حازم
02-25-2006, 01:41 AM
من كتاب الاسلام فى مواجهة الايديولجيات المعاصرة للدكتور عبد العظيم المطعنى ص 245
هذا المزعم هو قطب الرحى الشيوعى فقد بنوا عليه كل اوهامهم التى لغطوا بها طول حياتهم وما يزالون يلغطون لانهم لما توهموا ان المادة سابقة فى الوجود على الفكر نسبوا اليها كل ما فى حياة الكون فالانسان والحيوان والنبات من مخلوقات المادة والانسان هو الذى اخترع فكرة الايمان بالله والقيم الروحية والاخلاق والحياة الاخرة .
وما دامت المادة ازلية فهى –اذن- ابدية لا تفنى لان ما ليس له بداية فلن تكون له نهاية .
وبناء على هذا فليس وراء وجود المادة وجود بل هو وهم من الاوهام .
فانت ترى ان مزعم اسبقية المادة فى الوجود على الفكر هو قطب الرحى الشيوعى ومدار الامر كله عندهم .
وحين يثبت خصوم الشيوعية بطلان القول باسبقية المادة على الفكر فى الوجود فان البنيان الشيوعى ينهار فى لحظة على من بناه وخصوم الشيوعية من وجهة نظر البحث الموضوعى غير مطالبين بجديد يقولونه فى ابطال الشيوعية بعد اثبات كذب القول بان المادة سابقة على الفكر فى الوجود الا اذا ارادوا ان يرفعوا الانقاض المنهارة فوق رؤوس البناة !
الفكر نوعان :
واول ما نواجه به دعواهم ان المادة سابقة على الفكر فى الوجود وهى كما تقدم مرات اصل اصول مذهبهم اننا نقول لهم مجتمعين ومتفرقين من مات وهلك منهم ، ومن ما يزال حيا ياكل حيا ياكل كما تاكل الانعام والنار مثوى لهم .
نقول لهم : ان الفكر نوعان :
فكر سابق وفكر لاحق ، او بلغة الفلاسفة . فكر فاعل وفكر منفعل والشيوعيون على طريقتهم فى الهروب والمسخ فروا من احد نوعى الفكر واحتضنوا النوع الاخر .
فروا من الفكر السابق او الفاعل ، واحتضنوا الفكر اللاحق او المنفعل . ونحن نعرف لماذا فروا مما فروا منه ، ولماذا اقبلوا على ما اقبلوا عليه .
نعرف انهم فروا من الفكر السابق او الفكر الفاعل ، لانهم لو وقفوا امامه لما خطوا خطوة واحدة فى طريق الهاوية التى هووا اليها .
ونعرف انهم اقبلوا على الفكر اللاحق او المنفعل لانهم وجدوا فيه مركبا زلولا حملهم . وهم سكارى الى مملكة الشياطين واحلهم دار البوار .
نعم : ان الفكر نوعان:
سابق ولاحق ، او فاعل ومنفعل . وقد تمسك الشيوعيون فى استدلالهم على اسبقية المادة على الفكر بشواهد مما تثيره المادة بعد ايجادها من مشاعر وافكار فى الاذهان . وهذه هى الافكار اللاحقة للمادة او المنفعلة بها . استمدها الشيوعيون من الواقع الملموس المشاهد ، وهم فى استدلالهم هذا قد ابتعدوا عن الحقيقة وان كان مصدرهم جانبا من جوانب الواقع .
ونحن فى مواجهتنا لهذه الدعوى نتمسك باصل الحقيقة ونبدا من اول خطوة فى الطريق ونستمد ادلة ابطال دعواهم من جانب من جوانب الواقع . ولكنه الجانب الذى يجب على طالب الحق ان يبدا منه وهذا ما سنراه الان :
شواهد من الواقع تبطل دعوى الشيوعيين :
انت الان تقرا هذا الكلام المكون كل كلمة منه من حروف مسطورة على ورقة . والكلام من حيث هو رسم وتصوير مادة مرئية ، وكذلك هذه الورقة التى سطر هذا الكلام عليها . والكلمة عندما تقراها تثير عندك فكرة بلا محالة . ولكن الفكرة التى تثيرها الكلمة عند قارءتها ليست هى الفكرة الوحيدة المتعلقة بالمادة او الكلمة لان الكلمة كانت ثمرة لفكرة تقدمت بل ثمرة لافكار تقدمت عليها وكذلك مجموعة الكلمات التى تالف منها كلام مفيد طال او قصر ، لان الكلام هو الظل الخارجى للافكار واذا لم نتكلم ظل الفكر معانى نفسية مجردة لا يعلم ولا يحس به الا من تجول تلك المعانى فى نفسه .
اى ان الكلام سواء كان مقروءا او مسموعا يكتنفه نوعان من الفكر نوع تقدم عليه وهو النوع الفاعل المبدع الذى كان الكلام مسببا عنه وهو العملية النفسية التى جالت فى نفس المتكلم فصدر الكلام معبرا عنهها . وكان ظلالها وصدى ونوع تاخر عنه وهو المشاعر او الاثر الذى اثاره الكلام عند قراءته او سماعه فى ذهن القارىء . والسامع وهذا هو النوع المنفعل كان يثير فينا الكلام المقروء او المسموع مشاعر بهيجة سارة او حزينة مقبضة .
وكل من نوعى الفكر له صلة بالمادة ، ولكنها مختلفة من نوع الى نوع فالفكر السابق على المادة صلته بها صلة السبب بالمسبب او الفاعل بالمنفعل ولولا سبق هذا النوع من الفكر ما كانت المادة ولا الاثار المترتبة عليها والفكر اللاحق لوجود المادة له بها صلة ، وصلته بها صلة المسبب بالسبب او المنفعل بالفاعل او المعلول بالعلة .
فالفكر السابق هو سبب وجود المادة وفاعلها ولولاه لم يكن .
