المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل تميز الإنسان عن غيره بالكلام؟



د. محمود عبد الرازق الرضواني
03-17-2006, 12:58 AM
إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلي الله عليه وسلم :  يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلحْ لكُمْ أَعْمَالكُمْ وَيَغْفرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا  ،  يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ  الحشر/18 .أما بعد ..

فحديثنا بإذن الله تعالى يدور حول موضوع عظيم يتعلق ببداية الكون ونشأة الإنسان ، نظرا لأهميته في تكوين العقيدة الصحيحة التي بنيت على القرآن في فهم علاقة الكون بالإنسان ، وكيف أبان الخالق حجته في خلقه أكمل بيان ، فمن أكبر الحقائق وأعظمها في حياة الإنسان هي حقيقة وجود الإنسان ، فلو سألت نفسك ما الذي يتميز به الإنسان عمن حوله من الكائنات ؟ ولماذا كان هو الوحيد المستفيد من سائر الأشياء ؟ ولماذا وجد في الحياة على هذا الحال ؟ فهل تجد إجابة مقنعة تعتقدها وتعيد بها النظر في صفحة الحياة ؟!

أحيانا تتردد على النفس أفكار عديدة ، ويسبح معها المرء إلي مسافات بعيدة حتى إذا أحس بالغرق في متاهة شديدة عاد ، عاد مستيقظا إلي دوامة الحياة ، يُعرض ويبتعد عن خطرات النفس ووسواس الشيطان ، لكنها في الحقيقة كانت جولة من الأفكار انهزم فيها وولي مدبرا ، وسوف تتكرر مرارا إلي أن ينتصر على نفسه بسلاح العلم ، أو يعيش مهزوما في ظلمات الجهل ، وستبقي الأفكار تناديه ، والموت قريبا يأتيه ، فلا بد من علم يديم به البحث والنظر ، حتى تهدأ النفس أو يزول الخطر ، ألم تسأل نفسك يوما عن حقيقة الشيطان ؟ وعن عدائه الدائم للإنسان ؟ لماذا يوسوس لنا بالعصيان ؟ وما هي الحكمة من ذلك ؟ وكيف يمكن للإنسان أن يحمي نفسه من كيد الشيطان ؟ !

ألم تسأل نفسك عن تفسير مقنع لنشأة الخلق ، أو ماذا يحدث للإنسان بعد الموت ؟ لا شك عند العقلاء في وجود من صنع الأشياء ، وأوجدها على النظام البديع الذي نراه ، فلا يمكن أن توجد بغير إله عظيم في حكمته ، أو تستمر في وجودها بغير إرادته !! لكن العقلاء يعجبون ويتساءلون : ما هي الحكمة في وجود المخلوقات على هذا الوضع وبهذا القدر والاتساع ؟! كيف نشأت واستقرت واستمرت على هذا الإبداع ؟ هل صحيح ما ذكره علماء الفزياء عن بداية الكون وإن فيه انفجار العظيم هو الذي أحدث هذا الإبداع الكوني والتميز الإنساني ؟

العقلاء عندما ينظرون إلي الكون وما فيه من أشياء يؤمنون بوجود حكمة بالغة في صناعة هذه الأشياء ، وقد صدق الله عز وجل فيما قال :  وَما خَلقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُما لاعِبِينَ ، مَا خَلقْنَاهُمَا إِلا بِالحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلمُونَ  الدخان/39:38 ، فكيف نتعرف على تلك الحكمة ، وما هو التفسير المقبول الذي يملأ القلوب ويقنع العقول ؟

ألم ترغب يوما من الأيام أن تري مجتمعا طاهرا من الآثام ، يسوده الإخلاص والحب والسلام ؟ لمَ يتكالب الناس على الشهوات ، ويجعلون الغاية من حياتهم تحصيل الملذات ؟ ما الحكمة في أن نري الناس مختلفين آجالا وأرزاقا ، ألوانا وأخلاقا ، منهم الغني والفقير ، والأعمي البصير ، الجاهل والخبير ، منهم الظالم والمظلوم ، والحاكم والمحكوم ، لم لا يكون الناس سواسية في الملبس والمطعم ، والمسكن والمغنم ؟ هل يمكن للإنسان مهما بلغت درجته العلمية ، أن يتصدي لهذه الخواطر النفسية ، دون هداية حقيقية ، وتوجيهات إلهية ، تأخذ بيده من ظلمات الحيرة إلي نور الحياة ؟ لا شك أن الأمر يحتاج إلي التوقف والانتباه ..

