د. محمود عبد الرازق الرضواني
03-17-2006, 12:58 AM
إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلي الله عليه وسلم : يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلحْ لكُمْ أَعْمَالكُمْ وَيَغْفرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ، يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ الحشر/18 .أما بعد ..
فحديثنا بإذن الله تعالى يدور حول موضوع عظيم يتعلق ببداية الكون ونشأة الإنسان ، نظرا لأهميته في تكوين العقيدة الصحيحة التي بنيت على القرآن في فهم علاقة الكون بالإنسان ، وكيف أبان الخالق حجته في خلقه أكمل بيان ، فمن أكبر الحقائق وأعظمها في حياة الإنسان هي حقيقة وجود الإنسان ، فلو سألت نفسك ما الذي يتميز به الإنسان عمن حوله من الكائنات ؟ ولماذا كان هو الوحيد المستفيد من سائر الأشياء ؟ ولماذا وجد في الحياة على هذا الحال ؟ فهل تجد إجابة مقنعة تعتقدها وتعيد بها النظر في صفحة الحياة ؟!
أحيانا تتردد على النفس أفكار عديدة ، ويسبح معها المرء إلي مسافات بعيدة حتى إذا أحس بالغرق في متاهة شديدة عاد ، عاد مستيقظا إلي دوامة الحياة ، يُعرض ويبتعد عن خطرات النفس ووسواس الشيطان ، لكنها في الحقيقة كانت جولة من الأفكار انهزم فيها وولي مدبرا ، وسوف تتكرر مرارا إلي أن ينتصر على نفسه بسلاح العلم ، أو يعيش مهزوما في ظلمات الجهل ، وستبقي الأفكار تناديه ، والموت قريبا يأتيه ، فلا بد من علم يديم به البحث والنظر ، حتى تهدأ النفس أو يزول الخطر ، ألم تسأل نفسك يوما عن حقيقة الشيطان ؟ وعن عدائه الدائم للإنسان ؟ لماذا يوسوس لنا بالعصيان ؟ وما هي الحكمة من ذلك ؟ وكيف يمكن للإنسان أن يحمي نفسه من كيد الشيطان ؟ !
ألم تسأل نفسك عن تفسير مقنع لنشأة الخلق ، أو ماذا يحدث للإنسان بعد الموت ؟ لا شك عند العقلاء في وجود من صنع الأشياء ، وأوجدها على النظام البديع الذي نراه ، فلا يمكن أن توجد بغير إله عظيم في حكمته ، أو تستمر في وجودها بغير إرادته !! لكن العقلاء يعجبون ويتساءلون : ما هي الحكمة في وجود المخلوقات على هذا الوضع وبهذا القدر والاتساع ؟! كيف نشأت واستقرت واستمرت على هذا الإبداع ؟ هل صحيح ما ذكره علماء الفزياء عن بداية الكون وإن فيه انفجار العظيم هو الذي أحدث هذا الإبداع الكوني والتميز الإنساني ؟
العقلاء عندما ينظرون إلي الكون وما فيه من أشياء يؤمنون بوجود حكمة بالغة في صناعة هذه الأشياء ، وقد صدق الله عز وجل فيما قال : وَما خَلقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُما لاعِبِينَ ، مَا خَلقْنَاهُمَا إِلا بِالحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلمُونَ الدخان/39:38 ، فكيف نتعرف على تلك الحكمة ، وما هو التفسير المقبول الذي يملأ القلوب ويقنع العقول ؟
ألم ترغب يوما من الأيام أن تري مجتمعا طاهرا من الآثام ، يسوده الإخلاص والحب والسلام ؟ لمَ يتكالب الناس على الشهوات ، ويجعلون الغاية من حياتهم تحصيل الملذات ؟ ما الحكمة في أن نري الناس مختلفين آجالا وأرزاقا ، ألوانا وأخلاقا ، منهم الغني والفقير ، والأعمي البصير ، الجاهل والخبير ، منهم الظالم والمظلوم ، والحاكم والمحكوم ، لم لا يكون الناس سواسية في الملبس والمطعم ، والمسكن والمغنم ؟ هل يمكن للإنسان مهما بلغت درجته العلمية ، أن يتصدي لهذه الخواطر النفسية ، دون هداية حقيقية ، وتوجيهات إلهية ، تأخذ بيده من ظلمات الحيرة إلي نور الحياة ؟ لا شك أن الأمر يحتاج إلي التوقف والانتباه ..
