أبو الفداء
10-12-2012, 04:05 AM
سلسلة الصفعات المتتابعات على قفا الهالك المدعو "كريستوفر هيتشنز".
الحمد لله القائل في محكم التنزيل: ((بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)) [الأنبياء : 18]، والصلاة والسلام على من بعثه بالمحجة البيضاء الصافية، الملة الحنيفية التي لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه،
أما بعد، فمن بلايا هذا الزمان أن ظهرت في الأرض طائفة من الماديين يقال لها "الملاحدة الجدد" Neo-Atheists، اتخذت من فلسفات الطبيعيين المعاصرة دينا تزيت فيه بزي العلم وزرا وبهتانا، حتى امتازت عن غيرها من طوائف الإلحاد بأن صار لها – ولأول مرة في التاريخ – دعاة متخصصون في مخاطبة عامة الناس (خارج الوسط الأكاديمي الفلسفي والعلمي) تحت راية "نشر الوعي العلمي" Science Popularization في الأعم الأغلب، وتحت راية التفكير العقلاني Rational thinking وتحرير العقل Free-thought ونحو ذلك من الشعارات الرنانة المصممة خصيصا لاصطياد تلك الفئة من السفهاء والعامة من أهل الملل الفاسدة، الذين لن يجدوا في هؤلاء "الدعاة" إلا ثلة من "العقلاء المستنيرين" الذين فطنوا لخرافة وتناقض الملة التي يدين بها أكثر أهل ذاك المجتمع الغربي الذي يخاطبه هؤلاء (ألا وهي الملة اليهودية والنصرانية وما تفرع عنهما من نحل ومذاهب فكرية يعتنقها الغربيون المعاصرون)، فجاؤوهم بمزيد من الإغراق في تلك الدعوة التي أخرجت أوروبا (على حد دعواهم) قبل خمسة قرون من ظلمة الكنيسة الرومية إلى نور العلم والمعرفة بتعظيم العقل التجريبي والدليل الحسي، فحررت أوروبا من الخضوع الفكري لا للكنيسة وحسب ولكن لسائر صور المعتقد الديني أيا ما كانت، على اعتبار أن "الدين" في تعريفهم الاختزالي الساقط هو كل نظام اعتقادي Belief system يعتمد على إثبات الخالق في الغيب (فيما وراء الطبيعة المحسوسة)، ويقوم الإيمان فيه Faith على التسليم الأعمى بلا أدلة وبراهين! (1)
وقد كان من سمات تلك الثلة الجديدة من دعاة الإلحاد الغربيين اتخاذهم مسلك الهجوم العنيف (فيما صار يقال له الإلحاد الحربي Militant Atheism) ضد "الدين" (هكذا) وكل ما له تعلق به، حتى صرت ترى لأول مرة (في التاريخ المعاصر على الأقل) كتبا يصرح مؤلفوها بالسب المباشر الصريح للإله (سبحانه وتعالى عما يصفون علوا كبيرا) تحت عناوين من صنف "وهم الإله" و"الإله ليس عظيما" ونحوهما. فمن مرتكزات تلك الطائفة في دعوتها (لا سيما أربعة منهم صار يقال لهم: فرسان الإلحاد الأربعة، ألا وهم البيولوجي "ريتشارد دوكينز"، والفيلسوف "دانيال دينيت"، والكاتب والباحث "سام هاريس"، والصحفي المتحذلق الهالك، موضوع هذا المقال، المدعو: "كريستوفر هيتشنز") مداعبتهم للعاطفة "الثورية" في نفوس أهل الملة النصرانية في بلادهم على وجه الخصوص، التي تنبع لدى السواد الأعظم منهم من اليقين المبطن لديهم ببطلان ملتهم وتناقضها في نفسها! فكان أن خرج هؤلاء بالسخرية الصريحة والتسفيه اللاذع لتلك الملة وكتابها ورموزها، بغية تجرئة عامة أتباعها على الثوران والانقلاب عليها وعلى رؤوسها في بلادهم. وقد حرصوا بطبيعة الحال – وعلى عادتهم الخبيثة التي لا يمكن الترويج للمعتقد الإلحادي إلا بها – على أن يألحقوا سائر الملل المتألهة الأخرى Theistic religions بالملة النصرانية في ذلك التسفيه العام العريض، وفيما تكلموا به من هجوم موجه – بالأساس – لمخاطبة العامي الجاهل من أهل تلك البلاد التي ظهروا فيها.
ولأن هذه طريقتهم ومنهجهم، ولأن العامة الجهلاء هم هدفهم الأول، ولأنهم هم أنفسهم عوام في الفلسفة (اللهم إلا المدعو "دينيت" الذي يشهد عليه أقرانه بالضعف العلمي) جاءت تلك الكتب التي ألفوها والمقالات التي نشروها، في غاية الضعف من الناحية الفلسفية، بمعنى أنها لا تنهض حتى لمجرد تصور الأجوبة والردود العقلية والكلامية التي حورب بها الملاحدة على أيدي سائر الفلاسفة والنظار من أهل الملل الأخرى على مر الأعصار، إن حاول أصحابها التطرق إلى ذلك فيما يكتبون. ولهذا جاء كتاب "دوكينز" المعنون "وهم الإله" (ودوكينز هو الأشهر في هؤلاء الدعاة على الإطلاق) في غاية السطحية والخواء من الناحية العقلية والفلسفية، حتى ضحك فلاسفة الإلحاد أنفسهم قبل مخالفيهم من طريقته في تناول الحجج المثبتة لوجود الإله عند اللاهوتيين النصارى! والسبب في شهرة الكتاب الواسعة في الغرب على الرغم من هذا السقوط العقلي والفكري الكبير، هو ما تقدم من تخصص تلك الثلة الشيطانية الخبيثة في مداعبة عواطف العامة والدهماء من أهل النحلة النصرانية، وممارسة سائر صور التزيين للإلحاد على أنه حامي حمى العلم والعقل والرقي الفكري والتقني .. إلى آخر هذا الهراء. وقد بينت منهج دوكينز في كتابه "وهم الإله" في إغراء واستمالة هؤلاء في كتابي "نسف أساسات الإلحاد" Blasting the Foundations of Atheism بما أرجو أنه لا مزيد عليه، ولله الحمد. والمقصود ههنا بيان أنه منهج تلك الطائفة من الدعاة بعموم، وإن كان قد تفاوت أولئك الأربعة ولا شك في مدى سلاطة ألسنتهم في نقد الأديان وأهلها، وفي مدى تعويل كل واحد منهم على الدعاية للنحلة الطبيعية المعاصرة تحت لبوس نظريات العلم الحديث.
ولقد كان للهالك المدعو "كريستوفر هيتشنز" نصيب الأسد في السفالة والبذاءة وفحش اللسان في مهاجمة الأديان وآلهتها ومقدساتها، حتى كان من المعتاد أن تسمع منه ألفاظا نابية خادشة للحياء في مناظراته العلنية مع خصومه، بل ما كان يبالي بأن يسب ويشتم عامة الحضور في تلك المحافل العامة التي كان يدعى إليها (المفترض في كثير منها أنها ملتقيات للصفوة في الأكاديميات العلمية والجامعية) بأقذع الشتائم وأفحشها! ولعل الله أن يكون قد عجل له العقوبة في الدنيا (كما نرجو)، إذ أهلكه قبل بضعة أشهر بمرض السرطان في حنجرته، حتى تركه عند موته هيكلا عظميا هشا لا يقوى على الكلام من بعد أن كان رجلا بدينا لسنا يملؤه الكبر والغرور، نسأل الله أن يلحق به إخوانه عاجلا غير آجل.
هذا المهرج العربيد سليط اللسان (الذي كان لطريقته – فيما أزعم - دور بارز في تجرئة ملاحدة الإنترنت على ركوب مطايا الاستهزاء والسخرية البالغة من الإسلام والمسلمين في بلادنا) (2)، لعله كان مع تلك الجرأة البالغة أقل دعاة تلك الطائفة ثقلا من الناحية المعرفية والعلمية. فقد كان في بدايته مراسلا صحفيا في مجلة من مجلات اليسار السياسي في أمريكا، فما كان يزيد شبرا في علمه ولا في ثقافته على عامة الصحفيين والمحررين ممن يكتبون في أمثال تلك المجلات. وإنما اشتهر الرجل لعلو صوته وسعة انتشاره الإعلامي بما اختاره لنفسه من مواقف سياسية شاذة كانت ولا تزال مثارا للجدل، دع عنك – ولا شك – تخصصه في النقد اللاذع العنيف للدين وأهله، على قاعدة "خالف تعرف"! ولعل من أشهر شذوذاته عن رفاقه من الملاحدة، مناصرته للحرب ضد العراق، ولمطلق استعمال البطش العسكري ضد "الفاشية ذات الوجه الإسلامي" (على حد عبارته) هناك وفي كل مكان. وقد كان يفاخر بأنه ليس محلدا فحسب Atheist بل إنه قد ضرب لنفسه كلمة جديدة تَسَمّى بها ألا وهي "عدو الإله / الآلهة" Anti-theist، ويعني بها من لا يكتفي بأن يقف عند حد الاعتقاد بعدم وجود إله لعدم كفاية الأدلة (كما هو زعم الملاحدة) بل يجاوز ذلك لإعلان الحرب على مفهوم "الإله" نفسه، واعتقاد أنه هو الشر المحض ومصدر كل وبال في تاريخ البشرية!
وقد اشتهر "هيتشنز" بطريقته في محاورة ومناظرة مخالفيه كما تقدم، إذ كان يعرف بأسلوب ساخر ماكر يزعم محبوه أنه كان هو القمة في إسقاط حجج المخالفين، حتى بات يعرف في قواميس اللسان العامي اليوم Urban Dictionaries باسم "الصفعة الهيتشية" Hitchslap. فلأن الرجل كان مشهودا له بسرعة البديهة وقوة البيان، فقد كان يتمكن من الرد على خصومه في المناظرات والحوارات العلنية بكلام موجز سريع ربما يتأخر الخصم عن فهم مغزاه وما فيه من سخرية واستهزاء، وما يتضمنه في سياق ذلك من كلام فيه شبهة هدم لحجج ذلك الخصم ودعاواه (بصرف النظر أصاب في ذلك أم أخطأ)، ليأتي ضحك أنصاره من الحضور وتصفيقهم بما يتم به تأثير "الصفعة" أو "الضربة القاضية".
ولأني رأيت أنه قد انتشرت في أوساط السفهاء من ملاحدة الإنترنت العرب بعض المقاطع التي فيها نماذج لتلك "الصفعات" المزعومة، التي صنعت من الرجل "نجما" من نجوم هؤلاء حتى ترجموها إلى العربية ونشروها فيما بينهم، فقد رأيت أن أستفرغ بعض الوقت محتسبا لله تعالى، حتى آتي على ذاك التافه أدق عنقه بما هو أهله، وأبين بالبرهان الكافي أنه لا يزيد شبرا على أولئك الحمقى من ملاحدة العرب الذين يكتبون في المنتديات، في مقال أجمع فيه جملة من تلك "الصفعات" ما يكفي لبيان المطلوب، وبيان أنه لولا لهجة السخرية اللاذعة ومداعبة عواطف الغوغاء من أتباع الرجل بتلك "الكوميديا السوداء" التي احترف الكلام بها، لما التفت إليه أحد حتى من الملاحدة أنفسهم.
وقد سميت المقال "الصفعات المتتابعات على قفا الهالك المدعو كريستوفر هيتشنز" لأن الصفعة الحق، هي تلك التي تفضح صاحب الهوى وتكشف عورته لكل عاقل، لا تلك العنتريات المسرحية التي اشتهر بها ذاك التافه، يجتذب بها السِفلة من أهل الأهواء أمثاله! ولقد تعمدت أن أترك العزو إلى روابط تلك المقاطع على موقع يوتيوب لأني لا أرى مشروعية الإحالة على تلك المزابل! كما أني قد اشترطت على نفسي في ترجمتي كلام الرجل شرطا، أن أنقل الألفاظ الخارجة في محلها باللغة الانكليزية حتى يفهمها من له دراية باللغة الانكليزية، ويعلم القارئ العربي أن في ذلك الموضع لفظا فاحشا قد يتنزه كاتب هذا الكلام عن ترجمته إلى نظيره العربي. كما اشترطت فيما أكتبه ردا على كلام الرجل ألا أجعله مقصورا على تلك الصفعات المركزة على قفاه، لأن الغاية من هذا المقال ليست مقصورة عندي على تدميره، فهذا أمر ميسور ولله الحمد، وإنما الغاية تتجاوز ذلك في الحقيقة. فقد جعلت في ذيل كل "صفعة" من صفعاتي إضافة أو فائدة للقارئ المسلم الذي له عناية بالتصدي للرد على هؤلاء السفهاء المتغطرسين من دعاة الإلحاد الجديد، والله المسؤول أن يجري الحق على ألسنتنا وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
الصفعة الأولى:
في قوله بما حاصله: يجب على صانع هذا العالم إن وجد أن يجعله "حفلة أبدية"!
تكرر منه هذا المعنى مرارا، كما في كلامه في ندوة علنية عن مسألة الحياة بعد الموت (العقيدة في اليوم الآخر)، حيث يقول هيتشنز ساخرا:
يحدث لك في مرحلة ما من مراحل حياتك أن تجد من يربت على كتفك ولا يقول لك: "الحفل انتهى" وإنما يقول: "الحفل مستمر وعليك أن تغادر الآن، وسيستمر الحفل بدونك". (يضحك الحضور بل يقهقهون). هذه – فيما أرى - هي الفكرة التي تضايق البشر بشأن هلاكهم. ولكن هب أنه بدلا من أن يقال لك هذا الكلام، قيل لك نقيضه التام: "الحفل مستمر إلى الأبد، ولا يمكنك أن تغادر! السيد صاحب المكان يصر على أن تبقى، ويصر أيضا على أن تقضي وقتا ممتعا"! لقد قرأت عن والد "ديفيد" وقد مررت أنا نفسي بوقت عسير على أثر وفاة والدي. ولكن الأب الذي يقترحه أصحاب الديانات التي تؤمن بالخالق Monotheism هو أب لا يموت! فهو يطمئن أولاده: "لا تقلقوا لن أترككم أبدا! لن تروا نهايتي أبدا! لن تسنح لكم الفرصة للشعور بالأسف على فقدي! فأنا دائم الوجود! أنا صاحب الديكتاتورية المحضة المطلقة! وفي محاكمي ليس ثمة استئناف!" فهل حقا تعتقدون أن هذا سيسعد أي مخلوق عاقل ذي شعور Sentient being أو النوع البشري أو أي كائن قادر على الشعور بأي شيء؟ أنا أشهد بأن هذا محال! (تصفيق حاد من الحضور).
