المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التدقيق المتناهي والمبدأ الأنثروبي.. حول موقف فلسفة العلوم من الكون



د. هشام عزمي
09-02-2012, 01:54 PM
التدقيق المتناهي والمبدأ الأنثروبي.. حول موقف فلسفة العلوم المعاصرة من الكون
د. خالد صقر
585
http://nama-center.com/ActivitieDatials.aspx?id=119
..

يُطلق مصطلح "التدقيق المتناهي"(1) في علم الفيزياء علي مبدأ ينص علي أن هناك عدد من الثوابت الكونية الرياضية التي تتطلب أن تكون قيمتها ثابتة بدقة متناهية حتي يمكن للحياة أن تنشأ وتستمر في الكون وحتي يمكن للكون أن يستمر في الوجود بشكل عام ، ويعتبر مبدأ التدقيق المتناهي من أهم الإنجازات العلمية في القرن العشرين في مجالات الفيزياء النظرية وعلم الكونيات والفيزياء الفلكية ، ولكن تفسير هذا المبدأ - مثل كل النظريات الهامة التي ظهرت في القرن العشرين- قد خضع لجدل كبير بين علماء الفيزياء وفلاسفة العلوم ، فبينما يقول عالم الفيزياء الإنكليزي الأشهر بول دافيز "يمكن القول أن هناك اتفاق واسع بين علماء الفيزياء والكونيات الآن علي أن الكون خاضع لتدقيق متناهي من أجل وجود الحياة"(2) يقول عالم فيزياء الجزيئات الأمريكي المعروف فيكتور ستينجر "إن تغير الثوابت الفيزيائية والكونية تغيراً واسعاً يقود إلي أكوان تسمح بتطور صور الحياة عليها بالرغم من أن الوجود البشري لن يكون ممكناً في هذه الأكوان"(3). هاتان الرؤيتان لمبدأ التدقيق المتناهي تعكسان التباين الشديد في الآراء العلمية لتفسير وجود هذا المبدأ وطرح مقترحات لنتائجه.
للمزيد من التوضيح لمبدأ التدقيق المتناهي نأخذ مثالاً يتعلق بالجاذبية بين أجرام المجموعة الشمسية التي يتواجد فيها كوكب الأرض والحياة البشرية التي نعرفها ، فقد أثبتت الحسابات التي قام بها عالم الفيزياء النظرية الأسترالي براندون كارتر في بداية الثمانينات من القرن العشرين أن ثابت نيوتن للجاذبية(4) لو تغير بمقدار بالغ الضآلة لا يتعدي واحد علي عشرة ديوديسيليون(5) لما كانت الشمس موجودة ولما أصبحت الحياة علي كوكب الأرض ممكنة(6). ويتكرر هذا التدقيق المتناهي في عشرات القيم العددية في الكون مثل سرعة الضوء ، ومقدار الشحنة الكهربية للإلكترون ، والعديد من الثوابت الرياضية مثل ثوابت بلانك وبور وغيرها ، يقول عالم الفيزياء النظرية الأشهر ستيفن هوكينج في تعليقه علي هذا التدقيق المتناهي في كتابه الأكثر شهرة "تاريخ موجز للزمان" ، يقول: "إن القوانين الرياضية العلمية كما نعلمها في الوقت الحالي تحتوي علي العديد من الأرقام الأساسية مثل مقدار الشحنة الكهربية للإلكترون والنسبة بين كتلتي الإلكترون والبروتون...إلخ والحقيقة الجديرة بالتأمل أن قيم هذه الأرقام يبدو أنها قد تم تدقيقها بشكل متناهي حتي يمكن للحياة أن تنشأ وتتطور"(7) أ.هـ.
إذن مبدأ التدقيق المتناهي يرصد الثوابت الرياضية التي تتمحور حولها كل قوانين الفيزياء المعروفة إلي اليوم ويقرر أن هذه الثوابت "خضعت" لقدر متناهي من التدقيق بما جعلها كلها تسمح للحياة بالوجود والتطور وتسمح للكون بالاستمرار بهذا الإحكام المتناهي ، فأول ما يتبادر إلي الذهن من أسئلة تعليقاً علي هذا المبدأ هو : كيف "خضعت" هذه الثوابت الرياضية لهذا التدقيق ؟! أو : من الذي صاغ كل هذا العدد الضخم من الثوابت الرياضية بهذا الإحكام ؟!
