حازم
03-24-2006, 05:13 AM
بقلم : د.يحيى هاشم حسن فرغل
يفترض طه حسين في كتابه " من بعيد " الذي نشر عام 1935 ونشر فيه بحثا تحت عنوان " بين العلم والدين " حتمية الخصومة بين العلم والدين ثم يقرر أن حل هذه الخصومة إنما يكون بإقامة حكومة لادينية
ذلك أنه بعد أن يستعرض أسباب هذه الخصومة في رأيه يتحدث عن السبيل لإزالة هذه الخصومة فيقول ( السبيل هو إقامة حكومة لادينية تعتمد فكرة الوطنية ذلك أن فكرة الوطنية وما يتصل بها من المنافع الاقتصادية والسياسية الخالصة قامت الآن في تكوين الدول وتدبير سياستها مقام فكرة الدين ، أو مقام هذه النظريات الفلسفية الميتافيزيقية التي كانت تقوم عليها ) ثم يقول : ( وإنما تقوم الحكومة الحديثة في أقطار الأرض المتحضرة الآن على أساس سياسي خالص من المنفعة الاقتصادية والمدنية لا أكثر ولا اقل ، وقد فرغ الناس من هذا وأصبحوا لا يفكرون في أن الحكومة تقوم على الدين أو لا تقوم عليه )
وإذن فإن طه حسين ورواده وأتباعه يعرضون علينا العلمانية وما يزالون منذ أكثر من سبعين عاما باعتبارها حلا لقضية العلاقة بين العلم والدين ، ضمن ما تتعرض لحله من أمور أخرى !!
ولن نتعرض في هذا المقال لما فرغنا من بيانه في مقالات أخرى من كذب هذه الدعوى في جوانب مختلفة من حيث توصيفها لعلمانية الغرب ، نشأة ومآلا او صحة قياس الحالة الإسلامية عليها ، أو صلاحيتها للتجذر في بيئة إسلامية ، أو قياس مدى النجاح الذي حققته هذه الدعوة في الغرب أو في الشرق على السواء
ولكنا نعنى هنا بالذات ببطلان دعواها في توصيف العلاقة بين العلم والدين
نذهب إلى أن نقد التيارات الفكرية المعاصرة - ومنها العلمانية - في خصومتها مع الدين تتم ضمن نظرية شاملة : ترى أن هذه التيارات تنطلق جميعا من وجهة نظر معينة في العلاقة بين الدين والعلم ، وتقدم رؤيتها من خلال معتقدات ، … فهي دين بوجه ما .
وترتكز مقاومة هذه التيارات - في ضوء هذه النظرية على تصحيح العلاقة بين الدين والعلم ، وإبراز معتقدية الأسس التي تقوم عليها تلك التيارات ، وضرب القواعد التي تنطلق منها .
ومن هنا تبرز أهمية دراسة العلاقة بين العلم والدين .
ونحن لا نعني هنا بدراسة هذه العلاقة بسرد أدوارها التاريخية التي مرت بها في الحضارات المختلفة ، بقدر ما نعني بدراسة وضعية هذه العلاقات في نظر المفكرين المعاصرين.
وهنا يمكننا أن نصنف هذه الأنظار إلى ثلاثة اتجاهات :
الاتجاه الأول : يــري ضرورة "الفصل" بينهما فصلا تاما . بحيث يكون لكل منهما مجاله الخاص ، يقرر بحرية ما يشاء دون تدخل من الطرف الآخر على وجه الإطلاق . فهو فصل في الوسائل والنتائج على السواء .
يقول أميل بوترو في كتابه " العلم والدين " :" لقد ظن البعض في نهاية القرن التاسع عشر أن المشكلة بين الدين والعلم حلت بوضعهما في ثنائية حاسمة يصبح فيها كل منهما مطلقا على طريقته ، ومتميزا عن صاحبه تميز الذكاء والعاطفة ، أو تميز العقل والقلب .
