المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نقد النموذج المعرفي المادي عند المسيري



نور الدين الدمشقي
08-01-2012, 11:20 PM
منقول:
شكل المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري، حالة متميزة وفريدة في تاريخ الفكر العربي والإسلامي المعاصر، حالة ترتقي إلى حد الاستثنائية، ليس فقط بالنظر إلى شمولية اهتماماته المعرفية في مجالات الأدب والنقد وفلسفة التاريخ والعمل الموسوعي والترجمة، ولكن بالنظر أساسا إلى أصالته الإبداعية في مجال التنظير الأكاديمي والاجتهاد المنهجي والنحت الاصطلاحي والمفاهيمي.

لقد كان رحمه الله صاحب رؤية فلسفية حضارية تؤمن بتعدد أبعاد مشروع التأسيس الحضاري في مجالات العلم والمعرفة والأخلاق والقيم والسياسة والاجتماع، مما جعله يطور مشروعا فكريا تجديديا منهجيا له امتدادات إيمانية وإنسانية، بما يمتلكه من أدوات معرفية في صياغة وصقل جوانب أساسية في هوية الحضارة العربية الإسلامية.

ويعد المسيري أحد أبرز المهتمين بالقضايا المعرفية والمنهجية، حيث طور دراسة النماذج المعرفية وتعمق في دراسة الفكر الغربي والحضارة الغربية، من خلال بناء معالم منهجية ابستيمية في التعامل مع التراث الإنساني عموما والتراث الغربي خصوصا، تعاملا علميا ونقديا يستوعب إيجابياته ويتجاوز قصوره وسلبياته، مستخدما آلية النقد والتفكيك والتركيب من الداخل، بما يمنح القدرة على تحسين الأداء النظري والتفسيري لعلم اجتماع المعرفة في محاولة إدراك الواقع بشكل أكثر تركيبا، دون الاستنامة للمقولات الاختزالية العامة والجاهزة.

لقد جسدت مسيرة عبد الوهاب المسيري مسار الباحث المهموم بشؤون العلم والمعرفة والمحترق بنار الأسئلة القلقة والإشكالات المركبة؛ حيث شهدت رحلته الفكرية منعطفات مفصلية وتحولات عميقة دالة، ابتدأت بالمسيري التقليداني والمحافظ إلى المسيري القومي الساذج، مرورا بالانتماء إلى الإخوان المسلمين ثم تبني الماركسية لتتوج بالارتباط بالإسلام المتحرر والمنفتح واعتماده أرضية للاجتهاد والنهضة الحضارية؛ والغريب في كل هذه التحولات الحادة، أن الرجل وهو يتحول إيديولوجيا لم يتحول سلوكيا وقيميا، فقد ظل شخصا محافظا ومستقيما، بل حتى فترة شيوعيته وصفها بأنها كانت "ماركسية على سنة الله ورسوله".

يقول المسيري في ذلك:"(...) بدأت مسيرة الإلحاد، ورغم أنني في ذلك الوقت لم أكن أؤمن بالله، إلا أنني كنت أؤمن بالقيم المطلقة للإنسان والقيم المطلقة للأخلاق، وكان هذا الإيمان بالمطلقات يتنافى مع الإلحاد الكامل، وهو إيمان بثوابت ومنطلقات لا يمكن أن تستند إلى عالم المادة وعالم الطبيعة، ولكنها تستند إلى الله، ويمكن القول أن هذه الفترة يمكن أن نسميها مرحلة التساؤل العميقة"(1) (...) لقد التحقت في بداية حياتي لفترة قصيرة بـ"الإخوان المسلمين" في مرحلة الصبا، ثم اتجهت إلى الماركسية، وعشت مرحلة من الشك ولكن مع الالتزام بالقيم المطلقة مثل الحق والخير والجمال والإيمان بأن الإنسان كائن غير مادي وضرورة إقامة العدل في الأرض، وبالتدريج وعلى مدى رحلة فكرية استغرقت أكثر من ثلاثين عاما عدت مرة أخرى إلى الإسلام لا كعقيدة دينية وحسب ولا كشعائر، وإنما كرؤية للكون وللحياة وكأيديولوجية، فرغم التحولات التي مررت بها، فإن مكونات رؤيتي وعناصرها الأساسية لم تتغير، رغم تغير بعض الأسس الفلسفية، ورغم تغير المنهج. فجوهر رؤيتي للعالم أن الإنسان كائن فريد وليس كائنا ماديا"(2) .

ويضيف المسيري:"إن الإيمان لم يولد داخلي إلا من خلال رحلة طويلة وعميقة، إنه إيمان يستند إلى رحلة عقلية طويلة، ولذا فإنه إيمان عقلي لم تدخل فيه عناصر روحية فهو يستند إلى عجز المقولات المادية عن تفسير الإنسان وإلى ضرورة اللجوء إلى مقولات فلسفية أكثر تركيبية"؛ إنها "سيرة إنسان يلتقي في فضاء حياته الخاص بالعام"(3) .

ويعبر المسيري عن ذلك في سيرته الذاتية والفكرية قائلا: "ومما ساعد على تعميق شكوكي بخصوص النموذج المادي الغربي، دراستي للحركة الرومانتيكية، فهي في جوهرها كانت ثورة على الفكر العقلاني المادي الآلي الذي ساد في أوربا في القرن الثامن عشر بعد ظهور البورجوازية واقتصاديات السوق والتبادل والتجارة الحرة (دعه يمر) وهيمنة أسطورة أن حركة السوق حركة آلية تلقائية تؤدي إلى خدمة الصالح العام للجميع: التجار-المستهلك –العامل، هذا لو تركت الأمور وشأنها. وهي رؤية مغالية في الفردية ومغالية في الذرية تطورت فيما بعد لتصبح النظرية الداروينية. أدرك الشعراء الرومانسيون وحشية هذه الرؤية واختزاليتها، فهي لا ترى الإنسان بحسبانه كائنا حضاريا مركبا له قلب وعقل، وحواس ووجدان، وإحساس بذاته وبالآخر، فرد لكنه يكتسب إنسانيته من جماعته وحضارته، يعيش في المقدس وغير المقدس، وإنما تراه بحسبانه إنسانا طبيعيا يعيش بمفرده له حاجات مادية وخاضع لقوانين معروفة مسبقا.والحركة الرومانتيكية هي محاولة لرد الاعتبار لتركيبية الإنسان أمام اختزالية العقلانية المادية الآلية"(4) .

من يقرأ للمسيري عن المادية سيجد عنده نزعة موغلة في الاتجاه الإنساني نظرا لسيطرة المادة على الواقع الإنساني وتفكيكها له، فقد أثار المسيري في دراساته للنموذج المعرفي المادي إشكالات مركبة، يمكن رصدها من خلال طرحه الأسئلة المنهجية الحارقة الآتية:

ما هي علاقة الإنسان بالمادة؟ وهل الإنسان كائن مادي وحسب؟ وما هو مفهوم التفكيك الذي تدعو إليه الفلسفة المادية؟ وما هي المرجعية التي تشكل أفكار الإنسان؟ ويرجع إليها كل أساس فكري ؟ وهل يمكن وصفها بالإطلاق؟

ـ هل يمكن تعميم قوانين العلوم الطبيعية على العلوم الإنسانية ؟ وهل يمكن تفسير الظواهر الإنسانية كمياً كما هو الحال في العلوم الطبيعية؟ ولماذا تنكر الفلسفة المادية النموذج الكلي؟

ـ ما هي نظرية الحقوق الجديدة التي دعت إليها الفلسفة المادية؟ وما هو دور القيم في الإطار الفلسفي المادي؟ وهل استطاعت الفلسفة المادية إخراج الإنسان من أزماته؟

يمكن تصنيف هذه الدراسة بأنها محاولة في تعريف الفلسفة المادية وسر جاذبيتها وكشف مواطن قصورها، وتحليل النماذج الكامنة في هذا النموذج المادي من خلال دراسة أهم القضايا المنهجية والطروحات المعرفية النقدية للمفكر عبد الوهاب المسيري، إذ في النهاية سيتبين إخفاق النموذج المعرفي المادي في تفسير ظاهرة الإنسان، وعجزه عن إدراك الواقع في أبعاده المتعددة والمركبة والمعقدة.