والفكر اللاحق هو مسبب عن وجود المادة ومفعل بها ولولاه لم يكن .
ومعنى هذا ان المادة نفسها والفكر اللاحق المثار بسببها كلاهما مسببان عن الفكر الفاعل الذى تقدم عليهما ولولاه لم تكن المادة ولا الفكر المثار عنها
ونستعين لايضاح اكثر بالعملية الاتية :
اذا رمزنا للفكر السابق على المادة ب (ا)
ورمزنا للمادة نفسها التى تسببت عنه بـ (ب)
ورمزنا للفكر اللاحق المثار عن المادة بـ (ج)
فان صلة (ب) بـ (ا) صلة المعلول بعلته او المفعول بفاعله او المسبب بسببه والمعلول لا يكون اذا لم تتقدم عليه علته ولو تقديما ذهنيا كحركة القلم الناشئة عن حركة اليد
اذن (ب) مدين فى الوجود ل (ا)
وصلة (ج) بـ (ب) مثل صلة (ب) بـ (ا) صلة المعلول بعلته . اذن (ج) مدين فى الوجود لـ (ب) ولولا (ب) لم يكن (ج)
وعلى هذا فان : (ب)و (ج) مدينان فى الوجود لـ (ا) ولو لم يكن (ا) لانتفى وجود (ب) واذا انتفى وجود (ب) لزم منه ضرورة انتفاء (ج) .
والخلاصة ان كل صورة مادية لها ثلاثة عناصر :
الفكر الفاعل المتقدم عليه . وهو الفكر المبدع الخلاق
والمادة نفسها من حيث هى مادة . وهى المبدعة المخلوقة
والفكر المنفعل لمتاخر عنها . وهو الفكر الثانوى التقليدى
والعنصر الاول هو الفكر السابق الفاعل الذى لولاه لما كانت الصورة المادية ولا الفكر الناشىء عنها .
والعنصر الثانى هو المادة نفسها .
والعنصر الثالث هو الفكر الناشىء عنها . اى ان الترتيب الوجودى بين عناصر الصورة المادية هكذا .
ا – ب – ج : بحيث لا يتقدم (ب) على (ا) ولا يتقدم (ج) على (ب) والا اختل التكوين او انعدم
ونسال الان هذا السؤال :
اى نوعى الفكر وقف عنده الشيوعيون ؟!
والجواب :
انهم وقفوا عند النوع الثانى من نوعى الفكر وترتيبه الوجودى هو الثالث فى تكوين الصورة المادية .
وهذا النوع الذى وقفوا –عنده- لا تاثير له فى عملية التكوين بل هو سالب دائما لانه منفعل او مفعول وليس بفاعل ولا مفعل .
وليس له وجود مستمر ، لانه يتحقق اذا حدثت صلة لحاسة من حواسنا بالمادة ، اما اذا كانت المادة معزولة عن صلة الحواس بها مع وجود المادة فلا وجود لهذا الفكر وتظل المادة اثرا من اثار الفكر الاول (الفاعل)
وهذا يبين لك فى وضوح ان الشيوعيين انما توقفوا عند فكر ميت لا صلة له بعميلة التكوين والايجاد وبنوا على هذا الاساس المنهار مبداهم القائل ان المادة سابقة على الفكر فى الوجود .
وها انتذا قد عرفت ان الفكر الذى كان ينبغى ان يستخدم فى الاستدلال هو الفكر الاول (الفاعل) ويترتب على هذا التحليل الواقعى العلمى الذى مر بك ان استدلال الشيوعيين ..... باطل باطل .... منهار منهار .
ومثال اخر
وقع بصرك على حديقة زاهية نسقت فيها الاشجار فى نظام بديع وجرت بين ربوعها انهار صغيرة يجرى فيها الماء الصافى اللون وفرشت ساحتها بالحشائش الخضراء وتدفقت خلالها نوافير الماء وازدانت بالازها ما بين ابيض واحمر واصفر . وفاح اريجها عبقا يزكى الانوف ويبعث البهجة والسرور فى النفس . فانت –لا شك- امام صورة مادية ساحرة وسرعان ما تعكس عليك اثارا ومشاعر طيبة من حيث ما فيها من نظام بديع ومناظر اخاذة تسبح بالنفس فى جو رحب فسيح . هذه الصورة المادية المبهجة ترجع الى العناصر الثلاثة التى مر بنا حديثها ...
تقدم عليها فكر كان السبب فى اخراجها على الصورة التى رايت ، فكم من خطط هندسية وضعت وهى افكار مجردة رسمت الصورة جزءا جزءا .
وكم من يد عملت فى تسوية الارض وتهيئتها وغرس الاشجار وتركيب الالات والاجهزة . والحديقة التى رايت كانت جنينا فى غيب الغيوب ثم تفاعلت الاسباب مع المسببات وخرجت الصورة من الفكر المجرد الى الصورة الحسية بكل ما فيها من اشكال والوان وتنسيق بديع . وصارت منبعا لانارة المشاعر المناسبة لدى من يشاهدها ويتاملها .
ولولا الفكرة الاولى ما كانت الثانية ولولا الفكرة الثانية ما كانت الثالثة ولولا الفكرة الاولى الفاعلة ما كانت الثانية المنفعلة ولا الثالثة المنفعلة دائما .
وانت خبير ان الشيوعيين يتمسكون بالفكرة الثالثة المنفعلة دائما وهى لا تاثير لها فى عملية التكوين بل هى اثر من اثاره .
اذن فالشيوعيون يقفون عند وجود واحد من الوجودات الثلاثة محددين الصلة بينه وبين الوجود الاوسط ضاربين عرض الحائط بالوجود الفاعل
اى انهم وقفوا عند تحديد الصلة بين (ب ، ج) والغوا وجود (ا) وهو اول خطوة فى عملية التكوين (ب ، ج) واسسوا على هذا التصور الفاسد اسبقية (ب) على (ا) ومن هنا بطل استدلالهم على مبدئهم .
