المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رسالة: فتح الكريم الأعلى في نقد ما يقال له "النقد الأعلى".



أبو الفداء
10-25-2012, 07:19 PM
فتح الكريم الأعلى في نقد ما يقال له "النقد الأعلى":
مغالطات الماديين في فلسفة التاريخ وفي التعامل مع نصوص الإسلام.

الحمد لله وحده، أما بعد،
فمن أعجب العجب ما يقع عليه المرؤ بين الفينة والأخرى من محاولات متهافتة من قبل قرود الإلحاد المعاصرين لإطفاء نور الشمس، ولاستغفال أولي الأهواء من بني آدم بما يأتي على هواهم بدعوى التحقيق العلمي والبحث "المتجرد للحق"، ونحو ذلك من شعارات يحسنها كل أحد! فوالله لولا أني وقفت بنفسي في يوم من الأيام على كلام من ينكر وجود من خلقه وخلق هذا العالم من حوله ما صدقت أن توجد مقالة كهذه في الأرض أصلا! ومن نفس هذه البابة أقول: لولا أني وقفت على كلام من يزعمون أن محمدا بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم خرافة لا وجود لها في التاريخ على الحقيقة، ما صدقت أن يوجد من يزعم زعما كهذا! ولكن هكذا سنة الله جل وعلا في خلقه، سنة كونية ماضية لا تبديل لخلق الله. فكل من ابتلي في يوم من الأيام بمطالعة مؤلفات الفلاسفة من شتى الملل والنحل، لا يملك إلا أن يقف في وجل بإزاء عظمة الخلق جل وعلا، الذي خلق البشر ليبتليهم بالغيب، فجعل – من كمال حكمته سبحانه - في نفوسهم ما به قد يبلغ الواحد منهم أن يجترئ على استحسان نفي وجود الشمس في كبد السماء، والتكذيب بوجوده هو نفسه أو وجود هذا العالم من حوله، أو وجود غيره من البشر أولي العقول والألباب! فالذي وقف على مثل هذا، ورأى كيف أنه ما من خرافة أو أكذوبة أو قول ساقط ممجوج يتصوره العقل البشري إلا وقد صار قولا بل أقوالا ومذاهب ومدارس لها أساتذتها ومصنفوها وروادها في "الفكر الفلسفي" العالمي، من وقف على هذا التيه المبين وسبر غوره وخبر مبلغه، لا يجد والله إلا أن يثني ركبتيه حمدا لله تبارك وتعالى الذي قال في محكم القرءان: ((ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها)) (الشمس 7-8)، يحمده آناء الليل وأطراف النهار على أن ألهمه الرضى بالإسلام دينا، ثم يضرع إليه يسأله الثبات على دينه حتى يلقاه. فكم من حقيقة لا يتصور عاقل أن ينفيها أو يخالف فيها أحد من البشر، قد وجد في هذه الأرض تحقيقا من ينكرها ويحارب من أجل إبطالها وإزالتها من قلوب الناس! فوالله إنه لفي عافية ونعمة لا يدرك قيمتها أكثر الناس، هذا الذي منّ الله عليه بالبراءة من الهوى والتجرد للحق بحق، وإعلان التسليم بصحة ما شهدت نفسه وشهد عقله بأنه هو الحق الذي لا مرية فيه ولا ارتياب!

لقد شهد العقلاء جميعا والفلاسفة والنفسانيون وأهل الأخلاق بأن تحصيل المعرفة بالشيء والدراية بدليله وبرهانه شيء، والإقرار بأنه الحق وقبوله (واعتناقه كمعرفة فردية واعتقاد شخصي) ثم الرضا بالعمل بمقتضاه أيا ما كان ذلك المقتضى = شيء آخر بالكلية! وكم من إنسان تمر به حجة الحق الظاهرة المرة بعد المرة ولكنه يأبى إلا أن يتغافلها ويوليها دبره، لا لأنها لا يقوم بها البرهان العقلي الكافي في نظره وفي علمه، ولكن لأنه يكره التسليم بصحتها، ويكره ما يترتب على ثبوتها في حياته هو من تبعات ومقتضيات! فيظل يفني من عمره السنوات الطوال في تلمس دعاوى كل جاحد لها من أمثاله (وهو واجد من بين الفلاسفة والمفكرين من يوافقه في ذلك لا محالة!)، فتراه يجمع "الشبهات" (وكل دليل باطل ظاهر البطلان فليس هو بدليل أصلا وإنما هو شبهة اصطلاحا) بعضها إلى بعض حتى إذا ما حوجج، رمى بها في وجه مخالفيه في سلة واحدة وقال هذه أدلتي على بطلان ما تزعمون!
وكثيرا ما يكون الباطل من الضخامة والفحش بحيث لا يدري العاقل من أين يبدأ في الرد عليه! وأنا والله ما كنت أتصور ولا أود أن أبذل من وقتي ما أضع فيه مقالا كهذا، أرد فيه على قوم بلغ بهم الجحود والغرور أن زعموا أن رجلا اسمه محمد بن عبد الله لم يولد ولم يخلق أصلا!! ما كنت أحب ولا أرجو أن يأتي علي يوم أجد شطرا من إنتاجي العلمي موضوعا في الرد على قوم لا عقل لهم أصلا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولكن هؤلاء الذين لا عقل لهم، يشاء العلي القدير فيما كتبه على الناس من بلاء في هذا الزمان، أن يكون لهم شأن في البلاد كبير، وتابع في الأرض وفير، وأن يكون لهم كتب ومؤلفات وأن تغزو تلك المؤلفات بلاد المسلمين، فيتلقفها أولو الأهواء من المنافقين والزنادقة المنغرسين بين أظهر المسلمين، فتعظم وتروج ويصبح لأصحابها شأن ومنزلة، ويثار بها الغبار والرماد في أعين العوام والجهلاء من المسلمين، حتى يعان الشيطان على الموتورين منهم، وإذا بنا ننادي على طلبة العلم والعلماء المتخصصين في أرفع العلوم وأرقاها على ظهر الأرض قاطبة (علوم الشريعة والدين الحق) أن يتركوا معالى البحث والمعرفة التي هم مشتغلون بها، وينزلوا إلى تلك الأوحال والمستنقعات الفكرية العفنة، ليكتبوا ما ترجى منه صيانة العامة والجهلاء من زبالة أولئك المتهوكين السفهاء، فإن لم يفعلوا، تكن فتنة في الأرض وفساد عظيم!

ولقد وجدت – بكل أسف - شيئا من الرواج لهذه الدعوى التافهة (دعوى أن محمد بن عبد الله شخصية وهمية لم توجد في الحقيقة) بين فئات من أهل الإلحاد من بني جدلتنا، ولا أعجب من ذلك والله! فالذي ارتضي لنفسه التكذيب بعلة وجود نفسه وسببه الأول، لا يُستغرب منه التعلق بأي مقالة بعدئذ مهما كانت ساقطة واهية، إذ قد ثبت عليه – يقينا – التلبس بأفحش درجات الهوى والتكذيب بالجليات الواضحات على أي حال، ألا وهي مقالة الإلحاد نفسها، فهل بعد الإلحاد نفسه من عقيدة تعلوه أو تعدله في السفه والتهافت، وفي ضخامة وعظم ما تكذب به وتنفيه، حتى يستغرَب من أصحابه اعتناقها؟ كلا والله! ولهذا لا نعجب إذا رأينا من السفهاء من لا يكتفي بدعوى أن الدين الذي جاء به محمد فيه كذا وكذا مما لا يعجبهم ولا يأتي على هواهم (وإذن فهو لا-أخلاقي ولا يناسبهم ولا حاجة لهم فيه)، أو بدعوى أن محمدا كذاب وما تلقى وحيا ولا شيء من ذلك، بل يارتضي لنفسه النزول إلى دركة أخرى من دركات الانحطاط الفكري والمعرفي، حتى يقول بمقالة متهافتة جاء بها بعضهم مفادها أن محمدا هذا لم يولد أصلا، وإنما هو شخصية أسطورية اخترعها العرب ليجمعوا الناس عليها!

