الفارس مفروس
03-31-2006, 04:41 AM
عم صالح.. "مواطنٌ" يستهلك قدراً ضئيلاً من حجم الأكسجين المتبقى على كوكب الأرض..
كفيفٌ.. مصابٌ بشلل نصفى.. بعد زيارة مفاجئة لجلطة عابرة
مُثـقلٌ بنصفِ بدنٍ ميتٍ ، يجرُه نصفٌ واهن..!
يمشى زاحفاً.. أو يزحف ماشياً ، الفرق برأيى أكبر من أن يلاحظه الأغبياء !
وعلى الرغم من كل ماسبق..
لم يمنعه عجزه من إحتلال الكرسى الخاص به فى الصف الأول.. فى كل صلاة
ليجلس على كرسيه.. ويصلى فى إستغراق وخضوع !
هذا المواطن.. يشكل معضلة نفسية جديرة باليأس.. لكائن بشرى مثلى
فهو مرآة حقيقية.. أرى فيها عجزى الحقيقى عن أن أكون عاجزاً مزيفاً مثله
عزيمتُه فككت كلَ محاولات الفشل التى تمتلأُ بها نفسى.. وأحيت أملاً باهتاً فى ثناياها
لأطمع بعدها فى تلخيص مباشر لحياتى العبثية.. بالبونط العرض
أن أملك الجرأة.. والشجاعة.. والتوفيق.. لأقول "لا إله إلا الله" حين أحتضر !
ولو بشئ من التمنى الخالى من أى عمل.. أو مجرد خيال يداعب ذاك الكسيح بداخلى
فلم أعد أملك إلا التدريب اليومى على هذه الشهادة.. عسانى أذكر نطقها ساعة خلاصى من الدنيا
أردت دوماً أن أسأله : هل ستقولها يا عم صالح عند موتك ؟.. مع أن جلطتك الطائشة قد شلت لسانك ؟
صلاة العصر تشكل معاناة حقيقية بالنسبة لى.. تختلف عن معاناتى فى صلاة الفجر
ليس لوجود هذا الجمع الغفير من إخواننا البنغال بين الصفوف..
الذين يحافظون على فضيلة التجشأ بعد الركوع.. كمنزلة لا ينالها إلا المفلسون..
فيتحول بها المصلون إلى ضفادع بشرية ذات نقيق مميز !
بل معاناتى تكمن -فقط- فى عم صالح.. الذى يتحدانى بحرصه على الإستعداد للموت
فيجلس بعد الصلاة يذكر الله إلى الغروب.. فى خشوع وصمت !
وأرحل أنا فى هدوء .. وخلسة المجرمين ، عائداً إلى قبرى الكائن فى الدور الرابع !
مررت بالمواطن سعيد على القهوة.. منهمكاً كعادته فى قرص الزهر
لا يترك زهر الطاولة من يده إلا عند دخول الخلاء... أرجو ذلك !
الرجل يحرق أيامه فى قرع الطاولة.. بلا ملل
حدود حركته الإنسانية تنتهى عند باب المسجد ، وبالداخل.. عالم آخر لا يعرفه !
وعلى الرغم من أنه أول المسارعين لحمل النعوش المارة إلى مقبرة المدينة
إلا أنه لم ير نفسه محمولاً على الأعناق .. ذات فكرة أو عبرة !
وربما علم أنه مفارق أحبابه على قهوة النصابين ذات "مسكة خشب" من منافس لا يعرف الرحمة
لكنه فضل أن ينتظر ملك الموت والزهر بيده .. لا يفارقه
لم يعلم المسكين أن القبر.. لا طاولة فيه !
وإحتراف الزهر ليس من متطلبات الحصول على سكن دائم فى القبور..
بل إحتراف التسبيح !
فاطمة.. تلك الفتاة الشقية .. بسنوات عمرها الثلاث..
تواظب على البصق فى وجههى كل صباح حين أداعبها
تملك لساناً يفوق عمرها طولاً.. إلا أنها مرحة بريئة..
لم تُدنس بعد بآثامٍ كثيرة .. تنتظرها على قارعة الطريق !