وهكذا كل صورة من صور المادة حين تعكس على احدى حواسنا فان تلك المادة توسطت فكرين : فكر سابق هو فاعلها وفكر لاحق هو منفعل بها سواء كانت تلك المادة مما يرى او يذاق او يشم او يسمع او يلمس :
عمارة ضخمة ، سيارة ، خضرة طعام شهى ، رائحة طيبة ، صوت رخيم ، ملمس ناعم ، الى اخر ما يمكن تصوره من مدركات .
فالعمارة الضخمة : البديعة الصنع سبقها تصميم هندسى وهو فكر مجرد قبل رسمه على الورق ، صممه المهندس جزءا جزءا حتى صار وحدة كاملة .
وقد سبق ان رمزنا لهذا الفكر بـ (ا)
ثم برزت العمارة فى الوجود كثمرة لذلك الفكر فكان (ب)
ثم اثارت هذه العمارة مشاعر خاصة عند كل من راها فكان (ج)
والمعول عليه علما وعقلا وواقعا من هذه العناصر الثلاثة (ا-ب-ج) هو (ا) وحده ، لان فرض انتفائه يترتيب عليه انتفاء كل من (ب) و (ج) .
وبعد هذا الترويض والتحليل نصل الى هذا المبدا الذى يقر به العلم والعقل والواقع وهو :
ان الفكر اسبق فى الوجود من المادة :
وهذا المبدا يهدم من الاساس مبدا الشيوعيين القائل : ان المادة اسبق فى الوجود من الفكر
فهذا مبدا باطل لان العلم يبطله والعقل يقر بفساده والواقع يشهد بكذبه والدين يؤيد ما اجمع عليه العلم والعقل والواقع .
ولكن هل مبدؤنا الذى وصلناا ليه خالص الثبوت مائة فى المائة حتى هذه الخطوة من البحث ؟
والجواب :
ان هذا المبدا من حيث الحقيقة خالص الثبوت مائة فى المائة ز اما من حيث البحث الجدلى فما نزال امامنا شبهتان قد يتمسك بهما الخصوم ولابد من ازاحتهما عن الاعتراض او الاستدلال الذى قد يلجا اليه الخصم
الشبهة الاولى :
قد يقول الخصم ان صانع السيارة كان فى يده كتالوج قبل صنعها كما كان فى ذهنه صورة السيارة السابقة التى تقدم صنعها .
والمهندس الذى صمم العمارة الضخمة كان فى ذهنه عشرات بل مئات الصور لعمارات بالفعل . فكل من صانع السيارة وصانع العمارة حاكى نموذجا كان قد راه وارتسمت صورته فى مخيلته . اذن فالمادة هى السابقة على الفكر وليس الفكر هو السابق على المادة .
والجواب:
اننا لا نعتمد على الفكر الذى هو رد فعل لمادة سابقة وانما نعتمد على الفكر الذى لم تسبقه مادة . ففى مثال السيارة نحن لا نعتد بالفكر الذى انتج السيارة رقم اثنين او ثلاثة او الف فى ترتيب الموديلات وانما نعتد بالفكر الذى انتج اول سيارة فى الوجود فهو بلا نزاع فكر فاعل غير مسبوق بمادة قط اما الفكر الوسيط بين صنع صورة وصورة فلا نعتد به والاعتداد به ساقط عندنا وعند الخصوم على حد سواء.
وفى مثال العمارة الضخمة البديعة النظام نحن لا نعتد بالفكرة التى انشات اول مثال مادى فى الوجود من تلك الانواع التى ذكرنا طائفة منها.
اما الافكار الثوانى فلا يتعلق لنا بها غرض ولا نعتد بها وهذا هو المطلوب .
ومن الصور المادية ما لم يتكرر له مثال قبله ولا بعده . مثل الاهرامات التى انشاها الفراعنة القدماء فمم استوحى الفراعنة تلك الاشكال ؟ انها وليدة فكر غير مسبوق بمثال مادى ولم يتكرر لها مثال فى قوتها وضخامتها حتى الان . ومثل برج بيزا المائل انه وليد فكر غير مسبوق بمادة من نوعه ولم يتكرر له مثال .
اذن فالشبهة التى يتمسك بها الخصوم –هنا- ساقطة ولا تقدح فى صحة المبدا الذى توصلنا اليه .
الشبهة الثانية :
وللخصم ان يقول : انكم تتحدثون عن مادة وصنعة ونحن نتحدث عن مادة وصنعة غير التى اتخذتموها انتم طريقا للاستدلال .
انتم تتحدثون عن مادة او صورة مادية صنعها الانسان
ونحن نتحدث عن مادة او صورة مادية لم يصنعها الانسان
وانتم تتحدثون عن مادة صغيرة وصنعة صغيرة ونحن نتحدث عن مادة كبيرة هى الاصل وعن صنعة كبيرة وجدها الانسان وليس له عمل فيها بل هى عامللة فيه.
اذا قال الخصوم –الشيوعيون والعلمانيون- هذا قلنا لهم:
ان الذى تقولونه –الان- لم يكن مفاجئا لنا. بل له عندنا الف حساب وحساب وكنا واثقين كل الثقة ونحن نصوغ المبدا الحق الذى توصلنا اليه بعد تحليل صورة المادة الصغرى وهو:
ان الفكر اسبق من المادة فى الوجود : كنا واثقين بما ستقولون وواثقين ان قولكم هذا لن يؤثر فى صحة هذا المبدا لان قولكم هذا باطل –كذلك- بشهادة العلم واقرار العقل وحكم الواقع وتاييد الدين
واليكم البيان
اذا ابصرنا امامنا نارا موقدة ولكن فى حيز ضيق ثم ابصرنا على مسافة منها نارا موقدة ولكن على حيز واسع ممتد وعميق ومع اختلاف النارين فى المقدار فاننا –بناء على التجارب المخزنة فى اذهاننا- نثبت للنار الموقدة فى حيز ضيق نفس الخصائص التى نثبتها للنار الموقدة فى حيز واسع ممتد وعميق فكلتاهما جسم ملتهب مضىء محرق.