واستنادا إلى هذه الثنائية لاح إمكان وجودهما معا في صدر إنسان واحد ، بحيث يقومان جنبا إلى جنب ، على أن يتفادى كل منهما بحث مبادئ الآخر ووسائله ونتائجه " .
( أ ) ويبدو أن هذا الاتجاه هو ما تحاوله المسيحية المعاصـــــرة ، إذ لا يرى المسيحي المعاصر بأسا في التناقض بين ما يقرره العلم في الجامعة ، وبين ما تقرره المســيحية في الكتاب المقدس .
فالأناجيل - على سبيل المثال - تقرر نسب المسيح على نحوين متناقضين تماما بين ما جاء في إنجيل متى وإنجيل لوقا .
والعهد القديم من الكتاب المقدس - على سبيل المثال أيضا - يقـرر ظهـور الليـل والنهـار والصبـاح في اليـوم الأول قبل خلق الشمس والنجوم في اليوم الرابع ، وهذا ما يتعارض مع العلم .
وفيه أن الله خلق النبات في اليوم الثالث قبل أن يخلق الشمس في اليوم الرابع ، وهذا ما يتعارض مع العلم أيضا .
وفيه أن خلق العالم يرجع إلى حوالي ستة آلاف عام لا أكثر وهذا يتعارض مع العلم كذلك .
وفيه أن الطوفان عندما حدث اكتسح المعمورة كلها وأنه حدث في القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد وهو عصر ظلت معه وبعده حضارات سابقة في مصر وبابل دون مساس ، وهذا يتعارض مع العلم أيضاً. أنظر "دراسة الكتب المقدسة فى ضوء المعارف الحديثة " لموريس بوكاى نشر دار المعارف ص 41 إلى ص 47 ص 53
وهذه معارضات لا تحتمل التملص ، ولا تحتمل التوفيق .
وهنا كان لابد للاتجاه الديني المسيحي من أن يلجأ إلى وضع العلاقة بين العلم والدين في وضعية الفصل بينهما .
يذهب المسيحي إلى الكنيسة ليستمع في هـدوء تام إلى تلك الروايات المتعارضة مع العلم ، كما يمارس عملية الاتحاد بجسد المسيح المرفوضة علميا .
ثم يخرج من الكنيسة ليقرر في الجامعة أو في المعمل أو في مركز البحوث العلمية : أمورا تتعارض تماما مع ما استمع إليه هناك .
وقد لجأ إلى هذا الحل أيضا - الفصل التام بين العلم والدين - بعض المستغربين من المسلمين الذين اعتنقوا مذاهب الحادية - وضعية ، أو وضعية منطقية أو مادية ، أو ماركسية الخ - وعندما طعنوا في السن ، أو رجعوا إلى أوطانهم وجدوا صـــراعا داخليا لم يصل بهم إلى حد الاعتراف بالإلحاد أمام أنفسهم ، أو أمام الناس فباركوا هذا الحل ونادوا بالفصل ، وتوزيع الاختصاص ، وقالوا : نمارس الدين في ساعة هي للوجدان ، ونمارس العلم في ساعة هي للعقل ، أو كما يقول – بعضهم – جعلوا في صدورهم بيتين ، أو غرفتين ، ( أو قلبين ؟؟ ) غير مبالين بقوله تعالى : " ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه "
إن هؤلاء المستغربين عندما فعلوا ذلك لم يفعلوه لمعارضة بين العلم والإسلام ولكن لمعارضة بين الإسلام وما اعتنقوه من مذاهب
ومن الأغاليط الشائعة أن هؤلاء يروجون للعلم على أساس أنه هو الذي يتجاوب مع " العقل " ويغذيه بينما الدين يخص العاطفة 0 وهم في ذلك واهمون أو جاهلون بالتطور الذي صار إليه العلم : فالعلم يتصل بالمشاهدات والخبرات اليومية المباشرة ليستخرج منها مبادئ 0 أما العقل فهو يتصل بالبديهيات الجلية ليستخرج منها فلسفة 0
