطلقة؛ فالحُسن والسوء ليسا مطلقين ولا كليين، كما أن تحديد الخير والشر والحسن والقبح يختلف من إنسان إلى آخر، ومن ثَم: لا ينبغي أن تُفرض هذه الأخلاق من سلطة عليا أيّاً كانت. وإذا كان الأمر كذلك فإن السلوك الإنساني سيتحدد من خلال الرغبات والميول البشرية، وعندها سيكون الحَسَن هو ما يحبه الأفراد أنفسهم ويرغبون فيه، والقبيح والسيئ هو ما ينفر منه هؤلاء الأفراد ويتعارض مع الرغبات الإنسانية.
لم يكن هذا هو التأثير السلبي الوحيد للكنيسة على منظومة الغرب في حقوق الإنسان وحرياته؛ فلقد أدت نظرة الكنيسة إلى الإنسان على أنه يحمل خطيئة أبدية ورثها من أبيه آدم، أي: إنه مذنب بالأصالة حتى يخلصه المسيح، أدى ذلك إلى رد فعل عكسي عند الليبراليين تمثل في تمحورهم حول الإنسان، فهو البداية وهو النهاية وهو الغاية. وإذا نظرنا إلى هذا الإنسان وفق المنظور العقلي والحسي فإنه يتجرد من (الروح) ولا يبقى منه إلا الأبعاد الذاتية والنفعية، أي: الغرائز والشهوات والماديات.
والخلاصة: أن الغرب لم يُخرج تصوراته عن منظومته في حقوق الإنسان وحرياته - في الربع الأخير من القرن الثامن عشر - إلا بعد قطيعة حادة مع الدين ممثلاً في الكنيسة الكاثوليكية - التي أذعنت في النهاية لهذه القطيعة رافعة شعار (دعوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) - ثم تجسدت هذه القطيعة في أكبر تجلياتها على أرض الواقع عبر الثورة الفرنسية عام 1789م بشعارها الماسوني المثلث (حرية - مساواة - إخاء)، وهو الشعار الذي يعد أصل كافة حقوق الإنسان في المنظور الغربي، تأسيساً على أنها حقوق عامة تشمل جميع الأفراد بموجب (الحق الطبيعي) الذي يسبق جميع الثقافات والحضارات - حسب هذا الفكر - وعليه: صدر في العام نفسه (إعلان حقوق الإنسان والمواطن).
فواضح أن المرجعية في الغرب ـ بعد انقطاعه عن الكنيسة في مجالات الحياة ـ تحولت إلى العقل إضافة إلى الحس التجريبي، ومن هذه المرجعية انبثقت هذه الحقوق والحريات، مع مراعاة البعد الاقتصادي في تطور المجتمع الغربي آنذاك، وواضح أيضاً أن المنهجية التي تأسست عليها هذه الحقوق والحريات هي العلمانية.
وإذا رصدنا ترتيب الهرم القيمي الذي استقر عليه الغرب بناءً على هذه المرجعية وهذه المنهجية نجد أن (الحرية) و (المساواة) تتبوآن قمة هذا الهرم، وعليه: فتحقيق هاتين القيمتين - حسب المفهوم المستقر لديهم - له الأولوية المطلقة التي ينبغي أن تخضع له، أو تتقيد به، أو تنتظم معه قيم المجتمع الأخرى، ومن هنا: أصبحت (الحرية) و(المساواة) على رأس (الثوابت) و(المقدسات) التي لا يمكن المساس بهما، والتي يمكن - أيضاً - التضحية بالقيم الأخرى والحقوق الأخرى من أجل المحافظة عليهما.
وعلى هــذا الأسـاس انتظـمت (الحقوق) و (الحريات) و (العلاقات). ففي العلاقات بين الأفراد نجد أن (حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين)، وفي العلاقة بين الفرد والمجتمع برزت نظرية (العقد الاجتماعي) التي نضجت قبيل الثورة الفرنسية في فكر (جان جاك روسو)، والتي بمقتضاها يتنازل كل فرد في المجتمع عن بعض إطلاقات حقوقه وحرياته للجماعة التي ينتمي إليها، والتي تجسدها الدولة، مقابل (تنظيم) هذه الدولة لممارسة تلك الحقوق والحريات بين جميع الأفراد وحمايتها لها، وهكذا تحولت هذه الحقوق والحريات (الطبيعية) إلى حقوق (مدنية) لا يسمح بالخروج عليها؛ حيث تحميها سلطة المجتمع (الدولة)، وهو الأساس الذي قامت عليه الدولة الحديثة في الغرب.