إن الإجابة علي هذين السؤالين إنطلاقاً من الإيمان بعقيدة الخلق لا يمكن أن تكون سوي : الله ! فالمؤمنون بعقيدة الخلق يوقنون تماماً بأن من صفات الخالق جل وعلا كمال القدرة التي أحكم بها خلق الكون وصياغته بحيث يتبدي ذلك التدقيق المتناهي للقوانين الطبيعية التي يسير بها الكون معجزاً أمام الإنسان. لكن من المعروف أن الإطار الفلسفي للعلوم التجريبية الحديثة هو إطار إلحادي ينكر وجود الخالق وينكر بالتبعية حدوث عملية الخلق وينسب كل ما يحيط بالكون للصدفة الاتفاقية ، فكيف فسر علماء الفيزياء الغربيون "التدقيق المتناهي" انطلاقاً من الإطار الإلحادي لفلسفة العلوم التجريبية ؟ فيما يلي نستعرض أهم اتجاهين في الأوساط الفلسفية الغربية لتفسير مبدأ التدقيق المتناهي كما يشاهد في الكون.
1- التفسير الّلاأَدَري أو المبدأ الأنثروبي العام(8)
ظهر أول تفسير لمبدأ التدقيق المتناهي في أبحاث براندون كارتر أحد مكتشفي المبدأ نفسه ، وفي كتابات عالمي الفيزياء النظرية والرياضيات الشهيرين جون بارو وفرانك تبلر في ثمانينيات القرن العشرين ، وهو تفسير ذو طبيعة لاأدرية واضحة ، إذ أنه يعترف بأن الكون "قد تم تصميمه" بدقة متناهية بحيث يسمح بوجود الحياة إلا أنه في نفس الوقت ينص علي أن إدراك هذه الدقة المتناهية في تصميم الكون يتوقف علي وجود الحياة العاقلة -البشر- ومن ثم فهذا التفسير يضع المؤمنين به في الدوْر المميز للفكر اللاأدري. يمكن تلخيص المبدأ الأنثروبي العام في ثلاثة أطروحات أساسية(9)، نبسطها للقارئ كما يلي:
أ- الكون قد تم تصميمه بحيث يسمح بنشأة الحياة العاقلة(10) ولهذا فقد تم تدقيق قوانين الطبيعة بشكل متناهي لخدمة هذا الهدف.
ب- إن وجود الحياة العاقلة ضروري وحتمي حتي يمكن للكون أن يوجد وحتي يمكن للتدقيق المتناهي أن يصبح كما هو عليه.
ج- لكي يمكن قبول هذا التفسير المبني علي إقرار الأطروحة التصميمية للكون والاعتراف بصحته يجب أن تتوافر معلومات كافية من عينة عشوائية من الأكوان الأخري بحيث يمكن إثبات أن التدقيق المتناهي لا يتواجد إلا في هذا الكون.
يمكن القول بشئ من الاطمئنان أن التفسير اللاأدري لمبدأ التدقيق المتناهي هو التفسير الوحيد الذي قدمه علماء فيزياء ورياضيات ذوي مكانة علمية رصينة في مجالاتهم ، وهذا التفسير كما يتضح من تأمله يلقي المؤمنين به في إشكاليتين رئيسيتين : الإشكالية الأولي هي الدوْر المنعقد بين الأطروحتين الأولي والثانية الذي يمكن تلخيصه في جملة واحدة : "وجود الحياة العاقلة يعتمد علي وجود الكون بهذا التدقيق المتناهي ، ووجود الكون بهذا التدقيق المتناهي يعتمد علي وجود الحياة العاقلة." ، والإشكالية الثانية إشتراط وجود معلومات "كافية" من عينة عشوائية من الأكوان الأخري -المختلفة- للتأكد من أن التدقيق المتناهي لا يتواجد إلا في كوننا هذا وهو ما يعتبر مستحيل عملياً بالرغم أنه قد ساهم فيما بعد في فرضية الأكوان المتعددة (11).