وهذا الموضوع الذي نتحدث عنه اليوم نحاول فيه التعرف على حقيقة الإنسان وبداية الكون وصلتهما برب العزة والجلال ، وذلك من خلال ما جاء في الوحي من أوجه الكمال ، وبيان وجهة النظر الإسلامية المبنية على النقل الصحيح والأدلة الصافية في الإسلام ، ودلالة العقل الصريح وما يوجبه عند العقلاء من أحكام .
ولا بد من وقفة صدق مع النفس ، فالحياة مهما طالت قصيرة ، والنفس مهما بغت فقيرة ، والجهل بهذه الحقائق كبيرة ، فلا قيمة لإنسان يجهل الغاية من وجوده ، يقول تعالى : اعْلمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لعِبٌ وَلهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَال وَالأوْلادِ كَمَثَل غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الغُرُورِ ، ولنبدأ الآن بأعظم سؤال يتردد على الأذهان ، ما الذي يتميز به الإنسان عن الحيوان ، أو ما هي الميزة التي تجعل الإنسان منفردا غيره من الكائنات على الأرض ؟ أو ما هي قيمة الإنسان بين سائر المخلوقات ؟ تلك القيمة التي جعلته أعلى منزلة من غيره ، يستفيد ممن حوله ولا يستفاد منه ؟
لقد اختلف الناس في ذلك ولا زالوا مختلفين ، وقالوا أقوالا كثيرة كاجتهاد بلا يقين ، آراؤهم تكاد تنحصر في بعض الآراء العقلية التي تمثل أهم ما ورد في المسألة من جهود فكرية قدمها الإنسان ، فمنهم من قال تميز الإنسان عن سائر الكائنات بأنه حيوان ناطق يتكلم بأجود الكلمات وأبلغ العبارات ويحسن التعبير عما يجول في صدره من نوازع وخطرات ولا نسمع ذلك من بقية الكائنات ؟!
في الحقيقة هذا الكلام من الناحية العقلية عليه تعقيب واعتراضات ، لأننا نعلم أن مختلف المخلوقات تعيش في جماعات متوافقات متفاهمات ، ولا يمكن أن تكون على هذا الحال إلا إذا كانت متخاطبات متكلمات على طريقة ما أو كيفية يعلمها خالقها ومن دبر أمرها ، غير أننا لا نفهم مفردات الكلام بينهم .
فهم بالنسبة إلينا كالأجانب من البشر ، الذين يسمعون كلامنا ولا يستوعبون مرادنا ، ويستطيع المتخصصون الدارسون للعلوم المختلفة كعلم الحيوان والنباتات ، أو علم الطبيعة والجمادات ، أن يؤكدوا بيقين صدق هذه الحقيقة ، فانظر على سبيل المثال إلي مجموعات الطير والنحل أو الحيتان والنمل ، أو انظر إلي طبيعة الذرات الفلزات واللافلزات في تكوين العلاقات لإنشاء الجزيئيات ، كلها متوافقات متفاهمات ، وإن كنا لا ندري كيف يتم ذلك ؟
فإذا تساءل العقلاء : هل ورد في الإسلام ما يؤيد انفراد الإنسان بالنطق والبيان ؟ إذا طالعنا القرآن الذي يمثل عمدة الوحي في الإسلام وجدنا أنه ينفي انفراد الإنسان بصفة الكلام ، فكل شيء في المخلوقات له أيضا لغة وكلام ، ويتفاهم مع إخوانه في انسجام ، شأنهم في ذلك شأن البشر ، يتنوعون في اللغات والأجناس والصور .
فكما أن الإنسان يفهم لغة الإنسان الذي يتكلم بنفس اللسان كذلك موقفه من اللغة التي تتحدث بها هذه المخلوقات ، وما يراه بينها من رموز وإشارات ، فالقرآن يؤكد أن لها قولا ، ورموزا وشفرة وكلاما فيه عبرة ، ولهم قانون ونظام ، ومنهج وأحكام ، يتكاتفون في إظهاره ، ويتعاملون بينهم من خلاله ، والله سبحانه وتعالي يسمع قولهم وكلامهم ، ويعلم تسبيحهم ونظامهم ، فقال تعالى : أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَليمٌ بِمَا يَفْعَلُون النور/41 .
