حازم
12-13-2004, 06:26 AM
أ.د. جعفر شيخ إدريس
مجلة البيان العدد 166، جمادى الآخرة 1422هـ الموافق سبتمبر 2001هـ
قال الأول لصاحبه: إنه من حسنات البلاد الديمقراطية العلمانية أنها تعاملنا من حيث الدين معاملة أحسن من معاملتنا لها. من أمثلة ذلك أنهم يسمحون لنا بأن نبني المساجد ونقيم فيها الصلوات، ويسمحون لنا بحرية الدعوة إلى الإسلام بينما لا نسمح نحن لهم بشيء من ذلك في بلادنا
.
قال الثاني: إنّ ما ذكرته عنّا ليس بصحيح على إطلاقه؛ ففي العالم العربي والإسلامي نصارى يمارسون دينهم في كنائسهم وبِيَعِهم في حرّية كاملة. ألم تزر بلاداً مثل مصر والسودان؟
قال الأول: ولكن ماذا عن السعودية؟
الثاني: للسعودية وضع خاص؛ فهي جزء من الجزيرة التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يكون فيها دين غير الإسلام. وينبغي أن لا يكون هذا أمراً غريباً حتى على الدول الغربية التي أراك تدافع عنها
.
الأول: ماذا تعني؟
الثاني: ألم تسمع ببلد اسمه الفاتيكان؟ هل تجد فيه من مساجد أو دور للعبادة غير دور الكاثوليك؟
الأول: كلا.
الثاني: الأمر الثاني الذي كنت أود أن أُنبهك إليه هو أنهم لا يسمحون لنا بما يسمحون بدافع الإحسان إلينا، أو مجاملةً لنا كما يظن بعض الذين لا يعلمون، وإلاّ لقالوا لنا: إمّا أن تسمحوا لنا بما نسمح به لكم وإلاّ منعناكم كما تمنعوننا.
الأول: هذا ما كنت أظنهم فاعليه، وقد ازداد تقديري لهم إذ لم يفعلوه.
الثاني: إنّ ما يسمحون لنا به من قدر من الحرّية الدينية هو أمر يسمحون به لكل صاحب معتقد مُصدِّقاً بوجود الخالق أو مُنكراً لوجوده، مؤمناً كان أم مشركاً، عابد وثن أو عابد بشر. وكما يسمحون بِهذا القدر من الحرّية الفكرية فإنَّهم يسمحون بقدر مثله أو أكبر منه لدعاة الرذيلة من الشواذ والزناة وراسمي الصور الفاضحة. يفعلون كل هذا؛ لأنهم يرونه في مصلحة بلادهم بحسب تصورهم للحرية. وأمّا الأمر الثالث فهو أنهم يستعملون قوانينهم كثيراً ليحدوا من هذه الحرية سواء لزائريهم من البلاد الإسلامية أو القاطنين فيها.
الأول: أوافقك. ولكن ألا ترى مع ذلك أنّ نظامهم خير من نظامنا من حيث أنّ القدر الذي يسمح به من الحرية أكبر مما نسمح به نحن؟
الثاني: كلا لست أرى ما ترى؛ لأن الحريات لا تُقاس كميّاً، وإلاّ لكان أحسن النظم هو الذي يترك الناس سدى لا يأمر أحدهم بشيء ولا ينهاه عن شيء ألبتة.
الأول: بِمَ تُقاس إذن؟
الثاني: تقاس بمدى نفعها وضررها. فالنهي عن السرقة هو حد من الحرية، لكنه حد مفيد. أما النهي عن أكل السمك مثلاً فهو حد لا فائدة فيه، بل قد يكون ضرره بالغاً بالنسبة لبعض الناس. ولذلك وصف النواهي الإسلامية بأنها حدودٌ إذا تجاوزها الإنسان وقع فيما يضره. وبإمكانك أن تتصورها كالحدود التي توضع على جانبي الجسر؛ فهي أيضاً تحد من حرية السائر أو السائق، لكها مفيدة له؛ لأنها تمنعه من الوقوع في البحر أو الهوي في واد سحيق.
الأول: لا شك في ذلك. لكن من الذي يصدر هذه القوانين التي تُحِلّ وتُحَرِّم؟ إن النظام الديمقراطي يكل ذلك للناس؛ فهم الذين يحددون ما يُصلحهم وما يضرهم في حرية كاملة. أما النظم الدينية، ومنها النظام الإسلامي، فإنها لا تعطي الناس هذه الحرية، بل تكل الأمر إلى الدين.
الثاني: أتعني أنّ كل قانون يُحِلّ أو يُحَرِّم يصدر بإجماع الناس؟
الأول: كلا؛ فأنت تعلم أن الأمر ليس كذلك، وإنما الذي يُصدِره هم غالبية الناس.
الثاني: لكن غالبية الناس ليست هي التي تصدر القوانين في البلاد الديمقراطية العلمانية، وإنما الذي يصدرها هو المجالس التشريعية.
الأول: نعم! لكن هذه المجالس تتكون من أفراد اختارهم الناس بالأغلبية؛ فهم يعبرون عن أفكارهم.