وهذا الموضوع الذي نتحدث عنه اليوم نحاول فيه التعرف على حقيقة الإنسان وبداية الكون وصلتهما برب العزة والجلال ، وذلك من خلال ما جاء في الوحي من أوجه الكمال ، وبيان وجهة النظر الإسلامية المبنية على النقل الصحيح والأدلة الصافية في الإسلام ، ودلالة العقل الصريح وما يوجبه عند العقلاء من أحكام .

ولا بد من وقفة صدق مع النفس ، فالحياة مهما طالت قصيرة ، والنفس مهما بغت فقيرة ، والجهل بهذه الحقائق كبيرة ، فلا قيمة لإنسان يجهل الغاية من وجوده ، يقول تعالى :  اعْلمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لعِبٌ وَلهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَال وَالأوْلادِ كَمَثَل غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الغُرُورِ  ، ولنبدأ الآن بأعظم سؤال يتردد على الأذهان ، ما الذي يتميز به الإنسان عن الحيوان ، أو ما هي الميزة التي تجعل الإنسان منفردا غيره من الكائنات على الأرض ؟ أو ما هي قيمة الإنسان بين سائر المخلوقات ؟ تلك القيمة التي جعلته أعلى منزلة من غيره ، يستفيد ممن حوله ولا يستفاد منه ؟

لقد اختلف الناس في ذلك ولا زالوا مختلفين ، وقالوا أقوالا كثيرة كاجتهاد بلا يقين ، آراؤهم تكاد تنحصر في بعض الآراء العقلية التي تمثل أهم ما ورد في المسألة من جهود فكرية قدمها الإنسان ، فمنهم من قال تميز الإنسان عن سائر الكائنات بأنه حيوان ناطق يتكلم بأجود الكلمات وأبلغ العبارات ويحسن التعبير عما يجول في صدره من نوازع وخطرات ولا نسمع ذلك من بقية الكائنات ؟!

في الحقيقة هذا الكلام من الناحية العقلية عليه تعقيب واعتراضات ، لأننا نعلم أن مختلف المخلوقات تعيش في جماعات متوافقات متفاهمات ، ولا يمكن أن تكون على هذا الحال إلا إذا كانت متخاطبات متكلمات على طريقة ما أو كيفية يعلمها خالقها ومن دبر أمرها ، غير أننا لا نفهم مفردات الكلام بينهم .

فهم بالنسبة إلينا كالأجانب من البشر ، الذين يسمعون كلامنا ولا يستوعبون مرادنا ، ويستطيع المتخصصون الدارسون للعلوم المختلفة كعلم الحيوان والنباتات ، أو علم الطبيعة والجمادات ، أن يؤكدوا بيقين صدق هذه الحقيقة ، فانظر على سبيل المثال إلي مجموعات الطير والنحل أو الحيتان والنمل ، أو انظر إلي طبيعة الذرات الفلزات واللافلزات في تكوين العلاقات لإنشاء الجزيئيات ، كلها متوافقات متفاهمات ، وإن كنا لا ندري كيف يتم ذلك ؟

فإذا تساءل العقلاء : هل ورد في الإسلام ما يؤيد انفراد الإنسان بالنطق والبيان ؟ إذا طالعنا القرآن الذي يمثل عمدة الوحي في الإسلام وجدنا أنه ينفي انفراد الإنسان بصفة الكلام ، فكل شيء في المخلوقات له أيضا لغة وكلام ، ويتفاهم مع إخوانه في انسجام ، شأنهم في ذلك شأن البشر ، يتنوعون في اللغات والأجناس والصور .