هذا هو حكم العلم والعقل والمواقع لان الشيئين اللذين بينهما تماثل تام من كل الخصائص الذاتية غير العارضة ما يثبت لاحدهما يثبت قطعا بالضرورة للاخر اذ لا مرجح لاحدهما على الاخر حتى يقع بينهما تفاوت ما.
وحين ناخذ قطعة من الحديد ونضعها فى النار فانها تلين وتمتد ويحمر لونها بعد ان كان داكنا .
وهذه التغيرات الذاتية يحدث لكل افراد الجنس او النوع مادامت الماهية والحقيقة واحدة.
واذا وضعنا مقدارا ما من الماء تحت درجة حرارة منخفضة فانه بعد فترة معينة من الزمن يتكثف ويصبح ثلجا ويزداد حجمه ويصفو لونه فاذا وضعناه تحت درجة حرارة مرتفعة انحلت كثافته وعاد الى السيولة مرة اخرى فاذا تركناه لمدة اطول تبخر شيئا فشيئا حتى لم يتبق منه شىء
وهذه التغيرات نعلم بالضرورة كذلك انها ستحدث لكل مقدار من الماء اذا وضعنها فى نفس الظروف المذكورة وليس حدوثها وقفا على المقدار الذى اجرينا عليه تلك التجارب لان الماء كله له طبيعة واحدة فما يثبت لبعضه يثبت لكله بهذا قضى العلم وشهد الواقع واقر العقل .
اذن فالاشياء المتماثلة تماثلا تاما فى الخصائص الذاتية فان ما يطرا على بعضها من العوارض يطرا ضرورة لكل شىء منها اذا اتحدت الظروف والمؤثرات التى حدثت فيها تلك التغيرات وهذا قانون لم يتخلف ولن يتخلف . سنة الله فى خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا.
ونعود فنربط بين ما مثلنا به الان وبين الاجابة على الشبهة الثانية التى من حق الخصوم ان يثيروها وهى :
ان تمثيلنا بصنعة البشر غير تمثيلهم بما ليس للبشر صنعة فيه وهو الكون بما فيه من ارض وسما وانهار وهواء ومعادن وافلاك فالعمارة الضخمة البديعة النظام والسيارة من قبيل المادة الصغرى والصنعة الكبرى .
فلنا ان من حق الخصوم ان يقولوا ان المادة الصغرى كتشييد العمارة الضخمة او صنع السيارة او بناء الاهرامات او برج بيزا المائل اذا سلمنا لكم ان الفكر فيها سابق على المادة فى الوجود فلن نسلم لكم بان المادة الكبرى (الكون او الطبيعة) قد سبقها فكر بل هى التى سبقت الفكر لانها كانت ولم يكن اسنان فلم يكن –اذن- فكر.
ابطال هذه الدعوى:
علمنا مما سبق ان ما يطرا على بعض افراد الجنس او النوع تحت ظروف ومؤثرات معينة يطرا بالضرورة على بقية افراد الجنس او النوع اذا وضع تحت تلك الظروف والمؤثرات. لا فرق بين صغيرها وكبيرها فما يخضع له اقل جزء يخضع له اكبر جزء منه والوحدة الكاملة التى تتكون من جميع الاجزاء .
وقد علمنا ان العقل والعلم والواقع هذه المصادر الثلاثة اجمعت على ان (العمارة المشيدة) وهى صورة مادية قد سبقها فكر صادر عن مفكر كان ذلك الفكر واحدا من اسباب تشييد العمارة وهى الصورة المادية المائلة امام العيان ويستحيل فى حكم العلم والعقل والواقع ان تكون تلك الصورة المادية قد اوجدت نفسها .
وللكون او الطبيعة صورة مادية كالعمارة المشيدة وان اختلفت الصورتان فى المقدار فانهما متحدتان متماثلتان فى الخصائص الذاتية فكل منهما :
مادة + صنعة = صورة مادية مائلة للعيان اما اختلاف الشكل فهو من العوارض الطارئة على المادة من حيث انها مادة ترى او تسمع او تلمس او تشم او تذاق .
وقد علمنا –يقينا- ان ما يخضع له اقل جزء من مادة متماثلة تماما فى الخصائص الذاتية يخضع له –ضرورة- كل اجزاء المادة او الوحدة الكلية المكونة من جميع الاجزاء .
والعمارة المشيدة هى صورة مادية صغيرة بالنسبة للكون كله وقد خضعت فى ايجادها لفكر سابق عليها صادر من مفكر ذى علم وارادة وقدرة .
وكذلك الكون كله وهو المادة الكبرى خاضع فى ايجاده لفكر سابق عليه من مفكر ذى علم وارادة وقدرة هذا هو حكم العقل والعلم والواقع وليس بعد هذه المصادر مصدر اخر –غير الدين- يحتكم اليه.
لان ما يخضع له جزء من المادة المتماثلة ينتقل الى جميع اجزاء ومن يفرق بين المتماثلين تمام التماثل فى الخصائص الذاتية فقد قال بما لم يصدقه احد .
وهنا يحق لنا ان نقول: ان المبدا الذى توصلنا اليه وهو ان الفكر اسبق من المادة فى الوجود . صحيح مائة فى المائة صحيح من حيث معطيات العلم . ومن حيث شواهد الواقع وصحيح من حيث اقرار العقل وصحيح من حيث ازالة كل الشبهات المؤثرة فى اثبات صحته . وصحيح من حيث يجىء الوحى الامين به وها نحن قد وقفنا على معطيات العلم وشواهد الواقع واقرارات العقل وسلامة المنهج البحثى المزيل لكل الشبهات.