الثاني: تعني أنهم يعبرون عن أفكار من صوَّتَ لهم.
الأول: لكن يستحيل واقعاً أن يكون الأمر على غير ذلك.
الثاني: نعم! ولكنك تعلم أيضاً أنه حتى قولنا بأنهم يعبرون عن رأي الأغلبية التي انتخبتهم ليس بصحيح؛ لأن هذه الأغلبية لا تُستَشار. ولو استُشيرت لما كان لأغلبيتها رأي في غالبية القوانين؛ لأنها تحتاج إلى معرفة لا تتوفر لهم.
الأول: لكن تبقى مع ذلك الحقيقة بأن هؤلاء قوم رضيهم الناس حكّاماً لهم، وأوكلوا إليهم إصدار ما يرونه مناسباً من القوانين.
الثاني: إذن؛ فالناس في البلاد الديمقراطية العلمانية رضوا بأن يكون المشرعون لهم بشراً مثلهم.
الأول: أجل! وهذا ما يمتازون به.
الثاني: واشترطوا عليهم أن تكون تشريعاتهم في إطار الدستور، ولم يتركوهم أحراراً يشرعون ما شاءوا.
الأول: نعم! لأن الاستقرار السياسي لا يتوفر إلا بشيء كهذا.
الثاني: ما الفرق بيننا وبينهم؟ نحن أيضاً يمكن أن تكون لنا مجالس تشريعية يختار الناس أعضاءها ويعطونهم حق التشريع على شرط أن لا يكون مخالفاً للقانون الأعلى للبلاد الذي يسمى دستوراً. والذي هو بالنسبة لنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الأول: لكن دستورهم هو نفسه مِن وَضعِهم، وبإمكانهم أن يُغيِّروا فيه ما شاءوا.
الثاني: لكن دستورهم أيضاً يتضمن مواد كتلك المتعلقة بما يسمونه حقوق الإنسان ليس لأحد أن يغيرها.
الأول: نعم! لأن هذه الحقوق لكل إنسان بما هو إنسان، فلا يجوز لأحد أن يجور عليها.
الثاني: من الذي أعطاه هذه المكانة؟ وعلى كلّ فأنا لا أريد أن نخرج عن موضوعنا لنتحدث عن حقوق الإنسان، فلعلنا نفعل ذلك في مناسبة أخرى. فلنعد إلى موضوعنا إذن!
الأول: حسن.
الثاني: أردت أن أقول لك إنه ليس لهم علينا فضل في كون دستورهم من اختراعهم؛ لأنهم إذا كانوا هم بمحض اختيارهم رأوا أنه من مصلحتهم أن يشرِّع لهم بشر مثلهم؛ فنحن أيضاً فكَّرنا لأنفسنا ورأينا أنه من مصلحتنا أن نرضى بما شرعه لنا ربنا الذي خلقنا، والذي هو أعلم منا بما هو مُفسِد أو مُصلِح لنا، والذي هو رحيم بنا لا يأمرنا إلا بما ينفعنا، ولا ينهانا إلا عما فيه ضرر علينا. لا فرق إذن بيننا وبينهم من حيث مبدأ الاختيار. فكما أنهم اختاروا بحريتهم، فنحن كذلك اخترنا بحريتنا، ولم يجبرنا ربّنا على الرضى بما شرع لنا، وإنما ترك الأمر لنا نحن البشر ((فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)) [سورة الكهف: 29]، ونحن اخترنا بتوفيق من ربنا أن نؤمن. فلا فضل لهم علينا إذن من حيث مبدأ حرية الاختيار، وإنما الفضل لنا نحن الذين أرانا الله الحق حقاً ووفقنا لاتّباعه.
الأول: لكن الذي اخترتموه دين، والناس يختلفون في أديانهم، ومجتمعاتنا المعاصرة متعددة الأديان، ولا بدّ لكل مواطن فيها من أن تكون له حقوق مساوية لغيره بغض النظر عن دينه.
الثاني: فكيف حلّت العلمانية هذا الإشكال؟
الأول: حلته حلاً يسيراً، هو أن تُقصَى الأديان عن الحكم حتى يكون لكل مواطن الحق في أن يتقلد أي منصب سياسي من رئاسة الدولة إلى ما دونها مهما كان دينه أو اعتقاده
.
الثاني: ونحن أيضاً نفعل ما فعلوا: نقصي كل الأديان - عدا الإسلام - عن الحكم، وكما
...
الأول: - مقاطعاً -: لكنهم أقصوها كلها ولم يستثنوا منها أحداً كما تفعلون.
الثاني:تعني أنهم أقصوها كلها ما عدا الدين العلماني.
الأول: ولكن العلمانية ليست ديناً.
الثاني: أجل! إنها والله لدين بمفهومنا العربي الإسلامي، لكنها شرّ دين.