فكما أن الإنسان يفهم لغة الإنسان الذي يتكلم بنفس اللسان كذلك موقفه من اللغة التي تتحدث بها هذه المخلوقات ، وما يراه بينها من رموز وإشارات ، فالقرآن يؤكد أن لها قولا ، ورموزا وشفرة وكلاما فيه عبرة ، ولهم قانون ونظام ، ومنهج وأحكام ، يتكاتفون في إظهاره ، ويتعاملون بينهم من خلاله ، والله سبحانه وتعالي يسمع قولهم وكلامهم ، ويعلم تسبيحهم ونظامهم ، فقال تعالى :  أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَليمٌ بِمَا يَفْعَلُون  النور/41 .

وقال أيضا عن السماوات والأرض ومن فيهن :  تُسَبِّحُ لهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَليمًا غَفُورًا  الإسراء/44 ، وقال سبحانه وتعالي في إثبات منطق الجبال ، وتسبيحها لله بالغدو والآصال :  إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ  فكانت تسبح مع داود عليه السلام ، حيث ناداها ربها ، وهو عليم بحالها ، وبنطقها وكلامها ، فكلفها وأمرها ، وناداها فقال لها :  يَا جِبَالُ أَوِّبِي معَهُ وَالطَّيْرَ  فتسبيح الجبال حقيقية لا خيال ، وقد بين الله أيضا في غير موضع من القرآن أنها مسبحات ناطقات ، ذاكرات عابدات ، على كيفية لا نعلمها .

وقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يقرأ القرآن ، والجن يستمعون له بإمعان ، دون أن يشعر بوجودهم ، فتكلمت شجرة مجاورة لهم ، وأخبرت رسول الله صلي الله عليه وسلم عن سماعهم للقرآن ، فقد روي مسلم من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قَال : ( سَأَلتُ مَسْرُوقًا ، منْ آذَنَ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم بِالجِنِّ ليْلةَ استمَعُوا القُرْآنَ ؟ فَقَال : حَدَّثَنِي أَبُوكَ ، يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ أَنَّهُ آذَنَتْهُ بِهِمْ شَجَرَةٌ ) وعند البخاري قال : ( سَأَلتُ مَسْرُوقًا : مَنْ آذَنَ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم بِالجِنِّ ليْلةَ اسْتَمَعُوا القُرْآنَ ؟ فَقَال : حَدَّثَنِي أَبُوكَ يَعْنِي ، عَبْدَ اللهِ ، أَنَّهُ آذَنَتْ بِهِمْ شَجَرَةٌ ) .

ومن عجائب ما جاء في القرآن ، في شأن داود وسليمان عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ، أن الله استخلف سليمان في ملك أبيه داود ، وأعطاه من النعم ما يفوق الحدود ، فعلمه منطق الطيور بأنواعها ، وسمع النملة تقدم النصح لإخوانها ، وكلم الهدهد عن بلقيس وشأنها ، لما جاءه من سبأ بأخبارها ، وكان له مع هذه الكائنات وغيرها ، شأن عجيب يطيب له قلب الإنسان ، فقال تعالى عن داود وسليمان :  وَلقدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُليْمَانَ عِلمًا وَقالا الحَمْدُ للهِ الذِي فَضَّلنَا على كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُليْمَانُ دَاوُدَ وَقَال يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُل شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ  النمل/16:15 ، قال المفسرون : ( أي آتيناهما علما بالقضاء وبكلام الطير والدواب وتسبيح الجبال ) فما كان لسليمان عليه السلام أن يكلم هذه المخلوقات ، لولا أن علمه الله لغتها ومنطقها ، ولذا قال الله بعدها :  وَحُشِرَ لسُليْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ، حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِي النَّمْل قَالتْ نَمْلةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُليْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلهَا وَقَال رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التِي أَنْعَمْتَ على وَعلى وَالدَيَّ وَأَنْ أَعْمَل صَالحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالحِينَ  .