وقال أيضا عن السماوات والأرض ومن فيهن : تُسَبِّحُ لهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَليمًا غَفُورًا الإسراء/44 ، وقال سبحانه وتعالي في إثبات منطق الجبال ، وتسبيحها لله بالغدو والآصال : إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ فكانت تسبح مع داود عليه السلام ، حيث ناداها ربها ، وهو عليم بحالها ، وبنطقها وكلامها ، فكلفها وأمرها ، وناداها فقال لها : يَا جِبَالُ أَوِّبِي معَهُ وَالطَّيْرَ فتسبيح الجبال حقيقية لا خيال ، وقد بين الله أيضا في غير موضع من القرآن أنها مسبحات ناطقات ، ذاكرات عابدات ، على كيفية لا نعلمها .
وقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقرأ القرآن ، والجن يستمعون له بإمعان ، دون أن يشعر بوجودهم ، فتكلمت شجرة مجاورة لهم ، وأخبرت رسول الله صلي الله عليه وسلم عن سماعهم للقرآن ، فقد روي مسلم من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قَال : ( سَأَلتُ مَسْرُوقًا ، منْ آذَنَ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم بِالجِنِّ ليْلةَ استمَعُوا القُرْآنَ ؟ فَقَال : حَدَّثَنِي أَبُوكَ ، يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ أَنَّهُ آذَنَتْهُ بِهِمْ شَجَرَةٌ ) وعند البخاري قال : ( سَأَلتُ مَسْرُوقًا : مَنْ آذَنَ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم بِالجِنِّ ليْلةَ اسْتَمَعُوا القُرْآنَ ؟ فَقَال : حَدَّثَنِي أَبُوكَ يَعْنِي ، عَبْدَ اللهِ ، أَنَّهُ آذَنَتْ بِهِمْ شَجَرَةٌ ) .
ومن عجائب ما جاء في القرآن ، في شأن داود وسليمان عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، أن الله استخلف سليمان في ملك أبيه داود ، وأعطاه من النعم ما يفوق الحدود ، فعلمه منطق الطيور بأنواعها ، وسمع النملة تقدم النصح لإخوانها ، وكلم الهدهد عن بلقيس وشأنها ، لما جاءه من سبأ بأخبارها ، وكان له مع هذه الكائنات وغيرها ، شأن عجيب يطيب له قلب الإنسان ، فقال تعالى عن داود وسليمان : وَلقدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُليْمَانَ عِلمًا وَقالا الحَمْدُ للهِ الذِي فَضَّلنَا على كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُليْمَانُ دَاوُدَ وَقَال يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُل شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ النمل/16:15 ، قال المفسرون : ( أي آتيناهما علما بالقضاء وبكلام الطير والدواب وتسبيح الجبال ) فما كان لسليمان عليه السلام أن يكلم هذه المخلوقات ، لولا أن علمه الله لغتها ومنطقها ، ولذا قال الله بعدها : وَحُشِرَ لسُليْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِي النَّمْل قَالتْ نَمْلةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُليْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلهَا وَقَال رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التِي أَنْعَمْتَ على وَعلى وَالدَيَّ وَأَنْ أَعْمَل صَالحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالحِينَ .
ابن قيم الجوزية يقول : ( تكلمت النملة بعشرة أنواع من الخطاب في هذه النصيحة ، النداء والتنبيه والتسمية والأمر والنص والتحذير والتخصيص والتفهيم والتعميم والاعتذار ) ، وهو يستدل بكلام النملة على علمها بالله أكثر من الإنسان ، فالله عز وجل أخبرنا عن النمل أنه ركب فيه الشعور والنطق ولا سيما هذه النملة التي جمعت في خطابها بين النداء والتعيين ، والتنبيه والتخصيص والأمر لإخوانها ، وإضافة المساكن إلي أربابها ، والتجائهم إلي مساكنهم ، فلا يدخلون على غيرهم من الحيوانات مساكنهم ، والتعذير والاعتذار بأوجز خطاب ، وأعذب لفظ ولذلك فإن سليمان عليه السلام دعاه العجب من قولها إلي التبسم ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلهَا وأحري بهذه النملة وأخواتها ، أن يكونوا أعرف بالله من الجهمية ، والجهمية طائفة كلامية تنكر صفات الله عز وجل وتنفي عنه صفة الكلام .