أولا- مرتكزات الفلسفة المادية عند المسيري

يعد مفهوم الطبيعة مفهوما أساسيا في الفلسفات المادية التي تدور في إطار المرجعية الكامنة خصوصا في الغرب، إذ يرى المسيري أن هذا المفهوم تعبير مهذب يحل محل كلمة "المادة". ويعرف المسيري "المادية" في موسوعته بأنها المصدر الصناعي من كلمة "المادة"، وهي لا علاقة لها بجمع المال أو بالإقبال على الدنيا كما قد يتوهم البعض. ويمكن للإنسان المادي المغالى في ماديته أن يكون زاهداً تماماً في النقود والدنيا (كما هو الحال مع إنجلز وإسبينوزا)، فالفلسفة المادية هي المذهب الفلسفي الذي يقبل المادة فقط باعتبارها الشرط الوحيد للحياة الطبيعية والبشرية، ومن ثم فهي ترفض الإله بوصفه شرطا من شروط الحياة، كما أنها ترفض الإنسان نفسه إن كان متجاوزا للنظام الطبيعي/ المادي. ولذا فالفلسفة المادية ترد كل شيء في العالم(الإنسان والطبيعة) إلى مبدأ مادي واحد هو القوة الدافعة للمادة والسرية في الأجسام والكامنة فيها والتي تتخلل في أثنائها وتضبط وجودها، فهو قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد، وهي النظام الضروري والكلي للأشياء؛ نظام ليس فوق الطبيعة وحسب، ولكنه فوق الإنسان أيضا. وإن دخل عنصر آخر مادي على هذا المبدأ الواحد، فإن الفلسفة تصبح غير مادية(5) .

إن الفلسفة المادية تُشكِّل البِنْيةَ الفكرية التحتية، أو النموذج المعرفي الكامن للعديد من الفلسفات الحديثة، كالماركسية والبرجماتية والداروينية وغيرها، كما أنها تشكِّل الإطارَ المرجعيَّ الكامنَ لرؤيتنا للتاريخ والتقدُّم وللعلاقات الدولية، بل وأحياناً لأنفسنا. وقد ارتبطت الفلسفة المادية في عقول الكثيرين بالعقلانية والتقدُّم والتسامح... إلخ، مع أن الواقع أبعدُ ما يكون عن ذلك! ويذهب المسيري في دراساته المتعددة إلى أن الوقت قد حان لفتح باب الاجتهاد بخصوص هذه الفلسفة، نظراً لأهميتها وهيمنتها على بعض أعضاء النُّخَب الثقافية والفكرية العربية، وأي نموذج فكري، مهما بلغ من مثالية أو غيبية، لابد أن يتبنى نموذجا تفسيرا ماديا حين يتعامل مع بعض الظواهر، فالواقع مركب والعناصر المادية مكون أساسي فيه. وقد حققت المادية نجاحاتها في العصر الحديث لأن النموذج المادي عنده مقدرة تفسيرية هائلة إن نظرنا إلى الجانب المادي في حياة الإنسان. ولكننا لو نظرنا في الجوانب غير المادية الأخلاقية والجمالية والروحية، فإن مقدرته التفسيرية تضعف وتكاد تنعدم(6). لكن تكمن الهرطقة المادية في أن الفلسفة المادية لا تكتفي بتفسير بعض جوانب الواقع وإنما تصر على تفسير كل الواقع، بما في ذلك الإنسان في كل جوانب وجوده، من خلال مجموعة موحدة من المقولات التفسيرية مستمدة من وجودنا المادي اليومي، ثم ترد الواقع الطبيعي والإنساني إلى مبدأ نهائي واحد دون حاجة إلى إدخال مجموعة أخرى من المقولات غير المادية المختلفة عن الأولى، وهو ما يُبسط الواقع ويختزله(7) .

يرجع المسيري جاذبية الفلسفات المادية لسببين: الأول يتعلق بالمستوى الابستمولوجي، نظرا لكون التفسير المادي للظواهر سهل، ويمكن الحصول بشكل سريع على المعلومات عن العالم المادي وقياسها والترابط المادي بين الظواهر أمر يمكن رصده بشكل موضوعي محسوس وحركة المادة نتيجتها مباشرة. أما المستوى الثاني فيرتبط بالبعد النفسي، حيث تحوّل الفلسفات المادية الإنسان إلى جزء من كل أكبر، فلا يوجد له هوية أو حدود أو إرادة مستقلة عن هذا الكل المادي ترد إليه، وهذا يعني إنكار الهوية الفردية المستقلة والمسؤولية الخلقية والاختيار الحر(8) .

يتمثل السعي المتواصل لنقاد المادية الغربية في التركيز على خطورة تأليهها السوق والمجتمع والدولة على حساب الإنسان ووجدانه ودوره الفاعل. وكذلك محاولة الكشف عن خطورة المنطق الكامن وراء التحول لما يسميه المسيري"الغيبية العلمية الجديدة"، التي تزعم لنفسها احتكار الحقيقة المطلقة، تلك الغيبية التي أسستها التوجهات المادية المسيطرة في الحضارة الغربية والتي تنسب إلى نفسها القدرة على تحقيق الفردوس الأرضي، إذ يؤكد هذا المنطق أهمية السعادة الدنيوية المباشرة، في حين ينكر أن الإنسان كيف مركب فريد، وصانع البيئة التاريخية التي تشكل وجدانه(9) .

ومن جهة أخرى، تمثل العلمانية الشاملة رؤية عقلانية مادية للعالم ترى العالم في إطار مرجعية مادية كامنة فيه فالعالم يحوي داخله ما يكفي لتفسيره، والعقل قادر على استخلاص القوانين التي تلزمه لإدارة حياته، وهي ترفض المرجعية المتجاوزة وكل الثنائيات الناجمة عنها، وضمن ذلك ثنائية الإنسان والطبيعة، فترد العالم بأسره إلى مبدأ طبيعي/ مادي واحد، إذ ثمة نزعة جنينية كامنة في الإنسان نحو فقدان الحدود والهوية، وثمة نزعة قوية نحو الرغبة في الذوبان في الكل، كما أن على الإنسان أن يتعامل مع بعض الجوانب الطبيعية/ المادية لحياته الإنسانية من خلال نماذج طبيعية/ مادية(10) .

ويذهب المسيري إلى أن إسبينوزا ونيتشه ودريدا هم أهم فلاسفة المنظومة العلمانية المادية، وأن معظم الفلسفات الغربية التي ظهرت في القرن العشرين (بما في ذلك الصهيونية والنازية) خرجت من تحت عباءة نيتشه وأن فكر ما بعد الحداثة (بكل تياراته) هو امتداد لمنظومة نيتشه الفلسفية. وتعود أهميته نيتشه إلى أنه ساعد على استكمال الطفرة الفلسفية التي سيتحقق من خلالها النموذج العلماني المادي ويتعين ويتبلور، فأسس فلسفته انطلاقا من كثير من المقولات الكامنة العدمية للرؤية المادية وأطلق عبارته الشهيرة "لقد مات الإله"، ثم بذل قصارى جهده في أن يطهر العالم من أي ظلال يكون قد تركها الإله على الأرض بعد موته(11) .

ويمكننا أن نتجاوز المضمون الديني الإلحادي المباشر لهذه العبارة لنحدد مضمونها ومن ثم تضميناتها المعرفية التي لا تشمل الإله وحسب بل وتشمل الإنسان والكون. ويساعدنا هايدجر في هذا حيث يقول إن الإله بالنسبة لنيتشه هو "العالم المتسامي"، العالم الذي يتجاوز عالمنا؛ عالم الحواس: الإله هو اسم عالما لأفكار والمثاليات والمطلقات والكليات والثوابت والقيم الأخلاقية، فهذه العبارة تعنى في واقع الأمر ما يلي:

1 - نهاية فكرة الإله المتجاوز والمفارق للمادة: المجاوز للطبيعة والتاريخ: الذي يمنح الكون تماسكا وهدفا نهائيا، أي نهاية فكرة المركز الكائن خارج المادة وهي حلولية كمونية(12) كاملة.