هذا المزعم هو قطب الرحى الشيوعى فقد بنوا عليه كل اوهامهم التى لغطوا بها طول حياتهم وما يزالون يلغطون لانهم لما توهموا ان المادة سابقة فى الوجود على الفكر نسبوا اليها كل ما فى حياة الكون فالانسان والحيوان والنبات من مخلوقات المادة والانسان هو الذى اخترع فكرة الايمان بالله والقيم الروحية والاخلاق والحياة الاخرة .
وما دامت المادة ازلية فهى –اذن- ابدية لا تفنى لان ما ليس له بداية فلن تكون له نهاية .
وبناء على هذا فليس وراء وجود المادة وجود بل هو وهم من الاوهام .
فانت ترى ان مزعم اسبقية المادة فى الوجود على الفكر هو قطب الرحى الشيوعى ومدار الامر كله عندهم .
وحين يثبت خصوم الشيوعية بطلان القول باسبقية المادة على الفكر فى الوجود فان البنيان الشيوعى ينهار فى لحظة على من بناه وخصوم الشيوعية من وجهة نظر البحث الموضوعى غير مطالبين بجديد يقولونه فى ابطال الشيوعية بعد اثبات كذب القول بان المادة سابقة على الفكر فى الوجود الا اذا ارادوا ان يرفعوا الانقاض المنهارة فوق رؤوس البناة !
الفكر نوعان :
واول ما نواجه به دعواهم ان المادة سابقة على الفكر فى الوجود وهى كما تقدم مرات اصل اصول مذهبهم اننا نقول لهم مجتمعين ومتفرقين من مات وهلك منهم ، ومن ما يزال حيا ياكل حيا ياكل كما تاكل الانعام والنار مثوى لهم .
نقول لهم : ان الفكر نوعان :
فكر سابق وفكر لاحق ، او بلغة الفلاسفة . فكر فاعل وفكر منفعل والشيوعيون على طريقتهم فى الهروب والمسخ فروا من احد نوعى الفكر واحتضنوا النوع الاخر .
فروا من الفكر السابق او الفاعل ، واحتضنوا الفكر اللاحق او المنفعل . ونحن نعرف لماذا فروا مما فروا منه ، ولماذا اقبلوا على ما اقبلوا عليه .
نعرف انهم فروا من الفكر السابق او الفكر الفاعل ، لانهم لو وقفوا امامه لما خطوا خطوة واحدة فى طريق الهاوية التى هووا اليها .
ونعرف انهم اقبلوا على الفكر اللاحق او المنفعل لانهم وجدوا فيه مركبا زلولا حملهم . وهم سكارى الى مملكة الشياطين واحلهم دار البوار .
نعم : ان الفكر نوعان:
سابق ولاحق ، او فاعل ومنفعل . وقد تمسك الشيوعيون فى استدلالهم على اسبقية المادة على الفكر بشواهد مما تثيره المادة بعد ايجادها من مشاعر وافكار فى الاذهان . وهذه هى الافكار اللاحقة للمادة او المنفعلة بها . استمدها الشيوعيون من الواقع الملموس المشاهد ، وهم فى استدلالهم هذا قد ابتعدوا عن الحقيقة وان كان مصدرهم جانبا من جوانب الواقع .
ونحن فى مواجهتنا لهذه الدعوى نتمسك باصل الحقيقة ونبدا من اول خطوة فى الطريق ونستمد ادلة ابطال دعواهم من جانب من جوانب الواقع . ولكنه الجانب الذى يجب على طالب الحق ان يبدا منه وهذا ما سنراه الان :
شواهد من الواقع تبطل دعوى الشيوعيين :
انت الان تقرا هذا الكلام المكون كل كلمة منه من حروف مسطورة على ورقة . والكلام من حيث هو رسم وتصوير مادة مرئية ، وكذلك هذه الورقة التى سطر هذا الكلام عليها . والكلمة عندما تقراها تثير عندك فكرة بلا محالة . ولكن الفكرة التى تثيرها الكلمة عند قارءتها ليست هى الفكرة الوحيدة المتعلقة بالمادة او الكلمة لان الكلمة كانت ثمرة لفكرة تقدمت بل ثمرة لافكار تقدمت عليها وكذلك مجموعة الكلمات التى تالف منها كلام مفيد طال او قصر ، لان الكلام هو الظل الخارجى للافكار واذا لم نتكلم ظل الفكر معانى نفسية مجردة لا يعلم ولا يحس به الا من تجول تلك المعانى فى نفسه .
اى ان الكلام سواء كان مقروءا او مسموعا يكتنفه نوعان من الفكر نوع تقدم عليه وهو النوع الفاعل المبدع الذى كان الكلام مسببا عنه وهو العملية النفسية التى جالت فى نفس المتكلم فصدر الكلام معبرا عنهها . وكان ظلالها وصدى ونوع تاخر عنه وهو المشاعر او الاثر الذى اثاره الكلام عند قراءته او سماعه فى ذهن القارىء . والسامع وهذا هو النوع المنفعل كان يثير فينا الكلام المقروء او المسموع مشاعر بهيجة سارة او حزينة مقبضة .
وكل من نوعى الفكر له صلة بالمادة ، ولكنها مختلفة من نوع الى نوع فالفكر السابق على المادة صلته بها صلة السبب بالمسبب او الفاعل بالمنفعل ولولا سبق هذا النوع من الفكر ما كانت المادة ولا الاثار المترتبة عليها والفكر اللاحق لوجود المادة له بها صلة ، وصلته بها صلة المسبب بالسبب او المنفعل بالفاعل او المعلول بالعلة .
فالفكر السابق هو سبب وجود المادة وفاعلها ولولاه لم يكن .
والفكر اللاحق هو مسبب عن وجود المادة ومفعل بها ولولاه لم يكن .