سنستوي بحول الله وقوته في هذا المقال الموجز لسحق تلك الدعوى التافهة وبيان وهائها بما فيه الكفاية، والله أسأل أن يعافي المسلمين من تسليم آذانهم لكل ناعق في زمان أصبح فيه من يقول لعامة الناس لا تسمعوا لهذا وذاك = مذموما متهما في عقله وعلمه لمجرد ذلك، وإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إن دعوى هؤلاء السفهاء (وهم شرذمة قليلة من الباحثين الغربيين المعاصرين المتخصصين في تاريخ بلاد الشرق الأوسط) (1) بأن محمدا لم يولد ولم يوجد في التاريخ (ومثل هذه الدعوى قد قيل في غيره من النبيين من قبله المذكورين في القرءان وفي كتب أهل الكتاب من قبلنا)، تقوم عندهم بإجمال على ركيزتين أساسيتين:

- قولهم بأن البقايا الأركيولوجية والحفائر ونحوها، وكذا الوثائق المادية المتوارثة من تلك الفترة (القرن السابع الميلادي) في جزيرة العرب وما حولها، لا أثر فيها لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا لكثير مما تحكيه كتب السير والسنن من خبره، بل ليس فيها أن العرب كانوا قبل الإسلام وثنيين كما هو منصوص في القرءان!
- قولهم بأن المؤرخين من غير المسلمين لم يأت في تراثهم ما يعضد القول بوجود محمد (فيما يسمونه بالتأكيد الخارجي Outside Confirmation)، فلا يجد الباحث إلا المصادر الإسلامية وحدها حتى يتعرف على تلك الشخصية التاريخية، ومن ثمّ فلا عبرة بتواتر أخباره عند المسلمين أصلا مهما تواترت، إذ هو في ذلك – بزعمهم – كأي تواتر يقع في أي أمة من الأمم في توارثهم حول خرافة من الخرافات أو دعوى تاريخية باطلة لا حقيقة لها.

وكثيرا ما ترى هاتين الشبهتين ينضم إليهما دعاوى المنصرين وبعض المستشرقين بشأن القرءان وأنه كتاب بشري مصنوع من وحي ما في كتب أهل الكتاب، في عصر لاحق متأخر عن تلك الفترة التي "يزعم" المسلمون أن محمدا قد عاش ومات فيها، وذلك لزيادة التأثير العاطفي باستمالة من يرجونه منه الميلان. (2) فإن هذه الدعوى تخرج عندهم من نفس مخرج الدعوتين السالفتين وتحت نفس الراية "الأكاديمية" المرموقة: التحقيق الأكاديمي التاريخي Historical Scrutiny لبيان الحقيقة التاريخية من الدعوى التي لا تقوم على دليل. ولا شك أنه من السهولة بمكان أن يخرج كل صاحب عقيدة باطلة بدعاوى تاريخية يقابل بها ما تواتر عند مخالفيه من أهل الملل، ثم يدعي أن هذا من التدقيق الأكاديمي ومن تمييز الحقيقة عن الخرافة! ولهذا استحسن بعض غلاة الماديين من الغربيين إسقاط التاريخ نفسه كعلم أو كصنعة معرفية يمكن الاستناد إليها في تحقيق المعرفة بالماضي، وهذا ولا شك من إفراطهم، وهو قول لو التزموا لوازمه بتمامها لوجب عليهم أن يتركوا – كل واحد منهم – جميع المعارف الطبيعية والمادية التي لم تأته من طريق حسه ومشاهدته وتجريبه المباشر، وإنما نقل إليه خبرها في الكتب والمراجع! ولا يجاب عن ذلك الإلزام كما أجاب بعضهم بأن وجه تميز العلم التجريبي عن العلم التاريخي أن هذا الأول يأتيك بأخبار يمكنك في أي وقت أن تختبر صحتها بنفسك إن شئت بينما لا يمكن ذلك في الخبر التاريخي الذي يصور لنا واقعة حدثت وانقضت وليس تجربة يمكن تكرارها، فإن هذا يختزل صنوف الدليل والبرهان المعرفي في الدليل التجريبي والحسي وحده، وهي آفة النحلة الوضعية والطبيعية ونحوهما من فلسفات مادية كما هو معلوم.

وبعيدا عن هذا الاستطراد، ورجوعا لأصل ما نحن فيه، نقول إن زعم كل صاحب دعوى تاريخية استناده إلى دليل وبرهان تاريخي، وزعمه – بالمقابل – وهاء ما يستند عليه مخالفوه، لا يختلف عن زعم أي صاحب دعوى معرفية أن الدليل معه لا مع مخالفيه، والعبرة في النهاية بحقيقة هذا الذي يسميه "الفحص والتحقيق التاريخي"، وسلامة المنهج النظري المعرفي المتبع فيه. وهنا مربط الفرس وبيت القصيد.

إن هذه الشبهة تنزل بنا ضرورة إلى تعريف "الحقيقة التاريخية" (إبستميا وأصوليا) وما يريده بها القوم في كل مرة يطلقونها بشأن دعوى من الدعاوى التاريخية نفيا أو إثباتا! ما صفة "الدليل التاريخي" في تقدير هؤلاء، وما ميزانهم في المفاضلة بين ما يقال له عندهم "أدلة تاريخية"، وهل هذا المنهج الذي يتبعونه مقبول في العقل المجرد أم لا؟

إن العقيدة المادية التي يعتنقها هؤلاء تأبى أن تتركهم إلا وقد تشبع بها نظرهم في كل شيء، حتى في علم التاريخ نفسه! فنحن نقول إنه ليس في العقل ما يوجب أن يكون الدليل "الأركيولوجي" (أيا ما كان ذلك) مقدما بإطلاق على الدليل الخبري (أيا ما كان ذلك)، والعكس صحيح! بمعنى أن رواية الراوي قد تكون رواية صادق ضابط لا يَهِم ولا يختلط عليه الخبر عند نقله، فتقدم تلك الرواية على ما يحتمل من المكتشفات الأركيولوجية أن يفسر تفسيرا يخالفها، ولا يُعترض عليها بدعوى أن الأركيولوجيين لم يعثروا على أي حفائر أو مخلفات مادية تؤكد ما جاءت به من الخبر! وقد تكون الرواية كذبا ووهما، فيقدم عليها المكتشف الأركيولوجي المادي وإن كان عند أضعف درجات الاستدلال النظري فيما يفيده من المعرفة التاريخية! فلماذا نقدم رواية الصادق الضابط على ما قد تظهر منه مخالفته من المكتشفات الأركيولوجية؟ السبب في ذلك أن المكتشف الأركيولوجي ليس دليلا حسيا مباشرا كما يوهم كلام هؤلاء السفهاء، وإنما هو شيء مادي يستخرجه الباحث من مكانه حيثما وجده، ثم يذهب المذاهب في تفسيره وترجمته ووضع النظريات لتصور العلاقة بينه وبين غيره مما بين أيدي المؤرخين من وثائق وأدلة. فلا يتوقع الباحث الأركيولوجي في يوم من الأيام أن يكتشف في تنقيبه في الأرض – مثلا – شريطا من أشرطة الفيديو مسجلا عليه مشهد ذلك الحدث الذي يحاول بناء تصوره التاريخي بصورة صحيحة! وحتى لو تصورنا وقوع ذلك في يوم من الأيام، وتصورنا أن الحضارة التي ينتمي إليها ذلك الحدث كان فيها تلك التقنية، فسيظل السؤال مفتوحا: من صاحب هذا الشريط ولماذا صوره، ولماذا تركه ههنا، وهل هو تسجيل للواقعة نفسها أم هو تسجيل لواقعة مشابهة أو تمثيل لها أو نحو ذلك ... الخ.

والقصد أن ما يقال له "الدليل الأركيولوجي" هذا ليس هو ذاك الدليل الحاسم الذي يهنأ من عثر عليه بالحجة القاطعة للنزاع التاريخي (إن وجد ذلك النزاع وكان معتبرا في نفسه أصلا)! وإنما هو غاية مرام من لا يجد سواه، يستند عليه – إن وجده – في دراسة تاريخ أمة من الأمم الغابرة! فإن وُجد في تلك الأمة المبحوثة من المستند الخبري الموثق المعتمد ما يتحقق به المطلوب (وسنأتي لاحقا ببيان لميزان العقلاء في معرفة التوثيق الخبري المعتبر)، تحقق المطلوب، وكان من العبث المحض أن يسعى الواحد من هؤلاء في البحث في مخلفات تلك الأمة من قصاصات لوثائق بالية تركها بعضهم هنا وهناك، وأدوات ومباني وزخارف ونحو ذلك مما يشتغل به الأركيولوجيون، طلبا لمعرفة تاريخها!