2- إنكار وجود أي حقيقة ثابتة متجاوزة لعالم التجربة المادية المباشرة وعالم الصيرورة.

3- كل هذا يعنى إنكار فكرة الكل ذاتها، باعتباره كياناً متماسكا يعلو على الأشياء، أي إنكار فكرة المركز الكامن في المادة.

4 - العالم إذن أجزاء لا تشكل كلا ولا مركز لها.

5 - كل هذا يعنى إنكار فكرة العام والعالمي والإنساني بشكل عام.

6 - كل هذا يعنى نهاية الميتافيزيقا، بل ونهاية فكرة الحقيقة فالقضاء على بقايا الميتافيزيقا المتمثلة في الحديث عن الكل المتجاوز أدى إلى القضاء على الحقيقة(13) .

يذهب الدكتور المسيري إلى أن النيتشوية التي هي موضوع شكل نقطة كبرى في نقده للنص الثقافي الغربي تعتبر أهم شكل من أشكال التعبير الفلسفي عن الرؤية الداروينية، فهي فلسفة فردية عدَمية تعبِّر خير تعبير عن الأوضاع الحضارية والفكرية للمجتمع الغربي في ذروة مرحلة التوسع الإمبريالي. وقد تأثر كثير من المفكرين الصهاينة بفكر نيتشه بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر عن طريق تشرب الموضوعات النيتشوية المختلفة التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من نظرة الإنسان الأوروبي للكون في هذه الفترة. إذ يربط الدكتور المسيري بين العقيدتين إن شئت التعبير من عدة جهات، فالنيتشوية، مثلها مثل الصهيونية، ديانة علمانية ملحدة تعلن موت الإله ("نعم لقد مات الإله وماتت الآلهة جميعاً")، وهي وحدة وجود مادية ترد الكون بأسره إلى مبدأ زمني واحد هو إرادة القوة. وتتبدى إرادة القوة هذه عند نيتشه في الإنسان الأعلى السوبرمان superman، أما في الإطار الصهيوني فهي إرادة القوة اليهودية التي يمثلها الصهاينة من خلال نشاطهم الاستيطاني المسلح. كما أن النيتشوية تعادي الفكر وتحتقره وتسبغ نوعاً من الروحية والقداسة على الفعل والحركة، المنفصلين عن القيمة. وقد دعا نيتشه الإنسان إلى أن يعود لحالة الحيوية والطبيعة، ويكون كالحيوان المفترس الأشقر، وينبذ العقائد الدينية وأخلاق الضعفاء. فالقوة بالنسبة له هي "الفضيلة السامية، والضعف هو النقيض في الشر. الخير هو الذي يستطيع أن يحيا ويظفر، أما الشر فهو ما يخور ويهوي"(14) .

لقد نادت الفلسفة المادية بالعقلانية، ولكن مع الإيمان بأن العقل قادر على إدراك الحقيقة بمفرده، دون مساعدة من الوجدان/ الإلهام والعاطفة والوحي، حيث اقتصرت على القول بأن العقل إن هو إلا جزء من الحقيقة المادية الصلبة باعتباره لا يوجد إلا داخل حيز التجربة المادية، مقيدا بحدودها لا يمكنه تجاوزها. وهذا يعني في الواقع أن العقل عقل مادي، يقوم بإعادة إنتاج العالم المادي عن طريق مقولات الطبيعة/المادة فقط، والعقل المادي يتعرف على الحقائق المادية فقط. فالفلسفة المادية فلسفة وضعية تتعامل مع الأشياء والظواهر والإنسان نفسه ككائنات قابلة للتجربة، ولا تلتفت في صياغتها وجدان الإنسان إلى التاريخ والقيم والميتافيزيقا. ومن هنا فهي تخط صورة واحدية للإنسان، وتنظر إليه إما كشخصية صراعية دموية تستطيع اختراق كل الحدود وتوظيف قوانين الحركة لحسابها، أو كشخصية قادرة على التكيف مع الواقع والخضوع لقوانين الحركة(15) .

وتبدأ الفلسفة داخل منظومة العلمانية الشاملة في الانسلاخ عن العقيدة والمطلقات الأخلاقية والدينية والإنسانية، وتظهر الفلسفات العقلانية المادية التي لا تقبل إلا المرجعية النهائية المادية وتحاول الوصول إلى الحقيقة الفلسفية عن طريق التجريب والحواس الخمس، أو على النقيض من ذلك، عن طريق الحدس والخيال المنفصلين عن العقل والتجريب، وعن طريق الوعي بعيدا عن أية عقيدة أو إيمان بغيب، أو عن طريق العقل الخالص المنفصل عن القلب والخيال...فتظهر الفلسفات العقلانية المادية التي ترى العقل باعتباره مقولة مطلقة، مرجعية ذاتها، مكتفية بذاتها، يصل إلى المعرفة بدون وسائط بشرية أو إلهية. هذا العقل عقد مادي محض لا يتجاوز بأية حال عالم الطبيعة/ المادة، فهو جزء لا يتجزأ منها، والفكر ليس سوى تعبير باهت عن المادة... وبالتدريج يتم استبعاد الإنسان، إذ ينتصر التجريب العلمي الحسي على أية غائيات، ثم ينفصل التجريب عن العقل والعقلانية، وتسري القوانين المادية على كلّ من الطبيعة والإنسان وما هو مطرد وقابل للقياس وما يُترجم نفسه إلى أرقام، ولكنها لا تكترث بالكيف أو الأبعاد الداخلية للإنسان أو بمقدرته على التمييز الواعي والاختيار الأخلاقي الحر(16) .

أما العلمنة الشاملة للنظرية الأخلاقية فتدور داخل إطار القانون الطبيعي المادي، الذي يوحّد الإنسان والطبيعة ولا يقبل أية مرجعية غير مادية متجاوزة. فإذا كانت الطبيعة تخلو من قيم مطلقة دينية أو إنسانية متجاوزة لقوانين الطبيعة، فإنه لا بد أن يكون الوضع كذلك بالنسبة للإنسان. ومن ثم، يظهر الإنسان الطبيعي الذي هو مجموعة من الدوافع البيولوجية التي تتحكم فيه. وإن بقيت قيم في عالمه، فمن المؤكد أنها ستكون قيما مادية عامة، مثل المنفعة والبقاء أو مثل الإشباع واللذة والتطور، وكلها قيم يمكن إخضاعها للقياس، وتتسم بأنها لا تتجاوز الكائن الطبيعي المادي وإنما كامنة فيه، ولا تشير إلى أي شيء خارج المحيط المادي(17) .

إن النموذج المعرفي الغربي يبدأ بوحدة الوجود وهي الخلاصة نفسها التي أكدها الباحث الأمريكي كرين برينتون Crane Brinton بعد تعقبه لأهم مميزات "الحركة العقلانية" يقول هذا الباحث:" وهكذا تنزع العقلانية إلى إسقاط كل ما هو خارق للطبيعة أو غيبي من الكون، وأبقت فقط على الطبيعي". فالنموذج المعرفي الغربي عند المسيري يبدأ بوحدة الوجود؛ أي أن المبدأ الواحد المنظم للكون (الإنسان والطبيعة) ليس مفارقا ولا متجاوزا له، وإنما كامن وحال فيه، هذه الفكرة تأخذ شكل متتالية تتحقق في الزمان، والفارق بين حلقاتها، أو المؤشر الذي يساعدنا على تمييز حلقة من المتتالية عن حلقة أخرى هو: موضع حلول المركز، وحسب موضع حلول هذا المركز يمكن أن نقدم المتتالية على الشكل التالي(18) :

1- الواحدية(19) الإنسانية (الهيومانية/ humanisme) ، وهي عند المسيري تتجاوز مرحلة، ما يسمى في تاريخ الفكر الأوربي، الحركة الإنسانية.

2- الواحدية الصلبة.

3- الواحدية السائلة.

