المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقتطفات من كتاب (( الإسلام .. ماهو ..؟ )) للدكتور مصطفى محمود



فكر
02-26-2006, 04:11 PM
الدين ... ما هو ؟؟

الدين ليس حرفة و لا يصلح لأن يكون حرفة .
و لا توجد في الإسلام وظيفة اسمها رجل دين .
و مجموعة الشعائر و المناسك التي يؤديها المسلم يمكن أن تؤدى في روتينية مكررة فاترة خالية من الشعور ، فلا تكون من الدين في شيء .

و ليس عندنا زي اسمه زي إسلامي .. و الجلباب و السروال و الشمروخ و اللحية أعراف و عادات يشترك فيها المسلم و البوذي و المجوسي و الدرزي .. و مطربو الديسكو و الهيبي لحاهم أطول .. و أن يكون اسمك محمدا أو عليا أو عثمان ، لا يكفي لتكون مسلما .

و ديانتك على البطاقة هي الأخرى مجرد كلمة .
و السبحة و التمتمة و الحمحمة ، و سمت الدراويش و تهليلة المشايخ أحيانا يباشرها الممثلون بإجادة أكثر من أصحابها .
و الرايات و اللافتات و المجامر و المباخر و الجماعات الدينية أحيانا يختفي وراءها التآمر و المكر السياسي و الفتن و الثورات التي لا تمت إلى الدين بسبب .

ما الدين إذن ... ؟!

الدين حالة قلبية .. شعور .. إحساس باطني بالغيب .. و إدراك مبهم ، لكن مع إبهامه شديد الوضوح بأن هناك قوة خفية حكيمة مهيمنة عليا تدبر كل شيء .
إحساس تام قاهر بأن هناك ذاتا عليا .. و أن المملكة لها ملك .. و أنه لا مهرب لظالم و لا إفلات لمجرم .. و أنك حر مسئول لم تولد عبثا و لا تحيا سدى و أن موتك ليس نهايتك .. و إنما سيعبر بك إلى حيث لا تعلم .. إلى غيب من حيث جئت من غيب .. و الوجود مستمر .

و هذا الإحساس يورث الرهبة و التقوى و الورع ، و يدفع إلى مراجعة النفس و يحفز صاحبه لأن يبدع من حياته شيئا ذا قيمة و يصوغ من نفسه وجودا أرقى و أرقى كل لحظة متحسبا لليوم الذي يلاقي فيه ذلك الملك العظيم .. مالك الملك .

هذه الأزمة الوجودية المتجددة و المعاناة الخلاقة المبدعة و الشعور المتصل بالحضور أبدا منذ قبل الميلاد إلى ما بعد الموت .. و الإحساس بالمسئولية و الشعور بالحكمة و الجمال و النظام و الجدية في كل شيء .. هو حقيقة الدين .
إنما تأتي العبادات و الطاعات بعد ذلك شواهد على هذه الحالة القلبية .. لكن الحالة القلبية هي الأصل .. و هي عين الدين و كنهه و جوهره .

و ينزل القرآن للتعريف بهذا الملك العظيم .. ملك الملوك .. و بأسمائه الحسنى و صفاته و أفعاله و آياته و وحدانيته .
و يأتي محمد عليه الصلاة و السلام ليعطي المثال و القدوة .
و ذلك لتوثيق الأمر و تمام الكلمة .
و لكن يظل الإحساس بالغيب هو روح العبادة و جوهر الأحكام و الشرائع ، و بدونه لا تعني الصلاة و لا تعني الزكاة شيئا .

و لقد أعطى محمد عليه الصلاة و السلام القدوة و المثال للمسلم الكامل ، كما أعطى المثال للحكم الإسلامي و المجتمع الإسلامي .. لكن محمدا عليه الصلاة و السلام و صحبه كانوا مسلمين في مجتمع قريش الكافر .. فبيئة الكفر ، و مناخ الكفر لم يمنع أيا منهم من أن يكون مسلما تام الإسلام .

و على المؤمن أن يدعو إلى الإيمان ، و لكن لا يضره ألا يستمع أحد ، و لا يضره أن يكفر من حوله ، فهو يستطيع أن يكون مؤمنا في أي نظام و في أي بيئة .. لأن الإيمان حالة قلبية ، و الدين شعور و ليس مظاهرة ، و المبصر يستطيع أن يباشر الإبصار و لو كان كل الموجودين عميانا ، فالإبصار ملكة لا تتأثر بعمى الموجودين ، كما أن الإحساس بالغيب ملكة لا تتأثر بغفلة الغافلين و لو كثروا بل سوف تكون كثرتهم زيادة في ميزانها يوم الحساب .

إن العمدة في مسألة الدين و التدين هي الحالة القلبية .
ماذا يشغل القلب .. و ماذا يجول بالخاطر ؟
و ما الحب الغالب على المشاعر ؟
و لأي شيء الأفضلية القصوى ؟
و ماذا يختار القلب في اللحظة الحاسمة ؟
و إلى أي كفة يميل الهوى ؟

تلك هي المؤشرات التي سوف تدل على الدين من عدمه .. و هي أكثر دلالة من الصلاة الشكلية ، و لهذا قال القرآن .. و لذكر الله أكبر .. أي أن الذكر أكبر من الصلاة .. برغم أهمية الصلاة .
و لذلك قال النبي عليه الصلاة و السلام لصحابته عن أبي بكر .. إنه لا يفضلكم بصوم أو بصلاة و لكن بشيء وقر في قلبه .

و بهذا الشيء الذي وقر في قلب كل منا سوف نتفاضل يوم القيامة بأكثر مما نتفاضل بصلاة أو صيام .
إنما تكون الصلاة صلاة بسبب هذا الشيء الذي في القلب .
و إنما تكتسب الصلاة أهميتها القصوى في قدرتها على تصفية القلب و جمع الهمة و تحشيد الفكر و تركيز المشاعر .

و كثرة الصلاة تفتح هذه العين الداخلية و توسع هذا النهر الباطني ، و هي الجمعية الوجودية مع الله التي تعبر عن الدين بأكثر مما يعبر أي فعل .
و هي رسم الإسلام الذي يرسمه الجسم على الأرض ، سجودا ، و ركوعا و خشوعا و ابتهالا ، و فناء .. يقول رب العالمين لنبيه :
(( اسجد و اقترب )) .
و بسجود القلب يتجسد المعنى الباطني العميق للدين ، و تنعقد الصلة بأوثق ما تكون بين العبد و الرب .

و بالحس الديني ، يشهد القلب الفعل الإلهي في كل شيء .. في المطر و الجفاف ، في الهزيمة و النصر ، في الصحة و المرض ، في الفقر و الغنى ، في الفرج و الضيق .. و على اتساع التاريخ يرى الله في تقلب الأحداث و تداول المقادير .

و على اتساع الكون يرى الله في النظام و التناسق و الجمال ، كما يراه في الكوارث التي تنفجر فيها النجوم و تتلاشى في الفضاء البعيد .

و في خصوصية النفس يراه فيما يتعاقب على النفس من بسط و قبض ، و أمل و حلم ، و فيما يلقى في القلب من خواطر و واردات .. حتى لتكاد تتحول حياة العابد إلى حوار هامس بينه و بين ربه طول الوقت ..
حوار بدون كلمات ..
لأن كل حدث يجري حوله هو كلمة إلهية و عبارة ربانية ، و كل خبر مشيئة ، و كل جديد هو سابقة في علم الله القديم .

و هذا الفهم للمشيئة لا يرى فيه المسلم تعطيلا لحريته ، بل يرى فيه امتدادا لهذه الحرية .. فقد أصبح يختار بربه ، و يريد بربه ، و يخطط بربه ، و ينفذ بربه .. فالله هو الوكيل في كل أعماله .
بل هو يمشي به ، و يتنفس به ، و يسمع به ، و يبصر به ، و يحيا به .. و تلك قوة هائلة و مدد لا ينفد للعابد العارف ، كادت أن تكون يده يد الله و بصره بصره ، و سمعه سمعه ، و إرادته إرادته .

إن نهر الوجود الباطني داخله قد اتسع للإطلاق .. و في ذلك يقول الله في حديثه القدسي :
(( لم تسعني سماواتي و لا أرضي و وسعني قلب عبدي المؤمن )) .
هذا التصعيد الوجودي ، و العروج النفسي المستمر هو المعنى الحقيقي للدين .. و تلك هي الهجرة إلى الله كدحا .
(( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه )) .
و لا نجد غير الكدح كلمة تعبر عن هذه المعاناة الوجودية الخلاقة ، و الجهاد النفسي صعودا إلى الله .

هذا هو الدين .. و هو أكبر بكثير من أن يكون حرفة أو وظيفة أو بطاقة أو مؤسسة أو زيا رسميا .

فكر
02-26-2006, 04:15 PM
الصلاة

آخر صيحة في أمريكا الآن موضة جديدة اسمها ( Transendental Meditation ) و ترجمتها الحرفية هي الاستغراق التأملي المتجرد .. و هي موضة وافدة من الهند و بدعة من بدع اليوجا .. و قد لاقت نجاحا مكتسحا في المجتمع الأمريكي شأنها شأن كل البدع الجديدة ، و وضعت فيها الكتب و المؤلفات ، و أقيمت المؤتمرات و أصبح لها رسل و دعاة و مبشرون ينطلقون إلى القارات الأربع و معهم الكتب و النشرات للدعوة للمذهب .. و قد التقيت بأحد هؤلاء المبشرين في نادي الجزيرة يحاول أن يدعو لمذهبه .

و المذهب في اختصار شديد يدعو كل منا إلى أن يخصص بضع دقائق من يومه يطرح فيها عن نفسه كل الشواغل ، و يلقي عن باله كل الهموم و يستلقي في استرخاء كامل على كرسي و قد أغمض عينيه و تجرد عن كل شيء حتى عن نفسه يلقيها هي الأخرى وراء ظهره ، و يخرج من جلده إلى حالة من الخلوص و المحو و اللاشيء .. إلى راحة العدم ..

و يختار المبشر لكل واحد من أتباعه تسبيحة يرددها .. هي في العادة كلمات سنسكريتية لا تعني بالنسبة للمريد أي شيء .. و سوف تعاون هذه التسبيحة المريد على أن يخرج من نفسه أكثر ، و يتجرد من عالمه و يخرج من حضرة الهم و الغم و التوتر إلى حضرة أخرى مجردة تكون فيها راحته و خلاصه .

إنها دعوة إلى نوع من السكتة العقلية التي تأخذ فيها النفس راحة و إجازة من معاناتها .. و رأيت مع المبشر كتبا و منشورات و بحوثا علمية و إحصائيات تؤكد شفاء الكثيرين من ضغط الدم و الذبحة و اضطراب الهرمونات و الصداع المزمن بعد مباشرة هذه الجلسات لمدة شهور .

و في أحد هذه البحوث كان الطبيب يتابع ضغط دم المريض في أثناء جلسة الاسترخاء فتسجل الأجهزة انخفاض الضغط انخفاضا ملحوظا مع هبوط في تسارع النبض مع تغير في أخلاط الدم الكيميائية في اتجاه المزيد من التوازن .

و في جلسة طويلة مع المبشر قال لي أنه ألقى عدة محاضرات في النادي مع تمارين توضيحية تشرح مذهبه .. و لكنه اشتكى من عدم التجاوب بين المستمعين و أنه لم يلاق الصدى و النجاح الذي توقعه .
و قلت له إن هذا أمر طبيعي و متوقع .. فما تقوله و ما تبشر به ليس أمرا جديدا على أسماعنا .. بل إننا نباشر هذه التمارين بالفعل كمسلمين خمس مرات في اليوم .. فهي جزء من صلاتنا الإسلامية التي أمرنا بها نبينا عليه الصلاة و السلام ..

فالصلاة عندنا تبدأ بهذا الشرط النفسي .. أن يتجرد المصلي تماما من شواغله و همومه ، و أن يطرح وراءه كل شيء ، و أن يخرج من نفسه و ما فيها من أطماع و شهوات و خواطر و هواجس هاتفا .. الله أكبر .. أي أكبر من كل هذا و يضع قدمه على السجادة في خشوع و استسلام كامل و كأنما يخرج من الدنيا بأسرها ..