الأول: ماذا تعني؟
الثاني: أعني أنّ الدين عندنا هو كل أمر يدين به الناس ويعتادونه ويمارسونه في أي جانب من جوانب حياتهم المادية والروحية سواء كان من عند ربهم أو كان من اختراعهم. ألم تسمع قول الشاعر العربي عن ناقته التي اجهدها بكثرة الترحال:
إذا مـا قمت أُرحِلها بليلٍ تَأَوَّه آهَةَ الرجلِ الحزينِ
تقول إذا شددت لها وضيني: أهـذا دينه أبداً وديني؟
أكل الدهر حِـلّ وارتحالٌ أما يُبقي عليّ وما يقيني؟
الأول: لكنك تعلم أنّ الشاعر استعمل الدين هنا بمعنى العادة؛ فما علاقة ذلك بأنظمة الحكم؟
الثاني: لا جدل في أنه استعمله بمعنى العادة؛ ولكن ألا ترى أنه إذا كان اعتياد الحِل والترحال وهو أمر واحد في حياة رجل وناقته يسمى ديناً، فمن باب أولى أن يسمى كذلك اعتياد ما كان أشمل نطاقاً وأكثر عدداً. ثم إن القرآن الكريم استعمل الدين بهذا المعنى العربي، ألم تسمع قول الله - تعالى - عن يوسف وأخيه: ((ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله)) [سورة يوسف: 76]، فالمقصود بالدين هنا ما نسميه الآن بالقانون. وفي القرآن الكريم أيضاً يطلق الدين على الهدي الذي أنزله الله - تعالى - وأرسل به رسوله، كما يطلق على ما يدين به الناس في الواقع سواء كان موافقاً لذلك الدين الحق أو مخالفاً له. يبين لك ذلك بوضوح حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ذكر فيه أن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها؛ فالدين الذي يُجَدَد هو ما يدين به الناس. أما الدين النازل من السماء فلا يحتاج إلى تجديد؛ لأنه لا يَخْلَق. وتجديد ما يدين به الناس هو جعله موافقاً للدين الحق
.
الأول: هذا تفسير غريب للدين، وهو مخالف لما اصطلح عليه الناس، ولا سيما في البلاد الغربية العلمانية التي هي موضوع حديثنا.
الثاني: لكن هل من الإنصاف أن يكون النقاش دائماً وفق تصوراتهم ومصطلحاتهم؟ لماذا لا نُفهِمُهُم أنّ هنالك اختلافاً بيننا حتى في تصورنا للدين؟ على كلّ أنا لا أريد للحوار أن يتحول إلى جدل عن الألفاظ. المهم أن تتضح المعاني؛ وإذا اتضحت فلا مشاحّة في الألفاظ. ألا يمكن أن نترك كلمة الدين ونستعمل بدلاً عنها كلمة تنطبق على العلمانية وما يسمونه هم ديناً؟ ما رأيك في عبارة منهاج الحياة؟
الأول: لا بأس بها.
الثاني: أرجوا أن يتضح لنا من استعمالها أن القول بأن النظام العلماني نظام محايد بين الأديان إنما هو خرافة راجت على كثير من الناس.
الأول: أظنني من المصدقين بهذه الخرافة؛ فهلاّ أوضحت لنا يا سيدي المنكر للخرافة دليلك على كونها خرافة؟
الثاني: هب أننا قلنا لإنسان منصف: إن هنالك نظامين (أ) و(ع) وأعطيناه الجدول الآتي:
النظام أ
النظام ع
إن الحكم إلاّ لله
إن الحكم إلاّ للشعب
يباح للرجل أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع
لا يجوز للرجل أن يتزوج أكثر من واحدة
يأخذ الورثة حقهم أوصى بذلك المُورِّث أم لم يوص
إنما يرث من أوصى له المُورِّث ولو كان حيواناً، وإذا لم يوص فللدولة أن تتصرف في ماله
الخمر حرام
الخمر حلال
لا تكون علاقة جنسية إلا بين المتزوجَين
تباح العلاقة الجنسية بين كل بالغين متراضيين
الربا حرام
الربا حلال
الأول: ما أظنه سيستطيع إذا وضع الأمر بهذه الطريقة.
الثاني: ولا طريقة غيرها. إذن فيجب على من يريد أن يكون مسلماً أن لا يخدع نفسه. إنه لا يمكن للإنسان أن يكون مؤمناً ويكون مع ذلك راضياً بالعلمانية نظاماً للحكم. فإما هذا أو ذاك.
الأول: نعم! إن منهاج الحكم العلماني يُقصي غيره عن منهاج الحكم؛ لأنك لا يمكن أن تطبق منهجين مختلفين في وقت واحد كما يتضح ذلك من جدولك. لكن ميزته على المناهج الأخرى - ومنها المنهج الإسلامي - أنه يفرق بين إقصاء الأفراد وإقصاء المناهج.
الثاني: ماذا تعني؟
الأول: أعني أنه يعامل الأفراد جميعاً معاملة متساوية باعتبارهم مواطنين من حق كل واحد منهم أن يتقلد أي منصب سياسي في الدولة إذا ارتضاه الناس.
الثاني: بشرط أن يكون حكمه وفقاً للدستور العلماني الذي يُقصي منهجه عن الحكم إذا كان مسلماً.
الأول: أجل! وأظننا قد اتفقنا على الأمر البدهي الذي يقضي باستحالة الجمع بين منهجين في الحكم مختلفين.