وبانتشار الفلسفة التحررية (الليبرالية) واستقرارها في غرب أوروبا في القرن التاسع عشر.. أخذت الحريات والحقوق الفردية بُعداً جديداً، عندما أصبحت هذه الفلسفة هي الأساس النظري للتنظيم السياسي والاقتصادي والقانوني للمجتمعات الغربية، فنادت الليبرالية - في الفكر السياسي - بالوقوف ضد كل أشكال التمييز الاجتماعي أو القانوني بين البشر (مساواة)، وطالبت بإطلاق كل الحريات لكل الناس (حرية)، ولكن في حدود قانون واحد يحكمهم ويحتكمون إليه دون تمييز، أو بتعبير الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكي لا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم»، فأصبح القانون هو الذي يجسد حقوق الإنسان في نهاية الأمر - حسب الرؤية الغربية - كما نادت الليبرالية بأقل قدر ممكن من القيود التي قد يفرضها المجتمع على تصرفات الأفراد (فردية منهجية).
وتوج ذلك بإصدار الغرب، المنتصر عام 1948م والمتأثر بما أشيع عن حجم المذابح التي تعرض لها اليهود في هذه الحرب، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بموافقة 48 دولة وامتناع 8 دول عن التصويت - معظمها من دول ما كان يسمى بالكتلة الاشتراكية، ثم تلاه مواثيق وعهود دولية متعددة لحقوق الإنسان، وقد جاء هذا الإعلان مهملاً لقيم لا يزنها الغرب بميزان الحقوق (حق الارتباط الأسري، حق الجوار، حق المسافر «ابن السبيل».. إلخ)، وفي الوقت نفسه: مارس - وما يزال - فرض وجهة نظره في هذه الحقوق على المجتمعات الضعيفة بلا أدنى مراعاة لحرية الاختيار وحق الاختلاف، حيث يرى الغرب في كل زمن وصوله إلى مرحلة النضج والكمال في هذا الزمن، ويرى تخلف غيره من المجتمعات، ويرى أن عليه رسالة سامية، هي (تحضير) هذه المجتمعات المتخلفة بفرض رؤيته (الحضارية) عليها.
وهكذا نرى أن ملامح الإطار الفكري والفضاء القيمي الذي خرجت منه الحريات والحقوق في الغرب تتمثل في أن:
1 - العقل المجرد هو مرجعية هذا الحقوق والحريات، حتى وإن اقتبس هذا العقل بعض قيم الدين ـ كما في تأثر الليبرالية بالبروتستانتية ـ فإن العقل المجرد يبقى هو الحاكم على هذه القيم بالرفض والقبول.
2 - العلمانية (فصل الدين عن الحياة وعن الدولة) هي المنهجية التي تنتظم فيها هذه الحقوق والحريات.
3 - (الحرية) و (المساواة) هما أعلى قيم المجتمع التي تخضع لها وتنتظم معها قيم المجتمع الأخرى، فهما (ثوابت) و (مقدسات) لا يمكن المساس بهما.
4 - إعلاء قيمة (الفرد) ومصالحه مقابل تقليص دور المجتمع ومصالحه.
وعلى هذه الأسس نستطيع رد الأحداث الجزئية إلى أصولها وتفسيرها تفسيراً منطقياً:
ففي الغرب يحق لأي شخص اعتناق الدين الذي يروق له سواء أكان سماوياً أو غير سماوي أو أن يكون ملحداً أو أن يغير دينه (انظر: المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)؛ لأن ذلك يدخل في إطار حق (حرية الاعتقاد)، وهو حق (شخصي / فردي) لا يجوز التدخل فيه. وواضح هنا أن تصور (الاعتقاد، أو الدين) جاء منسجماً مع النظرة العلمانية الغربية للدين التي تفصل بين الدين والحياة؛ فالدين عندهم لا علاقة له بالعقل ـ أي: لا يوزن بمعيار الصحة والخطأ ـ أو بنظام المجتمع، ولكنه عاطفة أو ضمير يكنه الشخص داخل نفسه فقط.