ابن قيم الجوزية يقول : ( تكلمت النملة بعشرة أنواع من الخطاب في هذه النصيحة ، النداء والتنبيه والتسمية والأمر والنص والتحذير والتخصيص والتفهيم والتعميم والاعتذار ) ، وهو يستدل بكلام النملة على علمها بالله أكثر من الإنسان ، فالله عز وجل أخبرنا عن النمل أنه ركب فيه الشعور والنطق ولا سيما هذه النملة التي جمعت في خطابها بين النداء والتعيين ، والتنبيه والتخصيص والأمر لإخوانها ، وإضافة المساكن إلي أربابها ، والتجائهم إلي مساكنهم ، فلا يدخلون على غيرهم من الحيوانات مساكنهم ، والتعذير والاعتذار بأوجز خطاب ، وأعذب لفظ ولذلك فإن سليمان عليه السلام دعاه العجب من قولها إلي التبسم ، فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلهَا وأحري بهذه النملة وأخواتها ، أن يكونوا أعرف بالله من الجهمية ، والجهمية طائفة كلامية تنكر صفات الله عز وجل وتنفي عنه صفة الكلام .

د. محمود عبد الرازق الرضواني
03-17-2006, 01:01 AM
وقد كان في منطق الهدهد الذي كلم سليمان عليه السلام ، ما يدل على فصاحة القول من خلال دقة كلماته ، وظهور الحكمة في عباراته ، وحسن التعبير عن مراداته ، فقال الله تعالى :  وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَال مَا لي لا أَرَي الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الغَائِبِينَ ، لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ ليَأْتِيَنِي بِسُلطَانٍ مُبِينٍ ، فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَال أَحَطتُ بِمَا لمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ، إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلكُهُمْ ، وَأُوتِيَتْ مِنْ كُل شَيْءٍ وَلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَزَيَّنَ لهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيل فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ، أَلا يَسْجُدُوا للهِ الذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلنُونَ ، اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ  النمل/26:20 .

فالهدهد توعده سليمان فأعمل ذكاءه ، لما جاءه بادره بالعذر قبل أن ينذره سليمان بالعقوبة ، وخاطبه خطابا هيجه به على الإصغاء للخطاب ، ليصرفه عن وعيده بالذبح أو العذاب ، فقال : أحطت بما لم تحط به ، والإحاطة أكمل من العلم والرؤية ، أتيتك بأمر قد عرفته حق المعرفة ، وهو خبر عظيم له شأن عظيم ، وجئتك من سبأ بنبأ يقين ، والنبأ هو الخبر الذي له شأن عظيم ، تتطلع النفوس إلي معرفته ، ثم وصفه خبره بأنه نبأ يقين لا شك فيه ولا ريب ، فهذه مقدمة لكلامه بين يدي نبي الله سليمان ، ليعظم الأمر ولا يبقي عليه عضبان ، وهذا نوع من براعة الاستهلال وخطاب التهييج والاستنفار ، ثم كشف عن حقيقة ما لديه من أخبار ، كشفا مؤكدا بأنواع التأكيد والاستدلال ، فقال : إني وجدت امرأة تملكهم ، ثم أخبر عن شأن تلك الملكة ، وأنها من أجل الملوك ، وأنها أوتيت من كل شيء يلزم سائر الملوك ، ثم زاد في تعظيم شأنها ، بذكر جلوسها على عرشها ، ووصف عرشها بأنه عرش عظيم ، ثم أخبره بما يدعوهم إلي غزوهم في عقر دارهم بعد دعوتهم إلي ربهم ، فقال :
وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ، ثم أخبر عن الشيطان وتزينه الشرك للإنسان ، حتى صدهم بأعمالهم وشركهم عن السبيل المستقيم وهو السجود لله العلى العظيم ، ثم أخبر أن صدهم حال بينهم وبين الهداية والسجود لله ، ثم بين أنه لا ينبغي السجود إلا لله ، ثم ذكر من أفعال الله إخراج الخبء في السماوات والأرض ، وفي قوله هذا أعظم دلالة على عقيدته في القضاء والقدر ، وأن الرزق مكتوب ومقضي في السماء قبل أن يخلق الله في الأرض ما يشاء ، ثم أثبت لله تعالى صفة الاستواء ، وأن الله بذاته على عرشه في السماء ، فنفي مذهب الجهمية والمعتزلة والأشعرية وسائر الحلولية في تفسيرهم الاستواء بالقهر والاستيلاء ، فالهدهد هدهد موحد ، عقيدته سلفية في باب الأسماء والصفات ، توحيد بلا تمثيل وإثبات بلا تعطيل .