ومعنى هذا ان المادة نفسها والفكر اللاحق المثار بسببها كلاهما مسببان عن الفكر الفاعل الذى تقدم عليهما ولولاه لم تكن المادة ولا الفكر المثار عنها
ونستعين لايضاح اكثر بالعملية الاتية :
اذا رمزنا للفكر السابق على المادة ب (ا)
ورمزنا للمادة نفسها التى تسببت عنه بـ (ب)
ورمزنا للفكر اللاحق المثار عن المادة بـ (ج)
فان صلة (ب) بـ (ا) صلة المعلول بعلته او المفعول بفاعله او المسبب بسببه والمعلول لا يكون اذا لم تتقدم عليه علته ولو تقديما ذهنيا كحركة القلم الناشئة عن حركة اليد
اذن (ب) مدين فى الوجود ل (ا)
وصلة (ج) بـ (ب) مثل صلة (ب) بـ (ا) صلة المعلول بعلته . اذن (ج) مدين فى الوجود لـ (ب) ولولا (ب) لم يكن (ج)
وعلى هذا فان : (ب)و (ج) مدينان فى الوجود لـ (ا) ولو لم يكن (ا) لانتفى وجود (ب) واذا انتفى وجود (ب) لزم منه ضرورة انتفاء (ج) .
والخلاصة ان كل صورة مادية لها ثلاثة عناصر :
الفكر الفاعل المتقدم عليه . وهو الفكر المبدع الخلاق
والمادة نفسها من حيث هى مادة . وهى المبدعة المخلوقة
والفكر المنفعل لمتاخر عنها . وهو الفكر الثانوى التقليدى
والعنصر الاول هو الفكر السابق الفاعل الذى لولاه لما كانت الصورة المادية ولا الفكر الناشىء عنها .
والعنصر الثانى هو المادة نفسها .
والعنصر الثالث هو الفكر الناشىء عنها . اى ان الترتيب الوجودى بين عناصر الصورة المادية هكذا .
ا – ب – ج : بحيث لا يتقدم (ب) على (ا) ولا يتقدم (ج) على (ب) والا اختل التكوين او انعدم
ونسال الان هذا السؤال :
اى نوعى الفكر وقف عنده الشيوعيون ؟!
والجواب :
انهم وقفوا عند النوع الثانى من نوعى الفكر وترتيبه الوجودى هو الثالث فى تكوين الصورة المادية .
وهذا النوع الذى وقفوا –عنده- لا تاثير له فى عملية التكوين بل هو سالب دائما لانه منفعل او مفعول وليس بفاعل ولا مفعل .
وليس له وجود مستمر ، لانه يتحقق اذا حدثت صلة لحاسة من حواسنا بالمادة ، اما اذا كانت المادة معزولة عن صلة الحواس بها مع وجود المادة فلا وجود لهذا الفكر وتظل المادة اثرا من اثار الفكر الاول (الفاعل)
وهذا يبين لك فى وضوح ان الشيوعيين انما توقفوا عند فكر ميت لا صلة له بعميلة التكوين والايجاد وبنوا على هذا الاساس المنهار مبداهم القائل ان المادة سابقة على الفكر فى الوجود .
وها انتذا قد عرفت ان الفكر الذى كان ينبغى ان يستخدم فى الاستدلال هو الفكر الاول (الفاعل) ويترتب على هذا التحليل الواقعى العلمى الذى مر بك ان استدلال الشيوعيين ..... باطل باطل .... منهار منهار .
ومثال اخر
وقع بصرك على حديقة زاهية نسقت فيها الاشجار فى نظام بديع وجرت بين ربوعها انهار صغيرة يجرى فيها الماء الصافى اللون وفرشت ساحتها بالحشائش الخضراء وتدفقت خلالها نوافير الماء وازدانت بالازها ما بين ابيض واحمر واصفر . وفاح اريجها عبقا يزكى الانوف ويبعث البهجة والسرور فى النفس . فانت –لا شك- امام صورة مادية ساحرة وسرعان ما تعكس عليك اثارا ومشاعر طيبة من حيث ما فيها من نظام بديع ومناظر اخاذة تسبح بالنفس فى جو رحب فسيح . هذه الصورة المادية المبهجة ترجع الى العناصر الثلاثة التى مر بنا حديثها ...
تقدم عليها فكر كان السبب فى اخراجها على الصورة التى رايت ، فكم من خطط هندسية وضعت وهى افكار مجردة رسمت الصورة جزءا جزءا .
وكم من يد عملت فى تسوية الارض وتهيئتها وغرس الاشجار وتركيب الالات والاجهزة . والحديقة التى رايت كانت جنينا فى غيب الغيوب ثم تفاعلت الاسباب مع المسببات وخرجت الصورة من الفكر المجرد الى الصورة الحسية بكل ما فيها من اشكال والوان وتنسيق بديع . وصارت منبعا لانارة المشاعر المناسبة لدى من يشاهدها ويتاملها .
ولولا الفكرة الاولى ما كانت الثانية ولولا الفكرة الثانية ما كانت الثالثة ولولا الفكرة الاولى الفاعلة ما كانت الثانية المنفعلة ولا الثالثة المنفعلة دائما .
وانت خبير ان الشيوعيين يتمسكون بالفكرة الثالثة المنفعلة دائما وهى لا تاثير لها فى عملية التكوين بل هى اثر من اثاره .
اذن فالشيوعيون يقفون عند وجود واحد من الوجودات الثلاثة محددين الصلة بينه وبين الوجود الاوسط ضاربين عرض الحائط بالوجود الفاعل
اى انهم وقفوا عند تحديد الصلة بين (ب ، ج) والغوا وجود (ا) وهو اول خطوة فى عملية التكوين (ب ، ج) واسسوا على هذا التصور الفاسد اسبقية (ب) على (ا) ومن هنا بطل استدلالهم على مبدئهم .