ولهذا نقول لهؤلاء بكل قوة وحزم: أي "تحقيق أكاديمي تاريخي" هذا الذي جئتم تطالبوننا بقبوله منكم عندما يأتينا أحدكم بقوله إننا لم نجد في الحفائر التاريخية ما "يثبت" صحة ما جاء في القرءان وما زعمه المحدثون والمؤرخون عندكم في كتب السنن والسير والتراجم؟ أي هراء هذا؟

يعني مما ضحكت منه حقيقة، قول أحدهم (ويدعى يوهانس يانسن، وهو أستاذ متقاعد في الفكر الإسلامي المعاصر في جامعة هولندا!) (3) في تقديمه لكتاب من تلك الكتاب الهزلية التي تبث تلك الشبهة (وهو كتاب حديث لباحث أمريكي لم تمر على طباعته بضعة أشهر، ومع ذلك يعد اليوم من أكثر الكتب مبيعا في أمريكا وإلى الله المشتكى):
"إنه من المعقول أن تكون لدينا شكوك حول تاريخية "محمد" (أي صحة وجوده تاريخيا). فبداية، ليس ثمة آثار أركيولوجية مقنعة تؤكد تلك القصة التقليدية لمحمد ولفترة صدر الإسلام. صحيح إن علماء الإسلام ومحدثوه لديهم قدر هائل من المعرفة بالعقود الأولى من تاريخ الدين، ولكن ما يزعمونه لا يحظى بأي تأكيد على الإطلاق من البقايا الفزيقية المنتمية إلى الزمان والمكان المعنيين. ما يعرفونه محصور في الروايات، نفس الروايات تعاد روايتها المرة بعد المرة!" اهـ. (4)

قلت: تأمل طليعة اعتراض ذلك التافه على ما يعرفه علماء المسلمين ومحدثوه ومؤرخوه من خبر نبيهم محمد عليه السلام وأصحابه وما جرى في العقود الأولى من تاريخ الأمة من أحداث! مساكين هؤلاء الذين لا يملكون من مستند لمعرفة تاريخ دينهم وأخبار نبيهم الذي ورثوا عنه الدين، إلا الروايات المتصلة عن الموثوقين من الرواة عندهم! ما أفقرهم إلى الدليل الأركيولوجي هؤلاء! فلتضحك أيها القارئ الكريم ما شئت من أستاذ جامعي يجعل هذا هو رأس اعتراضه على "تاريخية محمد" عليه صلاة ربي وسلامه! يا هذا "البروفيسور" الجاحد المكابر، تلك البقايا الفزيقية التي تطالبنا بالبحث عنها في التراب (بصرف النظر عن جدواها التاريخية إن وجدت) إن عدمت فلا يعقل أن ترجع بمجرد ذلك العدم على تكذيب أو حتى توهين جميع الروايات التي يستند إليها المسلمون! كم ابتلعت الأرض من أمم لا حصر لها ولا عد، فلم يبق من آثارها المادية شيء يُعثر عليه، بل ولم يبق من خبرها بين الأمم ما يروى، فهل يصح هذا عندك دليلا على أنها لم توجد أصلا؟ أي عقل وأي "تحقيق أكاديمي" هذا الذي تزعمونه لأنفسكم قاتلكم الله، وأنتم لا تميزون بين دليل النفي ودليل الإثبات وتتعمدون الخلط بينهما؟!

ما معنى أن يقول قائل القوم إن أقدم مادة تاريخية يستند إليها المسلمون في معرفة تاريخ نبيهم ترجع إلى مئة وخمس وعشرين سنة بعد موته، ومن ثمّ فهذا انقطاع كبير يفقدنا الثقة فيما هو مدون في تلك المادة؟ هذا معناه أن هؤلاء الجحدة يزعمون أن قبل ظهور تلك المدونات المكتوبة (حتى على التسليم بصحة هذا التاريخ تنزلا) لم يكن بين المسلمين محتو معرفي معتبر وموثق يتلقون منه خبر نبيهم متصلا بنقل العدل الضابط عن مثله وصولا إلى مصدر الخبر، مع أن هذا الخبر (الذي يثبت به وجود محمد من حيث الأصل) منه ما هو قوام الدين نفسه، إذ لا يقوم الدين إلا على روايات النبي وأصحابه بالأساس! فهل تحتاج دعوى كهذه إلى تكلف إبطالها أصلا؟ إن كان صاحب هذا الصنف من الدعاوى بشأن تاريخ ظهور هذه المدونة أو المخطوطة أو نحوها، جاهلا بأن في هذه الأمة شيء اسمه الإسناد، ويظن أننا عثرنا على نصوص القرءان وعلى مدوناتنا الحديثية مخطوطة في لفائف أثرية كانت مدفونة في كهف هنا أو هناك، فليذهب ذاك الجهول ليتعلم! ولكن هذه حقيقة لا يجهلها من له أدنى صلة بعلوم التاريخ بصفة خاصة، ولله الحمد. (5)

أما المهزلة الثانية التي يرتكنون إليها، فهي مسألة "التأكيد الخارجي" Outside Evidence هذه، ويقصدون بها وجود رواة أو مؤرخين من أمم أخرى غير أمة الإسلام تطابق روايتهم ما جاء به المسلمون في رواياتهم من القصص والأخبار. ووجه كونها من المهازل، أنه معلوم بالحس والمشاهدة أن الحدث الواحد قد تتنازعه أكثر من طائفة، فتزعم كل واحدة من تلك الطوائف فيه زعما يخالف الطائفة الأخرى، بل وقد تهمله إحدى الطوائف فلا تدونه في تاريخها – مع كونه مما مر بها تحقيقا – وتدونه طائفة أخرى لما في ذلك من مصلحة لهم، وتدونه كذلك طائفة ثالثة على نحو مخالف لمصلحة يرونها، مع كون تلك الروايات ربما يظهر بعضها مدونا مكتوبا (أو منقولا بالمشافهة) لأول مرة بعد الحدث بزمان، إن ظهر أصلا! ومن المشهور عند المؤرخين قولهم إن التاريخ يكتبه المنتصر! بمعنى أن الفئة المنتصرة إن كانت ممن لا خلاق لهم بالحق والعدل والإنصاف، فلك أن تتيقن من أن التاريخ الذي سيكتبه مؤرخوها ممن صفتهم كصفة حكامها (تجار دنيا يريدون الشهرة والوجاهة الاجتماعية) لن يكون "فوق الشبهات"، بل سيكون أكثره كذبا وتلفيقا! ثم إنه من المعلوم كذلك أن الوقائع التاريخية الكبرى التي تنسحق فيها أمم وتعلو فوقها أمم أخرى، يكون لدى مؤرخي الأمم المهزومة منها الكثير من الحقد والكراهية تجاه الأمة الفاتحة الغازية، لا سيما إن كانت الحرب حربا دينية وفتحا ترفع فيه راية ملة أخرى غير ملة المؤرخ إلى سدة الحكم والسيادة فوق بلاده أو بلاد أهل ملته! ومعلوم كذلك أن العوام يشتهون الكلام بالقيل والقال، من غير تبين ولا استيثاق، وأن من تخلف عن الضوابط العلمية المحكمة في النقل والرواية، وكان ممن يعظم العوام روايته، فإنه يصبح مصدرا من مصادر الرواية التاريخية وإن كانت تلك "الأقاويل" و"الإشاعات" هي غاية بضاعته! وكم من حروب وثورات قامت لا على شيء إلا على أمثال تلك "الأقاويل"! ولقد شاهدنا في بلاد المسلمين كيف أن أمة من الأمم الحاقدة التي فتحها المسلمون على يد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، قد بلغ الحقد بأهل الملة المغلوبة فيها (المجوسية الزرادشتية: واسألوا أهل فارس عن تاريخهم يخبرونكم بما صنعه ذلك الرجل بسادتهم ورؤوسهم) أن أطلقت من الأكاذيب والدعاوى الباطلة الواهية ما تكونت منه ملة كاملة تخالف المسلمين في مصادر التلقي الأولى لديهم، أصبح يقال لأصحابها اليوم "الرافضة"، وهو حقد بإزاء عموم المسلمين (الذين يسمون بالسنة ويسميهم الروافض بالنواصب) لا يزال القوم يتوارثونه إلى اليوم في كتبهم ونصوصهم الموروثة عندهم على أنه من أصول الملة والدين!

هذه العوامل كلها ونحوها تتسبب في اختلاف الروايات والأخبار بين الناس بطبيعة الحال، فيروي هؤلاء ما يغفله أو يتغافله أولئك، ويزعم قوم في واقعة بعينها ما يزعم غيرهم خلافه! وإذا بما يقال له "كتب التاريخ" يأتيك مشحونا – لا محالة – بالأكاذيب والتخرصات أشكالا وألوانا! فمن اهتدى إلى المنهج الصحيح في القبول والرد، فلن ينتقي من تلك الحمولة الثقيلة ما يأتي على هواه ويترك ما يخالفه، ولن يشترط – يقينا – ذلك الشرط المتهافت الذي يشترطه هؤلاء بهذا الإطلاق الأعمى في قولهم بضرورة الوقوف على هذا الذي يقال له "التأكيد الخارجي"! فإن هذا الشرط الساقط لازمه الواضح افتراض الصدق فيمن يروي الخبر التاريخي حول أناس ينتمون إلى ملة تخالف ملته، بل تحارب أهل ملته وتغزوهم غزوا! فعلى أي أساس من العقل يفترض في مثل هذا أن يكون صادقا فيما يرويه عن أعدائه، حتى يقال إن ما سكت عنه هؤلاء من خبر محمد ودينه ومن معه، فهو مفتقر "للتأكيد الخارجي"؟! وهل يلتزم هؤلاء السفهاء هذا اللازم في تعاملهم مع روايات التاريخ وأخباره: التسوية بين الرواة من كلا جانبي الصراع في مقدار ما يستحقه الجميع من الثقة فيما يأتي من روياتهم وأخبارهم؟ هذا محال! فإذا بطل اللازم بطل الملزوم.