وقد رسخت الفلسفة الداروينية عند المسيري أفكار الواحدية المادية، التي" تذهب إلى أن العالم إن هو إلا مادة واحدة صدر عنها كل شيء، مادة خالية من الغرض والهدف والغاية... فالعالم طبيعة، والطبيعة محايدة لا تعرف الخير أو الشر أو القبح أو الجمال"؛ وبهذا تتحول الظاهرة الإنسانية المركبة إلى مجرد شـيء، علـى الباحـث أن "يراقبه بتجرد كامل وحيادية وبرود شديدين"(20) .

هذه الرؤية عند المسيري، كانت " جزءا أساسيا من الرؤية الغربية [النموذج المعرفي الغربي]... منذ عصر النهضة"، لكنها كانت هامشية في البداية، ثم أخذت تزحف نحو المركز، ومع نهاية القرن التاسع عشر، يرى المسيري، أن هناك عناصر بدأت تظهر "جعلت الاستمرار في حالة الصلابة (...) أمرا مستحيلا"، فسقطت الطبيعة المادة، التي كانت موضع الحلول في الرؤية الثانية -النموذج (ب)، في قبضة الصيرورة، لتصل إلى مرحلة السيولة حيث يختفي المركز/ المبدأ الواحد (المطلق)سواء كان، إنسانيا أم طبيعيا، ويصبح " النسبي هو المطلق الوحيد"، ويغيب " في نهاية الأمر كل يقين"، وتتعدد " المراكز ويسقط كل شيء في قبضة الصيرورة الكاملة"(21) .

ثانيا- إخفاقات النموذج المعرفي المادي

تساوي الفلسفات المادية بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان والأشياء، وتمحو هذه الثنائية، ولذا فهي تختزل الإنسان إلى عنصر مادي/ طبيعي واحد أو عنصرين، وترده على ما هو دونه، أي المستوى الطبيعي/ المادي، وتقوم بتشييئه، أي النظر إليه باعتباره شيئاً. ومن هنا تأكيد المسيري أن الفلسفة المادية ليست معادية للإله وحسب وإنما هي معادية أيضا للإنسان. وفي مقابل ذلك توجد فلسفات إنسانية ترفض أن ترد الإنسان على ما هو دونه وتؤكد استقلاله عن عالم الطبيعة/ المادة وثنائية الإنسان والطبيعي. ورغم الاختلاف الجوهري بين الرؤيتين، فإن كثيرا من مؤرخي الأفكار يخلطون بينهما(22) .

إن النموذج الذي يجعل الإنسان مركزا وكيانا حرا وقيمة مطلقة ثابتة ترمي إلى تحقيق غايات إنسانية، تؤكد أسبقية الإنسان على الطبيعة حريته ومقدرته على التجاوز، مختلف عن النموذج الذي يجعل الطبيعة/ المادة مركزا ولا يعترف إلا بالحركة المادية الدائمة وبالواحدية المادية الصارمة التي تتجاوز الغائية الإنسانية وتجعل الإنسان خاضعاً للحتميات المادية. وحتى يوضح المسيري ذلك بدقة رصد الفروق الجوهرية بين النموذجين وأدرج التضمينات الفلسفية لكلا النموذجين في الجدول التالي(23) من خلال دراسته المعنونة ب"من ضيق المادية إلى رحابة الإنسانية والإيمان":

الإنسان / الطبيعة/المادة

1- ثنائية الطبيعة وما وراءها / -الواحدية المادية

2-الحضارة والطبيعة / 2-الطبيعة

3-ثنائية الإنسان والطبيعة / -توحد الإنسان بالطبيعة

4-أسبقية الإنسان على الطبيعة/ المادة / 4-أسبقية الطبيعة/ المادة على الإنسان

5- الإنسان مادة وروح / 5-الإنسان مادة وحسب

6- الإنسان/ الإنسان يوجد في الطبيعة ومنفصل عنها / 6- الإنسان الطبيعي جزء لا يتجزأ من الطبيعة

7- علاقة تفاعلية مع الطبيعة / 7-علاقة صراع مع الطبيعة تنتهي إما بالسيطرة الكاملة أو الإذعان الكامل

8-الإنسانية المشتركة / 8- العالم مكون من ذرات متناثرة وجماعات متصارعة وأفراد متناحرة فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان

9-العقل التوليدي (عقل مفطور فيه مقولات قبلية) / 9- العقل المتلقي (العقل صفحة بيضاء تتراكم عليه المعطيات الحسية)

10-المقدرة على التجاوز / 10- التشيؤ والمقدرة على التكيف

11- الإحساس بالطمأنينة في الكون / 11- الذوبان فى الكون أو الإحساس الشديد بالغربة

12-مركزية الإنسان (الاستخلاف في الإسلام) / 12-إزاحة الإنسان عن المركز

13- تركيبية مادية/ روحية / 13- اختزالية مادية

14- ذات الإنسان مستقلة، تتقابل مع الكل / 14- ذات الإنسان مستقلة تماما وعن الكل، أو ذائبة تماما منه

15- حرية الاختيار / 15- حتميات مادية

16-المسئولية الخلقية / 16- انعدام المسئولية

17- الأخلاق التي تتجاوز المنفعة المادية / 17-الأخلاق النفعية

18-الإنسان متعدد الأبعاد / 18- الإنسان أحادي البعد

19-الفكر والواقع / 19- الواقع المادي

20-الرؤية الكلية المترابطة / 20-التراكم المعلوماتي

21-أنماط متواترة / 21-حقائق متناثرة

22-المنحنى الخاص للظاهرة / 22-القانون العام

23-سببية فضفاضة / 23-سببية صلبة

24-تعددية منهجية (مناهج العلوم الطبيعية مختلفة عن مناهج العلوم الإنسانية) / 24-وحدة العلوم

25-استمرار وانقطاع / 25-استمرار واضطراد

تنطلق الفلسفات المادية في مرجعيتها من إيمانها بأسبقية الطبيعة/المادة على الإنسان مركزة على هذا الجانب من الوجود الإنساني حيث ترد كل جوانبه الأخرى إليه. لكن المسيري يشير إلى إهمالها جوانب أخرى للطبيعة البشرية تتجاوز الطبيعة المادة/ وغير خاضعة لقوانينها حيث ترتبط بعالم الإنسان، يبرز ذلك من خلال نشاط الإنسان الحضاري مثل: الاجتماع الإنساني والحس الخلقي والحس الجمالي والحس الديني، حيث يرصد المسيري هذه المظاهر الإنسانية في كون الإنسان هو:

- كائن دائب التنقيب عن تساؤلات عما يسمى العلل الأولى.

- كائن دائم البحث عن الغرض من وجوده في الكون.

- كائن واع بذاته والكون وقادر على تجاوز ذاته المادية.

- كائن صاحب إرادة حرة رغم الحدود الطبيعية والتاريخية التي تحده.

- كائن قادر على تطوير منظومات أخلاقية غير نابعة من البرنامج الطبيعي/ المادي.

- كائن يطور ويبدع أنساق من المعاني الداخلية والرموز التي يدرك من خلالها الواقع.

- كائن متميز فيه كل فرد بخصوصيات لا يمكن محوها أو تجاهلها.

الهوامش:

1. حوار مع عبد الوهاب المسيري، مجلة مراجعات، العدد2، شتنبر2000

2. عبد الوهاب المسيري، في آخر حواراته المنشورة على موقع إسلام أولاين.

3. عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، دار الشروق، الطبعة الثانية، 2006. ص 14.

4. المسيري، رحلتي الفكرية، مرجع سابق، ص212.

5. المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، دار الفكر، دمشق، الطبعة الثانية، 2003. ص16-17. وأنظر أيضا عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ج1- دار الشروق الطبعة الأولى، القاهرة 1999.

6. المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، ص20.

7. المسيري، نفسه، ص20.

8. المسيري، نفسه، ص21.

9. أحمد ثابت، نقد النموذج المادي الغربي المعادي للتاريخ، في عالم عبد الوهاب المسيري: حوار نقدي حضاري، دار الشروق، الطبعة الأولى 2004. ص236.

10. عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، الجزء الأول، دار الشروق، الطبعة الثانية، 2005. ص197.