وهكذا كل صورة من صور المادة حين تعكس على احدى حواسنا فان تلك المادة توسطت فكرين : فكر سابق هو فاعلها وفكر لاحق هو منفعل بها سواء كانت تلك المادة مما يرى او يذاق او يشم او يسمع او يلمس :
عمارة ضخمة ، سيارة ، خضرة طعام شهى ، رائحة طيبة ، صوت رخيم ، ملمس ناعم ، الى اخر ما يمكن تصوره من مدركات .
فالعمارة الضخمة : البديعة الصنع سبقها تصميم هندسى وهو فكر مجرد قبل رسمه على الورق ، صممه المهندس جزءا جزءا حتى صار وحدة كاملة .
وقد سبق ان رمزنا لهذا الفكر بـ (ا)
ثم برزت العمارة فى الوجود كثمرة لذلك الفكر فكان (ب)
ثم اثارت هذه العمارة مشاعر خاصة عند كل من راها فكان (ج)
والمعول عليه علما وعقلا وواقعا من هذه العناصر الثلاثة (ا-ب-ج) هو (ا) وحده ، لان فرض انتفائه يترتيب عليه انتفاء كل من (ب) و (ج) .
وبعد هذا الترويض والتحليل نصل الى هذا المبدا الذى يقر به العلم والعقل والواقع وهو :
ان الفكر اسبق فى الوجود من المادة :
وهذا المبدا يهدم من الاساس مبدا الشيوعيين القائل : ان المادة اسبق فى الوجود من الفكر
فهذا مبدا باطل لان العلم يبطله والعقل يقر بفساده والواقع يشهد بكذبه والدين يؤيد ما اجمع عليه العلم والعقل والواقع .
ولكن هل مبدؤنا الذى وصلناا ليه خالص الثبوت مائة فى المائة حتى هذه الخطوة من البحث ؟
والجواب :
ان هذا المبدا من حيث الحقيقة خالص الثبوت مائة فى المائة ز اما من حيث البحث الجدلى فما نزال امامنا شبهتان قد يتمسك بهما الخصوم ولابد من ازاحتهما عن الاعتراض او الاستدلال الذى قد يلجا اليه الخصم
الشبهة الاولى :
قد يقول الخصم ان صانع السيارة كان فى يده كتالوج قبل صنعها كما كان فى ذهنه صورة السيارة السابقة التى تقدم صنعها .
والمهندس الذى صمم العمارة الضخمة كان فى ذهنه عشرات بل مئات الصور لعمارات بالفعل . فكل من صانع السيارة وصانع العمارة حاكى نموذجا كان قد راه وارتسمت صورته فى مخيلته . اذن فالمادة هى السابقة على الفكر وليس الفكر هو السابق على المادة .
والجواب:
اننا لا نعتمد على الفكر الذى هو رد فعل لمادة سابقة وانما نعتمد على الفكر الذى لم تسبقه مادة . ففى مثال السيارة نحن لا نعتد بالفكر الذى انتج السيارة رقم اثنين او ثلاثة او الف فى ترتيب الموديلات وانما نعتد بالفكر الذى انتج اول سيارة فى الوجود فهو بلا نزاع فكر فاعل غير مسبوق بمادة قط اما الفكر الوسيط بين صنع صورة وصورة فلا نعتد به والاعتداد به ساقط عندنا وعند الخصوم على حد سواء.
وفى مثال العمارة الضخمة البديعة النظام نحن لا نعتد بالفكرة التى انشات اول مثال مادى فى الوجود من تلك الانواع التى ذكرنا طائفة منها.
اما الافكار الثوانى فلا يتعلق لنا بها غرض ولا نعتد بها وهذا هو المطلوب .
ومن الصور المادية ما لم يتكرر له مثال قبله ولا بعده . مثل الاهرامات التى انشاها الفراعنة القدماء فمم استوحى الفراعنة تلك الاشكال ؟ انها وليدة فكر غير مسبوق بمثال مادى ولم يتكرر لها مثال فى قوتها وضخامتها حتى الان . ومثل برج بيزا المائل انه وليد فكر غير مسبوق بمادة من نوعه ولم يتكرر له مثال .
اذن فالشبهة التى يتمسك بها الخصوم –هنا- ساقطة ولا تقدح فى صحة المبدا الذى توصلنا اليه .
الشبهة الثانية :
وللخصم ان يقول : انكم تتحدثون عن مادة وصنعة ونحن نتحدث عن مادة وصنعة غير التى اتخذتموها انتم طريقا للاستدلال .
انتم تتحدثون عن مادة او صورة مادية صنعها الانسان
ونحن نتحدث عن مادة او صورة مادية لم يصنعها الانسان
وانتم تتحدثون عن مادة صغيرة وصنعة صغيرة ونحن نتحدث عن مادة كبيرة هى الاصل وعن صنعة كبيرة وجدها الانسان وليس له عمل فيها بل هى عامللة فيه.
اذا قال الخصوم –الشيوعيون والعلمانيون- هذا قلنا لهم:
ان الذى تقولونه –الان- لم يكن مفاجئا لنا. بل له عندنا الف حساب وحساب وكنا واثقين كل الثقة ونحن نصوغ المبدا الحق الذى توصلنا اليه بعد تحليل صورة المادة الصغرى وهو:
ان الفكر اسبق من المادة فى الوجود : كنا واثقين بما ستقولون وواثقين ان قولكم هذا لن يؤثر فى صحة هذا المبدا لان قولكم هذا باطل –كذلك- بشهادة العلم واقرار العقل وحكم الواقع وتاييد الدين
واليكم البيان
اذا ابصرنا امامنا نارا موقدة ولكن فى حيز ضيق ثم ابصرنا على مسافة منها نارا موقدة ولكن على حيز واسع ممتد وعميق ومع اختلاف النارين فى المقدار فاننا –بناء على التجارب المخزنة فى اذهاننا- نثبت للنار الموقدة فى حيز ضيق نفس الخصائص التى نثبتها للنار الموقدة فى حيز واسع ممتد وعميق فكلتاهما جسم ملتهب مضىء محرق.