ولكن هؤلاء لا عقل لهم أصلا حتى ينتبهوا إلى اللوازم العقلية والمقتضيات الفلسفية الظاهرة لمنهجهم الفاسد! إنما هم قوم أهل هوى محض لا غاية لهم سوى هدم الأديان كلها من داخلها، والعمل على إزالتها من الأرض تحت شعار النقد العلمي والتحقيق الأكاديمي!

تأمل على سبيل المثال كيف أنه في السبعينيات الميلادية، نشرت الباحثة الدنماركية باتريشيا كرون Crone وزميلها الاسكتلندي مايكل كوك Cook كتابا "مثيرا للجدل" (وهو كتاب لا يذكره أحد من المؤرخين حتى الملاحدة منهم إلا جعله مادة للسخرية)، زعما فيه (فيما بات يعرف بنظرية الهاجرية Hagarism) أن الإسلام ليس إلا شعبة من شعب الملة اليهودية، قدم أصحابها نسل إسماعيل وهاجر على نسل إسحق، وأن قصة نشأته في جزيرة العرب ليست إلا أسطورة استعملها ملوك العرب بعد فتح كل من مصر والشام وفارس، في القرن الثامن الميلادي (أي بعد ذلك التاريخ الذي أجمعت الأمم كلها على أنه كان تاريخ بعثة محمد بن عبد الله بقرن كامل أو يزيد)، واصطنعوها اصطناعا حتى تضمن لهم السيادة والسيطرة على أقطار الإمبراطورية الجديدة! وزعما كذلك أن قصة مكة بوصفها ذلك المركز الحضري الذي فحته محمد وأصحابه وطردوا منه المشركين، قصة واهية تاريخيا ولا أساس لها. (6) فماذا كان دليلهما في هذه الدعاوى العملاقة الفاحشة التي يريدون بها إعادة كتابة تاريخ أمة بأكملها؟ قالوا إنه لم يرد في الوثائق التاريخية المنقولة من البلدان المحيطة (على سبيل التأكيد الخارجي!) ما يؤكد صحة القول بأن تلك الفترة التاريخية في القرن السابع الميلادي قد وقع فيها ما يزعم المسلمون أنه قد وقع من الأحداث، ولا عُثر في البقايا الأثرية الفزيقية على شيء يعضد زعمهم بأن مكة كانت ذلك المركز التجاري الحيوي الذي جاء خبره في روايات السير والحديث عند المسلمين!

وتأمل كذلك كيف يقارن المدعو "روبرت سبنسر" في كتابه المذكور بين الصورة التي ترسمها نصوص الإسلام لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وبين الصورة التي يمكن أن ترسمها أي رواية موروثة لشخصية خيالية أو حقيقية، حتى وإن لم تكن إلا خيالا محضا، يريد من مجرد ذلك الوصول إلى القول بأن ما أنجزه المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم في أقل من قرن واحد من فتح البلاد باسم الدين، من الممكن أن يكون من وحي شخصية خيالية كان العرب يؤمنون بها إيمانا راسخا! فتراه يقارن ما في روايات المسلمين من خبر محمد عليه السلام بقصة ماكبث الملك الاسكتلندي الذي جعل منه شيكسبير بطلا ملحميا، مع أنه في واقع الأمر كان دون ذلك! (انظر المرجع السابق) فهل هذه يا عباد الله يا عقلاء، "حجة" ترقى لإبطال مستند المسلمين في اعتقاد أن رجلا مشى على الأرض اسمه محمد، وأنه فعل ما نزعم أنه فعله وقال ما ندعي أنه قاله، صلى الله عليه وسلم؟ أحقا يحتاج العقلاء إلى الرد على مثل هذا السفه؟

فتلك الثلة من "المغامرين" في علوم التاريخ قد استصحبوا كما ترى قاعدة محسومة لديهم مفادها أن روايات المسلمين هذه لا قيمة لها إذا ما انفردت بالإخبار عن حدث ما أو عن شخص ما، من غير أن يعضدها أو يوافقها دليل خارجي، ولا مثقال لها حالئذ في ميزان صنعة التاريخ أصلا! وهو أصل تغني روايته عن تكلف إبطاله، وقد شذت به تلك الشرذمة من المؤرخين والمستشرقين عن إجماع أهل صناعات التاريخ في كل مكان، كما يشهدون هم على أنفسهم بذلك في مؤلفاتهم الساقطة تلك! كما استصحبوا أصلا كليا مفاده أن "علماء الإسلام" ليسوا هم المرجع في فهم تلك النصوص، بل ليس لجهود هؤلاء العلماء والأئمة بطول تاريخ المسلمين وعرضه من قيمة أصلا عند هؤلاء! والمتأمل في "تحليلاتهم" للنص القرءاني لا يخفى عليه الكيفية التي يتعاملون بها مع هذه النصوص من موقع الفوقية و"العلو" على هؤلاء العلماء جميعا، وجعل إجماعاتهم واتفاقاتهم وجميع صناعاتهم المعرفية بمنزلة "نظرية" جاؤوا هم بنظريات أخرى في مقابلتها! فترى ذاك المدعو روبرت سبنسر – على سبيل المثال – ينتهي إلى الحكم في كتابه الجديد بأن القرءان ليس فيه إلا أربعا من الآيات وحسب فيها ما يمكن الاعتماد عليه من معلومات بشأن النبي محمد، لأن في تلك الأربعة دون غيرها التصريح باسمه الصريح، أما ما جاء فيه الخطاب موجها إليه أو إلينا عنه تحت لقب "رسول الله" أو "الرسول"، فلا ندري لعل المقصود بها واحد من أولئك الأنبياء والمرسلين الذين تكرر ذكرهم في القرءان عشرات بل مئات المرات! (سبنسر 2012) هذا الكلام مبني كما لا يخفى على أساس التسليم المسبق بأن هذا النص منسوخ أو منقول من نصوص قديمة عن أولئك الأنبياء! وهو مثال يبين لك مقدار الاستخفاف بعقول المسلمين، وطريقة تلك الثلة المنحطة من المنتسبين إلى علوم التاريخ في التعامل مع النص الديني عندنا وكأنهم قد اكتشفوه حديثا في كهف من الكهوف، فاستوت في ذلك مساعيهم في فهمه و"فك طلاسماته" بجهود أولئك الذين عثروا على حجر رشيد مثلا أو على مخطوطات البحر الميت! هذه السخافة لا يدري المرؤ والله أيضحك من سفاهة أصحابها أم يبكي من كبرهم وجحودهم البالغ، ومن اغترار بعض السفهة من بني جلدتنا بزبالتهم تلك!

هل نحن الآن مطالبون بأن نعتبر أن ما وقف عليه هؤلاء السفهة من وثائق تاريخية قديمة (على سبيل المثال، فيما ساقه علينا سبنسر هذا في كتابه) ترجع إلى القرن السابع الميلادي، كتبها بعض الكهنة النصارى المقهورون ممن فتح المسلمون بلادهم في زمان عمر رضي الله عنه، يصلح كمستند تاريخي لمعرفة تاريخ النبي محمد وكتابه ودينه، بحيث إن وجدنا في تلك الوثائق ما يوافق ما عند المسلمين، رفعنا ما عند المسلمين إلى منزلة المستند التاريخي، وإن لم نجد فيها ونحوها ما يوافق كلام المسلمين، بل لم نجد فيها ذكرا لمحمد ولا لرسالته، أسقطنا نصوص المسلمين كوثائق تاريخية، وتركنا دعاواهم بشأن نبيهم وكتابه محلا للشك والتوقف المعرفي؟ هل هذا هو النقد العلمي والتحقيق التاريخي الذي يتشدق به أولئك السفهاء؟ أهذا ما بات المسلمون اليوم مطالبون بالرد عليه في ساحات "البحث الأكاديمي"؟ اللهم إليك المشتكى يا مثبت العقل والدين!

تقدم تقريرنا لما هو معلوم بالواقع والمشاهدة من تقلب أخبار التاريخ وتضاربها بين الطوائف والجماعات البشرية، فكيف عرفنا نحن المسلمون أننا على الحق وأنهم على الباطل، وأن رواتنا وأئمتنا هم الصادقون فيما رووا، بينما كان مخالفونا في المقابل على الباطل والكذب؟ كيف عرفنا أي الرواة – وما أكثر ما يطفح به التاريخ البشري من مؤرخين وقصاص ورواة في كل مكان من الأرض – يأتينا بالحق عن ديننا وعن نبينا وأصحابه وأيهم يكذب لغاية في نفسه؟ كيف عرفنا براءة ما أجمعنا على قبوله من ذلك، وسلامة منهجنا نفسه في القبول والرد؟ عرفناه بإعمال نفس القاعدة الكلية التي نقررها ههنا، ونهدم بها ذلك الشرط التافه الذي يشترطه هؤلاء السفهاء للتسليم بصحة ما في رواياتنا من أخبار: الثقة (وما يتشعب عنها من توثيق واستيثاق وتبين)! الثقة هي أساس قبول كل عاقل لما يأتيه من خبر ورواية لا يظهر في متنها ما يستوجب ردها من مخالفة لأمر معلوم بيقين، وهي أساس كل صنعة معرفية تمد إلى فنون النقل التاريخي بنسب! فما قوام تلك الثقة عندنا، وما قوامها وأساسها عند مخالفينا من أهل الملل؟ كيف عدل هؤلاء من عدلوهم وجرحوا من جرحوهم، من رواة أو مؤرخين أو نحو ذلك؟ هذا هو مربط الفرس. (7)

نحن المسلمون نؤسس الثقة عندنا في كل خبر يفيد علما بشيء من الدين، على مقدار التزام الراوي نفسه بتلك الأخلاق التي تجعله أهلا لأن يؤتمن على ما يروي ابتداء. والأصل فيمن التزم بهذا الدين إجمالا أنه صادق فيما يروي عنه وأن شهادته الشرعية مقبولة ما لم يثبت عليه الكذب أو الفسق (انخرام العدالة الأصلية) بأي صورة من صوره. أما صاحب البدعة (وهي الشذوذ في قضية كلية ومنهجية من قضايا الدين) فقد يكون له هوى في رواية ما يخدم تلك البدعة من الأخبار، فلا يقبل منه كل خبر يشتبه فيه ذلك. وأما المشرك الأصلي فلا تقبل روايته الدينية (أو خبره التاريخي عن النبي عليه السلام وصحابته) ولا شهادته الشرعية لأنه ليس من أهل الملة أصلا، وهو يعلم أن المسلمين يريدون رفع دينهم فوق دينه في الأرض، فلا يعقل أن يأتمنه المسلمون على دينهم نفسه، وعلى معرفتهم بنبيهم وأصحابه. هذه القواعد والضوابط الكلية البدهية كان الصحابة يعملون بها من غير أن يدونوها أو يقعدوها كقواعد علمية مفصلة. ولم تظهر في الأمة حاجة إلى ذلك التقعيد إلا عندما بدأ الصحابة وكبار تلامذتهم يسمعون من الروايات ما يجزمون بأنه ليس من كلام النبي عليه السلام، فاشترطوا على كل راو أن يسمِّ لهم رجاله ومن سمع منهم، ومن هنا نشأ الإسناد في الرواية. فإنهم هم شهود تلك الأحداث المروية، وهم الذين حدثوا بها تلامذتهم، الذين نقلوها بدورهم إلى تلامذتهم من بعدهم، وهكذا. ولهذا كان من الميسور على من تلقى الرواية من شيخه أن يسمي شيخه إن سئل عنه، ولم يزد هذا الشرط الجديد على أن جعل ذكر مسلسل المشايخ المحدثين هذا (الإسناد) عادة مستقرة عند الرواية والتحديث. فإن جاء من يخترع سلسلة لم تقع في التتلمذ والتحديث، فسيكشفه أهل الشأن لا محالة ولو بعد حين.

ثم إن كل طائفة من الطوائف المبتدعة التي زعمت مخالفتنا في مصادر التلقي، قد تبين بفضل الله بطلان ما تستند إليه من روايات تشذ بها عنا، وذلك من فساد ما تقرره تلك الروايات نفسها من عقائد بمقياس النقل والعقل جميعا. والكلام ههنا عن تلك الطوائف التي ردت دواوين السنة التي أجمع أهل السنة على قبولها، سواء لتكفيرهم الصحابة أنفسهم، أو لتكفيرهم التابعين وتابعيهم، أو لطعنهم على أئمة السنة الذين نقلوا إلينا تراث هؤلاء جميعا. فهؤلاء ما وقعوا في ذلك إلا لمخالفتهم لأولئك الأعلام في أصول المعتقد نفسه. فإن قيل إن النقل (كأصل) هو محل الخلاف بين الطوائف هنا، فلا يصح اعتبار النقل نفسه هو الطريق لمعرفة أي تلك الطوائف أصدق فيما تنقل، قلنا فأين العقل إذن؟ كل من رد السنة التي بين أيدينا – لتكذيبه رواتها الأوائل وتكفيره إياهم غالبا كما تقدم – محجوج بالعقل لا محالة، وهذا ظاهر معلوم ولله الحمد. (8) فلزم أن يكون الإسلام الحق هو ما تتابع أئمة هذه السنة المطهرة (المعلوم مصادرها ورجالها) على حفظه وتوارثه عن بعضهم البعض، ولزم أن يكونوا هم محل الثقة التامة في نقل هذا الدين والإخبار بالحق والصدق عن نبيه وعن صحابته. ولهذا كان من أصول نقد الرواية في الإسلام: النظر في السند والمتن جميعا، وليس في السند وحده أو المتن وحده. ونحن نتحدى أن يأتينا أحد من المخالفين من أي طائفة من طوائف البشر بحديث أو رواية قد أجمع أهل السنة على تصحيحها، مع أن في متنها شيء يمنعه العقل والمنطق، أو تتعارض مع خبر آخر أو دليل معرفي من أي صنف، يعدلها في المنزلة الدلالية أو يعلو عليها، تعارضا يمتنع معه الجمع بينهما على نحو يتوافق وفهم الأولين لها (كخبر تاريخي أو نحوه).

القضية الأخرى التي يجب أن ننبه إليها في هذا المقام، أن هذه الأمة لم تتأسس – كأمة قوية ذات منعة وشوكة - إلا على هذا الدين الحق الذي توارثته تلك السلسلة من الثقات عندنا (بصرف النظر عن مصدره عندهم)، وهذا أمر لا يماري فيه أحد، ولا يجرؤ على نفيه هؤلاء المغامرون من المؤرخين الماديين! فقد كانت أمة المسلمين من يومها الأول أمة قوية منيعة، اجتمع المسلمون فيها تحت لواء وقيادة وحكم أولئك الذين نزعم أنهم أصحاب النبي المقربين منه، رضي الله عنهم وأرضاهم، فكانوا هم حماة الحق والدين وحماة الوحي والنص وهم حملته إلى أقطار الأرض، الذين قاتلوا واسترخصوا من أجله الدماء والأنفس والأموال! ولك أن تتصور ضخامة ما صنعه هؤلاء في بلادهم في سبيل صيانة هذا الدين من كل دخيل عليه، وقد رأيتهم بذلوا – بالفعل – المال والنفس وقدموا أرواحهم في سبيل أن تنتشر رسالته في أقطار الأرض من حولهم وأن تصل إلى الناس في كل مكان! فكان هذا تقديرا إلهيا لم يكتب من قبل لأمة من أمم الأنبياء والمرسلين، أن قامت الشوكة والغلبة في الأرض لأولئك الأئمة الأوائل الذين علموا الدين للناس! لقد ضربوا المثل الذي أذهل سائر الأمم من حولهم لما يصنعه الإيمان الغيبي الراسخ بجيوش تقاتل في سبيله، فلا يزال المؤرخون في حيرة كيف نجح هؤلاء العرب في بناء إمبراطورية كبرى امتدت من الهند والصين شرقا إلى المغرب غربا، ومن وسط إفريقيا جنوبا إلى بطن أوروبا شمالا، في فترة لا تساوي شيئا في أعمار الأمم (بضعة عقود لا غير)! وجوابنا أن هذا أمر قد جعله الله سببا عظيما (إن لم يكن هو أعظم الأسباب قاطبة) في حفظ الدين وتحصين روايته المتصلة وتمحيص خبره في تلك الطائفة من لدن هؤلاء الثقات الكرام وإلى يوم الناس هذا، كما لم يكن لأمة من قبل.

فليس من الهوى ولا من التقليد الأعمى أن وضع العقلاء من المسلمين ثقتهم في أئمة أهل السنة، الذين تسلسلوا بالتتلمذ والمشيخة وصولا إلى هؤلاء النبلاء الأوائل رضي الله عنهم في صدر الأمة! فإن صاحب الحق يعرف ببضاعته، وللناس عيون وألباب! وليس من التعصب الأعمى أن اعتقدنا أن الإسلام الحق هو ما جاءنا من طريق هؤلاء الأكابر، فاتخذنا قاعدة نرد بها كل خبر في الدين وفي تاريخ النبي عليه السلام والأصحاب والتابعين، يتخلف عن شروطهم فيما انعقد الأمر فيه لديهم على قبوله وتوثيقه من الروايات والأخبار، لا سيما إن كان يأتي من راو أو مؤرخ على غير ديننا. وهو كما ترى موقف ظاهر القوة في ميزان العقل، حيث يضع الثقة التاريخية فيمن لم يعرف التاريخ نفسه من هم أكثر أهلية واستحقاقا لها منهم، ولله الحمد!
إن الاعتقاد بصحة ما اعتمده أئمة السنة من خبر ورواية لما وقع من محمد عليه السلام وأصحابه من أقوال وأفعال = ضرورة دينية كبرى عند المسلمين، كان ولا يزال المسلمون يتعبدون ويتدينون لله ديانة بإيفائها حقها من البحث والتمحيص! فليست هي مسألة "تاريخية" عارضة يحتمل أن يكون قد مر عليها أربعة عشر قرنا من الزمان من غير أن تحظى بما يليق بها من التحقيق والتدقيق! (9) لذا نقول إنه من السفاهة المحضة أن يتعامل بعض المستشرقين والمؤرخين الغربيين مع نصوص ديننا وكأننا وجدناها وجادة في مخطوطة أو قرطاس، وكأننا لم يكن لدينا أساس للتوثيق والتبين نقبل به ما نقبل ونرد به ما نرد، أو وكأننا مطالبون بتوثيق من وثقوه هم من المؤرخين ورفعه فوق من وثقهم أئمتنا من رواة المسلمين ومحدثيهم! ونقول إنه من العبث المحض، مجرد أن يتصور أحد هؤلاء السفهاء من المؤرخين المعاصرين أن بوسعه إسقاط ذلك التراث العظيم بمثل قولهم "إن المؤرخين الخارجيين لم يقولوا بهذه أو تلك" أو "إن الآثار المادية ليس فيها مصداق تلك الروايات" أو "إن القرءان مؤلف من مقتطفات من الكتب القديمة" أو "إن الملوك بارعون في اصطناع الدين ووضع النص الديني بما يناسب هواهم ويقوي سلطانهم"، إلى آخر ما يسوقونه علينا من صور لهو الصبيان ولعبهم!
نعم لا يخلو زمان من أمم وملوك وسلاطين يتنازعون السيادة، ولا يخلو من مجرمين يسعون لتحريف الدين بما يوافق هواهم، بداية من التأويل الفاسد لنصوصه، ووصولا إلى العبث بمصادر تلقي تلك النصوص نفسها! ومعلوم أن كثيرا من الملل الوثنية الباطلة لم تنشأ إلا لإشباع مطامع الكهنة وشهواتهم! فكان ماذا؟ من طلب الحق من بين ذلك كله فلن يخفى عليه طريقه! لن يخفى عليه دين يزعم أصحابه في حق خالقهم ما يتنزه به عن كل نقصية قالت بها أهل الملل الأخرى في حقه وهو متنزه عنها بضرورة العقل والفطرة! لن يخفى عليه دين لا يزال أصحابه يتوارثون كتابا محكما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولو كان من تأليف بشر لوجدوا فيه اختلافا كثيرا! أفلا يكون أولئك الذين نقلوا إلينا هذا الكتاب المعجز وأحكموا وثاقه فيما بينهم، أهلا لأن يوثق فيما يأتي عنهم وعن تلامذتهم من خبر من نزعم أنه نبي من أنبياء الله؟

لا والله ليس في أولئك الذين يسمون بالمستشرقين ولا فيمن تخصصوا في دراسة تاريخ الإسلام وكتابه ونبيه من يرقى لأن يقال في حقه إنه منصف متجرد للحق، مهما رأينا في كتابات بعضهم من صدق في التحديث عن ذلك النبي وعن أمته وأصحابه، إلا من مات منهم على الإسلام! فوالله لو أنصف الواحد من هؤلاء وتجرد للحق حقا لأسلم ولارتضى الإسلام دينا، إذ ليس الأمر في حجية الوحي الموروث بين المسلمين ورقيه العقلي فوق سائر ملل الأرض قاطبة وفوق ما تطيق عقول البشر وضعه وتأليفه، بالذي يخفى أو يحتاج إلى بحث أو نظر أو طول مدارسة، وهذه مسألة لا أملّ من الدندنة حولها في كل مناسبة لشدة الداعي إليها عند الرد على أولئك الذين يقولون إنهم "لا دينيون" لا يزالون ماكثين فيما يقال له عندهم مرحلة "البحث عن الحق"! فهم يعلمون أنهم لن يجدوا في الأرض ملة توحد الخالق بما يوجبه له العقل السوي وتعظمه بما هو أهله كهذه الملة، بل كلها على ألوان شتى من الشرك والتنقص من ذات الخالق ونسبته إلى ما لا يستقيم به عقل ولا نظر (حتى الإلحاد ملة شركية عند التحقيق، وليس ههنا محله)! وهم يشهدون بأن جميع الملل في الأرض تتهم خالق السماوات والأرض بالنقائص وتنسب إليه المتناقضات، إن لم تنف وجوده بالكلية، سبحانه وتعالى عما يصفون، إلا ملة محمد بن عبد الله! وهم يعلمون أن جميع كتب الأديان فيها من التناقض والاختلاف والغلط ما فيها إلا هذا الكتاب الذي جاء به محمد بن عبد الله، الذي تحدى عقلاء العالم كله بالإتيان بكتاب مثله يخلو من التناقض والاختلاف والعبث وسوء البيان فكان ولا يزال يعجزهم عن ذلك من أولهم إلى آخرهم!

ففي أي حديث يمترون، وبأي حجة بعد هذا يكذبون؟ وما نوع تلك الحجة أو الدليل الذي يشترطون ظهوره لهم حتى يتعرفوا على الدين الحق ويرتضوه لأنفسهم إن كانوا فاعلين؟ نسأل الله السلامة من الأهواء وعفنها! فإن الهوى إذا ما عشش في القلب وضرب فيه، فلا رجاء لأن يرضى من هذه حاله بالحق الجلي الواضح إلا أن يرحمه الله!

ألا فليعلم كل عاقل أن الرواية التاريخية ونقل الخبر التاريخي = دين عندنا، وأن الدين عندنا معاشر المسلمين جد فليس هو بالهزل، علم فليس هو بالجهل! فمن حسب أن له في سوق العلم والتحقيق العلمي مكانا بقبوله مثل ذاك العبث والهراء الذي كتبته تلك الشرذمة (وأكتفي بهذا القدر مما نقلته منه ضربا للمثل لا غير)، تريد أن تنفي وجود محمد نفسه، صلوات ربي عليه وسلامه، وتحطّ على جهود أربعة عشر قرنا من علماء المسلمين وأئمتهم في تمحيص الرواية وفهم النص، وكأنها هواء لا وجود له أصلا، فليذهب مع من وافقهم إلى حيث ذهبوا وليمكث فيهم ما شاء أن يمكث، وليهنأ بلذة العلو على أكتاف من استحسنوا كلامه من السفهاء، وبقبول من استحسن هو كلامهم وناصرهم عليه، ثم ليهلك معهم في مزبلة التاريخ كما هلكت أمم من قبلهم من المجرمين غير مأسوف عليها، والحمد لله رب العالمين.



كتبه في يوم عرفة من سنة 1433 من الهجرة
أبو الفداء بن مسعود


-------------------
الحواشي:

(1) وهم بذلك يخرقون إجماع المؤرخين من غير المسلمين الذين لم يجدوا مانعا علميا من التسليم للمسلمين بصحة ما يزعمون وقوعه من أحداث في حياة محمد عليه السلام، فضلا عن وجوده نفسه، صلى الله عليه وسلم.

(2) هذه الشبهة قد قتلت ردا وإبطالا وتفنيدا في الحقيقة، ومع ذلك، لا تزال تنزل تلك الردود عند هؤلاء منزلا وكأنها النقش في الماء، أو النحت في الهواء، والله المستعان! قلنا مرارا وتكرارا إن مجرد وجود توافق بين ما يرويه القرءان من أخبار، وبعض ما هو موجود في نصوص أهل الكتاب، لا يصح في العقل أن يعد دليلا في نفسه على أن القرءان مأخوذ من تلك الكتب! ذلك أننا إن أهملنا كل اعتبار آخر، فسنرى العقل يجيز أن تجد هذا التشابه نفسه متحققا في حالة ما إذا كان القرءان وتلك الكتب قد جاءت كلها من أصل غيبي واحد ومصدر سماوي واحد، ولكن قد حُرف منها ما حرف وبقي منها ما بقي، وهو ما نزعمه نحن ولدينا من الأدلة على صحته ما لا يترك للعاقل الصادق سبيلا لرده! فأي سفاهة هذه التي يقترفها هؤلاء عندما يزعمون أنه ليس إلا نصا مركبا من نصوص قديمة لمجرد هذا التشابه، حتى ذهب بعضهم (المدعو كريستوف لوكسنبرغ Luxenberg) إلى الزعم – فيما صار مادة للضحك عند العقلاء، و"دليلا" يُستند إليه عند الملاحدة وعامة السفهاء – بأن كثيرا من الألفاظ التي وصفها بأنها "غامضة" في القرءات لا تفهم فهما صحيحا إلا بإرجاعها إلى "الأصول السيريانية"، وأن ذاك اللفظ الذي كان ولا يزال المسلمون يفهمونه من النص القرءاني على أن معناه "العذارى" (فيما وعد الله به المؤمنين في الجنة) إنما يعني في الحقيقة الزبيب أو العنب!!

وقد قلنا كذلك مرارا وتكرارا إن القرءان لم يكن نقله في زمان محمد عليه السلام وصحبه الكرام بكتابة المخطوطات ونسخها، وإنما كان بالأساس – هو وسائر ما نقله الرواة إلينا من أخبار النبي وأصحابه – منقولا بالسمع والحفظ في الصدور، وقد كان المسلمون ولا يزالون يصلون في صلاة الجماعة بالقرءان متلوا من زمان النبي وأصحابه إلى يوم الناس هذا، وقد كانوا يتقربون إلى الله بحفظه وتلاوته ويتوافرون على ذلك يعلمونه للصبية الصغار من نعومة الأظفار، حتى كانت الأمة لا يتصور فيها – وإلى وقت قريب – أن يشب صبي من الصبية من غير أن يكون حافظا للقرءان! وإجازات المجازين من الحفاظ في تلاوته تمتد بالسند إلى النبي عليه السلام نفسه! والقاصي والداني يعلم أنه لن يخطئ رجل في قراءة القرءان في ملإ من المسلمين إلا وجد أكثرهم يرده ويصوبه! هذا نقوله اليوم في زماننا هذا، فكيف بزمان الأولين من قبلنا؟ فوالله لو أن هذا القرءان لم يكتب أصلا ولا وضع في صحائف هذا المصحف الذي بين أيدينا الآن لما ضاع منه حرف واحد في أمة هذا دينها وتلك عبادتها، والحمد لله رب العالمين! هذا تواتر والله الذي لا إله هو لم يوجد في الأرض مثله قط، ولا عرفت له البشرية نظيرا!
نقول هذا الكلام مهما نقول، ونكرر مهما نكرر، ثم نمضي في كل مرة وكأننا ما قلنا من شيء أصلا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. بل يخرج علينا من يزعم – كما قال المستشرق الألماني غوستاف فيل G. Weil في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي – هكذا بكل سهولة إن اعتماد الإسلام في الصدر الأول على حفظ الروايات في الصدور وعلى الرواية الشفهية، كان بابا – في نفسه – لكثير من النزاع والانقسام و"الفبركة" والاضطراب! أي أن مجرد حفظ المسلمين في تلك الحقبة الأولى لنصوص الوحي وتلقيها وروايتها سماعا، لا يتصور معه أن ينضبط لهؤلاء طريق أو منهج لتمييز الحق من الباطل فيما ينسبون إلى نبيهم! فبالله هل هذا "نقد" علمي يستحق أن يلتفت نقاد التراث الإسلامي (أهل الحديث والأثر وعلماؤه) إليه؟ هذا جحود ومكابرة واضحة لا تخفى.

(3) ولك أن تتصور أيها القارئ المحترم أي "فكر إسلامي" هذا الذي يدرسه هؤلاء الخراف في جامعاتهم المرموقة تلك!

(4) Spencer, R. (2012), Did Muhammad Exist? An inquiry into Islam’s obscure origins, USA: ISI books, Intercollegiate studies Institute, Forward by Johannes G. J. Jansen, pp. 8.

(5) والعجب كل العجب أن ترى من يستند إلى مطلق وجود الإسناد وعلوم التمحيص الحديثي الدقيق عند علماء المسلمين، ليجعله قرينة على "كثرة وقوع الكذب والفبركة على النبي وأصحابه" (وهذا وقع في كتاب المدعو سبنسر هذا)! سبحان الله، كيف يصبح وجود هذا العلم الشريف عندنا الذي به عرفنا الصحيح من الضعيف، والصادق من الكاذب، دليلا على ما يريده هؤلاء من توهين تراثنا الحديثي وتلبيسه كله بلبوس الكذب و"الفبركة"؟ أيُستدل على الشيء بدليل ينقضه؟ أقول فليأتنا صاحب هذه الدعوى ونحوها برواية واحدة أجمع علماؤنا على قبولها في باب من أبواب الدين مع أن حقها ألا تقبل لأنها مكذوبة أو "مفبركة"! ودونه من الآن إلى آخر عمره وإن أمهله الله مئة عام! ما ظن هؤلاء السفهة بعقول المسلمين؟ أيحسبون أنهم يخاطبون صبية صغارا لا يعقلون ما يسمعون؟

(6) وإن كانت "كرون" هذه قد تراجعت فيما بعد عن موقفها المتطرف بإزاء وجود محمد عليه السلام، وقالت إنه لابد وأنه قد وجد في القرن السابع الميلادي رجل يعتقد بأنه يملي على العرب إرادة الخالق، وقالت إن الدليل على هذا الأمر قد يكون معتبرا فيما يوصف بأنه "استثناء" (!!)، من غير أن تتكلف إبطال ما بثته في كتابها الأول من خرافات وسخافات! (سبنسر 2012، ص 33)

(7) على أنه يجب ألا يخفى أننا نتكلم ههنا عن منزلة من التوثيق والتمحيص والتبين في الرواية التاريخية لا يتكلفها المسلمون إلا في تلك الروايات التي يتأسس عليها شيء من الدين عندهم! أما روايات التاريخ والسير والتراجم فالأمر فيها أهون، وهو مع هذا، أشد احترازا في قبول الروايات من عمل أكثر المؤرخين من غير المسلمين! حسبك أن الرواية تأتي مقرونة بإسنادها ورجالها لزوما، فمن شاء أن يفحصها لغرض تحقيقي دقيق، لم يعجزه ذلك! فلو أن كتابا ككتاب ابن اسحق – جدلا – ثبت وهاء جميع ما فيه من روايات السيرة، فإن هذا لا يؤثر في ديننا في قليل أو كثير، ولا يوصل منه – وهو الأهم ههنا - إلى ما يريده دعاة "خرافية" النبي محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام، الذين قال قائلهم في سياق "حججه" إن ذلك الكتاب (يعني كتاب ابن اسحق) مشكوك في "تاريخيته"!

(8) وأظهر مثال له عندنا، حجج أهل السنة ضد عقائد الرافضة والباطنية وأضرابهم من الملل التي زعمت النسبة إلى القبلة والإسلام وهو منها بريء! فكلها تقوم على تصورات في صفات الرب جل وعلا لا تكاد تمتاز بها عن أهل الملل الشركية والثنية في شيء أصلا، والأمر في هذا يعرفه من خبره.

(9) تأمل كيف يقول المدعو "روبرت سبنسر" بكل سهولة في كتابه المذكور: "ليس دين الإسلام فريدا من بين الأديان في زعمه بأن مادة الإيمان فيه مادة تاريخية مفتوحة للبحث التاريخي. ولكنه فريد في كونه لم يخضع من قبل لهذا النقد التاريخي الدقيق على أي مقياس ذي بال. بينما خضعت كل من اليهودية والمسيحية للبحث العلمي التاريخي الموسع على مدار ما يربو على قرنين كاملين". اهـ (المرجع السابق ص 20). هذا "النقد الدقيق" الذي يتكلم عنه ذاك الجويهل، هو ما يقال له "النقد العالي" Higher criticism ويقصد به تلك الطريقة الحديثة التي انتحلها بعض الفلاسفة المعاصرين خلال القرنين الماضيين في التعامل مع النص الديني، وفي النظر في المادة التاريخية لتلك النصوص بمنظور يزعمون أنه "حيادي" و"موضوعي". فمن ذا الذي له أن يزعم أن المسلمين مطالبون بالتسليم بصحة هذا المنهج الجديد في التعامل مع النص الديني الموروث، وكأنهم كانوا عبر قرونهم الطويلة، جهلاء كلهم سفهاء عميان، لا يقوم لديهم من المعارف المعتبرة في التوثيق التاريخي شيء ذو بال أصلا؟! ومن ذا الذي له أن يدعي أن تفنن أولئك الأعاجم في تأويل القرءان وفحص نصوصه (وهم الجهلاء بلسان العرب أصلا) = أمر يتحتم على المسلمين أن يقبلوه وأن يرفعوه إلى منزلة "النقد العالي" والتحقيق العلمي الرفيع؟ ومن ذا الذي له أن يدعي أن فلسفة هؤلاء ومنهجهم في البحث التاريخي والموازنة بين ما يعتبرونه من ألوان الدليل التاريخي، فوق أن ينتقد هو نفسه وفوق أن يرد كله أو بعضه على أصحابه؟