كم تمنيت أن أظل هكذا.. لا لى وعلىّ..
ليتهم لم يكتبوا شهادة ألزمتنى بالإجابة عن سؤال.. لا أملك له جواباً !
موعدنا صلاة العصر..
بعد مواجهات طاحنة مع نفسى الكسيحة.. أفضت بنا إلى هدنة محلها عند يدى عم صالح
سارعت إلى المسجد .. أبحث عنه.. فقد واتتنى الجرأة أخيراً لأسأله :
كيف تتدرب على نطق الشهادة عند موتك.. يا عم صالح !؟
لم يكن على كرسيه فى الصف الأول..
سألتُ عنه بلهفة..
أشاروا إليه فى آخر المسجد.. نظرت بسرعة
فرأيته هناك
ينام وحيداً..
ملفوفاً بالبياض ..
كعادته.. .. ينتظر الصلاة !
فى أثناء الصلاة .. لم يغب عن بالى سؤالى الحائر
والذى سيُـقبر مع الإجابة عليه بعد دقائق قليلة..
ليته يجيب..
هل نطقت الشهادة يا عم صالح ؟!.. هل أسعفتك الذاكرة !؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. ومن خلقه المهابيل !
لم يذهب عنى الوسواس بالرغم من أنى تَفلتُ خمساً وسبعين مرة على المواطن النائم على يسارى فى الصف
كم تمنيت فى تلك اللحظة أن يكون الذى إخترع "الجوال" قد وُلد سَـقْطاً متعفناً
آه من هذا الصوت ..
إنه ذاك الجوال الذى لم يكف عن التراقص أثناء الصلاة لعام كامل
وكأن صاحبه قد وقع عقداً مع إبليس لينوب عنه فى تشويش المصلين.. التائهين أصلاً !
لم تتوقف أنغام "الواحده ونص" عن التراقص من جيب هذا المأفون ..
رغم محاولاته المستمرة لإغلاقه أثناء الصلاة.. تارة بيده وتارة بإلقائه على الأرض
لكن يبدو أن المتصل قد أقسم أن يفسد صلاتنا جميعاً.. فلم يردعه غلق الخط فى وجهه عشرات المرات
ولم يكف عن معاودة الإتصال فى تحدٍ وثبات
أخيراً.. يرد المواطن (المصلى) بعصبية على الجوال : شنو .. أنا فى الصلاة الحين.. يلا باى !!
نظرت مجدداً إلى عم صالح المسجى على الأرض.. ولم أملك له حتى الدعاء
فقد كنت آثماً حتى الفسوق ..
خرجت جموع الناس تودع عم صالح..
ثم دخلوا تارة أخرى مسرعين.. ليصلوا على صريع قهوة النصابين
يحمل مقدمتَه المواطن "أخى"... ومؤخرتَه صديقُه القهوجى
بادرنى أخى منتحباً : لم يتحمل فقدان الحساسية لقرصة الزهر..
فعاجلته سكتة قلبية.. توقفت على إثرها يده عن قرع الطاولة بعنف
الله يرحمه كان طول عمره غشاش محترف !
- (سألته فى هلع وخوف) : هل نطق الشهادة حال إحتضاره ؟
- أظنه قال : لا إله........ ثم مات !
تركتهم يصلون عليه وحاولت أن أهرب من هذا الحصار
لم يُرد المواطن "سعيد" أى نهاية إلا تلك.. فحبس نفسه فى خانة اليَـك بغباء شديد !
هرولت ناحية البيت .. فلم أجد أحداً
الشارع خال من الناس والهواء النظيف..
الكل ملوث فيما يبدو
قابلت المواطن "سيد" يبحث فى الأرض عند مدخل العمارة
--- أين الجميع يا مواطن "سيد".. ؟!
--- مسكين..!! لم تدر بالذى حدث ، سيارة مسرعة أطاحت بفاطمة لعشرات الأمتار..
وأراد قائد السيارة الفرار فقادها مسرعاً للأمام.. فدهس المسكينة على الأرض.. وحولها لأشلاء
وبعد أن حاصره الناس.. لم يجد إلا الرجوع للخلف بسرعة.. فمسح ما بقى من فاطمة بسواد الأسفلت
وتطوع المواطنون لجمع خلاياها من الشارع.. كى تقر فى قبرها
--- وما الذى حدث لقائد السيارة.. ؟!
--- جرح قطعى أعلى الحاجب الأيسر.. هذا ما أثبته تقرير الشرطة
--- أسألك ماذا فعلوا به.. :e: ؟!!
--- أفرجوا عنه بضمان محل إقامة والده.. حاكم البلاد !
تركته يبحث.. ويهذى بكل مفردات الجنون
ودخلت باب العمارة.. ثم إلتفتُ إليه بعفوية
--- يا مواطن سيد.. يا أخ سيد
--- خير يا أستاذ ؟!
--- أعتقد أن هذه قدم فاطمة .. وجدتها هنا على السلم.. مازال حذاؤها الصغير سليماً
--- الله يجزيك الخير يا أستاذ.. ستفرح أمها كثيراً لأنك وجدت قدمها !
دخلتُ حجرتى.. وأحكمت ظلامها..
مازلت أرى هذا الخفاش يطير بين أضلعى وكأنه كهف أبوه ..
الخوف يسيطر على عقلى.. ويعصر قلبى
أخاف أن أموت.. فأفقد إختيارى الذى لم أحسنه يوماً
يقطع غشاء الصمت صوت مألوف.. آه.. إنه التليفون : يا لسعادتى.. فهذا يعنى أنى لم أمت بعد !
--- آلو
--- أين أنت ؟!
--- فضلتُ الإنصهار خلف حدود القبر الذى أحيا فيه
--- الإنصهار :confused: ؟!!
--- قصدى.. أخاف أن أموت
--- وأنا أيضاً.. أخاف أن تموت
--- يا معلم قرنى لا تخف.. سأدفع لك الدَين كاملاً قبل الجنازة
--- لمؤاخذة يا أستاذ.. أنت عارف أنك مقطوع من شجرة.. ولا يوجد من يسد عنك الديــ.....
(كليك)
تركته يثرثر فى عالم آخر.. وألقيت بنفسى فى فراغ أبيض بحجم سذاجتى
صلاة العصر اليوم باتت أقرب إلى التصالح مع الرؤية السياسية للمجتمع.. بعد رحيل عم صالح !
اليوم.. إمتلأ المسجد عن آخره.. بالإخوة المصلين.. والإخوة المسيحيين
وصليب كبير قد نُصب تحت المنبر.. وقف تحته فضيلة الإمام ومعالى "الأب" المقدس
يتبادلان العناق.. والسرور.. وعبارات النفاق الوطنى
وفجأة..
صرخ فيهم المصور : أريد عناقاً حاراً.. وقبلة مبللة.. تقطر لعاباً على اللحيتين المسلمة والمسيحية !
كانت المناسبة : الصلاة على قتلى الشباب المسيحى فى مظاهرة ضد إعتناق بعض المسيحيين للإسلام !
ولأنى عديم الوطن.. مقطوع النسب والهوية .. أقنعت نفسى أنى بحاجة لأن أفهم الحقيقة
ثم فهمت..
وعلمت أن هذه الصلاة أصبحت "ضرورة وطنية"
وخطوة هامة لإحياء مفهوم المواطنة.. بين قطعان البشر التى تأكل من برسيم واحد
ومن أحيا مفهوم البرسيم فكأنما أحيا المواطنين جميعاً.. !
حاولت الإنصراف قبل صلاة الجنازة.. لأنى جاهل.. لا أعلم كيفية الصلاة على المواطنين النصارى
إلا أن محاولتى قوبلت بالرفض الأمنى المدجج بكل الخبائث ..
وبعد أن عذرنى سيادة المخبر بجهلى.. وذكرنى بقـلة صبرى على الخوازيق .
شعرت أنه قد أقام علىّ الحجة.. دون الحاجة للخوض فى التفاصيل !!
فقد أوضح لى -مشكوراً- أنه لا فرق بين الصلاة على المسلمين.. والمسيحيين ، طالما أنهم مواطنين !
فدخلت..
وصليت..
ودعوت بالرحمة لعم صالح..