يقول فيليب فرانك في كتابه " فلسفة العلم " ص 33 0 ( وضع مبادئ نستطيع أن نستنبط منها تطبيقات وحقائق مشهودة هو ما نسميه اليوم " علما " والعلم لا يهتم كثيرا بما إذا كانت هذه المبادئ معقولة أم لا 0 فهذا أمر لا يعنى العالـِم كعالـِم 0 وفى كثير من الكتب الدراسية نجد ما ينص على أنه ليس من المهم إطلاقا أن تكون هذه المبادئ معقولة ، وتذكر هذه الكتب أن مبادئ علوم القرن العشرين كالنسبية ونظرية الكم ليست معقولة على الإطلاق ، ولكنها متناقضة فى ظاهرها ومشوشة 00 وعندما ظهرت مبادئ النسبية وميكانيكا الكم قال بعض الناس : ربمــا أمـكن استنباط نتائــج مفيــــدة مــن هــذه المبادئ ، ولكن المبادئ نفسها غامضة ، بل هي في ظاهرها متناقضة 0 إنها تخدم غرضا معينا إلا أنها ليست جلية )
وما يزيد الأمر وضوحا في الانفصال الذي يزداد يوما بعد يوم بين مجال التفكير العلمي والتفكير الفلسفي أو العقلي : ما يقوله فيليب فرانك : ( كثير من المصطلحات التي كانت تستخدم من قبل في لغة العلم لم يعد ممكنا أن تستخدم الآن ، لأن المبادئ العامة المعاصرة تستخدم الآن مصطلحات أكثر نأيا عن لغة الفطرة السليمة 0 فالتعبيرات من طراز " العقل " و " المادة " و " السبب " و " النتيجة " هي اليوم مجرد تعبيرات فطرة سليمة 0 وليس لها مكان في الحديث العلمي الدقيق 0
وعلينا لكي ندرك هذا التطور أن نقارن بين فيزياء القرن العشرين ، وسالفتها فى القرن الثامن عشر والتاسع عشر 0
لقد استخدمت الميكانيكا النيوتونية مصطلحات مثل " الكتلة " و " القوة " و " الموضع " و " السرعة " بمعنى يبدو قريبا - إلى حد ما - من استخداماتها في الفطرة السليمة 0
وفى نظرية أينشتاين للجاذبيــة نجــد مصطلحات مثل ( إحـداثيات الحدث) أو ( الجهود الممتدة الكمية ) وهى مصطلحات تحتاج إلى سلسلة طويلة من التفسيرات لكي ترتبط بلغة الفطرة السليمة 0
ونجد هذا الأمر أكثر صحة في مصطلحات نظرية الكم مثل ( الدالة الموجبة) و( مصفوفات الموضع ) 00 الخ 00
وقد تحدث أينشتاين فى محاضرة له في أكسفورد عام 1933 عن ( الفجوة التي يتزايد اتساعها بين المفاهيم والقوانين الأساسية من ناحية والنتائج التي يجب أن نربطها بخبرتنـــا من ناحية أخرى وهى الفجوة التي تتسع باضطراد ) 0
يقول هربرت دنجل : إنني عندما أؤكد على ضرورة تحرير الفلسفة العلمية من تطفل المفاهيم ( المستساغة ) و ( مفاهيم الفطــرة السليمة ) فإني لا أفعل ذلك للحط من قيمة الفطرة السليمة ، وإنما لأن الخطر الأكبر إنما يكمن اليوم في هذا التشويش ). أنظر فلسفة العلم ص 70 – 71