11. المسيري، نيتشه فيلسوف العلمانية الأكبر، مجلة أوراق فلسفية، على الرابط التالي:http://awraqfalsafiya.wordpress.com/2009/07/12/

12. تدور معظم رؤى العالم حول ثلاثة عناصر هي في الواقع عنصران اثنان: الإله من جهة والإنسان والطبيعة (أي العالم) من جهة أخرى. ومذهب الحلول أو الكمون (أو الحلولية الكمونية الواحدية أو وحدة الوجود) هو المذهب القائل بأن الإله والعالم (الإنسان والطبيعة) مُكوَّن من جوهر واحد، ومن ثم فهو عالم متماسك بشكل عضوي مصمت لا تتخلله أية ثغرات ولا يعرف الانقطاع ويتسم بالواحدية الصارمة، ويمكن رد كل الظواهر فيه، مهما بلغ تَنوُّعها وانعدام تجانسها، إلى مبدأ واحد كامن في العالم هو مصدر وحدة الكون وتماسكه ومصدر حياته وحيويته وهو القوة الدافعة له الكامنة فيه، ويمكن تفسير كل شيء من خلاله. المسيري، موسوعة اليهود، مرجع سابق.

13. المسيري، نيتشه فيلسوف العلمانية الأكبر، مرجع سابق.

14. إدريس مقبول، في نقد مسلمات الفلسفة الغربية عند الفيلسوف المسيري: محاولة في البناء والتركيب، مؤتمر المسيري: الرؤية والمنهج، 2007.

15. أحمد ثابت، نقد النموذج المادي الغربي المعادي للتاريخ، مرجع سابق، ص239-240.

16. عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، الجزء الثاني، دار الشروق، الطبعة الثانية، 2005.ص125.

17. العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، الجزء الثاني، ص128.

18. أحمد مرزاق، النموذج المعرفي والنموذج المعرفي الغربي عند المسيري: المفهوم والمعالم والتجليات، مؤتمر المسيري: الرؤية والمنهج، 2007.

19. «الواحدية» مصدر صناعي من كلمة «واحد»، وتُعبِّر عن واقع تآصل ظواهر مختلفة وعن كونها تُرَدُّ إلى أصل أو جوهـر واحد. وقد عرَّف المجمع اللغوي بالقاهرة كلمة «الواحدية» (في الفلسفة) بأنها مذهب يَرُدّ الكون كله إلى مبدأ واحد، كالروح المحض أو كالطبيعة المحضة. أما «أُحادية»، فهي من كلمة «أُحاد». وهي، في مثل «جاء الأضياف أُحادَ»، بمعنى «واحداً بعد واحد»، أي «جاء الأضياف واحداً واحـداً». فهي إذن تدل على الانفراد. ومن هنـا، فقد اسـتُخدم المصدر الصناعي «أُحادية» حديثاً للتعبير عن حالة الانفراد. وهي تعني، في التعبير الفلسفي، رد الظاهرة (وهي بطبيعتها متعددة الجوانب)، أو أية عملية، إلى أحد أوجهها دون أوجهها الأخرى. فيقال مثلاً «النظرة الأحادية»، أي النظرة التي تضع في اعتبارها عنصراً واحداً دون عناصر أخرى في الظاهرة كان لابد من وضعها في الاعتبار. والاختلاف كبير بين المفهومين: الواحدية والأحادية. ويمكن القول بأن الواحدية الكونية مفهوم أُنطولوجي (وجودي) ينسب الواحدية إلى الكون، بينما الأحادية مفهوم إبستمولوجي (معرفي) يرى أن الأحادية خاصية تسم بعض طرق التعريف والتحليل والإدراك. ويمكن القول بأن ثمة أنواعاً مختلفة من الواحدية هي تعبير عن مستويات مختلفة من الحلول. فالواحدية الكونية هي حلول الإله في الكون بأسره (وهو عادةً ما يحتفظ باسمه «وحدة الوجود الروحية»). ولكن يمكن أن ينحصر الحلول في الإنسان ومن ثم تظهر «الواحدية الذاتية» التي تترجم نفسها إلى النزعة الإنسانية الهيومانية المتطرفة («الواحدية الإنسانية») وإلى الذاتية الفلسفية. ولكن حينما يتركز الحـلول في جـنس بعينه (الجنس الأبيض ـ شعوب أوربا) تتحول الواحدية الذاتية إلى «واحدية إمبريالية وعنصرية». وحينما ينتقل الحلول من الإنسان إلى الطبيعة تظهر «الواحدية الطبيعية المادية» (أو «الواحدية الموضوعية المادية») ويهتز مفهوم الطبيعة البشرية إذ يظهر الإنسان الطبيعي الذي يذعن للطبيعة/المادة. وتتصاعد معدلات الحلول فتبدأ الكليات في الغياب والتفكك ويغيب مفهوم الإنسانية المشتركة تماماً إلى أن نصل إلى ما يمكن تسميته «الواحدية الذرية» حين ينتشر الحلول في كل أرجاء الكون وذراته فلا يوجد فارق بين إنسان وحيوان، وذكر وأنثى، ومقدَّس ومدنَّس. والواحدية الذرية هي بطبيعة الحال واحدية سائلة (على عكس أشكال الواحدية الأخرى التي تتسم بالصلابة). ويُلاحَظ أن تصاعد معدلات الحلولية يعني تراجع الحيز الإنساني وضموره ثم اختفاؤه الكامل حين يتوحَّد الإله تماماً بالنظام الطبيعي ويصبح الإله هو القانون الطبيعي. أنظر المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، مرجع سابق.

20. أحمد مرزاق، النموذج المعرفي والنموذج المعرفي الغربي عند المسيري: مرجع سابق. راجع أيضا عبد الوهاب المسيري: التحيز للنموذج المعرفي الغربي الحديث"، ج 1، مجلة الإنسان، دار آمان للصحافة والنشر، باريس، س: 4، عدد 13- 1995.

21. أحمد مرزاق، النموذج المعرفي والنموذج المعرفي الغربي عند المسيري: مرجع سابق. راجع أيضا: عبد الوهاب المسيري، قضية المرأة بين التحرر والتمركز حول الأنثى، دار نهضة مصر، القاهرة 1999.

22. عبد الوهاب المسيري، من ضيق المادية إلى رحابة الإنسانية والإيمان، ورقة قدمت لمؤتمر: "الفلسفة في الفكر الإسلامي: قراءة معرفية ومنهجية" الذي نظمه المعهد العالمي للفكر الإسلامي في الأردن بالتعاون مع الجامعة الأردنية ووزارة الثقافة الأردنية يومي 29-30 أكتوبر 2008م.

23. المسيري، نفسه.

نور الدين الدمشقي
08-01-2012, 11:21 PM
ينتقد المسيري أسس الفلسفة المادية، معتبرا أنها تواجه عدة مشاكل رصدها في الأبعاد الآتية:

أولا- ادعاء الفلسفة المادية أنها ليست أيديولوجية وإنما علم طبيعي، وهذا يفترض أنها قد قامت بحصر كل المتغيرات المادية والموضوعية ورصدها في علاقاتها المتشعبة وأثبتت صحة مقولاتها، وهو أمر مستحيل علميا. كما أن الواجب العلمي-في نظر المسيري- يستوجب حصر كل المتغيرات والعناصر والأسباب وعلاقتها بعضها ببعض، مع إقرار غلبة ما على العناصر الأخرى ومنحه أسبقية سببية، على أن تتم هذه العملية كل مرة، وهذا أمر مستحيل من الناحية العلمية. وعلى ضوء ذلك يستنتج المسيري أن الفلسفة المادية تواجه الواقع مسلحة بميتافيريقا مادية غير واعية، فهي واعية أو تؤمن بوجود كليات وتعميمات تستند إلى الإيمان بوجود كل مادي ثابت متجاوز للأجزاء له هدف وغاية وبوجود عقل إنساني قادر على رصد كل هذا. ويؤكد المسيري أنها أطروحات نبيلة لكنها ميتافيزيقية، مشيرا إلى أن الثبات والتجاوز والهدف ليس من صفات المادة، ومقدرات العقل على التعميم والتجاوز من الصعب تفسيرها ماديا. وهذا ما أدركه نيتشه من البداية، حين بيّن أن الأنطولوجيا الغربية؛ حتى بعد موت الإله(1) احتفظت بظلال الإله على هيئة هذا الإيمان بالكل المادي الثابت المتجاوز ذي الهدف، وحين نادى بإزالة ظلال الإله تماما والتخلي عن الميتافيزيقيا، التي تعني التخلي عن البحث عن الحقيقة ذاتها،ة فالحقيقة تستدعي الثبات والكلية(2).