فكلمه سليمان كما يكلم صاحب العقل الرزين ، ولم يعجل في حكمه حتى يتبين أنه من الصادقين ، كما قال سبحانه وتعالي وهو أحكم الحاكمين :  قَال سَنَنظرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الكَاذِبِينَ ، اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلقِهِ إِليْهِمْ ثُمَّ تَوَل عَنْهُمْ فَانظرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلقيَ إلي كِتَابٌ كَرِيمٌ ، إِنَّهُ مِنْ سُليْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلا تَعْلُوا على وَأْتُونِي مُسْلمِينَ  النمل/31:27.

وعلى هذه نصل إلي أن الكائنات تتكلم بنص القرآن ، ولو أدركنا منطقها كما أدركه سليمان ، لعلمنا أنها لا تقل عن الإنسان شيئا في إمكانية النطق والبيان ولكن بالكيفية التي تناسبها ، وعلى الوضع الذي أراده خالقها ، وقد يعترض معترض ويقول : كيف تتكلم الحجارة والمعادن ، وهي صماء بكماء ، ولا نسمع لها قولا ولا كلاما ؟ وقد ذكر الله في شأن إبراهيم عليه السلام ، لما قال له قومه بعد أن حطم الأصنام :
 قَالُوا أَأَنْتَ فَعلتَ هَذَا بِآلهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَال بَل فَعَلهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ ، فَرَجَعُوا إلي أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالمُونَ ، ثُمَّ نُكِسُوا على رُءوسِهِمْ لقَدْ عَلمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ  الأنبياء/65:62 ، وقال الله منكرا على بني إسرائيل أنهم عبدوا العجل من دون الله :  وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَي مِنْ بَعدِهِ مِنْ حُليِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لهُ خُوَارٌ أَلمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالمِينَ  الأعراف/148 .

فكيف يكون للحجارة بعد هذا قول ولغة وكلام ؟ وجواب ذلك أن يقال : نفي الكلام مطلقا عن أي مخلوق من المخلوقات يعارض عقل الإنسان ويخالف ما جاء في القرآن ، فكل نوع من الكائنات وردت فيه الأدلة المنصوصة على أنه متكلم ناطق بهيئة مخصوصة وكيفية مخصوصة ، ربما نجهلها لكن الله يعلمها فيصح السؤال لو قيده المعترض فقال : كيف تتكلم الحجارة والمعادن بلغة الإنسان أو الحيوان ؟ أما التعميم في النفي فهو مخالف لصريح القرآن كما قال سبحانه وتعالي :
 وَقَالُوا لجُلُودِهِمْ لمَ شَهِدْتُمْ عَليْنَا قَالُوا أَنطَقنَا اللهُ الذِي أَنطَقَ كُل شَيْءٍ وَهُوَ خَلقَكُمْ أَوَّل مَرَّةٍ وَإِليْه تُرْجَعُون  فصلت/21 َ، فتأمل الشاهد في الآية وفكر بإمعان ، ستجد الدليل بنص القرآن على أن كل شيء ناطق بحول الله ، فلو أدرك الإنسان كلام مخلوق ما سماه ناطقا ، وسماه أصما أبكما على اعتبار عدم الفهم والاستجابة ، وكذلك ينعكس الأمر على الإنسان ، على اعتبار عدم الفهم والاستجابة منه للغة ما أو دعوة ما ، كقول القائل العربي عن الأعجمي : هذا لا يتكلم أي لا يتكلم العربية ، وكوصف الله للمنافقين والكافرين بالصمم والبكم في قوله تعالى :  صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعونَ  ، مع أنهم يتكلمون اللغة العربية بطلاقة ، أو كقوله :  إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ الذِينَ لا يَعْقِلُونَ  ، وقوله :  وَالذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأْ اللهُ يُضْللهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلهُ على صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ  .