ولكن المستغربين عندنا عندما يستلهمون الغرب فإنهم يرجعون عادة لما هم عليه من كسل عقلي وانتهازية ثقافية يرجعون إلى معلومات قديمة مستهلكة ، فينطلقون إلى إعلان الخصومة بين الدين والعلم توهما منهم أنه – أي العلم – هو الذي يمثل العقل فوجب في تقديرهم أن تكون الخصومة بين الدين والعقل أصلا ، ومن ثم بينه وبين العلم تبعا ، وكان الحل الذي " اهتدوا " إليه في استبقاء ما يسمى " الفصل " بدلا مما يسمى " الخصومة " ، ظنا منهم أن الفصل بين أمرين يقبل المعايشة بينهما ، كما هو الحال في الفصل القائم بين العقل والقلب مع استمرار المعايشة القائمة بينهما ، وابتدع بعضهم لهذا الفصل صيغة تشبيهية مخففة أطلق عليها " الغرفتين " وقالوا : نمارس الدين في ساعة هي للوجدان ، ونمارس العلم في ساعة هي للعقل ، أو كما فعل – بعضهم – : جعلوا في صدورهم بيتين ، أو غرفتين ، إحداهما للعلم والثانية للدين دون مراجعة من إحداهما للأخرى
وإذا كان هذا الحل قد نادى به بعض المستغربين من بعض المسلمين فإن الإسلام لم يكن ليقبل هذا الحل : من ناحية لأنه هو الإسلام الشامل للعقل والقلب والجسد جميعا ، ولأنه غير مضطر لشيء من ذلك من ناحية أخرى ، لأنه كما يقول موريس بوكاي عن القرآن ( إن القرآن لا يخلو فقط من متناقضات الرواية - وهى السمة البارزة في مختلف صياغات الإنجيل ، بل هو يظهر أيضا - لكل من يشرع في دراسته بموضوعية وعلى ضوء العلوم - التوافق التام مع المعطيات العلمية ). " دراسة الكتب المقدسة فى ضوء المعارف الحديثة " لموريس بوكاى ص 285
ونحن لا نشير إلى هذا التوافق الذي أشار إليه بوكاي باعتباره صياغة نموذجية للعلاقة بين العلم والدين ، فلهذا كلام مقبل ، ولكن باعتباره دليلا على عدم اضطرار المسلم إلى وضعية ( الفصل) .
(ب) وبعد : فهل وضعية ( الفصل ) هذه مقبولة علميا أو مقبولة دينيـــا ؟ .
وللرد على هذا السؤال نقول بالنفي ، على المستويين ، العلمي والديني .
أما العلمي فلأن البحث العلمي في شخصية الإنسان ينتهي إلى كونها وحدة متداخلة متكاملة لا تستقر بغير التمازج والتوافق بين عناصرها المختلفــــة .
فليس في مقدور إنسان أن ينشئ في داخله قلبين ، أو أن يعزل في صدره بين حجرتين لتكون إحداهما مخزنا لقرارات تنكرها مخزونات الحجرة الأخرى ، وكما يقول أميل بوترو عن هذه الوضعية ( إن المشكلة حلت بذلك في عالم التصورات أما في عالم الواقع فليس الأمر كذلك ، إذ أين نجد في الإنسان الحد الفاصل بين العقل والقلب ؟ وأين نجد في الطبيعة الحد الفاصل بين الأجسام والأرواح ... ) ؟
إنه لا مفر تحت وضعية الفصل هذه من أن تصير شخصية الإنسان إلى أحد أمرين :
إما المرض والانحلال ، وإما التوثب لغلبة أحد الجانبين للآخر ، وهذا هو سر الانفصال الذي يتغلغل في شخصية الأوربي المعاصر ، المتعرض لتيار العلم وتيار الدين ، أو هو سر الانغلاق الذي يحتمي فيه بتيار ضد تيار آخــر .
وأما على المستوى الديني : فهذه الوضعية مرفوضة إسلاميا ، لأن الإسلام هو الإسلام الشامل ، هو الذي يحتوى الشخصية من جميع أقطارها ، ولا يرضى لها بغير ذلك وانظر ما كتبناه في ذلك في مقالنا السابق بعنوان " لا علمانية مع الإسلام " وهكذا ينبغي أن يكون الدين .