و لكن صلاتنا تمتاز على التمرين الذي تبشر به .. بأنها ليست خروجا من دنيا التوتر و القلق إلى عالم المحو الكامل و راحة العدم .. بل هي خروج إلى الحضرة الإلهية .. إلى حضرة الغنى المطلق .. و نحن لا نستعين بتسابيح و طلاسم سنسكريتية لا معنى لها ، و إنما نسبح بأسماء الرحمن الرحيم مالك يوم الدين لنتمثل في قلوبنا تلك الحضرة الإلهية الجمالية التي ليس كمثلها شيء .

و قلت له إن صلاتنا تعطي المؤمن كل الراحة و الإجازة التي تدعو إليها و زيادة .. فهي ليست مجرد سكتة عقلية ، بل صحوة قلبية و انفتاح وجداني تتلقى فيه النفس شحنة جديدة من النور و نفحة من الرحمة و مدد من التأييد الإلهي .
إنها لحظة خصبة شديدة الغنى ، تعيد صلة المؤمن بالنبع الخفي الذي يستمد منه وجوده .

إن الانفصال عن دنيا النقص و الشر و التوتر يواكبه الاتصال بعالم الكمال و من هنا كان أثر الصلاة على المصلي مضاعفا .
و صلاتنا إذا صلاها المسلم بحضور كامل ، و استغراق و فناء و اندماج ، فإنها تكون شفاء من كل الأمراض التي ذكرتها و أكثر .

و إذا أجريت البحوث و الفحوص على ما يحدث في أثناء الصلاة لضغط الدم و النبض ، و تسجيل المخ الكهربائي ، و أخلاط الدم الكيميائية ، لكشفت عن نتائج أكثر إبهارا مما ذكرت في تمارينك .. و لكن للأسف لا أحد في أمريكا أو أوروبا يرى إسلامنا على حقيقته و لا أحد يحاول أن يبحث فيه .

و لهذا سوف تظل صلاتنا الإسلامية كنزا مخفيا لا يعلم ما فيه إلا من باشره بحضور كامل .. يقول لنا الله (( أقيموا الصلاة )) و لا يقول صلوا .. لأن الصلاة الحقيقية إقامة تشترك فيها جميع الأعضاء مع القلب و العقل و الروح ..

و خطأ الأوروبي أنه يظن أن الصلاة (( الإسلامية )) هي مجرد حركات و أنها على الأكثر مجرد اغتسال و رياضة (( بدنية )) ، و لهذا يقف عند ظاهر الامر لا يتخطاه ..
و ينسى أن الحركات في الصلاة مجرد رمز فهي وقوف إكبار لله مع كلمة الله أكبر ، ثم ركوع ثم فناء بالسجدة و ملامسة الأرض خشوعا و خضوعا ، و بذلك تتم حالة الخلع و التجرد و السكتة (( الكاملة )) النفسية .. و لا يبقى إلا استشعار العظمة لله تسبيحا .. سبحان ربي الاعلى و بحمده .. سبحان ربي الأعلى و بحمده ..

(( و سبحان )) معناها ليس كمثله شيء ، و هو اعتراف بالعجز الكامل عن التصور .. و معناها عجز اللغة و عجز اللسان و عجز العقل عن وصف المحبوب .
و تلك ذروة (( نفسية )) في النجوى ..
و تلك هي وقفة الأدب حينما بلغ جبريل سدرة المنتهى فلم يستطع أن يتخطاها .. و قال لو تقدمت لاحترقت .
و ليس بعد هذه الوقفة إلا التجليات و التنزلات للكاملين الذين يؤهلهم التجرد الكامل لاستشراف الأنوار .

فالصلاة هي المعراج الأصغر و هي نصيب المسلم من المعراج الأكبر الذي عرج فيه محمد - عليه الصلاة و السلام - إلى ربه .
و هي ليست مجرد حركات .. بل هي أسرار و رحمات .
و أشرفها و أرفعها صلاة الفجر التي تشهدها الملائكة .. و صلاة قيام الليل .. التي نال صاحبها بها المقام المحمود .

و الصلاة هي الرصيد المتاح من الرحمة لكل مسلم في البنك الإلهي .. إن شاء أخذ منه و إن شاء ضل عنه و تكاسل فأضاع على نفسه كسبا لا يقدر بمال ..

و ما زالت الصلاة كنزا مخفيا لا نعلم عن أسرارها إلا أقل القليل و لا ينتهي في الصلاة كلام .

فكر
02-26-2006, 04:17 PM
الصيام

الصيام من الشعائر القديمة المشتركة في جميع الأديان.
و هواة الجدل دائما يسألون .. كيف يخلق لنا الله فما و أسنانا و بلعوما و معدة لنأكل ثم يقول لنا صوموا .. كيف يخلق لنا الجمال و الشهوة ثم يقول لنا غضوا أبصاركم و تعففوا .. هل هذا معقول ..

و أنا أقول لهم بل هو المعقول الوحيد .. فالله يعطيك الحصان لتركبه لا ليركبك .. لتقوده و تخضعه لا ليقودك هو و يخضعك .. و جسمك هو حصانك المخلوق لك لتركبه و تحكمه و تقوده و تلجمه و تستخدمه لغرضك ، و ليس العكس أن يستخدمك هو لغرضه و أن يقودك هو لشهواته .

و من هنا كان التحكم في الشهوة و قيادة الهوى و لجام المعدة هي علامة الإنسان .. أنت إنسان فقط في اللحظة التي تقاوم فيها ما تحب و تتحمل ما تكره .. أما إذا كان كل همك هو الانقياد لجوعك و شهواتك فأنت حيوان تحركك حزمة برسيم و تردعك عصا .. و ما لهذا خلقنا الله .

الله خلق لنا الشهوة لنتسلق عليها مستشرفين إلى شهوة أرفع .. نتحكم في الهياج الحيواني لشهوة الجسد و نصعد عليها لنكتفي بتلذذ العين بالجمال ، ثم نعود فنتسلق على هذه الشهوة الثانية لنتلذذ بشهوة العقل إلى الثقافة و العلم و الحكمة ثم نعود فنتسلق إلى معراج أكبر لنستشرف الحقيقة و نسعى إليها و نموت في سبيلها .

معارج من الأشواق أدناها الشوق إلى الجسد الطيني و أرفعها الشوق إلى الحقيقة و المثال .. و في الذروة .. أعلى الأشواق لرب الكمالات جميعها . الحق سبحانه و تعالى ..
و لهذا سخر الله لنا الطبيعة بقوانينها و ثرواتها و كنوزها ، و جعلها بفطرتها تطاوعنا و تخدمنا فنحن لم نبذل مجهودا كبيرا لنجعل الجمل يحمل أثقالنا ، أو الكلب يحرس ديارنا ، أو الأنعام تنفعنا بفرائها و لحومها و جلودها .. و إنما هكذا خلقت مسخرة طائعة .. و إنما العمل الذي خلقنا الله من أجله و التكليف الذي كلفنا به هو أن نركب هذه الدواب مهاجرين إلى الهدف .. إلى الله .. إليه وحده في كماله ..
(( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ))
(( و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون ))

و العبادة لا تكون إلا عن معرفة .
فالحياة رحلة تعرف على الله و سوف يؤدي بنا التعرف على الله و كمالاته إلى عبادته .. هكذا بالفطرة و دون مجهود ، و هل نحتاج إلى مجهود لنعبد الجميلة حبا ..
إنما تتكفل بذلك الفطرة التي تجعلنا نذوب لحظة التطلع إلى وجهها ، فما بالنا لحظة التعرف على جامع الكمالات و الذي هو نبع الجمال كله .. إننا نفنى حبا .

و ما الصيام إلا التمرين الأول في هذه الرحلة .
إنه التدريب على ركوب الفرس و ترويضه و تطويعه بتحمل الجوع و المشقة و هو درس الانضباط و الأدب و الطاعة .

و هذه المعاني الراقية (( الجميلة )) ليس منها ما نعرف في صيام اليوم من فوازير و نكات و هزليات و صوان و مكسرات و سهرات .
و إنما الصائم يفرغ نفسه للذكر و ليس للتليفزيون .. و يخلو للصلاة و قيام الليل و تلاوة القرآن و تدبر معانيه و ليس للرقص و ترديد الأغاني المكشوفة .

و قد كان رمضان دائما شهر حروب و غزوات و استشهاد في سبيل الله .
كانت غزوة بدر في رمضان .. كما كانت حرب التتار في رمضان .. و حرب الصليبيين في رمضان .. و حرب إسرائيل في رمضان .

ذلك هو الصيام الرفيع .. ليس تبطلا .. و لا نوما بطول النهار و سهرا أمام التليفزيون بطول الليل .. و ليس قياما متكاسلا في الصباح إلى العمل .. و ليس نرفزة و ضيق صدر و توترا مع الناس .. فالله في غنى عن مثل هذا الصيام ، و هو يرده على صاحبه و لا يقبله ، فلا ينال منه إلا الجوع و العطش .

و إنما الصيام هو ركوب لدابة الجسد لتكدح إلى الله بالعمل الصالح و القول الحسن و العباد ة الحقة .

و اسأل نفسك عن حظك من كل هذا في رمضان و ستعلم إلى أي حد أنت تباشر شعيرة الصيام.

فكر
02-26-2006, 04:19 PM
الزكاة

كان من عادة إخواننا الشيوعيين حينما يُذكر موضوع الزكاة أن يبتسم الواحد منهم في سخرية و كأنما وجد الثغرة التي ينفذ منها ، فالزكاة عنده هي الحل المخجل لمشكلة العدل الاجتماعي ، فالعدل لا يعالج بالتسول و بتوزيع الصدقات ، و إنما بالبتر و الاستئصال و النكال و التنكيل بالمستغلين الظالمين ، و نزع أصحاب المال و أصحاب الأرض من جذورهم بانقلاب شيوعي يصحح الأوضاع ، و هذا التوصيف الشيوعي للزكاة خاطئ .


و لكن نبرة العنف في كلام الرفاق تذكرني دائما برأي قاله المفكر الإسلامي المغربي الدكتور المهدي بن عبود : إن الشيوعية في الحقيقة طبع .. الشيوعية غل و حقد و ضغن و طبيعة ثأرية تنزع بصاحبها إلى طلب النكال و التنكيل و الإذلال و التسلط ، و هم لا يرون إصلاحا إلا أن يكون بترا و استئصالا دمويا و قلبا لكل شيء من القواعد ، و هي طبيعة تلتمس دائما المذهب الذي يساعدها ، و من هنا كان اختيارهم للشيوعية لا عن اقتناع و لا عن منطق و لا عن عقل ، و لكن عن طبع ، و هم أنفسهم الذين اختاروا فيما مضى مذهب الخوارج و القرامطة و الخرمية ، و هم أنفسهم الذين اختاروا فيما بعد التكفير و الهجرة ، لأنه يشبع فيهم نفس الطبيعة .

ثم نعود إلى تصور الرفاق عن الزكاة و نقول لقد فهموها خطأ ، فليست الزكاة هي تفضل من الغني يلقي به للفقير من باب حسنة لله يا محسنين ، و ليست صدقة لمتسول ، بل هي حق يؤخذ من خير مال القادر ، و يصل إلى يد المحتاج في كرامة و دون أن يسأل أو يمد يدا ، فما يصل إليه حق و ليس تفضلا ، و حكمه حكم الضريبة التي تؤخذ بقانون و تنفق بقانون .

ثم إن الإنفاق ليس له حد أقصى فهو في حده الأدنى اثنان و نصف في المائة ، و تلك هي الزكاة المفروضة ، و لكنه مفتوح في حده الأقصى إلى ما شاء الله و ما شاء كرم المعطي و إيمانه .
(( و يسألونك ماذا ينفقون قل العفو )) .
أي كل ما تراه زائدا عن حاجتك حتى 99 في المائة مما تملك إذا اعتبرت أن حسبك لقمتك و ثوبك و كفافك و الباقي لله فهي تجارة مع الله و تعامل مع الخالق و ليست تفضلا على الخلق ، و لكن مثل هذا الإنفاق الزائد لا يكون إلا تطوعا و اختيارا من صاحبه و ليس فرضا من أحد ، و هي من حيث اسمها (( زكاة )) ، فهي تزكية لصاحبها و تطهير له .. يتطهر بها من الشح و البخل و الأنانية فالمنتفع الأول منها صاحبها .
و الصدقات أوساخ الناس كلما أنفقت منها تطهرت و صفت نفسك من تعلقاتها المادية الأرضية .