وهذه الحجارة التي عبدوها من دون الله ، خلقها الله بكيفية مخصوصة لا تسمح بمخاطبة الإنسان ، فلن تتأثر بندائه ، ولن تستجيب لدعائه ، وعلى الرغم من ذلك جعلها الله في بعض المواطن عونا لأوليائه ، حربا على أعدائه تتكلم بما يفهمه الإنسان من منطق وبيان ، إما في نهاية الزمان عند محاربة اليهود ، أو عند الحساب في اليوم الموعود ، روي البخاري من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصارى  أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ  قَال لهُ :
( إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الغَنَمَ وَالبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاةِ ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ ، فَإِنَّهُ لا يَسْمَعُ مَدَي صَوْتِ المُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلا إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ إِلا شَهِدَ لهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ، قَال أَبُو سَعِيدٍ : سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم ) والشاهد في الحديث أن المخلوقات تسمع صوت المؤذن وتشهد له بذلك يوم القيامة ، وقد ورد الحديث عند ابن ماجة وصححه الشيخ الألباني بلفظ آخر : ( إِذَا كُنْتَ فِي البَوَادِي فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالأذَانِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ لا يَسْمَعُهُ جِنٌّ وَلا إِنْسٌ وَلا شَجَرٌ وَلا حجر إِلا شَهِدَ له ) ، قال أبو عمر بن عبد البر : ( والحديث يشهد بفضل رفع الصوت في الأذان ولا أدري كيفية فهم الموات والجماد ؟ ، كما لا أدري كيفية تسبيحها ؟ ،  وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ  .

وقد روي البخاري ومسلم من حديث عبد الله بْنَ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهمَا قَال : ( سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ : تُقَاتِلُكُمُ اليَهُودُ فَتُسَلطُونَ عَليْهِمْ ثُمَّ يَقُولُ الحَجَرُ يَا مُسْلمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُله ) ، وعقب ابن حجر بقوله : ( وفي الحديث ظهور الآيات قرب قيام الساعة من كلام الجماد من شجر وحجر ، وظاهره أن ذلك ينطق حقيقة ) .

وقال تعالى :  إِذَا زُلزِلتْ الأرْضُ زِلزَالهَا ، وَأَخْرَجَتْ الأرْضُ أَثْقَالهَا ، وَقَال الإِنسَانُ مَا لهَا ، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَي لهَا  تخبر الأرض بما عمل عليها الإنسان من خير وشر ، حيث أمرها الله بالكلام وأذن لها فيه ، وهذه الأصنام التي تعجز عن الكلام ، لو تكلمت بلغة الإنسان لعابت على عُبَّادِها ما يصنعون ، كيف يشركون ولا يوحدون ؟ كما قال تعالى في شأنهم وشأن الكائنات :  وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ  الإسراء/44 ، وإذا نظرنا بنظرة عصرية ، يفهمها أصحاب العلوم المادية ، وجدنا بالأبحاث العلمية أن المادة تتكون من مجموعة من العناصر والمرَكَّبات وكل عنصر مكون من مجموعة من الجزيئيات ، وكل جزيئ مكون من مجموعة من الذرات ، وكل ذرة لها نظام في تركيبها ، وجميع الذرات لها قانون في مداراتها ، ينظم التكافؤ لكل ذرة في علاقتها بأختها ، سواء كانت الذرةُ سالبةً أو موجبةً .

ولولا معرفةُ الإنسان لتركيب الذرة منذ حين ، وبعد جهل به دام آلاف السنين ، ما استطعنا أن نعلم أن المادة في عناصرها عبارة عن أخوات من الذرات ، متفاهمات متخاطبات ، ولولا أنها متكاتفات متماسكات ، وفق رموز وشفرات ، ما ظهرت لنا المواد في صورتها التي نراها ، وإلا فاسئل المتخصصين من العلماء في علم الطبيعة والفزياء كيف سيتكون جزئُ الماء ، إذا لم تتحد ذرتان من الهيدروجين مع ذرة واحدة من الأكسجين ؟ ولولا أنهم علموا بوجود الطاقة الهائلة المدفونة في باطن النواة المتعادلة ، وخصوصا الذرات المشعات القابلة للتمزق والشتات ، لولا أنهم علموا لهجة خطابها والقوانين التي تعمل من خلالها ، لما عكفوا على البحث لتحويلها إلي ما نراه من القنابل الذرية والرؤوس النووية التي لا تبقي ولا تذر ، وعلى ذلك فالحجارة والمعادن يراها الجاهل بحقيقتها صماء ، ويراها عالم الفزياء والكمياء ، الكْتُرُونَاتٍ متحركةً سالبةً ، وبُرُوتُونَاتٍ جاذبةً موجبةً ونِيُوتْرُونَاتٍ متعادلةً ساكنةً ، لها دستور ونظام ، وقانون وأحكام ، والذرات في ذلك متماسكة ، لا تمل ولا تعتل ، ولا تختل ولا تنحل ، إلا إذا شاء الله لها الفناء وتحولت إلي صورة من صور الطاقة .