يتبع
يفترض طه حسين في كتابه " من بعيد " الذي نشر عام 1935 ونشر فيه بحثا تحت عنوان " بين العلم والدين " حتمية الخصومة بين العلم والدين ثم يقرر أن حل هذه الخصومة إنما يكون بإقامة حكومة لادينية
ذلك أنه بعد أن يستعرض أسباب هذه الخصومة في رأيه يتحدث عن السبيل لإزالة هذه الخصومة فيقول ( السبيل هو إقامة حكومة لادينية تعتمد فكرة الوطنية ذلك أن فكرة الوطنية وما يتصل بها من المنافع الاقتصادية والسياسية الخالصة قامت الآن في تكوين الدول وتدبير سياستها مقام فكرة الدين ، أو مقام هذه النظريات الفلسفية الميتافيزيقية التي كانت تقوم عليها ) ثم يقول : ( وإنما تقوم الحكومة الحديثة في أقطار الأرض المتحضرة الآن على أساس سياسي خالص من المنفعة الاقتصادية والمدنية لا أكثر ولا اقل ، وقد فرغ الناس من هذا وأصبحوا لا يفكرون في أن الحكومة تقوم على الدين أو لا تقوم عليه )
وإذن فإن طه حسين ورواده وأتباعه يعرضون علينا العلمانية وما يزالون منذ أكثر من سبعين عاما باعتبارها حلا لقضية العلاقة بين العلم والدين ، ضمن ما تتعرض لحله من أمور أخرى !!
ولن نتعرض في هذا المقال لما فرغنا من بيانه في مقالات أخرى من كذب هذه الدعوى في جوانب مختلفة من حيث توصيفها لعلمانية الغرب ، نشأة ومآلا او صحة قياس الحالة الإسلامية عليها ، أو صلاحيتها للتجذر في بيئة إسلامية ، أو قياس مدى النجاح الذي حققته هذه الدعوة في الغرب أو في الشرق على السواء
ولكنا نعنى هنا بالذات ببطلان دعواها في توصيف العلاقة بين العلم والدين
نذهب إلى أن نقد التيارات الفكرية المعاصرة - ومنها العلمانية - في خصومتها مع الدين تتم ضمن نظرية شاملة : ترى أن هذه التيارات تنطلق جميعا من وجهة نظر معينة في العلاقة بين الدين والعلم ، وتقدم رؤيتها من خلال معتقدات ، … فهي دين بوجه ما .
وترتكز مقاومة هذه التيارات - في ضوء هذه النظرية على تصحيح العلاقة بين الدين والعلم ، وإبراز معتقدية الأسس التي تقوم عليها تلك التيارات ، وضرب القواعد التي تنطلق منها .
ومن هنا تبرز أهمية دراسة العلاقة بين العلم والدين .
ونحن لا نعني هنا بدراسة هذه العلاقة بسرد أدوارها التاريخية التي مرت بها في الحضارات المختلفة ، بقدر ما نعني بدراسة وضعية هذه العلاقات في نظر المفكرين المعاصرين.
وهنا يمكننا أن نصنف هذه الأنظار إلى ثلاثة اتجاهات :
الاتجاه الأول : يــري ضرورة "الفصل" بينهما فصلا تاما . بحيث يكون لكل منهما مجاله الخاص ، يقرر بحرية ما يشاء دون تدخل من الطرف الآخر على وجه الإطلاق . فهو فصل في الوسائل والنتائج على السواء .
يقول أميل بوترو في كتابه " العلم والدين " :" لقد ظن البعض في نهاية القرن التاسع عشر أن المشكلة بين الدين والعلم حلت بوضعهما في ثنائية حاسمة يصبح فيها كل منهما مطلقا على طريقته ، ومتميزا عن صاحبه تميز الذكاء والعاطفة ، أو تميز العقل والقلب .