و لا ينقص مال من صدقة ، و ما أنفقت من مال فإن الله مخلفه ، قد يخلفه الله مالا أو صحة أو رحمة أو ذرية صالحة أو نجاحا أو توفيقا ، و لكن لابد من أن يثيب الله فاعل الخير دنيا و آخرة هذا قانون إلهي لا يتخلف و يعرفه تماما الذين يقبلون على الزكاة و يتنافسون فيها و الله لا يخلف وعده أبدا .

و الزكاة تلطف الحقد و تكسر العين الحاسدة و تؤلف القلوب ، لأنها مال حلال يخرج من صاحبه حبا و كرامة و طواعية و يصل إلى المستحق دونما من و لا أذى .

و إذا أدخلنا في نصاب الزكاة ، زكاة الشركات و زكاة البنوك ، و زكاة المؤسسات التجارية ، و زكاة الدول التي خصها الله بالموارد و الثروات ، فإن مجموع النصاب الناتج سيتجاوز المليارات عداًً ، و سيصبح في طاقته أن يغير موازين الاقتصاد الموجودة تماما ، ثم إن إنفاق هذه المليارات بأسلوب عصري و استثمارها لصالح الطبقة الفقيرة ، و لخلق المشاريع لتشغيل الأيدي العاطلة و بناء الصناعات ، و الارتفاع بالتعليم كفيل بأن يغير وجه الحياة دون عنف و دون قهر و دون نكال أو تنكيل .. هكذا تلتقي الأيدي في محبة و تعاون و تكافل فيثمر الخير مزيدا من الخير ، أما العنف الشيوعي فلن يثمر إلا عنفا ، و لن يثمر القهر إلا رفضا و كسلا و لا مبالاة ، و لن يثمر التسلط إلا يأسا و سلبية و ينتهي الأمر بأن ينفض كل واحد يده من كل شيء ، و يقول لتفعل الدولة ما تريد ، و لكن الدولة الشيوعية ليست كائنا حيا سويا ، و إنما هي ديناصور و مسخ شائه من القوى البوليسية و الشعب الخائف المذعور ، ثم طواغيت و مراكز قوى تعمل طليقة باسم الحزب و تظلم و تستغل ، و تنهب كما تشاء باسم الحزب ، و تغطي جرائمها بالشعارات و الأكاذيب و الإعلام الموجه .

و شتان بين هذا التكوين الاجتماعي المتشنج و بين التكوين المتناسق للمجتمع الإسلامي الذي يعمل فيه الكل مؤمنين بأن العمل عبادة ، و أن الإنفاق تعامل شخصي مع الله ، و أن الصدقة تقع أولا في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير ، و أن علاج المريض عبادة ، و إقامة جدار عبادة ، و إنشاء كوبري عبادة .. و أن المعروف لا يضيع و العمل الصالح لا يذهب سدى ، و أن الملك له مالك ، و أن في السماء إلها عادلا عدله لا يتخلف ، و كل هذا يثمر سكينة و رضاً و راحة قلب تساوي الدنيا و ما فيها .

فأين هذا من حال مجتمعات الوفرة و الغنى التي ينتحر أصحابها برغم الوفرة ، و ترتفع فيها إحصاءات الجنون و الأمراض النفسية و القلق و الاكتئاب برغم الغنى ، و تتحلل الأسر و تتفكك العائلات و تنتشر المخدرات و الشذوذ الجنسي و الجرائم و السرقات ، برغم العلم و التكنولوجيا و التقدم و تتضاعف أعداد مراكز البوليس و أقسامه ، و مع ذلك لا تشعر بلحظة أمن و لا تستطيع أن تخرج دولارا من جيبك ، و لا أن تنام دون أن تغلق المزاليج و الترابيس خلف بابك .

لأنها مجتمعات مادية كل مليم فيها محسوب بالكمبيوتر ، ثم لا اعتبار عندها لأي شيء آخر .. أو بشكل أدق لا تؤمن بأن هناك شيئا آخر خارج اللحظة الحاضرة و الدولار الذي في جيبك .. لا حساب لشيء اسمه الغيب و لا اعتقاد في إله .

و الذين يؤمنون منهم بالله لا يدخلون هذا الإيمان في حساب الكمبيوتر ، و هم لهذا يستبدلون الزكاة بشركات التأمين و معاشات النقابات و بدلات البطالة ، و كلها صدقات ، و لكن ذات منطلق مختلف ، فهي لا تعطى لوجه الله ، و إنما اجتهاد علمي من عند صاحبها .. و لسان حال كل منهم يقول :
(( إنما أوتيته على علم عندي )) .

و فارق كبير في النية و الصفائية بين العملين فأحدهما يقول :
وفقني الله فأعطيت ما أعطيت ابتغاء وجهه ، و الآخر يقول :
(( اجتهدت من عندي و أنفقت و أعطيت )) .
فأحدهما لا يرى إلا الله و الآخر لا يرى إلا نفسه .. و لهذا ينتهي عمله إلى الإحباط أما العمل الأول فإن الله يثمره بكرمه و يحفظه برعايته .

و تلك هي الزكاة .. مرهما و بلسما و ملطفا و شفاءً للنفس ، و طهرة للقلب ، و هي تعامل مع الله رأسا دون وسائط ، و إيمان بالغيب و ثقة في المقدور ، و يقين بقوانين العدل الإلهي التي لا تتخلف ، و هي شيء آخر تماما غير مفهوم المعونة الاجتماعية في المجتمع الغربي و قد يسأل سائل فيقول أليس كلاهما عملا صالحا ..

فنقول نعم مع فارق كبير في العرفان ، فأنت في الزكاة لا تعرف لك يدا و لا ترى لك يدا ، و لا ترى إلا يد الله سبحانه الذي ليس كمثله شيء .
أما في المعونة الاجتماعية بالكمبيوتر فلا ترى إلا الورقة المرقمة الخارجة من الكمبيوتر ، و لا ترى إلا يدك و ما تبذل .. و على الأكثر لا ترى سوى إنسانيتك .
و الفرق فرق عرفاني .
و هل الدين كله إلا هذه الكلمة الصغيرة ذات الحروف القليلة .. العرفان .. ؟ و هل طلب الله من نبيه سوى العرفان ؟

فاعلم أنه لا إله إلا الله و استغفر لذنبك .
و هل يفترق مؤمن عن كافر إلا بهذه المعرفة ، الذين يرجون أيام الله ، و الذين لا يرجون أيام الله ، و الذين يوقنون بالآخرة و الموقف و الحساب .. و الذين لا يؤمنون إلا بيومهم و لحظتهم ..

صدقوني إن كلمة الزكاة تعني الكثير ..

فكر
02-26-2006, 04:25 PM
الحج

الجمعة .. الشمس تنحدر إلى المغيب على جبل عرفات .
الجبل مزروع بالخيام .. مليون و خمسمائة ألف حاج يحطون عليه كالحمام في ثياب الإحرام البيض .. لا تعرف الواحد من الآخر .. لا تعرف من الفقير و من الغني .. و لا تعرف من التركي و من العربي ؟

اختفت الجنسيات .. و اختفت الأزياء المميزة و اختفت اللغات .. الكل يلهج بلسان واحد .. حتى الجاوي و الصومالي و الأندونيسي و الزنجي و الأذربيجاني الكل يتكلم العربية .. بعضهم ينطقها مكسرة و بعضهم ينطقها بلكنة أجنبية .. و بعضهم يمد بعض الحروف و يأكل بعض الحروف و لكنك تستطيع أن تفهم من الجميع و تستطيع أن تسمع أنهم يهتفون .. لبيك اللهم لبيك .

و الذين لا يعرفون العربية تراهم قد التفوا حول مطوف يرددون وراءه الدعاء العربي حرفا حرفا في خشوع و ابتهال .

في البقعة التي كنت أقف فيها أكثر من خمس عشرة جنسية مختلفة في مكان لا يزيد على أمتار معدودة .. التركستان و الباكستان و كازخستان و غينيا و غانا و نيجيريا و زنجبار و أوغندة و كينيا و السودان و المغرب و اليمن و البرازيل و إسبانيا و الجزائر و سيلان .. كلهم حولي يتصافحون و يتبادلون التحية ، و يهنئ بعضهم بعضا .
و لولا أن المطوف أخبرني بهذه الجنسيات لما عرفتها ، فالكل كانوا يبدون لعيني و كأنهم عائلة واحدة في مجلس عائلي حميم ..

على بعد خطوات كان أكثر من ستين هنديا يلتفون حول مطوف هندي ، و هو الآخر فيما يبدو يقرأ لهم الدعاء العربي من كتاب في يده .. و هم يرددون خلفه الدعاء و هم يبكون و قد تخضلت لحاهم الطويلة الكثة بالدموع .
و هم قطعا لم يكونوا يعرفون العربية ، و لم يكونوا يدركون معاني ما يرددون من حروف .. و إنما شعروا بها بقلوبهم فبكوا .

كان كل واحد يشعر أنه يخاطب الله بهذه الحروف و أنه في حضرة الله و في ضيافته و في رحابه .. و أنه يقف حيث كان يقف محمد عليه الصلاة و السلام .. النبي العظيم البدوي الفقير الأمي .. و أنه يسجد حيث كان يسجد ، و يركع حيث كان يركع ، و يردد ما كان يردده من دعاء .. بذات اللسان العربي .. و في ذات اليوم .. يوم الجمعة من ذي الحجة .. و لعل ذبذبات صوت النبي و أصوات أصحابه مازالت في الفضاء حوله .. فلا شيء يفنى في الطبيعة و لا شيء يستحدث .

عرفت أن هؤلاء الستين هم من أفقر طائفة هندية و أنهم جاءوا إلى مكة على الأقدام و على سفن شراعية و على جمال .
و كان زعيمهم يحمل علما عبارة عن خرقة ممزقة .
و بعضهم جاوز الثمانين .. و بعضهم كف بصره .. و بعضهم كان يحمل بعضا .
و كان الكل يبكون بحرقة و يذوبون خشوعا .

كانوا فقراء حقا .

و على بعد خطوات كان هناك هندي آخر ، قال لي المطوف إنه مهراجا يملك عدة ملايين .. و كان بذات ملابس الإحرام البيضاء .. و كان يبكي بذات الخشوع .. و كان مشلولا يحمله أتباعه على محفة .

كان فقيرا هو الآخر حقا .
و من منا ليس فقيرا إلى الله .
إن الملايين لا تعفي أحدا من الشيخوخة و العمى و المرض و الموت .

إن السيد و خادمه يمرضان بالأنفلونزا و يمران بنفس الأعراض .. بل نرى السيد يعاني دائما أكثر من الخادم ، و يستنجد بعشرات الأدوية و العقاقير ، و يجمع حوله الأطباء فلا يفعل له العلم و لا الطب شيئا .. و كانوا يقولون لنا في كلية الطب على سبيل السخرية .. إن الأنفلونزا تشفى في سبعة أيام بدون علاج .. و في أسبوع إذا استخدمنا العلاج .
و الأنفلونزا مرض بسيط .. تافه .. هي مثل من ألف مثل لضعف الإنسان و حاجته و فقره الحقيقي مهما كثرت في يده الاموال و تعددت الأسباب .

من منا ليس فقيرا إلى الله و هو يولد محمولا و يذهب إلى قبره محمولا و بين الميلاد و الموت يموت كل يوم بالحياة مرات و مرات .
و أين الأباطرة و الأكاسرة و القياصرة ؟
هم و إمبراطورياتهم آثار .. حفائر .. خرائب تحت الرمال .
الظالم و المظلوم كلاهما رقدا معا .
و القاتل و القتيل لقيا معا نفس المصير .
و المنتصر و المهزوم كلاهما توسدا التراب .

انتهى الغرور .
انتهت القوة .. كانت كذبة .
ذهب الغنى .
لم يكن غنى .. كان وهما .
العروش و التيجان و الطيالس و الخز و الحرير و الديباج .. كل هذا كان ديكورا من ورق اللعب .. من الخيش المطلي و الدمور المنقوش .

لا أحد قوي و لا أحد غني .
إنما هي لحظات من القوة تعقبها لحظات من الضعف يتداولها الناس على اختلاف طبقاتهم .
لا أحد لم يعرف لحظة الذل ، و لحظة الضعف ، و لحظة الخوف ، و لحظة القلق .
من لم يعرف ذل الفقر ، عرف ذل المرض ، أو ذل الحب أو تعاسة الوحدة ، أو حزن الفقد ، أو عار الفضيحة أو هوان الفشل أو خوف الهزيمة .
بل إن خوف الموت ليحلق فوق رءوسنا جميعا .