فالكل متكلم ناطق بكيفية تليق به ، سواء تحركت شفتاه ، أو كان بغير فاه ، وسواء أدركنا قوله أو جهلناه ، أو اعتبره البعض متكلما أو لم يعتبره ، فالحقيقة التي يصدقها العقل ، وورد ذكرها في النقل أن الله الذي خلق جميع الكائنات ، يعلم منطقهم جميعا ، ويسمع تسبيحهم جميعا ، ويري صلاتهم جميعا ، كما قال :  كُلٌّ قَدْ عَلمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَليمٌ بِمَا يَفْعَلُون  النور/41 ، وقال :  إِنَّ اللهَ لا يَخْفي عَليْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ  آل عمران/ 6:5 ، فهو سبحانه الذي أحاط بكل شيء علما وأحصي كل شيء عدداً ، ولا شك أن الذي خلق الإنسان أو الحيوان ، أو غيره من المخلوقات في الأرض أو في السماوات ، قادر على تكوين الكائنات على أي وضع شاء ، إن شاء ختم على فم الإنسان فما استطاع الكلام :  اليَوْمَ نَختِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون  يس/65 وإن شاء أنطق الحيوان بالحكمة وروعة البيان ، فقد ثبت عند البخاري من حديث أبي هريرة  أن رَسُول الله صلي الله عليه وسلم :
( صَلي صَلاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْبَل على النَّاسِ فَقَال : بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا ، فَقَالتْ : إِنَّا لمْ نُخْلقْ لهَذَا ، إِنَّمَا خُلقْنَا للحَرْثِ ، فَقَال النَّاسُ : سُبْحَانَ اللهِ بَقَرَةٌ تتَكَلمُ ؟ فَقَال : فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَمَا هُمَا ثَمَّ ، ثم قال صلي الله عليه وسلم: وَبَيْنمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ ، فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ فَطَلبَ حتى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ ، فَقَال لهُ الذِّئْبُ : هَذَا اسْتَنْقَذْتَها مِنِّي ، فَمَنْ لهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لا رَاعِيَ لهَا غَيْرِي ؟ فَقَال النَّاسُ : سُبْحَانَ اللهِ ذِئْبٌ يَتَكَلمُ ؟ قَال : فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمرُ ، وَمَا هُمَا ثَمَّ )
وعند أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث عبد الله بن جعفر  قال : ( دَخَل رسول الله صلي الله عليه وسلم حائِطًا لرَجُلٍ مِنَ الأنْصَارِ - الحائط هو البستان ، أو الأرض المحاطة بسور - ، فَإِذَا جَمَلٌ ، فَلمَّا رَأي النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ - يعني لمَّا رَأي الجملُ رسول الله صلي الله عليه وسلم بكي ، وشكا له ظلم صاحبه حيث يتركه بلا طعام ، ولا يعطيه حقه في الراحة أو المنام - ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ - الذفر أصل الأذن وطرفها - ، فَسَكَتَ ، فَقَال : مَنْ رَبُّ هَذَا الجَمَل - يعني مالكه والقائم على أمره - ؟ لمَنْ هَذَا الجَمَلُ ؟ فَجَاءَ فتي مِنَ الأنْصَارِ فَقَال : لي يَا رَسُول اللهِ ! فَقَال : أَفَلا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ البَهِيمَةِ التِي مَلكَكَ اللهُ إِيَّاهَا فَإِنَّهُ شَكَا إلي أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُه ) .