لقد تلقى كثير من المجرمين من بني جلدتنا فلسفة هؤلاء باستحسان كبير، حتى إن من الأسماء الكبيرة في سماء الأدب و"الثقافة" العربية المعاصرة من وافقهم في كثير مما ذهبوا إليه، ولا تزال – مع ذلك – تروج أسماؤهم بين العوام في بلادنا على أنهم من الأعلام! فهذا "طه حسين" (عليه من الله ما يستحق) يزعم – على سبيل المثال – أن القرءان يجب أن يفتح للنقد الأدبي مثله في ذلك كمثل سائر الكتب البشرية، ويلبس ذلك على الناس بأنه مما لا ينبغي أن يخشاه المسلمون لأنه سيكون فيه تعضيد لحجيته وكماله وليس العكس! وقد رد عليه علماء المسلمين آنئذ بما يليق به، وألقموه ذاك الحجر نفسه الذي نلقمه نحن ههنا في هذا المقال لكل مغامر سفيه يقول إن نصوصكم مثلها كمثل أي نص موروث في أي أمة من الأمم، فيجب أن تعامل بنفس المعاملة! فلسنا من السذاجة والحماقة بأن نقبل من هؤلاء السفهاء الماديين فلسفتهم في نقد النصوص الدينية ومنهجهم في الترجيح التاريخي، بدعوى أن ذلك "النقد" سيأتي ولابد بما يثبت صحة الدين والنص وينفي عنه الشبهات! أي نقد هذا الذي يرجى منه تلك الثمرة يا هؤلاء الكذبة وهو يقوم على منهج فلسفي فاسد من الأساس، منهج يبدأ بالتسليم بمقدمات حقيقتها تناقض تلك النتيجة التي تتكلمون عنها البتة، وينفي حق أهل التراث الديني نفسه وورثة اللسان الأول الذي جاء به ذلك التراث في أن يقدَّم فهمهم وتأويلهم الموروث على فهم غيرهم وتأويله الجديد لما بين أيديهم هم من النصوص، وفي أن يعتمد منهجهم العلمي والمعرفي الموروث في شيء من ذلك؟
لا يعنينا ولا يضيرنا أن اضطر النصارى – مثلا - لإظهار قبولهم لذلك المنهج النقدي الجديد، بل وقبولهم لبعض نتائجه، فهم أهل تحريف وتضييع وتبديل على أي حال، يتقلبون مع كل موجة جديدة ولا يضيرهم أن يكذبوا ويحرفوا الدين ويغيروه من أجل أن تبقى لهم قاعدة عريضة من الأتباع في بلاد الغرب المعاصر، تماما كما صنعوا من قبل في أصلهم الأول! أما أمة محمد وعلماء أمة محمد، فلم يرثوا كذبا ولم يؤسسوا دينهم على خرافة، وإنما بنوه على توثيق وتمحيص وتدقيق يقوم على أساس من التسليم المسبق بصحة ذلك الحق الذي جاء به النص القرءاني المعجز على أيدي قوم عدول صادقين، ولديهم ولله الحمد من الأدلة الدامغة في هذا المعنى ما يكفي لسد أفواه المكذبين! هذا الأصل هو ما عليه عرف العقلاء من من الشخصيات التاريخية حقيق بأن يقبل كلامه وحكايته ومن منهم ليس كذلك! وأما الماديون والملاحدة أصحاب ذاك "النقد العالي" الذي أحدثوه، فلا يقيمون وزنا للتأويل الموروث أصلا، لا عندنا ولا عند غيرنا، وهم يتعمدون إغفال ما في التأويل الموروث لنصوص القرءان من إعجاز ثابت من طرق شتى وفي أوجه شتى، يرفعه فوق سائر الكتب الدينية التي ورثها أهل الملل، ويجعله حقيقا بأن يقبل وأن يتبع، وبأن يوثق في عدالة وصدق أولئك الذين وثقهم هذا الكتاب نفسه وكانوا سببا في وصوله إلينا، حتى يكون في رواية العدول الثقات عنهم ما يكفي في تحقيق المعرفة التاريخية المحكمة لمن طلبها، ويكون في صحة ما أخبر به القرءان نفسه من الأخبار والقصص كفاية لمن أراد الحق خالصا متجردا. القرءان نفسه، بهذا التأويل الموروث، هو معجزة محمد بن عبد الله، وهو دليل نبوته الأول، صلى الله عليه وسلم، فهل يقبل هؤلاء هذه الدعوى؟ كلا والله! ولو قبلوها ما سلكوا مع نصوصنا تلك المسالك، ولانكشف لهم فساد منهجهم ونحلتهم المادية الساقطة تلك، سواء في النقد التاريخي أو في التأويل النصي!
فبأي عقل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟
لم يكتف هؤلاء المجرمون بإهمال تراث علماء الرجال والعلل والأثر عندنا وكأنه لم يوجد أصلا (الذي كان الواحد منهم أجهل به من حمار أهله، لأنهم أعاجم كلهم لا قدرة لهم على دراسة علم عظيم ثقيل كعلم المصطلح وعلم الرجال عندنا – فضلا عن أن يصبروا على ذلك إن سعوا فيه جدهم!)، بل زعم بعضهم أن له "إسهامات" رائدة في "نقد" تراثنا الحديثي! فهذا الراهب الفلمنكي هنري لامنز H. Lammens يحكم في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي بأن كتب الحديث تفتقر إلى الحس النقدي ويغلب عليها الطابع الأدبي! وهذا المستشرق الهنغاري إيغناز غولدتسيهر، (وهو ممن تشدقوا كثيرا بمحبتهم لدين الإسلام وتعظيمهم لنبيه) أنه بالنظر إلى كون دواوين السنة قد دونت في عصور كان الصراع السياسي فيها على أشده، وكان النزاع مولدا لروايات بطالة مكذوبة عند أطراف تلك النزاعات، فإنه يلزم من ذلك أن تكون تلك الكتب (دواوين السنة) كلها لا قيمة لها في ميزان التوثيق التاريخي، لأن الذين دونوها والرواة الذين نقلت رواياتهم فيها ليسوا محلا للثقة! وذاك الإيطالي "ليون كايتاني" Caetani يصرح بثقة وحزم منقطعي النظير في أوائل القرن العشرين بأننا نكاد لا نجد شيئا حقيقيا بشأن محمد في كتب الحديث أصلا! بل يمكننا – بزعمه – أن نسقطها كلها بوصفها كتبا أبوكريفية Apocryphal (وهو المصطلح الكنسي في وصف الكتب غير القانونية أو التي قررت الكنيسة إهمالها كوثيقة تاريخية)!
بل زاد بعضهم جرأة فوق جرأة ووقاحة فوق وقاحة، وقرر أن يتصدق على هؤلاء المسلمين المساكين بأن يضع بنفسه قواعد من عنده لنقد الحديث ولتمييز الصالح منه Reliable وغير الصالح، كما صنع الهالك المدعو فليهاوزن Wellhausen في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي! ولعلها تدرس تلك القواعد اليوم في جامعات القوم على أنها فتح "تاريخي" كبير وإنجاز من قبل "عالم" متخصص في "النقد الأعلى" للأديان ونصوصها ووثائقها التاريخية، جاء بما لم تستطعه الأوائل! وسأكتفي في هذا السياق الضيق بذكر قاعدة واحدة قررها ذاك التافه للموازنة بين النصوص الحديثية في دوواين السنة، حتى يضحك من قلبه أصغر طالب علم في علوم الحديث يطالع هذا الكلام، ويحمد الله على نعمة الإسلام والعقل! فقد اتخذ فليهاوزن هذا لنفسه ميزانا، على غرار دراسته لكتب موسى الخمسة في العهد القديم (الذي كان متخصصا في "نقده") ومقارنته بينها، ليميز من خلالها بين النصوص التي كتبتها نفس اليد، والنصوص التي لا يبدو من أسلوبها أنها من نفس المصدر! فدع عنك أيها القارئ المحترم كيف أن هذا الجاهل تغافل حقيقة أن اللفظ في الحديث قد يقع فيه اجتهاد من الراوي، وأنه محفوظ بالمعنى لا باللفظ، وأن الكتاب الواحد من دواوين السنة تساق فيه روايات الجمع الغفير من الرواة، ويكفيك في هذا كله أنه كان أعجميا يتخذ لنفسه من المقارنة "اللغوية" بين أساليب التعبير عند الرواة طريقا ليقول هذه الرواية وتلك ترجعان إلى مصدر واحد لتشابه الأسلوب، وكأن ثمة مخطوطات خفية مندثرة في تاريخ المسلمين، تلقى عنها هؤلاء الرواة رواياتهم، فتوافق أسلوب من تلقوا عن المخطوطة الواحدة منها، على غرار ما كان يعتقد الرجل أنه حصل في كتب العهدين القديم والجديد الذين كان متخصصا في دراستهما، ثم جاء هؤلاء الرواة بعدئذ بالنقل عن تلك الكتب وهم يزعمون في ذلك أسانيد ملفقة من أولها إلى آخرها، فتلقى المحدثون أصحاب الدواوين روايات هؤلاء وكتبوها بتلك الأسانيد هكذا جزافا!
ألا فلتضحك الثكلى من "نقدهم الأعلى" هذا، ومن إسهامات الإمام "يوليوس فيلهاوزن" في علم الحديث، وما يزعم هؤلاء الضباع أن لهم به اليد العليا في النظر في نصوص المسلمين وتمييز الصحيح فيها من الضعيف، وتتبع "أصولها التاريخية" ولا حول ولا قوة إلا بالله!
الأمر العجيب فعلا هو سبب تسميتهم هذا العبث "بالنقد الأعلى"! أعلى من ماذا؟ أعلى من أي شيء؟ وبأي ضابط وعلى أي معيار؟ ألأنه من إنتاج "الرجل الأبيض"؟ ألأنه مما جادت به قريحة الفيلسوف الملحد، أو – بعبارة ألطف – المفكر "المستنير"؟ هذا "لعب عيال" موضوع تحت الأقدام، ولا يطالع عندنا إلا على سبيل التفكه والتندر!