الثاني: لكن معنى هذا أنك تعطي المسلم الأمريكي مثلاً الحرية في أن يكون رئيساً بشرط أن يتخلى عن دينه.
الأول: كلاّ! فبإمكانه أن يظل مسلماً يصلي ويصوم ويحج ويفعل كل ما يأمره به دينه.
الثاني: إلاّ فيما يتعلق بالحكم.
الأول: نعم.
الثاني: لكن المسلم المخلص لدينه العارف به لا يرضى بهذا؛ لأنه يعرف أن دينه كلّ لا يقبل التجزئة؛ فالذي ينكر بعضه فقد أنكره كله. قال - تعالى - ((أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب)) [سورة البقرة: 85]. وهذا هو الذي يشترطه النظام العلماني على المسلم.
الأول: لكن النظام الإسلامي لا يعطيه حتى هذا القدر.
الثاني: النظام الإسلامي لا يمنع غير المسلم أن يكون مسلماً، وأن يتأهل بذلك أن يكون حاكماً للمسلمين. لكن الإنسان كما ذكرنا لا يكون مسلماً إلاّ إذا آمن بالدين كله؛ لأن نظام الحكم في الإسلام غير منفصل عن شرائعه الأخرى؛ بل إن هذا هو الحال في الديانات الأخرى وما زال هو الذي يراه بعض اليهود وبعض النصارى الرافضين للنظام العلماني، والذين يصفون العلمانية - كما نصفها - بكونها ديناً محارباً لأديانهم.
الأول: نعم! إنهم ليفرضون عليهم هذا باعتباره الدستور الذي ارتضته الأغلبية، لكنهم بعد ذلك يسمحون لهم بما لا يتعلق من دينهم بأمر الحكم.
الثاني: ونحن أيضاً نسمح لهم بما ذكرت، بل إننا لنعطيهم أكثر مما تعطيهم العلمانية الديمقراطية.
الأول: لكنهم يرون نظام الحكم الذي تفرضونه عليهم هو دينكم، وهم لا يرضون أن يفرض عليهم دين ليس بدينهم.
الثاني: نحن لا نفرضه عليهم بكونه ديناً بمعنى كونه عبادة يتقربون بها إلى الله، وإنما نفرضه عليهم باعتباره نظاماً للحكم ارتضته أغلبية المواطنين؛ ولا فرق في هذا بيننا وبين النظام العلماني الديمقراطي. فإذا كانوا وهم الأغلبية في البلاد الغربية العلمانية قد رضوا بأن يقصوا دينهم عن الحكم، ويرضوا بالعلمانية بديلاً؛ فما الذي يمنعهم - حيث يكونون أقلية في البلاد الإسلامية - من أن يرضوا بإقصاء دينهم عن الحكم والرضى بالحكم الإسلامي باعتباره اختيار الأغلبية في البلد الذي يعيشون فيه.
الأول: يبدو من كلامك هذا أنك تكاد ألا ترى في الحياة العلمانية الغربية الديمقراطية أي حسنة.
الثاني: أنا لم أقل ذلك وإنما كنت أرد ظنك بأنّ نظامهم يفضُل النظام الإسلامي.
الأول: أفهم من ذلك أنك ترى في الحياة الغربية جوانب حسنة؟
الثاني: لا شك في ذلك. بل أرى أن في كل أمة من الأمم بعض الجوانب الخيّرة. أقول هذا ديناً؛ لأني أعتقد أنه لا يمكن لإنسان لا خير فيه ألبتّة أن يرى الخير الذي في الدين الحق فيؤمن به. وما دام هذا الدين قد جاء للناس جميعاً، فلا بد أنّ الله - سبحانه تعالى - جعل فيهم من الخير ما يُمَكِّنُهم من رؤيته حقاً.
الأول: هلاّ ذكرت لي بعض هذه الجوانب الخيرة!
الثاني: الحديث في هذا قد يطول فالأكتفِ لك بذكر أحسن ما أراه عندهم. أحسن ما عندهم هو هذا التطور الكبير في العلوم الطبيعية وما بُني عليه من تقنية في شتى جوانب الحياة ومنها الجانب العسكري. وقد كنت أتمنى لو أننا ركّزنا على هذا الجانب العلمي التقني فيما نأخذه من الغرب، لكن العلمانيين في بلادنا شغلونا بمثل هذه القضايا التي كنا نتحدث عنها الآن؛ لأنهم لسذاجتهم ظنوا أن السبب الأساس لتطور الغرب هو فصله للدين عن الدولة، وقد كان هذا التركيز على الجانب الثقافي في التجربة الغربية هو السبب الأساس لضعفنا وعدم تطورنا؛ لأنه كان السبب الأساس في النزاع بيننا؛ وأنت تعلم أن الأمم لا تستطيع أن تحقق إنجازاً كبيراً دينياً أو دنيوياً وهي منقسمة على نفسها متنازعة فيما بينها. فأسأل الله تعالى أن يجمعنا على الخير، وأن يوفقنا للأخذ بأسباب النهضة والقوة والرفعة في كل جوانب حياتنا المادية والروحية.
