المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل سمعتم ببلاد "توافا"



هشام بن الزبير
11-01-2012, 04:27 PM
أيها الفضلاء:
هذا نص أحكي فيه واقعة عشتها بالفعل, وحين فرغت من كتابتها أهديتها لصديقي الحبيب عبد الرحمن. وهئنذا أضعها بين أيديكم:



"توافا"

أخي الحبيب عبد الرحمن,

هذه الكلمة ليست عربية كما قد يسبق إلى الذهن, ولو كانت كذلك لكتبتها بالألف المقصور: "توافى", نحو توافى القوم, أي تتامّوا, ولو كانت إخبارا عن اثنين لقلت: توافيا. أما عن نطق هذه الكلمة العجيبة فإن واوها في أعلى درجات الترقيق, وليس فيها مد على الحقيقة, بل إن صوت الواو المفتوحة يكاد يعانق الفاء دون جريان للنفس كما هو الحال مع حروف المد.

إنها كلمة لم أعثر عليها في قاموس ولم أطالعها في كتاب, ولم يخبرني بها جن ولا إنس. إنها كلمة وردتني من عالم لا ندري كيف نلجه ولا بأي عين نبصره ولا بأي حاسة ندركه, ولفرط غرابة ذلك العالم فإنا لا نبصر أشكاله وألوانه حتى تنطبق منا الجفون وتسترخي منا الأعضاء وتتعطل الحواس, فإذا عجزت العين الباصرة عن تمييز قسمات هذا العالم الممدود بين أيدينا, انفتحت بدواخلنا عين أخرى نحس بها ولا ندركها, لتنقل إلينا صورا من عالم آخر: عالم الحلم.

من ذلك العالم استقيت الكلمة التي حركتني لأخط لك هذه الكلمات. رأيتني أحادثك فقلت في ثنايا كلامي: "هذا الحاسوب المحمول الذي اقتنيتَه قد يشغلك عن القراءة." فسألتني: "ولِم؟" فأجبتك: "لأنه يغري لصغر حجمه وخفة محمله على مداومة النظر في شاشته والإبحار على متنه عبر أمواج من أرقام هي قوام البحار الإفتراضية, فتظل تنقر وتنظر هنا وهناك, حتى يصل بك القطار إلى وجهتك, وقد تقرأ من شاشة الحاسوب نفسه, لكن ذلك كله لا يغني عن حمل كتاب صحائفه من ورق, تقرأها وتقلبها, تراها وتسمع أصواتها, تمسها بأناملك, وتشتم ريحها, فتحدثك دونما لسان, فأين ذلك كله من صحائف افتراضية صماء خرساء لا طعم لها ولا رائحة, بل هي أشبه شيء بالسراب؟"

قطعا لم أقل ذلك بحذافيره في الحلم, فذلك عالم مبناه على الرمز والإشارة ومستلطف العبارة, عالم يعشق الإيجاز, فينبئك في طرفة عين بما قد يستغرق زمانا طويلا, كمثل رؤيا عزيز مصر.
وحين سمعت مني ذلك, أجبتني قائلا: "إني أقرأ هذه الأيام كتابا عن بلد من البلدان, عنوانه بلسان الأمازيغ: "تَوَافَا", خمّن أيّ البلاد هي؟"
فقلت على البديهة: "إنها أمريكا لأنها كانت مجهولة فوجدوها, وبالأمازيغي: "أُوفَانْتّْ", فمن هذا الفعل اشتق لها اسم "توافا". ولما قلت ذلك تبدّت لي أرض شمال أمريكا تحفّها المياه.

إنه حلم طريف عن أرض فُقدت ثم وجدت, وجُهلت ثم عرفت, وخملت ثم اشتهرت, فكأنها من عدم قد ظهرت, وما لبثت أن علت واستعلت, واستكبرت وعتت, فيا "لتوافا" كم أراقت من دماء, وكم سببت من عناء, وكم جرت من بلاء, بذرت الشقاق في الأرض بذرا, ونثرت الأضغان في العالم نثرا, لسان حالها: "أنا عنقاء زمان التقنية, لن أرضى حتى لا تدينوا بغير المادية, ولا تلبسوا غير "الجينز" ولا تأكلوا غير "البورجر" ولا تشربوا غير "الكولا", لا لن أرضى عنكم أيها العبيد حتى تكونوا على ملة "توافا", ومن أبى فسأصليه حمما ونارا تقذفها "الإف 16" و "الأباتشي".
تلكم "توافا" فيا ليتهم أنكروها أول مرة وما عرفوها, وليتهم فقدوها وما وجدوها, وبلسان الأمازيغ:
"كُنْ غِيرْ أُورْ تُّوفانْ, أُورْ أُوفانْ تَاغَوْسَا." 1
وفي حرف آخر:
"أورْ أُوفانْ أَمْيَا." 2


ومن عجيب ما اتفق لي أني حين حكيت هذا الحلم لأخي عبد الرحمن, كان قد اشترى بالفعل حاسوبا صغيرا, فصار يحمله معه ويقرأ منه أثناء تنقله إلى العمل, فهو مدمن مطالعة, وهو للإشارة لا يتقن الأمازيغية جيدا, لكني وجدت الأمر في غاية الطرافة, فأهديته هذا النص, ثم ارتأيت أن أنشره هنا.

تنبيه: كلمة "توافا" لم أسمع بها إلا في حلمي, ولا تعني أمريكا قطعا.

أمةُ الله
11-02-2012, 11:42 AM
جميل...
الأستاذ هشام بن الزبير يتفنن حقا في مواضيعه
ابداع.
هنيئا لأخي عبد الرحمن هذه الهدية
ولكن ...أين هو ؟!

هشام بن الزبير
11-28-2012, 11:33 PM
بارك الله فيك أختي الفاضلة.
الأخ عبد الرحمن هناك في بلد بعيد, لكنه ليس "توافا".

علي الادربسي
11-29-2012, 04:45 PM
أسلوب رائع أستادي هشام . و صراحة ياليتها لم تكتشف هده توافا اللعينة .