كلنا فقراء إلى الله .. كلنا نعرف هذا .
و هم يعرفون هذا جيدا .. و يشعرون بهذا تماما ، و لهذا يبكون .. و يذوبون خشوعا و دموعا .

سألني صديقي و هو رجل كثير الشك :
- و ما السر في ثياب الإحرام البيضاء و ضرورة لبسها على اللحم و تحريم لبس المخيط .. و ما معنى رجم إبليس و الطواف حول الكعبة .. ألا ترى معي أنها بقايا وثنية .
قلت له : أنت لا تكتفي بأن تحب حبيبك حبا عذريا أفلاطونيا ، و إنما تريد أن تعبر عن حبك بالفعل .. بالقبلة و العناق و اللقاء .. هل أنت وثني ؟
و بالمثل من يسعى إلى الله بعقله و قلبه .. يقول له الله : إن هذا لا يكفي .. لابد أن تسعى على قدميك .
و الحج و الطواف رمز لهذا السعي الذي يكتمل فيه الحب شعورا و قولا و فعلا .
و هنا معنى التوحيد .
أن تتوحد جسدا و روحا بأفعالك و كلماتك .
و لهذا نركع و نسجد في الصلاة و لا نكتفي بخشوع القلب .. فهذه الوحدة بين القلب و الجسد يتجلى فيها الإيمان بأصدق مما يتجلى في رجل يكتفي بالتأمل .

أما ثياب الإحرام البيضاء فهي رمز الوحدة الكبرى التي تذوب فيها الأجناس و يتساوى فيها الفقير و الغني .. المهراجا و أتباعه .
و نحن نلبسها على اللحم .. كما حدث حينما نزلنا إلى العالم في لحظة الميلاد و كما سوف يحدث حينما نغادره بالموت .. جئنا ملفوفين في لفافة بيضاء على اللحم .. و نخرج من الدنيا بذات اللفة .
هي رمز للتجرد .. لأن لحظة اللقاء بالله تحتاج إلى التجرد كل التجرد .
و لهذا قال الله لموسى :
(( اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى )) .
هو التجرد المناسب لجلال الموقف .

و هذا هو الفرق بين لقاء لرئيس جمهورية .. و لقاء مع الخالق .
فنحن نرتدي لباس التشريفة لنقابل رئيس الجمهورية .
أما أمام الله فنحن لا شيء .. لا نكاد نساوي شيئا .
و علينا أن نخلع كل ثياب الغرور و كل الزينة .

قال صديقي في خبث : و رجم إبليس ؟
قلت :
- أنت تضع باقة ورد على نصب تذكاري للجندي المجهول ، و تلقي خطبة لتحيته .. هل أنت وثني ؟
لماذا تعتبرني وثنيا إذا رشقت النصب التذكاري للشيطان بحجر و لعنته .. إنها نفس الفكرة .
إنها كلها رمزيات .
أنت تعلم أن النصب التذكاري مجرد رمز ، و أنه ليس الجندي .
و أنا أعلم أيضا أن هذا التمثال رمز ، و أنه ليس الشيطان .
و بالمثل السعي بين الصفا و المروة إلى حيث نبعت عين زمزم التي ارتوى منها إسماعيل و أمه هاجر .. هي إحياء ذكرى عزيزة و يوم لا ينسى في حياة النبي و الجد اسماعيل و أمه المصرية هاجر .

و جميع شعائر ديانتنا ليست طقوسا كهنوتية بالمعنى المعروف ، و إنما هي نوع من الأفعال التكاملية التي يتكامل بها الشعور و التي تسترد بها النفس الموزعة وحدتها ..
إنها وسيلة لخلق إنسان موحد .. قوله هو فعله .. فالكرم لا معنى له إذا ظل تصريحا شفويا باللسان ، و إنما لابد أن تمتد اليد إلى الجيب ثم تنبسط في عطاء ليكون الكرم كرما حقيقيا .. هل هذه الحركة وثنية أوطقسا كهنوتيا .

و بهذا المعنى ، شعائر الإسلام ليست شعائر ، و إنما تعبيرات شديدة البساطة للإحساس الديني .
و لهذا كان الإسلام هو الدين الوحيد الذي بلا طقوس و بلا كهنوت و بلا كهنة .
ألا تراهم أمامك أكثر من مليون يكلمون الله مباشرة بلا واسطة و يركعون على الأرض العراء حيث لا محاريب و لا مآذن و لا قباب و لا منابر و لا سجاجيد و لا سقوف منقوشة بالذهب و لا جدران من المرمر و الرخام .
لا شيء سوى العراء .
و نحن عراء .
و نفوسنا تعرت أمام خالقها فهي عراء .
و نحن نبكي .. كلنا نبكي .

و سكت صديقي و ارتفعت أصوات التلبية من مليون و خمسمائة ألف حنجرة .. لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك .
و كنت أعلم أن صديقي مازال بينه و بين الإيمان الحقيقي أشواط و مراحل و معراج من المعاناة .
مازال عليه أن يصعد فوق خرائب هذا البناء المنطقي الذي اسمه العقل و يستشرف على ينابيع الحقيقة في تدفقها البكر داخل قلبه .. حينئذ سوف يكف عقله عن اللجاجة و التنطع و يلزم حدوده و اختصاصه ، و يدرك أن الدين أكبر من مجرد قضية منطقية ، و أنه هو في ذاته منطق كل شيء .. و أن الله هو البرهان الذي نبرهن به على وجود الموجودات لأنه قيومها ( هو الذي أوجدها من العدم فهي موجودة به و بفضله ) ، فهو برهان عليها أكثر مما هي برهان عليه .. و كيف يكون العدم برهانا على الوجود .. و كيف يكون المعدوم شاهدا على موجد الوجود .

إنها لجاجة العقل .. و هي سلسلة من الخرائب المنطقية لابد أن نمر بها في معراجنا للوصول إلى الحقيقة .. و هذا عيب العصر الذي يدعي فيه العقل كل شيء .

و عصرنا للأسف عصر العلوم الوضعية و المنطق الوضعي .. هو عصر الألكترونيات و الكهرباء و الكيمياء و الطبيعة .
و الواحد منا في بداية تلقيه لهذه العلوم الوضعية ، و لفرط انبهاره بها و بمنجزاتها يتصور أنها علوم كلية يمكن أن يناقش بها الأمور الكلية مثل الوجود الإلهي فيقع في خطأ من يحاول أن يقيس السماء بالشبر و يزن الحب بالدرهم .

و تمضي عليه سنوات من التمزق و المعاناة قبل أن يكتشف أن الطبيعة و الكيمياء علوم جزئية تبحث في المقادير و العلاقات و اختصاصها هو القضايا الجزئية ، و هي لا تصلح بطبيعة معاييرها للحكم على الدين لأنه قضية كلية .
الدين هو العلم الكلي الذي يحتوي على كل تلك العلوم .. في حين لا يحتوي عليه أي منها .

و عندنا نور آخر نستدل به على الحقيقة الدينية ، نور القلب و هدى البصيرة و استدلال الفطرة و البداهة .
هنا نور نستشف به الحقيقة بدون حيثيات .
هنا منطقة في الإدراك هيأها الله للإدراك المباشر .
و هي مرتبة أعلى من مراتب الشعور العادي .
و كما أن العقل أعلى في الرتبة من حاسة مثل الشم و اللمس ، كذك البصيرة أعلى في الرتبة من العقل و من الإدراك بالمنطق العقلي الجدلي .

و البصيرة هبة متاحة لكل منا ، و لكن صدأ العرف و التقليد و الادعاء العقلي ، و الأحكام الجاهزة الشائعة ، هذا عدا الغرور و ظلمة الشهوات و الرغبات و سعار الأحقاد و المطامع .. كل هذه الغواشي ترين على مرآة البصيرة فتحجب أنوارها الكاشفة .

و يمضي العمر و الإنسان يصارع هذه الرغبات و يتمزق ، و يعاني و يسأل و يتساءل و يحفر في داخل نفسه حتى تنتهك الأستار ، و تنجلي الغواشي ، و يبدأ يدرك الحقيقة بهذه الرؤية الكلية التي هي هبة بصيرته .
و هنا يبدأ يعرف ما هو الدين .

و قد يرى بالبصيرة من لا يحمل الشهادات .
و قد تعمى بصيرة المتعلم المؤهل في الجامعات .
و جلاء القلب فضل إلهي قد يوهب و قد يكتسب ، و لا توجد شروط في المعارف الإلهية ، و هذا الهندي المسلم الفقير الحافي العاري الغارق في دموعه قد يعرف عن الله أكثر مما نعرف نحن الذين نكتب في الدين و الله .

و ربما لو سألته عن شعوره لما استطاع أن يشرحه في عبارات مثل العبارات المنمقة التي نكتبها .. و هو أمر لا يهم .. فالمعارف العالية قد تعلو على العبارة و قد تعجز عنها الإشارة .. فلا يبقى إلا الصمت و الدموع .
و لهذا هم يبكون على عرفات في لحظة لقاء مع النفس و الله .. تبدو فيها الكلمات مبتذلة .. و اللسان عاطلا ، و العبارات خرساء ، فلا تبقى إلا الدموع ، و هي دموع فرح و حزن و ندم و توبة و تطهر و ميلاد .
و هي فجر روحي يعرفه من جربه .

و قد توحي اللحظة الواحدة و الظرف الواحد بشيئين مختلفين تماما و ربما متناقضين ، فحينما كنا نطوف بالكعبة في زحام من ألوف مؤلفة ، كان صديقي يلهث مختنقا و كل ما يخطر له بالمناسبة هو تخيله لو كانت هذه الكعبة في أوروبا في برلين مثلا ، إذن لاختلف الأمر و لطاف حولها الأوروبيون في طوابير منظمة لا يزحم فيها الواحد الآخر .. بينما كنت أنا أنظر إلى الألوف المؤلفة التي تدور كالذرات البيضاء و أرى فيهم الملايين بلا هوية ممن حجوا و طافوا و عاشوا و ماتوا .. أرى فيهم أبي و أمي .. كانوا هنا يطوفون منذ سنوات في هذا الزحام نفسه .. و من قبلهم جدي الذي جاء إلى هنا على ظهور الإبل .. ثم الأجداد .. و أجداد الأجداد من قبل إلى أيام النبي الذي خرج من مكة مهاجرا و عاد إليها فاتحا .. كنت أنظر في الجموع الحاشدة من منظور تاريخي و في خناق الزحام نسيت نفسي تماما ، و فقدت هويتي ، و لم أعد أعرف من أنا .. هأنذا قد مت أنا الآخر .. و هذا ابني يطوف و يذكرني و هو يطوف ، ثم يموت ذات يوم و يصبح هو الآخر ذكرى .. كانت لحظة روحية شديدة التوهج فقدت فيها إحساسي بذاتي تماما ، و غبت عن نفسي و امتلأت إدراكا بأنه لا أحد موجود حقا سوى الله .. و تذكرت السطر الأول من قصة الخلق .

في البدء كان الله و لا شيء معه .
و في الختام يكون و لا شيء بعده .
هو الأول و الآخر .
هو ..
نعم هو و لا سواه .

كانت لحظة من المحو الكامل لكل شيء بما في ذلك نفسي ذاتها ، في مقابل ملء مطلق لموجود واحد مطلق هو الله .
و بالرغم من الإحساس بالغياب فإنه كان إحساسا في الوقت ذاته بالحضور .. الحضور الشامل المهيمن المالئ لكل ذرة من الشعور .. حضور ماذا .. ؟

و أحار في وصف تلك اللحظة و لا أجد الألفاظ و لا العبارات و أكتفي بأنها أعمق ما عشت من لحظات .

إنها أشبه بعدة ستائر تفتح متتالية بعضها من وراء البعض .. تفتح ستارة لتكشف عن مسرح صغير هو الواقع الفردي بتفاصيله ، ثم تفتح ستارة في العمق لتكشف عن واقع آخر خلفي كبير ، هو الواقع التاريخي يبتلع الواقع الأول بما فيه ، ثم تفتح ستارة ثالثة في العمق البعيد تكشف عن حقيقة الحقائق التي يبهت أمامها كل شيء .