الأول: آمين.
مجلة البيان العدد 166، جمادى الآخرة 1422هـ الموافق سبتمبر 2001هـ
قال الأول لصاحبه: إنه من حسنات البلاد الديمقراطية العلمانية أنها تعاملنا من حيث الدين معاملة أحسن من معاملتنا لها. من أمثلة ذلك أنهم يسمحون لنا بأن نبني المساجد ونقيم فيها الصلوات، ويسمحون لنا بحرية الدعوة إلى الإسلام بينما لا نسمح نحن لهم بشيء من ذلك في بلادنا
.
قال الثاني: إنّ ما ذكرته عنّا ليس بصحيح على إطلاقه؛ ففي العالم العربي والإسلامي نصارى يمارسون دينهم في كنائسهم وبِيَعِهم في حرّية كاملة. ألم تزر بلاداً مثل مصر والسودان؟
قال الأول: ولكن ماذا عن السعودية؟
الثاني: للسعودية وضع خاص؛ فهي جزء من الجزيرة التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يكون فيها دين غير الإسلام. وينبغي أن لا يكون هذا أمراً غريباً حتى على الدول الغربية التي أراك تدافع عنها
.
الأول: ماذا تعني؟
الثاني: ألم تسمع ببلد اسمه الفاتيكان؟ هل تجد فيه من مساجد أو دور للعبادة غير دور الكاثوليك؟
الأول: كلا.
الثاني: الأمر الثاني الذي كنت أود أن أُنبهك إليه هو أنهم لا يسمحون لنا بما يسمحون بدافع الإحسان إلينا، أو مجاملةً لنا كما يظن بعض الذين لا يعلمون، وإلاّ لقالوا لنا: إمّا أن تسمحوا لنا بما نسمح به لكم وإلاّ منعناكم كما تمنعوننا.
الأول: هذا ما كنت أظنهم فاعليه، وقد ازداد تقديري لهم إذ لم يفعلوه.
الثاني: إنّ ما يسمحون لنا به من قدر من الحرّية الدينية هو أمر يسمحون به لكل صاحب معتقد مُصدِّقاً بوجود الخالق أو مُنكراً لوجوده، مؤمناً كان أم مشركاً، عابد وثن أو عابد بشر. وكما يسمحون بِهذا القدر من الحرّية الفكرية فإنَّهم يسمحون بقدر مثله أو أكبر منه لدعاة الرذيلة من الشواذ والزناة وراسمي الصور الفاضحة. يفعلون كل هذا؛ لأنهم يرونه في مصلحة بلادهم بحسب تصورهم للحرية. وأمّا الأمر الثالث فهو أنهم يستعملون قوانينهم كثيراً ليحدوا من هذه الحرية سواء لزائريهم من البلاد الإسلامية أو القاطنين فيها.
الأول: أوافقك. ولكن ألا ترى مع ذلك أنّ نظامهم خير من نظامنا من حيث أنّ القدر الذي يسمح به من الحرية أكبر مما نسمح به نحن؟
الثاني: كلا لست أرى ما ترى؛ لأن الحريات لا تُقاس كميّاً، وإلاّ لكان أحسن النظم هو الذي يترك الناس سدى لا يأمر أحدهم بشيء ولا ينهاه عن شيء ألبتة.
الأول: بِمَ تُقاس إذن؟
الثاني: تقاس بمدى نفعها وضررها. فالنهي عن السرقة هو حد من الحرية، لكنه حد مفيد. أما النهي عن أكل السمك مثلاً فهو حد لا فائدة فيه، بل قد يكون ضرره بالغاً بالنسبة لبعض الناس. ولذلك وصف النواهي الإسلامية بأنها حدودٌ إذا تجاوزها الإنسان وقع فيما يضره. وبإمكانك أن تتصورها كالحدود التي توضع على جانبي الجسر؛ فهي أيضاً تحد من حرية السائر أو السائق، لكها مفيدة له؛ لأنها تمنعه من الوقوع في البحر أو الهوي في واد سحيق.
الأول: لا شك في ذلك. لكن من الذي يصدر هذه القوانين التي تُحِلّ وتُحَرِّم؟ إن النظام الديمقراطي يكل ذلك للناس؛ فهم الذين يحددون ما يُصلحهم وما يضرهم في حرية كاملة. أما النظم الدينية، ومنها النظام الإسلامي، فإنها لا تعطي الناس هذه الحرية، بل تكل الأمر إلى الدين.
الثاني: أتعني أنّ كل قانون يُحِلّ أو يُحَرِّم يصدر بإجماع الناس؟
الأول: كلا؛ فأنت تعلم أن الأمر ليس كذلك، وإنما الذي يُصدِره هم غالبية الناس.
الثاني: لكن غالبية الناس ليست هي التي تصدر القوانين في البلاد الديمقراطية العلمانية، وإنما الذي يصدرها هو المجالس التشريعية.
الأول: نعم! لكن هذه المجالس تتكون من أفراد اختارهم الناس بالأغلبية؛ فهم يعبرون عن أفكارهم.
الثاني: تعني أنهم يعبرون عن أفكار من صوَّتَ لهم.
الأول: لكن يستحيل واقعاً أن يكون الأمر على غير ذلك.
الثاني: نعم! ولكنك تعلم أيضاً أنه حتى قولنا بأنهم يعبرون عن رأي الأغلبية التي انتخبتهم ليس بصحيح؛ لأن هذه الأغلبية لا تُستَشار. ولو استُشيرت لما كان لأغلبيتها رأي في غالبية القوانين؛ لأنها تحتاج إلى معرفة لا تتوفر لهم.
الأول: لكن تبقى مع ذلك الحقيقة بأن هؤلاء قوم رضيهم الناس حكّاماً لهم، وأوكلوا إليهم إصدار ما يرونه مناسباً من القوانين.
الثاني: إذن؛ فالناس في البلاد الديمقراطية العلمانية رضوا بأن يكون المشرعون لهم بشراً مثلهم.
الأول: أجل! وهذا ما يمتازون به.
الثاني: واشترطوا عليهم أن تكون تشريعاتهم في إطار الدستور، ولم يتركوهم أحراراً يشرعون ما شاءوا.
الأول: نعم! لأن الاستقرار السياسي لا يتوفر إلا بشيء كهذا.
الثاني: ما الفرق بيننا وبينهم؟ نحن أيضاً يمكن أن تكون لنا مجالس تشريعية يختار الناس أعضاءها ويعطونهم حق التشريع على شرط أن لا يكون مخالفاً للقانون الأعلى للبلاد الذي يسمى دستوراً. والذي هو بالنسبة لنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الأول: لكن دستورهم هو نفسه مِن وَضعِهم، وبإمكانهم أن يُغيِّروا فيه ما شاءوا.
الثاني: لكن دستورهم أيضاً يتضمن مواد كتلك المتعلقة بما يسمونه حقوق الإنسان ليس لأحد أن يغيرها.
الأول: نعم! لأن هذه الحقوق لكل إنسان بما هو إنسان، فلا يجوز لأحد أن يجور عليها.
الثاني: من الذي أعطاه هذه المكانة؟ وعلى كلّ فأنا لا أريد أن نخرج عن موضوعنا لنتحدث عن حقوق الإنسان، فلعلنا نفعل ذلك في مناسبة أخرى. فلنعد إلى موضوعنا إذن!
الأول: حسن.
الثاني: أردت أن أقول لك إنه ليس لهم علينا فضل في كون دستورهم من اختراعهم؛ لأنهم إذا كانوا هم بمحض اختيارهم رأوا أنه من مصلحتهم أن يشرِّع لهم بشر مثلهم؛ فنحن أيضاً فكَّرنا لأنفسنا ورأينا أنه من مصلحتنا أن نرضى بما شرعه لنا ربنا الذي خلقنا، والذي هو أعلم منا بما هو مُفسِد أو مُصلِح لنا، والذي هو رحيم بنا لا يأمرنا إلا بما ينفعنا، ولا ينهانا إلا عما فيه ضرر علينا. لا فرق إذن بيننا وبينهم من حيث مبدأ الاختيار. فكما أنهم اختاروا بحريتهم، فنحن كذلك اخترنا بحريتنا، ولم يجبرنا ربّنا على الرضى بما شرع لنا، وإنما ترك الأمر لنا نحن البشر ((فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)) [سورة الكهف: 29]، ونحن اخترنا بتوفيق من ربنا أن نؤمن. فلا فضل لهم علينا إذن من حيث مبدأ حرية الاختيار، وإنما الفضل لنا نحن الذين أرانا الله الحق حقاً ووفقنا لاتّباعه.
الأول: لكن الذي اخترتموه دين، والناس يختلفون في أديانهم، ومجتمعاتنا المعاصرة متعددة الأديان، ولا بدّ لكل مواطن فيها من أن تكون له حقوق مساوية لغيره بغض النظر عن دينه.
الثاني: فكيف حلّت العلمانية هذا الإشكال؟
الأول: حلته حلاً يسيراً، هو أن تُقصَى الأديان عن الحكم حتى يكون لكل مواطن الحق في أن يتقلد أي منصب سياسي من رئاسة الدولة إلى ما دونها مهما كان دينه أو اعتقاده
.
الثاني: ونحن أيضاً نفعل ما فعلوا: نقصي كل الأديان - عدا الإسلام - عن الحكم، وكما
...
الأول: - مقاطعاً -: لكنهم أقصوها كلها ولم يستثنوا منها أحداً كما تفعلون.
الثاني:تعني أنهم أقصوها كلها ما عدا الدين العلماني.
الأول: ولكن العلمانية ليست ديناً.
الثاني: أجل! إنها والله لدين بمفهومنا العربي الإسلامي، لكنها شرّ دين.