ونوجه نحن إليه صفعتنا بالحق فنقول: من ذا الذي له أن يزعم يا هذا التافه أن من كان له سيد قد وضعه في مكان ما لغاية ما، فإنه يتعين على ذاك السيد ألا يجعل قصده وغايته في الأمر كله إلا أن ينعم على عامله أو عبده أو مرؤوسه ذاك بل يبذل له غاية ما في قدرته من الإمتاع والتنعيم، وأن يجعل الأمر "حفلة شاي" سرمدية لا نهاية لها لمجرد أنه قادر على ذلك؟ من الذي قال إن كل من كان قادرا على فعل شيء يحبه أولئك الذين يخضعون لسلطانه، تعين عليه أن يفعله مطلقا؟ من أين جاء ذاك الوجوب وبأي قاعدة أخلاقية أطلقته؟ هذه التفاهة التي تتكلم بها لا يسعك – والله – أن تلزم بها عاقلا من بني آدم أمثالك ممن لهم تسلط وسيادة على غيرهم في الأرض، لأن عقلك – إن كان لك عقل – يجيز أن يكون لذلك السلطان البشري غايات ومقاصد لا يكون هذا التنعيم والترفيه الغامر الذي تشتهيه لنفسك جزءا منها، فما بالك بالذي يزعم العقلاء أنه خالقهم وخالق كل شيء؟ ثم من ذا الذي قال إن خالقك هو أبوك الذي "عليه" أن يرعاك رعاية الأب لولده، وعليه أن يسعدك ويسعد كل مخلوق عاقل
صدق الذي قال سبحانه: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [الزمر : 67]
وهنا استطراد لزيادة الفائدة: الكلام كما ترى أيها القارئ اللبيب مغرق في مداعبة ودغدغة عواطف الملاحدة، بتلك الاعتراضات الصبيانية التي اشتهر بها أصحاب "مشكلة الشر" من مثل قولهم "لماذا يخلقنا، أما كان خيرا لنا أن يتركنا في العدم ولا يكلفنا بشيء أصلا؟ أما كان خيرا لنا أن يخلقنا في نعيم أبدي سرمدي ولا يسلط بعضنا على بعض ولا يبتلينا بشيء البتة؟ لماذا علينا أن نقبل منه أن يرسل إلينا رسلا يكلفوننا بعبادته والخضوع التام لسلطانه المطلق ونحن لا نراه؟" إلى آخر تلك الاعتراضات التي ينطلق منها فلاسفة الإلحاد المعاصرون ويلبسونها لبوس الدليل المنطقي أو العقلي على أن ثمة "مشكلة" ما فيما يزعمه أتباع المرسلين من صفة للعلاقة بين الخالق وخلقه، ولمطلق فكرة أن يجعلنا خالقنا في الأرض على هذا النحو لا على غيره! تلك الاعتراضات التي سئمنا منها وليس لها عند العقلاء إلا جواب واحد: "سلمنا بأن هذا أحسن لكم وأحب إلى أنفسكم، فبأي حجة في العقل المجرد جعلتموه واجبا على خالقكم تجاهكم؟" حتى على أصلهم الفاسد في قياس أفعال خالقهم على أفعالهم، وحكمته على حكمتهم، وتقييدها بقيودهم المعرفية البشرية القاصرة، فإن أحدا من عقلاء البشر لا يرتضي أن يفرض العبد أو الخادم على سيده، أو المرؤوس على رئيسه، أو الأجير على مستأجره، أو حتى الولد على أبيه = ألا يفعل به إلا ما يحبه ذلك العبد أو الخادم أو العامل أو الأجير لنفسه ما دام قادرا على ذلك!
طالما كان ثمة قاعدة متفق عليها بين العقلاء في الحكم الأخلاقي على الأفعال مفادها أن الشر (أو المكروه) قد يقبل ويصح (أخلاقيا) ما دام فاعله يستهدف منه خيرا راجحا يقال له الخير الأعظم، أو بلغة هؤلاء: The Greater Good، فإن الحكم على الفاعل الذي صدر عنه مفعول فيه شر (على تعريف الشر على أنه الأمر المكروه لبعض الناس أو لجميعهم)، يظل ببداهة العقل متوقفا على الإلمام المعرفي بغايات ومقاصد وحكم ذلك الفاعل من وراء ما فعل! فلماذا يستجيز هؤلاء السفهة القفز على ما يجهلون والتكذيب بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله؟ لماذا يمنعون بكل حزم في دوائرهم الأكاديمية من تجاوز التخصصات المعرفية وكلام من لايدري فيما لا يحسن، ثم تراهم يسهل عليهم الحكم بالفشل والفساد على صنعة لم يقفوا على تفصيلها على حد الإحاطة، ولا على بيان صانعها لغايته من صنعها أصلا؟ إنه الهوى المحض الذي يعمي صاحبه عما هو غارق فيه من التناقض، كما هو معهودنا بسائر أهل الملل الفاسدة!
والعجيب – كما تناولت ذلك بشيء من التوسع في المجلد الثاني من كتابي "نسف أساسات الإلحاد" - أن هيتشنز نفسه كان من أشد الناس تمسكا بمبدإ العواقبية في فلسفة الأخلاق، على الأقل في حيز التطبيق إن لم يكن في حيز التنظير كذلك، ويظهر ذلك بجلاء في موقفه المؤيد لحرب الأمريكان في العراق ضد "الإرهابيين"! كل من يؤيد إرسال جيش لدولة أخرى للقتال فيها، واحتمال الخسائر المادية والبشرية والآلام والشرور والعذابات التي يقتضيها مطلق مفهوم الحرب والقتال نفسه، لأجل مصلحة راجحة لديه في استئصال من يراهم طغاة أو أشرار أو مجرمين في هذا العالم لا يتحقق الخير العام للناس إلا بزوالهم من الأرض، هذا يقول بما يتفق عليه عقلاء البشر من قاعدة احتمال الشر القليل لجلب خير راجح وافر لا يتصور جلبه إلا من هذا الطريق! وأقول إن هذا عجيب، وهو عند هيتشنز وأتباعه من التناقض الذاتي في بناء المعرفة الفردية لديهم ولا شك لأنهم إن كان هذا مذهبهم في الأحكام الأخلاقية على أفعال كل فاعل مريد له اختيار وقدرة، فلماذا لا تتسع عقولهم لإعمال ذلك المذهب نفسه عند الكلام على مفعولات الخالق الذي يوجب العقل له سائر الكمالات في صفاته؟ أي تناقض هذا وأي كيل بمكيالين الذي يتكلم به هؤلاء عندما يجزمون بكل سهولة بأن الخالق الذي يؤمن به عقلاء البشر لا يمكن أن يترجح لديه خير راجح وفير (بضابطه في علم الخالق، لا في علم المخلوق كأن يكون هو ما يحبه المخلوق لنفسه مثلا!) من مطلق تمكين النوع البشري من ممارسة الحرب والقتال والتدافع فيما بينهم بالبطش والسنان، بينما تراهم يستجيزون لأنفسهم سفك الدماء طلبا لتحقيق خير يرونه أرجح؟
بأي حق يعترض هيتشنز على مطلق مفهوم "الحرب المقدسة" عند أهل الأديان، بينما يجيز لنفسه الانخراط في "حرب نبيلة" ضد من يسميهم بالإرهابيين، طمعا في صلاح البشر وعموم الخير لهم؟ واقع الأمر أن المسألة ليست إلا اعتراضا صبيانيا على مفهوم التشريع الإلهي نفسه! يسخر ذاك المجرم وأمثاله بكل وقاحة من شرائع يجدونها في كتب أهل الأديان لا لشيء إلا لأنها في كتب أهل الأديان، بينما لو تكلم بمثلها (في مبدئها الأخلاقي العام لا في تفصيلها) فيلسوف من فلاسفتهم لما رفضوها منه بدعوى أنها لا-أخلاقية أو بربرية أو نحو ذلك! فهل هذه هي العقلانية التي يطالبون العالم بتلقيها عنهم، لعنهم الله؟
هذا النموذج من الاعتراضات التافهة على حكم وإرادات الخالق، كانت فيما مضى لا تزيد على كونها محاولات من بعض فلاسفة الإلحاد والمادية لإثارة مشكلة فكرية لا يزيد أصحابها على استثمار حالة الحيرة التي تنتاب اللاهوتيين النصارى على وجه الخصوص بإزائها، لاعتقادهم بأن الخالق "قد أحب جميع خلقه جدا"، حتى يتخذوا لإلحادهم غطاء من التسويغ والتبرير النفسي، وحتى يفتحوا بابا جديدا من أبواب الجدل المتصل الذي يتترسون به حتى إذا ما قال لهم قائل: "ألا ترون بطلان من أنتم عليه؟" أجابوه في كل مرة باستمرار الجدال الذي لا ينتهي بين الفلاسفة! فكان الجديد الذي جاء به هذا الملعون هيتشنز ورفاقه أن قلبوا ذلك الإشكال الذي تكلفته الفلاسفة وتنازعته فيما بينها إلى برهان على بطلان سائر الملل والأديان التي تؤمن بالخالق الديان، ليس هذا فحسب، بل على كونها هي الشر الأكبر في هذا العالم! والآن، في زمان "حرية التعبير" المطلقة هذه، أصبح العقلاء مطالبين بأن يتقبلوا كل سفاهة وكل سفالة وانحطاط عقلي وفكري وأخلاقي يتكلم به أحدهم، تأسيسا على عقيدة الملاحدة أنفسهم (وإن خالفهم من خالفهم من عقلاء الأرض) في أنه ليس ثمة شيء في الوجود له قدسية أو له حصانة أخلاقية أو له قدم علو في دائرة المفاضلة بين الحق والباطل، وإلى الله المشتكى.
الصفعة الثانية:
ما أسهل أن تسبح بحمد الدليل وأنت أبعد الناس عنه!
يقول صاحبنا:
نحن لا نستحسن فكرة هلاك أنفسنا أو هلاك الكون نفسه الذي سيكون سببه الانخفاض الإنتروبي لدرجة الحرارة فيه إلى حد التجمد، ولكن لدينا الكثير من الأدلة التي تدل على أن هذا ما سيحدث. وفي المقابل فثمة أدلة قليلة جدا جدا على أنني سأراكم كلكم مرة أخرى فيما يشبه "حديقة الملاهي" Theme Park (3) (يعني بعد الموت)! ليس ثمة أدلة تدعم هذا الأمر مطلقا! لذا فأنا على استعداد لأن أقبل – تأسيسا على الأدلة – نتائج قد لا تكون محببة لنفسي. اعذروني إن كنت أبدو وكأني أملي هذا الكلام إملاءً!
وهذه صفعتنا بالحق، نقول: بل أنت كالطفل المارق الذي لا يستحسن الذهاب إلى المدرسة لأنه يضطر إلى النهوض مبكرا من فراشه كل صباح، ولولا هذا لقبلت بأطنان الأدلة الدامغة على صحة دين الإسلام، من بعد الإقرار بما يشهد به العقلاء من ضرورة وجود من خلقك وصنعك ووضعك في هذا العالم لغاية وحكمة ليس يدخل فيها إغراقك في الحلوى واللعب والشيكولاتة من يوم ميلادك وإلى الأبد حتى ترضى! لا شيء أسهل من التفذلك بدعوى أنه "ليس ثمة أدلة على الإطلاق"، يطلقها صاحبها بكل ثقة، ويكررها بقوة وحزم في جو من الزخرف اللفظي والفكري، فإذا بها تنزل من نفوس السفهاء والمغفلين منزلا! ومع ذلك نقول: صدقت يا ملعون وإنك لكذوب، فقطعا ليس ثمة أدلة على أن مثلك سينقلب بعد موته إلى "حديقة ملاهي" يلقى فيها من يحب، يأكل ويشرب ويلعب حتى الثمالة!
استطراد للفائدة: يجب أن يتنبه المسلمون إلى حيل هؤلاء السفهاء في تلبيس دعاواهم الغيبية المحضة لبوس نظريات العلم الطبيعي، ودعواهم – من ثمّ – تعارض العلم مع ما يحدثنا به الوحي من أخبار الغيب في نهاية الكون وما يكون للناس بعده! فنقول أولا: هذا الهلاك الإنتروبي المزعوم، بأي عقل يوضع على قدم التعارض مع وجود حياة أخرى بعد الموت، كما يبدو من تلك المفاضلة التافهة التي تطلقها هكذا بكل سهولة وكأن من تخاطبهم صبية صغار لا يعقلون؟ وأي أدلة هذه التي تزعم أنها كثيرة جدا على أن هذا الهلاك الإنتروبي سيحدث لا محالة؟ هذا الهلاك الكوني المزعوم بالتآكل والتفتت العشوائي ليس نظرية علمية أصلا وإنما هو اعتقاد ميتافزيقي إلحادي باطل، يقوم على اعتقاد أن الكون ليس له خالق في الغيب يضبطه ويمسكه من الزوال، فلا تقوم قيامته إلا حين يشاء هو وحده، وعلى نحو ما يشاء هو وحده! صحيح إن مبدأ الاستمرارية الكونية الذي يقال له Cosmological Principle له صورة واحدة على الأقل معتبرة في المنطق الاستقرائي الإمبريقي في التعامل مع أحداث الكون والنظر في ماضيه ومستقبله من خلال ما يجري الآن فيه من أحداث، إلا أن هذا الأمر ليس بلا قيد ولا ضابط، كما يعزمه الطبيعيون الماديون من فلاسفة العلم! فليس من حق عالم طبيعي أن يزعم أن مبدإ الاستمرارية يجيز له افتراض تلك الصورة الهزلية لهلاك نظام كوني يشهد الحس بانضباطه على نظام دقيق، ويشهد العقل بضرورة خضوعه لإرادة خالقه، ومن ثم ضرورة التقيد في هذا الصنف من القضايا المعرفية بما جاء به الوحي على الأنبياء والمرسلين. أما النظرية العلمية فغايتها في هذا أن تفترض – على استحياء - أن الكون يتمدد باطراد وأن من نظامه (وأكرر: من نظامه) أن النظم المركبة تتفكك ولو بعد حين (لتتركب في مكانها نظم أخرى)، وأن الحرارة تنتشر في الفراغ بمر الوقت (لتتحول غالبا إلى صور أخرى من الطاقة)، هذه كلها نظم مركبة متداخلة من التفكك والتركب composition / Decomposition كان ولا يزال الكون يعمل بها من يوم أن خلق، فمن أين يأتي الزعم بأن الكون سيهلك كله بالتفكك والتآكل بسبب هذه النظم المطردة فيه نفسها، وكأنه شيء عشوائي لا نظام له ولا قائم عليه، ومن أين تأتي تلك "الأدلة الكثيرة" التي تؤيده بزعم هذا التافه؟ ليس من العلم الطبيعي قطعا!
ومع هذا، وعلى الرغم من تلك القفزات الإيمانية الكبيرة Leaps of faith التي يتكلم بها الرجل من منطلق عقيدته الإلحادية الماورائية بدعوى أن العلم أثبت والدليل قرر ونحو ذلك من تخرصات هؤلاء، يطالبنا الآن بأن نسمع منه هذا الكلام ونضحك ونصفق ونهزأ معه بالمساكين أهل "الأديان" فلا نخرج من محاضرته إلا وقد قذفنا ديننا في أقرب سلة للمهملات على باب المدرج! أليس قد قال الرجل بكل قوة: ليس ثمة أدلة على الإطلاق على ما تؤمنون به، والأدلة كلها تؤيد ما أؤمن أنا به؟ انتهى الأمر إذن! فأي شيء تنتظرون يا مساكين؟ تنتظرون "حديقة ملاهي" بعد الموت؟ مساكين حقا!
فهو كما ترى يعول تعويلا تاما على سطحية وجهالة من يستمعون له، لا سيما في العقليات وفي فلسفة العلم الطبيعي! فمتى جاءهم "علامة زمانه"، الصحفي في مجلة Vanity Fair الهابطة، بأن الدليل يقول كذا وكذا، وجب عليهم أن يسلموا له لا لشيء إلا لأن الكلام جاء على الهوى والمزاج!
ولا أملك والله إلا أن أضحك من قوله: " لذا فأنا على استعداد لأن أقبل – تأسيسا على الأدلة – نتائج قد لا تكون محببة لنفسي"! صدقت، أنت آية في التجرد للحق واتباع الدليل ولو جاءك بما تكرهه نفسك يا أستاذ هيتشنز! الرجل يزعم أنه يبرئ نفسه من اتباع الهوى بدعوى أنه قد رفض مزاعم أهل الأديان على الرغم مما فيها من البشارة بنعيم أبدي للبشر بعد الموت! ولكن هل يخفى على أحد من العقلاء في هذا العالم، أن مشكلة الملحد الحقيقية تتمثل بل تتلخص في كراهيته لما جاء مع البشارة من وعيد ونذارة؟ هل يخفى على عاقل أن مشكلة الملحد تكمن بالأساس في رفضه فكرة الخضوع لإله يأمر وينهى ويتوعد بالعذاب الشديد لمن يعصى؟ لو صدق في استعداده لقبول ما يفضي إليه الدليل وإن كان مكروها لنفسه، لقبل بالتسليم والخضوع لخالقه، وطاعته في أمره ونهيه وإن جاءه بما يكره! ولكن كلنا يعلم أصل الإلحاد ومنبته في نفوس أصحابه، ولعله لا يبالغ من يزعم أن هذا المنبت لا يكاد يظهر في زماننا في كلام أحد من رؤوس الإلحاد كما ظهر وفاحت رائحته في كلام ذاك الهالك "هيتشنز" بالذات! تأمل فيما مر بك من كلامه وفيما يأتي بعدُ، كيف أنه يتلخص اعتراضه "الأخلاقي" على تلك الأديان التي أهلك نفسه في تسفيهها والحط عليها، في أنها لم تأت على مزاجه وهواه، وأن الرب لم يجعله في هذه الدنيا مرفها منعما على أحسن ما يحب لنفسه ويرضى! "كيف لا يجعلني في رغد من العيش ونعيم مقيم وهو قادر على ذلك؟ كيف يقضي علي بالآلام والأوجاع وقد كان يسعه أن يمنعها؟ وكيف لا ينزل شرائعه وأحكامه بما يأتي على مزاجي وعلى وفق خياراتي الأخلاقية الشخصية؟ هو إذن ظالم، بل أكثر من هذا: ليس الإله إذن إلا وهما وخرافة من الأساس!" هذه خلاصة دعوى ذاك التافه الملعون، الذي ملأ الدنيا تحقيرا للدين واستهزاءً برب العالمين بدعوى العقل والعلم والاستنارة، عليه من الله ما يستحق.
الصفعة الثالثة:
الفوضى والعشواء والتخبط دينك أنت يا سفيه، لا حقيقة ما يجري في العالم!
يقول علامة زمانه في نفس الجلسة التي قال فيها كلامه السابق:
من المرجح أنه قبل حوالي 180 ألف سنة مضت، حدثت كارثة كبيرة للاحتباس الحراري على الأرض، والتقديرات تشير إلى أن عدد البشر في إفريقيا انخفض إلى ما بين ثلاثين وأربعين ألفا، أي أنهم كانوا في غاية القرب حينئذ من الانضمام إلى جميع الكائنات التي سبق لها الانقراض على الأرض. فثمة نوع من الغرور عند من يفترض أن كل هذا، كل هذا التقلب الفاحش في أحداث العالم وأحواله، كان جميعه من أجلنا نحن البشر! هذا الإهدار الفائق الذي يظهر فيه، هذه القسوة البالغة التي تغلب عليها، هذه العشوائية وهذا التخبط الفاحش الذي يتسم به، كل هذا لا يهم، ما دمنا نعيش فيه! الكون كله قد صمم لك وحدك!
وإليك الصفعة التالية على قفاه العريض: بل الغرور كل الغرور والكبر كل الكبر فيمن يزعم هكذا بكل سهولة أن الفوضى والعشوائية متجذرة في نظام لولا أن ولدتنا أمهاتنا به وعليه وفيه، ما عقلنا ولا وعينا للفظة "نظام" من حقيقة ولا معنى أصلا، ولما قامت لدينا حجة عقلية يستند عليها منطق الاستقراء نفسه، الذي هو أساس العلم الطبيعي الذي يتشدق به ذاك التافه! أي عقيدة عفنة هذه التي يحرص أصحابها على إطلاق وصف الفوضى والعشواء على كل "فجوة" من فجوات المعرفة الطبيعية لديهم، حتى يأتي هذا الكلب اللاهث وأمثاله ليحدثونا بكل وقاحة عن الغرور والكبر في "افتراضنا" أن لنا في هذا العالم منزلة مخصوصة بين المخلوقات التي وضعها فيه خالقه؟ وما هي صفة ذلك العالم الذي يجيز عقل "هيتشنز" (وليس لمثله عقل) أن يكون مخلوقا لغاية عند خالقه تدور حول الإنسان كنوع من أنواع المخلوقات؟ أن يكون جنة نعيم، لا يرى الإنسان فيه إلا الرفاهية واللذة، ولا يتعرض لكوارث ولا لمهالك من هذا الصنف أو ذاك؟ فمن أنت ومن تظن نفسك يا ملعون حتى تشترط على خالقك أن تنحصر غاياته ومقاصده من خلقك وخلق العالم من حولك فيما يكون العالم معه على مزاجك أنت وهواك؟ بالله كيف يقال في هذا الهراء والسفاهة إنها "حجة" مفحمة "تصفع" المخالف وتسقط دعواه، كما يحلو لسفهاء الإلحاد أن يزعموا؟
سبحان الذي أحيانا حتى شهدنا زمانا يصبح السفه المحض فيه عقلا وعلما وفلسفة!
ولا شك بأننا مطالبون بالتسليم الأعمى لكل "حقيقة علمية" يسوقها علينا الأستاذ "هيتش" (كما لقبه أتباعه)، من غير أن نتساءل في طبيعة أدلتها وفي مثقال تلك الأدلة في موازين المعرفة! لا بأس! ولماذا نتساءل ولماذا ننقب وراءه؟ هي كذلك ولابد ما دام الرجل قد جاءكم بها من كتاب قرأه هنا أو هناك! ما بالكم يا أهل الأديان، ألا تقرؤون؟
الصفعة الرابعة:
في قوله بما حاصله: "دعوني أموت وزجاجة الخمر في يدي"!
يقول النابغة في مسألة "الندم والتراجع عن الإلحاد على فراش الموت" (وكان ذلك في ندوة عامة في جامعة يهودية أمريكية):
يبدو أمرا طبيعيا للغاية في هذا المجتمع، أن تقترب من رجل يحتضر على فراش الموت وأنت لا تعرفه، وهو ممن يكفرون بالخالق، فتقول له: "هل ستغير رأيك الآن؟" إنهم يعتبرونه سؤالا مهذبا للغاية! (يضحك الحضور) وكما تعلمون فإن ثمة تاريخا طويلا للتزوير في هذا الأمر، فمن الناس من زعم أن داروين رجع إلى النصرانية على فراش موته، وكذلك اختلقوا الأكاذيب حول توماس بين، والأمر يقع كثيرا. إنها قطعة مقززة من تاريخ البشرية. إنها كذلك صورة رديئة من صور الابتزاز، كأن يقال: "أنظر، لديك فرصة واحدة الآن، ألن تغتنمها؟ أنا أكتب إليك هذا الكلام كصديق!" لقد حاولوا معي ذلك في يوم من الأيام عندما كنت مريضا للغاية في إحدى المستشفيات، ولكن لم أكن متمكنا من الرد عليهم كما كان يحلو لي يومئذ. ولا مانع عندي من سماع هذا الكلام على أي حال، فإنه بوسعي أن أتحمله. ولكن في ظني أن كثيرا من الناس ممن هم أكبر مني سنا وأشد مني مرضا، وربما أقل تعلما منا، هذه التجربة تكون شديدة عليهم للغاية، فهي مسألة محبطة ومقلقة ولا شك أن يخاطبوا بمثل هذا الكلام. يعني لو أني كونتُ أنا و"سام" (يعني صنوه المدعو "سام هاريس" وكان حاضرا في المجلس) فريقا يذهب إلى المستشفيات الدينية - وهو عكس ما يحصل في الواقع -، فنقول لأناس يرقدون في الألم: "هل قلت إنك كاثوليكي؟" – "نعم" – "حسنا اسمع، ربما لا يزيد ما بقي لك من العمر على بضعة أيام، ولكنك لست مضطرا لأن تحياها كعبد! حسبك أن تعلم أن هذا كله لم يكن إلا Bullshit (4) (يضحك الحضور ويقهقهون ويصفقون)! لقد كان الرهبان يخدعونك! وأنا أضمن لك أنك ستشعر بالراحة"
لا أظن أن هذا سيكون عملا أخلاقيا! أعتقد أنه سيكون نوعا من خرق الذوق العام. ولكن ما دام بإسم الإله، فإنه يحظى بالرخصة الاجتماعية، وأنا أقول: Fuck that! (5) (يضحك الحضور ويصفقون تصفيقا حادا)! وهذا ما سأقوله قطعا لو كان هذا هو نفسي الآخير!
وهذه صفعتنا التالية فليعيها عنا من يعقل: كل هذا ليس من الحجة ولا البرهان العقلي في شيء أصلا، وإنما هو تذمر واعتراض ساخر لا أساس له إلا ضيق وضجر رجل يتبع ملة من الملل (ألا وهي الإلحاد)، بصنيع رجل آخر على ملة مخالفة (أيا ما كانت)، وانتهت القضية! يقول – مع كثير من السفالة والبذاءة التي هم أهلها - : "لا أظن أن هذا يسكون عملا أخلاقيا"، ونحن نقول: نعم "الأخلاق" تلك التي يتعلمها العقلاء من أمثالك يا هذا! ما أحسنها وما أحكمها تلك المنظومة الأخلاقية التي ترتكن إليها في أحكامك على ما يصح وما لا يصح، وما يليق وما لا يليق! فلا ظننت ولا عقلت ولا تكلفت أن تقيم دليلا عقليا واحدا في حياتك، لعنك الله، وإنما هو السباب والتحاذق والفذلكة الجوفاء، وكل إناء بما فيه ينضح!
من يذهب إلى رجل يحتضر على فراش موته، وقد علم عنه الجحود المحض والتكذيب بأصل أصول العقل نفسه، وخاف عليه من أن يهلك على ذلك الجحود لأنه يراه قد قامت عليه الحجة بعد الحجة على بطلان ما هو فيه وعلى أن مآله الخسران المبين إن مات عليه، وكان يكره له أن ينقلب إلى خالقه وهو من أهل لعنته السرمدية، مع كونه (أي هذا الناصح) قد تحصلت لديه من أدلة صحة هذا الاعتقاد عنده ما يكفي كل عاقل، من كانت هذه حاله، وكانت تلك حال من ذهب إليه يناصحه، فقد تفضل على ذاك المحتضر بعمل أخلاقي نبيل ولا شك! ومرة أخرى نقول – ولن يسمعها إلا من يعقل – إنما العبرة في ذلك ونحوه بالدليل الذي اعتنقه الناصح وجحده المنصوح بزعمنا!
وحسبك أيها العاقل أن تقارن بين من يقول: "أنا كائن مخلوق مصنوع، وخالقي له الحق الكامل في أن يأمرني وينهاني فأطيعه، فإن ثبت أن هذا الدين دينه، آمنت به وقبلته"، ومن يقول في المقابل: "أنا موجود من غير علة، مخلوق من غير خالق، وكل من يزعم خلاف ذلك فهو أحمق مغسول العقل، وكل من يحب أن يطيع خالقا لا يراه ويرى في ذلك تمام الأخلاق وكمالها، فهو مريض في عقله منقوص في أخلاقه!" فأي الفريقين أحق بالعقل والحكمة وكمال الأخلاق إن كنتم تعقلون؟
أما صنيع من كذبوا وزعموا أن فلانا قد رجع عن الإلحاد على فراش موته ولم يكن ذلك حقا، فهم كذبة محتالون والمذمة واقعة عليهم بأعيانهم أيا من كانوا، فكان ماذا؟ ألا سحقا ثم سحقا للسفهاء!
الصفعة الخامسة:
في قوله بما معناه "أنتم تكرهون أعداء دينكم بأمر إلهكم، إذن دينكم هو أصل الكراهية في العالم!"
يقول قرد الإلحاد (6) في محفل من محافل القردة أمثاله:
إنني على قناعة تامة بأن المصدر الرئيس للكراهية في العالم إنما هو الدين، والدين المنظم: قناعة مطلقة. وأعتقد أن الدين يجب أن يعامل بكل استهزاء وكراهية واحتقار (تصفيق من الجماهير)، وأنا أطالب بهذا الحق!
وهذه صفعتنا التالية على قفاه: أما نحن فعلى يقين تام لا يتزعزع، بأن المصدر الرئيس للانحطاط الأخلاقي والمرض الاجتماعي والنفسي العضال في هذا العالم إنما هو الإلحاد بشتى صوره! وأما الكراهية فلا يزال البشر يحبون ويكرهون لأسباب شتى، منها الشهوة والهوى كما أن منها المنظومة الأخلاقية (بصرف النظر عن مصدرها)! ولا يزال الناس يحبون من يوافقهم في عقائدهم القطعية (بما في ذلك الإلحاد) ويكرهون ويعادون من يخالفهم فيها (وأنت تشهد ببغض أهل الأديان المخالفة لنحلتك وكراهيتهم)، ولا تأثير لتلك الحقيقة الكونية – البتة – في عقل أحد من العقلاء على صحة أو فساد دعوى حملة هذا الدين أو ذاك بأن دينهم هو الحق، كما تزعم أنت أن اعتقادك الإلحادي هو الحق في مقابل عقائدهم وقناعاتهم! ألست ترى يا عدو نفسك ضرورة شن الحروب لإزالة المسلمين "الإرهابيين" من العالم؟ فلماذا تدافع عن إلحادك بكل ضراوة عندما تقابل بدعوى مخالفيك أن ستالين وهتلر كان منطلقهما الإلحاد؟ ما الفرق – في ميزان الحكم الأخلاقي على فعل ما: (س) – بين أن يذهب الإنسان إلى (س) هذا وهو يؤمن بأنه الصواب والخير الأرجح انطلاقا من نظره الشخصي، وبين أن يشرع في العمل (س) هذا، أيا كان، متبعا لما يؤمن بأنه أمر خالقه من فوقه وتكليفه الديني؟ إن قلت إن الملحد لا يكره من يكره ولا يحارب من يحارب لأن ربا في الغيب يأمره بذلك، وإنما لانفراده بالنظر العقلي في ذلك، فهو بذلك لا يوصف إلحاده بأنه مصدر للكراهية، فقد شهدت على نفسك ببطلان دعواك، وبأن الكراهية ليس مصدرها بالضرورة هذا الدين أو ذاك، وإنما الصواب أن يقال أنها هي وما يتعلق بها من أحكام وأفعال، مرجعهما جميعا إلى نظام أخلاقي ما، فإن كنت أنت تتلقى ذلك النظام الأخلاقي من هواك ومزاجك وتهافت من تقلدهم من فلاسفة البشر، فأهل الأديان يزعمون أن لهم مستندا في ذلك يرجع إلى رب البشر وخالقهم من فوقهم! فإن صح ما يزعمه أهل هذا الدين أو ذاك، ألا يعد ذلك – في العقل المجرد – دليلا كافيا عند من لا يعميه الجحود والحقد المحض، على أن كراهية أهل الدين الحق من بين تلك الاديان كلها، وما يتعلق بها من أفعال وأحكام عندهم، هي الأرقى والأرفع والأصوب أخلاقيا، بخلاف ما انفرد به آحاد النظار من البشر على محدودية علمهم ومقياسهم المعرفي؟ بلى ولا شك، وبذلك يؤول الأمر إلى السؤال: أي تلك الأديان تصح نسبته إلى الخالق (المعلوم وجوده وكمال صفاته ببداهة العقل) تحقيقا؟ وبمعرفة الجواب تنحسم المسألة في العقل السوي من كل وجه، ويتعلم الإنسان ما هو الموضع الصحيح الذي يضع فيه محبته وبغضه، ويتعلم من هم أهل لأن يكونوا أولياءه ومن هم أهل لأن يكونوا أعداءه، تأسيسا على مصدر هو الحكمة التامة ولابد بمجرد انطباق وصف (وحي الخالق) عليه!
أشك يا هذا الأحمق المغرور في أنك قد تفهم شيئا من هذه الحجة لو كنت حيا الآن وسمعتها منا بلسانك! ولو قدرنا أنك فهمتها فما كنا لنجد منك في جوابها إلا السب والسفالة والبذاءة على أي حال، فهنيئا لك نار جهنم، وهنيئا لأتباعك ما أكلوه من خراءتك، وليضحك الحمقى والسهفاء وليقهقوا ما بدا لهم، وطوبى للعقلاء!
الصفعة السادسة:
في قوله بما معناه "ما بالكم تحبون شخصا تهابونه يا هؤلاء المرضى؟"
يقول القرد في ندوة أخرى من ندواته:
لذا فعندما أقول في العنوان الثانوي لكتابي: إنني أعتقد أن الدين يسمم كل شيء، فإنني لا أسلك بهذا الكلام ما يسلكه بعض الناشرين من وضع عناوين مستفزة ومثيرة لاجتذاب القراء! وإنما أقصد أن أقول إن الدين يصيبنا بالمرض في أعظم أصول كرامتنا الإنسانية، حيث يقول لنا إننا لا يمكننا أن نكون أخلاقيين من غير "الأخ الأكبر" أو من غير الحصول على الإذن الشمولي بذلك. بمعنى أننا لا يمكننا أن نحسن إلى بعضنا البعض بدونه. بل يجب أن نكون خائفين، بل ويجب أن نحب "شخصا" نخاف منه، وهو جوهر ذاك الشذوذ النفسي الذي يقال له "سادو-مازوخية" (حب تعذيب النفس)، وهو كذلك جوهر الدناءة وصورة العلاقة بين السيد والعبد، وهو السيد الذي يعلم أن الموت آتيكم، ولا يصبر على إنزاله بكم! أقول إن هذا هو الشر! ومع أني أقضي بعض الليالي في بيتي، إلا أني أكون أكثر استمتاعا بتلك الليالي التي أخرج فيها لأكافح ضد هذا الشر المطلق، وهذا الغباء المحض!
وإليك صفعتنا التالية: دعك من العنتريات الفارغة يا ذاك العربيد، فلقد والله جعل الله منك آية أن جعل عربدتك وإفراطك في أمر نفسك (وهو محض الفساد الأخلاقي في ديننا) سببا في هلاكك، وقد كنت تشهد على نفسك بأن الخمر والتدخين قد قتلاك! فيا ليتك كسرت أنفك وحنيت ركبتيك وضرعت للذي خلقك أن يعفو عنك وأن يمن عليك بما أنزل في الوحي من مكارم الأخلاق ومحاسنها، ومن كمال الحكمة وتمامها، فمن يدري، لعلك لو فلعلت لكنت اليوم بين الأحياء من اجتنابك تلك الخبائث طاعة لأمر ربك الكريم ذي الفضل والإنعام! فلو أنك قبلت تلك "الوصاية الأخلاقية" من خالقك التي تسخر منها تتكبر عليها يا ذاك التافه، لامتنعت عن تلك الأشياء التي أهلكتك، ولصنعت كما يصنع العقلاء الذين شهدوا على أنفسهم بالنقص البشري، فما قابلوا رسل ربهم إلا بالشكر والثناء عليه سبحانه، وبالرضى بما تفضل عليهم به الرب الخالق من نعمة التعليم الأخلاقي الرباني!
فلإن كابرت وقلت كما يقول بعضهم: أنا حر! من حقي أن أهلك نفسي وأن أرتكب في حقها كل حماقة وأنا أعلم أنها حماقة، فلن تجد منا إلا وصفك بما أنت أهله: محض الحماقة! ولا حاجة بالعقلاء لمن يدعوهم إلى السفاهة والحماقة، ولا يلتفت إليهم إلا أحمق مثلهم! وإنما يحتاج الناس إلى من يبصرهم بعيوبهم ويصونهم من شرور أنفسهم، ويعلمهم ما به يستقيم حالهم ويمتاز في نظرهم الخبيث من الطيب! فإن كان مشهودا للإنسان بنقص العلم مهما كمل (ولا يماري في هذا إلا مكابر هالك)، وكان مشهودا للخالق – بضرورة العقل – بكمال العلم والحكمة وتمامهما، وثبت أنه سبحانه قد أرسل للناس رسولا يدعوهم ليعلمهم مكارم الأخلاق ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر، فماذا بقي لمن يرمي ذاك الفضل العظيم وراء ظهره إلا أن يوصف بمحض الحماقة والسفاهة؟
صدق الذي قال في كتابه: ((وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)) [البقرة : 130]
وما وجه الإشكال العقلي أو المذمة الأخلاقية يا ذاك القرد الأعمى، في أن نكون للذي خلقنا عبيدا طائعين، وأن نحبه مع كوننا كذلك نعظمه ونهابه سبحانه وتعالى؟ ألا يصح في العقل أن يجتمع التعظيم والإجلال مع المحبة والرضى التام؟ وهل كنت تطمع في أن يجعلك خالقك ندا له، أو أن يتخذك له ولدا أو صاحبا أو شريكا مثلا؟ صفة العبودية هي الصفة الوحيدة التي تليق بعلاقة المخلوق بخالقه، فالمخلوق ملك لخالقه والمصنوع ملك لصانعه ببداهة العقل، شاء ذلك المخلوق أم أبى! وليس في العقل ما يمنع ذلك المخلوق من أن يحب خالقه وأن يرجو رحمته، وأن يخشاه كذلك ويتقي غضبه، وأن يجتمع الأمران في قلبه! ألم يسبق لك أن أحببت رئيسا لك في العمل أو أستاذا لك في المدرسة، وأنت في ذات الوقت تخشى غضبه وعقوبته؟ فلإن جاز أن يقع ذلك من الإنسان مع مخلوق مثله، فهو مع خالقه أولى بالجواز قطعا، ولكن أنت وأمثالك قوم جحدة مكابرون، لا تعرفون من العقل إلا ما يأتي على هواكم ومزاجكم، قاتلكم الله وأخزاكم!
أما "السادو-مازوخية" هذه فإنما يوصف بها من ارتضى لنفسه أن يجحد ما أنزله الله للبشر من الخير على رسوله، ليظل هو وأهله وسائر الناس غارقين أبد الدهر في تلك البهيمية المحضة التي أهلك بها ذاك التافه نفسه بعدما أفنى عمره في تزيينها لخلق الله من حوله! فالحمد لله الذي عافانا من العفن وأهله!
الصفعة السابعة:
في قوله بما حاصله: "قولوا له إن لم يتركني لحالي فليس لي برب ولا إله"!
وهذا ما جرى في حوار أجراه معه مذيع في برنامج إذاعي (فيما يبدو):
محاور (فيما يبدو وكأنه برنامج إذاعي) يسأله: ماذا لو كان الإله موجودا بالفعل يا سيدي؟ أما كان ليحسن إليك؟
هيتشنز: كلا، ما كان ليفعل ذلك. لأنه لو كان هذا صحيحا، لكان معناه أن لدي والد أبدي خالد، دائم المراقبة لأفعالي، فلن يموت ليتركني أمضي في حياتي وأن أنضج، وإنما سيبقيني تحت المراقبة الدائمة، ويشرف على كل دقيقة من حياتي، ويطلب مني أن أكون شاكرا له وممجدا له على الدوام.
المحاور مقاطعا: ولكن لك إله بالفعل يا سيدي!
هيتشنز يواصل دون التفات: أعتقد أن هذا سيكون أشبه بالعيش في كوريا الشمالية! أعتقد أن النتائج ستكون شنيعة.
المحاور: لا أظن أن الإله هو "كيم جونغ"، ولكن ماذا لو كان ما قلته لك صحيحا ...
هيتشنز مقاطعا: إذن اسأل "كيم جونغ" وفستسمع منه رأيا مختلفا!
وإليك صفعتنا السابعة على قفا ذاك الهالك: هذه آية التمحض في الهوى ورد الحق بلا دليل ولا برهان إلا أن نفس ذاك الملعون تكرهه! فلا شيء مما ذكره ذلك القرد من صفات يكرهها في الإله الذي يرفض أن يعبده، يصح في العقل أن تعتبر نقيضا لمطلق معنى الإحسان إلى المخلوق كما يزعم، أو أن يلزم منها النقص في صفاته بما ينفي عنه الحق في أن يتألهه خلقه ويعبدوه! تأمل كيف يشرع الملعون في الكلام عن علاقته بخالقه بتشبيهه بمخلوق من المخلوقات الناقصة (الوالد البشري) بما أجزم بأنه كان على يقين في نفسه من بطلانه وامتناعه! وما ذاك إلا ليفتح لنفسه بابا للتلبيس على السامعين، فيمرر تحت ذلك الوصف ما يقتضي اعتقاد المذمة في تلك الحال التي فصّل في وصفها بعدُ! ذلك أنه لا يحسن في العقل بوالد من بني آدم أن يراقب ولده دائما وأبدا في كل حال، وألا يكون لذلك الولد أدنى قدر من الخصوصية أو أن يكون له سر يسعه أن يخفيه عن ذلك الوالد! وقطعا لا يحسن في العقل تلك الصورة التي يصورها لذلك الأب الذي لا يريد أن يترك ولده "لينضج" ويستقل عنه بالعقل والرأي فلا يعيش إلا تابعا له، شاكرا ممجدا خاضعا له ما بقي حيا! لماذا لا يحسن ذلك بين الوالد ووالده؟ لأنهما مخلوقان كلاهما، مملوكان لخالقهما، لا لبعضهما البعض، وهذا واضح ولله الحمد! فكيف وبأي عقل أجاز ذاك الشيطان لنفسه أن يقيس ربه الذي خلقه وسواه وعدله، على ذاك الأب المتسلط الذي تفنن في وصفه وتنفير السامعين منه؟ ليس ربك الذي خلقك بأبيك ولا أستاذك ولا رئيسك في العمل ولا شيء من ذلك، وأنت تعقل ذلك قطعا يا عدو نفسك، ففيم المكابرة؟
ولا يكتفي الملعون بصورة الوالد المتسلط بما تأباه نفوس الأسوياء، بل يزيد ليضيف إليها صورة الطاغوت البشري المتأله، الذي يأمر البشر أمثاله بأن يكونوا له عبيدا! ومع أن محاوره نبهه إلى أن الرب الخالق ليس بشرا قطعا، إلا أنه لم يبال بذلك، وأجابه بأن الطاغوت المذكور يرى نفسه هو ذاك الإله الخالق! فمن ذا الذي تخادعه بهذا الهراء يا عدو نفسك، ومن ذا الذي تحسب أنك قد خاطبت عقله بما ينزع من نفسه القناعة بضرورة وجود الخالق، وبأحقيته في أن يطاع رسوله وتتبع شريعته ويخضع المخلوق له خضوع المملوك لمالكه، وأن يعبد وحده لا شريك له بما لا يجوز في العقل أن يبذله إنسان لإنسان مثله؟ لا والله ما خطبت عقلا ولا منطقا ولا صفعت أحدا إلا نفسك، وإنما غايتك أن تفننت في دغدغة مشاعر السفهاء من أقرانك والمفتونين بك، بل لعلك قلبتهم على أقفيتهم من شدة الضحك على سخريتك واستهزائك بالدين وأهله في كل مناسبة، حتى تبعتك تلك الثلة من السفهاء الذين جعلوك رأسا من رؤوسهم في نحلة ليس فيها رائحة العقل أصلا!
فهذه سبع صفعات متتابعات على قفا قرد الإلحاد الهالك "كريستوفر هيتشنز"، ولدينا بعون الله المزيد، نضيفه إلى هذا الشريط إن كان في العمر مزيد، والله أسأل الإخلاص والقبول، والحمد لله رب العالمين.
------------------------------
قضية التعريفات هذه في غاية الأهمية، وينبغي أن ينتبه إليها كل من ينتصب للرد على فلسفات الملاحدة، بل يجب أن تكون هي منطلق كل جواب. فعند التأمل في تعريف القوم للإيمان Faith على سبيل المثال، يتبين لك أن مقصودهم به صورة مخصوصة من صور الاعتقاد الجازم في النفس، وليس سائر ما تلك صفته من المكنونات المعرفية في نفس الإنسان (أنه قطعي أو يقيني). فإذا انضاف إلى تعريفهم للإيمان، أركان النحل المادية المعاصرة في فلسفة المعرفة التي منها نفي إمكان التحصل على شيء اسمه "اليقين" أو "القطع" في نفس الإنسان أصلا، حتى ما كان داخلا إثباته في دائرة المشاهدة والحس المباشر، أصبح – بالتبعية – كل ما يقال له "إيمان" مرادفا في اصطلاحهم للجهل والخرافة، ومضادا "للعلم" (على تعريفهم للعلم أيضا، الذي هو من أركان تلك النحل الفلسفية المذكورة). وعلى الرغم من أهمية هذا التدقيق الاصطلاحي في دحض أباطيل فلاسفة الإلحاد في زماننا، إلا أنه في الحقيقة مما لا تتوقع أن تجده في أجوبة النصارى ونحوهم من اللاهوتيين وأهل النظر من أهل الملل الأخرى في الرد على هؤلاء، إلا عند أهل التحقيق من المسلمين، ولله الحمد والمنة. ذلك أنهم الطائفة الوحيدة في الأرض التي منّ الله على المستقيمين منها (عقيدة ومنهجا) بالتجرد من الافتتان بتلك الفلسفات المعاصرة التي اكتسحت أوروبا من خمسة قرون خلت حتى دانت لها الكنيسة نفسها ورضخت لسطوتها الفكرية راغمة مضطرة، فكان المسلمون أحظى الطوائف بالحق ضربا به في أصول الأصول وفي قواعد البنيان مما لم يعد أحد من أهل الغرب – إلا من رحم ربك – يجترئ حتى على مجرد تصور المنازعة فيه!
وقد يعجب بعض الإخوة عندما يرون أن كثيرا مما رأوه في كتابات جرذان المنتديات مرجعه في الحقيقة إنما هو تلك "الصفعات" الدراماتيكية التي تأخذ بتلابيب السهفاء من هؤلاء.
"حديقة الملاهي" هي الترجمة الأقرب لهذا التعبير، وإن كانت في الحقيقة ليست مجرد حديقة ملاهي بالمفهوم الشائع في بلادنا، ولكنها حديقة لها سمة غالبة Theme أو موضوع غالب عليها، وهذا الخيار في التعبير أشد وطأة وأبلغ في السخرية والاستهزاء بعقيدة اليوم الآخر ولا شك.
وترجمتها المهذبة أن يقال: هراء وسخف. ولكنها كلمة نابية في الحقيقة، معناها الحرفي: براز الثور!
الترجمة المهذبة: سحقا لهذا! وهي في الحقيقة كلمة شديدة القذارة أتنزه عن ترجمتها.
وهذه عندي وعند سائر العقلاء سبة وإهانة، أما هو فهي عنده حقيقة علمية يفخر بأنه يقول بها، فليهنأ بها هو وأولاد عمومته من فصائل الشيمبانزي والأورانغوتان!
الحمد لله القائل في محكم التنزيل: ((بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)) [الأنبياء : 18]، والصلاة والسلام على من بعثه بالمحجة البيضاء الصافية، الملة الحنيفية التي لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه،
أما بعد، فمن بلايا هذا الزمان أن ظهرت في الأرض طائفة من الماديين يقال لها "الملاحدة الجدد" Neo-Atheists، اتخذت من فلسفات الطبيعيين المعاصرة دينا تزيت فيه بزي العلم وزرا وبهتانا، حتى امتازت عن غيرها من طوائف الإلحاد بأن صار لها – ولأول مرة في التاريخ – دعاة متخصصون في مخاطبة عامة الناس (خارج الوسط الأكاديمي الفلسفي والعلمي) تحت راية "نشر الوعي العلمي" Science Popularization في الأعم الأغلب، وتحت راية التفكير العقلاني Rational thinking وتحرير العقل Free-thought ونحو ذلك من الشعارات الرنانة المصممة خصيصا لاصطياد تلك الفئة من السفهاء والعامة من أهل الملل الفاسدة، الذين لن يجدوا في هؤلاء "الدعاة" إلا ثلة من "العقلاء المستنيرين" الذين فطنوا لخرافة وتناقض الملة التي يدين بها أكثر أهل ذاك المجتمع الغربي الذي يخاطبه هؤلاء (ألا وهي الملة اليهودية والنصرانية وما تفرع عنهما من نحل ومذاهب فكرية يعتنقها الغربيون المعاصرون)، فجاؤوهم بمزيد من الإغراق في تلك الدعوة التي أخرجت أوروبا (على حد دعواهم) قبل خمسة قرون من ظلمة الكنيسة الرومية إلى نور العلم والمعرفة بتعظيم العقل التجريبي والدليل الحسي، فحررت أوروبا من الخضوع الفكري لا للكنيسة وحسب ولكن لسائر صور المعتقد الديني أيا ما كانت، على اعتبار أن "الدين" في تعريفهم الاختزالي الساقط هو كل نظام اعتقادي Belief system يعتمد على إثبات الخالق في الغيب (فيما وراء الطبيعة المحسوسة)، ويقوم الإيمان فيه Faith على التسليم الأعمى بلا أدلة وبراهين! (1)
وقد كان من سمات تلك الثلة الجديدة من دعاة الإلحاد الغربيين اتخاذهم مسلك الهجوم العنيف (فيما صار يقال له الإلحاد الحربي Militant Atheism) ضد "الدين" (هكذا) وكل ما له تعلق به، حتى صرت ترى لأول مرة (في التاريخ المعاصر على الأقل) كتبا يصرح مؤلفوها بالسب المباشر الصريح للإله (سبحانه وتعالى عما يصفون علوا كبيرا) تحت عناوين من صنف "وهم الإله" و"الإله ليس عظيما" ونحوهما. فمن مرتكزات تلك الطائفة في دعوتها (لا سيما أربعة منهم صار يقال لهم: فرسان الإلحاد الأربعة، ألا وهم البيولوجي "ريتشارد دوكينز"، والفيلسوف "دانيال دينيت"، والكاتب والباحث "سام هاريس"، والصحفي المتحذلق الهالك، موضوع هذا المقال، المدعو: "كريستوفر هيتشنز") مداعبتهم للعاطفة "الثورية" في نفوس أهل الملة النصرانية في بلادهم على وجه الخصوص، التي تنبع لدى السواد الأعظم منهم من اليقين المبطن لديهم ببطلان ملتهم وتناقضها في نفسها! فكان أن خرج هؤلاء بالسخرية الصريحة والتسفيه اللاذع لتلك الملة وكتابها ورموزها، بغية تجرئة عامة أتباعها على الثوران والانقلاب عليها وعلى رؤوسها في بلادهم. وقد حرصوا بطبيعة الحال – وعلى عادتهم الخبيثة التي لا يمكن الترويج للمعتقد الإلحادي إلا بها – على أن يألحقوا سائر الملل المتألهة الأخرى Theistic religions بالملة النصرانية في ذلك التسفيه العام العريض، وفيما تكلموا به من هجوم موجه – بالأساس – لمخاطبة العامي الجاهل من أهل تلك البلاد التي ظهروا فيها.
ولأن هذه طريقتهم ومنهجهم، ولأن العامة الجهلاء هم هدفهم الأول، ولأنهم هم أنفسهم عوام في الفلسفة (اللهم إلا المدعو "دينيت" الذي يشهد عليه أقرانه بالضعف العلمي) جاءت تلك الكتب التي ألفوها والمقالات التي نشروها، في غاية الضعف من الناحية الفلسفية، بمعنى أنها لا تنهض حتى لمجرد تصور الأجوبة والردود العقلية والكلامية التي حورب بها الملاحدة على أيدي سائر الفلاسفة والنظار من أهل الملل الأخرى على مر الأعصار، إن حاول أصحابها التطرق إلى ذلك فيما يكتبون. ولهذا جاء كتاب "دوكينز" المعنون "وهم الإله" (ودوكينز هو الأشهر في هؤلاء الدعاة على الإطلاق) في غاية السطحية والخواء من الناحية العقلية والفلسفية، حتى ضحك فلاسفة الإلحاد أنفسهم قبل مخالفيهم من طريقته في تناول الحجج المثبتة لوجود الإله عند اللاهوتيين النصارى! والسبب في شهرة الكتاب الواسعة في الغرب على الرغم من هذا السقوط العقلي والفكري الكبير، هو ما تقدم من تخصص تلك الثلة الشيطانية الخبيثة في مداعبة عواطف العامة والدهماء من أهل النحلة النصرانية، وممارسة سائر صور التزيين للإلحاد على أنه حامي حمى العلم والعقل والرقي الفكري والتقني .. إلى آخر هذا الهراء. وقد بينت منهج دوكينز في كتابه "وهم الإله" في إغراء واستمالة هؤلاء في كتابي "نسف أساسات الإلحاد" Blasting the Foundations of Atheism بما أرجو أنه لا مزيد عليه، ولله الحمد. والمقصود ههنا بيان أنه منهج تلك الطائفة من الدعاة بعموم، وإن كان قد تفاوت أولئك الأربعة ولا شك في مدى سلاطة ألسنتهم في نقد الأديان وأهلها، وفي مدى تعويل كل واحد منهم على الدعاية للنحلة الطبيعية المعاصرة تحت لبوس نظريات العلم الحديث.
ولقد كان للهالك المدعو "كريستوفر هيتشنز" نصيب الأسد في السفالة والبذاءة وفحش اللسان في مهاجمة الأديان وآلهتها ومقدساتها، حتى كان من المعتاد أن تسمع منه ألفاظا نابية خادشة للحياء في مناظراته العلنية مع خصومه، بل ما كان يبالي بأن يسب ويشتم عامة الحضور في تلك المحافل العامة التي كان يدعى إليها (المفترض في كثير منها أنها ملتقيات للصفوة في الأكاديميات العلمية والجامعية) بأقذع الشتائم وأفحشها! ولعل الله أن يكون قد عجل له العقوبة في الدنيا (كما نرجو)، إذ أهلكه قبل بضعة أشهر بمرض السرطان في حنجرته، حتى تركه عند موته هيكلا عظميا هشا لا يقوى على الكلام من بعد أن كان رجلا بدينا لسنا يملؤه الكبر والغرور، نسأل الله أن يلحق به إخوانه عاجلا غير آجل.
هذا المهرج العربيد سليط اللسان (الذي كان لطريقته – فيما أزعم - دور بارز في تجرئة ملاحدة الإنترنت على ركوب مطايا الاستهزاء والسخرية البالغة من الإسلام والمسلمين في بلادنا) (2)، لعله كان مع تلك الجرأة البالغة أقل دعاة تلك الطائفة ثقلا من الناحية المعرفية والعلمية. فقد كان في بدايته مراسلا صحفيا في مجلة من مجلات اليسار السياسي في أمريكا، فما كان يزيد شبرا في علمه ولا في ثقافته على عامة الصحفيين والمحررين ممن يكتبون في أمثال تلك المجلات. وإنما اشتهر الرجل لعلو صوته وسعة انتشاره الإعلامي بما اختاره لنفسه من مواقف سياسية شاذة كانت ولا تزال مثارا للجدل، دع عنك – ولا شك – تخصصه في النقد اللاذع العنيف للدين وأهله، على قاعدة "خالف تعرف"! ولعل من أشهر شذوذاته عن رفاقه من الملاحدة، مناصرته للحرب ضد العراق، ولمطلق استعمال البطش العسكري ضد "الفاشية ذات الوجه الإسلامي" (على حد عبارته) هناك وفي كل مكان. وقد كان يفاخر بأنه ليس محلدا فحسب Atheist بل إنه قد ضرب لنفسه كلمة جديدة تَسَمّى بها ألا وهي "عدو الإله / الآلهة" Anti-theist، ويعني بها من لا يكتفي بأن يقف عند حد الاعتقاد بعدم وجود إله لعدم كفاية الأدلة (كما هو زعم الملاحدة) بل يجاوز ذلك لإعلان الحرب على مفهوم "الإله" نفسه، واعتقاد أنه هو الشر المحض ومصدر كل وبال في تاريخ البشرية!
وقد اشتهر "هيتشنز" بطريقته في محاورة ومناظرة مخالفيه كما تقدم، إذ كان يعرف بأسلوب ساخر ماكر يزعم محبوه أنه كان هو القمة في إسقاط حجج المخالفين، حتى بات يعرف في قواميس اللسان العامي اليوم Urban Dictionaries باسم "الصفعة الهيتشية" Hitchslap. فلأن الرجل كان مشهودا له بسرعة البديهة وقوة البيان، فقد كان يتمكن من الرد على خصومه في المناظرات والحوارات العلنية بكلام موجز سريع ربما يتأخر الخصم عن فهم مغزاه وما فيه من سخرية واستهزاء، وما يتضمنه في سياق ذلك من كلام فيه شبهة هدم لحجج ذلك الخصم ودعاواه (بصرف النظر أصاب في ذلك أم أخطأ)، ليأتي ضحك أنصاره من الحضور وتصفيقهم بما يتم به تأثير "الصفعة" أو "الضربة القاضية".
ولأني رأيت أنه قد انتشرت في أوساط السفهاء من ملاحدة الإنترنت العرب بعض المقاطع التي فيها نماذج لتلك "الصفعات" المزعومة، التي صنعت من الرجل "نجما" من نجوم هؤلاء حتى ترجموها إلى العربية ونشروها فيما بينهم، فقد رأيت أن أستفرغ بعض الوقت محتسبا لله تعالى، حتى آتي على ذاك التافه أدق عنقه بما هو أهله، وأبين بالبرهان الكافي أنه لا يزيد شبرا على أولئك الحمقى من ملاحدة العرب الذين يكتبون في المنتديات، في مقال أجمع فيه جملة من تلك "الصفعات" ما يكفي لبيان المطلوب، وبيان أنه لولا لهجة السخرية اللاذعة ومداعبة عواطف الغوغاء من أتباع الرجل بتلك "الكوميديا السوداء" التي احترف الكلام بها، لما التفت إليه أحد حتى من الملاحدة أنفسهم.
وقد سميت المقال "الصفعات المتتابعات على قفا الهالك المدعو كريستوفر هيتشنز" لأن الصفعة الحق، هي تلك التي تفضح صاحب الهوى وتكشف عورته لكل عاقل، لا تلك العنتريات المسرحية التي اشتهر بها ذاك التافه، يجتذب بها السِفلة من أهل الأهواء أمثاله! ولقد تعمدت أن أترك العزو إلى روابط تلك المقاطع على موقع يوتيوب لأني لا أرى مشروعية الإحالة على تلك المزابل! كما أني قد اشترطت على نفسي في ترجمتي كلام الرجل شرطا، أن أنقل الألفاظ الخارجة في محلها باللغة الانكليزية حتى يفهمها من له دراية باللغة الانكليزية، ويعلم القارئ العربي أن في ذلك الموضع لفظا فاحشا قد يتنزه كاتب هذا الكلام عن ترجمته إلى نظيره العربي. كما اشترطت فيما أكتبه ردا على كلام الرجل ألا أجعله مقصورا على تلك الصفعات المركزة على قفاه، لأن الغاية من هذا المقال ليست مقصورة عندي على تدميره، فهذا أمر ميسور ولله الحمد، وإنما الغاية تتجاوز ذلك في الحقيقة. فقد جعلت في ذيل كل "صفعة" من صفعاتي إضافة أو فائدة للقارئ المسلم الذي له عناية بالتصدي للرد على هؤلاء السفهاء المتغطرسين من دعاة الإلحاد الجديد، والله المسؤول أن يجري الحق على ألسنتنا وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
الصفعة الأولى:
في قوله بما حاصله: يجب على صانع هذا العالم إن وجد أن يجعله "حفلة أبدية"!
تكرر منه هذا المعنى مرارا، كما في كلامه في ندوة علنية عن مسألة الحياة بعد الموت (العقيدة في اليوم الآخر)، حيث يقول هيتشنز ساخرا:
يحدث لك في مرحلة ما من مراحل حياتك أن تجد من يربت على كتفك ولا يقول لك: "الحفل انتهى" وإنما يقول: "الحفل مستمر وعليك أن تغادر الآن، وسيستمر الحفل بدونك". (يضحك الحضور بل يقهقهون). هذه – فيما أرى - هي الفكرة التي تضايق البشر بشأن هلاكهم. ولكن هب أنه بدلا من أن يقال لك هذا الكلام، قيل لك نقيضه التام: "الحفل مستمر إلى الأبد، ولا يمكنك أن تغادر! السيد صاحب المكان يصر على أن تبقى، ويصر أيضا على أن تقضي وقتا ممتعا"! لقد قرأت عن والد "ديفيد" وقد مررت أنا نفسي بوقت عسير على أثر وفاة والدي. ولكن الأب الذي يقترحه أصحاب الديانات التي تؤمن بالخالق Monotheism هو أب لا يموت! فهو يطمئن أولاده: "لا تقلقوا لن أترككم أبدا! لن تروا نهايتي أبدا! لن تسنح لكم الفرصة للشعور بالأسف على فقدي! فأنا دائم الوجود! أنا صاحب الديكتاتورية المحضة المطلقة! وفي محاكمي ليس ثمة استئناف!" فهل حقا تعتقدون أن هذا سيسعد أي مخلوق عاقل ذي شعور Sentient being أو النوع البشري أو أي كائن قادر على الشعور بأي شيء؟ أنا أشهد بأن هذا محال! (تصفيق حاد من الحضور).