فحديثنا بإذن الله تعالى يدور حول موضوع عظيم يتعلق ببداية الكون ونشأة الإنسان ، نظرا لأهميته في تكوين العقيدة الصحيحة التي بنيت على القرآن في فهم علاقة الكون بالإنسان ، وكيف أبان الخالق حجته في خلقه أكمل بيان ، فمن أكبر الحقائق وأعظمها في حياة الإنسان هي حقيقة وجود الإنسان ، فلو سألت نفسك ما الذي يتميز به الإنسان عمن حوله من الكائنات ؟ ولماذا كان هو الوحيد المستفيد من سائر الأشياء ؟ ولماذا وجد في الحياة على هذا الحال ؟ فهل تجد إجابة مقنعة تعتقدها وتعيد بها النظر في صفحة الحياة ؟!
أحيانا تتردد على النفس أفكار عديدة ، ويسبح معها المرء إلي مسافات بعيدة حتى إذا أحس بالغرق في متاهة شديدة عاد ، عاد مستيقظا إلي دوامة الحياة ، يُعرض ويبتعد عن خطرات النفس ووسواس الشيطان ، لكنها في الحقيقة كانت جولة من الأفكار انهزم فيها وولي مدبرا ، وسوف تتكرر مرارا إلي أن ينتصر على نفسه بسلاح العلم ، أو يعيش مهزوما في ظلمات الجهل ، وستبقي الأفكار تناديه ، والموت قريبا يأتيه ، فلا بد من علم يديم به البحث والنظر ، حتى تهدأ النفس أو يزول الخطر ، ألم تسأل نفسك يوما عن حقيقة الشيطان ؟ وعن عدائه الدائم للإنسان ؟ لماذا يوسوس لنا بالعصيان ؟ وما هي الحكمة من ذلك ؟ وكيف يمكن للإنسان أن يحمي نفسه من كيد الشيطان ؟ !
ألم تسأل نفسك عن تفسير مقنع لنشأة الخلق ، أو ماذا يحدث للإنسان بعد الموت ؟ لا شك عند العقلاء في وجود من صنع الأشياء ، وأوجدها على النظام البديع الذي نراه ، فلا يمكن أن توجد بغير إله عظيم في حكمته ، أو تستمر في وجودها بغير إرادته !! لكن العقلاء يعجبون ويتساءلون : ما هي الحكمة في وجود المخلوقات على هذا الوضع وبهذا القدر والاتساع ؟! كيف نشأت واستقرت واستمرت على هذا الإبداع ؟ هل صحيح ما ذكره علماء الفزياء عن بداية الكون وإن فيه انفجار العظيم هو الذي أحدث هذا الإبداع الكوني والتميز الإنساني ؟
العقلاء عندما ينظرون إلي الكون وما فيه من أشياء يؤمنون بوجود حكمة بالغة في صناعة هذه الأشياء ، وقد صدق الله عز وجل فيما قال : وَما خَلقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُما لاعِبِينَ ، مَا خَلقْنَاهُمَا إِلا بِالحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلمُونَ الدخان/39:38 ، فكيف نتعرف على تلك الحكمة ، وما هو التفسير المقبول الذي يملأ القلوب ويقنع العقول ؟
ألم ترغب يوما من الأيام أن تري مجتمعا طاهرا من الآثام ، يسوده الإخلاص والحب والسلام ؟ لمَ يتكالب الناس على الشهوات ، ويجعلون الغاية من حياتهم تحصيل الملذات ؟ ما الحكمة في أن نري الناس مختلفين آجالا وأرزاقا ، ألوانا وأخلاقا ، منهم الغني والفقير ، والأعمي البصير ، الجاهل والخبير ، منهم الظالم والمظلوم ، والحاكم والمحكوم ، لم لا يكون الناس سواسية في الملبس والمطعم ، والمسكن والمغنم ؟ هل يمكن للإنسان مهما بلغت درجته العلمية ، أن يتصدي لهذه الخواطر النفسية ، دون هداية حقيقية ، وتوجيهات إلهية ، تأخذ بيده من ظلمات الحيرة إلي نور الحياة ؟ لا شك أن الأمر يحتاج إلي التوقف والانتباه ..