ثانيا- إن العلم التجريبي محدود ولا يستطيع التعاطي مع كل أنواع الخبرات وجوانبها، فالطريقة التجريبية ذاتها تقريبية، وهي نتائج تنطبق المتوسط.

ثالثا- أدت نظرية الكوانتم ولا تتحدد هايزنبرج ونظرية النسبية إلى إضعاف قيمة الافترضات المادية مثل: الجبرية والسببية ومطلقية كون الفضاء والزمان...الخ، فقد ظهر أن ثمة وجودا لاماديا للطاقة الذرية هو الوجود الموجي. والتعامل مع ظاهرة الضوء أثبت أن الضوء يتصرف في مواضع تجريبية باعبتاره مكونا من جزيئات وحزم ضوئية(فوتونات)، وأنه في مواضع تجريبية أخرى يتصرف باعتباره مكونا من موجات.

لقد أسقط العلم الحديث تدريجيا فكرة السببية الصلبة القديمة، ولم يعد يطمح إلى معرفة الكون معرفة كاملة، كما كان يطمح علماء القرن التاسع عشر. حيث يشير المسيري إلى أنه بعد مئة عام من التجارب العلمية، اكتشف الإنسان أنه كلما اكتشف وسيطر على شيء ما ظهرت له آلاف الأشياء الجديدة التي لا يعرفها ولا يمكن السيطرة عليها(تجربة الذرة، حدود الحاسوب، الهندسة الوراثية، الثقوب السوداء في الكون...)(3).

رابعا- ادعت الفلسفة المادية، في البداية، أن المادي هو ما تدركه الحواس، وأن ما لا تدركه غير مادي، وبالتالي غير موجود. ولكن الذرات وجزيئاتها لا تُدرك بالحواس، وبعضها لا كتلة له، وحركة الذرة لا تتبع نمطا محددا، والثقوب السوداء تحطم قوانين الزمان والمكان. ومن ثم، أعيد تعريف المادي بأنه كل شيء يوجد وجودا موضوعيا؛ أي أنه الشيء الذي لا يعتمد في وجوده على عقلنا أو وعينا به.(وبهذا المعنى، فإن الفلسفة المادية لا يمكنها أن تستبعد العناصر غير المادية إن تجلت موضوعيا في واقعنا)(4).

خامسا- مسألة أزلية المادة أصبحت مسألة مشكوكا فيها علميا. فالمادة تتحول إلى طاقة والطاقة تتحول إلى مادة، وقابليتها للتحول تعني أن بقاءها في هيئتها المعيَّنة كان معتمدا على ظروف خارجة عن ذاتها، فلما زالت تلك الظروف زالت تلك الهيئة. ومن ثم، يستنتج المسيري على أن المادة ليست معتمدة في وجودها على نفسها وبالتالي تستحيل أن تكون آلية، فكل ما يتحلل ويتحول فليس بأزلي غير حادث بل هو بالضرورة حادث.

سادسا- خلق العالم بالصدفة هو مجرد افتراض وتخمين وليس حقيقة علمية. حيث يشير المسيري إلى أن تكوين كائن كالإنسان من تلك الذرات بالمصادفة أكثر بعدا من احتمال قرد يخبط على آلة كاتبة فيخرج لنا بالمصادفة قصيدة رائعة. ولكي نصدق نظرية الخلق بالمصادفة، لا بد من الإيمان باحتمال أن يلقى إنسان أو قرد بالنرد ويحالفه الحظ ويأتي 6/6 ليس مرة واحدة ولا ألف مرة وإنما 44 ألف مرة متتالية. ويستمر دحض المسيري معبترا أن المصادفة وحدها لا تجدي في تفسير الخلق، فإن تكوين الكائنات من تلك الذرات الهائمة يعني أنها كانت مصممة بحيث أنها إذا اجتمعت بهذه الطريقة يتكون منها ماء، وهكذا؛ أي أن التصميم يسبق الصدفة. وفي ذلك يستند المسيري على مقولة علي عزت بيغوفتش قائلا:"إن تشارلز يوجين جاي، عالم الطبيعة السويسري، قد حاول أن يقوم بحساب احتمالية الخلق بالصدفة لجزيء واحد من البروتين، فوجد أن خلق مثل هذا الجزء يستغرق 34201 بليون سنة تحت ظروف 41015 اهتزازة في الثانية. وتبعا لذلك، لا يوجد إمكانية لأن تكون الحياة قد نشأت بالصدفة خلال 4,5 بليون سنة التي يُفترض أنها عمر الأرض. وقد أعاد هذا الحساب مانفريد إيجن من معهد ماكس بلانك لكيمياء الطبيعة الحيوية في جوتنجن بألمانيا فأثبت أن جميع المياه على كوكبنا ليست كافية لكي تنتج بطريق الصدفة جزئيا بروتينيا واحدا، حتى ولو كان الكون كله مليئا بمواد كيميائية تتحد بعضها مع بعض بصفة دائمة. فإن البلايين العشرة من السنين منذ نشأة الكون لم تكن كافية لإنتاج أي نوع من البروتين(5).

ينتقد المسيري من يرى أن المادة من خلال الصدفة وحدها قد أدّت إلى ظهور عناصر متجاوزة للمادة، مثل الإنسان والوعي والعقل والغائية، ففي نهاية الأمر ينسبون للمادة مقدرات غير مادية، ومن ثم فإنهم يكونون قد خرجوا عن مقاصد الفلسفة المادية. خصوصا وأن هذه الفرضية لا تخرج عن كونها تكهنات عنيدة طفولية تضمن لهم الاستمرار في ماديتهم البسيطة وتضمن لهم في الوقت ذاته تفسير ما حولهم من تركيب ووعي وغائية(6).

سابعا- إن التحدي الأكبر للفلسفة المادية هو ظاهرة الإنسان بكل ما فيها من أسرار وتركيبية، والتي أخفق العلم الطبيعي تماما في إدخالها في قفص السببية الصلبة المطلقة الحديدي.

إن أزمة المعنى المتواترة في الأدبيات الغربية، تتجلى في كون الإنسان الغربي في المجتمع الحديث قد يشعر بأن كل احتياجاته المادية تم الوفاء بها إلى درجة كاملة، فهو يحصل على الملبس والمأكل والمسكن وكل أشكال الترف، وعلى مستويات من المعيشة لم تتحقق في أي مجتمع إنساني من قبل. كما أنه يعيش في مجتمع يسود فيه القانون، وتحكمه المؤسسات التي تضبط كل تفاصيل حياته وتوفر له الراحة المادية الكاملة..ورغم كل هذا..يشعر هذا الإنسان أنه يفتقر إلى شيء ما أساسي، هذا الشيء هو المعنى الكلي النهائي لحياته. فرغم أن كل تطلعاته المادية قد تم إشباعها، إلا أن حياته تظل مجموعة من التفاصيل المتتالية المتناثرة التي لا قصد لها ولا هدف، ومن ثم لا معنى لها. وهنا تظهر أزمة المعنى، وهي أزمة تتم على المستويات الكلية والنهائية للوجود الإنساني، وليس على المستويات الاقتصادية أو السياسية؛ أي أنها أزمة الإنسان باعتباره إنسانا، وليس باعتباره منتجا أو مستهلكا...باعتباره إنسانا يشعر أن جزءا كبيرا من كيانه وإمكانياته لم تتحقق داخل المجتمع الغربي الحديث. ولذا، فإن حل هذه الأزمة لا بد أن يتم على مستويات غير مادية، وهو الأمر الذي لم تنجح فيه بعد المجتمعات الغربية(7) .