وباركت للأخ كورولوس بعودة الوطن !!
مفروس.. ذات إحتضار
كفيفٌ.. مصابٌ بشلل نصفى.. بعد زيارة مفاجئة لجلطة عابرة
مُثـقلٌ بنصفِ بدنٍ ميتٍ ، يجرُه نصفٌ واهن..!
يمشى زاحفاً.. أو يزحف ماشياً ، الفرق برأيى أكبر من أن يلاحظه الأغبياء !
وعلى الرغم من كل ماسبق..
لم يمنعه عجزه من إحتلال الكرسى الخاص به فى الصف الأول.. فى كل صلاة
ليجلس على كرسيه.. ويصلى فى إستغراق وخضوع !
هذا المواطن.. يشكل معضلة نفسية جديرة باليأس.. لكائن بشرى مثلى
فهو مرآة حقيقية.. أرى فيها عجزى الحقيقى عن أن أكون عاجزاً مزيفاً مثله
عزيمتُه فككت كلَ محاولات الفشل التى تمتلأُ بها نفسى.. وأحيت أملاً باهتاً فى ثناياها
لأطمع بعدها فى تلخيص مباشر لحياتى العبثية.. بالبونط العرض
أن أملك الجرأة.. والشجاعة.. والتوفيق.. لأقول "لا إله إلا الله" حين أحتضر !
ولو بشئ من التمنى الخالى من أى عمل.. أو مجرد خيال يداعب ذاك الكسيح بداخلى
فلم أعد أملك إلا التدريب اليومى على هذه الشهادة.. عسانى أذكر نطقها ساعة خلاصى من الدنيا
أردت دوماً أن أسأله : هل ستقولها يا عم صالح عند موتك ؟.. مع أن جلطتك الطائشة قد شلت لسانك ؟
صلاة العصر تشكل معاناة حقيقية بالنسبة لى.. تختلف عن معاناتى فى صلاة الفجر
ليس لوجود هذا الجمع الغفير من إخواننا البنغال بين الصفوف..
الذين يحافظون على فضيلة التجشأ بعد الركوع.. كمنزلة لا ينالها إلا المفلسون..
فيتحول بها المصلون إلى ضفادع بشرية ذات نقيق مميز !
بل معاناتى تكمن -فقط- فى عم صالح.. الذى يتحدانى بحرصه على الإستعداد للموت
فيجلس بعد الصلاة يذكر الله إلى الغروب.. فى خشوع وصمت !
وأرحل أنا فى هدوء .. وخلسة المجرمين ، عائداً إلى قبرى الكائن فى الدور الرابع !
مررت بالمواطن سعيد على القهوة.. منهمكاً كعادته فى قرص الزهر
لا يترك زهر الطاولة من يده إلا عند دخول الخلاء... أرجو ذلك !
الرجل يحرق أيامه فى قرع الطاولة.. بلا ملل
حدود حركته الإنسانية تنتهى عند باب المسجد ، وبالداخل.. عالم آخر لا يعرفه !
وعلى الرغم من أنه أول المسارعين لحمل النعوش المارة إلى مقبرة المدينة
إلا أنه لم ير نفسه محمولاً على الأعناق .. ذات فكرة أو عبرة !
وربما علم أنه مفارق أحبابه على قهوة النصابين ذات "مسكة خشب" من منافس لا يعرف الرحمة
لكنه فضل أن ينتظر ملك الموت والزهر بيده .. لا يفارقه
لم يعلم المسكين أن القبر.. لا طاولة فيه !
وإحتراف الزهر ليس من متطلبات الحصول على سكن دائم فى القبور..
بل إحتراف التسبيح !
فاطمة.. تلك الفتاة الشقية .. بسنوات عمرها الثلاث..
تواظب على البصق فى وجههى كل صباح حين أداعبها
تملك لساناً يفوق عمرها طولاً.. إلا أنها مرحة بريئة..
لم تُدنس بعد بآثامٍ كثيرة .. تنتظرها على قارعة الطريق !
كم تمنيت أن أظل هكذا.. لا لى وعلىّ..
ليتهم لم يكتبوا شهادة ألزمتنى بالإجابة عن سؤال.. لا أملك له جواباً !
موعدنا صلاة العصر..
بعد مواجهات طاحنة مع نفسى الكسيحة.. أفضت بنا إلى هدنة محلها عند يدى عم صالح
سارعت إلى المسجد .. أبحث عنه.. فقد واتتنى الجرأة أخيراً لأسأله :
كيف تتدرب على نطق الشهادة عند موتك.. يا عم صالح !؟
لم يكن على كرسيه فى الصف الأول..
سألتُ عنه بلهفة..
أشاروا إليه فى آخر المسجد.. نظرت بسرعة
فرأيته هناك
ينام وحيداً..
ملفوفاً بالبياض ..
كعادته.. .. ينتظر الصلاة !
فى أثناء الصلاة .. لم يغب عن بالى سؤالى الحائر
والذى سيُـقبر مع الإجابة عليه بعد دقائق قليلة..
ليته يجيب..
هل نطقت الشهادة يا عم صالح ؟!.. هل أسعفتك الذاكرة !؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. ومن خلقه المهابيل !
لم يذهب عنى الوسواس بالرغم من أنى تَفلتُ خمساً وسبعين مرة على المواطن النائم على يسارى فى الصف
كم تمنيت فى تلك اللحظة أن يكون الذى إخترع "الجوال" قد وُلد سَـقْطاً متعفناً
آه من هذا الصوت ..
إنه ذاك الجوال الذى لم يكف عن التراقص أثناء الصلاة لعام كامل
وكأن صاحبه قد وقع عقداً مع إبليس لينوب عنه فى تشويش المصلين.. التائهين أصلاً !
لم تتوقف أنغام "الواحده ونص" عن التراقص من جيب هذا المأفون ..
رغم محاولاته المستمرة لإغلاقه أثناء الصلاة.. تارة بيده وتارة بإلقائه على الأرض
لكن يبدو أن المتصل قد أقسم أن يفسد صلاتنا جميعاً.. فلم يردعه غلق الخط فى وجهه عشرات المرات
ولم يكف عن معاودة الإتصال فى تحدٍ وثبات
أخيراً.. يرد المواطن (المصلى) بعصبية على الجوال : شنو .. أنا فى الصلاة الحين.. يلا باى !!
نظرت مجدداً إلى عم صالح المسجى على الأرض.. ولم أملك له حتى الدعاء
فقد كنت آثماً حتى الفسوق ..
خرجت جموع الناس تودع عم صالح..
ثم دخلوا تارة أخرى مسرعين.. ليصلوا على صريع قهوة النصابين
يحمل مقدمتَه المواطن "أخى"... ومؤخرتَه صديقُه القهوجى
بادرنى أخى منتحباً : لم يتحمل فقدان الحساسية لقرصة الزهر..
فعاجلته سكتة قلبية.. توقفت على إثرها يده عن قرع الطاولة بعنف
الله يرحمه كان طول عمره غشاش محترف !
- (سألته فى هلع وخوف) : هل نطق الشهادة حال إحتضاره ؟
- أظنه قال : لا إله........ ثم مات !
تركتهم يصلون عليه وحاولت أن أهرب من هذا الحصار
لم يُرد المواطن "سعيد" أى نهاية إلا تلك.. فحبس نفسه فى خانة اليَـك بغباء شديد !
هرولت ناحية البيت .. فلم أجد أحداً
الشارع خال من الناس والهواء النظيف..
الكل ملوث فيما يبدو
قابلت المواطن "سيد" يبحث فى الأرض عند مدخل العمارة
--- أين الجميع يا مواطن "سيد".. ؟!
--- مسكين..!! لم تدر بالذى حدث ، سيارة مسرعة أطاحت بفاطمة لعشرات الأمتار..
وأراد قائد السيارة الفرار فقادها مسرعاً للأمام.. فدهس المسكينة على الأرض.. وحولها لأشلاء
وبعد أن حاصره الناس.. لم يجد إلا الرجوع للخلف بسرعة.. فمسح ما بقى من فاطمة بسواد الأسفلت
وتطوع المواطنون لجمع خلاياها من الشارع.. كى تقر فى قبرها
--- وما الذى حدث لقائد السيارة.. ؟!
--- جرح قطعى أعلى الحاجب الأيسر.. هذا ما أثبته تقرير الشرطة
--- أسألك ماذا فعلوا به.. :e: ؟!!
--- أفرجوا عنه بضمان محل إقامة والده.. حاكم البلاد !
تركته يبحث.. ويهذى بكل مفردات الجنون
ودخلت باب العمارة.. ثم إلتفتُ إليه بعفوية
--- يا مواطن سيد.. يا أخ سيد
--- خير يا أستاذ ؟!
--- أعتقد أن هذه قدم فاطمة .. وجدتها هنا على السلم.. مازال حذاؤها الصغير سليماً
--- الله يجزيك الخير يا أستاذ.. ستفرح أمها كثيراً لأنك وجدت قدمها !
دخلتُ حجرتى.. وأحكمت ظلامها..
مازلت أرى هذا الخفاش يطير بين أضلعى وكأنه كهف أبوه ..
الخوف يسيطر على عقلى.. ويعصر قلبى
أخاف أن أموت.. فأفقد إختيارى الذى لم أحسنه يوماً
يقطع غشاء الصمت صوت مألوف.. آه.. إنه التليفون : يا لسعادتى.. فهذا يعنى أنى لم أمت بعد !
--- آلو
--- أين أنت ؟!
--- فضلتُ الإنصهار خلف حدود القبر الذى أحيا فيه
--- الإنصهار :confused: ؟!!
--- قصدى.. أخاف أن أموت
--- وأنا أيضاً.. أخاف أن تموت
--- يا معلم قرنى لا تخف.. سأدفع لك الدَين كاملاً قبل الجنازة
--- لمؤاخذة يا أستاذ.. أنت عارف أنك مقطوع من شجرة.. ولا يوجد من يسد عنك الديــ.....
(كليك)
تركته يثرثر فى عالم آخر.. وألقيت بنفسى فى فراغ أبيض بحجم سذاجتى
صلاة العصر اليوم باتت أقرب إلى التصالح مع الرؤية السياسية للمجتمع.. بعد رحيل عم صالح !
اليوم.. إمتلأ المسجد عن آخره.. بالإخوة المصلين.. والإخوة المسيحيين
وصليب كبير قد نُصب تحت المنبر.. وقف تحته فضيلة الإمام ومعالى "الأب" المقدس
يتبادلان العناق.. والسرور.. وعبارات النفاق الوطنى
وفجأة..
صرخ فيهم المصور : أريد عناقاً حاراً.. وقبلة مبللة.. تقطر لعاباً على اللحيتين المسلمة والمسيحية !
كانت المناسبة : الصلاة على قتلى الشباب المسيحى فى مظاهرة ضد إعتناق بعض المسيحيين للإسلام !
ولأنى عديم الوطن.. مقطوع النسب والهوية .. أقنعت نفسى أنى بحاجة لأن أفهم الحقيقة
ثم فهمت..
وعلمت أن هذه الصلاة أصبحت "ضرورة وطنية"
وخطوة هامة لإحياء مفهوم المواطنة.. بين قطعان البشر التى تأكل من برسيم واحد
ومن أحيا مفهوم البرسيم فكأنما أحيا المواطنين جميعاً.. !
حاولت الإنصراف قبل صلاة الجنازة.. لأنى جاهل.. لا أعلم كيفية الصلاة على المواطنين النصارى
إلا أن محاولتى قوبلت بالرفض الأمنى المدجج بكل الخبائث ..
وبعد أن عذرنى سيادة المخبر بجهلى.. وذكرنى بقـلة صبرى على الخوازيق .
شعرت أنه قد أقام علىّ الحجة.. دون الحاجة للخوض فى التفاصيل !!
فقد أوضح لى -مشكوراً- أنه لا فرق بين الصلاة على المسلمين.. والمسيحيين ، طالما أنهم مواطنين !
فدخلت..
وصليت..
ودعوت بالرحمة لعم صالح..
وباركت للأخ كورولوس بعودة الوطن !!
مفروس.. ذات إحتضار