فإذا كان الحيوان لا يتكلم بقولنا ولا ينطق بكلامنا ، فنحن أيضا نعجز عن الكلام مع هذه المخلوقات ، والمتخصصون من العلماء يعلمون أن لغة الحيوان أشد تعقيدا من لغة الإنسان ، وتحتاج منا لو أردنا التعرف على شفرة الخطاب بينها وفك رموزها وألغازها إلي دراسة علمية شاقة يقدرها علماء الحيوان على وجه الخصوص ، فمن بداهة العقل إذا ألا نقبل القول بأن الإنسان تميز عن غيره بأنه حيوان ناطق ؟

سؤال : إذا لم يكن الإنسان متميزا عن غيره بالنطق والكلام ، فهل يتميز بأنه عاقل حكيم يحرص على نفعه ودفعه ما يضره ؟ من وجهة النظر العقلية نجد أن الإنسان لا ينفرد عن هذه المخلوقات بوصف العقل ، بل يمكن القول إنه عند القياس أقل من غيره نصيبا وأكثر معيبا ، وقبل إقامة البرهان على ذلك لا بد من معرفة المقصود بالعقل ؟

فالعقل آلة غيبية تابعة للروح ، مغروزة في الجانب الغيبي من قلب الإنسان لا نعرف كيفيتها ولكن نتعرف على وجودها ووجود أوصافها من خلال أفعال الإنسان في ظاهر البدن ، فيقال : هذا عاقل إذا فعل أفعال العقلاء وهذا مجنون إذا لم يتصف بها ، قال تعالى :  أَفَلمْ يسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا  الحج/46 ، فدل ذلك على أن العقل موجود في القلب وأن القلب يرجع إليه ويهيمن عليه ، وهو المسئول عن شحنه بالمعلومات أو تركه أجوفا فارغا ، يقول الثعالبي في تفسيره : ( هذه الآية تقتضي أن العقل في القلب ، وذلك هو الحق ولا ينكر أن للدماغ اتصالا بالقلب يوجب فساد العقل متي اختل الدماغ ) ويقول القرطبي : ( أضاف العقل إلي القلب لأنه محله كما أن السمع محل الأذن ، وقد قيل : إن العقل محله الدماغ ، وروي عن أبي حنيفة وما أراها عنه صحيحا ) .

والعقل يقوم بتحصيل المعلومات وجمعها ، والحواس وسيلة الإنسان لإدراكها ، فهي المسئولة عن إدخال المعلومات وإخراجها ، ثم يقوم العقل بعد ذلك بتحليلها ، وتصنيف الحدث المرافق لها ، ثم يخزنها في الذاكرة لاستدعائها حسبما يشاء الإنسان .
والغاية الرئيسية من وجود العقل ، معرفة الإنسان بما ينفعه أو يضره وكيف يحصِّل الخير الأعلى والأفضل دائما ، فالعقل شأنه شأن الكمبيوتر أو العقل الألكتروني ، غير أن هذا من صنع البشر ، وهذا من صنع خالق البشر ، وشتان بين هذا وذاك ، ولما كان عظم المنفعة من أجهزة الكمبيوتر يرتبط طرديا مع البرامج العلمية عالية التقنية ، كان عِظَمُ المنفعة من العقل البشري يرتبط أيضا مع التزام الإنسان بالمناهج الدقيقة التي وضعها خالقه سبحانه وتعالي ، والتي لن نجد لها مثيلا من صنع البشر ، فلو وضع الله للإنسان منهجا ونظاما ، ودستورا وأحكاما ، كان الكمال كله فيه ، وكان صلاح العقل في اتباعة ، فَعِلمُ البشر لا يقارن بعلم الله ، والحكم بغير شرعه ونظامه لا يرقي أبدا إلي الحكم بما أنزل الله ، ومما لا شك فيه أننا نري جميع الكائنات في حياتها ، حريصة كل الحرص على نفعها ودفع الشر عن نفسها ، ولذا تطبق منهج الله أكثر من غيرها ، فهي أعقل عند المقارنة من الإنسان ، نقف عند هذا الحد ونلتقي معكم بإذن الله في مساء الغد ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أن أستغفرك وأتوب إليك .