واستنادا إلى هذه الثنائية لاح إمكان وجودهما معا في صدر إنسان واحد ، بحيث يقومان جنبا إلى جنب ، على أن يتفادى كل منهما بحث مبادئ الآخر ووسائله ونتائجه " .
( أ ) ويبدو أن هذا الاتجاه هو ما تحاوله المسيحية المعاصـــــرة ، إذ لا يرى المسيحي المعاصر بأسا في التناقض بين ما يقرره العلم في الجامعة ، وبين ما تقرره المســيحية في الكتاب المقدس .
فالأناجيل - على سبيل المثال - تقرر نسب المسيح على نحوين متناقضين تماما بين ما جاء في إنجيل متى وإنجيل لوقا .
والعهد القديم من الكتاب المقدس - على سبيل المثال أيضا - يقـرر ظهـور الليـل والنهـار والصبـاح في اليـوم الأول قبل خلق الشمس والنجوم في اليوم الرابع ، وهذا ما يتعارض مع العلم .
وفيه أن الله خلق النبات في اليوم الثالث قبل أن يخلق الشمس في اليوم الرابع ، وهذا ما يتعارض مع العلم أيضا .
وفيه أن خلق العالم يرجع إلى حوالي ستة آلاف عام لا أكثر وهذا يتعارض مع العلم كذلك .
وفيه أن الطوفان عندما حدث اكتسح المعمورة كلها وأنه حدث في القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد وهو عصر ظلت معه وبعده حضارات سابقة في مصر وبابل دون مساس ، وهذا يتعارض مع العلم أيضاً. أنظر "دراسة الكتب المقدسة فى ضوء المعارف الحديثة " لموريس بوكاى نشر دار المعارف ص 41 إلى ص 47 ص 53
وهذه معارضات لا تحتمل التملص ، ولا تحتمل التوفيق .
وهنا كان لابد للاتجاه الديني المسيحي من أن يلجأ إلى وضع العلاقة بين العلم والدين في وضعية الفصل بينهما .
يذهب المسيحي إلى الكنيسة ليستمع في هـدوء تام إلى تلك الروايات المتعارضة مع العلم ، كما يمارس عملية الاتحاد بجسد المسيح المرفوضة علميا .
ثم يخرج من الكنيسة ليقرر في الجامعة أو في المعمل أو في مركز البحوث العلمية : أمورا تتعارض تماما مع ما استمع إليه هناك .
وقد لجأ إلى هذا الحل أيضا - الفصل التام بين العلم والدين - بعض المستغربين من المسلمين الذين اعتنقوا مذاهب الحادية - وضعية ، أو وضعية منطقية أو مادية ، أو ماركسية الخ - وعندما طعنوا في السن ، أو رجعوا إلى أوطانهم وجدوا صـــراعا داخليا لم يصل بهم إلى حد الاعتراف بالإلحاد أمام أنفسهم ، أو أمام الناس فباركوا هذا الحل ونادوا بالفصل ، وتوزيع الاختصاص ، وقالوا : نمارس الدين في ساعة هي للوجدان ، ونمارس العلم في ساعة هي للعقل ، أو كما يقول – بعضهم – جعلوا في صدورهم بيتين ، أو غرفتين ، ( أو قلبين ؟؟ ) غير مبالين بقوله تعالى : " ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه "
إن هؤلاء المستغربين عندما فعلوا ذلك لم يفعلوه لمعارضة بين العلم والإسلام ولكن لمعارضة بين الإسلام وما اعتنقوه من مذاهب
ومن الأغاليط الشائعة أن هؤلاء يروجون للعلم على أساس أنه هو الذي يتجاوب مع " العقل " ويغذيه بينما الدين يخص العاطفة 0 وهم في ذلك واهمون أو جاهلون بالتطور الذي صار إليه العلم : فالعلم يتصل بالمشاهدات والخبرات اليومية المباشرة ليستخرج منها مبادئ 0 أما العقل فهو يتصل بالبديهيات الجلية ليستخرج منها فلسفة 0