وهذا الموضوع الذي نتحدث عنه اليوم نحاول فيه التعرف على حقيقة الإنسان وبداية الكون وصلتهما برب العزة والجلال ، وذلك من خلال ما جاء في الوحي من أوجه الكمال ، وبيان وجهة النظر الإسلامية المبنية على النقل الصحيح والأدلة الصافية في الإسلام ، ودلالة العقل الصريح وما يوجبه عند العقلاء من أحكام .
ولا بد من وقفة صدق مع النفس ، فالحياة مهما طالت قصيرة ، والنفس مهما بغت فقيرة ، والجهل بهذه الحقائق كبيرة ، فلا قيمة لإنسان يجهل الغاية من وجوده ، يقول تعالى : اعْلمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لعِبٌ وَلهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَال وَالأوْلادِ كَمَثَل غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الغُرُورِ ، ولنبدأ الآن بأعظم سؤال يتردد على الأذهان ، ما الذي يتميز به الإنسان عن الحيوان ، أو ما هي الميزة التي تجعل الإنسان منفردا غيره من الكائنات على الأرض ؟ أو ما هي قيمة الإنسان بين سائر المخلوقات ؟ تلك القيمة التي جعلته أعلى منزلة من غيره ، يستفيد ممن حوله ولا يستفاد منه ؟
لقد اختلف الناس في ذلك ولا زالوا مختلفين ، وقالوا أقوالا كثيرة كاجتهاد بلا يقين ، آراؤهم تكاد تنحصر في بعض الآراء العقلية التي تمثل أهم ما ورد في المسألة من جهود فكرية قدمها الإنسان ، فمنهم من قال تميز الإنسان عن سائر الكائنات بأنه حيوان ناطق يتكلم بأجود الكلمات وأبلغ العبارات ويحسن التعبير عما يجول في صدره من نوازع وخطرات ولا نسمع ذلك من بقية الكائنات ؟!
في الحقيقة هذا الكلام من الناحية العقلية عليه تعقيب واعتراضات ، لأننا نعلم أن مختلف المخلوقات تعيش في جماعات متوافقات متفاهمات ، ولا يمكن أن تكون على هذا الحال إلا إذا كانت متخاطبات متكلمات على طريقة ما أو كيفية يعلمها خالقها ومن دبر أمرها ، غير أننا لا نفهم مفردات الكلام بينهم .
فهم بالنسبة إلينا كالأجانب من البشر ، الذين يسمعون كلامنا ولا يستوعبون مرادنا ، ويستطيع المتخصصون الدارسون للعلوم المختلفة كعلم الحيوان والنباتات ، أو علم الطبيعة والجمادات ، أن يؤكدوا بيقين صدق هذه الحقيقة ، فانظر على سبيل المثال إلي مجموعات الطير والنحل أو الحيتان والنمل ، أو انظر إلي طبيعة الذرات الفلزات واللافلزات في تكوين العلاقات لإنشاء الجزيئيات ، كلها متوافقات متفاهمات ، وإن كنا لا ندري كيف يتم ذلك ؟
فإذا تساءل العقلاء : هل ورد في الإسلام ما يؤيد انفراد الإنسان بالنطق والبيان ؟ إذا طالعنا القرآن الذي يمثل عمدة الوحي في الإسلام وجدنا أنه ينفي انفراد الإنسان بصفة الكلام ، فكل شيء في المخلوقات له أيضا لغة وكلام ، ويتفاهم مع إخوانه في انسجام ، شأنهم في ذلك شأن البشر ، يتنوعون في اللغات والأجناس والصور .
فكما أن الإنسان يفهم لغة الإنسان الذي يتكلم بنفس اللسان كذلك موقفه من اللغة التي تتحدث بها هذه المخلوقات ، وما يراه بينها من رموز وإشارات ، فالقرآن يؤكد أن لها قولا ، ورموزا وشفرة وكلاما فيه عبرة ، ولهم قانون ونظام ، ومنهج وأحكام ، يتكاتفون في إظهاره ، ويتعاملون بينهم من خلاله ، والله سبحانه وتعالي يسمع قولهم وكلامهم ، ويعلم تسبيحهم ونظامهم ، فقال تعالى : أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَليمٌ بِمَا يَفْعَلُون النور/41 .