هذا هو حكم العلم والعقل والمواقع لان الشيئين اللذين بينهما تماثل تام من كل الخصائص الذاتية غير العارضة ما يثبت لاحدهما يثبت قطعا بالضرورة للاخر اذ لا مرجح لاحدهما على الاخر حتى يقع بينهما تفاوت ما.
وحين ناخذ قطعة من الحديد ونضعها فى النار فانها تلين وتمتد ويحمر لونها بعد ان كان داكنا .
وهذه التغيرات الذاتية يحدث لكل افراد الجنس او النوع مادامت الماهية والحقيقة واحدة.
واذا وضعنا مقدارا ما من الماء تحت درجة حرارة منخفضة فانه بعد فترة معينة من الزمن يتكثف ويصبح ثلجا ويزداد حجمه ويصفو لونه فاذا وضعناه تحت درجة حرارة مرتفعة انحلت كثافته وعاد الى السيولة مرة اخرى فاذا تركناه لمدة اطول تبخر شيئا فشيئا حتى لم يتبق منه شىء
وهذه التغيرات نعلم بالضرورة كذلك انها ستحدث لكل مقدار من الماء اذا وضعنها فى نفس الظروف المذكورة وليس حدوثها وقفا على المقدار الذى اجرينا عليه تلك التجارب لان الماء كله له طبيعة واحدة فما يثبت لبعضه يثبت لكله بهذا قضى العلم وشهد الواقع واقر العقل .
اذن فالاشياء المتماثلة تماثلا تاما فى الخصائص الذاتية فان ما يطرا على بعضها من العوارض يطرا ضرورة لكل شىء منها اذا اتحدت الظروف والمؤثرات التى حدثت فيها تلك التغيرات وهذا قانون لم يتخلف ولن يتخلف . سنة الله فى خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا.
ونعود فنربط بين ما مثلنا به الان وبين الاجابة على الشبهة الثانية التى من حق الخصوم ان يثيروها وهى :
ان تمثيلنا بصنعة البشر غير تمثيلهم بما ليس للبشر صنعة فيه وهو الكون بما فيه من ارض وسما وانهار وهواء ومعادن وافلاك فالعمارة الضخمة البديعة النظام والسيارة من قبيل المادة الصغرى والصنعة الكبرى .
فلنا ان من حق الخصوم ان يقولوا ان المادة الصغرى كتشييد العمارة الضخمة او صنع السيارة او بناء الاهرامات او برج بيزا المائل اذا سلمنا لكم ان الفكر فيها سابق على المادة فى الوجود فلن نسلم لكم بان المادة الكبرى (الكون او الطبيعة) قد سبقها فكر بل هى التى سبقت الفكر لانها كانت ولم يكن اسنان فلم يكن –اذن- فكر.
ابطال هذه الدعوى:
علمنا مما سبق ان ما يطرا على بعض افراد الجنس او النوع تحت ظروف ومؤثرات معينة يطرا بالضرورة على بقية افراد الجنس او النوع اذا وضع تحت تلك الظروف والمؤثرات. لا فرق بين صغيرها وكبيرها فما يخضع له اقل جزء يخضع له اكبر جزء منه والوحدة الكاملة التى تتكون من جميع الاجزاء .
وقد علمنا ان العقل والعلم والواقع هذه المصادر الثلاثة اجمعت على ان (العمارة المشيدة) وهى صورة مادية قد سبقها فكر صادر عن مفكر كان ذلك الفكر واحدا من اسباب تشييد العمارة وهى الصورة المادية المائلة امام العيان ويستحيل فى حكم العلم والعقل والواقع ان تكون تلك الصورة المادية قد اوجدت نفسها .
وللكون او الطبيعة صورة مادية كالعمارة المشيدة وان اختلفت الصورتان فى المقدار فانهما متحدتان متماثلتان فى الخصائص الذاتية فكل منهما :
مادة + صنعة = صورة مادية مائلة للعيان اما اختلاف الشكل فهو من العوارض الطارئة على المادة من حيث انها مادة ترى او تسمع او تلمس او تشم او تذاق .
وقد علمنا –يقينا- ان ما يخضع له اقل جزء من مادة متماثلة تماما فى الخصائص الذاتية يخضع له –ضرورة- كل اجزاء المادة او الوحدة الكلية المكونة من جميع الاجزاء .
والعمارة المشيدة هى صورة مادية صغيرة بالنسبة للكون كله وقد خضعت فى ايجادها لفكر سابق عليها صادر من مفكر ذى علم وارادة وقدرة .
وكذلك الكون كله وهو المادة الكبرى خاضع فى ايجاده لفكر سابق عليه من مفكر ذى علم وارادة وقدرة هذا هو حكم العقل والعلم والواقع وليس بعد هذه المصادر مصدر اخر –غير الدين- يحتكم اليه.
لان ما يخضع له جزء من المادة المتماثلة ينتقل الى جميع اجزاء ومن يفرق بين المتماثلين تمام التماثل فى الخصائص الذاتية فقد قال بما لم يصدقه احد .
وهنا يحق لنا ان نقول: ان المبدا الذى توصلنا اليه وهو ان الفكر اسبق من المادة فى الوجود . صحيح مائة فى المائة صحيح من حيث معطيات العلم . ومن حيث شواهد الواقع وصحيح من حيث اقرار العقل وصحيح من حيث ازالة كل الشبهات المؤثرة فى اثبات صحته . وصحيح من حيث يجىء الوحى الامين به وها نحن قد وقفنا على معطيات العلم وشواهد الواقع واقرارات العقل وسلامة المنهج البحثى المزيل لكل الشبهات.