وعلى ذلك: فلو أن شخصاً ما كان من دينه الذي (يعتقده) إباحة تعدد الزوجات مثلاً وأراد ممارسة ذلك فإن الدولة تتدخل لـ (تقييد) هذه الحرية وتمنعه من ذلك؛ لأن تلك الممارسة خارجة عن حقه في (حرية الاعتقاد)؛ إذ إنها خرجت عن إطار (العاطفة والضمير الشخصي)، ولأن في ذلك خرقاً للقانون وللعقد الاجتماعي وللنظام الذي ارتضاه معظم الأفراد (فصل الدين عن الحياة)، ولأن فيه تعدياً على حقوق أفراد آخرين (المرأة، حتى ولو كانت راضية) حسب زعمهم، ولكن في الوقت نفسه: يباح لهذا الشخص معاشرة نساء أخريات خارج إطار الزوجية، ما دام ذلك يتم برضاهن ـ حتى لو كان ذلك مخالفاً لدينه الذي ينتسب إليه - لأن في ذلك إشباعاً لحاجات غريزية يمارسها أفراد بمقتضى (حريتهم) الشخصية التي لم يقيدها القانون؛ فالمسلم في هذه البلاد يستطيع أن (يعتقد) و (يعبر) بحرية عما يعتقد ـ وذلك افتراضاً؛ فتداعيات أحداث سبتمبر كشفت قشرة التجمل الديمقراطية ـ ولكنه لا يستطيع أن يمارس بالحرية نفسها تطبيق ما يعتقده ويعبر عنه (تأمل أيضاً قضية حجاب الفتيات المسلمات في فرنسا، ومنع الذبح الشرعي في أكثر من دولة أوروبية، ومصادرة كتب إسلامية لأكثر من كاتب في أحد معارض الكتب بباريس «عاصمة النور!»، وتأمل معها في الوقت نفسه: الموقف من سلمان رشدي وأمثاله).
وفي الغرب رُفعت قضايا عديدة ضد أكثر من مفكر وكاتب ومؤرخ لمجــرد أنه (عبــر عن رأيه) بالتشكــيك في محارق النــازية لليهــود (الهولوكــست) نفياً لوجودها أو تقليلاً من عدد ضحاياها، وقد كانت حجج اليهود أن في ذلك معاداة للسامية، وهي عنصرية تعمل على إشاعة الكراهية ومضادة (الإخـاء) و (المسـاواة)، وهي (ثوابت) و (مقدسات) في المجتمع الغربي، يجب المحافظة عليها حتى ولو اقتضى ذلك تقييد (حرية الرأي) ومصادرة (حرية التعبير) لأفراد مفكرين، يمكن أن يكون مآلهم السجن (عكس الحرية تماماً) أو الحكم بالغرامة المالية، بـدلاً من تشـجيعهم عـلى البــحث الحــر والرأي الحر.
في الغرب يقوم نظام الحكم على الديمقراطية (وهي من أكبر عمليات النصب الفكري في التاريخ، ولهذا حديث آخر) التي قوامها القبول بالتعددية، وضماناً لإعمال هذا المبدأ تقوم أنظمة الحكم الغربية بإطلاق (حرية تكوين الأحزاب السياسية والتكتلات) ومع ذلك نجد أن بعض هذه الدول تشترط عدم خروج الأحزاب على بعض المبادئ الأساسية في المجتمع (تقييد هذا الحق وتوجيهه) فلا تسمح بقيام حزب جمهوري في بلد ملكي، أو قيام حزب ملكي في بلد جمهوري، أو قيام حزب انفصالي في بلد اتحادي، أو قيام حزب شيوعي في بلد رأسمالي (كما في أمريكا مثلاً)، أو قيام حزب نازي أو فاشي في بلد ليبرالي - وخاصة ألمانيا وإيطاليا - ولو حدث اختراق لبعض هذه الشروط والقيود تحت مسميات ومظلات أخرى فإن العقوبات تكون بالمرصاد لهذا الاتجاه ولزعيمه ولبلده، وحالة حزب الحرية (القومي النمساوي) وزعيمه (يورج هايدر) ليست ببعيدة.
وأسباب ذلك التقييد والتضييق قريبة من الأسباب المذكورة في النقطة السابقة.
وباختصار: ماذا لو خرج في الغرب ـ مِن منطلق الحريات ـ مَن يطالب بهدم (ثابت) الحرية (المقدسة) وإسقاطه؟ الرد الفوري الجاهز من أنصار الحرية سيكون الشعار المعروف: (لا حرية لأعداء الحرية) بدعوى أن هؤلاء (سيستخدمون الحرية لقتل الحرية).
وبالطبع فإنهم لا يعدون هذه القيود انتقاصاً للحقوق والحريات، بل يعدونها حماية لهذه المكتسبات التي أصبحت ثوابت (مقدسة) وضبطاً لها؛ حتى لا تتحول إلى فوضى يضيع معها نظام المجتمع.