2- التفسير الفلسفي وفرضية الاختيار الذاتي العام(12)
قدم بعض الفلاسفة المعاصرين تفسيراً مختلفاً لمبدأ التدقيق المتناهي بناءاً علي قواعد فلسفية بحتة ، فقد نفي الكثير من الفلاسفة وجود مشكلة تتعلق بتفسير التدقيق المتناهي من الأساس إذن أن ذلك التدقيق لم يظهر بعد تطور المعرفة البشرية إلي حد سمح بإدراك وجوده ، بينما الكون الذي يفترض به الخضوع لذلك التدقيق المتناهي أقدم بكثير جداً من عمر الإدراك البشري ومن ثم فإن المشكلة تصبح متعلقة بتفسير ذلك الإدراك البشري وليس بتفسير وجود التدقيق المتناهي في حد ذاته(13)، وهذا بالطبع لا يمكن اعتباره تفسيراً متكاملاً بقدر ما يمكن اعتباره "حيلة فلسفية" تقليدية تهدف إلي نفي وجود المشكلة أو نقلها إلي حقل آخر من حقول المعرفة بغض النظر عن وجود أي قرائن موضوعية تسمح بهذا أو ذلك.
أما فرضية الاختيار الذاتي العام فهي تتشابه إلي حد ما مع التفسير الفلسفي السابق من حيث اعتمادها علي نفي العلاقة بين الوجود الإنساني -الحياة العاقلة- والتدقيق المتناهي ، ولكنها تمتد لتصنع روابط تبدو علمية لظاهرة التدقيق المتناهي مع فرضيات فلسفية أخري مثل الأكوان المتعددة.
تنص فرضية الاختيار الذاتي العام علي تقسيم الكون إلي مجموعتين من الأحداث ، المجموعة الأولي هي الظواهر الطبيعية ، والمجموعة الثانية هي المراقبون العقلاء(14) -البشر في هذا الكون- الذين يستطيعون إدراك هذه الظواهر الطبيعية ، وتقوم العلاقة بين المجموعتين علي أساس الاحتمالات والصدفة ، فاحتمال وجود مجموعة من الظواهر الطبيعية التي ترتبط فيما بينها بمبدأ التدقيق المتناهي يساوي عدد من الاحتمالات لوجود مجموعات أخري من الظاهر التي ترتبط فيما بينها بعلاقات مشابهة ، كل منها في كون مختلف عن الكون الذي نعيش فيه ، واحتمال الإدراك العاقل لكل مجموعة من تلك الظواهر مساوي لمثيله في الأكوان الأخري ، وعلي هذا فإن الإدراك الإنساني لمبدأ التدقيق المتناهي ليست له أي أفضلية حقيقية تسوغ القول أن "الكون قد تم تصميمه بشكل متناهي الدقة للسماح للحياة العاقلة بالوجود".
تتطلب فرضية الاختيار الذاتي العام أمرين ضروريين لاعتبارها تفسيراً لمبدأ التدقيق المتناهي : الأمر الأول هو وجود دليل علي أن هناك أكوان أخري وإن كان لا يمكن للبشر إدراكها ، والأمر الثاني وجود دليل علي أن هناك حياة عاقلة أخري مختلفة عن الحياة الموجودة في هذا الكون(15) وإن كان لا يمكنها التواجد في كوننا هذا ، ويري فيلسوف العلوم جون ليزلي أن كلا الأمرين يدخلان في عداد المستحيلات(16) بينما يري براندون كارتر أحد مكتشفي مبدأ التدقيق المتناهي أنه ربما كان من الممكن وجود عدد لانهائي من الأكوان إلا أن الحياة العاقلة لا يمكنها أن توجد إلا في هذا الكون ومن ثم فإن اعتبار الاختيار الذاتي العام كتفسير للتدقيق المتناهي هو أمر شبه مستحيل.
3- تفسيرات فلسفية مختلفة
§ الكون الزائف
يري بعض فلاسفة مابعد الحداثة (مثل هانز مورافيتش) أن أنسب تفسير لظاهرة التدقيق المتناهي أن الحياة العاقلة والكون ماهما إلا برنامج حاسوبي متطور تم تصميمه وتشغيله بواسطة كيانات أكثر علماً وإدراكاً من البشر وبالتالي فإن الكون كما نعرفه ليس إلا كوناً زائفاً يعبر عنه بعدد هائل من المعادلات الرياضية المحكمة ، وهذا التفسير هو امتداد لمبدأ الشك الكلاسيكي في الفلسفة. هذا التفسير قد حاز اهتماماً كبيراً في السينما الأمريكية فأنتجت هوليوود الكثير من أفلام الخيال العلمي بناءاً عليه.
§ مبدأ الحياة الكونية
يفسر بعض العلماء مبدأ التدقيق المتناهي بوجود مبدأ أكثر عمقاً منه في الكون (مبدأ الحياة الكونية) يقضي بأن صيرورة الكون يجب أن تنتهي إلي نشأة الحياة وتطورها واستمرارها كما هو الحال في كوننا هذا ، وأن إدراك هذا المبدأ عسير - أو مستحيل- بالنسبة للإنسان.