يقول فيليب فرانك في كتابه " فلسفة العلم " ص 33 0 ( وضع مبادئ نستطيع أن نستنبط منها تطبيقات وحقائق مشهودة هو ما نسميه اليوم " علما " والعلم لا يهتم كثيرا بما إذا كانت هذه المبادئ معقولة أم لا 0 فهذا أمر لا يعنى العالـِم كعالـِم 0 وفى كثير من الكتب الدراسية نجد ما ينص على أنه ليس من المهم إطلاقا أن تكون هذه المبادئ معقولة ، وتذكر هذه الكتب أن مبادئ علوم القرن العشرين كالنسبية ونظرية الكم ليست معقولة على الإطلاق ، ولكنها متناقضة فى ظاهرها ومشوشة 00 وعندما ظهرت مبادئ النسبية وميكانيكا الكم قال بعض الناس : ربمــا أمـكن استنباط نتائــج مفيــــدة مــن هــذه المبادئ ، ولكن المبادئ نفسها غامضة ، بل هي في ظاهرها متناقضة 0 إنها تخدم غرضا معينا إلا أنها ليست جلية )
وما يزيد الأمر وضوحا في الانفصال الذي يزداد يوما بعد يوم بين مجال التفكير العلمي والتفكير الفلسفي أو العقلي : ما يقوله فيليب فرانك : ( كثير من المصطلحات التي كانت تستخدم من قبل في لغة العلم لم يعد ممكنا أن تستخدم الآن ، لأن المبادئ العامة المعاصرة تستخدم الآن مصطلحات أكثر نأيا عن لغة الفطرة السليمة 0 فالتعبيرات من طراز " العقل " و " المادة " و " السبب " و " النتيجة " هي اليوم مجرد تعبيرات فطرة سليمة 0 وليس لها مكان في الحديث العلمي الدقيق 0
وعلينا لكي ندرك هذا التطور أن نقارن بين فيزياء القرن العشرين ، وسالفتها فى القرن الثامن عشر والتاسع عشر 0
لقد استخدمت الميكانيكا النيوتونية مصطلحات مثل " الكتلة " و " القوة " و " الموضع " و " السرعة " بمعنى يبدو قريبا - إلى حد ما - من استخداماتها في الفطرة السليمة 0
وفى نظرية أينشتاين للجاذبيــة نجــد مصطلحات مثل ( إحـداثيات الحدث) أو ( الجهود الممتدة الكمية ) وهى مصطلحات تحتاج إلى سلسلة طويلة من التفسيرات لكي ترتبط بلغة الفطرة السليمة 0
ونجد هذا الأمر أكثر صحة في مصطلحات نظرية الكم مثل ( الدالة الموجبة) و( مصفوفات الموضع ) 00 الخ 00
وقد تحدث أينشتاين فى محاضرة له في أكسفورد عام 1933 عن ( الفجوة التي يتزايد اتساعها بين المفاهيم والقوانين الأساسية من ناحية والنتائج التي يجب أن نربطها بخبرتنـــا من ناحية أخرى وهى الفجوة التي تتسع باضطراد ) 0
يقول هربرت دنجل : إنني عندما أؤكد على ضرورة تحرير الفلسفة العلمية من تطفل المفاهيم ( المستساغة ) و ( مفاهيم الفطــرة السليمة ) فإني لا أفعل ذلك للحط من قيمة الفطرة السليمة ، وإنما لأن الخطر الأكبر إنما يكمن اليوم في هذا التشويش ). أنظر فلسفة العلم ص 70 – 71