هو إحساس ديني يصعب تصويره في كلمات .
هو أشبه بموقف مقاتل على الجبهة .
إنه في تلك اللحظة ينسى همومه الصغيرة .
هموم وطنه تبتلع همومه .
و جراح وطنه تبتلع جراحه فينسى مشكلات بيته الصغير و يذوب في مشكلات مجتمعه الكبير .
هناك حضور أكبر ابتلع الحضور الأصغر .
و بالمثل لحظة الوقوف في حضرة الله .
هنا الحضرة العظمى .. حضرة الحق .
و هي حضرة هائلة تذوب أمامها الحواس تماما .
يفنى الواقع الصغير .. واقع النفس و مشكلاتها اليومية .. ثم الواقع الزمني المحيط بتفاصيله .. ثم الواقع التاريخي كله .
ثم يكون فناء النفس ذاتها في لحظة احتواء كامل من ذات عظمى مهيمنة .
هي لحظة حب صوفية نعرفها في الحب .. و يرويها لنا المحبون .
و الحب البشري لا شيء بالنسبة للحب الإلهي .
و جمال امرأة لا شيء بالنسبة للجمال المطلق الكلي .
أين كان صديقي من هذا كله ؟
ما أبعد كل منا عن الآخر مع أن ذراعي في ذراعه .. كان يفكر و يمنطق و يرتب الحيثيات .
و كنت أذوب حبا و قد قفزت بي اللحظة فوق حاجز العقل و جاوزت بي الحدود و التفاصيل لتضعني على ذروة أرى منها رؤية كلية ، و أدرك منها إدراكا كليا .

هو الحب .
و الدين في جوهره حب .. و الحج هجرة إلى بيت الحبيب و الطواف للعشاق .
هؤلاء لا يجدون فيه كلفة و لا تكليفا .
و إنما يجدون حوارا مؤنسا .. و مكالمة من تلك المكالمات السرية التي تضيء مجاهيل القلب .
و ما أكثر ما شعرت به في الكعبة مما لا أجد له كلمات .

قد يسأل سائل : لماذا نتكبد المشاق لنذهب إلى الله في رحلة الحج .. و لماذا هذه الهجرة المضنية .. و الله معنا في كل مكان .. بل هو أقرب إلينا من حبل الوريد ، و هو القائل إنه (( قريب مجيب الدعوات )) .. بل إن قربه لنا هو منتهى القرب .. فما الداعي إلى سفر و ارتحال لنقف فوق عرفة ندعوه منها .. و هو القريب منا قرب الدم من أجسادنا .

و السؤال وجيه .
و الحقيقة أن الله قريب منا بالفعل و أقرب إلينا من الدم في أجسادنا ، و لكننا مشغولون على الدوام بغيره .

إنه لا يقيم دوننا الحجب و لكننا نحن الذين نقيم هذه الحجب .. نفوسنا بشواغلها و همومها و أهوائها تلفنا في غلالات مكثفة من الرغبات .. و عقولنا تضرب حولنا نطاقا من الغرور .. و كبرياؤنا يصيبنا بنوع من قصر النظر ، ثم العمى .. فلا نعود نرى أو نحس بشيء سوى نفوسنا .. و هذا هو البعد برغم القرب ..

و الهجرة على القدمين و تكبد المشقات و النفقات هي وسيلة مادية للخلوص من هذه الشواغل و تفريغ القلب لذكر خالقه ، و لإيقاظ الحواس على حقيقة هذا القرب القريب لله .
و من هنا كانت كلمة (( عرفة )) .. فبعد رحلة من ألوف الأميال يتيقظ القلب على (( معرفة )) .. فهو (( يتعرف )) على ربه و يكتشف قربه (( و يتعرف )) على نفسه و يكتشف بعدها ..
و يقول النبي عليه الصلاة و السلام في هذا اليوم :
(( نعم اليوم يوم عرفة لأن أهل الأرض يعرفهم أهل السماء ))
هي إذن معرفة شاملة من كل الوجوه .

و حينما يفد الحاج بجسده إلى البيت يكون عقله قد أشرق على معرفة .. و إذا عرف الإنسان ربه حق المعرفة فإنه سوف يدع الخلاف معه ، سوف يدع الذنوب ظاهرة و باطنة و سوف يكف عن منازعته في أمر قدره و قضائه لأنه اكتشف كامل عدله و حكمته ..
و سوف يدع الخلاف بينه و بين الخلق فيكف عنهم أذاه و يحتمل أذاهم و يترفق بهم و يشفق عليهم .
و سوف يدع الخلاف بينه و بين نفسه و يصل إلى حالة من الوحدة فيقول ما يبطن ، و يفعل ما يقول فيصبح ظاهره باطنه و قوله فعله .
و هذا هو الانسجام مع النفس و الكون و الله ..
و انعقاد الصلة بين الروح و خالقها .
و بلوغ السكينة التي لا تزلزلها الجبال .
و السعادة الروحية بالقرب .

يصف لنا معروف الكرخي رجلا بلغ هذه الحال فيقول :
(( رأيت رجلا بالبادية يمشي بلا زاد .. فقلت له .. إلى أين تريد .. قال لا أدري .. قلت هل رأيت رجلا يريد مكانا لا يدريه .. قال أنا هو .. قلت فأين تنوي .. قال مكة .. قلت تنوي مكة و لا تدري أين تذهب .. قال نعم و ذاك لأني كم مرة أردت أن أذهب إلى مكة فيردني إلى طرسوس ، و كم مرة أردت طرسوس فيردني إلى مكة .. قلت من أين المعاش .. قال من حيث يريد .. يجوعني مرة و الطعام حاضر و يشبعني مرة و الطعام غائب )) .

و حال صاحبنا هو حال من انعقدت صلته بالله ..
فهو لا يعرف لنفسه إرادة إلا ما يريد به خالقه و لا يتزود إلا بالتقوى و ليفعل به الله ما يشاء .. فهو قد علم أنه لا عبرة بالطعام .. فقد يوجد الطعام بوفرة و يوجد معه المرض الذي يصد عنه .. و قد يوجد الكفاف و يوجد الشبع .. و قد يوجد الصوم و معه الاكتفاء المشبع بصحبة الخالق و الائتناس به .

و لا يفهم من هذا تواكل .. لأن الرجل يصف ما بينه و بين الله و ليس ما بينه و بين الناس .. و لو أنه وجد بين الناس شرا لقومه بالسيف .. فهذا الرجل نفسه هو المقاتل أبو ذر و أمثاله .. و هو نفسه الذي يثور على الحاكم الظالم .. فالامتثال لله شيء غير الامتثال لعباد الله ، بل هو عكسه و نقيضه ، فخادم الله هو أول من يثور على عباد الله دون خوف ..
و الخائف من الله لا تساوي عنده الدنيا شيئا فهو أول من يضحي بها و بنفسه تحت ظلال السيوف في سبيل كلمة حق .. لأن الله عنده هو الحق .. و عشق الله هو الموت في سبيله .

و هذا هو توكل الإسلام و هو غير تواكل الكسالى و الشحاذين من مفترشي الأرصفة .. و هؤلاء ليسوا مسلمين أصلا .
و ليس كل من يتمتم :
(( قل هو الله أحد )) بمسلم موحد .
و المهم ماذا تقول أعماله ..
إذا كان يعتقد حقا أن الله أحد لا سواه ، هو الضار النافع ، فلماذا يمد اليد إلى غيره و لماذا يتزلف و لماذا يتملق ، و لماذا يكدس المال و العقار و هو يعلم أن الله هو المالك الوحيد للأرض و ما عليها و هو الوارث للكل ؟ و لماذا يكذب و الله سميع ؟ و لماذا يسرق و الله بصير ؟ و لماذا ينافق و الله حسيب ؟ و لماذا يخون و الله رقيب ؟ و لماذا يهرب و الله شهيد ؟

و التوحيد أعمال و ليس تمتمة و حمحمة .
و الشكر أعمال و ليس (( الحمدلله )) على اللسان ..
يقول الله لآل داود ..
(( اعملوا آل داود شكرا و قليل من عبادي الشكور ))
لأن المقصود بالشكر الأعمال الدالة على الشكر و ليس التمتمة .. اعملوا آل داود شكرا .. اعملوا ..
و القرآن سياق متصل مستمر .. لكلمة اعملوا .. يبدأ بكلمة (( اقرأ )) للعلم ..
و بعد العلم يكون العمل على مقتضى التوحيد .
و هذا هو الدين ..
قل : لا إله إلا الله و استقم على معناها .
و هذه هي رحلة الهجرة إلى الله .. و الحج و الصلاة و الصيام صورتها البدنية .
و الحج في معناه خروج .
خروج من أسمائنا إلى أسماء الله .
و خروج من اعتدادنا بأنفسنا إلى الاعتداد به ، و خروج من العبودية للأسباب ( المال و الولد و الأرض و العقار و المنصب و السلطة و النفوذ و الجاه ) إلى عبودية له وحده باعتباره سبب الأسباب .
و خروج من حولنا و قوتنا إلى حوله و قوته .
و خروج من إرادتنا إلى إرادته ، و من رغبتنا إلى رغبته يقول نبينا محمد عليه الصلاة و السلام :
(( اللهم بك انتشرت ، و بك آمنت ، و بك اعتصمت . اللهم بك أصول و بك أجول ))
(( اللهم بك أصبحت و بك أمسيت و لا فخر لي ))
و يقول عن الحج :
(( من خرج يريد الطواف خاض في الرحمة ))
و تفسير الرحمة إن الله يجذب همة عبده إليه و يعصمها من التفرقة .
و يقول عن الركوب للسفر :
(( فإذا ركب الحاج الراحلة في الظاهر يشهد في السر أن الله هو الذي يحمله )) و هي ذروة في التوحيد ، فهو لا يعود يرى الناقة أو القطار أو الطائرة ، و إنما الله هو الذي يحمل المسافر على أسبابه و قوانينه .. تختفي الأسباب ليظهر المسبب ، و يختفي الخلق ليظهر الخالق .

و هكذا تكون كل خطوة بالقدم ترافقها خطوة بالقلب إلى مزيد من التوحيد .. و يكون مع طي الأبعاد طي داخلي للصفات ، فيقترب العبد بصفاته من صفات ربه ، فيكون الرحيم الكريم الحليم الودود الرءوف الصبور الشكور ما استطاع .. و هو صعود و معراج لا نهاية له .. لأن كمال الله لا نهاية له .

و هكذا يقطع المهاجر إلى الله مرحلة بعد مرحلة حتى يصل إلى الميقات ، فيفنى عن نفسه و يموت عن صفاته و يصبح حاله في الظاهر و الباطن حال من يحيا بالله ، و حينئذ يحق عليه الغسل و لبس ثوب الإحرام على العرى فهذا هو ثوب الميت المولود .. و هو ثوب من قطعتين رمزا لستر العورة الظاهرة و ستر العورة الباطنة .. و الحياء هنا على وجهين حياء من الخلق و حياء من الحق .. حياء من سوء الخلق الظاهر الذي تعرفه الناس ، و حياء من العورة الباطنة التي لا يراها إلا الله .. و من هنا كانت الخرقتين الرمزيتين .

أما النحر و الذبح فهو في حقيقته ذبح للنفس و رغباتها و شهواتها و أهوائها .. و قد افتدى الله النفس بذبح الضحية .. فتضحي ببعض مالك رمزا لقتل شهواتك و هوى نفسك .
أما تقبيل الحجر الأسود فهو تزود من غائب ، فأنت تضع شفتيك حيث وضع النبي شفتيه صلوات الله و سلامه عليه .

و الحكايات عن أصل الحجر الأسود و الكعبة كثيرة .. فهي بيت العبادة الأول اتخذه آدم - عليه السلام - و أرشده جبريل - عليه السلام - إلى مكانه .. و حينما غرقت الكعبة في الطوفان استودع الله الحجر في جبل أبي قبيس .. و ظل الأنبياء يطوفون بمكان الكعبة حتى جاء إبراهيم - عليه السلام - فأقام قواعدها و أعاد جبريل الحجر إلى مكانه .

و في عام مولد النبي - عليه الصلاة و السلام – كانت غزوة الفيل المعروفة و هدم الكعبة كما أنه في عام 317 هجرية هجم أبو طاهر القرمطي على مكة و قتل و سبى ثم اقتلع الحجر الأسود و حمله معه إلى الأحساء .. و قد تبرأ عبدالله المهدي من فعل أبي طاهر و من أخذه الحجر الأسود و قتله الحجيج ، فبعث إليه برد الحجر الأسود ، و لكنه لم يستجب و بقي الحجر 22 سنة ثم نقل إلى الكوفة عام 393 هجرية ، و منها أعيد إلى مكانه في البيت .
و يرد بعض المؤرخين اقتلاع القرامطة للحجر الأسود إلى محاولتهم إبطال الحج و هدم الإسلام ، و إظهار عبادة النار و يرى آخرون أن الصراع كان سياسيا بحتا ، و كان المقصود منه محاربة عقيدة أهل السنة .