§ الكون القائم بذاته(17)
ينص هذا التفسير علي أن الكون الذي يدعم نشأة وتطور وبقاء الحياة العاقلة فيه هو الكون الوحيد الذي يستطيع البقاء والاستمرار في الوجود ، بينما تنهار الأكوان الأخري التي لا تدعم نشأة الحياة العاقلة ، وبذلك فإن التساؤل عن مبدأ التدقيق المتناهي يصبح غير ذي جدوي(18).
يتضح لنا مما سبق أن الجهود الفلسفية الغربية لتقديم تفسير لمبدأ التدقيق المتناهي قد راعت باهتمام شديد البعد عن "أطروحة التصميم"(19) التي تؤدي إلي الاعتقاد بوجود خالق للكون ، ويتضح أيضاً أن هذه التفسيرات يمكن تقسيمها إلي مجموعتين رئيسيتين : المجموعة الأولي تشمل التفسيرات اللاأدرية مثل المبدأ الأنثروبي العام والكون الزائف وما إليهما وهي تفسيرات قد تعترف علي استحياء بأطروحة التصميم الذكي للكون لكنها تنتهي إلي دوْرٍ لاأدَرِي يمنع من ربطها بعقيدة الخلق كما تطرحها الأديان ، والمجموعة الثانية تشمل التفسيرات الإلحادية التي تشمل فرضية الاختيار الذاتي العام والكون القائم بذاته وما إليهما وهي تفسيرات تنكر أطروحة التصميم كلياً وتقدم بدائل مختلفة لها.
إن كل هذه التفسيرات لايمكن أن توضع داخل إطار فلسفة العلوم الطبيعية بأي درجة من درجات الاطمئنان ، فلا تنطبق علي أي منها معايير النظريات العلمية كالخطئية(20) أو السببية(21) أو قابلية التجريب(22) أو غير ذلك ، بل يمكن القول أن هذه التفسيرات انطلقت فقط من الروح الإلحادية السائدة في الغرب لتقدم تبريرات وأسباب كافية للإنسان الغربي للاستمرار في اعتناق عقيدة الإلحاد ، وتغلق عليه الطريق التفكير العلمي السليم في مبدأ التدقيق المتناهي والذي يقود بشكل مباشر إلي الإيمان بالله ، كما سنبين في مقالٍ قادم إن شاء الله.

-------------------
الهوامش

1. Fine Tuning
2. Paul Davies (2003) How bio-friendly is the universe?, International Journal of Astrobiology, vol. 2, no. 2: 115.
3. Victor J. Stenger (1996) Is The Universe Fine-Tuned For Us?, University of Colorado.
4. Newton’s constant (G) = 6.67384×10-11 m3/kg.s2
5. Duodecillion = 1039 ديوديسليون : 1 علي يمينه أربعين صفراً
6. Davies, Paul (1984) Superforce: The Search for a Grand Unified Theory of Nature. New York: Simon and Schuster
7. Stephen Hawking, (1988) A Brief History of Time, Bantam Books
8. Strong Anthropic Principle (SAP(
9. John D. Barrow, Frank J. Tipler (1986) The Anthropic Cosmological Principle, Oxford University Press, USA
10. Intelligent life
11. Multiverse hypothesis
12. Strong Self-Sampling Assumption
13. Juergen Schmidhuber (2000) Algorithmic Theories of Everything, Quantum Physics, eprint arXiv:quant-ph/0011122
14. Intelligent observers
15. Non-carbon based life
16. John Leslie (1986). "Probabilistic Phase Transitions and the Anthropic Principle". Origin and Early History of the Universe: Knudsen
17. Self-sustaining universe
18. Wheeler J. A. (1983), Law without law. In Quantum Theory and Measurement (ed. J.A. Wheeler and W.H. Zurek) Princeton University Press
19. Design argument
20. Falsifiability
21. Causality
22. Testability

إلى حب الله
09-02-2012, 02:42 PM
مقال أفضل ما فيه تعريته لحلول القوم لتجنب الاعتراف بالإله الخالق !
حيث تجدهم يتطرقون إلى كل تفسير (غيبي) : إلا التفسير بإله !!..
فسبحان الله العظيم !!!..
حتى الحقائق التي لا يخطئها اثنان عاقلان (مثل الدقة المتناهية في العلاقات الكونية) :
لا يستحيون من التملص منها !!..
والله المستعان ...