ولكن المستغربين عندنا عندما يستلهمون الغرب فإنهم يرجعون عادة لما هم عليه من كسل عقلي وانتهازية ثقافية يرجعون إلى معلومات قديمة مستهلكة ، فينطلقون إلى إعلان الخصومة بين الدين والعلم توهما منهم أنه – أي العلم – هو الذي يمثل العقل فوجب في تقديرهم أن تكون الخصومة بين الدين والعقل أصلا ، ومن ثم بينه وبين العلم تبعا ، وكان الحل الذي " اهتدوا " إليه في استبقاء ما يسمى " الفصل " بدلا مما يسمى " الخصومة " ، ظنا منهم أن الفصل بين أمرين يقبل المعايشة بينهما ، كما هو الحال في الفصل القائم بين العقل والقلب مع استمرار المعايشة القائمة بينهما ، وابتدع بعضهم لهذا الفصل صيغة تشبيهية مخففة أطلق عليها " الغرفتين " وقالوا : نمارس الدين في ساعة هي للوجدان ، ونمارس العلم في ساعة هي للعقل ، أو كما فعل – بعضهم – : جعلوا في صدورهم بيتين ، أو غرفتين ، إحداهما للعلم والثانية للدين دون مراجعة من إحداهما للأخرى
وإذا كان هذا الحل قد نادى به بعض المستغربين من بعض المسلمين فإن الإسلام لم يكن ليقبل هذا الحل : من ناحية لأنه هو الإسلام الشامل للعقل والقلب والجسد جميعا ، ولأنه غير مضطر لشيء من ذلك من ناحية أخرى ، لأنه كما يقول موريس بوكاي عن القرآن ( إن القرآن لا يخلو فقط من متناقضات الرواية - وهى السمة البارزة في مختلف صياغات الإنجيل ، بل هو يظهر أيضا - لكل من يشرع في دراسته بموضوعية وعلى ضوء العلوم - التوافق التام مع المعطيات العلمية ). " دراسة الكتب المقدسة فى ضوء المعارف الحديثة " لموريس بوكاى ص 285
ونحن لا نشير إلى هذا التوافق الذي أشار إليه بوكاي باعتباره صياغة نموذجية للعلاقة بين العلم والدين ، فلهذا كلام مقبل ، ولكن باعتباره دليلا على عدم اضطرار المسلم إلى وضعية ( الفصل) .
(ب) وبعد : فهل وضعية ( الفصل ) هذه مقبولة علميا أو مقبولة دينيـــا ؟ .
وللرد على هذا السؤال نقول بالنفي ، على المستويين ، العلمي والديني .
أما العلمي فلأن البحث العلمي في شخصية الإنسان ينتهي إلى كونها وحدة متداخلة متكاملة لا تستقر بغير التمازج والتوافق بين عناصرها المختلفــــة .
فليس في مقدور إنسان أن ينشئ في داخله قلبين ، أو أن يعزل في صدره بين حجرتين لتكون إحداهما مخزنا لقرارات تنكرها مخزونات الحجرة الأخرى ، وكما يقول أميل بوترو عن هذه الوضعية ( إن المشكلة حلت بذلك في عالم التصورات أما في عالم الواقع فليس الأمر كذلك ، إذ أين نجد في الإنسان الحد الفاصل بين العقل والقلب ؟ وأين نجد في الطبيعة الحد الفاصل بين الأجسام والأرواح ... ) ؟
إنه لا مفر تحت وضعية الفصل هذه من أن تصير شخصية الإنسان إلى أحد أمرين :
إما المرض والانحلال ، وإما التوثب لغلبة أحد الجانبين للآخر ، وهذا هو سر الانفصال الذي يتغلغل في شخصية الأوربي المعاصر ، المتعرض لتيار العلم وتيار الدين ، أو هو سر الانغلاق الذي يحتمي فيه بتيار ضد تيار آخــر .
وأما على المستوى الديني : فهذه الوضعية مرفوضة إسلاميا ، لأن الإسلام هو الإسلام الشامل ، هو الذي يحتوى الشخصية من جميع أقطارها ، ولا يرضى لها بغير ذلك وانظر ما كتبناه في ذلك في مقالنا السابق بعنوان " لا علمانية مع الإسلام " وهكذا ينبغي أن يكون الدين .
يتبع