فالكعبة لم تسلم إذن من التخريب و الهدم و السلب و النهب .. و عبر التاريخ لم يبق فيها حجر على حجر .. لم يبق فيها إلا مكانها .
فهي رمز
و لا يصح تقديسها إلا رمزا
و شأنها شأن القرآن حينما يقول عنه الله :
(( لا يمسه إلا المطهرون ))

فالمراد هنا المعنى العميق .. (( لا يمسه إلا المطهرون )) .. أي لا يمس معاني القرآن و لا يفهم أسراره إلا النفوس المطهرة من أهوائها .
و بالمثل تقوم الكعبة كرمز .. لا كحجارة .
و الحج و الطواف و الذبح و الرجم و عرفة رموز .
فإذا تجاوز تقديس البقعة إلى تقديس الحجر ، خرج المؤمن عن إيمانه و سقط إلى حضيض الشرك و الوثنية ، و ما هكذا مراد الله بالكعبة .

و الذي يسأل لماذا يكون الطواف سبعة أشواط و الرجم سبع حصوات .. نقول له و لماذا لا يكمل نمو الجنين إلا في الشهر السابع ؟ و لماذا يولد ميتا إذا نزل قبل السابع ؟ و لماذا تكتمل النوتة الموسيقية بالدرجة السابعة فلا تكون النوتة الأعلى بعد ذلك إلا جوابا للنوتة الأولى ؟
إنه سر في بناء الكون المادي و الروحي إنه سباعي التكوين ، و إن السبعة هي درجة الاستواء و التمام .
و النفس البشرية بالمثل سبع درجات .. أسفلها النفس الأمارة ، ثم تليها النفس اللوامة ، ثم النفس الملهمة ، ثم النفس المطمئنة ، ثم النفس الراضية ، ثم النفس المرضية ، ثم النفس الكاملة .
و لهذا يكون الطواف سبعة أشواط ، و الرجم سبع حصيات ، و السعي سبع مرات عن الأنفس السبع .

و السعي بين الصفا و المروة هو رمز لتاريخ الوجود بين المحو و الإثبات .
في البداية كان الصفا .
كان الله و لا شيء معه .. الخواء و المحو المطلق .
كان الأزل و ما سبق لنا في علم الله قبل أن نوجد و قبل أن يخلق الزمان .
ثم كانت المروة .. حينما نبع الماء .. و خلق الزمان و تدفق الوجود و قامت الحياة .
و كان فضل الله في الأبد ، كما سبق فضله من قبل في الأزل .
و السعي بين الصفا و المروة هو شهود الفضل في الحالين .
و هو الانتقال من الحقيقة إلى الشريعة للجمع بينهما في القلب .
من الكلمة التي سبقت في الأزل .
إلى التكليف القائم في الزمان .
و السعي رمز لإجابة الأمر و التلبية .

و الصوفي فيما يرمي من حصيات على إبليس .. يرمي عيوب نفسه و يرمي الدنيا .. و يرمي الأسباب ..
و هو حينما يذبح الضحية يذبح نفسه الموافقة للشيطان .
و حينما يحلق رأسه يحلق الكبرياء عن عقله .
فهو يعلم أن الكنز الحقيقي الذي يستحق أن يجهد في حصيله هو كنز البراءة .. البراءة من الحول و الطول و القوة و الغرور و الكبرياء .. لا حول و لا قوة إلا بالله .. هي الكنز ..
لا وجود حق سواه ..
و الكل هالك ..
فيلزم التواضع بل الفناء في الحضرة الإلهية .

و أذكر فيما أذكر الآن ما كانوا يحكون لي عن جدي و أنا صغير و كيف أنه حج سبع حجات ، و كان الحج في ذلك الزمان البعيد منذ مائة سنة على الأقدام و على الإبل و بالبحر في سفن شراعية بدائية و في الحجة السابعة يروي الجد أهوالا .. عاصفة هبت على الحجيج و هم في عرض البحر و اقتلعت الشراع و حطمت الدفة ، و الكل يصرخ و يتضرع و يستنجد ، و المركب تدور في الدوامة كالفلك و الدوار ، و الموج المتلاطم يلف الجميع .

ثم يروي كيف تفسخت المركب إلى ألواح ابتلعتها اللجة في لحظات ، و كيف أفاق ليجد نفسه سابحا على طوف خشبي و أمامه جراب الزاد ، و كانوا يسمونه في تلك الأيام (( الذهاب )) .. كل حاج كان يطلع إلى الحج و معه ذهابه الخاص و به ما يلزم من المئونة و الأدوات و الثياب .
و كان أمرا عجيبا أن يهدأ البحر و تقلع الرياح و تنتهي العاصفة ، و ينجو وحده و معه ذهابه بهذه الطريقة التي تبدو كالمعجزة .

و تدمع عينا الجد و يومض بصره الكليل ، و كأنما يرى شريطا سريعا من اللقطات الرهيبة .. و يروي كيف قضى ليلتين في البحر ثم انتشله مركب شراعي آخر قاصدا إلى الحج .. و كيف أتم حجته السابعة ثم عاد بسلام .

و يروي كيف كان الموت يترصد الحاج في كل خطوة في البحر و في البر و في الصحارى .. و بين الحر المحرق و الرمال و العطش إذا ضل طريقه أو ماتت راحلته .. و على أيدي قطاع الطرق إذا ألقى به سوء حظه إلى عصبة من عصاباتهم .. أو بمرض معدٍ في زمان لم يكن يعرف شيئا اسمه طب وقائي أو يسمع عن لقاح للكوليرا أو التيفود .. و كانت الرحلة تطول إلى ستة شهور و سبعة شهور و سنة ، و كان الخارج إليها مفقودا و العائد مولودا .

و كان يختم قصته مبتسما بفمه الخالي من الأسنان ..
و برغم كل هذه الأهوال فقد حجيت سبع مرات و هاأناذا أموت بينكم في الفراش كما يموت الكسالى من العجائز ، لتعلموا يا أولادي أن كل شيء بأمر الله .. و أنه لا البحر يغرق و لا المرض يهلك و لا نار الصحارى تحرق ، و إنما هو الله وحده الذي يصرف الآجال كيف يشاء .

و أذكر الآن قصة هذا الجد الطيب و تطوف بذهني تلك الصور و أنا أضع قدمي في الطائرة لأصل جدة في ساعتين ، و في ساعة ثالثة أكون في الحرم أطوف بالكعبة ثم في الساعة التالية أكون صاعد إلى عرفات ، و بعد غروب الشمس أكون نازلا إلى منى لرمي الجمرات ثم طواف الإفاضة ثم تنتهي كل المناسك في أمان .

و أتذكر السرب الطويل من خمسين ألف عربة تحمل نصف مليون حاج و تصعد كلها في وقت واحد في عدة طرق دائرية حديثة الرصف .. و كل شيء يتم في سرعة و نظام و دون حادث و قد تناثرت وحدات الكشافة لتنظيم المرور .. و على الجبل تراصت مستشفيات كاملة التجهيز لعلاج و عزل أي حالة اشتباه .. و طوال ساعات الليل و النهار تطوف الرشاشات لقتل الذباب و البعوض في أماكن توالده ، و تطوف فرق أخرى لجمع القمامة و حرقها .
و بين مكة و المدينة يمتد أوتوستراد أملس كالحرير تنزلق عليه العربات في نعومة ، و ينام الراكب في حضن كرسيه في استرخاء لذيذ .

ما أبعد اليوم من الأمس .
و ما أكثر ما نتقلب فيه من النعم .
و كلما أحاطتنا النعمة ازددنا لله هجرانا .
أين إيمان اليوم .. من إيمان النبي العظيم منذ ألف و أربعمائة سنة و هو خارج في غزوة تبوك على رأس اثنى عشر ألفا من المسلمين في شهور القيظ المحرق ، ليخوض في رياح السموم و الحرور القاتلة سبع ليال يتهدده العطش في كل خطوة .. و قد ترك من خلفه الأمان و الظل الظليل و الراحة في خيام زوجاته .. ليلقى الله و ليبلغ الرسالة .. و ليحارب من ؟! .. الروم .. الذين احتشدوا على الحدود بمئات الألوف .

و اليوم ترتفع حرارة الجو بضع درجات فندير جهاز التكييف و نغلق أبواب غرفنا لا نبرحها لأن الخروج إلى الشارع مجازفة غير مأمونة .
و ما أبعد اليوم من الأمس حقا .
و ما أفدح ما خسرنا حينما خسرنا الإيمان .


( بقليل من التصرف )

فكر
02-26-2006, 05:14 PM
الحب

الحب و الهوى و الغرام خداع ألوان ، ما نراه في المحبوبة مثلما نراه في قوس قزح ، جمال ألوان قوس قزح ليس من قوس قزح نفسه و لكنه من فعل نور الشمس على رذاذ المطر المعلق في الهواء .. فإذا غابت الشمس و جف المطر اختفت الألوان و ذهب الجمال .

و هكذا محبوبتك جمالها فيما يتجلى عليها من خالقها .. فإذا انقطع عنها التجلي شاخت و مرضت و ذبلت و عادت قبحا لا جاذبية فيه .. إن ما كانت تملكه من جمال لم يكن ملكا لها بالأصالة ، بل كان قرضا و سلفة.

حتى السجايا الحلوة و النفوس العذبة و الخلال الكريمة هي بعض ما يتجلى فينا من أسماء خالقنا الكريم الحليم الودود الرءوف الغفور الرحيم ..

أليست هذه أسماؤه ... !؟
و هل نحب حينما نحب إلا أسماءه الحسنى حيثما تحققت و أينما تحققت .
و هل نحب حينما نحب إلا حضرته الإلهية في كل صورة من صورها .

و الحكيم العارف من أدرك هذه الحقيقة فاتجه بحبه إلى الأصل .. إلى ربه و لم يلتفت إلى الوسائط و لم يدع بهرج الألوان يعطله .. و لم يقف عند الأشخاص .. فهو من أهل العزائم لا تعلق له إلا بربه .. لقد وفر على نفسه خيبة الأمل و انقطاع الرجاء و خداع الألوان.

لقد أحب من لا يهجر ، و عشق من لا يفتر ، و تعلق بمن لا يغيب ، و ارتبط بمن لا يموت ، و صاحب من بيده الأمر كله و ساهم في البنك المركزي الذي يخرج منه النقد جميعه .. و هام بالودود حقا ذاتا و صفاتا و أفعالا .
و ذلك هو مذهب العارفين في الحب .
فهل عرفت ...
و إذا كنت عرفت .. فهل أنت بمستطيع .

و مذهب العارفين ليس مجرد معرفة .. و لكنه همة و اقتدار و كدح و مغالبة .. و النفس لا تستطيع أن تعشق إلا ما ترى و لا أن تتعلق إلا بما تشهد بصرا و سمعا و حواسا .
أما تعلق الفؤاد بالذي ليس كمثله شيء فمرتبة عليا لا يوصل إليها إلا بالكدح و الكفاح و الهمة .. و قبل ذلك كله .. بالتوفيق و الرضا من صاحب الأمر كله ..

و لهذا أدرك العارفون أن هذا أمر لا يمكن الوصول إليه إلا ركوعا و سجودا و ابتهالا و عبادة و طاعة و خضوعا و خشوعا و تذللا و تجردا و إن هذه مرتبة لا تنال بشهادة جامعية و لا بماجستير أو دكتوراه ، أو تحصيل عقلي .. و لكنها منزلة رفيعة لا مدخل إليها إلا بالإخلاص و سلامة القلب و طهارة اليد و القدم و العين و الأذن و لا سبيل إليها إلا بخلع النعلين .
تخلع جسدك و نفسك ..

و ليس مقصود القوم هنا هو الزهد الفارغ و التبطل .. و إنما أن تخلع حظك و أنانيتك و شهوتك و طمعك و شخصانيتك ، و أن ترتد إلى الطهارة الأولى اللاشخصانية التي تعطي فيها و تحب دون نظر إلى حظ شخصي أو عائد ذاتي .. فهي حالة عمل و عطاء و بذل و ليست حالة زهد فارغ و تبطل .. و هي في ذروتها حالة فداء و تضحية في سبيل إعلاء كلمة الله .. تضحية لا تنظر إلى نيشان أو نصب تذكاري .. و لكنها تبذل المال و الدم و النفس لوجه الله وحده .

و يقول العارفون إن مائدة الاستشهاد هي أعلى موائد التكريم و لا دخول إليها إلا ببطاقة دعوة من صاحبها . و لا دخول إليها اقتحاما أو قهرا و تبجحا .. و إنما هي دعوة من الكريم يتلقاها صاحب الحظ بالتلبية و الهرولة و يتلقاها المحروم بالتكاسل و التخاذل .. و التخلف ..

ذلك هو الحب في مذهب القوم ، و هو غير الحب في مذهب منتجي أفلام السينما و مؤلفي الرومنتيكيات ، و هو أيضا غير الحب عند الكثرة الغالبة من الناس .. حيث الحب هوى و نار و شهوة و جريمة و صدور عارية و مجوهرات . و لحظات تتألق بالشعر ثم ما تلبث أن تخبو وتنطفئ و تترك رمادا من الأكاذيب .
(( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21) )) ( يوسف )
(( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) )) ( العنكبوت )
(( إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ (116) )) ( الأنعام )
((وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا (36) )) ( يونس )
(( إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ (23) )) ( النجم )
(( إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ (44) )) ( الفرقان )

هكذا يعلمنا القرآن أن الكثرة لا تعرف أما العارفون فقليل ما هم و لكن الصحافة التي تخاطب الكثرة و السينما التي تتملق الجماهير و المؤلفين الذين يطمعون في الرواج و الشعراء الذين يتبعهم الغاوون يتغنون بألوان أخرى من الحب . و يتيهون معا في أودية الغفلة التي تنتهي بنا إلى جنون قيس و انتحار جوليت و سقوط راهب تاييس و مباذل فالنتينو و جرائم آل كابوني و موائد مونت كارلو .
و المنتجون عندنا أكثر تواضعا فهم يكتفون بكباريهات شارع الهرم .

و هو أمر قديم قدم التاريخ منذ أيام بابل ، و منذ أيام أنطونيو و كيلوباتره و منذ أيام الفراعنة و الإغريق و الرومان .. و نقرأ في كتاب الموتى هذه السطور التي كتبها الحكيم المصري منذ خمسة آلاف عام .
لا تنظر إلى امرأة جارك فقد انحرف ألف رجل عن جادة الصواب بسبب ذلك .. إنها لحظة قصيرة كالحلم و الندم يتبعها .
إنها معارف قديمة منذ أيام آدم .. و قصة بائدة منذ مقتل هابيل .
و لكن لا أحد يذكر .. و لا أحد يعتبر .. و لا أحد يتعلم من الدرس .
و أكثر الذين يعرفون لا تنفعهم معرفتهم بسبب ضعف الهمم و تخاذل الأنفس و غلبة الشهوات .

إن السلالم إلى الأدوار العليا موجودة طول الوقت ، و لكن لا أحد يكلف نفسه بصعود الدرج و الأغلبية تعيش و تموت في البدروم ...
و لو كلف أحد منهم نفسه بالصعود .. و تحمل مشقة الصعود و شاهد المنظر من فوق ، لبكى ندما على عمر عاشه في البدروم بين لذات لا تساوي شيئا و لكنه الضعف الذي ينخر في الأبدان .

و البشرية تسير من الضعيف إلى الأضعف ، و الأجيال الجديدة أكثر ضعفا و أكثر تهافتا على العاجل البائد من اللذات ، و اقرأ المقال من أوله و اسأل نفسك .. من أي مرتبة من البشر أنت .. هل أنت عارف .. و إذا كنت عارفا .. فهل أنت بمستطيع .
و ابك ما شئت من البكاء فلا شيء يستحق أن تبكيه .. لا فقرك و لا فشلك و لا تخلفك و لا مرضك .. فكل هذا يمكن تداركه أما الخطيئة التي تستحق أن تبكيها فهي خطيئة البعد عن إلهك ..
فإن ضيعت إلهك .. فلا شيء سوف يعوضك .
و كل أحلام الشعراء لن تغنيك شيئا .

فكر
02-26-2006, 05:16 PM
احترام الجسد

مأساة الإنسان أنه لا يوجد تواز بين نفسه و جسمه ، فالحادثة التي تقطع ساقه لا تقطع رغبته في الجري ، و الجراحة التي تستأصل غدته التناسلية لا تستأصل رغبته الجنسية .. و حينما يضعف بصره بالشيخوخة لا تضعف رغبته في الرؤية ، و عندما يضعف بدنه لا تموت شهوته .. و إنما العكس .. تسقط الأسنان و تزداد الرغبة في المضغ .. و تبدأ المهزلة .

و من لم يؤدب شبابه لن يستطيع أن يؤدب شيخوخته . و من لم يتمرس على كبح نفسه صبيا لن يقدر على ذلك كهلا .. و سوف تتحول لذته فتصبح عين مهانته إذا طال به الأجل .. و لهذا نرى الله يطيل آجال بعض المسرفين ليكونوا مهزلة عصورهم ، و ليصبحوا حكاية و نكتة تتندر بها الأجيال للاعتبار .. حينما يتحول الفجار و الفساق و العتاة فيصبح الواحد منهم طفلا يتبول على نفسه و كسيحا يحبو و معوقا يفأفئ و يتهته ، و تسقط أسنانه التي سبق أن نبتت بالألم فينخرها السوس لتقع مرة أخرى بالألم ، و تعود أطرافه التي درجت على مشاية فتدرج على عكازين و يتحول الوجيه الذي كان مقصودا من الكل إلى عالة و شيئا ثقيلا و كومة من القمامة يتهرب منها الكل .. ثم لا يعود يزوره أحد .. ثم يموت فلا يشيعه مخلوق .. و لا تبكيه عين .. و لا تفتقده أذن .. و لا يذكره إنسان .. و كأنه دابة نفقت في حفرة .. فذلك هو التنكيس .. الذي ذكره القرآن .
(( و من نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون )) ( 68 - يس )

و السر في هذه المأساة .. أن النفس لا تشيخ و لا تهرم .. و لا تجري عليها طوارئ الزمان التي تجري على الجسد .. فهي من جوهر آخر غير مادة الجسد الكثيفة المركبة التي يطرأ عليها التحلل و الفساد .
فالسائق مايزال محتفظا بجميع لياقاته و سيظل شابا على الدوام و إن كانت العربة الشيفروليه الفاخرة قد صدأت آلاتها و أصابها التلف و عجزت عن الحركة .. و لم تعد للسائق حيلة سوى أن يسحبها .. و تلك هي حادثة الشيخوخة .. نفس مازالت بكامل رغباتها و شهواتها .. و لكن لا حيلة لها مع جسد مشلول لم يعد يطاوعها .. لا حيلة لها سوى أن تسحبه و تجره على كرسي متحرك .

يقول أهل الله في شطحاتهم الصوفية الجميلة : إزالة التعلقات بعد فناء الآلات من المحالات .
فهم قد فهموا شيئا أكثر من مجرد أن الأجسام آلات لتنفيذ رغبات النفس ، بل هي أشبه بالسلالم يمكن أن يستخدمها صاحبها في الصعود أو في الهبوط .. فالمعدة عضو أكل و لكنها أيضا عضو صيام إذا تسلقت عليها .. و بالمثل الجهاز التناسلي عضو جماع ، و لكنه أيضا عضو عفة إذا حكمته .. بل إنه لا معنى للعفة بدون وجود نزوع شهواني للأعضاء تقابله بضبط إرادي من ناحية عقلك .

و تلك هي الفرصة التي أسموها .. إزالة التعلقات .
و سوف تضيع هذه الفرصة بالشيخوخة و انتهاء الأجل .. فلا أمل في إزالة التعلقات بعد فناء الآلات فذلك من المحالات .
و بذلك فهموا علاقة النفس بالجسد فهما جدليا .. فالنفس تؤدب الجسد ، و لكن الجسد أيضا يؤدب النفس .. و عملية الردع عملية متبادلة بين الإثنين .

الفرامل المادية مطلوبة لتربية الفرامل السلوكية و العكس صحيح .. و الأجل محدود .. يمكن أن يكون عملية إنفاق و تبديد .. أو عملية بناء و تشييد .. و بناء الشخصية النفسية و تعديلها و الارتقاء بها أو الانحطاط بها محتاج إلى الأسمنت الجسدي و الخرسانة المسلحة من الخلايا .. الروح محتاجة إلى الطين .. و الطين محتاج للروح .

و النمو النفسي و الروحي و التقدم المعنوي و التطهر الخلقي محتاج لهيكل مادي يعرج عليه صعدا .
و بهذا المعنى ينظر الصوفيون إلى الجسد بتقديس و احترام – و لا يحتقرونه – فهو عندهم محراب النفس .
فالنور في النهاية يخرج من سلك متوهج .
و نور الشمس يخرج من اندماج ذرات الهيدروجين .
و نور الغاز يخرج من احتراق الزيت .
و نور فضائلنا يخرج من احتراق أجسادنا .
فالجسم قنديل يمكن أن يشع فضيلة .

و النظر إلى الجسد باعتباره نجس و خطيئة نظرة غير إسلامية بل هو أمر مناف للإسلام .. فالإسلام شمولي و جدلي ينظر إلى الإنسان باعتباره جسد و نفس و روح معا .. بل إن الإنسان هو تفاعل الثلاثة معا في وقت واحد .. و جسد الإنسان يمكن أن يكون هو عين روحه في لحظة .. كما أن روحه يمكن أن تكون عين جسده في لحظة أخرى و المسألة تتوقف على النفس هل هي صاعدة على سلم الهيكل أو هابطة عليه .

و الجسد عند الصوفية هو مجرد رسم مطلسم للروح و رمز رامز لأسرارها .. و هو معراجها الذي تصعد عليه للحضرة الإلهية .
و في حوار شعري رقيق بين الروح و الجسد ، يقول الصوفي أبو العزايم على لسان الروح مخاطبا الجسد :
أيا رسم من سفل تصاغ و ترتقي
فبين بحال أو صريح كلام
فيجيبه جسده قائلا :
لولاي ما جاهدت في الله مخلصا
و لولاي ما شرفت بالإكرام
فلولا ظلام الليل لم يعرف الضيا
و هو كلام دقيق و عميق ، فلولا المرض لم تعرف الصحة و لولا السواد لم يعرف البياض . و كل شيء لا يجلوه إلا نقيضه و بأضدادها تعرف الأشياء .
و الجسم و الروح كاللوح و القلم و كالمرآة و الوجه و كالشمس و نورها .
و في أسرار الروح لا ينتهي الكلام .

فكر
02-26-2006, 05:17 PM
الصانع العظيم

هل سأل أحدكم نفسه عن كمية السباكة داخل جسمه .. مجموع المواسير داخل العمارة التي هي بدنه ، بما فيه من آلاف الوصلات و المجاري التي يجري فيها الدم و البول و الطعام و الفضلات و عوادم التنفس و الهضم .

هل يعلم أن طول مواسير الدم في جسمه تبلغ وحدها ثمانية آلاف ميل أي أطول بكثير من المسافة بين القاهرة و الخرطوم .. مواسير أكثر ليونة من الكاوتشوك ، و أكثر متانة من الحديد ، و أطول عمرا من الصلب الكروم ، و في بعضها صمامات لا تسمح بالسير إلا في اتجاه واحد .

ثم مواسير الهواء ابتداء من فتحة الأنف إلى الحلق إلى القصبة الهوائية إلى الشعب ثم الشعيبات التي تتفرع و تتفرع و تنقسم حتى تصل إلى أكثر من مليون غرفة هوائية في الرئتين .

ثم مواسير البول التي تجمع البول من الكليتين لتصب في الحوض ثم الحالب ثم المثانة ثم قناة الصرف النهائية .
ثم مواسير الطعام من الفم إلى البلعوم إلى المعدة إلى الاثناعشر إلى الأمعاء الدقيقة .
ثم مواسير الفضلات من المصران الصاعد إلى المستعرض إلى الهابط إلى المستقيم إلى الشرج .

ثم ممرات الولادة و غرفها و دهاليزها و أنابيبها .
ثم مجاري المرارة و حوصلتها و مواسيرها .
ثم مجاري الليمف .. و مواقف الليمف و محطاته في الغدد الليمفية .
و هي مواسير تمر إلى جوارها الفضلات و تحميها شبكة من الأوعية الدموية و الأعصاب ، و جيوش من خلايا المقاومة تلتهم أي ميكروب يمكن أن يتسرب من هذه المواسير في طريق خاطئ إلى الجسم .

و أنابيب العرق .. و بلايين منها تشق الجلد و تفتح على سطحه لترطبه و تبرده بالعرق .
و أنابيب الدموع داخل حدقة العين تغسل العين و تجلوها .
و أنابيب التشحيم داخل جفن العين تفرز المواد الزيتية لتعطي العين تلك اللمعة الساحرة .
هذا الكم الهائل من السباكة الفنية الدقيقة المعجزة التي تعيش مائة سنة و لا تتلف .. و إذا أصابها التلف أصلحت نفسها بنفسها .

نموذج من الهندسة الإلهية العظيمة التي أهداها الله للإنسان منحة مجانية منذ ميلاده و تولى صيانتها برحمته و عنايته .
فهل أدركنا هذه النعمة و هل قدرناها حق قدرها .

و كثير من الأمراض سببها أعطال و تلفيات في هذه السباكة .
الإسهال و الإمساك و الغازات و تطبل البطن ، هي أعطال و تلفيات في أنابيب صرف الفضلات و الزكام انسداد في منافذ الهواء داخل الأنف .
و الناسور هو ثقب في ماسورة الإخراج .
و احتباس البول و المغص الكلوي و آلام الكلى سببها أعطال في أنابيب صرف البول .

إن تركيبات (( الصحي )) في جسمك هي التي تصنع لك صحتك بالفعل .. بل هي صحتك ذاتها .. إن أي انقباض في ماسورة معوية يساوي صرخة مغص ، و أي ضيق في شريان القلب التاجي يساوي ذبحه ، و أي ضيق في ممرات الولادة يساوي إجهاضا و أي انسداد في قنوات فالوب يساوي عقما و أي انسداد في مجاري المرارة يساوي صفراء .
هذا غير مجاري الليمف و الدم و الغدد ، و هي تتنوع في الجسم بالآلاف ، و لكل غدة توصيلاتها و قنواتها و نظامها و دورها في صناعة الصحة التي نتمتع بها دون أن ندري أنها عملية تركيبية معقدة تشترك فيها مئات الأجهزة .

إن الصحة التي نشعر أنها مجرد استطراد لأمر عادي واقع .. ليست بالمرة أمرا عاديا و ليست مجرد واقع مألوف ، و إنما هي نتيجة تدبير محكم و ثمرة عمليات معقدة مرسومة بعناية و قصد . و إنما يحدث المرض حينما تتخلف هذه العناية و هي قلما تتخلف .. فإذا تخلفت فلتشرح لنا أسرارها .. فما عرفنا معجزة الصحة إلا بدراسة المرض ، و ما عرفنا معجزة الحياة إلا بالموت .. و بأضدادها عرفت الأشياء .

و في محاولاتنا البدائية في بيوتنا و عمارتنا التي نبنيها و هي مجرد ماكينات رمزية صغيرة لا تصل إلى واحد في المليون من العمارة البشرية .. غرقنا في (( شبر ميه )) .. طفحت مجاري القاهرة ، و تلوث البحر بعوادم المصانع ، و اختنق النيل بالفضلات التي تلقى فيه ، و وقفنا أمام السيفون التالف ننادي على سباك ، و اختلط الساخن بالبارد و الطاهر بالملوث ، و فشلنا في صناعة أصغر ماكيت سباكة لا تزيد مواسيره على بضعة أمتار ، و غرقنا في بانيو نصف متر ..

و هذه صناعتنا و تلك صناعته .
و هذه سباكتنا و تلك سباكته .
و هذه عمارتنا .. و تلك عمارته .
و هذا خلقنا .. و ذاك خلقه .
و تبارك الله أحسن الخالقين .
و كأنما يتحدانا الله بصنعته المبهرة و آياته الخالدة في عمارة الجسم البشري :
(( قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله )) .
و هو تحد ينسحب على كل آية من آيات الله .. في الكتاب .. أو في الآفاق .. أو في أنفسكم .
و النفس كبرى المعجزات .

فكر
02-26-2006, 05:20 PM
عالم الوحشة (( و الغربة ))

ما هو أكثر شيء يسعدك في هذه الدنيا ..؟
المال .. الجاه .. النساء .. الحب .. الشهرة .. السلطة .. تصفيق الآخرين .
إذا كنت جعلت سعادتك في هذه الأشياء فقد استودعت قلبك الأيدي التي تخون و تغدر و أتمنت عليها الشفاه التي تنافق و تتلون .

إذا جعلت من المال مصدر سعادتك فقد جعلتها في ما لا يدوم فالمال ينفد و بورصة الذهب و الدولار لا تثبت على حال .
و إذا جعلت سعادتك في الجاه و السلطان .. فالسلطان كما علمنا التاريخ كالأسد أنت اليوم راكبه و غدا أنت مأكوله .
و إذا جعلت سعادتك في تصفيق الآخرين فالآخرين يغيرون آراءهم كل يوم .

لقد وضعت كل رصيدك في بنك القلق و ألقيت بنفسك إلى عالم الوحشة و الغربة و استضفت راحة بالك على الأرصفة .. و نزلت في فنادق قطاع الطرق .. و لن يهدأ لك بال و لن تعرف طعم الراحة و لن تعرف أمنا و لا أمانا ، و لن تذوق للطمأنينة طعما حتى آخر يوم في حياتك ، لأنك أعطيت أثمن ما تملك .. أعطيت روحك لعالم الفرقة و الشتات ، و رهنت همك و اهتمامك بعائد اللحظة ، و علقت قلبك بكل ما هو عابر زائل متقلب ، و أسلمت وجدانك ينهشه وحش الوقت .

و إذا جعلت سعادتك في حب امرأة .. فأين هي المرأة التي لم تتغير ؟ و أين هو القلب الذي لم يتقلب ؟ أين نجد هذا القلب إلا في الخيال في دواوين الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون و الذين هم في كل واد يهيمون .

سبعون ألف نبي في تقدير بعض العارفين عبروا هذه الأرض و بلغوا أقوامهم نفس الشيء و أعادوا عليهم نفس الدرس و رددوا نفس الكلمات .
و الناس مازالوا على حالهم لا يرى الواحد منهم أبعد من لحظته .
مازالوا على جاهليتهم الأولى يتدافعون بالمناكب على نفس الخسائس يرون حاصد الموت يحصد الرقاب من حولهم و لا يعتبرون .
بل هم اليوم أكثر نهما و أكثر تهالكا و أكثر تهافتا على اللاشيء و يقول لهم القرآن :
(( و في أنفسكم أفلا تبصرون )) .

و في أنفسهم و أقرب إليهم من حبل الوريد ، غاية الغايات و منتهى الأرب ، و قبلة المقاصد و مهوى الأفئدة و متعلق جميع المعارف .. الحق بذاته .. الله سبحانه و تعالى بنوره الأقدس .
الرحاب الأبهى و شميم الجنة و رفيف الملائكة في نفوسهم .. أقرب إليهم من حبل الوريد .. أقرب إلى الواحد منهم من نطقه .

إلى هذا المدى من القرب .. و إلى هذا المدى من اللطف .. يبلغ إيناس الرب لعبده .. و لا غرابة .. ألا تصير النفس الإنسانية قابلة لتجليات الأسماء الإلهية فيصبح الواحد منا رءوفا رحيما ودودا كريما حليما عفوا سميعا بصيرا عليما .

إلى هذ المدى يستوي الرحمن على عرش سماوتنا الداخلية ، و يكاشفنا بأنه أقرب إلينا من حبل الوريد .. و هو من هو .. جامع الكمالات على إطلاقها .. ثم نتولى عنه معرضين نتدافع بالأكتاف و نتسابق بالمناكب خلف كل زائل و تافه .

و نتكلم عن الحب .. و في عمق نفوسنا من هو أولى بالحب كل الحب .. بل واهب الحب لكل محب و محبوب و سر الحب في كل محب و محبوب .. بل عين القيمة في كل ما هو قيم .. و عين الجمال في كل جميل .
و نتولى معرضين نجري خلف بريق اللحظات و نتشتت و نتوزع و تتجاذبنا الغوايات و نتمزق إلى شتات و نموت في وحشة و غربة و محصولنا مما جمعناه صفر .

و الله أقام شريعته غيرة علينا و على ما أودع فينا من روحه و رحمة بنا حتى لا نضيع ، و الشيطان يحاول أن يحجبنا عن هذا الثراء الداخلي حسدا و حقدا على ما فضلنا الله به .. و نحن نختار صحبة العدو على الصديق .. و نستمع إلى العدو و لا نلتفت إلى الصديق ، و نلازم العدو و نهجر الصديق .
و ما أكثر ما قتل الأقوام من أنبيائهم و أهل الغفلة من شهدائهم .
و عالمنا اليوم أشد في جاهليته و أعتى في ماديته من كل ما مضى من عوالم .

(( و في أنفسكم أفلا تبصرون )) .
في داخلنا الشاطئ و المرساة و بر الأمان .
سند الضمان فينا و لسنا في حاجة إلى التأمين على حياتنا في بنك خارجي لا داعي لكل هذا اللهاث المجنون على الجمع و التملك و الاكتناز .. فلن نزداد بذلك أمنا .
لا داعي لكل هذا السباق و القتل على السلطة فلن نزداد بذلك قوة .

اطمئن قلبا أيها المؤمن و أعرض عن هذه الغابة التي يتعارك فيها الكل بالمخلب و الناب ، قل كلمتك و الزم معرفتك و اعمل على شاكلتك ، و خض البحر فلن تبتل و اعبر أرض الغربة و الوحشة فلن تستوحش فلست وحدك فالله معك .. و أينما كنت فهو معك .

لا تقف مع الواقفين أمام فاترينة المال و الجاه و النساء الباهرات و الحب و الشهوة و السلطة و سائر غوايات الدنيا .
فأنت غني بما في داخلك عن كل هذا .

لا يكن مبلغ همك أن تحب هذه و تلك ، و إنما ليكن همك مجموعا على الله إلهك ، محبوبا لك مطلقا و دائما و أبدا .
و حسبك من المرأة التي تختارها المودة و الرحمة و حسن المعاشرة .
تعلق القلب لا يصح إلا لواحد ، و انشغال الهمة لا يجوز إلا لواحد هو الله وحده جامع الكمالات .

إنما جعل عرش القلب ليستوي الرب عليه وحده و ليس لهذه المرأة أو تلك .. الصبابة لا تليق بالعارف الكامل .. و بهو الملك حق للملك وحده و ليس لأي عابر سبيل ، و الله هو أغنى الشركاء عن الشرك .. و حق على من عرفه حق معرفته ألا يعبد غيره .
ألست تقطعه فيصلك ، و تكفره فيرزقك ، و تعصيه فيغفر لك ، و تهجره فيتودد إليك .. و هو من هو المتعال ذو الجلال و الجمال .. فأين هو من هذه و تلك .. ألا يكفيك أن بابه مفتوح أبدا و عفوه مناد عليك دائما ؟

ألا يحرك ذلك كوامن الشوق فيك ؟
ألا يثير فيك من الوجد ما لا تثيره هذه و تلك من أشباح ترابية فانية ؟
ألا تعود فتنظر حولك ببصيرة .. و تنظر في داخلك بإلهام .. قبل أن يجرفك التيار إلى عالم الوحشة و إلى البحر الطام الذي يتخبطه الشيطان من المس ؟
ألا تغريك هذه الكلمات بلحظة تأمل و بوقفة مع النفس تعيد فيها النظر .

( بقليل من التصرف )

حسام مجدي
02-27-2006, 12:11 AM
بسم الله الرحمن الرحيم و الحمد لله رب العالمين ..

السلام عليكم و رحمة و الله و بركاته ..

أخي الحبيب فكر ...

جزيت بكل حرفٍ حسنة .. لم أنتهي بعد من قراءة كل المقالات .. و لكن أحببت أن أشكرك على مجهودك في نقل أعمال الدكتور الحبيب غفر الله سبحانه و تعالى له و جمعنا به في جنته مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم .. الدكتور مصطفى محمود ..

و السلام عليكم و رحمة و بركاته ..

فكر
03-02-2006, 11:05 AM
الأخ حسام مجدي..

و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته .

جزاك الله خيرا و نفعك و نفع بك أمة الإسلام و المسلمين .

أختكم ..
فكر