إنه "السعي من أجل المتعة والهرب من الألم"، فبهذه العبارة "الكليشة" حدد مبدأ الحياة الأساسي اثنان من كبار فلاسفة الفكر المادي هما "أبيقور" في الماضي، و"هولباخ" في العصر الحديث. ليست فقط حياة الإنسان، بل حياة الحيوان أيضا. فالمادية تؤكد دائما ما هو مشترك بين الحيوان والإنسان، بينما يؤكد الدين على ما يفرق بينهما...في محاولة المادية لتأكيد الطبيعة الحيوانية عند الإنسان تبدي اهتماما أكثر مما ينبغي(8).

وفي هذا الصدد يول بيغوفيتش:" لم يجعل داروين الإنسان حيوانا، ولكنه جعله واعيا بأصله الحيواني، وانطلاقا من هذا الوعي أخذ الآخرون يستنبطون النتائج المناسبة في الأخلاق والسياسة: المجتمع الإنساني قطيع في شكل متحضر، والحضارة هي يقظة الإنسان التي تنطلق مصحوبة برفض المحرمات، القوة فوق الطبيعة، الحياة بالإحساسات وليس بالروح(...) إن التطور- حيث أقام الوحدة أو الاستمرارية بين الحيوان والإنسان- قد أبطل الاختلاف بين الطبيعة والثقافة، وانطلاقا من وجهة نظر أخرى، نجد الدين يعيد إقامة هذا الاختلاف. ولذلك، فإنه انطلاقا من فعل الخلق الإلهي، يقف الإنسان والثقافة معه بصلابة ضد فكرة التطور التاريخي للإنسان برمتها. هنا يبدأ الانشقاق بين الثقافة والحضارة. فبينما يقول "كامو" إن الإنسان حيوان يرفض أن يكون كذلك، فإن "هوايتهيد" يرى في هذا الإنكار جوهر الموقف الديني... [كما] أن رفض هذا الموقف الحيواني، وهذه الرغبة السلبية التي لا يمكن تفسيرها بنظرية داروين أو النظريات العقلانية، هي الحقيقة القاطعة للحياة الإنسانية على هذا الكوكب. قد تكون نقمة للإنسان أو نعمة، ولكنها تبقى الخاصية الوحيدة التي تميز الإنسان"(9).

وإذا كانت العدمية والدين يمثلان إنكارا للمادية، ويشتركان في القلق البدائي، والنظر فيما وراء القبور، والبحث المجهد عن طريق خارج هذا العالم الذي أًصبح الإنسان فيه غريبا، فإن الفرق بينهما يكم في كون العدمية لا تجد طريقا للخلاص، بينما يذهب الدين إلى أنه وجد هذا الطريق، فإخفاق الحضارة المعاصرة البيّن في حل مشكلة السعادة الإنسانية بواسطة العلم والقوة والثروة-إذا فهم وتم الاعتراف به- سوف يكون له أقوى أثر نفسي على الجنس البشري. ومن ثم فأول فكرة يجب مراجعتها هي فكرة العلم الخاطئة عن الإنسان. فما دامت الحضارة عاجزة عن حل مشكلة السعادة الإنسانية فلا بد أن تكون فكرة الدين عن أصل الإنسان هي الفكرة الصحيحة وفكرة العلم هي الخاطئة وليس هناك اختيار ثالث(10).

إن العدمية ليست إنكارا للألوهية ولكنها احتجاج على غيابها، وكما هي عند "بٍكت(Beckett)" احتجاج على غياب الإنسان...هذا الموقف ينطوي على فكرة دينية لا فكرة علمية عن الإنسان والعالم، أما عبارة سارتر الشهيرة التي يصف فيها الإنسان بأنه عاطفة تافهة لا جدوى منها، فهي عبارة دينية بمنطقها وروحها معا، ففي المادية لا توجد عاطفة أو تفاهة، فلا يمكن أن يكون في العلم تفاهة لأنه لا يوجد فيه عاطفة(11).

وهكذا فشلت المادية بوصفها نموذجا معرفيا وفلسفة في تفسير إصرار الإنسان على أن يجد معنى للكون ومركزاً له. والحقيقة أنه حينما لا يجد هذا المعنى، فإنه لا يستمر في الإنتاج المادي مثل الحيوان الأعجم وإنما يتفسخ ويصبح عدمياً ويتعاطى المخدرات وينتحر ويرتكب الجرائم دون سبب مادي واضح. وتزداد قضية المعنى حدة مع ازدياد إشباع الجانب المادي في الإنسان، فكأن إنسانية الإنسان لصيقة بشيء آخر غير مادي. والبحث عن المعنى عبَّر عن نفسه على هيئة فنون وعـقائد(12). ولذا، فالنتيجة المنطقية للفلسفات العلمانية المادية الشاملة حينما تُطبَّق على الإنسان بصرامة هي تفكيكه ورده إلى القوانين الطبيعية/المادية والإحاطة به ككائن لا استقلال له عن النظام الطبيعي/المادي(13).

خاتمة:

إن القارئ لأعمال الفيلسوف المسيري يجد أنه دأب على نقد هذا التصور واعتباره أخطر انحراف تعرضت له البشرية في تاريخها حيث ذهبت في اتجاه تأليه الطبيعة وبعد ذلك تأليه الإنسان والآلة والتقنية في مسار حلولي. هذا التأليه الذي عبر عنه ألان تورين أحد أكبر المهاجمين للحداثة الغربية في كتابه "نقد الحداثة" بأنه في الغرب تم الاستغناء عن فكرة الذات وعن فكرة الله، فلم يعد المجتمع والتاريخ والحياة الفردية تخضع لكائن أعلى ينبغي أن يكون له الخضوع، بل الفرد أصبح لا يخضع لغير قوانين الطبيعة التي حلت محل الإله(14).

يعتبر المسيري العلمانية أي وحدة الوجود المادية والمرجعية المادية الكامنة، هي الإطار المعرفي النهائي للحضارة الغربية الحديثة، ويرى أن الرؤية العلمانية هي في واقع الأمر رؤية حلولية كمونية مادية لا تفصل الدين عن الدولة وحسب وإنما تعزل القيم المطلقة المعرفية والأخلاقية والإنسانية والدينية عن الدنيا، بحيث يصبح مركز الكون كامناً فيه ويُردُّ الواقع بأسره (الإنسان والطبيعة) إلى مستوى واحد، ويصبح كله مجرد مادة محضة نافعة نسبية لا قداسة لها تُوظَّف وتُسخَّر. والهدف من وجود الإنسان في الأرض هو زيادة معرفة قوانين الحركة والطبيعة البشرية والهيمنة عليها من خلال التقدم المستمر الذي لا ينتهي، ومن خلال تَراكُم المعرفة وسد كل الثغرات وقمع الآخر إلى أن يخضع كل شيء (الإنسان والطبيعة) لحكم العقل وقانون الأرقام (وهو قانون يستمد مشروعيته من المعارف العلمية المادية)، بحيث تَحوَّل الواقع بأسره (طبيعة وبشراً) إلى جزء متكامل عضوي تنتظمه شبكة المصالح الاقتصادية والعلاقات المادية، فيخضع الواقع للواحدية المادية ويصبح أشبه ما يكون بالسوق والمصنع(15).

يُختَزل الإنسان في إطار المرجعية الكامنة ويرد إلى الطبيعة/المادة، ويصبح إنساناً طبيعياً (مادياً) غير قادر على تجاوز ذاته الطبيعية المادية، ولا يتجاوز الطبيعة/المادة بحيث يسري عليه ما يسري على الظواهر الطبيعية من قوانين وحتميات، وهذا ما يعني أن الإنسان يفقد إنسانيته المركبة وتُنزَع عنه القداسة تماماً. فبدلاً من مركزية الإنسان في الكون، تظهر مركزية الإنسان الأبيض في الكون وبدلاً من الدفاع عن مصالح الجنس البشري بأسره يتم الدفاع عن مصالح الجنس الأبيض، وبدلاً من ثنائية الإنسان والطبيعة وأسبقية الأول على الثاني تظهر ثنائية الإنسان الأبيض من جهة، مقابل الطبيعة/المادة وبقية البشر الآخرين من جهة. ويصبح هم هذا الإنسان الأبيض هو غزو الطبيعة المادية والبشرية وحوسلتها وتوظيفها لحسابه واستغلالها بكل ما أوتي من إرادة وقوة، وهكذا تحوَّلت الإنسانية الهيومانية الغربية إلى إمبريالية(16).