الأول: ماذا تعني؟
الثاني: أعني أنّ الدين عندنا هو كل أمر يدين به الناس ويعتادونه ويمارسونه في أي جانب من جوانب حياتهم المادية والروحية سواء كان من عند ربهم أو كان من اختراعهم. ألم تسمع قول الشاعر العربي عن ناقته التي اجهدها بكثرة الترحال:
إذا مـا قمت أُرحِلها بليلٍ تَأَوَّه آهَةَ الرجلِ الحزينِ
تقول إذا شددت لها وضيني: أهـذا دينه أبداً وديني؟
أكل الدهر حِـلّ وارتحالٌ أما يُبقي عليّ وما يقيني؟
الأول: لكنك تعلم أنّ الشاعر استعمل الدين هنا بمعنى العادة؛ فما علاقة ذلك بأنظمة الحكم؟
الثاني: لا جدل في أنه استعمله بمعنى العادة؛ ولكن ألا ترى أنه إذا كان اعتياد الحِل والترحال وهو أمر واحد في حياة رجل وناقته يسمى ديناً، فمن باب أولى أن يسمى كذلك اعتياد ما كان أشمل نطاقاً وأكثر عدداً. ثم إن القرآن الكريم استعمل الدين بهذا المعنى العربي، ألم تسمع قول الله - تعالى - عن يوسف وأخيه: ((ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله)) [سورة يوسف: 76]، فالمقصود بالدين هنا ما نسميه الآن بالقانون. وفي القرآن الكريم أيضاً يطلق الدين على الهدي الذي أنزله الله - تعالى - وأرسل به رسوله، كما يطلق على ما يدين به الناس في الواقع سواء كان موافقاً لذلك الدين الحق أو مخالفاً له. يبين لك ذلك بوضوح حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ذكر فيه أن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها؛ فالدين الذي يُجَدَد هو ما يدين به الناس. أما الدين النازل من السماء فلا يحتاج إلى تجديد؛ لأنه لا يَخْلَق. وتجديد ما يدين به الناس هو جعله موافقاً للدين الحق
.
الأول: هذا تفسير غريب للدين، وهو مخالف لما اصطلح عليه الناس، ولا سيما في البلاد الغربية العلمانية التي هي موضوع حديثنا.
الثاني: لكن هل من الإنصاف أن يكون النقاش دائماً وفق تصوراتهم ومصطلحاتهم؟ لماذا لا نُفهِمُهُم أنّ هنالك اختلافاً بيننا حتى في تصورنا للدين؟ على كلّ أنا لا أريد للحوار أن يتحول إلى جدل عن الألفاظ. المهم أن تتضح المعاني؛ وإذا اتضحت فلا مشاحّة في الألفاظ. ألا يمكن أن نترك كلمة الدين ونستعمل بدلاً عنها كلمة تنطبق على العلمانية وما يسمونه هم ديناً؟ ما رأيك في عبارة منهاج الحياة؟
الأول: لا بأس بها.
الثاني: أرجوا أن يتضح لنا من استعمالها أن القول بأن النظام العلماني نظام محايد بين الأديان إنما هو خرافة راجت على كثير من الناس.
الأول: أظنني من المصدقين بهذه الخرافة؛ فهلاّ أوضحت لنا يا سيدي المنكر للخرافة دليلك على كونها خرافة؟
الثاني: هب أننا قلنا لإنسان منصف: إن هنالك نظامين (أ) و(ع) وأعطيناه الجدول الآتي:
النظام أ
النظام ع
إن الحكم إلاّ لله
إن الحكم إلاّ للشعب
يباح للرجل أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع
لا يجوز للرجل أن يتزوج أكثر من واحدة
يأخذ الورثة حقهم أوصى بذلك المُورِّث أم لم يوص
إنما يرث من أوصى له المُورِّث ولو كان حيواناً، وإذا لم يوص فللدولة أن تتصرف في ماله
الخمر حرام
الخمر حلال
لا تكون علاقة جنسية إلا بين المتزوجَين
تباح العلاقة الجنسية بين كل بالغين متراضيين
الربا حرام
الربا حلال
الأول: ما أظنه سيستطيع إذا وضع الأمر بهذه الطريقة.
الثاني: ولا طريقة غيرها. إذن فيجب على من يريد أن يكون مسلماً أن لا يخدع نفسه. إنه لا يمكن للإنسان أن يكون مؤمناً ويكون مع ذلك راضياً بالعلمانية نظاماً للحكم. فإما هذا أو ذاك.
الأول: نعم! إن منهاج الحكم العلماني يُقصي غيره عن منهاج الحكم؛ لأنك لا يمكن أن تطبق منهجين مختلفين في وقت واحد كما يتضح ذلك من جدولك. لكن ميزته على المناهج الأخرى - ومنها المنهج الإسلامي - أنه يفرق بين إقصاء الأفراد وإقصاء المناهج.
الثاني: ماذا تعني؟
الأول: أعني أنه يعامل الأفراد جميعاً معاملة متساوية باعتبارهم مواطنين من حق كل واحد منهم أن يتقلد أي منصب سياسي في الدولة إذا ارتضاه الناس.
الثاني: بشرط أن يكون حكمه وفقاً للدستور العلماني الذي يُقصي منهجه عن الحكم إذا كان مسلماً.
الأول: أجل! وأظننا قد اتفقنا على الأمر البدهي الذي يقضي باستحالة الجمع بين منهجين في الحكم مختلفين.
الثاني: لكن معنى هذا أنك تعطي المسلم الأمريكي مثلاً الحرية في أن يكون رئيساً بشرط أن يتخلى عن دينه.
الأول: كلاّ! فبإمكانه أن يظل مسلماً يصلي ويصوم ويحج ويفعل كل ما يأمره به دينه.
الثاني: إلاّ فيما يتعلق بالحكم.
الأول: نعم.
الثاني: لكن المسلم المخلص لدينه العارف به لا يرضى بهذا؛ لأنه يعرف أن دينه كلّ لا يقبل التجزئة؛ فالذي ينكر بعضه فقد أنكره كله. قال - تعالى - ((أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب)) [سورة البقرة: 85]. وهذا هو الذي يشترطه النظام العلماني على المسلم.
الأول: لكن النظام الإسلامي لا يعطيه حتى هذا القدر.
الثاني: النظام الإسلامي لا يمنع غير المسلم أن يكون مسلماً، وأن يتأهل بذلك أن يكون حاكماً للمسلمين. لكن الإنسان كما ذكرنا لا يكون مسلماً إلاّ إذا آمن بالدين كله؛ لأن نظام الحكم في الإسلام غير منفصل عن شرائعه الأخرى؛ بل إن هذا هو الحال في الديانات الأخرى وما زال هو الذي يراه بعض اليهود وبعض النصارى الرافضين للنظام العلماني، والذين يصفون العلمانية - كما نصفها - بكونها ديناً محارباً لأديانهم.
الأول: نعم! إنهم ليفرضون عليهم هذا باعتباره الدستور الذي ارتضته الأغلبية، لكنهم بعد ذلك يسمحون لهم بما لا يتعلق من دينهم بأمر الحكم.
الثاني: ونحن أيضاً نسمح لهم بما ذكرت، بل إننا لنعطيهم أكثر مما تعطيهم العلمانية الديمقراطية.
الأول: لكنهم يرون نظام الحكم الذي تفرضونه عليهم هو دينكم، وهم لا يرضون أن يفرض عليهم دين ليس بدينهم.
الثاني: نحن لا نفرضه عليهم بكونه ديناً بمعنى كونه عبادة يتقربون بها إلى الله، وإنما نفرضه عليهم باعتباره نظاماً للحكم ارتضته أغلبية المواطنين؛ ولا فرق في هذا بيننا وبين النظام العلماني الديمقراطي. فإذا كانوا وهم الأغلبية في البلاد الغربية العلمانية قد رضوا بأن يقصوا دينهم عن الحكم، ويرضوا بالعلمانية بديلاً؛ فما الذي يمنعهم - حيث يكونون أقلية في البلاد الإسلامية - من أن يرضوا بإقصاء دينهم عن الحكم والرضى بالحكم الإسلامي باعتباره اختيار الأغلبية في البلد الذي يعيشون فيه.
الأول: يبدو من كلامك هذا أنك تكاد ألا ترى في الحياة العلمانية الغربية الديمقراطية أي حسنة.
الثاني: أنا لم أقل ذلك وإنما كنت أرد ظنك بأنّ نظامهم يفضُل النظام الإسلامي.
الأول: أفهم من ذلك أنك ترى في الحياة الغربية جوانب حسنة؟
الثاني: لا شك في ذلك. بل أرى أن في كل أمة من الأمم بعض الجوانب الخيّرة. أقول هذا ديناً؛ لأني أعتقد أنه لا يمكن لإنسان لا خير فيه ألبتّة أن يرى الخير الذي في الدين الحق فيؤمن به. وما دام هذا الدين قد جاء للناس جميعاً، فلا بد أنّ الله - سبحانه تعالى - جعل فيهم من الخير ما يُمَكِّنُهم من رؤيته حقاً.
الأول: هلاّ ذكرت لي بعض هذه الجوانب الخيرة!
الثاني: الحديث في هذا قد يطول فالأكتفِ لك بذكر أحسن ما أراه عندهم. أحسن ما عندهم هو هذا التطور الكبير في العلوم الطبيعية وما بُني عليه من تقنية في شتى جوانب الحياة ومنها الجانب العسكري. وقد كنت أتمنى لو أننا ركّزنا على هذا الجانب العلمي التقني فيما نأخذه من الغرب، لكن العلمانيين في بلادنا شغلونا بمثل هذه القضايا التي كنا نتحدث عنها الآن؛ لأنهم لسذاجتهم ظنوا أن السبب الأساس لتطور الغرب هو فصله للدين عن الدولة، وقد كان هذا التركيز على الجانب الثقافي في التجربة الغربية هو السبب الأساس لضعفنا وعدم تطورنا؛ لأنه كان السبب الأساس في النزاع بيننا؛ وأنت تعلم أن الأمم لا تستطيع أن تحقق إنجازاً كبيراً دينياً أو دنيوياً وهي منقسمة على نفسها متنازعة فيما بينها. فأسأل الله تعالى أن يجمعنا على الخير، وأن يوفقنا للأخذ بأسباب النهضة والقوة والرفعة في كل جوانب حياتنا المادية والروحية.
الأول: آمين.