وقال أيضا عن السماوات والأرض ومن فيهن : تُسَبِّحُ لهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَليمًا غَفُورًا الإسراء/44 ، وقال سبحانه وتعالي في إثبات منطق الجبال ، وتسبيحها لله بالغدو والآصال : إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ فكانت تسبح مع داود عليه السلام ، حيث ناداها ربها ، وهو عليم بحالها ، وبنطقها وكلامها ، فكلفها وأمرها ، وناداها فقال لها : يَا جِبَالُ أَوِّبِي معَهُ وَالطَّيْرَ فتسبيح الجبال حقيقية لا خيال ، وقد بين الله أيضا في غير موضع من القرآن أنها مسبحات ناطقات ، ذاكرات عابدات ، على كيفية لا نعلمها .
وقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقرأ القرآن ، والجن يستمعون له بإمعان ، دون أن يشعر بوجودهم ، فتكلمت شجرة مجاورة لهم ، وأخبرت رسول الله صلي الله عليه وسلم عن سماعهم للقرآن ، فقد روي مسلم من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قَال : ( سَأَلتُ مَسْرُوقًا ، منْ آذَنَ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم بِالجِنِّ ليْلةَ استمَعُوا القُرْآنَ ؟ فَقَال : حَدَّثَنِي أَبُوكَ ، يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ أَنَّهُ آذَنَتْهُ بِهِمْ شَجَرَةٌ ) وعند البخاري قال : ( سَأَلتُ مَسْرُوقًا : مَنْ آذَنَ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم بِالجِنِّ ليْلةَ اسْتَمَعُوا القُرْآنَ ؟ فَقَال : حَدَّثَنِي أَبُوكَ يَعْنِي ، عَبْدَ اللهِ ، أَنَّهُ آذَنَتْ بِهِمْ شَجَرَةٌ ) .
ومن عجائب ما جاء في القرآن ، في شأن داود وسليمان عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، أن الله استخلف سليمان في ملك أبيه داود ، وأعطاه من النعم ما يفوق الحدود ، فعلمه منطق الطيور بأنواعها ، وسمع النملة تقدم النصح لإخوانها ، وكلم الهدهد عن بلقيس وشأنها ، لما جاءه من سبأ بأخبارها ، وكان له مع هذه الكائنات وغيرها ، شأن عجيب يطيب له قلب الإنسان ، فقال تعالى عن داود وسليمان : وَلقدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُليْمَانَ عِلمًا وَقالا الحَمْدُ للهِ الذِي فَضَّلنَا على كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُليْمَانُ دَاوُدَ وَقَال يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُل شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ النمل/16:15 ، قال المفسرون : ( أي آتيناهما علما بالقضاء وبكلام الطير والدواب وتسبيح الجبال ) فما كان لسليمان عليه السلام أن يكلم هذه المخلوقات ، لولا أن علمه الله لغتها ومنطقها ، ولذا قال الله بعدها : وَحُشِرَ لسُليْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِي النَّمْل قَالتْ نَمْلةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُليْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلهَا وَقَال رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التِي أَنْعَمْتَ على وَعلى وَالدَيَّ وَأَنْ أَعْمَل صَالحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالحِينَ .
ابن قيم الجوزية يقول : ( تكلمت النملة بعشرة أنواع من الخطاب في هذه النصيحة ، النداء والتنبيه والتسمية والأمر والنص والتحذير والتخصيص والتفهيم والتعميم والاعتذار ) ، وهو يستدل بكلام النملة على علمها بالله أكثر من الإنسان ، فالله عز وجل أخبرنا عن النمل أنه ركب فيه الشعور والنطق ولا سيما هذه النملة التي جمعت في خطابها بين النداء والتعيين ، والتنبيه والتخصيص والأمر لإخوانها ، وإضافة المساكن إلي أربابها ، والتجائهم إلي مساكنهم ، فلا يدخلون على غيرهم من الحيوانات مساكنهم ، والتعذير والاعتذار بأوجز خطاب ، وأعذب لفظ ولذلك فإن سليمان عليه السلام دعاه العجب من قولها إلي التبسم ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلهَا وأحري بهذه النملة وأخواتها ، أن يكونوا أعرف بالله من الجهمية ، والجهمية طائفة كلامية تنكر صفات الله عز وجل وتنفي عنه صفة الكلام .