وهكذا فالرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية هي رؤية مرتبطة بعصر التحديث والحداثة والثنائية الصلبة والمرجعية الكامنة حيث جعل الإنسان الغربي من نفسه الأنا المقدَّسة ومركز الكمون والكون الذي يحق له إبادة الآخرين واستغلال العالم. ومع الستينيات، بدأت الرؤية العلمانية الإمبريالية تأخذ شكلاً جديداً في عصر ما بعد الحداثة والسيولة الشاملة وهي إنكار المركز تماماً وإعلان انتهاء التاريخ وانتهاء الإنسان واختفاء أية مرجعية، ومن ثم ظهر فكر ما بعد الحداثة والنظام العالمي الجديد، فجوهر الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية هو تحويل البشر والعالم إلى مادة استعمالية نفعية.

إن المادية ترفض الغائية؛ أي أن للعالم غاية عليا، لتتلخص بذلك من مخاطر العبثية والتفاهة. عالم المادية وإنسانها لهما غايات عملية ولهما وظيفة...لتكن وظيفة حيوانية.. لا يهم. إن عبارة: الإنسان عاطفة لا جدوى منها أو عاطفة تافهة تتضمن فكرة أن الإنسان والعالم، ليس بينهما تناغم أو تطابق.. إن التفاهة عند سارتر والعدمية عند كامو تفترض البحث عن هدف ومعنى. وهو بحث يختلف عن البحث الديني في أنه ينتهي عندهما بالفشل، ولكنه يعتبر بحثا دينيا من حيث أنه يعني رفض الهدف الدنيوي للحياة الإنسانية أو رفض الوظيفة الدنيوية(17).

إن البحث عن الله بحث ديني، ولكن ليس كل بحث ينتهي باكتشاف. فالعدمية خيبة أمل ليس بسبب العالم والنظام، وإنما بسبب غياب الخير من العالم. فكل شيء تافه وعدمٌ إذا كان الإنسان يموت إلى الأبد. إن الفلسفة العدمية لا تتحدث مباشرة عن الدين، ولكنها تعبّر بوضوح عن الاعتقاد بأن الإنسان والعالم ليسا مصنوعين بالمعيار نفسه. إنها تعبر عن القلق بجميع درجاته وهو في العمق قلق ديني. عند العدمية وعند الدين الإنسان غريب في هذا العالم، ففي العدمية هو غريب بلا أمل، وأما في الدين فهناك أمل في الخلاص(18).

إن النقد الذي قدمه المسيري للتحيزات الكامنة في النموذج المعرفي المادي يعتبر محاولة رائدة في مجال اكتشاف مواضع التحيز ومنطقه، مع محاولة تأسيس نموذج تحيز إنساني مشترك(19). فقد حولت المرجعية المادية المنفعة واللذة إلى أهداف أساسية في الوجود الإنساني مما جعل النزعة الاستهلاكية سلوكا حتميا يجعل عجلة الاقتصاد تتسارع نحو مزيد من الاستهلاك، ففقدان النهايات الكلية (العلة الأولى للوجود) للمعرفة المادية وانغلاقها على المادة سيؤدي إلى مأساة الإنسان وتأزم القيم وفقدان المعنى وتفكك المرجعيات، ليدعو المسيري إلى أن "المطلوب هو حداثة جديدة تتبنى العلم والتكنولوجيا ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط، حداثة تحيي العقل ولا تميت القلب، تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث، أول خطوة نحو إنجاز هذه الحداثة البديلة هو فصل الحداثة عن الاستهلاكية وعن مفهوم التقدم المادي وربطها بمفهوم الطبيعة الإنسانية والإنسانية المشتركة وإعادة تحديد معدلات الاستهلاك في إطار تحقيق الإنسانية وضمن حاجيات البشر المادية والمعنوية"(20).

الهوامش:

1. «موت الإله» مصطلح يعني أن القوة الخالقة للعالم المتجاوزة له قد اختفت وفَقَد الإله اسمه، وهو ما يعني الاختفاء الكامل للمرجعية المتجاوزة وظهور المرجعية الكامنة. عندئذ يُسمَّى المبدأ الواحد، مصدر وحدة العالم وتماسكه، «الطبيعة/المادة» أو التنويعات المختلفة عليه. وحين يتم ذلك تتحوَّل وحدة الوجود الروحية إلى وحدة وجود مادية. ونحن نُعبِّر عن هذا بقولنا إن الإله يحل في المادة ويتوحد بها ولا يصبح له وجود، فلحظة الوحدة الكاملة للوجود والواحدية المادية (اللحظة النماذجية العلمانية) هي أيضاَ لحظة فقدان الإله لتجاوزه واسمه، أي موته. ويصبح مركز الكون كامناً فيه، ويصبح الكون (الإنسان والطبيعة) مكوَّناً من مادة واحدة ويختفي الغرض والغاية تماماً ويموت الإنسان، أي يختفي كمقولة مستقلة عن النظام الطبيعي/المادي. وعبارة «موت الإله» عند نيتشه (صاحب العبارة) تعني غياب فكرة الكل التي تشكل أساس الأنطولوجيا الغربية. المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيوية، مرجع سابق.

2. المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، مرجع سابق، ص25.

3. المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، مرجع سابق، ص25.

4. المسيري، نفسه، ص25.

5. المسيري، الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، مرجع سابق، ص26.

6. الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، ص26-27.

7. المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، الجزء الأول، مرجع سابق، مجلة النور الكويتية ومؤسسة بارفايا، الطبعة الأولى 1994، ص173.

8. علي عزت بيغوفتش، الإسلام بين الشرق والغرب، مرجع سابق، ص80.

9. علي عزت بيغوفتش، الإسلام بين الشرق والغرب، مرجع سابق، ص81.

10. علي عزت بيغوفتش، نفسه، ص130.

11. علي عزت بيغوفتش، الإسلام بين الشرق والغرب، مرجع سابق، ص130.

12. المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، مرجع سابق.

13. المسيري، نفسه.

14. إدريس مقبول، في نقد مسلمات الفلسفة الغربية عند الفيلسوف المسيري، مرجع سابق. ويمكن الرجوع إلى: ألان تورين: نقد الحداثة، ترجمة عقيل الشيخ حسين، مجلة المنطلق الجديد، ع108-109. 1994. ص 155.

15. انظر عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، مرجع سابق.

16. أنظر عبد الوهاب المسيري، دراسات معرفية في الحداثة الغربية، القاهرة، مكتبة الشـروق الدولية، 2006.

17. علي عزت بيغوفتش، الإسلام بين الشرق والغرب، مرجع سابق، ص131.

18. علي عزت بيغوفتش، نفسه، ص131.

19. أحمد ثابت، نقد النموذج المادي الغربي المعادي للتاريخ، مرجع سابق، ص250.

20. المسيري، رحلتي الفكرية، ص225.

Omar Saad
08-02-2012, 01:11 AM
قبل أن أرى موضوعك الجميل هذا كنت أقرأ في كتاب للدكتور المسيري بعنوان "الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ" وأظنك تعرفه. :)

أشكرك جزيلا أخي على هذا المجهود الطيب ما شاء الله,

وبصراحة إني أتمنى أن أصل يوما إلى مستوى أن أكتب نقدا تفصيليا كهذا عن أكتب الكتاب أو الفلاسفة المشهورين.
ويشرفني أن أنهل من علمكم واطلاعكم أخي. :emrose:

جزاك الله خيرا. :)

نور الدين الدمشقي
08-02-2012, 09:08 AM
حياك الله اخي - الموضوع منقول كما بينت في اول سطر. وكلنا ننهل ونستفيد

إلى حب الله
08-02-2012, 10:43 AM
نقل موفق أخي الحبيب نور الدين ..
بارك الله فيك ...

Omar Saad
08-02-2012, 01:56 PM
حياك الله اخي - الموضوع منقول كما بينت في اول سطر. وكلنا ننهل ونستفيد

عفوا! فقد فاتني هذا.. :)

شكرا جزيلا على النقل الموفق وجزاك الله خيرا. :emrose: