المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل تميز الإنسان بالعقل والاجتماعية ؟



د. محمود عبد الرازق الرضواني
03-30-2006, 05:23 AM
الحمد لله الكبير المتعال ، ذي القدرة والجلال ، والكمال والجمال ، والنعم والأفضال ، سبحانه هو العلى الكبير ، هو العليم القدير ، هو اللطيف الخبير ، تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ، أحمده حمد المعترف بالعجز والتقصير ، وأشكره على ما أولانا من نعم وفضل كبير ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة من يؤمن بأنه لا معين له ولا ظهير ، ولا وزير له ولا مشير ، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله ، البشير النذير ، والسراج المنير ، المبعوث إلي كافة الخلق من غني وفقير ، ومأمور وأمير ، صلي الله عليه وعلى آله الطاهرين ، وسائر أصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين :  يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلحْ لكُمْ أَعْمَالكُمْ وَيَغْفرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا  الأحزاب/71:70 ،  يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلمُون  (آل عمران/102) أما بعد ..

فحديثنا بإذن الله تعالى يدور حول بداية الكون ونشأة الإنسان ، وقد تكلمنا في المقال الماضي عن أعظم سؤال يتردد على الأذهان ، ما الذي يتميز به الإنسان عن الحيوان ، أو ما هي الميزة التي تجعل الإنسان منفردا عن غيره من الكائنات ؟ أو ما هي قيمة الإنسان بين سائر المخلوقات ؟ تلك القيمة التي جعلته أعلى منزلة من غيره ، يستفيد ممن حوله ولا يستفاد منه ؟ وبينا أن الناس في ذلك مختلفون ، فمنهم من قال تميز الإنسان عن سائر الكائنات بأنه حيوان ناطق يتكلم بأجود الكلمات وأبلغ العبارات ويحسن التعبير عما يجول في صدره من نوازع وخطرات ولا نسمع ذلك من بقية الكائنات ؟

وعلمنا أنه من بداهة العقل ألا نقبل القول بأن الإنسان تميز عن غيره بأنه حيوان ناطق ، لأن ذلك يخالف العقل الصريح ويعارض النقل الصحيح ، فالقرآن يثبت بلا لبث أو غموض أن الإنسان لا يتميز عن الحيوان في إمكانية النطق والبيان ؟ فالله تعالى يقول :  تُسَبِّحُ لهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَليمًا غَفُورًا  الإسراء/44 .

وقد علمنا كيف أبدعت النملة في خطابها ، ولماذا أدرك سليمان كلامها وتبسم ضاحكا من قولها ، وكيف أخبر الهدهد عن بلقيس وشركها ، وكيف تكلمت البقرة وأنكرت على راكبها ؟

وقد تساءلنا وقلنا : إذا لم يكن الإنسان متميزا عن غيره بالنطق والكلام ، فهل يتميز بأنه عاقل حكيم يحرص على نفعه ويدفع عن نفسه ما يضره ؟ وعلمنا أنه من جهة العقل نجد أن الإنسان لا ينفرد عن هذه المخلوقات بوصف العقل ، بل يمكن القول إنه عند القياس أقل من غيره نصيبا وأكثر معيبا ، وعرفنا المقصود بالعقل ؟ وأنه آلة غيبية مغروزة في الجانب الغيبي من قلب الإنسان لا نعرف كيفيتها ولكن نتعرف على وجودها ووجود أوصافها من خلال أفعال الإنسان في ظاهر البدن ، واليوم نستكمل الحديث في إثبات العقل لدي كثير من المخلوقات فهي أيضا لها آلة غيبية مجهولة الكيفية مغروزة فيها ، تميز بها بين ما ينفعها وما يضرها ، ولديها قدرات عجيبة في التمييز والإحساس ، لا فرق بينها وبين أغلب الناس ، فالنملة مثلا لو وضعتها في إناء ، فيه قطرة من ماء ، ونظرت إلي حركتها ، وتأملت طريقتها في الخلاص من الهلاك ، لرأيتها تدبر أمرها بطريقة لا تقل عن سائر العقلاء ، كيف تتمكن النملة في حساباتها من الابتعاد عن قطرة الماء ؟ ولماذا تبتعد عن الهلاك كالإنسان سواء بسواء ؟ كيف علمت أن الماء يغرقها ويهلكها ؟ .

هذه النملة الضعيفة لديها من الفطنة والحيلة في جمع قوتها وادخاره وحفظه ودفع الآفة عنه ما يعجز عن تدبيره عقل الإنسان ، فإنك تري في ذلك عبرا وآيات ، فتري جماعة النمل إذا أرادت تحصيل قوتها ، خرجت بأسرابها ورسمت لنفسها طريقين ، طريق للنمل الذي يحمل الطعام إلي مساكنها ، وطريق لعودة النمل إلي الحبوب في أماكنها ، يسيرون في طريقين باتجاهين مختلفين ، يراهما الإنسان خطين مرسومين ليس فيهما تجاوز أو اختلاط ، كأنه طريق مزدوج تسير فيه السيارات ، كثير من البشر اعتاد على قطع الإشارات وعكس الاتجاهات ، وتعمد ارتكاب المخالفات ، ولا تجد ذلك في أمة النمل ، ولو حدث حادث لنملة ولم تقو على حمل الحبة لثقلها عليها اجتمعت عليها جماعة من النمل وقمن بالواجب المطلوب ، كما يتعاون الإنسان مع أخيه الإنسان في حمل الشيء الثقيل .

يذكر ابن القيم أنه من عجيب ما ورد في عقل النمل وفطنته ، أنها إذا نقلت الحب إلي مساكنها كسرته لئلا ينبت ، فإن كانت الحبة فيها فلقتان ، كل فلقة تنبت بذاتها كسرته أربعا ، فإذا أصابه ندا أو بلل وخافت عليه الفساد ، أخرجته للشمس ثم ترده إلي بيوتها ، ولهذا تري في بعض الأحيان حبوبا كثيرة مكسورة على أبواب مساكن النمل ، ثم تعود عن قريب فلا تري شيئا من ذلك .
يروي ابن القيم عن بعض الصالحين أنه كان جالس على الأرض يتأمل سلوك النمل وقدرة الخالق في تكونه ، فشاهد منهن عجبا ، يقول : رأيت نملة جاءت إلي جرادة صغيرة فحاولت حمله فلم تستطع ، فذهبت غير بعيد ثم جاءت معها بجماعة من النمل ، يقول : فرفعت الجرادة من الأرض ، فلما وصلت النملة مع أخواتها إلي مكان الجرادة دارت حوله فلم تجده ، ودرن معها يبحثن عن الجرادة فلم يجدن شيئا ، فتركنها وانصرفن كأنهن اتهمنها بالكذب والعبث واللعب وتضيع الأوقات ، يقول : فوضعت الجرادة على الأرض ، فوجدته النملة فحاولت حمله فلم تستطع ، فذهبت غير بعيد ثم جاءت معها بجماعة من النمل ، قال : فرفعت الجرادة من الأرض ، فلما وصلت النملة مع أخواتها إلي مكان الجرادة دارت حوله فلم تجده ، ودرن معها يبحثن عن الجرادة فلم يجدن شيئا ، فتركنها وانصرفن يقول : فوضعت الجرادة على الأرض مرة أخرى ، فوجدته النملة فحاولت حمله فلم تستطع ، فذهبت غير بعيد ثم جاءت معها بجماعة من النمل ، فرفعت الجرادة من الأرض ، فلما وصلت النملة مع أخواتها إلي مكان الجرادة دارت حوله فلم تجده ، ودرن معها يبحثن عن الجرادة فلم يجدن شيئا ، فلما لم يجدن شيئا تحلقن حلقة ، وجعلن تلك النملة في وسطها ، ثم تحاملن عليها ، فقطعنها عضوا عضوا حتى ماتت وأنا انظر .

سبحان الله المخلوقات لديها وعي وعقل وإدراك وتمييز حتى النبات ، اسأل نفسك : ما الذي يجعل النبات يميل إلي ضوء الشمس دائما ؟ وكيف يقوم بحساب حساسية الضوء في مكانه وكيف أدرك ضرورته لإتمام عملية البناء الضوئي ؟ وكيف يحسب الطائر عوامل الاتزان في الهواء أثناء الطيران ؟ أليست لديه تكنولوجيا أرقي وأعلى من عقل الإنسان ؟ هل تري أنه درس في معاهد الطيران ؟ أم تري أنه يجهل قوانين الحركة لنيوتن ، ولا يعلم أن لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومضاد له في الاتجاه ؟

اسأل نفسك من هذا القبيل عن جميع الأشياء من حولك حتى تتأكد أن الإنسان ليس وحده العاقل ؟ بل يمكن القول إن الإنسان أقل من غيره عقلا ، وأردأ في حساباته العقلية ، ويمكن لحيوان صغير أن يخدع الرجل الكبير ، وروي من هذا القبيل الكثير والكثير في تاريخ الحيوان ، يذكر ابن القيم في ذكاء الثعلب أن رجلا كان معه دجاجتان ، فاختبأ الثعلب له ، وخطف إحداهما وفر ، ثم أعمل الثعلب فكره في أخذ الأخرى ، فظهر لصاحبها من بعيد ، وفي فمه شيء شبيه بالدجاجة ، وأطمع الرجل في استعادة الدجاجة ، بأن ترك ما في فمه وفر ، فظن الرجل أنها الدجاجة فأسرع نحوها وترك الأخرى وخالفه الثعلب في خفية فأخذها وذهب .
يقول ابن القيم : ( وكثير من العقلاء يتعلم من الحيوانات البهم أمورا تنفعه في معاشه وأخلاقه وصناعته وحربه وحزمه وصبره ، وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس قال تعالى :  أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَل هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا  .

ولا يمكن لمن يعلم أسس الحساب من أصحاب العقول ، أن يجعل محصول جمع الدرهمين أو الثلاثة درهما واحدا ، لكن العجب أنه مقبول عند كثير من المنتسبين إلي العقول ، فيشركون بالله ويجعلون الإله اثنين أو ثلاثة ، إن العقل السليم لا يقبل الشرك ولا يرضاه ، فمن المحال عند العقلاء أن يكون الخالق إلهين اثنين متعادلين في وصف القدرة ، لأنه إذا أراد أحدهما شيئا ولم يرده الآخر ، فلا بد عند التنازع من غالب وخاسر ، وسيعود الأمر إلي قوي قادر ، والآخر مربوب مقهور عاجز ، قال الله تعالى :  مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذًا لذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلقَ وَلعَلا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ  ، وقال أيضا :  أَمْ اتَّخَذُوا آلهَةً مِنْ الأرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ ، لوْ كَانَ فِيهِمَا آلهَةٌ إِلا اللهُ لفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ  .

وقد ذكر الله في القرآن رأي من خالف الإنسان ، وأنكر عليه اتخاذ الولد للرحمن ، وبين أن هذه المخلوقات يرفضن ذلك بشدة ، فقال سبحانه وتعالي :  وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلدًا ، لقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا ، أَنْ دَعَوْا للرَّحْمَنِ وَلدًا ، وَمَا يَنْبَغِي للرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلدًا ، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ، لقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدً ا  .

أليست هذه هي المخلوقان التي خيرها الله في حمل الأمانة فقال :  إِنا عَرَضْنَا الأمانَةَ على السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالجِبَال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا  .

روي ابن جرير الطبري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : ( إن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين ، وكادت أن تزول منه لعظمة الله وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين ) وفي رواية أخرى ( اقشعرت الجبال وما فيها من الأشجار ، والبحار وما فيها من الحيتان ، وفزعت السماوات والأرض والجبال وجميع المخلوقات إلا الثقلين وكادت أن تزول ) .

ويروي عن عبد الله بن مسعود  أنه قال : ( إن الجبل يقول للجبل : يا فلان هل مر بك اليوم ذاكر لله عز وجل ، فإن قال : نعم سر به ، ثم قرأ عبد الله ابن مسعود :  وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلدًا ، لقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا ، أَنْ دَعَوْا للرَّحْمَنِ وَلدً ا  قال : أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير ) ، ويروي أيضا عن أنس بن مالك  قال : ( ما من صباح ولا رواح إلا تنادي بقاع الأرض بعضها بعضا : يا جاره ، هل مر بك اليوم عبد فصلي لله أو ذكر الله عليك ؟ فمن قائلة : لا ، ومن قائلة : نعم ، فإذا قالت : نعم ، رأت لها بذلك فضلا عليها ) .

ومن المعلوم في الفطرة السليمة أن العاقل هو الحريص على جلب المنفعة وتحصيلها وحب الخيرات وتفضيلها ، ولا نجد عاقلا يفضل الخير الأدنى على الخير الأعلى ، والعاقل أيضا حريص على دفع المضرة وإبعادها ، كما أنه يتحمل ضرراً أدني ليحصِّل منفعة أعلى ، ويضحي بالقليل ليحصِّل الكثير ، ويحرص بفطرته على الباقي ويزهد بسليقته في الفاني ، فالمريض يتحمل مرارة الدواء من أجل إدراك الشفاء .

هذه أوصاف العقلاء النابعة من الفطرة السليمة ، ومن هنا كانت دعوة الإسلام دعوة عظيمة ، لأنها بنيت على إيثار ما عند الله وطلب الجنان ، والبعد عن كل ما يقرب من النيران ، فليس بعد نعيم الجنة من خير ، وليس بعد عذاب النار من شر ، روي مسلم من حديث أَنَسِ بْنِ مَالكٍ  ، قَال رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم : ( يُؤْتَي بِأَنْعَمِ أَهْل الدُّنْيَا مِنْ أَهْل النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَل رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ هَل مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لا وَاللهِ يَا رَبِّ وَيُؤْتَي بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْل الجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَة فِي الجَنَّةِ ، فَيُقَالُ لهُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَل رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ ؟ هَل مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ ؟ ، فَيَقُولُ : لا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ ) ، وقال تعالى :  بَل تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا ، وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَي إِنَّ هَذَا لفِي الصُّحُفِ الأُولي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي  .

والقرآن يخبرنا أن المعرض عن ربه يعترف بذنبه ويقر على نفسه بأن الله منحه غريزة العقل لكنه لم ينتفع بها ، وأنه لم يكن عاقلا حين فضل دنياه على أخراه ، وتجاهل العذاب الذي أعده الله للعصاة ، فقال تعالى :  إِذَا أُلقُوا فِيهَا سَمِعُوا لهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ، تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الغَيْظِ كُلمَا أُلقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلهُمْ خَزَنَتُهَا أَلمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلي قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلنَا مَا نَزَّل اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ ، وَقَالُوا لوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ، فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ  .

د. محمود عبد الرازق الرضواني
03-30-2006, 05:26 AM
وعلى ذلك نصل إلي أن الإنسان على العموم ، لم يتميز عمن حوله بالعقل والحكمة إذ يشتركون معه في ذلك على الأقل ، وإن كانت الحقائق تؤكد أن كثيرا من الكائنات أفضل منطقا وعقلا وأحكم قولاً وفعلا في موازين النفع والضرر ، فالإنسان إذا لا يتميز عن غيره بالكلام أو النطق أو الحكمة والعقل ، فهل ما يميز الإنسان عن غيره أنه اجتماعي ؟ لأن الاجتماعية هي صفة الإنسان عند علماء الاجتماع ، يقولون الإنسان يمكنه أن يقيم الأمم والحضارات ويضع المجالس والوزارات ، وله دستور ومؤسسات وبقية المخلوقات همجية عشوائية لا تتصف بصفة الاجتماعية ؟ !

إن الواقع يشهد بغير ذلك ، فأبحاث علم الحيوان تؤكد أنها أممية حضارية ، فالنحل مثلاً يقيم دولة متكاملة في كل خلية كاملة ، وله دستور ثابت ونظام محكم ، لا يحتال عليه أحد بالتزوير والتبديل كما هو شأن الإنسان الذي يبحث عن ثغرة في القوانين ليجد مخرجا لأطماعه وطغيانه وجرمه وعصيانه ، والقانون عاجز عن ضبطه وردعه ، ووقفه ومنعه ، هذا شأن البشر مع البشر ، ولا نجد ذلك في الكائنات الأخرى قال تعالى :  وَأَوْحَي رَبُّكَ إلي النَّحْل أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الجِبَال بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ، ثُمَّ كُلي مِنْ كُل الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُل رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلفٌ أَلوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ للنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلكَ لآيَةً لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ  النحل/69:68.

فالنحل مثلا لديه من الاجتماعية ما لا يوجد لدي الإنسان ، إذا كان وقت رجوع النحل إلي الخلية وقف على باب الخلية بواب منها ، ومعه أعوان فكل نحلة تريد الدخول يشمها البواب ويتفقدها ، فإن وجد منها رائحة منكرة ، أو رأي بها تلطخ بوساخة منعها من الدخول ، وعزلها في ناحية بعيدة إلي أن يدخل الجميع ، فيرجع إلي المعزولات الممنوعات من الدخول ، فيتفقدهن ويكشف أحوالهن مرة ثانيه ، فمن وجده قد وقع في شيء منتن أو نجس عاقبه عقابا شديدا ومن كانت جنايته خفيفة تركه خارج الخلية ، هذا دأب البواب كل عشية .

وملكة النحل لا تكثر الخروج من الخلية إلا نادرا ، فإذا اشتهت التنزه خرجت ومعها أمراء النحل والخدم ، فتطوف في المروج والرياض والبساتين ساعة من النهار ثم تعود إلي مكانها ، ومن عجيب أمرها أنها ربما لحقها أذي من النحل أو من صاحب الخلية ، فتغضب الملكة وتخرج من الخلية وتبتعد عنها ، فيتبعها جميع النحل يسترضينها وتبقي الخلية خالية ، فإذا رأي صاحبها خرابها ، وخاف أن الملكة ستأخذ النحل وتذهب به إلي مكان آخر ، احتال لاسترجاعها وإرضائها ، فيتعرف على موضعها الذي صار إليه النحل ، ويعرفها باجتماع النحل عليها ، فإنه لا يفارقها بل يجتمع عليها حتى يصير النحل عليها كالعنقود أو الكرة ، والملكة إذا خرجت غضبانة وقفت على مكان مرتفع من الشجرة ، وطاف بها النحل وانضمت إليها حتى يصير النحل فوقها كالكرة ، فيأخذ صاحب النحل رمحا أو عودا طويلا ويربط على رأسه حزمة من النبات الطيب الرائحة أو يعطر النبات بعطر نظيف ، ويدنيه إلي محل الملكة إلي أن ترضي ، فإذا رضيت وزال غضبها ، نزلت الملكة على العود أو الرمح أو النبات الطيب الرائحة ، وتبعه الخدم وسائر النحل ، فيحمله صاحبه إلي الخلية ، سبحان الله ، الذي خلق فسوي والذي قدر فهدي ، صنع الذي أتقن كل شيء .

ومن عجائب القدرة في هذه المخلوقات ، أن الله جعل بعض الدواب كسوبا محتالا ، وبعضها متوكلا غير محتال ، وبعض الحشرات يدخر لنفسه قوت سنته ، وبعضها يتكل على الثقة بأن له في كل يوم قدر كفايته ، رزقا مضمونا وأمر مقطوعا ، وبعضها يدخر ، وبعضها لا تكسب له ، وبعض الذكورة يعول ولده ، وبعضها لا يعرف ولده البتة ، وبعض الإناث تكفل ولدها لا تفارقه ، وبعضها تضع ولدها وتكفل ولد غيرها ، وبعضها لا تعرف ولدها إذا استغني عنها ، وبعضها لا تزال تعرفه وتعطف عليه ، وجعل الله يتم بعض الحيوانات من قبل أمهاتها ، وبعضها يتمها من قل آبائها ، وبعضها لا يلتمس الولد ، وبعضها يستفرغ الهم في طلبه وبعضها يعرف الإحسان ويشكر ، وبعضها ليس ذلك عنده شيئا ، وبعضها يؤثر غيره على نفسه .

وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمة من جنسه ، لم يدع أحدا يدنو منه ، وبعضها يحب الجماع ويكثر منه ، وبعضها لا يفعله في السنة مرة ، وبعضها يقتصر على أنثاه ، وبعضها يفعل بأي أنثي ولو كانت أمه أو أخته ، وبعضها لا تمكن غير زوجها من نفسها ، وبعضها لا ترد يد لامس ، وبعضها يألف بني آدم ويأنس بهم ، وبعضها يستوحش منهم وينفر غاية النفار ، وبعضها لا يأكل إلا الطيب ، وبعضها لا يأكل إلا الخبائث ، وبعضها يجمع بين الأمرين ، وبعضها لا يؤذي إلا من بالغ في أذاها ، وبعضها يؤذي من لا يؤذيها ، وبعضها حقود لا ينسي الإساءة ، وبعضها لا يذكرها البتة ، وبعضها لا يغضب ، وبعضها يشتد غضبه فلا يزال يُسْترضي حتى يرضي ، وبعضها عنده علم ومعرفة بأمور دقيقة لا يهتدي إليها أكثر الناس ، وبعضها لا معرفة له بشيء من ذلك البتة ، وبعضها يستقبح القبيح وينفر منه ، وبعضها الحَسَنُ والقبيح سواء عنده .

وبعضها يقبل التعليم بسرعة وبعضها لا يقبله إلا بصعوبة ، وبعضها لا يقبل ذلك بحال ، وهذا كله من أدلة الدلائل على الخالق لها سبحانه وعلى إتقان صنعه وعجيب تدبيره ولطيف حكمته ، فإن فيما أودعه في هذه المخلوقات من غرائب المعارف ، وغوامض الحيل ، وحسن التدبير والتأني لما تريده ما يستنطق الأفواه بالتسبيح ، ويملأ القلوب من معرفته ومعرفة حكمته وقدرته ، وما يعلم به كل عاقل أنه لم يخلق الخلق عبثا ، ولم يتركه سدي ، وإن له سبحانه في كل مخلوق حكمة باهرة ، وآية ظاهرة ، وبرهانا قاطعا يدل على أنه رب كل شيء ومليكه ، وأنه المنفرد بكل كمال دون خلقه وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم . انظر بتصرف ، شفاء العليل لابن قيم الجوزية .

إن المخلوقات لهن قانون حازم ، ينفذن أمره بشكل صارم ، لا مكان للمخالف منهن بينهن ، وربما مصيره عندهن الموت ، نري ذلك باديا واضحا وظاهرا جليا في مجتمعات النمل والحيتان والطير والحيوان ، وفي كثير من الأحيان يتشابه سلوكهن مع الإنسان ، وهذا ما يذكره القرآن في كل وضوح وبيان ، فقال تعالى :  وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلأ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلأ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلي رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ  الأنعام/38 .

وقد أورد البخاري في صحيحة عن أمة القرود ، قصة توافق المعهود في إقامة الحدود ، فهم وإن كانوا غير مكلفين بشرعنا إلا أنهم يستقبحون الزنا مثلنا ، فعن عمرو بن ميمون الأودي قال : ( رَأَيْتُ فِي الجَاهِليَّةِ قِرْدَةً اجْتَمَعَ عَليْهَا قِرَدَةٌ قَدْ زَنَتْ فَرَجَمُوهَا فَرَجَمْتُهَا مَعَهُمْ ) ، و عمرو بن ميمون الأودي ، تابعي ثقة كوفي مخضرم أدرك الجاهلية وأسلم في حياة النبي صلي الله عليه وسلم لكنه لم يره ، كان أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم يرضون به ، سمع معاذ بن جبل باليمن وبالشام ، وعبد الله ابن مسعود وعمربن الخطاب رضي الله تعالى عنهم ، قال له رجل وهو في مسجد الكوفة حدثنا بأعجب شيء رأيته في الجاهلية ؟ قال : كنت في حرث لأهل اليمن فرأيت قرودا كثيرة قد اجتمعن ، وفي رواية أخرى :
( قال رأيت الرجم في غير بني آدم ، إن أهلي أرسلوني في نخل لهم أحفظها ، فيها كثير من القرود ، فبينما أنا في البستان إذ جاءت القرود فصعدت نخلة أختبئ منهم ، فرأيت قردا وقردة اضطجعا ثم أدخلت القردة يدها تحت عنق القرد واعتنقتها وناما ، فجاء قرد فغمزها من تحت رأسها ، فاستلت يدها من تحت رأس القرد ، ثم انطلقت معه غير بعيد فنكحها وعاشرها أنا أنظر ، ثم رجعت إلي مضجعها وأدخلت يدها تحت عنق القرد كما كانت ، فانتبه القرد فقام إليها فشم دبرها ، فصاح صيحة قوية ، فاجتمعت القردة على الفور ، فقام واحد منهم كهيئة الخطيب ، فجعل يسير إليها ويشير عليها ، فوجههم في طلب القرد الذي وقع في الجريمة ، فانطلقت القردة وتفرقت حتى جاءت بذلك القرد بعينه أعرفه ، فانطلقوا بها وبالقرد إلي موضع كثير الرمل ، فحفروا لهما حفيرة فجعلهوهما فيها ، ثم رجموهما حتى قتلوهما ، والله لقد رأيت الرجم قبل أن يبعث الله محمدا صلي الله عليه وسلم ، وهذه الرواية موجودة باختصار في فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني وبالتفصيل والإجمال في تهذيب الكمال ، فكيف ينفرد الإنسان بعد ذلك بأنه اجتماعي ؟!

علمنا أن الإنسان لا يتميز عن غيره من المخلوقات بالنطق والكلام فجميع الكائنات تتكلم بهيئات وكيفيات تخصها ، ولا يتميز أيضا بالعقل والحكمة فكل المخلوقات حريصة على تحصيل الخيرات والابتعاد عن المهلكات كما أنها تعيش في مجموعات متوافقات متفاهمات وهذا يعني أنه لا ينفرد بصفة الاجتماعية ، والسؤال الآن : هل يتميز الإنسان بأنه عابد ؟ والجواب : أنه لا ينفرد عن غيره بالعبادة ، وقبل إقامة البرهان على ذلك ، لا بد من معرفة معني العبادة ، فالعبادة هي الخضوع التام المقترن بالإرادة وتعظيم المحبوب ، فإن كان الخضوع والطاعة بغير إرادة فلا تسمي عبادة .

قال ابن القيم في مدارج السالكين : ( العبادة تجمع أصلين ، غاية الحب بغاية الذل والخضوع ، والعرب تقول : طريق معبد أي مذلل والتعبد التذلل والخضوع ، فمن أحببته ولم تكن خاضعا له لم تكن عابدا له ، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدا له حتى تكون محبا خاضعا ) وقال في الجواب الكافي : ( الإله هو الذي تألهه القلوب بالمحبة والإجلال والتعظيم والذل والخضوع وتعبده ، والعبادة لا تصح إلا له وحده ، والعبادة هي كمال الحب مع كمال الخضوع والذل ) .

ولا شك أننا نري في سائر المخلوقات كمال الخضوع والانضباط ، كما نري دقتها في تنفيذ التوجيهات التي حددها الله لها ، ولا يمكن أن تكون المخلوقات على هذه الكفاءة في حياتها بغير محبتها وإرادتها ، فإنها تقوم بواجبها بصورة تفوق إخلاص الإنسان ، ومعلوم أن المكره على الشيء لا يفعله بإتقان .

وإذا كان السجود للمعبود يجعل العابد في أعلى درجات المحبين المقربين ، كما ثبت عند مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ  عن سيد المرسلين صلي الله عليه وسلم أنه قَال : ( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ منْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجدٌ ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ ) ، إذا كان السجود للمعبود هو أعلى أنواع العبادات ، فإن السجود أيضا كائن في بقية المخلوقات ، إذ نصت الآيات في حقها على لفظ السجود الذي يدل على كمال طاعتها وامتثالها لتوجيه خالقها ، وانضباطها في تنفيذ منهجها ، وإن كنا لا نعلم كيفية أدائها لذلك ، بل إن المقارنة بين الإنسان وغيره من المخلوقات في السجود وأداء الطاعات ، تُظهر تفوقها عليه في هذه الصفات ، فقال تعالى :  أَلمْ تَرَي أَنَّ اللهَ يسْجُدُ لهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ منْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَليْهِ العَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللهُ فَمَا لهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء  الحج/18 ، فالله عبر عن سجودهن جميعا بالعموم ، فكلهن ساجدات بلا استثناء ولا تتخلف واحدة منهن عن السجود ، ولما عبر عن سجود الإنسان عبر بالخصوص فالبعض يسجد لله ، والبعض لا يسجد مطلقا ، كما أشار إلي ذلك قوله :  وَإِذَا قِيل لهُمْ اسْجُدُوا للرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ، تَبَارَكَ الذِي جَعَل فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَل فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا  .
يقول البغوي : ( ومذهب أهل السنة أن لله علما في الجمادات وسائر الحيوانات سوي العقلاء لا يقف عليه غيره ، ولها صلاة وتسبيح وخشية ، فيجب على المرء الإيمان به ويكل علمه إلي الله تعالى ) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته قنوت الأشياء كلها لله تعالى ضمن جامع الرسائل : ( وأما تفسير سجودها وتسبيحها بنفوذ مشيئة الرب وقدرته فيهما ودلالتها على الصانع فقط ، فالاقتصار على هذا باطل ، فإن هذا وصف لازم دائم لها لا يكون في وقت دون وقت ، وهو مثل كونها مخلوقة محتاجة فقيرة إلي الله تعالى ) .

وقال الشوكاني في فتح القدير عن سجود المخلوقات وتسبيحها لله : ( التسبيح على حقيقته والعموم على ظاهره ، والمراد أن كل المخلوقات تسبح لله سبحانه ، هذا التسبيح الذي معناه التنزيه ، وإن كان البشر لا يسمعون ذلك ولا يفهمونه ، فإنه لو كان المراد تسبيح الدلالة لكان أمرا مفهوما لكل أحد .. ومدافعه عموم هذه الآية بمجرد الاستبعادات ليس دأب من يؤمن بالله سبحانه ويؤمن بما جاء من عنده ) .

كما أخبرنا الله تعالى عن الهدهد أنه أنكر على قوم سبأ في عصر سليمان ، أنهم أشركوا بالله واتبعوا الشيطان ، ولو أراد الإنسان أن يعبر عن العصيان الذي وقع فيه هؤلاء الناس ، ما استطاع أن يبدي نفس الإحساس الذي أبداه هذا الهدهد الموحد ، قال تعالى :  فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَال أَحَطتُ بِمَا لمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ، إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُل شَيْءٍ وَلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ، وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيل فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ، أَلا يَسْجُدُوا للهِ الذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلنُونَ اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ  .

روي البخاري من حديث أبي هُرَيْرَةَ  أن رَسُول الله صلي الله عليه وسلم قَال : قَرَصَتْ نَمْلةٌ نَبِيًّا مِنَ الأنْبِياءِ ، فَأَمرَ بِقَرْيَةِ النَّمل فَأُحْرِقَتْ فَأَوْحي الله إِليْهِ أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلةٌ أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تُسَبِّحُ ) فالحيوان يسبح الله تعالى حقيقة لا مجاز ، وعند البخاري من حديث عبد الله بن مسعود  أنه قال : ( كُنَّا نَعُدُّ الآيَاتِ بَرَكَةً وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا ، كُنَّا مَعَ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَقَل المَاءُ ، فَقَال : اطْلُبُوا فَضْلةً مِنْ مَاءٍ ، فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَليلٌ ، فَأَدْخَل يَدَهُ فِي الإِنَاءِ ثُمَّ قَال : حَيَّ على الطَّهُورِ المُبَارَكِ ، وَالبَرَكَةُ مِنَ اللهِ ، فَلقَدْ رَأَيْتُ المَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم ، وَلقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ ) .

صحيح أنه ورد في القرآن أن الله خلق الإنسان للعبادة فقال :  وَمَا خَلقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا ليَعْبُدُونِ  ، لكن العبادة ليست وصفه الذي يميزه عن غيره ، لأن الخضوع للمعبود ومحبته وتعظيمه عام في جميع المخلوقات ، هذا فضلا عن التصريح في شأنها بأنها عابدات مسبحات ، كما جاء في قوله تعالى :  تُسَبِّحُ لهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَليمًا غَفُورًا  وقوله :  أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَليمٌ بِمَا يَفْعَلُون  ، وآيات أخرى كثيرة ترد على من قال بأن المراد من سجودها وتسبيحها كونها مخلوقة دالة على الخالق ، وأن المراد شهادتها بلسان الحال ، فإن هذا عام لجميع الناس .

فالإنسان ليس وحده العابد الساجد فالمخلوقات أيضا عابدات ساجدات وإن كنا لا ندري كيف يتم ذلك ؟ إذ نصت الآيات في حقها على لفظ السجود الذي يدل على كمال طاعتها وامتثالها لتوجيه خالقها ، وانضباطها في تنفيذ منهجها ، كما قال قال تعالى :  أَلمْ تَرَي أَنَّ اللهَ يسْجُدُ لهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ منْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَليْهِ العَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللهُ فَمَا لهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء  الحج/18 ، ونكتفي بهذا القدر.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .