المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دكتور دسوقي أحمد يكتب : عزيزتي مارية



د. هشام عزمي
10-15-2012, 12:11 AM
657
عزيزتي مارية
د. دسوقي أحمد

لازال أبوك يواصل الترحال شمالا ، هذه المرة في نقطة تبعد عن هانوفر أربع ساعات ، بالقرب من بحر الشمال وتحديدا عند تقاطع خط عرض ٥٣,٤٧١ شمالا مع خط الطول ٧,٤٨٤ شرقا
الجو ليس باردا يابنيتي كما كنت أتخيل ، يخبرني أحد أصدقائي أن الأمر ليس مرتبطا بالاتجاه شمالا وإنما هو متعلق بمدي الارتفاع عن سطح البحر ، هاهنا في الشمال لاتصل درجات الحرارة إلي ذلك البرد الشنيع الذي كنت أحسه في شتاء هانوفر
حين تصل المعدلات إلي ١٧ درجة تحت الصفر
لكن الريح هاهنا تعوي ، آه يامارية ، لو سألت أمك لأجابتك كم يخيفني صوت الرياح ، هي تعلم مدي اضطرابي وارتجافي حين أسمع ذلك الصوت المخيف
هاهنا لاتعوي الريح خارج الحجرات فقط لكن الأقسي أنها تعوي داخلنا كذلك ، تلك الوحدة المريعة التي نقاسيها تعوي كألف ريح
الحقيقة أن دفء (هانوفر) لم يكن دفء الجو وإنما دفء المجتمع العربي والاسلامي هناك ، أعيش وسط عرب مسلمين من مختلف الجنسيات ووسط أتراك متدينيين كذلك ، كنا نواصل السهرات يوميا عند أحدنا ، نتحدث العربية التي نفتقدها ، نطهو سويا ، ونضحك من أعماق قلوبنا ، وهاأنا يابنيتي أرحل شمالا تاركا كل هذا الدفء البشري لأبقي هاهنا وحيدا بالقرب من بحر الشمال

أسكن يامارية في حجرة تجاورها ست حجرات أخري ، يذكرون لي أنها كلها مأهولة ويخبرني جاري الفلسطيني أنه رأي ذات مرة زميلا سوريا وزميلة جنوب أفريقية ، سألته وماذا عن باقي الغرف ؟ ، أجابني : لاأدري
الحقيقة أني لم أره هو نفسه إلا مصادفة في قسم شئون العاملين وأعتقد أني لو لم أتعرف عليه يومها ماكنا لنلتقي إلا متأخرا ، مدن الشمال مدن يقل فيها عدد العرب والمسلمين كثيرا عن مدن الوسط والغرب والجنوب ، هاهنا أواجه أيامي الأولي وسط ورثة حضارة (الفريزلاند) ، بالقرب من (إمدن) ، تلك المدينة التي كانت هدف انزال الحلفاء في الحرب العالمية الثانية بدلا من الانزال الشهير في نورماندي
حسنا ، لم يستطيعوا أن ينزلوا قواتهم فيها فدمروا ٨٥ ٪ من المدينة ، أنت تعلمين ياصغيرتي كم هي رقيقة قلوب الغربيين في هذه الحالات ، يجب أن تعلمي كذلك أن أماكن اللجوء في إمدن كانت فوق الأرض ولم تكن خنادق ، لاأريد أن أحدثك عن كم الفظائع التي يحكيها الانسان الغربي عن أخيه الغربي هاهنا ، لكني بدأت اليوم أفهم سر العداء الشهير بين الألمان والانجليز وكذلك الفرنسيين
لازلت لاأفهم كيف لم يتهم هؤلاء بالارهاب واكتفوا بمحاكمة بضع عشرات من القادة في (نورمبرج) !! ولازلت لاأفهم كيف يتهمنا بعض إخواننا من بني جلدتنا بالارهاب وهم يتقمصون قلب الغربي وعينيه
ذات يوم دار بيني وبين زملاء العمل القديم حوار علي مائدة الغداء
قال أحدهم يومها وهو يحادث زميلا له : ليس كل العرب إرهابيين بالطبع ، ثم أضاف : وهناك مسلمون أيضا يرفضون الارهاب ، نعم تاريخهم مليء بالارهاب لكن ليسوا كلهم كذلك
رفعت يومها رأسي متداخلا في الحوار قائلا : معذرة لم أسمعك جيدا ، ماذا قلت ؟
كرر علي كلماته فجعلت أهز رأسي وأمط شفتي حتي أنهي توضيحه الكسيح الغير مقبول
لا أدري لماذا شددت قامتي في اعتداد وتراجعت في مقعدي ثم رفعت صوتي قليلا ضاربا ببروتوكول الغداء عرض الحائط ليسمعني كل من في القاعة
قلت له ساعتها : نعم ياعزيزي ، أنت تعلم أن تاريخنا القريب كعرب مسلمين اشتمل علي حربين عالميتين بضحايا يفوقون الخمسة وخمسين مليونا وقمنا بتدمير مدن تراِثية كبري كبرلين ودريسدن ودوسلدورف ووارسو في بولندا عن بكرة أبيها
أنت تعلم أن حكومة صعدت للحكم بأصوات الأغلبية قمعت كل مخالف وقتلت نصف مليون غجري وأحرقت اليهود ثم اعتذرت لهم فيما بعد ، أنت تعلم أن لدينا حاكما نتجنب الحديث عنه لأنه سبة في جبين الوطن والعرق نفسه ، دعني أذكرك به ياعزيزي ، اسمه (أدولف هتلر) ، مرة أخري (أدولف هتلر) ، ولم تكن كارثتكم في هتلر وحده وإنما في نيتشة وشوبنهاور ولانج ، فلاسفتكم الذين استقي عن كتاباتهم فلسفته العنصرية النازية ، أنتم ياصديقي أصحاب براءة اختراع نظم الفاشيست ، دعني أذكرك بـفرانكو وموسوليني وهتلر ، وأنصار كل حكام العالم الثالث القمعيين ، هل تريد ياصديقي أن نتحدث عن ميراث الخزي في مستعمراتكم في أفريقيا ؟ أظن الوقت لا يسمح ، الجرائم أكثر من أن تحصي ولايكفيها مجرد استراحة غذاء
يومها ياابنتي قابلني أحد الاستشاريين بعد الغداء وقال لي : أرجوا ألا تغضب من كلام الزميل ، إنه مجرد (مخدوع بالميديا) إنه من قراء (داس بيلد) وانطلق يضحك ، صحيفة (داس بيلد) يعتبرونها هاهنا ليست ذات مصداقية وهي التي نشرت أخبار (مضاجعة الوداع) هاهنا وجعل الزملاء الألمان يسألونني عنها

إييه ياابنتي ، لاأريد أن أصدع رأسك بهذه الأخبار السياسية الحمقاء ، لازال الوقت مبكرا لتنالي من هذه الضريبة ، أتمني يومها ألا نكون لازلنا في (رحلة الهجرة إلي الشمال) وأن نكف عن الانبهار بعمنا الطيب صالح ورائعته
بالأمس ذهبت لآكل في أحد المطاعم العربية هاهنا ، قابلني في الطريق أخ جزائري ، تحدثت إليه فأجابني مباشرة : بتتحدث عربي ؟ وأجبته بالايجاب فكاد يطير فرحا
كم أنا سعيد ياابنتي أن تكون ملامحي عربية سافرة لهذه الدرجة
أخذني من يدي ليدلني علي المطاعم التي تقدم (لحما حلالا) وعن المسجد حديث الانشاء ، الجزائريون عصبيو المزاج لكنهم ودودون طالما لم يغضبوا ، صاحب المطعم سوري كردي رقيق الطبع ، سألني عن بلدي فأجبته بذلك الفخر الذي حملته إلينا الثورة : مصري
لاأدري لماذا أشرق وجهي بالابتسام ساعتها وأنا أنطقها بكل ذاك الفخر ولاأدري لماذا تذكرت وجهك الصغير وضحكته الصافية ، ربما لأن مصر تمثل لي كذلك صغيرة ذات ضحكة صافية ، ربما ياابنتي
الرجل السوري قال لي : علي راسي أخوي ، المصريين علي راسي أخوي ، ثم سأل الصديق الغزاوي ليجيبه : فلسطيني ، ليكرر نفس الجملة ثم يضيف : مصر وفلسطين وسوريا وكل العرب إخوة ، وألله ينصر أهل الشام ، الله بينصر أهل الشام ،
ثم انطلق إلي داخل المحل يعد الوجبات وهو يبكي ويردد ألله بينصر أهل الشام

نحن أمة واحدة ياابنتي ، يجمعنا دين وتاريخ ولغة ، لاتصدقي أولئك الأفاكين الذين يدعون أنه لاشأن لنا بمسلمي الصين وفلسطين وبورما وكشمير والشيشان وفلسطين ، لاتصدقي أولئك الأنذال المنافقين نحن ياابنتي أمة ذات جذور ، ذات حضارة عظيمة ، لاأدري كيف ستكون الأوضاع حين تكبرين لكن الأوغاد لاينتهون من عالمنا وستسمعين من يشكك لك في تاريخك ودينك ومجد أمتك ، أعترف بأننا نسرف في الحديث عن هذا المجد دونما جديد نقدمه ، لكنني ياابنتي أوصيك بكليهما بأن تعملي بجد وأن تعتزي بتاريخ أمتك

مرة أخري تأخذني السياسة منك ، قاتل الله السياسة ، تسميها أمك (الضرة التي لم تتزوجها)
الحقيقة أن أمك تعيش مع (ضرتي) الانترنت والسياسة وكان أهون عليها ضرة واحدة ، أوه حسنا لاتخبريها بذلك الجزء الأخير ، أرجوك يامارية سأحضر لك الكثير من الشيكولاتة وسنذهب سويا لنلعب مع (تيتة) لكن لاتخبري أمك بهذا الجزء الأخير
لاتخبريها كذلك بأن ليس كل الجارات من جنوب أفريقيا يكن سمراوات ، ولاتخبريها أيضا أن الحلاق الذي يهذب لي شعري هو فتاة بارعة الجمال ، أرجوك لاتخبريها يامارية

ربما تصلك رسالتي وأنت بعد نائمة ، لكن في كل الأحوال وبعيدا عن خطابي السياسي المطول أحببت أن أخبرك بأشواقي واشتياقي إلي حضن من كفيك الرقيقتين
هذا يدفئني يامارية رغم أي برد قارس
أشتاق إليك وإلي أمك شوقا كبيرا ، أرجوك أن تخبريها بهذا
هذه المرة أخبريها يامارية