ونوجه نحن إليه صفعتنا بالحق فنقول: من ذا الذي له أن يزعم يا هذا التافه أن من كان له سيد قد وضعه في مكان ما لغاية ما، فإنه يتعين على ذاك السيد ألا يجعل قصده وغايته في الأمر كله إلا أن ينعم على عامله أو عبده أو مرؤوسه ذاك بل يبذل له غاية ما في قدرته من الإمتاع والتنعيم، وأن يجعل الأمر "حفلة شاي" سرمدية لا نهاية لها لمجرد أنه قادر على ذلك؟ من الذي قال إن كل من كان قادرا على فعل شيء يحبه أولئك الذين يخضعون لسلطانه، تعين عليه أن يفعله مطلقا؟ من أين جاء ذاك الوجوب وبأي قاعدة أخلاقية أطلقته؟ هذه التفاهة التي تتكلم بها لا يسعك – والله – أن تلزم بها عاقلا من بني آدم أمثالك ممن لهم تسلط وسيادة على غيرهم في الأرض، لأن عقلك – إن كان لك عقل – يجيز أن يكون لذلك السلطان البشري غايات ومقاصد لا يكون هذا التنعيم والترفيه الغامر الذي تشتهيه لنفسك جزءا منها، فما بالك بالذي يزعم العقلاء أنه خالقهم وخالق كل شيء؟ ثم من ذا الذي قال إن خالقك هو أبوك الذي "عليه" أن يرعاك رعاية الأب لولده، وعليه أن يسعدك ويسعد كل مخلوق عاقل
صدق الذي قال سبحانه: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [الزمر : 67]
وهنا استطراد لزيادة الفائدة: الكلام كما ترى أيها القارئ اللبيب مغرق في مداعبة ودغدغة عواطف الملاحدة، بتلك الاعتراضات الصبيانية التي اشتهر بها أصحاب "مشكلة الشر" من مثل قولهم "لماذا يخلقنا، أما كان خيرا لنا أن يتركنا في العدم ولا يكلفنا بشيء أصلا؟ أما كان خيرا لنا أن يخلقنا في نعيم أبدي سرمدي ولا يسلط بعضنا على بعض ولا يبتلينا بشيء البتة؟ لماذا علينا أن نقبل منه أن يرسل إلينا رسلا يكلفوننا بعبادته والخضوع التام لسلطانه المطلق ونحن لا نراه؟" إلى آخر تلك الاعتراضات التي ينطلق منها فلاسفة الإلحاد المعاصرون ويلبسونها لبوس الدليل المنطقي أو العقلي على أن ثمة "مشكلة" ما فيما يزعمه أتباع المرسلين من صفة للعلاقة بين الخالق وخلقه، ولمطلق فكرة أن يجعلنا خالقنا في الأرض على هذا النحو لا على غيره! تلك الاعتراضات التي سئمنا منها وليس لها عند العقلاء إلا جواب واحد: "سلمنا بأن هذا أحسن لكم وأحب إلى أنفسكم، فبأي حجة في العقل المجرد جعلتموه واجبا على خالقكم تجاهكم؟" حتى على أصلهم الفاسد في قياس أفعال خالقهم على أفعالهم، وحكمته على حكمتهم، وتقييدها بقيودهم المعرفية البشرية القاصرة، فإن أحدا من عقلاء البشر لا يرتضي أن يفرض العبد أو الخادم على سيده، أو المرؤوس على رئيسه، أو الأجير على مستأجره، أو حتى الولد على أبيه = ألا يفعل به إلا ما يحبه ذلك العبد أو الخادم أو العامل أو الأجير لنفسه ما دام قادرا على ذلك!
طالما كان ثمة قاعدة متفق عليها بين العقلاء في الحكم الأخلاقي على الأفعال مفادها أن الشر (أو المكروه) قد يقبل ويصح (أخلاقيا) ما دام فاعله يستهدف منه خيرا راجحا يقال له الخير الأعظم، أو بلغة هؤلاء: The Greater Good، فإن الحكم على الفاعل الذي صدر عنه مفعول فيه شر (على تعريف الشر على أنه الأمر المكروه لبعض الناس أو لجميعهم)، يظل ببداهة العقل متوقفا على الإلمام المعرفي بغايات ومقاصد وحكم ذلك الفاعل من وراء ما فعل! فلماذا يستجيز هؤلاء السفهة القفز على ما يجهلون والتكذيب بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله؟ لماذا يمنعون بكل حزم في دوائرهم الأكاديمية من تجاوز التخصصات المعرفية وكلام من لايدري فيما لا يحسن، ثم تراهم يسهل عليهم الحكم بالفشل والفساد على صنعة لم يقفوا على تفصيلها على حد الإحاطة، ولا على بيان صانعها لغايته من صنعها أصلا؟ إنه الهوى المحض الذي يعمي صاحبه عما هو غارق فيه من التناقض، كما هو معهودنا بسائر أهل الملل الفاسدة!
والعجيب – كما تناولت ذلك بشيء من التوسع في المجلد الثاني من كتابي "نسف أساسات الإلحاد" - أن هيتشنز نفسه كان من أشد الناس تمسكا بمبدإ العواقبية في فلسفة الأخلاق، على الأقل في حيز التطبيق إن لم يكن في حيز التنظير كذلك، ويظهر ذلك بجلاء في موقفه المؤيد لحرب الأمريكان في العراق ضد "الإرهابيين"! كل من يؤيد إرسال جيش لدولة أخرى للقتال فيها، واحتمال الخسائر المادية والبشرية والآلام والشرور والعذابات التي يقتضيها مطلق مفهوم الحرب والقتال نفسه، لأجل مصلحة راجحة لديه في استئصال من يراهم طغاة أو أشرار أو مجرمين في هذا العالم لا يتحقق الخير العام للناس إلا بزوالهم من الأرض، هذا يقول بما يتفق عليه عقلاء البشر من قاعدة احتمال الشر القليل لجلب خير راجح وافر لا يتصور جلبه إلا من هذا الطريق! وأقول إن هذا عجيب، وهو عند هيتشنز وأتباعه من التناقض الذاتي في بناء المعرفة الفردية لديهم ولا شك لأنهم إن كان هذا مذهبهم في الأحكام الأخلاقية على أفعال كل فاعل مريد له اختيار وقدرة، فلماذا لا تتسع عقولهم لإعمال ذلك المذهب نفسه عند الكلام على مفعولات الخالق الذي يوجب العقل له سائر الكمالات في صفاته؟ أي تناقض هذا وأي كيل بمكيالين الذي يتكلم به هؤلاء عندما يجزمون بكل سهولة بأن الخالق الذي يؤمن به عقلاء البشر لا يمكن أن يترجح لديه خير راجح وفير (بضابطه في علم الخالق، لا في علم المخلوق كأن يكون هو ما يحبه المخلوق لنفسه مثلا!) من مطلق تمكين النوع البشري من ممارسة الحرب والقتال والتدافع فيما بينهم بالبطش والسنان، بينما تراهم يستجيزون لأنفسهم سفك الدماء طلبا لتحقيق خير يرونه أرجح؟
بأي حق يعترض هيتشنز على مطلق مفهوم "الحرب المقدسة" عند أهل الأديان، بينما يجيز لنفسه الانخراط في "حرب نبيلة" ضد من يسميهم بالإرهابيين، طمعا في صلاح البشر وعموم الخير لهم؟ واقع الأمر أن المسألة ليست إلا اعتراضا صبيانيا على مفهوم التشريع الإلهي نفسه! يسخر ذاك المجرم وأمثاله بكل وقاحة من شرائع يجدونها في كتب أهل الأديان لا لشيء إلا لأنها في كتب أهل الأديان، بينما لو تكلم بمثلها (في مبدئها الأخلاقي العام لا في تفصيلها) فيلسوف من فلاسفتهم لما رفضوها منه بدعوى أنها لا-أخلاقية أو بربرية أو نحو ذلك! فهل هذه هي العقلانية التي يطالبون العالم بتلقيها عنهم، لعنهم الله؟
هذا النموذج من الاعتراضات التافهة على حكم وإرادات الخالق، كانت فيما مضى لا تزيد على كونها محاولات من بعض فلاسفة الإلحاد والمادية لإثارة مشكلة فكرية لا يزيد أصحابها على استثمار حالة الحيرة التي تنتاب اللاهوتيين النصارى على وجه الخصوص بإزائها، لاعتقادهم بأن الخالق "قد أحب جميع خلقه جدا"، حتى يتخذوا لإلحادهم غطاء من التسويغ والتبرير النفسي، وحتى يفتحوا بابا جديدا من أبواب الجدل المتصل الذي يتترسون به حتى إذا ما قال لهم قائل: "ألا ترون بطلان من أنتم عليه؟" أجابوه في كل مرة باستمرار الجدال الذي لا ينتهي بين الفلاسفة! فكان الجديد الذي جاء به هذا الملعون هيتشنز ورفاقه أن قلبوا ذلك الإشكال الذي تكلفته الفلاسفة وتنازعته فيما بينها إلى برهان على بطلان سائر الملل والأديان التي تؤمن بالخالق الديان، ليس هذا فحسب، بل على كونها هي الشر الأكبر في هذا العالم! والآن، في زمان "حرية التعبير" المطلقة هذه، أصبح العقلاء مطالبين بأن يتقبلوا كل سفاهة وكل سفالة وانحطاط عقلي وفكري وأخلاقي يتكلم به أحدهم، تأسيسا على عقيدة الملاحدة أنفسهم (وإن خالفهم من خالفهم من عقلاء الأرض) في أنه ليس ثمة شيء في الوجود له قدسية أو له حصانة أخلاقية أو له قدم علو في دائرة المفاضلة بين الحق والباطل، وإلى الله المشتكى.
الصفعة الثانية:
ما أسهل أن تسبح بحمد الدليل وأنت أبعد الناس عنه!
يقول صاحبنا:
نحن لا نستحسن فكرة هلاك أنفسنا أو هلاك الكون نفسه الذي سيكون سببه الانخفاض الإنتروبي لدرجة الحرارة فيه إلى حد التجمد، ولكن لدينا الكثير من الأدلة التي تدل على أن هذا ما سيحدث. وفي المقابل فثمة أدلة قليلة جدا جدا على أنني سأراكم كلكم مرة أخرى فيما يشبه "حديقة الملاهي" Theme Park (3) (يعني بعد الموت)! ليس ثمة أدلة تدعم هذا الأمر مطلقا! لذا فأنا على استعداد لأن أقبل – تأسيسا على الأدلة – نتائج قد لا تكون محببة لنفسي. اعذروني إن كنت أبدو وكأني أملي هذا الكلام إملاءً!
وهذه صفعتنا بالحق، نقول: بل أنت كالطفل المارق الذي لا يستحسن الذهاب إلى المدرسة لأنه يضطر إلى النهوض مبكرا من فراشه كل صباح، ولولا هذا لقبلت بأطنان الأدلة الدامغة على صحة دين الإسلام، من بعد الإقرار بما يشهد به العقلاء من ضرورة وجود من خلقك وصنعك ووضعك في هذا العالم لغاية وحكمة ليس يدخل فيها إغراقك في الحلوى واللعب والشيكولاتة من يوم ميلادك وإلى الأبد حتى ترضى! لا شيء أسهل من التفذلك بدعوى أنه "ليس ثمة أدلة على الإطلاق"، يطلقها صاحبها بكل ثقة، ويكررها بقوة وحزم في جو من الزخرف اللفظي والفكري، فإذا بها تنزل من نفوس السفهاء والمغفلين منزلا! ومع ذلك نقول: صدقت يا ملعون وإنك لكذوب، فقطعا ليس ثمة أدلة على أن مثلك سينقلب بعد موته إلى "حديقة ملاهي" يلقى فيها من يحب، يأكل ويشرب ويلعب حتى الثمالة!
استطراد للفائدة: يجب أن يتنبه المسلمون إلى حيل هؤلاء السفهاء في تلبيس دعاواهم الغيبية المحضة لبوس نظريات العلم الطبيعي، ودعواهم – من ثمّ – تعارض العلم مع ما يحدثنا به الوحي من أخبار الغيب في نهاية الكون وما يكون للناس بعده! فنقول أولا: هذا الهلاك الإنتروبي المزعوم، بأي عقل يوضع على قدم التعارض مع وجود حياة أخرى بعد الموت، كما يبدو من تلك المفاضلة التافهة التي تطلقها هكذا بكل سهولة وكأن من تخاطبهم صبية صغار لا يعقلون؟ وأي أدلة هذه التي تزعم أنها كثيرة جدا على أن هذا الهلاك الإنتروبي سيحدث لا محالة؟ هذا الهلاك الكوني المزعوم بالتآكل والتفتت العشوائي ليس نظرية علمية أصلا وإنما هو اعتقاد ميتافزيقي إلحادي باطل، يقوم على اعتقاد أن الكون ليس له خالق في الغيب يضبطه ويمسكه من الزوال، فلا تقوم قيامته إلا حين يشاء هو وحده، وعلى نحو ما يشاء هو وحده! صحيح إن مبدأ الاستمرارية الكونية الذي يقال له Cosmological Principle له صورة واحدة على الأقل معتبرة في المنطق الاستقرائي الإمبريقي في التعامل مع أحداث الكون والنظر في ماضيه ومستقبله من خلال ما يجري الآن فيه من أحداث، إلا أن هذا الأمر ليس بلا قيد ولا ضابط، كما يعزمه الطبيعيون الماديون من فلاسفة العلم! فليس من حق عالم طبيعي أن يزعم أن مبدإ الاستمرارية يجيز له افتراض تلك الصورة الهزلية لهلاك نظام كوني يشهد الحس بانضباطه على نظام دقيق، ويشهد العقل بضرورة خضوعه لإرادة خالقه، ومن ثم ضرورة التقيد في هذا الصنف من القضايا المعرفية بما جاء به الوحي على الأنبياء والمرسلين. أما النظرية العلمية فغايتها في هذا أن تفترض – على استحياء - أن الكون يتمدد باطراد وأن من نظامه (وأكرر: من نظامه) أن النظم المركبة تتفكك ولو بعد حين (لتتركب في مكانها نظم أخرى)، وأن الحرارة تنتشر في الفراغ بمر الوقت (لتتحول غالبا إلى صور أخرى من الطاقة)، هذه كلها نظم مركبة متداخلة من التفكك والتركب composition / Decomposition كان ولا يزال الكون يعمل بها من يوم أن خلق، فمن أين يأتي الزعم بأن الكون سيهلك كله بالتفكك والتآكل بسبب هذه النظم المطردة فيه نفسها، وكأنه شيء عشوائي لا نظام له ولا قائم عليه، ومن أين تأتي تلك "الأدلة الكثيرة" التي تؤيده بزعم هذا التافه؟ ليس من العلم الطبيعي قطعا!
ومع هذا، وعلى الرغم من تلك القفزات الإيمانية الكبيرة Leaps of faith التي يتكلم بها الرجل من منطلق عقيدته الإلحادية الماورائية بدعوى أن العلم أثبت والدليل قرر ونحو ذلك من تخرصات هؤلاء، يطالبنا الآن بأن نسمع منه هذا الكلام ونضحك ونصفق ونهزأ معه بالمساكين أهل "الأديان" فلا نخرج من محاضرته إلا وقد قذفنا ديننا في أقرب سلة للمهملات على باب المدرج! أليس قد قال الرجل بكل قوة: ليس ثمة أدلة على الإطلاق على ما تؤمنون به، والأدلة كلها تؤيد ما أؤمن أنا به؟ انتهى الأمر إذن! فأي شيء تنتظرون يا مساكين؟ تنتظرون "حديقة ملاهي" بعد الموت؟ مساكين حقا!
فهو كما ترى يعول تعويلا تاما على سطحية وجهالة من يستمعون له، لا سيما في العقليات وفي فلسفة العلم الطبيعي! فمتى جاءهم "علامة زمانه"، الصحفي في مجلة Vanity Fair الهابطة، بأن الدليل يقول كذا وكذا، وجب عليهم أن يسلموا له لا لشيء إلا لأن الكلام جاء على الهوى والمزاج!
ولا أملك والله إلا أن أضحك من قوله: " لذا فأنا على استعداد لأن أقبل – تأسيسا على الأدلة – نتائج قد لا تكون محببة لنفسي"! صدقت، أنت آية في التجرد للحق واتباع الدليل ولو جاءك بما تكرهه نفسك يا أستاذ هيتشنز! الرجل يزعم أنه يبرئ نفسه من اتباع الهوى بدعوى أنه قد رفض مزاعم أهل الأديان على الرغم مما فيها من البشارة بنعيم أبدي للبشر بعد الموت! ولكن هل يخفى على أحد من العقلاء في هذا العالم، أن مشكلة الملحد الحقيقية تتمثل بل تتلخص في كراهيته لما جاء مع البشارة من وعيد ونذارة؟ هل يخفى على عاقل أن مشكلة الملحد تكمن بالأساس في رفضه فكرة الخضوع لإله يأمر وينهى ويتوعد بالعذاب الشديد لمن يعصى؟ لو صدق في استعداده لقبول ما يفضي إليه الدليل وإن كان مكروها لنفسه، لقبل بالتسليم والخضوع لخالقه، وطاعته في أمره ونهيه وإن جاءه بما يكره! ولكن كلنا يعلم أصل الإلحاد ومنبته في نفوس أصحابه، ولعله لا يبالغ من يزعم أن هذا المنبت لا يكاد يظهر في زماننا في كلام أحد من رؤوس الإلحاد كما ظهر وفاحت رائحته في كلام ذاك الهالك "هيتشنز" بالذات! تأمل فيما مر بك من كلامه وفيما يأتي بعدُ، كيف أنه يتلخص اعتراضه "الأخلاقي" على تلك الأديان التي أهلك نفسه في تسفيهها والحط عليها، في أنها لم تأت على مزاجه وهواه، وأن الرب لم يجعله في هذه الدنيا مرفها منعما على أحسن ما يحب لنفسه ويرضى! "كيف لا يجعلني في رغد من العيش ونعيم مقيم وهو قادر على ذلك؟ كيف يقضي علي بالآلام والأوجاع وقد كان يسعه أن يمنعها؟ وكيف لا ينزل شرائعه وأحكامه بما يأتي على مزاجي وعلى وفق خياراتي الأخلاقية الشخصية؟ هو إذن ظالم، بل أكثر من هذا: ليس الإله إذن إلا وهما وخرافة من الأساس!" هذه خلاصة دعوى ذاك التافه الملعون، الذي ملأ الدنيا تحقيرا للدين واستهزاءً برب العالمين بدعوى العقل والعلم والاستنارة، عليه من الله ما يستحق.
الصفعة الثالثة:
الفوضى والعشواء والتخبط دينك أنت يا سفيه، لا حقيقة ما يجري في العالم!
يقول علامة زمانه في نفس الجلسة التي قال فيها كلامه السابق:
من المرجح أنه قبل حوالي 180 ألف سنة مضت، حدثت كارثة كبيرة للاحتباس الحراري على الأرض، والتقديرات تشير إلى أن عدد البشر في إفريقيا انخفض إلى ما بين ثلاثين وأربعين ألفا، أي أنهم كانوا في غاية القرب حينئذ من الانضمام إلى جميع الكائنات التي سبق لها الانقراض على الأرض. فثمة نوع من الغرور عند من يفترض أن كل هذا، كل هذا التقلب الفاحش في أحداث العالم وأحواله، كان جميعه من أجلنا نحن البشر! هذا الإهدار الفائق الذي يظهر فيه، هذه القسوة البالغة التي تغلب عليها، هذه العشوائية وهذا التخبط الفاحش الذي يتسم به، كل هذا لا يهم، ما دمنا نعيش فيه! الكون كله قد صمم لك وحدك!
وإليك الصفعة التالية على قفاه العريض: بل الغرور كل الغرور والكبر كل الكبر فيمن يزعم هكذا بكل سهولة أن الفوضى والعشوائية متجذرة في نظام لولا أن ولدتنا أمهاتنا به وعليه وفيه، ما عقلنا ولا وعينا للفظة "نظام" من حقيقة ولا معنى أصلا، ولما قامت لدينا حجة عقلية يستند عليها منطق الاستقراء نفسه، الذي هو أساس العلم الطبيعي الذي يتشدق به ذاك التافه! أي عقيدة عفنة هذه التي يحرص أصحابها على إطلاق وصف الفوضى والعشواء على كل "فجوة" من فجوات المعرفة الطبيعية لديهم، حتى يأتي هذا الكلب اللاهث وأمثاله ليحدثونا بكل وقاحة عن الغرور والكبر في "افتراضنا" أن لنا في هذا العالم منزلة مخصوصة بين المخلوقات التي وضعها فيه خالقه؟ وما هي صفة ذلك العالم الذي يجيز عقل "هيتشنز" (وليس لمثله عقل) أن يكون مخلوقا لغاية عند خالقه تدور حول الإنسان كنوع من أنواع المخلوقات؟ أن يكون جنة نعيم، لا يرى الإنسان فيه إلا الرفاهية واللذة، ولا يتعرض لكوارث ولا لمهالك من هذا الصنف أو ذاك؟ فمن أنت ومن تظن نفسك يا ملعون حتى تشترط على خالقك أن تنحصر غاياته ومقاصده من خلقك وخلق العالم من حولك فيما يكون العالم معه على مزاجك أنت وهواك؟ بالله كيف يقال في هذا الهراء والسفاهة إنها "حجة" مفحمة "تصفع" المخالف وتسقط دعواه، كما يحلو لسفهاء الإلحاد أن يزعموا؟
سبحان الذي أحيانا حتى شهدنا زمانا يصبح السفه المحض فيه عقلا وعلما وفلسفة!
ولا شك بأننا مطالبون بالتسليم الأعمى لكل "حقيقة علمية" يسوقها علينا الأستاذ "هيتش" (كما لقبه أتباعه)، من غير أن نتساءل في طبيعة أدلتها وفي مثقال تلك الأدلة في موازين المعرفة! لا بأس! ولماذا نتساءل ولماذا ننقب وراءه؟ هي كذلك ولابد ما دام الرجل قد جاءكم بها من كتاب قرأه هنا أو هناك! ما بالكم يا أهل الأديان، ألا تقرؤون؟
الصفعة الرابعة:
في قوله بما حاصله: "دعوني أموت وزجاجة الخمر في يدي"!
يقول النابغة في مسألة "الندم والتراجع عن الإلحاد على فراش الموت" (وكان ذلك في ندوة عامة في جامعة يهودية أمريكية):
يبدو أمرا طبيعيا للغاية في هذا المجتمع، أن تقترب من رجل يحتضر على فراش الموت وأنت لا تعرفه، وهو ممن يكفرون بالخالق، فتقول له: "هل ستغير رأيك الآن؟" إنهم يعتبرونه سؤالا مهذبا للغاية! (يضحك الحضور) وكما تعلمون فإن ثمة تاريخا طويلا للتزوير في هذا الأمر، فمن الناس من زعم أن داروين رجع إلى النصرانية على فراش موته، وكذلك اختلقوا الأكاذيب حول توماس بين، والأمر يقع كثيرا. إنها قطعة مقززة من تاريخ البشرية. إنها كذلك صورة رديئة من صور الابتزاز، كأن يقال: "أنظر، لديك فرصة واحدة الآن، ألن تغتنمها؟ أنا أكتب إليك هذا الكلام كصديق!" لقد حاولوا معي ذلك في يوم من الأيام عندما كنت مريضا للغاية في إحدى المستشفيات، ولكن لم أكن متمكنا من الرد عليهم كما كان يحلو لي يومئذ. ولا مانع عندي من سماع هذا الكلام على أي حال، فإنه بوسعي أن أتحمله. ولكن في ظني أن كثيرا من الناس ممن هم أكبر مني سنا وأشد مني مرضا، وربما أقل تعلما منا، هذه التجربة تكون شديدة عليهم للغاية، فهي مسألة محبطة ومقلقة ولا شك أن يخاطبوا بمثل هذا الكلام. يعني لو أني كونتُ أنا و"سام" (يعني صنوه المدعو "سام هاريس" وكان حاضرا في المجلس) فريقا يذهب إلى المستشفيات الدينية - وهو عكس ما يحصل في الواقع -، فنقول لأناس يرقدون في الألم: "هل قلت إنك كاثوليكي؟" – "نعم" – "حسنا اسمع، ربما لا يزيد ما بقي لك من العمر على بضعة أيام، ولكنك لست مضطرا لأن تحياها كعبد! حسبك أن تعلم أن هذا كله لم يكن إلا Bullshit (4) (يضحك الحضور ويقهقهون ويصفقون)! لقد كان الرهبان يخدعونك! وأنا أضمن لك أنك ستشعر بالراحة"
لا أظن أن هذا سيكون عملا أخلاقيا! أعتقد أنه سيكون نوعا من خرق الذوق العام. ولكن ما دام بإسم الإله، فإنه يحظى بالرخصة الاجتماعية، وأنا أقول: Fuck that! (5) (يضحك الحضور ويصفقون تصفيقا حادا)! وهذا ما سأقوله قطعا لو كان هذا هو نفسي الآخير!
وهذه صفعتنا التالية فليعيها عنا من يعقل: كل هذا ليس من الحجة ولا البرهان العقلي في شيء أصلا، وإنما هو تذمر واعتراض ساخر لا أساس له إلا ضيق وضجر رجل يتبع ملة من الملل (ألا وهي الإلحاد)، بصنيع رجل آخر على ملة مخالفة (أيا ما كانت)، وانتهت القضية! يقول – مع كثير من السفالة والبذاءة التي هم أهلها - : "لا أظن أن هذا يسكون عملا أخلاقيا"، ونحن نقول: نعم "الأخلاق" تلك التي يتعلمها العقلاء من أمثالك يا هذا! ما أحسنها وما أحكمها تلك المنظومة الأخلاقية التي ترتكن إليها في أحكامك على ما يصح وما لا يصح، وما يليق وما لا يليق! فلا ظننت ولا عقلت ولا تكلفت أن تقيم دليلا عقليا واحدا في حياتك، لعنك الله، وإنما هو السباب والتحاذق والفذلكة الجوفاء، وكل إناء بما فيه ينضح!
من يذهب إلى رجل يحتضر على فراش موته، وقد علم عنه الجحود المحض والتكذيب بأصل أصول العقل نفسه، وخاف عليه من أن يهلك على ذلك الجحود لأنه يراه قد قامت عليه الحجة بعد الحجة على بطلان ما هو فيه وعلى أن مآله الخسران المبين إن مات عليه، وكان يكره له أن ينقلب إلى خالقه وهو من أهل لعنته السرمدية، مع كونه (أي هذا الناصح) قد تحصلت لديه من أدلة صحة هذا الاعتقاد عنده ما يكفي كل عاقل، من كانت هذه حاله، وكانت تلك حال من ذهب إليه يناصحه، فقد تفضل على ذاك المحتضر بعمل أخلاقي نبيل ولا شك! ومرة أخرى نقول – ولن يسمعها إلا من يعقل – إنما العبرة في ذلك ونحوه بالدليل الذي اعتنقه الناصح وجحده المنصوح بزعمنا!
وحسبك أيها العاقل أن تقارن بين من يقول: "أنا كائن مخلوق مصنوع، وخالقي له الحق الكامل في أن يأمرني وينهاني فأطيعه، فإن ثبت أن هذا الدين دينه، آمنت به وقبلته"، ومن يقول في المقابل: "أنا موجود من غير علة، مخلوق من غير خالق، وكل من يزعم خلاف ذلك فهو أحمق مغسول العقل، وكل من يحب أن يطيع خالقا لا يراه ويرى في ذلك تمام الأخلاق وكمالها، فهو مريض في عقله منقوص في أخلاقه!" فأي الفريقين أحق بالعقل والحكمة وكمال الأخلاق إن كنتم تعقلون؟
أما صنيع من كذبوا وزعموا أن فلانا قد رجع عن الإلحاد على فراش موته ولم يكن ذلك حقا، فهم كذبة محتالون والمذمة واقعة عليهم بأعيانهم أيا من كانوا، فكان ماذا؟ ألا سحقا ثم سحقا للسفهاء!
الصفعة الخامسة:
في قوله بما معناه "أنتم تكرهون أعداء دينكم بأمر إلهكم، إذن دينكم هو أصل الكراهية في العالم!"
يقول قرد الإلحاد (6) في محفل من محافل القردة أمثاله:
إنني على قناعة تامة بأن المصدر الرئيس للكراهية في العالم إنما هو الدين، والدين المنظم: قناعة مطلقة. وأعتقد أن الدين يجب أن يعامل بكل استهزاء وكراهية واحتقار (تصفيق من الجماهير)، وأنا أطالب بهذا الحق!
وهذه صفعتنا التالية على قفاه: أما نحن فعلى يقين تام لا يتزعزع، بأن المصدر الرئيس للانحطاط الأخلاقي والمرض الاجتماعي والنفسي العضال في هذا العالم إنما هو الإلحاد بشتى صوره! وأما الكراهية فلا يزال البشر يحبون ويكرهون لأسباب شتى، منها الشهوة والهوى كما أن منها المنظومة الأخلاقية (بصرف النظر عن مصدرها)! ولا يزال الناس يحبون من يوافقهم في عقائدهم القطعية (بما في ذلك الإلحاد) ويكرهون ويعادون من يخالفهم فيها (وأنت تشهد ببغض أهل الأديان المخالفة لنحلتك وكراهيتهم)، ولا تأثير لتلك الحقيقة الكونية – البتة – في عقل أحد من العقلاء على صحة أو فساد دعوى حملة هذا الدين أو ذاك بأن دينهم هو الحق، كما تزعم أنت أن اعتقادك الإلحادي هو الحق في مقابل عقائدهم وقناعاتهم! ألست ترى يا عدو نفسك ضرورة شن الحروب لإزالة المسلمين "الإرهابيين" من العالم؟ فلماذا تدافع عن إلحادك بكل ضراوة عندما تقابل بدعوى مخالفيك أن ستالين وهتلر كان منطلقهما الإلحاد؟ ما الفرق – في ميزان الحكم الأخلاقي على فعل ما: (س) – بين أن يذهب الإنسان إلى (س) هذا وهو يؤمن بأنه الصواب والخير الأرجح انطلاقا من نظره الشخصي، وبين أن يشرع في العمل (س) هذا، أيا كان، متبعا لما يؤمن بأنه أمر خالقه من فوقه وتكليفه الديني؟ إن قلت إن الملحد لا يكره من يكره ولا يحارب من يحارب لأن ربا في الغيب يأمره بذلك، وإنما لانفراده بالنظر العقلي في ذلك، فهو بذلك لا يوصف إلحاده بأنه مصدر للكراهية، فقد شهدت على نفسك ببطلان دعواك، وبأن الكراهية ليس مصدرها بالضرورة هذا الدين أو ذاك، وإنما الصواب أن يقال أنها هي وما يتعلق بها من أحكام وأفعال، مرجعهما جميعا إلى نظام أخلاقي ما، فإن كنت أنت تتلقى ذلك النظام الأخلاقي من هواك ومزاجك وتهافت من تقلدهم من فلاسفة البشر، فأهل الأديان يزعمون أن لهم مستندا في ذلك يرجع إلى رب البشر وخالقهم من فوقهم! فإن صح ما يزعمه أهل هذا الدين أو ذاك، ألا يعد ذلك – في العقل المجرد – دليلا كافيا عند من لا يعميه الجحود والحقد المحض، على أن كراهية أهل الدين الحق من بين تلك الاديان كلها، وما يتعلق بها من أفعال وأحكام عندهم، هي الأرقى والأرفع والأصوب أخلاقيا، بخلاف ما انفرد به آحاد النظار من البشر على محدودية علمهم ومقياسهم المعرفي؟ بلى ولا شك، وبذلك يؤول الأمر إلى السؤال: أي تلك الأديان تصح نسبته إلى الخالق (المعلوم وجوده وكمال صفاته ببداهة العقل) تحقيقا؟ وبمعرفة الجواب تنحسم المسألة في العقل السوي من كل وجه، ويتعلم الإنسان ما هو الموضع الصحيح الذي يضع فيه محبته وبغضه، ويتعلم من هم أهل لأن يكونوا أولياءه ومن هم أهل لأن يكونوا أعداءه، تأسيسا على مصدر هو الحكمة التامة ولابد بمجرد انطباق وصف (وحي الخالق) عليه!
أشك يا هذا الأحمق المغرور في أنك قد تفهم شيئا من هذه الحجة لو كنت حيا الآن وسمعتها منا بلسانك! ولو قدرنا أنك فهمتها فما كنا لنجد منك في جوابها إلا السب والسفالة والبذاءة على أي حال، فهنيئا لك نار جهنم، وهنيئا لأتباعك ما أكلوه من خراءتك، وليضحك الحمقى والسهفاء وليقهقوا ما بدا لهم، وطوبى للعقلاء!
الصفعة السادسة:
في قوله بما معناه "ما بالكم تحبون شخصا تهابونه يا هؤلاء المرضى؟"
يقول القرد في ندوة أخرى من ندواته:
لذا فعندما أقول في العنوان الثانوي لكتابي: إنني أعتقد أن الدين يسمم كل شيء، فإنني لا أسلك بهذا الكلام ما يسلكه بعض الناشرين من وضع عناوين مستفزة ومثيرة لاجتذاب القراء! وإنما أقصد أن أقول إن الدين يصيبنا بالمرض في أعظم أصول كرامتنا الإنسانية، حيث يقول لنا إننا لا يمكننا أن نكون أخلاقيين من غير "الأخ الأكبر" أو من غير الحصول على الإذن الشمولي بذلك. بمعنى أننا لا يمكننا أن نحسن إلى بعضنا البعض بدونه. بل يجب أن نكون خائفين، بل ويجب أن نحب "شخصا" نخاف منه، وهو جوهر ذاك الشذوذ النفسي الذي يقال له "سادو-مازوخية" (حب تعذيب النفس)، وهو كذلك جوهر الدناءة وصورة العلاقة بين السيد والعبد، وهو السيد الذي يعلم أن الموت آتيكم، ولا يصبر على إنزاله بكم! أقول إن هذا هو الشر! ومع أني أقضي بعض الليالي في بيتي، إلا أني أكون أكثر استمتاعا بتلك الليالي التي أخرج فيها لأكافح ضد هذا الشر المطلق، وهذا الغباء المحض!
وإليك صفعتنا التالية: دعك من العنتريات الفارغة يا ذاك العربيد، فلقد والله جعل الله منك آية أن جعل عربدتك وإفراطك في أمر نفسك (وهو محض الفساد الأخلاقي في ديننا) سببا في هلاكك، وقد كنت تشهد على نفسك بأن الخمر والتدخين قد قتلاك! فيا ليتك كسرت أنفك وحنيت ركبتيك وضرعت للذي خلقك أن يعفو عنك وأن يمن عليك بما أنزل في الوحي من مكارم الأخلاق ومحاسنها، ومن كمال الحكمة وتمامها، فمن يدري، لعلك لو فلعلت لكنت اليوم بين الأحياء من اجتنابك تلك الخبائث طاعة لأمر ربك الكريم ذي الفضل والإنعام! فلو أنك قبلت تلك "الوصاية الأخلاقية" من خالقك التي تسخر منها تتكبر عليها يا ذاك التافه، لامتنعت عن تلك الأشياء التي أهلكتك، ولصنعت كما يصنع العقلاء الذين شهدوا على أنفسهم بالنقص البشري، فما قابلوا رسل ربهم إلا بالشكر والثناء عليه سبحانه، وبالرضى بما تفضل عليهم به الرب الخالق من نعمة التعليم الأخلاقي الرباني!
فلإن كابرت وقلت كما يقول بعضهم: أنا حر! من حقي أن أهلك نفسي وأن أرتكب في حقها كل حماقة وأنا أعلم أنها حماقة، فلن تجد منا إلا وصفك بما أنت أهله: محض الحماقة! ولا حاجة بالعقلاء لمن يدعوهم إلى السفاهة والحماقة، ولا يلتفت إليهم إلا أحمق مثلهم! وإنما يحتاج الناس إلى من يبصرهم بعيوبهم ويصونهم من شرور أنفسهم، ويعلمهم ما به يستقيم حالهم ويمتاز في نظرهم الخبيث من الطيب! فإن كان مشهودا للإنسان بنقص العلم مهما كمل (ولا يماري في هذا إلا مكابر هالك)، وكان مشهودا للخالق – بضرورة العقل – بكمال العلم والحكمة وتمامهما، وثبت أنه سبحانه قد أرسل للناس رسولا يدعوهم ليعلمهم مكارم الأخلاق ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر، فماذا بقي لمن يرمي ذاك الفضل العظيم وراء ظهره إلا أن يوصف بمحض الحماقة والسفاهة؟
صدق الذي قال في كتابه: ((وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)) [البقرة : 130]
وما وجه الإشكال العقلي أو المذمة الأخلاقية يا ذاك القرد الأعمى، في أن نكون للذي خلقنا عبيدا طائعين، وأن نحبه مع كوننا كذلك نعظمه ونهابه سبحانه وتعالى؟ ألا يصح في العقل أن يجتمع التعظيم والإجلال مع المحبة والرضى التام؟ وهل كنت تطمع في أن يجعلك خالقك ندا له، أو أن يتخذك له ولدا أو صاحبا أو شريكا مثلا؟ صفة العبودية هي الصفة الوحيدة التي تليق بعلاقة المخلوق بخالقه، فالمخلوق ملك لخالقه والمصنوع ملك لصانعه ببداهة العقل، شاء ذلك المخلوق أم أبى! وليس في العقل ما يمنع ذلك المخلوق من أن يحب خالقه وأن يرجو رحمته، وأن يخشاه كذلك ويتقي غضبه، وأن يجتمع الأمران في قلبه! ألم يسبق لك أن أحببت رئيسا لك في العمل أو أستاذا لك في المدرسة، وأنت في ذات الوقت تخشى غضبه وعقوبته؟ فلإن جاز أن يقع ذلك من الإنسان مع مخلوق مثله، فهو مع خالقه أولى بالجواز قطعا، ولكن أنت وأمثالك قوم جحدة مكابرون، لا تعرفون من العقل إلا ما يأتي على هواكم ومزاجكم، قاتلكم الله وأخزاكم!
أما "السادو-مازوخية" هذه فإنما يوصف بها من ارتضى لنفسه أن يجحد ما أنزله الله للبشر من الخير على رسوله، ليظل هو وأهله وسائر الناس غارقين أبد الدهر في تلك البهيمية المحضة التي أهلك بها ذاك التافه نفسه بعدما أفنى عمره في تزيينها لخلق الله من حوله! فالحمد لله الذي عافانا من العفن وأهله!
الصفعة السابعة:
في قوله بما حاصله: "قولوا له إن لم يتركني لحالي فليس لي برب ولا إله"!
وهذا ما جرى في حوار أجراه معه مذيع في برنامج إذاعي (فيما يبدو):
محاور (فيما يبدو وكأنه برنامج إذاعي) يسأله: ماذا لو كان الإله موجودا بالفعل يا سيدي؟ أما كان ليحسن إليك؟
هيتشنز: كلا، ما كان ليفعل ذلك. لأنه لو كان هذا صحيحا، لكان معناه أن لدي والد أبدي خالد، دائم المراقبة لأفعالي، فلن يموت ليتركني أمضي في حياتي وأن أنضج، وإنما سيبقيني تحت المراقبة الدائمة، ويشرف على كل دقيقة من حياتي، ويطلب مني أن أكون شاكرا له وممجدا له على الدوام.
المحاور مقاطعا: ولكن لك إله بالفعل يا سيدي!
هيتشنز يواصل دون التفات: أعتقد أن هذا سيكون أشبه بالعيش في كوريا الشمالية! أعتقد أن النتائج ستكون شنيعة.
المحاور: لا أظن أن الإله هو "كيم جونغ"، ولكن ماذا لو كان ما قلته لك صحيحا ...
هيتشنز مقاطعا: إذن اسأل "كيم جونغ" وفستسمع منه رأيا مختلفا!
وإليك صفعتنا السابعة على قفا ذاك الهالك: هذه آية التمحض في الهوى ورد الحق بلا دليل ولا برهان إلا أن نفس ذاك الملعون تكرهه! فلا شيء مما ذكره ذلك القرد من صفات يكرهها في الإله الذي يرفض أن يعبده، يصح في العقل أن تعتبر نقيضا لمطلق معنى الإحسان إلى المخلوق كما يزعم، أو أن يلزم منها النقص في صفاته بما ينفي عنه الحق في أن يتألهه خلقه ويعبدوه! تأمل كيف يشرع الملعون في الكلام عن علاقته بخالقه بتشبيهه بمخلوق من المخلوقات الناقصة (الوالد البشري) بما أجزم بأنه كان على يقين في نفسه من بطلانه وامتناعه! وما ذاك إلا ليفتح لنفسه بابا للتلبيس على السامعين، فيمرر تحت ذلك الوصف ما يقتضي اعتقاد المذمة في تلك الحال التي فصّل في وصفها بعدُ! ذلك أنه لا يحسن في العقل بوالد من بني آدم أن يراقب ولده دائما وأبدا في كل حال، وألا يكون لذلك الولد أدنى قدر من الخصوصية أو أن يكون له سر يسعه أن يخفيه عن ذلك الوالد! وقطعا لا يحسن في العقل تلك الصورة التي يصورها لذلك الأب الذي لا يريد أن يترك ولده "لينضج" ويستقل عنه بالعقل والرأي فلا يعيش إلا تابعا له، شاكرا ممجدا خاضعا له ما بقي حيا! لماذا لا يحسن ذلك بين الوالد ووالده؟ لأنهما مخلوقان كلاهما، مملوكان لخالقهما، لا لبعضهما البعض، وهذا واضح ولله الحمد! فكيف وبأي عقل أجاز ذاك الشيطان لنفسه أن يقيس ربه الذي خلقه وسواه وعدله، على ذاك الأب المتسلط الذي تفنن في وصفه وتنفير السامعين منه؟ ليس ربك الذي خلقك بأبيك ولا أستاذك ولا رئيسك في العمل ولا شيء من ذلك، وأنت تعقل ذلك قطعا يا عدو نفسك، ففيم المكابرة؟
ولا يكتفي الملعون بصورة الوالد المتسلط بما تأباه نفوس الأسوياء، بل يزيد ليضيف إليها صورة الطاغوت البشري المتأله، الذي يأمر البشر أمثاله بأن يكونوا له عبيدا! ومع أن محاوره نبهه إلى أن الرب الخالق ليس بشرا قطعا، إلا أنه لم يبال بذلك، وأجابه بأن الطاغوت المذكور يرى نفسه هو ذاك الإله الخالق! فمن ذا الذي تخادعه بهذا الهراء يا عدو نفسك، ومن ذا الذي تحسب أنك قد خاطبت عقله بما ينزع من نفسه القناعة بضرورة وجود الخالق، وبأحقيته في أن يطاع رسوله وتتبع شريعته ويخضع المخلوق له خضوع المملوك لمالكه، وأن يعبد وحده لا شريك له بما لا يجوز في العقل أن يبذله إنسان لإنسان مثله؟ لا والله ما خطبت عقلا ولا منطقا ولا صفعت أحدا إلا نفسك، وإنما غايتك أن تفننت في دغدغة مشاعر السفهاء من أقرانك والمفتونين بك، بل لعلك قلبتهم على أقفيتهم من شدة الضحك على سخريتك واستهزائك بالدين وأهله في كل مناسبة، حتى تبعتك تلك الثلة من السفهاء الذين جعلوك رأسا من رؤوسهم في نحلة ليس فيها رائحة العقل أصلا!
فهذه سبع صفعات متتابعات على قفا قرد الإلحاد الهالك "كريستوفر هيتشنز"، ولدينا بعون الله المزيد، نضيفه إلى هذا الشريط إن كان في العمر مزيد، والله أسأل الإخلاص والقبول، والحمد لله رب العالمين.
------------------------------
قضية التعريفات هذه في غاية الأهمية، وينبغي أن ينتبه إليها كل من ينتصب للرد على فلسفات الملاحدة، بل يجب أن تكون هي منطلق كل جواب. فعند التأمل في تعريف القوم للإيمان Faith على سبيل المثال، يتبين لك أن مقصودهم به صورة مخصوصة من صور الاعتقاد الجازم في النفس، وليس سائر ما تلك صفته من المكنونات المعرفية في نفس الإنسان (أنه قطعي أو يقيني). فإذا انضاف إلى تعريفهم للإيمان، أركان النحل المادية المعاصرة في فلسفة المعرفة التي منها نفي إمكان التحصل على شيء اسمه "اليقين" أو "القطع" في نفس الإنسان أصلا، حتى ما كان داخلا إثباته في دائرة المشاهدة والحس المباشر، أصبح – بالتبعية – كل ما يقال له "إيمان" مرادفا في اصطلاحهم للجهل والخرافة، ومضادا "للعلم" (على تعريفهم للعلم أيضا، الذي هو من أركان تلك النحل الفلسفية المذكورة). وعلى الرغم من أهمية هذا التدقيق الاصطلاحي في دحض أباطيل فلاسفة الإلحاد في زماننا، إلا أنه في الحقيقة مما لا تتوقع أن تجده في أجوبة النصارى ونحوهم من اللاهوتيين وأهل النظر من أهل الملل الأخرى في الرد على هؤلاء، إلا عند أهل التحقيق من المسلمين، ولله الحمد والمنة. ذلك أنهم الطائفة الوحيدة في الأرض التي منّ الله على المستقيمين منها (عقيدة ومنهجا) بالتجرد من الافتتان بتلك الفلسفات المعاصرة التي اكتسحت أوروبا من خمسة قرون خلت حتى دانت لها الكنيسة نفسها ورضخت لسطوتها الفكرية راغمة مضطرة، فكان المسلمون أحظى الطوائف بالحق ضربا به في أصول الأصول وفي قواعد البنيان مما لم يعد أحد من أهل الغرب – إلا من رحم ربك – يجترئ حتى على مجرد تصور المنازعة فيه!
وقد يعجب بعض الإخوة عندما يرون أن كثيرا مما رأوه في كتابات جرذان المنتديات مرجعه في الحقيقة إنما هو تلك "الصفعات" الدراماتيكية التي تأخذ بتلابيب السهفاء من هؤلاء.
"حديقة الملاهي" هي الترجمة الأقرب لهذا التعبير، وإن كانت في الحقيقة ليست مجرد حديقة ملاهي بالمفهوم الشائع في بلادنا، ولكنها حديقة لها سمة غالبة Theme أو موضوع غالب عليها، وهذا الخيار في التعبير أشد وطأة وأبلغ في السخرية والاستهزاء بعقيدة اليوم الآخر ولا شك.
وترجمتها المهذبة أن يقال: هراء وسخف. ولكنها كلمة نابية في الحقيقة، معناها الحرفي: براز الثور!
الترجمة المهذبة: سحقا لهذا! وهي في الحقيقة كلمة شديدة القذارة أتنزه عن ترجمتها.
وهذه عندي وعند سائر العقلاء سبة وإهانة، أما هو فهي عنده حقيقة علمية يفخر بأنه يقول بها، فليهنأ بها هو وأولاد عمومته من فصائل الشيمبانزي والأورانغوتان!