أبو الفداء
11-02-2012, 11:03 PM
رسالة في تحذير المسلمين من فرقة "التطويريين" (دراونة أهل القبلة).
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، القائل فيما صح عنه "لتتبعن سنن من كانوا قبلكم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب دخلتموه"،
أما بعد، فالأمر الذي دعاني لكتابة هذه الرسالة، أني رأيت بدعة "التطور الموجه" هذه قد صارت يروج لها اليوم على بعض الفضائيات ترويجا غير مسبوق، وقد كان المسلمون منها في عافية ولا حول ولا قوة إلا بالله. وثمة رجل بعينه (وهو طبيب له كتب ومؤلفات يدعى "عمرو شريف") أصبح يقدم ويصدر للناس في تلك الفضائيات وتقدم كتبه ومؤلفاته على أنه عالم علامة كبير .. الخ، يدين بتلك الضلالة الداروينية ويعتقدها اعتقادا راسخا، وهو ماض في تزيينها للعامة، وتلبيسها لبوس العلم وزعم اتفاقها مع الشرع والدين، بل أنها هي تأويل قوله تعالى ((فانظروا كيف بدأ الخلق))، وإذا بنا نفاجأ بمسلمين يعتقدون صحة نظرية داروين اعتقادا تاما، يتبعون ذلك الرجل ومن وافقه، ويرون – في غمرة افتتانهم بما اتفقت عليه الأكاديميات العلمية الغربية المعاصرة، لمجرد أنها اتفقت عليه - أن موقفهم هذا هو الموقف الوسط الذي لا يستجلب نفور الغربيين منا وتهكمهم علينا، وأن "العلم" (هكذا) يمليه علينا، وأن الاعتقاد بصحة نظرية داروين (إجمالا) اعتقاد صحيح لأنه لا ينبغي أن يكون ثمة تعارض بين "العلم" و"الدين"، يدندن الرجل وأتباعه بهذا الكلام ونحوه في كل مناسبة وكأن الدين هذا ليس علما عندنا، وليست أدلته وبراهينه الشرعية بالتي ترقى أصلا لمخالفة إجماعات الطبيعيين المزعومة! فما دام الرجل الأبيض قد قال كلمته، وقرر أن هذه المسألة حق مقطوع محسوم، وأن "التطور" (هكذا) حقيقة مثلما أن الجاذبية حقيقة، لم يعد لأحد من البشر أن يعترض أصلا، وإلا اتهمَنا الرجل الأبيض بالتخلف والانحطاط، وإذن لفسد علينا ديننا ودنيانا، وصرنا نحن والقردة والخنازير سواء!! فإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
هذا الطبيب المذكور إلى الآن لم يجد – بكل أسف – من يردعه حق الردع، ويوقفه عند حده، ويعلمه قدره في ميزان الشريعة بل وفي ميزان الفلسفة والعلوم العقلية، من غير أن يتردد في مخاطبته بما هو أهله! فإلى الآن لم أر من يخاطبه أو يرد عليه على أنه إمام بدعة وضلالة (مع ما رأيناه له من تابع من الجهلاء آخذ في النمو والانتشار)، وإنما يرد عليه بعض الإخوة باعتباره عالما ذا فضل ومنزلة .. الخ، مع أن جماهير العوام التي خاطبها الرجل عبر الفضائيات لم تكن لها به سابق معرفة أصلا قبل أن يطل عليهم عبر تلك الفضائيات، وقبل أن يقدمه لهم رجل كان معدودا من حماة الثغر والساهرين عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فسبحان الله لا أدري كيف تستقيم موازين بعض الأفاضل ومقاييسهم، نعوذ بالله من زوال قدم بعد ثبوتها ومن سوء المنقلب والمآل.
مقدمة لابد منها: لماذا نرفض نظرية داروين (نظرية التطور) جملة وتفصيلا؟
ألا فليعلم القارئ المحترم في الابتداء أن القول في مسألة خلق السماوات والأرض وخلق الحياة على الأرض، قول في مسألة غيبية مطلقة التغييب، وأنها لذلك من مسائل العقيدة التي لا نكتفي فيها بأن نقول كما يقول بعض الأفاضل إنها لا يقدم فيها أي مرجع معرفي فوق الخبر الغيبي من الكتاب والسنة بفهم الصحابة والتابعين (لا بتأويلات الجهلاء المفتونين)، بل نقول إنها لا يصح أن يقبل فيها مرجع معرفي سوى هذا أصلا! والسبب الذي نرفض من أجله نظرية داروين سبب فلسفي (إبستمولوجي) وعقدي محض، وليس سببا علميا أو تجريبيا أو نحو ذلك (كما ترى في ردود طائفة "الخلقيين" عليهم). (1)
ذلك أن أحداث الخلق الأول (خلق السماوات والأرض وما فيهما) يقينا لم تكن مما يقاس على ما يجري الآن في الكون من أحداث، من حيث النوع والكيفية (كأحداث متتابعة انتهت بتمام صنع الكون وما فيه)، فلا يعقل أن تكون تلك الأحداث حوادث "طبيعية" على اصطلاح الطبيعيين، لأنها تلك الأحداث التي أنشئ (وليس "نشأ") بها هذا النظام الذي يقال له "الطبيعة" نفسه وبها أسسه خالقه تأسيسا! وهذا محل مفارقة كبيرة بيننا وبين الماديين الملاحدة في الأساس الإبستمولوجي لتناول تلك القضية، يجعلنا نقرر أنه ليس من الجائز ولا من المقبول في العقل المجرد أن تستعمل طرائق البحث الطبيعي ومسلماته الفلسفية الكلية (كقاعدة الاستمرارية أو الثابتية uniformity التي تعد من أركان العلم الطبيعي) في الوصول إلى تحصيل المعرفة بشيء من تلك الأحداث الميتافزيقية المحضة! تماما كما أنه لا يصح أن تقاس الأحداث التي صنعت بها السيارة – مثلا – على شيء مما تحدثه تلك السيارة نفسها من أحداث، أو ما يجري عليها بعد صناعتها من أحداث أو ما يقع بها من تغيرات في أحوالها وما تتركب منه، على أساس من افتراض أن تلك الأحداث والتغيرات الجارية عليها لابد وأنها قد استمرت هكذا كما نراها الآن إلى الماضي البعيد، بما يوصلنا إلى معرفة كيف "نشأت" تلك السيارة نفسها في الماضي! هذا خلل عقلي عظيم، أرجو أن يكون هذا المثال قد قربه إلى ذهن القارئ. وهو خلل مرجعه إلى الأساس الإلحادي الذي تقوم عليه الفلسفة الطبيعية المعاصرة فيما يتعلق بالماورائيات، وهي قضية دقيقة قد أطلت النفس في شرحها في كتاب جديد يوشك أن يصدر مطبوعا إن شاء الله تعالى بعنوان "آلة الموحدين لكشف خرافات الطبيعيين"، ولكن يكفي في هذا المقام أن نقرر أن السلطان المعرفي الاستدلالي الوحيد المقبول في معرفة أي شيء من تفاصيل وأحداث خلق السماوات والأرض وما فيهما، إنما هو الخبر المباشر في الوحي من الخالق نفسه، سبحانه وتعالى، فما جاء به الخبر من قصة الخلق وتفصيله قبلناه وحمدنا الله عليه، وما لم يأت به الخبر سكتنا عن طلبه وفوضنا فيه العلم له سبحانه.
ثم إن الله تعالى يقول: ((إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ)) [يونس : 3] فمن مفهوم هذه الآية الكريمة أن قوانين السماوات والأرض (قوانين الطبيعة التي نراها تجري عليها اليوم، ولا ندري للطبيعة قوانين غيرها) إنما بدأت عملها في الكون بعد أن استوى الملك جل وعلا على العرش، وأخذ في تدبير الأمر، لا قبل ذلك، فتلك السنن والنواميس الكونية الجارية أمامنا اليوم كلها جزء من ذلك الأمر المذكور في الآية فيما يظهر للمتأمل. فبأي شيء سوى تلك القوانين الطبيعية نفسها، يزعم هؤلاء أنهم قد حصَّلوا المعرفة بأحداث خلق النظام نفسه الذي تجري فيه وعليه تلك السنن والقوانين! هذا في الحقيقة من علامات التشبع بفلسفة الماديين في تناولهم قضايا "النشأة" الأولى تناولا "طبيعيا"، وقد وفينا هذه المسألة حقها – فيما نرجو – في كتابنا الجديد "آلة الموحدين لكشف خرافات الطبيعيين"، ولله الحمد والمنة.
هذا يعني – كما أرجو أنه لا يخفى الآن على القارئ الفطن – أن نزاعنا مع أصحاب نظرية داروين ليس في الحقيقة نزاعا منعزلا في قبول أو رد هذه النظرية بعينها وحسب، ولكنه نزاع عميق الغور ينزل إلى الأسس الفلسفية الكلية التي تقوم عليها تلك النظرية نفسها وسائر ما يدخل في بابها عند الطبيعيين.
ثم إلى جانب المبدإ الاستمراري المطرد في فلسفة الطبيعيات المعاصرة، وتلك المغالطة الفلسفية الكبرى في إعماله للوصول لمعرفة أحداث خلق النظام نفسه (التي ما استجازوها إلا لإلحادهم وماديتهم فيما يتعلق بالموارائيات، ونفيهم فكرة الخالقية والتعليل الغيبي كما بينت ذلك وتوسعت فيه في الكتاب المذكور)، فإن نظرية داروين تقوم كذلك على ما يمكن تسميته بمبدإ الفوضى المنظمة Uniform Chaos، بمعنى سلسلة من حوادث العشواء المؤطرة بنظام عام مطرد. والسبب في قيام النظرية على ذلك المبدإ أن صاحبها (داروين) كان حريصا على اختراع "آلية" مطردة يفسر بها نشأة الأنواع كلها (2)، من غير أن يكون من وراء تلك الآلية أي عامل سببي ميتافزيقي من أي نوع. فلم يجد الرجل أمامه إلا أن يدعي الفوضى والعشواء و"الصدفة" أصلا أصيلا في تلك "النشأة"، يلبسها لبوس النظام المطرد المستقر في العالم، حتى يبدو الأمر كما صوره تلميذه المعاصر دوكينز وكأنه تراكم للصدف المتتابعة أو (على حد تصويره): "صعود متدرج لجبل الاحتمالية الضعيفة" (على أساس مغالطة أخرى مفادها أن نشأة الحياة من غير خالق = أمر ضعيف الاحتمال وليس محالا في العقل، وقد بسطنا الجواب عن تلك المغالطة بحول الله تعالى في غير موضع).
هذا الأصل الكلي الذي تقوم عليه النظرية، لا يمكن لعاقل أن يقبلها من غير أن يقبله معها ضرورة. ذلك أن داروين لم يقل "بالتطور" كطريق لظهور الأنواع بعضها من بعض، إلا بعدما وضع تلك "الآلية" الجديدة لنظريته تأسيسا على هذا الأصل، وهي تتمثل في فكرتين كليتين:
- الطفرة العشوائية (وهي ذلك الظهور العشوائي المزعوم لجينات جديدة تضيف خصائص وصفات جديدة للحوض الجيني لهذا النوع أو ذاك)
- الانتخاب الطبيعي (وهو بقاء تلك الأنواع التي يُتفق بالصدفة المحضة أن تكون قد حظيت بإضافة جينية من الطفرات العشوائية تؤهلها لأن تتكيف مع الطبيعة ولا تهلك كما هلك غيرها من الأنواع)
تأسيسا على هاتين الفكرتين، تأسس المبدأ الثالث في النظرية عند داروين، ألا وهو القول "بالأصل الموحد" لجميع الأنواع. فبإعمال مبدإ الاستمرارية أو الثابتية الطبيعية uniformity على القول بأن الطفرات الجينية العشوائية هذه تضيف إلى الأنواع وتزيدها تعقيدا باطراد ولابد (سواء بزيادة أعضاء جديدة لم تكن موجودة فيها من قبل، أو بزيادة تعقيد النظام الحيوي نفسه للنوع)، استنتج الرجل أن الأنواع كلها لابد وأنها قد كان لها أصل واحد شديد "البساطة" في تركيبه! فوجد نفسه محمولا على تصنيف المخلوقات كلها إلى درجات وطبقات في "البساطة" العضوية Simplicity و"التعقيد" Complexity، حتى يجعل الأبسط منها هو الأقدم ظهورا في ذلك التاريخ العبثي الطويل الذي تصوره. فلما نظر حوله ولم يجد مخلوقا "أبسط" من الكائن أحادي الخلية (بمفهومه هو الفاسد للبساطة، وقد تكلمنا في فساد ذلك المفهوم طويلا في كتاب "نسف أساسات الإلحاد، المجلد الأول" فلينظر في موضعه)، جعله هو "الأصل" الموحد الذي منه تشعبت سائر الأنواع وتدرجت في تعقيدها بناء على آلية الطفرات والانتخاب هذه.
من هنا أصبح هذا التدرج المزعوم للأنواع من "الأبسط" إلى "الأعقد" يعرف باسم التطور أو الارتقاء. فمن سلَّم بأن "ارتقاءً" أو "تطورا" في الكائنات قد وقع تحقيقا في تاريخ الحياة، فهو مضطر لا محالة للتسليم بالأصول التي قام عليها القول بذلك التطور المزعوم عند صاحبه، وبذلك التصنيف الفاسد للكائنات ما بين "بسيط" و"معقد"، واعتبار أن هذا "البسيط" = بدائي ومتخلف فيما يظهر فيه من "تصميم" موهوم، بالمقارنة بما هو "أعقد" منه، فإن هذا هو معنى التطور أو الارتقاء Evolution في اصطلاح النظرية، ولا معنى لها سواه! هذه الأصول كلها مدارها حول تلك "العشوائية المنظمة" التي أشرنا إليها آنفا. وهي فاسدة بالعقل المجرد لأنها لا يمكن أن يتعامل معها العقلاء إلا على أحد وجهين كلاهما باطل:
- افتراض أن المقصود بالعشواء هنا أن نظاما قد وُضع من الخارج ليحكمها بحيث يأتي منه تعريف ما هو مقبول وما ليس بمقبول من تلك الإضافات "العشوائية" حتى يبقى ويترتب عليه ما بعده من خطوات نمو تلك "الشجرة" المزعومة، مع التوقف في جواب السؤال: فمن أين جاء هذا النظام نفسه بالأساس. (دعنا نسمي هذه الفكرة بالخالق الأعمى، أو "صانع الساعات الأعمى"، إذ حقيقتها إثبات خالق ناقص عاجز)
- افتراض أن المقصود بالعشواء هنا هو أن نظامها المتدرج هذا لم يوضع من الخارج أصلا ولم يضبطه ضابط خارجي، وإنما نشأ من تلقاء نفسه فكان حاكما على سائر الأحداث العشوائية التي جرت تحته. (ودعنا نسمي هذه الفكرة "معلومات لا سبب ولا مصدر لنظامها"، إذ حقيقتها نفي السببية والتعليل)
وواقع الأمر أن الدراونة الملاحدة يتخبطون بين هذين التصورين لحقيقة "العشواء" لديهم تخبطا عظيما، لأنهم يصرون على تغافل ذلك التناقض العميق في أصل النظرية. فهم لا يرون – على سبيل المثال - إشكالا في شرح فكرة النظرية بالقياس على النظم الحاسوبية الموضوعة لإفراز نتائج عشوائية Random Generators بحيث يقوم نظام مبرمج مسبقا بانتقاء النتائج الصحيحة كلما ظهرت ليضعها في مكانها (وهو المثال الذي ضربه دوكينز في غير مناسبة). فكلما ألزمناهم باللازم الواضح الجلي لهذه الصورة ولتلك "الميكانيزمية" العامة التي يتصورونها الموضوعة من الخارج وضعا مسبقا، ألا وهو وجود خالق غيبي قد وضع ذلك النظام كما وضعوا هم ذاك البرنامج الحاسوبي الذي قاسوا عليه، وأن هذا يقتضي أن تكون عقيدتهم في الحقيقة ليست نفي الخالق بالكلية كما يذهبون، وإنما إثباته مع نسبة النقائص إليه بادعاء أنه قد وضع نظاما حاكما لعملية ذات مفردات عشوائية طويلة الأجل لبناء الحياة على الأرض، فلا يدري إلى أين ستمضي بالمخلوقات ولا ما مصيرها، نفوا عن أنفسهم هذا اللازم نفيا شديدا، ولم يأتوا في ذلك النفي إلا بالمزيد من الأمثلة التي تزيدهم به تلبسا وهم لا يعقلون!
فهذا دوكينز نفسه يؤلف كتابا في الدفاع عن فلسفة الداروينية فلا يسميه إلا "صانع الساعات الأعمى"، فإذا ما سئل عن ذلك قال إنه مجاز لا غير، كما أن كلمة "مخلوق" ليست إلا مجازا عندنا، وكلمة "خلق" لا نستعملها إلا مجازا .. الخ، مع أنه لما أراد أن يضرب مثالا لتلك "العشوائية المنظمة" للانتخاب الطبيعي التي شرحها في كتابه ذاك، لم يجد إلا أن يضع برنامجا حاسوبيا صغيرا من الصنف المذكور آنفا، سماه Biomorph، ثم أخذ يتكلم وكأن اضطراره هو نفسه لاختراع البرنامج حتى يضرب به مثلا لتلك "الآلية" الداروينية المزعومة، ليس في نفسه دليلا على الضرورة العقلية لوجود صانع قد صنعها هي نفسها من خارجها، فسبحان الله ما أشد جحودهم ومكابرتهم!
فمحل التناقض في أصل نظرية داروين يكمن في حرص داروين وأتباعه على حشر العشوائية chaos في أصل ما يقولون إنه نظام محكم non-random حتى يجعلوه بديلا "طبيعيا" للخلق والخالق! فكيف يعقل أن يقوم نظام محكم على ترتيب تراكمي لأحداث يوصف كل واحد منها بأنه فوضوي عشوائي محض؟ الحدث الفوضوي العشوائي لا ينتظم مع غيره من الأحداث العشوائية في نظام مخصوص أو على قاعدة واحدة، إلا إن وجد تخطيط مسبق لذلك النظام وتقعيد خارجي لتلك القاعدة التي تفرز تلك الأحداث الفوضوية وتستهدف بناء مخصوصا من تراكمها (بناء سابق التصميم كحيز معلوماتي مخزون في أصل النظام). فإن سلمنا بوجود ذلك التخطيط المسبق (الذي تتعرف به العلاقة بين القفل والمفتاح، أو بين المخلوق والطبيعة التي تشترط عليه شروطا معينة حتى يتكيف معها ومن ثم ينتخب للبقاء فيها) لزمنا القول بوجود "مخطط خارجي" ضرورة، تأتي منه تلك الخطة وذلك النظام، بما فيه من استعمال للعامل العشوائي المزعوم هذا! ولكن يلزمنا كذلك - ومن ثم – نسبة ذلك المخطط الخارجي إلى النقص والعجز ضرورة، إذ لو كان قادرا على إحكام الخلق كما يريد، فلا وجه إذن لوقوع الأمر منه على هذه الصورة البائسة: نظام معلول متخبط يكون الأصل فيه هلاك كل مخلوق لنقصه وتخلفه عن التكيف مع الطبيعة التي خلق فيها، إلا ما يُتفق أن يظهر فيه "بالحدث العشوائي المحض" تلك الطفرة المفيدة التي تحيله إلى نوع قادر على البقاء والاستمرار!
ومع مزيد من التأمل، يتبين لنا أن هذا ليس "نظاما" أصلا، ولا يعقل أن يصبح نظاما، فضلا عن أن يستمر لعشرات الملايين من السنين كما يزعمون، إذ الأصل فيه العطالة والعجز والفوضى المحضة، وبقاء الأمر مرتهنا في تلك الفوضى الشاملة بمجيء حدث "عشوائي" (الطفرة أو نحوها) في كائن من الكائنات من غير أي توجيه خارجي، ليجعله قادرا على البقاء! فبأي عقل ينشأ ما يصح أن يقال له "نوع" أصلا، في ظل تلك الفوضى الشاملة؟ كيف ينشأ من مجموع المخلوقات العاجزة الناقصة ما يصح أن يوصف بأنه نوع، ثم يبقى عاجزا في انتظار تلك الطفرة المحظوظة التي لن تأتي إلا بالعشواء في كل مرة، حتى تضيف إليه ما كان ناقصا؟ وأي نظام يكون في ذلك العبث أصلا وكيف يعقل أن يصير من تلك الفوضى "نظام" أو "آلية" كما يصر الدراونة على وصفه؟ هذا محال! لهذا نقول ونكرر مرارا في جواب موجز يأبى الداروينون أن يعقلوه: إن "النظام" لا يمكن في العقل المجرد أن ينشأ على أساس من الفوضى غير المحكومة بشروط خارجية وضوابط قانونية تكون سببا مباشرا في إنشائه (وليس نشأته)! ولا يمكن للشيء (أو النظام) أن "ينشأ" من تلقاء نفسه من غير سبب فاعل خارج عن ذاته! هذه ليست مسألة "احتمالية إحصائية"، هذه قضية من قضايا البداهة العقلية والضرورة المنطقية التي يأبى الدراونة أن يروها على حقيقتها! نحن نتكلم عن تناقض منطقي متجذر في أصل النظرية نفسها، لو تجرد القوم في تأمله لبان لهم أنه ليس ثمة "آلية" أصلا حتى تبدأ في العمل، فضلا عن أن تستمر في الأرض لملايين السنين!
هذا التناقض المحض لا يمكن تداركه بتصوير الأمر بتلك الصورة التي صورها دوكينز في كتبه ومحاضراته، إذ يفترض أن النظام قد "نشأ" بحيث يكون فيه تعريف لما يصلح وما لا يصلح، مع آلية لتوليد القيمة العشوائية (توليدا صناعيا) حتى تبقى القيمة الصالحة وتفنى غير الصالحة، إلى أن يتم الأمر في النهاية على حسب التصميم الأول! فهو في ذلك يتكلم عن "نظام" سابق التصميم (كما صمم هو برنامجه الحاسوبي) فيه تعاريفه وآلياته التي تولد تلك الطفرات العشوائية الجديدة (بما فيها من معلومات قد تصلح وقد لا تصلح)، فإن ألزمناه بلازم ذلك الكلام قال أنتم لا تفهمون "الانتخاب الطبيعي"! والواقع أنه هو الذي لا يفهم الانتخاب الطبيعي، لأنه باجتماعه مع الطفرة العشوائية، يناقض ذلك المثال الذي يضربه له هو وأتباعه مناقضة واضحة، ويستحيل معه أن يوجد "نظام" أصلا من الأساس، بل يستحيل أن تبقى فيه مجموعة من المخلوقات لتتناسل وتتكاثر بما يكفي أن يتكون منها Speciation ما يقال له "نوع"! فالفطرة المزعومة التي تعين على البقاء هذه عند داروين لا تأتي تبعا لآلية تولدها توليدا عشوائيا، كما في المثال الذي يضربونه للمولدات العشوائية الحاسوبية، وإنما تأتي من غير آلية أصلا ومن غير نظام أو سبب نظامي، وهو سر تسميتها "بالطفرة" عندهم، وتسمية الانتخاب "بالطبيعي" (يعني انتخاب لا منتخِب له، أو فعل لا فاعل له)! فلو زعموا أن لها آلية سابقة التصميم هي التي تتسبب في ظهور الطفرات بمعلومات جينية مخالفة لما هو موجود مسبقا، سواء كان في تلك المعلومات فيها إضافة أو كان فيها نقص أو تغيير، فقد نقضوا أصل النظرية نفسه بذلك، وزعموا ما لا قبل لهم بإثباته، ولو أثبتوه للزمهم إثبات ما يفرون منه! ولهذا نقول إن فكرة الانتخاب الطبيعي تقتضي إثبات "الطبيعة" فاعلا مريدا له نظامه الذي به ينتقي وينتخب، وهذا يكشفه مجرد اسمها نفسه! ولكنه في نفس الوقت تصور يتناقض مع العشوائية المحضة التي يعتقدونها في الطفرات نفسها، وهو ما يستحيل معه المصير إلى ما يمكن تسميته "بالآلية"، ولهذا كان الدراونة ولا يزالون يتخبطون (فلسفيا وعقديا) بين الوجهين الذين قدمنا بذكرهما آنفا لمفهوم "العشواء المنظمة"!
بهذا التحرير يتبين لك أن الأمر يرجع في تلك النظرية إلى إحدى خلصتين: إما إثبات الخلق (التنظيم والتخطيط) المحكم (وهو ما يعني وجود نظام محكم لا متسع فيه للفوضى والعشواء أصلا، بموجب إثبات الخالق وإثبات كماله الواجب عقلا) وهو ما يترتب عليه بطلان مفهوم "التطفر العشوائي" ومفهوم "البقاء للأصلح" ومفهوم الارتقاء و"التطور" ومن ثم إسقاط نظرية داروين، وإما نفي الخلق بالكلية ومن ثم نفي النظام (أو اللا-عشوائية) بالكلية ونفي مطلق معنى "الانتخاب" نفسه، وهو ما يترتب عليه إسقاط نظرية داروين كذلك، إذ إنها تقول بإثبات نظام عام فيه تعريف للصالح وغير الصالح، تتولد فيه المعلومات العشوائية أولا ثم ينتخب منها ذلك النظام ما يصلح للبقاء ثانيا! فتحصل من ذلك أنها نظرية ساقطة مردودة من أصولها العقلية الكلية على كل وجه، ولله الحمد والمنة.
والعقل السوي يقتضي أنه إذا سقط أصل النظرية، سقطت معها جميع فروعها وأركانها وانهار بنيانها بأكمله. ومع هذا ترى من المسلمين من ينظر في تلك السفاهات العقلية التي تقوم عليها النظرية، ليقول هذه نرفضها وهذه نقبلها، لا لشيء إلا لينتهي في النهاية إلى التلفيق بين ما يتخذه الطبيعيون دليلا على صحتها، وبين القول بالخلق الرباني المحكم الذي يمليه عليه فطرته ودينه، مخافة أن يقال إنه يخرق "إجماع" الأكاديميات العلمية الكبرى في العالم ولا يقيم "للعلم" وزنا، فتراه يركب نسف المطية التي ركبها النصارى الغربيون المعاصرون من قبله، يدخل جحر الضب خلفهم، وإلى الله المشتكى!
عقيدة التطويريين (أو القائلين بالتطور الموجه)
تنطلق تلك الطائفة الجديدة في مسعاها النكِد هذا مستندة إلى تأويل بدعي لقوله تعالى في سورة العنكبوت: ((قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [العنكبوت : 20]. فهم يعتقدون أن الآية تأمرهم بالتنقيب في الحفريات للبحث في الكيفية التي بها جرت أحداث الخلق الرباني للدواب وسائر المخلوقات الحية على الأرض، حتى يصلوا بذلك إلى نظرية "علمية" بهذا الشأن. هذا التأويل الهزلي تعلق به رأسهم الدكتور "عمرو شريف" على غلاف كتابه الموسوم "كيف بدأ الخلق" وكأنه من مسلمات المسلمين، وكأن أحدا من أهل العلم بالشريعة والقرءان لن يجادله فيه وفي المصدر الذي جاء به منه! ولا شك أن من يجترئ على إحداث تأويل كهذا، وهو يعلم أنه لا قائل به من المسلمين قبله، لابد وأن يكون ممن لا يقوم في نفوسهم أي وزن للإجماع أصلا، ولا قيمة عندهم لفهم الأولين، ما لم يخدم ذلك الفهم غايتهم ويأتي على مزاجهم، وهذا من الأصول الاعتزالية "العقلانية" التي تتسم بها تلك الطائفة إجمالا.
والقول في تأويل آية العنكبوت هو كما قال أئمة صنعة التفسير رحمهم الله تعالى، يقول الإمام الطبري رحمه الله: "وَقَوْله (( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْض)) يَقُول تَعَالَى ذِكْره لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُلْ يَا مُحَمَّد لِلْمُنْكَرِينَ لِلْبَعْثِ بَعْد الْمَمَات , الْجَاحِدِينَ الثَّوَاب وَالْعِقَاب : سِيرُوا فِي الْأَرْض فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ اللَّه الْأَشْيَاء وَكَيْفَ أَنْشَأَهَا وَأَحْدَثَهَا ; وَكَمَا أَوْجَدَهَا وَأَحْدَثهَا اِبْتِدَاء , فَلَمْ يَتَعَذَّر عَلَيْهِ إِحْدَاثهَا مُبْدِئًا , فَكَذَلِكَ لَا يَتَعَذَّر عَلَيْهِ إِنْشَاؤُهَا مُعِيدًا { ثُمَّ اللَّه يُنْشِئ النَّشْأَة الْآخِرَة }يَقُول : ثُمَّ اللَّه يُبْدِئ تِلْكَ الْبَدْأَة الْآخِرَة بَعْد الْفَنَاء . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل ." اهـ.
أي: سيروا في الأرض فانظروا يا عقلاء كيف أن الله قد أنشأ الخلق الأول وبدأه تحقيقا، بدليل هذا الخلق الذي ترونه ماثلا أمامكم في الأرض حيثما ذهبتم، وهو معنى واضح يخاطب به العوام والخواص في كل زمان ومكان، ويخاطب به أهل كل ثقافة وحضارة على اختلاف مقدار ما لديهم من العلوم والمعارف، ولا يُشترط فيه علم مخصوص (كعلم الأركيولوجيا والباليونتولوجيا مثلا!!)، اللهم إلا فهم اللسان العربي الذي كان هؤلاء المبتدعة من أجهل الناس به!
وهذا المعنى الواضح الصريح يعضده تأويل الآية السابقة لهذه مباشرة، حيث يقول تعالى: ((أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) [العنكبوت : 19]، فهي استفهام خبري غرضه إثبات أنهم رأوا بالفعل (أعني المخاطبين بهذا النص يوم نزوله عليهم، وكل مخاطب به إلى يوم الساعة) كيف "يبدئ الله خلق"، فسهل عليهم أن يقبلوا أنه بعد ذلك "يعيده" لأن مثله على الله يسير. يقول ابن جرير رحمه الله: " يَقُول تَعَالَى ذِكْره : أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يَسْتَأْنِف اللَّه خَلْق الْأَشْيَاء طِفْلًا صَغِيرًا , ثُمَّ غُلَامًا يَافِعًا , ثُمَّ رَجُلًا مُجْتَمِعًا , ثُمَّ كَهْلًا . يُقَال مِنْهُ : أَبْدَأَ وَأَعَادَ , وَبَدَأَ وَعَادَ , لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِد . وَقَوْله : { ثُمَّ يُعِيدهُ } يَقُول : ثُمَّ هُوَ يُعِيدهُ مِنْ بَعْد فَنَائِهِ وَبِلَاهُ , كَمَا بَدَأَهُ أَوَّل مَرَّة خَلْقًا جَدِيدًا , لَا يَتَعَذَّر عَلَيْهِ ذَلِكَ . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل ." اهـ. فهذه أشياء يرون خلقها أمام أعينهم يقع كل يوم، يرون بالفعل كيف أن الله يبدؤه مرارا وتكرارا ولا يصعب عليه سبحانه، فتقوم بذلك حجة الآية عليهم في أن إعادته من بعد موته خلقا آخر في يوم الحشر لا تصعب ولا تتعذر على من سهُل عليه ذلك الخلق الأول الذي يرونه بأعينهم.
هذا الفهم أجمع المسلمون عليه من يوم أن نزل القرءان وإلى يوم الناس هذا، إلى أن خرج هؤلاء ببدعتهم تلك! فنبذوا كلام أئمة التفسير وأهل التأويل خلف ظهورهم، واخترعوا تأويلا جديدا على المزاج والهوى، وقالوا إن الله يأمرنا في الآية بأن نمشي في الأرض لننظر كيف بدأ الخلق، مع أنه يحاججهم في الآية السابقة عليها مباشرة بأنهم قد رأوا بالفعل كيف "يُبدئ" الخلق سبحانه، وليس كيف "بدأ" الخلق في أول الزمان كما فهموا، فإن كانوا من عجمتهم قد اشتبه عليهم لفظة "بدأ" هذا الاشتباه، فما بالهم بلفظة "يبدئ" (المضارعة) في الآية قبلها؟ قالوا فلما مشينا ونظرنا، وجدنا نظرية تقول لنا إنه بدأ الخلق من خلية واحدة ثم أخذ يطوِّر عليها ويزيدها تعقيدا بالطفرات، فقبلنا تلك النظرية، وصرنا بذلك أول من عمل بأمر تلك الآية في تاريخ الأمة! فإنا لله وإنا إليه راجعون. مع أن العقل والبداهة تقتضي أن يكون هذا الذي أمر الله الناس بالنظر فيه، شيئا يسعهم أن يروه حتى تقوم به حجة الآيات عليهم ويتحقق المقصود! فكيف يعقل إذن أن يكون حقيقة هذا الأمر من الله أن: انتظروا عباد الله حتى يأتيكم من يمشي في الأرض "ليكتشف" كيف نشأت المخلوقات في أحداث دحي الأرض وبث الدواب فيها، فيتحصل لديكم أن البعث والنشور سيكون ارتقاءً داروينيا كما كانت هذه الأحداث "تطويرا"؟ ما هذا الهراء؟ إنه هراء أهل البدع والأهواء، عافانا الله وإياكم والمسلمين.
وتأسيسا على هذا التأويل الفاسد المضحك لآية العنكبوت، اعتقدت تلك الطائفة مشروعية الجمع بين الاعتقاد بالخالق وصحة النص القرءاني إجمالا، وبين التسليم بصحة نظرية داروين (كلها أو بعضها)، وذلك من خلال الاستناد إلى المفهوم الأول للعشواء المنظمة الذي سميناه "بصانع الساعات الأعمى"، مع الاحتراز بادعاء أن ذلك "العمى" والنقص ليس لازما من مجرد قبول النموذج الدارويني التطوري، وإنما تجري عملية التطور هذه تبعا للإرادة الإلهية، فيقال لها إذن "التطور الموجه" تارة، و"التطوير" تارة أخرى، على تفاوت في تصورات من وقفت على كلامهم من أصحاب تلك العقيدة، بين مذهبين كليين يتخبطون تخبطا واضحا في الاختيار من بينهما:
- مذهب من يرون أن الله قد خلق الكون والسماوات والأرض ثم أودع في الأرض سائر أسباب تكوُّن الخلية الأولى (التي هي السلف الأول لجميع الكائنات عند داروين) ثم "تركها" لتخضع "للنظام الطبيعي" الذي تصوره داروين (الذي حقيقته: عشوائية التطفر وهلاك الأنواع المتخلفة عن التكيف .. الخ)، من غير أن "يتدخل" في سيرها، مع علمه المسبق بنتائج المسيرة التطورية التي ستجري تحت ذلك "النظام". وهؤلاء في الحقيقة "دراونة" متمحضون في الداروينية كنظرائهم من دراونة أهل الكتاب سواء بسواء، وإنما يزيدون في اعتقادهم في مسألة "النشأة" الأولى على الدراونة الملحدين بأن أضافوا خالقا يجاب به عن السؤال: "إذا كانت الكائنات كلها قد تطورت بحسب نظرية داروين من أصل واحد، فمن أين جاء هذا الأصل الأول؟". فقالوا: جاء من الخالق الذي سبب له أسبابه، ثم تركه ليجري وحده من غير أن "يتدخل" فيه، مع كونه يعلم مستقبله ومآله، لأنه "بكل شيء عليم"!
................ (أ)
- مذهب من يرون أن الله تعالى قد خلق تلك العملية كلها بجميع تفاصيلها (وليس أسبابها الأولى وحسب)، فكل ما ينسبه داروين للعشوائية، فهو عندهم فعل رباني تابع لإرادة مسبقة، يتسلسل في جملة من الأفعال المتتابعة حتى تجري عملية "التطور" هذه في إطار موجه يجعلها تبدو على هذا النحو الذي يعتقدون بأن العلم قد أثبته. وإنما كان ظاهره فيما يبدو لعلماء الأحياء أنه عشوائي وليس كذلك. فهم في الحقيقة ينفون عن "الطفرة العشوائية" صفة العشوائية (ومن ثم اسم الفطرة نفسه)، وينفون عن الانتخاب "الطبيعي" طبيعيته (على المفهوم الدارويني) إذ يجعلون ظهور الطفرة متى ظهرت، ووقوع الانتخاب متى وقع، أفعالا إلهية كلها. فيعتقدون بذلك أن الله قد قصد وأراد أن يجري الخلق على الأرض في سيناريو "تطويري" موجه ظاهره العشوائية الداروينية!
.............. (ب)
وكما سنبين فإن كلا المذهبين ضلالة ولا كبير فرق بينهما، إذ ليس بين الحق والباطل إلا الباطل، وإنما يتفاوت القولان في مقدار قربهما وبعدهما عن الحق (اعتقاد المسلمين) والباطل (اعتقاد الدراونة الملحدين).
يجب أن يعلم كل مسلم ابتداء أن مجرد القول بأن الخلق كان "تطورا" أو "تطويرا" هذا سب وتنقص لحكمة الله تعالى وعلمه. ذلك أن خالقا كان لا يخلق إلا خلقا ناقصا متخلفا عن لوازم البقاء في الأرض والاستقرار النوعي، ثم "طور" ذلك الخلق تدريجيا و"حسنه" بما يناسب حتى يصلح للبقاء، كما تقول نظرية داروين، هذا خالق جاهل عابث، يلعب بلعبة التجربة والخطإ Try and Error ولا يدري هل يصلح ذلك الخلق ليبقى أم لا يصلح، فإذا ما هلك و أوشك أن ينقرض، خلق فيه "طفرة" جديدة لعلها تنقذه، فإما تنقذه فيبقى وإما لا تكفيه فيهلك وتهلك هي معه، سبحان الله وتعالى علوا كبيرا! لهذا كان لازم القول بالتطوير في الخلق (على أي وجه كان ذلك التطوير المزعوم) ناقضا لأصل العقيدة، ولولا احتمال خفاء ذلك اللازم على بعض المسلمين واشتباهه عليهم لحكمنا بكفر "التطويريين" هؤلاء البتة، لأن التنقص من رب العزة ومن حكمته وعلمه كفر أكبر مخرج من الملة ولا شك.
فأما المذهب الأول (أ) لهؤلاء "التطويريين"، فالقائلون به نفاة لمطلق صفة خلق الحياة بشتى صورها عن الله عز وجل فيما عدا خلق تلك الخلية الأولى الداروينية وحدها. فهم يتأولون خلق الله تعالى للبشر والدواب وسائر المخلوقات الحية على ظهر الأرض بأنه كان عملية داروينية محضة، لم يزد فعل الله فيها على أن أطلقها في بدايتها، ثم إذا بها تمضي في تطور مطرد وفقا "للقانون الطبيعي" بحسب اعتقادهم من غير "تدخل" منه. وهذا تكذيب لصريح القرءان، وجحد لصفة الخلق عن الرحمن، وقصر الفعل الإلهي في خلق الخلية الأولى وحدها (أو أسباب نشوئها) ثم ترك الأمر بعد ذلك للارتقاء الدارويني يأخذ مجراه! فمهما زعم هؤلاء أنهم يعتقدون أن الله تعالى هو خالق كل شيء، فحقيقة اعتقادهم تكذبهم! فهو عندهم في واقع الأمر خلق نظاما طبيعيا (هو الأرض وما فيها وما يحكمها من قوانين فزيقية) ثم وجه بعض الأسباب لتنشأ بذلك خلية أولى، ثم تركها لتتحرك قصة داروين المزعومة في مجراها المزعوم بتمامه وكماله، فأي "خلق" للدواب والحياة هذا الذي ينسبه هؤلاء إلى الله تعالى؟ هذا وهم لا حقيقة له! وسابقية العلم الرباني التي يزعمونها له والحالة هذه، وهم وباطل أيضا، إذ "العشواء" وصف لا يوصف به إلا ما لا يمكن التنبؤ به. فكيف يكون الأمر معلوما للخالق مسبقا وهو في نفس الوقت "عشوائي"؟ ما وجه وصفه بالعشوائية إذن؟ هذا تناقض واضح، ولازمه الكفر البواح كما حررنا.
وأما المذهب الثاني (ب) فحقيقته النسف التام لركني نظرية داروين اللذين قام عليهما القول بالتطور والأصل الموحد نفسه، مع التصريح – في نفس الوقت – بقبول تلك القصة التطورية البائسة التي جاءت بها النظرية لظهور أنواع الحياة على الأرض (تأسيسا على هذين الركنين)، كعقيدة إسلامية في "الكيفية التي خلق الله بها الخلق" على أنه خلق "متدرج"! فهو كسابقه (المذهب أ) يترك صاحبه عاريا في الصحراء، فلا يقوم اعتقاده في الخلق على نقل صريح ولا على عقل صحيح، إذ يظن صاحبه ابتداء أن "كيفية أحداث الخلق الأول" يمكن الوقوف عليها من طريق العلم الطبيعي، فإذا ما تناول نظرية الطبيعيين في ذلك، وأراد أن يجردها من أصلها الإلحادي (الذي هو بعينه أصلها "الطبيعي" عندهم) لم يبق له منها إلا الدعوى المجردة، ولم يخرج من ذلك إلا بالتنقص من صفات خالقه وهو يحسب أنه يتبع العلم الصحيح! فمن غير إثبات آلية الطفرة العشوائية على مفهومها الدارويني، وإثبات آلية الانتخاب الطبيعي على مفهومه الدارويني، فليس لشيء من تلك المشاهدات المادية التي يتعلق بها أصحاب التطور (كالحفريات وغيرها) أي قيمة إذا ما جُمع بعضها إلى بعض، ولا حقيقة إذن أصلا لشيء اسمه "التطور" أو "الارتقاء"، ولا يبقى لذلك المسكين صاحب تلك العقيدة إلا اتهام الرب جل وعلا بخلق مخلوقات ناقصة معيبة كلها، يكون الأصل فيها أن تهلك كلها من سوء الصنع والخلقة، حتى يبعث فيها بعد أزمان طويلة، "طفرات" مبعثرة هنا وهناك لزيادة عضو أو إضافة نظام حيوي كان ناقصا من قبل، فيبقى منها ما "يرتقي" بما فيه الكفاية!
وقد رأيت بعضهم يجهد في محاولة تخليص وتصفية فكرة التطور من تلك الصورة الداروينية المنحطة، بزعمه أن الكائنات الانتقالية التي من شأنها أن تؤكد صحة التطور إن اكتشفت، ربما لم تكن من الوفرة والكثرة بحيث تبقى لها حفريات أصلا، ومن ثمّ فلا قيمة للسجل الأحفوري في إثبات التطور، لأن هذا التطور ربما كان في حقيقته تطورا سريعا عبر أجيال قليلة بنقلات سريعة وحادة، لا من خلال أنواع انتقالية مشوهة كما يقول الدراونة، فبالله ما هذا الإصرار على التمسك بتلك النحلة الباطلة وذاك التصور الفاسد للكيفية التي خلق بها الله أنواع المخلوقات (التي لا يمكن إلا أن تكون كيفية فريدة كما قدمنا، فلا يمكن الوصول لمعرفتها بالقياس على ما نراه في الكائنات من أحداث كالمسخ أو التغير الجيني أو التكيف أو غير ذلك كما قاس داروين وموافقوه من أهل الملل)؟
وقد قرأت مثالا يضربه أحد هؤلاء لم أدر والله أأضحك منه أم أبكي! حيث قال ما معناه إن من يلعب بلعبة النرد سيعجز عن التنبؤ بالقيمة التي سيخرج عليها ذلك النرد في كل رمية لأنه مخلوق قاصر، ولكن هب أنه قام بضبط سائر الأسباب ضبطا محكما حتى لا تخرج قيمة النرد في كل مرة إلا على حسب إرادته، ألا يكون ذلك مثالا جيدا للتوفيق بين "التطور العشوائي" من جهة والخلق والتوجيه الإلهي من الجهة الأخرى؟ فسبحان الله كيف لا يعقل هذا أنه بذلك يتكلم عن خالق عابث ناقص يضع نظاما الأصل فيه الفوضى والعشواء المتجذرة (بلا سببية ولا تعليل = لا خلق)، إلا فيما يسببه هو من الأسباب التي توجهه بإرادته؟ كيف لا يعقل أنه لا يغني عنه شيء أن زعم أنها عشواء موجهة بحيث تظهر للناظر وكأنها عشواء، مع أنها في الحقيقة نظام محكم متين؟ ألم يسمع قول الملك جل وعلا: ((الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)) [الفرقان : 2] ألم يسمع قوله سبحانه: ((الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ)) [الملك : 3] فكيف يستقيم لمسلم يؤمن بتمام حكمة الملك وقدرته وتقديره التام لكل شيء خلقه، أن يقول إن من أحداث الخلق ما كان ظاهره "العشواء" فيما يبدو للناس، مع كوننا نجزم بأنه ليس كذلك؟؟ أي ظاهر هذا يا من صح فيه قول الملك جل في علاه: ((ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ)) [الملك : 4]
((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [الزمر : 67]
والكلام الذي قلناه فيمن يعتقد "التطور"، وارد على من يعتقد "التدرج" أيضا، لأن السؤال هنا يكون: في أي شيء تعتقد أن خلق الله قد "تدرج"؟ في الإحكام والضبط الذي يؤهل النوع لأن يبقى؟ هذا سب لله تعالى، وهو عين القول "بالتطور" ولا فرق! ففي أي شيء إذن وقع ذلك "التدرج"؟ في الحسن و"جمال الخلقة" كما في قوله تعالى ((لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)) [التين : 4]؟ هذا لا دليل عليه ولا علاقة له بما يستند إليه التطوريون من الأدلة، وإنما تنص الآية على أن الله خلق آدم في أحسن صورة من صور المخلوقات التي خلقها وقومها على الأرض سبحانه، وعند هذا الحد نقف ولا نزيد إلا بدليل. ولكن مهما تكلم الإنسان في "تدرج مزعوم" في الخلق في هذه الخصلة أو تلك فقد جاء بما لا دليل عليه عند أحد من البشر إلا ما يتعلق به الدراونة من شبهات، فيقال فيه كما يقال فيهم!
ومما يؤسف له غاية الأسف حقيقة، أني وقفت على فتوى للأزهر في غاية العجب، أسأل الله الهداية لمن أفتى بها، يقول صاحبها في الجواب عن سؤال حول أصل الإنسان وموقفنا من نظرية داروين في هذا الشأن:
"ورد أن اللّه خلق الإنسان نوعا مستقلا لا بطريق النشوء والاشتقاق من نوع آخر، وإن كان كلا الأمرين من الجائز العقلي الذي يدخل تحت قدرة اللّه تعالى، (و) لا يوجد في النصوص أن الله خلق الإنسان الأول من تراب دفعة واحدة أو بتكوين متمهل على انفراد فسبيل ذلك التوقف وعدم الجزم بأحد الأمرين حتى يقوم الدليل القاطع عليه فنعتقده ما دام الذي فعل ذلك كله هو الله تعالى..، ولا حرج في اعتقادها ما دام الله هو الذي خلقها ووجهها، فهي لا تحقق وجودها من نفسها: "ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ لآ إِلَهَ إِلاّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ" [الأنعام:102]، فهو خالق المادة والنواميس" (فتاوى الأزهر ج7ص399(
فحاصل الفتوى – كما سيفهمها السائل (إن فهمها أصلا) – أنه يجوز أن نعتقد أن الله تعالى خلق الإنسان "بتكوين متمهل على انفراد" إذا ما قام الدليل العلمي "القاطع" على ذلك! فإن لم يكن هذا تعريضا بمشروعية اعتقاد صحة خرافة داروين في أصل الإنسان، فهو فتح للباب أمام ذلك الاعتقاد ولا شك، وتجويز لحصوله عند المسلمين في يوم من الأيام، والله المستعان! مع أن لنا أن نسأل هذا المفتي، ما مرادك "بتكوين متمهل على انفراد"؟ هل هو تصور الدراونة لمخلوق يخلقه الله تعالى أبترا أعرجا منقوص الأعضاء، ثم تظهر له أعضاء جديدة مع كل طفرة "عشوائية" (على مهل) حتى يصبح في يوم من الأيام نوعا صالحا للبقاء؟ أم أنه تكوين الإنسان من سلاسة الهومينيد (القردة العليا) قردا بعد قرد، كما يعتقده داروين وأتباعه؟ يبدو أنها ليست الثانية لأنه يقول "على انفراد"! فما معنى "تكوين متمهل" هنا إذن وكيف نفهمها في هذا السياق؟ وما معنى أنه لا يوجد في النص ما يدل على أن الله تعالى خلق الإنسان من تراب "على دفعة واحدة"؟ ما مرادك من "دفعة واحدة" هذه؟ النص صريح – والأمة مطبقة على فهمه - في أن الله تعالى خلق آدم بيده من صلصال خلقا كاملا، إلا أنه سبحانه لم ينفخ فيه الروح من فوره ولكن أرجأ ذلك حينا من الدهر لحكمة لديه سبحانه. فآدم قد خلق على صورته الكاملة من الصلصال "دفعة واحدة" وفي مرة واحدة، وهي عقيدة المسلم التي لا يجوز له إبدال غيرها بها! فهل تدعونا هذه الفتوى إلى البحث في الكيفية التي خلق الله بها آدم بيده في ذلك الحدث الغيبي المحض، وتجيز لنا أن يأتينا دليل (قاطع) من غير طريق الوحي يخبرنا في يوم من الأيام عما إذا كان قد خُلق آدم من الطين على هيئته وصورته الكاملة في "دفعة واحدة" أم خلقه الله على مراحل "بتمهل"، كأن يكون قد خلق رأسه أولا – مثلا – ثم صدره وبطنه ثم كتفه ثم رجله .. الخ؟
ما هذا الكلام، وكيف استجازه هذا المفتي هداه الله، بل كيف يتصوره أصلا؟
ثم ما هو "طريق النشوء" هذا الذي زعم صاحب الفتوى دخوله تحت قدرة الله كطريق للخلق والتكوين؟ إن كان لا يدري أن "النشوء" عند من يقولون به إنما يعني نشوء الشيء استقلالا بلا "منشىء"، وتكونه من نفسه استقلالا بلا مكون، فتلك مصيبة، وإن كان يدري فالمصيبة أعظم! نعم الله تعالى قادر على أن يخلق مخلوقا (نوعا جديدا) من مخلوق آخر، ومن شاء أن يصف بعض الأنواع التي تتغير بعض خصائصها الجينية بأمر خالقها تغيرا طفيفا حتى تتأقلم مع البيئة الجديدة على أنها قد صارت أنواعا أخرى جديدة، فلا بأس بأن يوصف هذا بأنه خلق من خلق، والله قادر عليه ولا إشكال، وليس هو "تطورا" أو "تطويرا" كما أسلفنا، وإنما هو خلق محكم لبيئة مخصوصة، يتبعه خلق آخر محكم لبيئة أخرى مناسبة له، إبداعا من بعد إبداع وإحكاما من بعد إحكام (ما لم تقتض حكمة الخالق أن يحكم على نوع من الأنواع بالانقراض فلا يقضي فيه بذلك التكيف الجيني الملائم كما ذكرنا). أما أن يقال إن الله قادر على أن يخلق من "طريق النشوء" فهذا كلام من لا يدري ما "النشوء" هذا أصلا!
بل إن هذه الفتوى العجيبة تفتح الباب أمام ما لا يقول به كثير من "التطويريين" أنفسهم، إذ يؤمنون بأن آدم عليه السلام قد خلق من طين خلقا مباشرا كما أخبر الله تعالى في النص، وأن له وضعا استثنائيا على هذا الاعتبار في خروجه من قاعدة التطور المزعوم، بينما يلوح هذا المفتى بأن آدم قد خلق على مراحل وأطوار، ربما يثبت لنا في يوم من الأيام أنها كانت على نحو كذا وكذا!
فنعوذ بالله من ذاك الوهن ومن تلك الهزيمة النفسية التي تزكم الأنوف!
فيا هؤلاء "التطويريين" دعونا نكررها لكم لعلها تصيب من عقولكم ما هو مستقر في نفوس سائر المسلمين: خلق الله تبارك وتعالى ليس عبثا ولا لعبا، وليس هو "محاولة" لضبط الخلق وتقديره بقدره الصحيح، بإحداث "طفرات" في البرنامج الجيني ترقى بها (أو ببعضها) تلك المخلوقات من حالتها الفوضوية البائسة التي خرجت إلى الوجود عليها (بحسب نظرية داروين)، سبحان الله وتعالى عن ذلك العجز والقصور والعبث علوا كبيرا!
فإذا ارتضيتم موافقة المسلمين على أن الخلق لم يكن عبثا (وهو ما تصرحون بأنكم تعتقدونه وتؤمنون به)، ولم يكن "نشوءا" ولا "تطفرا" ولا "عشواء" ولا "انتخابا للمخلوق الأصلح للبقاء من جملة كبيرة من المخلوقات الناقصة المتهالكة"، ولم يكن شيئا من تلك المقتضيات الصريحة التي تقتضيها عقيدة الانتخاب الطبيعي والتطفر العشوائي، فبالله ما وجه تعلقكم بأن الله قد خلق الخلق "بالتطوير" أو "بتوجيه التطور" أو "بالتدخل في الوقت المناسب"، وكأنه سبحانه كان الأصل في صفته أنه متعطل عن الفعل والخلق في هذا العالم، فلا يتسبب في شيء من أحداث "الطبيعة"، وإنما تتعلل الطبيعة بنفسها استقلالا، إلا فيما "يتدخل" فيه الخالق بالفعل والإحداث من آن لآخر (كما يقول أصحاب المذهب "أ") فيكون هو "فاعله"؟ أهو التعلق بالاسم فقط (التطور)، حتى لا يقال "جهلاء" متشددون رفضوا "العلم الحديث" ورموه وراء ظهورهم تمسكا بدينهم؟ نعوذ بالله من الخذلان وأهله.
إن المتأمل في آي القرءان وصحيح السنة يجد أن خلق الله في هذا العالم وقع على صنفين كليين لا ثالث لهما:
- إحداث للمخلوق من العدم (أي من عدم ذلك المخلوق أو النوع نفسه، وليس عدم المادة التي يتكون منها)، وهو ما يقال له الخلق بغير مثال سابق، وفيه قول الله تعالى: ((وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [النور : 45] وهو نص صريح في أن الله تعالى خلق جميع أنواع الدواب التي فصل في بيان بعضها، من الماء، لا من بعضها البعض ولا من أصل واحد كما يعتقده التطوريون. ويقول جل وعلا: ((وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)) الآية [الزمر : 6] وتأمل قوله "أنزل". وقوله تعالى: ((وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ)) [الزخرف : 12] ولعله أن يكون نصا صريحا كذلك في أن أنواع المخلوقات على الأرض قد خلقت "أزواجا" (بالخلق المباشر)، وليس تدرجا من أصل واحد. وهذا القسم من الخلق الرباني يدخل فيه خلق آدم من الطين وخلق إبليس من النار، وخلق الملائكة من النور. هذه النصوص قد توافر السلف وجميع المسلمين قرونا طويلة على فهمها على أن خلق الله تعالى لسائر الدواب إنما كان خلقا مباشرا من غير مثال سابق ومن غير "سلف" تطوري أو نحو ذلك مما جاء به الدراونة.
- إحداث للمخلوق على مثال سابق، وهو ما يكون من خلق الأجنة في الأرحام، وخلق الأجيال المتتابعة من المخلوقات على الأرض بعضها من بعض، كل مخلوق بحسب ما جعل الله في نوعه من طريقة للتكاثر والتناسل، خلقا من بعد خلق، كما في قوله تعالى ((خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)) [الزمر : 6]، والخلق في الأرحام هو ما يقول فيه الملك جل وعلا ((وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً)) [نوح : 14]، والأطوار هنا يراد بها النطفة ثم العقلة ثم المضغة كما قال من يعتد بكلامهم في فهم كتاب الله تعالى، وهو إجماع المسلمين في فهمها الذي لم يُعرف في الأمة خلافه، فمن أتى فيها بتأويل آخر (كقولهم إن الارتقاء أو التطور هو المقصود بتلك الأطوار) فقد افترى على الله الكذب! (3)
وليس الخلق على مثال سابق "تطويرا" ولا يجوز أن يكون كذلك، إذ التطوير الذي يقصدونه معنى مذموم في ذاته كما بينا. ولو كان الخلق من طريق التناسل (خلقا من بعد خلق) طريقا لإحداث أنواع جديدة من الكائنات الحية على الأرض على غير مثال سابق، بل لو كان ذلك هو طريق الخلق الأوحد وتكوين الأنواع كلها من أصل واحد كما يعتقده مخانيث الدراونة من أهل القبلة، لكان ذكره أولى من ذكر هذين الصنفين جميعا، ولما جاز أن ينعقد إجماع المسلمين من السلف الأول وإلى يوم ظهور تلك الطائفة الجديدة بينهم على خلاف هذا التصور الدارويني لخلق الله تعالى لأنواع الكائنات الحية على الأرض، تبعا للنص الصريح كما أسلفنا! فواقع الأمر أننا معاشر المسلمين من أهل الحديث والأثر، أهل الفرقة الناجية، لا نقيم وزنا لما يخالف إجماع الأولين في فهم أخبار الغيب التي جاء بها النص الشرعي، ولا نرى معقولية الخروج بتأويلات جديدة لم يكن للأولين دراية بها ولا بقريب منها لما خاطبهم به الله تعالى من نصوص الوحي المطهر! فمن شذ عن هذه القاعدة الكبرى عندنا فليس منا ولسنا منه، وهو عندنا من أهل البدع والضلالات، والله الهادي إلى سواء السبيل!
وحتى لا نقابَل باعتراضات ساقطة على هذا الإطلاق بخصوص تغير الكائنات الحية عبر الأجيال للتكيف وكذا، نقول إنه ليس التغير الجيني عبر أجيال الأنواع مما يعد من قبيل حدوث الأنواع الجديدة أصلا وإنما يدخل في باب الخلق من بعد خلق، وهو تعديل رباني على أنواع قائمة بالفعل. وليس هو من "التطور" أو "التطوير" وإنما هو تغيير في خصائص المخلوق الواحد أو النوع الواحد بما يتوافق مع تغير البيئة التي يعيش فيها، تغييرا محسوبا محكما مقدرا على أحسن تقدير، فلا كان الكائن (النوع) من قبله ناقصا عاجزا، ولا صار من بعده أكثر تطورا أو أحسن رقيا! وإنما كان في كلا الحالين جميعا على أحسن ما يكون لموافقة بيئته التي يعيش فيها، فانتقل من مواءمة وموافقة إلى مواءمة أخرى وموافقة أخرى، تكيفا بعد تكيف، وتوافقا بعد توافق، مع بقاء أصل النوع كما هو، ما لم يشأ الله له أن يهلك وينقرض، فيسبب الأسباب لذلك سبحانه وتعالى، مع أسباب أخرى يغفلها أو يتغافلها الدراونة تتعلق بحفظ التوازن البيئي العام على الأرض، وحفظ سلاسل الطعام Food Chains من الانهيار، ونحو ذلك مما نقول به لأنه مقتضى حكمة حكيم عليم لا يقضي في خلقه إلا بالحق وبتقدير محكم متين.
والدراونة – بالمناسبة - يتغافلون هذا الجانب (جانب التوازن الكلي المحفوظ في النظام الحيوي ككل) عمدا لأن لازمه هدم الأصلين الكليين لنظريتهم تلك، إذ حقيقته القول بأنه ما من تغير يقع في الحوض الجيني إلا وفي سائر متغيرات المنظومة الكونية للحياة على الأرض ما يستوعبه ولا يسمح بصيرورته سببا في انهيار النظام نفسه، كما يستلزمه التصور الدارويني العشوائي الذي يعتقدون – دفعا بالصدر - أنه ظل يجري على الأرض لملايين السنين من غير أن يتعرض لحدث عشوائي واحد يمكن أن يكون سببا في انهياره كله من أوله إلى آخره! فهم يؤمنون بغياب الضابط أو المنظم أو الحاكم الخارجي، ومن غير هذا الأصل الكلي لديهم لا يكون "لآلية" داروين أي معنى أصلا! ولهذا قدمنا أن من رام الجمع بين الخلق المحكم والتنظيم الخارجي من جهة، وبين آلية داروين الطبيعية من جهة أخرى، فقد ناقض نفسه أشد التناقض، وصار كالمنبتّ، لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، والكل منه براء!
وقد تعلق بعض التطويريين بكلام للأئمة فيما مفاده أن أيام الخلق لا يلزم أن تكون أياما على مقياسنا المعروف لليوم والليلة، لأن النص قد جاء بأيام لها مقاييس مختلفة كما في قوله تعالى ((وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ)) الآية [الحج : 47]، فقد يكون طول يوم الخلق هذا مئة سنة أو ألف سنة أو مليون أو أكثر، والله أعلم بحقيقة ذلك. فقال هؤلاء إن هذا الطول لليوم الذي خلقت فيه الدواب يتفق مع ما يقوله "السجل الحفري" الدارويني من طول المسافة الزمنية الجيولوجية بين المخلوق الأقدم والأحدث بما يدعم القول بالتطور، بل عده بعض المساكين من "الإعجاز" إذ رأوا النص عندنا يسمح بقبول قصص القوم في "النشأة الأولى" على طولها الفاحش، بخلاف نصوص أهل الكتاب. ونقول إن هذا استدلال واه في غاية الوهاء، لأن الجواز والإمكان شيء، والتحقق والوقوع شيء آخر. فالمسلم المتجرد من فتنة دارون ونظريته، لا يميل في الترجيح في هذا الشأن (قضية طول يوم الخلق) إلا مع النص الشرعي، فإن وجده قال بمقتضاه، وإلا سكت. أما أن يتخذ ذلك الإمكان في مقدار اليوم الذي تكلم به بعض أهل العلم دليلا في نفسه أو قرينة على صحة مزاعم الدراونة في قصتهم "الارتقائية" الأسطورية الطويلة هذه، فهذا ما لا يقوله عاقل!
وفي الختام نقول إنه مهما وجد المسلم من حفريات ومن قرائن حسية على التقارب الجيني أو الجزيئي أو المورفولوجي (أو على أي وجه كان) بين صنوف الكائنات في الأرض، فإنه يرفض فكرة وضعها في مسلسل تاريخي "ارتقائي" أو "تطوري" أو "تطويري" أو "تدرجي" أو أيا ما كان اسمه، لأنه يرفض الأساس الفلسفي الذي عليه رتب الدراونة أنواع المخلوقات، وبه تأولوا تلك المشاهدات في الحفريات وغيرها، ولأنه يؤمن بأن الله تعالى قد خلق كل صنف من صنوف المخلوقات (كل دابة) في مكانه الصحيح وفي بيئته الصحيحة وعلى أكمل ما يقتضيه بقاء ذلك الصنف وتكاثره في الأرض، خلقا تاما محكما من أول مرة، وهو ما يقتضيه العقل الصحيح بموجب كمال صفات الله تعالى، وما أطبق المسلمون عليه عبر القرون من فهم لنصوص الخلق والتكوين! فماذا بقي إذن من ذلك "النموذج" الذي تتمسك به تلك الطائفة إلا أن يكون وهما يوهمون به أنفسهم، من شدة ما في نفوسهم من افتتان بتلك النظرية الإلحادية الساقطة، حتى لا يبقى لإمامهم المدعو "عمرو شريف" من متعلق في كلامه إلا تقريره بكل ثقة أن هذا ما أثبته العلم الحديث، وهو علم له أهله ويجب احترامهم ويجب قبول بضاعتهم، وإرجاع الأمر فيه إليهم، إلى آخر ذاك الكلام الذي إن دل على شيء فإنما يدل على نفس منهزمة قد ارتضت لصاحبها تقليد الأكاديميات الكبرى فيما اتفق أصحابها عليه وإن جاءت بما يصادم صريح العقل والدين، ويخالف قطعيات النص وفهمه الذي أجمع عليها المسلمون من يوم أن نزل القرءان على خاتم المرسلين!
فالله أسأل أن يحفظ المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يكفيهم شر المبتدعة وأهل الأهواء، وأن يحسن خاتمتنا ويحشرنا في زمرة الأنبياء، والحمد لله رب العالمين.
-------------------
(1) لذا يجب أن ينتبه الإخوة إلى أنه من الخطإ الكبير أن يُستدرج المسلمون – كما أراه يقع في كثير من الأحيان والله المستعان - إلى النظر في ألوان وصنوف ما يعده الدراونة والتطويريون من أدلة صحة النظرية ووقوع التطور تحقيقا، فإن نزاعنا مع الدراونة نزاع فلسفي بالأساس، يضرب في الأصل العقلي الكلي الذي به استجاز القوم البحث في المسألة نفسها أولا من خلال أدوات البحث الطبيعي (وهي قضية إبستمية في العلاقة بين دائرة الفزيقا ودائرة الميتافزيقا، ولا يتسع هذا المقام للبسط فيها)، ثم في الأصل العقلي الكلي الذي به استجازوا الكلام عن "الخلق" على أنه "تطوير" من أصول بدائية ومنحطة "تصميميا" وصولا إلى فروع "راقية". ثم عند الرد على ذاك الفصيل المفتون من المسلمين بهؤلاء ونظريتهم تلك، يجب أن يكون الكلام في المسألة على أنها قضية عقيدة في الله تعالى وصفاته وفي مسألة الخلق، فيضاف إلى ما تقدم الكلام في مفهوم "الغيب المطلق" وفهم السلف للنص وإجماعات المسلمين الموروثة في باب خلق السماوات والأرض ونحو ذلك من قضايا تقطع دابر الشبهة من أصلها، من غير أن يتطرق الكلام إلى السجل الحفري وعلم الأحياء الجزيئي وهذه الأشياء!
(2) ولم يجد الرجل مفرا من التسليم بضرورة أن تكون المسألة قوامها آلية ثابتة ونظام مستمر، وهو ما أوقعه في التناقض، وترك الباب مفتوحا أمام من افتتنوا بنظريته تلك لادعاء خضوع تلك الآلية التي اخترعها لترتيب رباني وخلق محكم، وهو إغراق في نفس هذا التناقض الذي تعاني منه النظرية، وقعت فيه النصارى الداروينيين ثم تابعتهم تلك الطائفة من جهلاء المسلمين حذو القذة بالقذة!
(3) والعجيب أن المنتحلين لتلك الآية الكريمة كدليل قرءاني "لنظرية داروين"، يفوتهم أنها خارجة من بعد آية في غاية المهابة يقول رب العزة فيها: ((ما لكم لا ترجون لله وقارا))، فيأتي الوصف بأنه سبحانه قد خلقنا أطوارا في مقام التذكير بعمل من أعمال الخلق يدعو العاقل لتوقير الخالق جل وعلا بما هو أهله، فبالله كيف يكون المقصود بالخلق على أطوار أننا قد كان أصل خلقتنا جميعا تلك المسرحية الهزلية السخيفة التي يعتقدها الدراونة، وأي توقير لله تعالى يكون في استحضار تلك الصورة "التطورية" الهزلية يا هؤلاء لو كنتم تعقلون؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، القائل فيما صح عنه "لتتبعن سنن من كانوا قبلكم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب دخلتموه"،
أما بعد، فالأمر الذي دعاني لكتابة هذه الرسالة، أني رأيت بدعة "التطور الموجه" هذه قد صارت يروج لها اليوم على بعض الفضائيات ترويجا غير مسبوق، وقد كان المسلمون منها في عافية ولا حول ولا قوة إلا بالله. وثمة رجل بعينه (وهو طبيب له كتب ومؤلفات يدعى "عمرو شريف") أصبح يقدم ويصدر للناس في تلك الفضائيات وتقدم كتبه ومؤلفاته على أنه عالم علامة كبير .. الخ، يدين بتلك الضلالة الداروينية ويعتقدها اعتقادا راسخا، وهو ماض في تزيينها للعامة، وتلبيسها لبوس العلم وزعم اتفاقها مع الشرع والدين، بل أنها هي تأويل قوله تعالى ((فانظروا كيف بدأ الخلق))، وإذا بنا نفاجأ بمسلمين يعتقدون صحة نظرية داروين اعتقادا تاما، يتبعون ذلك الرجل ومن وافقه، ويرون – في غمرة افتتانهم بما اتفقت عليه الأكاديميات العلمية الغربية المعاصرة، لمجرد أنها اتفقت عليه - أن موقفهم هذا هو الموقف الوسط الذي لا يستجلب نفور الغربيين منا وتهكمهم علينا، وأن "العلم" (هكذا) يمليه علينا، وأن الاعتقاد بصحة نظرية داروين (إجمالا) اعتقاد صحيح لأنه لا ينبغي أن يكون ثمة تعارض بين "العلم" و"الدين"، يدندن الرجل وأتباعه بهذا الكلام ونحوه في كل مناسبة وكأن الدين هذا ليس علما عندنا، وليست أدلته وبراهينه الشرعية بالتي ترقى أصلا لمخالفة إجماعات الطبيعيين المزعومة! فما دام الرجل الأبيض قد قال كلمته، وقرر أن هذه المسألة حق مقطوع محسوم، وأن "التطور" (هكذا) حقيقة مثلما أن الجاذبية حقيقة، لم يعد لأحد من البشر أن يعترض أصلا، وإلا اتهمَنا الرجل الأبيض بالتخلف والانحطاط، وإذن لفسد علينا ديننا ودنيانا، وصرنا نحن والقردة والخنازير سواء!! فإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
هذا الطبيب المذكور إلى الآن لم يجد – بكل أسف – من يردعه حق الردع، ويوقفه عند حده، ويعلمه قدره في ميزان الشريعة بل وفي ميزان الفلسفة والعلوم العقلية، من غير أن يتردد في مخاطبته بما هو أهله! فإلى الآن لم أر من يخاطبه أو يرد عليه على أنه إمام بدعة وضلالة (مع ما رأيناه له من تابع من الجهلاء آخذ في النمو والانتشار)، وإنما يرد عليه بعض الإخوة باعتباره عالما ذا فضل ومنزلة .. الخ، مع أن جماهير العوام التي خاطبها الرجل عبر الفضائيات لم تكن لها به سابق معرفة أصلا قبل أن يطل عليهم عبر تلك الفضائيات، وقبل أن يقدمه لهم رجل كان معدودا من حماة الثغر والساهرين عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فسبحان الله لا أدري كيف تستقيم موازين بعض الأفاضل ومقاييسهم، نعوذ بالله من زوال قدم بعد ثبوتها ومن سوء المنقلب والمآل.
مقدمة لابد منها: لماذا نرفض نظرية داروين (نظرية التطور) جملة وتفصيلا؟
ألا فليعلم القارئ المحترم في الابتداء أن القول في مسألة خلق السماوات والأرض وخلق الحياة على الأرض، قول في مسألة غيبية مطلقة التغييب، وأنها لذلك من مسائل العقيدة التي لا نكتفي فيها بأن نقول كما يقول بعض الأفاضل إنها لا يقدم فيها أي مرجع معرفي فوق الخبر الغيبي من الكتاب والسنة بفهم الصحابة والتابعين (لا بتأويلات الجهلاء المفتونين)، بل نقول إنها لا يصح أن يقبل فيها مرجع معرفي سوى هذا أصلا! والسبب الذي نرفض من أجله نظرية داروين سبب فلسفي (إبستمولوجي) وعقدي محض، وليس سببا علميا أو تجريبيا أو نحو ذلك (كما ترى في ردود طائفة "الخلقيين" عليهم). (1)
ذلك أن أحداث الخلق الأول (خلق السماوات والأرض وما فيهما) يقينا لم تكن مما يقاس على ما يجري الآن في الكون من أحداث، من حيث النوع والكيفية (كأحداث متتابعة انتهت بتمام صنع الكون وما فيه)، فلا يعقل أن تكون تلك الأحداث حوادث "طبيعية" على اصطلاح الطبيعيين، لأنها تلك الأحداث التي أنشئ (وليس "نشأ") بها هذا النظام الذي يقال له "الطبيعة" نفسه وبها أسسه خالقه تأسيسا! وهذا محل مفارقة كبيرة بيننا وبين الماديين الملاحدة في الأساس الإبستمولوجي لتناول تلك القضية، يجعلنا نقرر أنه ليس من الجائز ولا من المقبول في العقل المجرد أن تستعمل طرائق البحث الطبيعي ومسلماته الفلسفية الكلية (كقاعدة الاستمرارية أو الثابتية uniformity التي تعد من أركان العلم الطبيعي) في الوصول إلى تحصيل المعرفة بشيء من تلك الأحداث الميتافزيقية المحضة! تماما كما أنه لا يصح أن تقاس الأحداث التي صنعت بها السيارة – مثلا – على شيء مما تحدثه تلك السيارة نفسها من أحداث، أو ما يجري عليها بعد صناعتها من أحداث أو ما يقع بها من تغيرات في أحوالها وما تتركب منه، على أساس من افتراض أن تلك الأحداث والتغيرات الجارية عليها لابد وأنها قد استمرت هكذا كما نراها الآن إلى الماضي البعيد، بما يوصلنا إلى معرفة كيف "نشأت" تلك السيارة نفسها في الماضي! هذا خلل عقلي عظيم، أرجو أن يكون هذا المثال قد قربه إلى ذهن القارئ. وهو خلل مرجعه إلى الأساس الإلحادي الذي تقوم عليه الفلسفة الطبيعية المعاصرة فيما يتعلق بالماورائيات، وهي قضية دقيقة قد أطلت النفس في شرحها في كتاب جديد يوشك أن يصدر مطبوعا إن شاء الله تعالى بعنوان "آلة الموحدين لكشف خرافات الطبيعيين"، ولكن يكفي في هذا المقام أن نقرر أن السلطان المعرفي الاستدلالي الوحيد المقبول في معرفة أي شيء من تفاصيل وأحداث خلق السماوات والأرض وما فيهما، إنما هو الخبر المباشر في الوحي من الخالق نفسه، سبحانه وتعالى، فما جاء به الخبر من قصة الخلق وتفصيله قبلناه وحمدنا الله عليه، وما لم يأت به الخبر سكتنا عن طلبه وفوضنا فيه العلم له سبحانه.
ثم إن الله تعالى يقول: ((إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ)) [يونس : 3] فمن مفهوم هذه الآية الكريمة أن قوانين السماوات والأرض (قوانين الطبيعة التي نراها تجري عليها اليوم، ولا ندري للطبيعة قوانين غيرها) إنما بدأت عملها في الكون بعد أن استوى الملك جل وعلا على العرش، وأخذ في تدبير الأمر، لا قبل ذلك، فتلك السنن والنواميس الكونية الجارية أمامنا اليوم كلها جزء من ذلك الأمر المذكور في الآية فيما يظهر للمتأمل. فبأي شيء سوى تلك القوانين الطبيعية نفسها، يزعم هؤلاء أنهم قد حصَّلوا المعرفة بأحداث خلق النظام نفسه الذي تجري فيه وعليه تلك السنن والقوانين! هذا في الحقيقة من علامات التشبع بفلسفة الماديين في تناولهم قضايا "النشأة" الأولى تناولا "طبيعيا"، وقد وفينا هذه المسألة حقها – فيما نرجو – في كتابنا الجديد "آلة الموحدين لكشف خرافات الطبيعيين"، ولله الحمد والمنة.
هذا يعني – كما أرجو أنه لا يخفى الآن على القارئ الفطن – أن نزاعنا مع أصحاب نظرية داروين ليس في الحقيقة نزاعا منعزلا في قبول أو رد هذه النظرية بعينها وحسب، ولكنه نزاع عميق الغور ينزل إلى الأسس الفلسفية الكلية التي تقوم عليها تلك النظرية نفسها وسائر ما يدخل في بابها عند الطبيعيين.
ثم إلى جانب المبدإ الاستمراري المطرد في فلسفة الطبيعيات المعاصرة، وتلك المغالطة الفلسفية الكبرى في إعماله للوصول لمعرفة أحداث خلق النظام نفسه (التي ما استجازوها إلا لإلحادهم وماديتهم فيما يتعلق بالموارائيات، ونفيهم فكرة الخالقية والتعليل الغيبي كما بينت ذلك وتوسعت فيه في الكتاب المذكور)، فإن نظرية داروين تقوم كذلك على ما يمكن تسميته بمبدإ الفوضى المنظمة Uniform Chaos، بمعنى سلسلة من حوادث العشواء المؤطرة بنظام عام مطرد. والسبب في قيام النظرية على ذلك المبدإ أن صاحبها (داروين) كان حريصا على اختراع "آلية" مطردة يفسر بها نشأة الأنواع كلها (2)، من غير أن يكون من وراء تلك الآلية أي عامل سببي ميتافزيقي من أي نوع. فلم يجد الرجل أمامه إلا أن يدعي الفوضى والعشواء و"الصدفة" أصلا أصيلا في تلك "النشأة"، يلبسها لبوس النظام المطرد المستقر في العالم، حتى يبدو الأمر كما صوره تلميذه المعاصر دوكينز وكأنه تراكم للصدف المتتابعة أو (على حد تصويره): "صعود متدرج لجبل الاحتمالية الضعيفة" (على أساس مغالطة أخرى مفادها أن نشأة الحياة من غير خالق = أمر ضعيف الاحتمال وليس محالا في العقل، وقد بسطنا الجواب عن تلك المغالطة بحول الله تعالى في غير موضع).
هذا الأصل الكلي الذي تقوم عليه النظرية، لا يمكن لعاقل أن يقبلها من غير أن يقبله معها ضرورة. ذلك أن داروين لم يقل "بالتطور" كطريق لظهور الأنواع بعضها من بعض، إلا بعدما وضع تلك "الآلية" الجديدة لنظريته تأسيسا على هذا الأصل، وهي تتمثل في فكرتين كليتين:
- الطفرة العشوائية (وهي ذلك الظهور العشوائي المزعوم لجينات جديدة تضيف خصائص وصفات جديدة للحوض الجيني لهذا النوع أو ذاك)
- الانتخاب الطبيعي (وهو بقاء تلك الأنواع التي يُتفق بالصدفة المحضة أن تكون قد حظيت بإضافة جينية من الطفرات العشوائية تؤهلها لأن تتكيف مع الطبيعة ولا تهلك كما هلك غيرها من الأنواع)
تأسيسا على هاتين الفكرتين، تأسس المبدأ الثالث في النظرية عند داروين، ألا وهو القول "بالأصل الموحد" لجميع الأنواع. فبإعمال مبدإ الاستمرارية أو الثابتية الطبيعية uniformity على القول بأن الطفرات الجينية العشوائية هذه تضيف إلى الأنواع وتزيدها تعقيدا باطراد ولابد (سواء بزيادة أعضاء جديدة لم تكن موجودة فيها من قبل، أو بزيادة تعقيد النظام الحيوي نفسه للنوع)، استنتج الرجل أن الأنواع كلها لابد وأنها قد كان لها أصل واحد شديد "البساطة" في تركيبه! فوجد نفسه محمولا على تصنيف المخلوقات كلها إلى درجات وطبقات في "البساطة" العضوية Simplicity و"التعقيد" Complexity، حتى يجعل الأبسط منها هو الأقدم ظهورا في ذلك التاريخ العبثي الطويل الذي تصوره. فلما نظر حوله ولم يجد مخلوقا "أبسط" من الكائن أحادي الخلية (بمفهومه هو الفاسد للبساطة، وقد تكلمنا في فساد ذلك المفهوم طويلا في كتاب "نسف أساسات الإلحاد، المجلد الأول" فلينظر في موضعه)، جعله هو "الأصل" الموحد الذي منه تشعبت سائر الأنواع وتدرجت في تعقيدها بناء على آلية الطفرات والانتخاب هذه.
من هنا أصبح هذا التدرج المزعوم للأنواع من "الأبسط" إلى "الأعقد" يعرف باسم التطور أو الارتقاء. فمن سلَّم بأن "ارتقاءً" أو "تطورا" في الكائنات قد وقع تحقيقا في تاريخ الحياة، فهو مضطر لا محالة للتسليم بالأصول التي قام عليها القول بذلك التطور المزعوم عند صاحبه، وبذلك التصنيف الفاسد للكائنات ما بين "بسيط" و"معقد"، واعتبار أن هذا "البسيط" = بدائي ومتخلف فيما يظهر فيه من "تصميم" موهوم، بالمقارنة بما هو "أعقد" منه، فإن هذا هو معنى التطور أو الارتقاء Evolution في اصطلاح النظرية، ولا معنى لها سواه! هذه الأصول كلها مدارها حول تلك "العشوائية المنظمة" التي أشرنا إليها آنفا. وهي فاسدة بالعقل المجرد لأنها لا يمكن أن يتعامل معها العقلاء إلا على أحد وجهين كلاهما باطل:
- افتراض أن المقصود بالعشواء هنا أن نظاما قد وُضع من الخارج ليحكمها بحيث يأتي منه تعريف ما هو مقبول وما ليس بمقبول من تلك الإضافات "العشوائية" حتى يبقى ويترتب عليه ما بعده من خطوات نمو تلك "الشجرة" المزعومة، مع التوقف في جواب السؤال: فمن أين جاء هذا النظام نفسه بالأساس. (دعنا نسمي هذه الفكرة بالخالق الأعمى، أو "صانع الساعات الأعمى"، إذ حقيقتها إثبات خالق ناقص عاجز)
- افتراض أن المقصود بالعشواء هنا هو أن نظامها المتدرج هذا لم يوضع من الخارج أصلا ولم يضبطه ضابط خارجي، وإنما نشأ من تلقاء نفسه فكان حاكما على سائر الأحداث العشوائية التي جرت تحته. (ودعنا نسمي هذه الفكرة "معلومات لا سبب ولا مصدر لنظامها"، إذ حقيقتها نفي السببية والتعليل)
وواقع الأمر أن الدراونة الملاحدة يتخبطون بين هذين التصورين لحقيقة "العشواء" لديهم تخبطا عظيما، لأنهم يصرون على تغافل ذلك التناقض العميق في أصل النظرية. فهم لا يرون – على سبيل المثال - إشكالا في شرح فكرة النظرية بالقياس على النظم الحاسوبية الموضوعة لإفراز نتائج عشوائية Random Generators بحيث يقوم نظام مبرمج مسبقا بانتقاء النتائج الصحيحة كلما ظهرت ليضعها في مكانها (وهو المثال الذي ضربه دوكينز في غير مناسبة). فكلما ألزمناهم باللازم الواضح الجلي لهذه الصورة ولتلك "الميكانيزمية" العامة التي يتصورونها الموضوعة من الخارج وضعا مسبقا، ألا وهو وجود خالق غيبي قد وضع ذلك النظام كما وضعوا هم ذاك البرنامج الحاسوبي الذي قاسوا عليه، وأن هذا يقتضي أن تكون عقيدتهم في الحقيقة ليست نفي الخالق بالكلية كما يذهبون، وإنما إثباته مع نسبة النقائص إليه بادعاء أنه قد وضع نظاما حاكما لعملية ذات مفردات عشوائية طويلة الأجل لبناء الحياة على الأرض، فلا يدري إلى أين ستمضي بالمخلوقات ولا ما مصيرها، نفوا عن أنفسهم هذا اللازم نفيا شديدا، ولم يأتوا في ذلك النفي إلا بالمزيد من الأمثلة التي تزيدهم به تلبسا وهم لا يعقلون!
فهذا دوكينز نفسه يؤلف كتابا في الدفاع عن فلسفة الداروينية فلا يسميه إلا "صانع الساعات الأعمى"، فإذا ما سئل عن ذلك قال إنه مجاز لا غير، كما أن كلمة "مخلوق" ليست إلا مجازا عندنا، وكلمة "خلق" لا نستعملها إلا مجازا .. الخ، مع أنه لما أراد أن يضرب مثالا لتلك "العشوائية المنظمة" للانتخاب الطبيعي التي شرحها في كتابه ذاك، لم يجد إلا أن يضع برنامجا حاسوبيا صغيرا من الصنف المذكور آنفا، سماه Biomorph، ثم أخذ يتكلم وكأن اضطراره هو نفسه لاختراع البرنامج حتى يضرب به مثلا لتلك "الآلية" الداروينية المزعومة، ليس في نفسه دليلا على الضرورة العقلية لوجود صانع قد صنعها هي نفسها من خارجها، فسبحان الله ما أشد جحودهم ومكابرتهم!
فمحل التناقض في أصل نظرية داروين يكمن في حرص داروين وأتباعه على حشر العشوائية chaos في أصل ما يقولون إنه نظام محكم non-random حتى يجعلوه بديلا "طبيعيا" للخلق والخالق! فكيف يعقل أن يقوم نظام محكم على ترتيب تراكمي لأحداث يوصف كل واحد منها بأنه فوضوي عشوائي محض؟ الحدث الفوضوي العشوائي لا ينتظم مع غيره من الأحداث العشوائية في نظام مخصوص أو على قاعدة واحدة، إلا إن وجد تخطيط مسبق لذلك النظام وتقعيد خارجي لتلك القاعدة التي تفرز تلك الأحداث الفوضوية وتستهدف بناء مخصوصا من تراكمها (بناء سابق التصميم كحيز معلوماتي مخزون في أصل النظام). فإن سلمنا بوجود ذلك التخطيط المسبق (الذي تتعرف به العلاقة بين القفل والمفتاح، أو بين المخلوق والطبيعة التي تشترط عليه شروطا معينة حتى يتكيف معها ومن ثم ينتخب للبقاء فيها) لزمنا القول بوجود "مخطط خارجي" ضرورة، تأتي منه تلك الخطة وذلك النظام، بما فيه من استعمال للعامل العشوائي المزعوم هذا! ولكن يلزمنا كذلك - ومن ثم – نسبة ذلك المخطط الخارجي إلى النقص والعجز ضرورة، إذ لو كان قادرا على إحكام الخلق كما يريد، فلا وجه إذن لوقوع الأمر منه على هذه الصورة البائسة: نظام معلول متخبط يكون الأصل فيه هلاك كل مخلوق لنقصه وتخلفه عن التكيف مع الطبيعة التي خلق فيها، إلا ما يُتفق أن يظهر فيه "بالحدث العشوائي المحض" تلك الطفرة المفيدة التي تحيله إلى نوع قادر على البقاء والاستمرار!
ومع مزيد من التأمل، يتبين لنا أن هذا ليس "نظاما" أصلا، ولا يعقل أن يصبح نظاما، فضلا عن أن يستمر لعشرات الملايين من السنين كما يزعمون، إذ الأصل فيه العطالة والعجز والفوضى المحضة، وبقاء الأمر مرتهنا في تلك الفوضى الشاملة بمجيء حدث "عشوائي" (الطفرة أو نحوها) في كائن من الكائنات من غير أي توجيه خارجي، ليجعله قادرا على البقاء! فبأي عقل ينشأ ما يصح أن يقال له "نوع" أصلا، في ظل تلك الفوضى الشاملة؟ كيف ينشأ من مجموع المخلوقات العاجزة الناقصة ما يصح أن يوصف بأنه نوع، ثم يبقى عاجزا في انتظار تلك الطفرة المحظوظة التي لن تأتي إلا بالعشواء في كل مرة، حتى تضيف إليه ما كان ناقصا؟ وأي نظام يكون في ذلك العبث أصلا وكيف يعقل أن يصير من تلك الفوضى "نظام" أو "آلية" كما يصر الدراونة على وصفه؟ هذا محال! لهذا نقول ونكرر مرارا في جواب موجز يأبى الداروينون أن يعقلوه: إن "النظام" لا يمكن في العقل المجرد أن ينشأ على أساس من الفوضى غير المحكومة بشروط خارجية وضوابط قانونية تكون سببا مباشرا في إنشائه (وليس نشأته)! ولا يمكن للشيء (أو النظام) أن "ينشأ" من تلقاء نفسه من غير سبب فاعل خارج عن ذاته! هذه ليست مسألة "احتمالية إحصائية"، هذه قضية من قضايا البداهة العقلية والضرورة المنطقية التي يأبى الدراونة أن يروها على حقيقتها! نحن نتكلم عن تناقض منطقي متجذر في أصل النظرية نفسها، لو تجرد القوم في تأمله لبان لهم أنه ليس ثمة "آلية" أصلا حتى تبدأ في العمل، فضلا عن أن تستمر في الأرض لملايين السنين!
هذا التناقض المحض لا يمكن تداركه بتصوير الأمر بتلك الصورة التي صورها دوكينز في كتبه ومحاضراته، إذ يفترض أن النظام قد "نشأ" بحيث يكون فيه تعريف لما يصلح وما لا يصلح، مع آلية لتوليد القيمة العشوائية (توليدا صناعيا) حتى تبقى القيمة الصالحة وتفنى غير الصالحة، إلى أن يتم الأمر في النهاية على حسب التصميم الأول! فهو في ذلك يتكلم عن "نظام" سابق التصميم (كما صمم هو برنامجه الحاسوبي) فيه تعاريفه وآلياته التي تولد تلك الطفرات العشوائية الجديدة (بما فيها من معلومات قد تصلح وقد لا تصلح)، فإن ألزمناه بلازم ذلك الكلام قال أنتم لا تفهمون "الانتخاب الطبيعي"! والواقع أنه هو الذي لا يفهم الانتخاب الطبيعي، لأنه باجتماعه مع الطفرة العشوائية، يناقض ذلك المثال الذي يضربه له هو وأتباعه مناقضة واضحة، ويستحيل معه أن يوجد "نظام" أصلا من الأساس، بل يستحيل أن تبقى فيه مجموعة من المخلوقات لتتناسل وتتكاثر بما يكفي أن يتكون منها Speciation ما يقال له "نوع"! فالفطرة المزعومة التي تعين على البقاء هذه عند داروين لا تأتي تبعا لآلية تولدها توليدا عشوائيا، كما في المثال الذي يضربونه للمولدات العشوائية الحاسوبية، وإنما تأتي من غير آلية أصلا ومن غير نظام أو سبب نظامي، وهو سر تسميتها "بالطفرة" عندهم، وتسمية الانتخاب "بالطبيعي" (يعني انتخاب لا منتخِب له، أو فعل لا فاعل له)! فلو زعموا أن لها آلية سابقة التصميم هي التي تتسبب في ظهور الطفرات بمعلومات جينية مخالفة لما هو موجود مسبقا، سواء كان في تلك المعلومات فيها إضافة أو كان فيها نقص أو تغيير، فقد نقضوا أصل النظرية نفسه بذلك، وزعموا ما لا قبل لهم بإثباته، ولو أثبتوه للزمهم إثبات ما يفرون منه! ولهذا نقول إن فكرة الانتخاب الطبيعي تقتضي إثبات "الطبيعة" فاعلا مريدا له نظامه الذي به ينتقي وينتخب، وهذا يكشفه مجرد اسمها نفسه! ولكنه في نفس الوقت تصور يتناقض مع العشوائية المحضة التي يعتقدونها في الطفرات نفسها، وهو ما يستحيل معه المصير إلى ما يمكن تسميته "بالآلية"، ولهذا كان الدراونة ولا يزالون يتخبطون (فلسفيا وعقديا) بين الوجهين الذين قدمنا بذكرهما آنفا لمفهوم "العشواء المنظمة"!
بهذا التحرير يتبين لك أن الأمر يرجع في تلك النظرية إلى إحدى خلصتين: إما إثبات الخلق (التنظيم والتخطيط) المحكم (وهو ما يعني وجود نظام محكم لا متسع فيه للفوضى والعشواء أصلا، بموجب إثبات الخالق وإثبات كماله الواجب عقلا) وهو ما يترتب عليه بطلان مفهوم "التطفر العشوائي" ومفهوم "البقاء للأصلح" ومفهوم الارتقاء و"التطور" ومن ثم إسقاط نظرية داروين، وإما نفي الخلق بالكلية ومن ثم نفي النظام (أو اللا-عشوائية) بالكلية ونفي مطلق معنى "الانتخاب" نفسه، وهو ما يترتب عليه إسقاط نظرية داروين كذلك، إذ إنها تقول بإثبات نظام عام فيه تعريف للصالح وغير الصالح، تتولد فيه المعلومات العشوائية أولا ثم ينتخب منها ذلك النظام ما يصلح للبقاء ثانيا! فتحصل من ذلك أنها نظرية ساقطة مردودة من أصولها العقلية الكلية على كل وجه، ولله الحمد والمنة.
والعقل السوي يقتضي أنه إذا سقط أصل النظرية، سقطت معها جميع فروعها وأركانها وانهار بنيانها بأكمله. ومع هذا ترى من المسلمين من ينظر في تلك السفاهات العقلية التي تقوم عليها النظرية، ليقول هذه نرفضها وهذه نقبلها، لا لشيء إلا لينتهي في النهاية إلى التلفيق بين ما يتخذه الطبيعيون دليلا على صحتها، وبين القول بالخلق الرباني المحكم الذي يمليه عليه فطرته ودينه، مخافة أن يقال إنه يخرق "إجماع" الأكاديميات العلمية الكبرى في العالم ولا يقيم "للعلم" وزنا، فتراه يركب نسف المطية التي ركبها النصارى الغربيون المعاصرون من قبله، يدخل جحر الضب خلفهم، وإلى الله المشتكى!
عقيدة التطويريين (أو القائلين بالتطور الموجه)
تنطلق تلك الطائفة الجديدة في مسعاها النكِد هذا مستندة إلى تأويل بدعي لقوله تعالى في سورة العنكبوت: ((قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [العنكبوت : 20]. فهم يعتقدون أن الآية تأمرهم بالتنقيب في الحفريات للبحث في الكيفية التي بها جرت أحداث الخلق الرباني للدواب وسائر المخلوقات الحية على الأرض، حتى يصلوا بذلك إلى نظرية "علمية" بهذا الشأن. هذا التأويل الهزلي تعلق به رأسهم الدكتور "عمرو شريف" على غلاف كتابه الموسوم "كيف بدأ الخلق" وكأنه من مسلمات المسلمين، وكأن أحدا من أهل العلم بالشريعة والقرءان لن يجادله فيه وفي المصدر الذي جاء به منه! ولا شك أن من يجترئ على إحداث تأويل كهذا، وهو يعلم أنه لا قائل به من المسلمين قبله، لابد وأن يكون ممن لا يقوم في نفوسهم أي وزن للإجماع أصلا، ولا قيمة عندهم لفهم الأولين، ما لم يخدم ذلك الفهم غايتهم ويأتي على مزاجهم، وهذا من الأصول الاعتزالية "العقلانية" التي تتسم بها تلك الطائفة إجمالا.
والقول في تأويل آية العنكبوت هو كما قال أئمة صنعة التفسير رحمهم الله تعالى، يقول الإمام الطبري رحمه الله: "وَقَوْله (( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْض)) يَقُول تَعَالَى ذِكْره لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُلْ يَا مُحَمَّد لِلْمُنْكَرِينَ لِلْبَعْثِ بَعْد الْمَمَات , الْجَاحِدِينَ الثَّوَاب وَالْعِقَاب : سِيرُوا فِي الْأَرْض فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ اللَّه الْأَشْيَاء وَكَيْفَ أَنْشَأَهَا وَأَحْدَثَهَا ; وَكَمَا أَوْجَدَهَا وَأَحْدَثهَا اِبْتِدَاء , فَلَمْ يَتَعَذَّر عَلَيْهِ إِحْدَاثهَا مُبْدِئًا , فَكَذَلِكَ لَا يَتَعَذَّر عَلَيْهِ إِنْشَاؤُهَا مُعِيدًا { ثُمَّ اللَّه يُنْشِئ النَّشْأَة الْآخِرَة }يَقُول : ثُمَّ اللَّه يُبْدِئ تِلْكَ الْبَدْأَة الْآخِرَة بَعْد الْفَنَاء . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل ." اهـ.
أي: سيروا في الأرض فانظروا يا عقلاء كيف أن الله قد أنشأ الخلق الأول وبدأه تحقيقا، بدليل هذا الخلق الذي ترونه ماثلا أمامكم في الأرض حيثما ذهبتم، وهو معنى واضح يخاطب به العوام والخواص في كل زمان ومكان، ويخاطب به أهل كل ثقافة وحضارة على اختلاف مقدار ما لديهم من العلوم والمعارف، ولا يُشترط فيه علم مخصوص (كعلم الأركيولوجيا والباليونتولوجيا مثلا!!)، اللهم إلا فهم اللسان العربي الذي كان هؤلاء المبتدعة من أجهل الناس به!
وهذا المعنى الواضح الصريح يعضده تأويل الآية السابقة لهذه مباشرة، حيث يقول تعالى: ((أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) [العنكبوت : 19]، فهي استفهام خبري غرضه إثبات أنهم رأوا بالفعل (أعني المخاطبين بهذا النص يوم نزوله عليهم، وكل مخاطب به إلى يوم الساعة) كيف "يبدئ الله خلق"، فسهل عليهم أن يقبلوا أنه بعد ذلك "يعيده" لأن مثله على الله يسير. يقول ابن جرير رحمه الله: " يَقُول تَعَالَى ذِكْره : أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يَسْتَأْنِف اللَّه خَلْق الْأَشْيَاء طِفْلًا صَغِيرًا , ثُمَّ غُلَامًا يَافِعًا , ثُمَّ رَجُلًا مُجْتَمِعًا , ثُمَّ كَهْلًا . يُقَال مِنْهُ : أَبْدَأَ وَأَعَادَ , وَبَدَأَ وَعَادَ , لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِد . وَقَوْله : { ثُمَّ يُعِيدهُ } يَقُول : ثُمَّ هُوَ يُعِيدهُ مِنْ بَعْد فَنَائِهِ وَبِلَاهُ , كَمَا بَدَأَهُ أَوَّل مَرَّة خَلْقًا جَدِيدًا , لَا يَتَعَذَّر عَلَيْهِ ذَلِكَ . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل ." اهـ. فهذه أشياء يرون خلقها أمام أعينهم يقع كل يوم، يرون بالفعل كيف أن الله يبدؤه مرارا وتكرارا ولا يصعب عليه سبحانه، فتقوم بذلك حجة الآية عليهم في أن إعادته من بعد موته خلقا آخر في يوم الحشر لا تصعب ولا تتعذر على من سهُل عليه ذلك الخلق الأول الذي يرونه بأعينهم.
هذا الفهم أجمع المسلمون عليه من يوم أن نزل القرءان وإلى يوم الناس هذا، إلى أن خرج هؤلاء ببدعتهم تلك! فنبذوا كلام أئمة التفسير وأهل التأويل خلف ظهورهم، واخترعوا تأويلا جديدا على المزاج والهوى، وقالوا إن الله يأمرنا في الآية بأن نمشي في الأرض لننظر كيف بدأ الخلق، مع أنه يحاججهم في الآية السابقة عليها مباشرة بأنهم قد رأوا بالفعل كيف "يُبدئ" الخلق سبحانه، وليس كيف "بدأ" الخلق في أول الزمان كما فهموا، فإن كانوا من عجمتهم قد اشتبه عليهم لفظة "بدأ" هذا الاشتباه، فما بالهم بلفظة "يبدئ" (المضارعة) في الآية قبلها؟ قالوا فلما مشينا ونظرنا، وجدنا نظرية تقول لنا إنه بدأ الخلق من خلية واحدة ثم أخذ يطوِّر عليها ويزيدها تعقيدا بالطفرات، فقبلنا تلك النظرية، وصرنا بذلك أول من عمل بأمر تلك الآية في تاريخ الأمة! فإنا لله وإنا إليه راجعون. مع أن العقل والبداهة تقتضي أن يكون هذا الذي أمر الله الناس بالنظر فيه، شيئا يسعهم أن يروه حتى تقوم به حجة الآيات عليهم ويتحقق المقصود! فكيف يعقل إذن أن يكون حقيقة هذا الأمر من الله أن: انتظروا عباد الله حتى يأتيكم من يمشي في الأرض "ليكتشف" كيف نشأت المخلوقات في أحداث دحي الأرض وبث الدواب فيها، فيتحصل لديكم أن البعث والنشور سيكون ارتقاءً داروينيا كما كانت هذه الأحداث "تطويرا"؟ ما هذا الهراء؟ إنه هراء أهل البدع والأهواء، عافانا الله وإياكم والمسلمين.
وتأسيسا على هذا التأويل الفاسد المضحك لآية العنكبوت، اعتقدت تلك الطائفة مشروعية الجمع بين الاعتقاد بالخالق وصحة النص القرءاني إجمالا، وبين التسليم بصحة نظرية داروين (كلها أو بعضها)، وذلك من خلال الاستناد إلى المفهوم الأول للعشواء المنظمة الذي سميناه "بصانع الساعات الأعمى"، مع الاحتراز بادعاء أن ذلك "العمى" والنقص ليس لازما من مجرد قبول النموذج الدارويني التطوري، وإنما تجري عملية التطور هذه تبعا للإرادة الإلهية، فيقال لها إذن "التطور الموجه" تارة، و"التطوير" تارة أخرى، على تفاوت في تصورات من وقفت على كلامهم من أصحاب تلك العقيدة، بين مذهبين كليين يتخبطون تخبطا واضحا في الاختيار من بينهما:
- مذهب من يرون أن الله قد خلق الكون والسماوات والأرض ثم أودع في الأرض سائر أسباب تكوُّن الخلية الأولى (التي هي السلف الأول لجميع الكائنات عند داروين) ثم "تركها" لتخضع "للنظام الطبيعي" الذي تصوره داروين (الذي حقيقته: عشوائية التطفر وهلاك الأنواع المتخلفة عن التكيف .. الخ)، من غير أن "يتدخل" في سيرها، مع علمه المسبق بنتائج المسيرة التطورية التي ستجري تحت ذلك "النظام". وهؤلاء في الحقيقة "دراونة" متمحضون في الداروينية كنظرائهم من دراونة أهل الكتاب سواء بسواء، وإنما يزيدون في اعتقادهم في مسألة "النشأة" الأولى على الدراونة الملحدين بأن أضافوا خالقا يجاب به عن السؤال: "إذا كانت الكائنات كلها قد تطورت بحسب نظرية داروين من أصل واحد، فمن أين جاء هذا الأصل الأول؟". فقالوا: جاء من الخالق الذي سبب له أسبابه، ثم تركه ليجري وحده من غير أن "يتدخل" فيه، مع كونه يعلم مستقبله ومآله، لأنه "بكل شيء عليم"!
................ (أ)
- مذهب من يرون أن الله تعالى قد خلق تلك العملية كلها بجميع تفاصيلها (وليس أسبابها الأولى وحسب)، فكل ما ينسبه داروين للعشوائية، فهو عندهم فعل رباني تابع لإرادة مسبقة، يتسلسل في جملة من الأفعال المتتابعة حتى تجري عملية "التطور" هذه في إطار موجه يجعلها تبدو على هذا النحو الذي يعتقدون بأن العلم قد أثبته. وإنما كان ظاهره فيما يبدو لعلماء الأحياء أنه عشوائي وليس كذلك. فهم في الحقيقة ينفون عن "الطفرة العشوائية" صفة العشوائية (ومن ثم اسم الفطرة نفسه)، وينفون عن الانتخاب "الطبيعي" طبيعيته (على المفهوم الدارويني) إذ يجعلون ظهور الطفرة متى ظهرت، ووقوع الانتخاب متى وقع، أفعالا إلهية كلها. فيعتقدون بذلك أن الله قد قصد وأراد أن يجري الخلق على الأرض في سيناريو "تطويري" موجه ظاهره العشوائية الداروينية!
.............. (ب)
وكما سنبين فإن كلا المذهبين ضلالة ولا كبير فرق بينهما، إذ ليس بين الحق والباطل إلا الباطل، وإنما يتفاوت القولان في مقدار قربهما وبعدهما عن الحق (اعتقاد المسلمين) والباطل (اعتقاد الدراونة الملحدين).
يجب أن يعلم كل مسلم ابتداء أن مجرد القول بأن الخلق كان "تطورا" أو "تطويرا" هذا سب وتنقص لحكمة الله تعالى وعلمه. ذلك أن خالقا كان لا يخلق إلا خلقا ناقصا متخلفا عن لوازم البقاء في الأرض والاستقرار النوعي، ثم "طور" ذلك الخلق تدريجيا و"حسنه" بما يناسب حتى يصلح للبقاء، كما تقول نظرية داروين، هذا خالق جاهل عابث، يلعب بلعبة التجربة والخطإ Try and Error ولا يدري هل يصلح ذلك الخلق ليبقى أم لا يصلح، فإذا ما هلك و أوشك أن ينقرض، خلق فيه "طفرة" جديدة لعلها تنقذه، فإما تنقذه فيبقى وإما لا تكفيه فيهلك وتهلك هي معه، سبحان الله وتعالى علوا كبيرا! لهذا كان لازم القول بالتطوير في الخلق (على أي وجه كان ذلك التطوير المزعوم) ناقضا لأصل العقيدة، ولولا احتمال خفاء ذلك اللازم على بعض المسلمين واشتباهه عليهم لحكمنا بكفر "التطويريين" هؤلاء البتة، لأن التنقص من رب العزة ومن حكمته وعلمه كفر أكبر مخرج من الملة ولا شك.
فأما المذهب الأول (أ) لهؤلاء "التطويريين"، فالقائلون به نفاة لمطلق صفة خلق الحياة بشتى صورها عن الله عز وجل فيما عدا خلق تلك الخلية الأولى الداروينية وحدها. فهم يتأولون خلق الله تعالى للبشر والدواب وسائر المخلوقات الحية على ظهر الأرض بأنه كان عملية داروينية محضة، لم يزد فعل الله فيها على أن أطلقها في بدايتها، ثم إذا بها تمضي في تطور مطرد وفقا "للقانون الطبيعي" بحسب اعتقادهم من غير "تدخل" منه. وهذا تكذيب لصريح القرءان، وجحد لصفة الخلق عن الرحمن، وقصر الفعل الإلهي في خلق الخلية الأولى وحدها (أو أسباب نشوئها) ثم ترك الأمر بعد ذلك للارتقاء الدارويني يأخذ مجراه! فمهما زعم هؤلاء أنهم يعتقدون أن الله تعالى هو خالق كل شيء، فحقيقة اعتقادهم تكذبهم! فهو عندهم في واقع الأمر خلق نظاما طبيعيا (هو الأرض وما فيها وما يحكمها من قوانين فزيقية) ثم وجه بعض الأسباب لتنشأ بذلك خلية أولى، ثم تركها لتتحرك قصة داروين المزعومة في مجراها المزعوم بتمامه وكماله، فأي "خلق" للدواب والحياة هذا الذي ينسبه هؤلاء إلى الله تعالى؟ هذا وهم لا حقيقة له! وسابقية العلم الرباني التي يزعمونها له والحالة هذه، وهم وباطل أيضا، إذ "العشواء" وصف لا يوصف به إلا ما لا يمكن التنبؤ به. فكيف يكون الأمر معلوما للخالق مسبقا وهو في نفس الوقت "عشوائي"؟ ما وجه وصفه بالعشوائية إذن؟ هذا تناقض واضح، ولازمه الكفر البواح كما حررنا.
وأما المذهب الثاني (ب) فحقيقته النسف التام لركني نظرية داروين اللذين قام عليهما القول بالتطور والأصل الموحد نفسه، مع التصريح – في نفس الوقت – بقبول تلك القصة التطورية البائسة التي جاءت بها النظرية لظهور أنواع الحياة على الأرض (تأسيسا على هذين الركنين)، كعقيدة إسلامية في "الكيفية التي خلق الله بها الخلق" على أنه خلق "متدرج"! فهو كسابقه (المذهب أ) يترك صاحبه عاريا في الصحراء، فلا يقوم اعتقاده في الخلق على نقل صريح ولا على عقل صحيح، إذ يظن صاحبه ابتداء أن "كيفية أحداث الخلق الأول" يمكن الوقوف عليها من طريق العلم الطبيعي، فإذا ما تناول نظرية الطبيعيين في ذلك، وأراد أن يجردها من أصلها الإلحادي (الذي هو بعينه أصلها "الطبيعي" عندهم) لم يبق له منها إلا الدعوى المجردة، ولم يخرج من ذلك إلا بالتنقص من صفات خالقه وهو يحسب أنه يتبع العلم الصحيح! فمن غير إثبات آلية الطفرة العشوائية على مفهومها الدارويني، وإثبات آلية الانتخاب الطبيعي على مفهومه الدارويني، فليس لشيء من تلك المشاهدات المادية التي يتعلق بها أصحاب التطور (كالحفريات وغيرها) أي قيمة إذا ما جُمع بعضها إلى بعض، ولا حقيقة إذن أصلا لشيء اسمه "التطور" أو "الارتقاء"، ولا يبقى لذلك المسكين صاحب تلك العقيدة إلا اتهام الرب جل وعلا بخلق مخلوقات ناقصة معيبة كلها، يكون الأصل فيها أن تهلك كلها من سوء الصنع والخلقة، حتى يبعث فيها بعد أزمان طويلة، "طفرات" مبعثرة هنا وهناك لزيادة عضو أو إضافة نظام حيوي كان ناقصا من قبل، فيبقى منها ما "يرتقي" بما فيه الكفاية!
وقد رأيت بعضهم يجهد في محاولة تخليص وتصفية فكرة التطور من تلك الصورة الداروينية المنحطة، بزعمه أن الكائنات الانتقالية التي من شأنها أن تؤكد صحة التطور إن اكتشفت، ربما لم تكن من الوفرة والكثرة بحيث تبقى لها حفريات أصلا، ومن ثمّ فلا قيمة للسجل الأحفوري في إثبات التطور، لأن هذا التطور ربما كان في حقيقته تطورا سريعا عبر أجيال قليلة بنقلات سريعة وحادة، لا من خلال أنواع انتقالية مشوهة كما يقول الدراونة، فبالله ما هذا الإصرار على التمسك بتلك النحلة الباطلة وذاك التصور الفاسد للكيفية التي خلق بها الله أنواع المخلوقات (التي لا يمكن إلا أن تكون كيفية فريدة كما قدمنا، فلا يمكن الوصول لمعرفتها بالقياس على ما نراه في الكائنات من أحداث كالمسخ أو التغير الجيني أو التكيف أو غير ذلك كما قاس داروين وموافقوه من أهل الملل)؟
وقد قرأت مثالا يضربه أحد هؤلاء لم أدر والله أأضحك منه أم أبكي! حيث قال ما معناه إن من يلعب بلعبة النرد سيعجز عن التنبؤ بالقيمة التي سيخرج عليها ذلك النرد في كل رمية لأنه مخلوق قاصر، ولكن هب أنه قام بضبط سائر الأسباب ضبطا محكما حتى لا تخرج قيمة النرد في كل مرة إلا على حسب إرادته، ألا يكون ذلك مثالا جيدا للتوفيق بين "التطور العشوائي" من جهة والخلق والتوجيه الإلهي من الجهة الأخرى؟ فسبحان الله كيف لا يعقل هذا أنه بذلك يتكلم عن خالق عابث ناقص يضع نظاما الأصل فيه الفوضى والعشواء المتجذرة (بلا سببية ولا تعليل = لا خلق)، إلا فيما يسببه هو من الأسباب التي توجهه بإرادته؟ كيف لا يعقل أنه لا يغني عنه شيء أن زعم أنها عشواء موجهة بحيث تظهر للناظر وكأنها عشواء، مع أنها في الحقيقة نظام محكم متين؟ ألم يسمع قول الملك جل وعلا: ((الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)) [الفرقان : 2] ألم يسمع قوله سبحانه: ((الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ)) [الملك : 3] فكيف يستقيم لمسلم يؤمن بتمام حكمة الملك وقدرته وتقديره التام لكل شيء خلقه، أن يقول إن من أحداث الخلق ما كان ظاهره "العشواء" فيما يبدو للناس، مع كوننا نجزم بأنه ليس كذلك؟؟ أي ظاهر هذا يا من صح فيه قول الملك جل في علاه: ((ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ)) [الملك : 4]
((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [الزمر : 67]
والكلام الذي قلناه فيمن يعتقد "التطور"، وارد على من يعتقد "التدرج" أيضا، لأن السؤال هنا يكون: في أي شيء تعتقد أن خلق الله قد "تدرج"؟ في الإحكام والضبط الذي يؤهل النوع لأن يبقى؟ هذا سب لله تعالى، وهو عين القول "بالتطور" ولا فرق! ففي أي شيء إذن وقع ذلك "التدرج"؟ في الحسن و"جمال الخلقة" كما في قوله تعالى ((لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)) [التين : 4]؟ هذا لا دليل عليه ولا علاقة له بما يستند إليه التطوريون من الأدلة، وإنما تنص الآية على أن الله خلق آدم في أحسن صورة من صور المخلوقات التي خلقها وقومها على الأرض سبحانه، وعند هذا الحد نقف ولا نزيد إلا بدليل. ولكن مهما تكلم الإنسان في "تدرج مزعوم" في الخلق في هذه الخصلة أو تلك فقد جاء بما لا دليل عليه عند أحد من البشر إلا ما يتعلق به الدراونة من شبهات، فيقال فيه كما يقال فيهم!
ومما يؤسف له غاية الأسف حقيقة، أني وقفت على فتوى للأزهر في غاية العجب، أسأل الله الهداية لمن أفتى بها، يقول صاحبها في الجواب عن سؤال حول أصل الإنسان وموقفنا من نظرية داروين في هذا الشأن:
"ورد أن اللّه خلق الإنسان نوعا مستقلا لا بطريق النشوء والاشتقاق من نوع آخر، وإن كان كلا الأمرين من الجائز العقلي الذي يدخل تحت قدرة اللّه تعالى، (و) لا يوجد في النصوص أن الله خلق الإنسان الأول من تراب دفعة واحدة أو بتكوين متمهل على انفراد فسبيل ذلك التوقف وعدم الجزم بأحد الأمرين حتى يقوم الدليل القاطع عليه فنعتقده ما دام الذي فعل ذلك كله هو الله تعالى..، ولا حرج في اعتقادها ما دام الله هو الذي خلقها ووجهها، فهي لا تحقق وجودها من نفسها: "ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ لآ إِلَهَ إِلاّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ" [الأنعام:102]، فهو خالق المادة والنواميس" (فتاوى الأزهر ج7ص399(
فحاصل الفتوى – كما سيفهمها السائل (إن فهمها أصلا) – أنه يجوز أن نعتقد أن الله تعالى خلق الإنسان "بتكوين متمهل على انفراد" إذا ما قام الدليل العلمي "القاطع" على ذلك! فإن لم يكن هذا تعريضا بمشروعية اعتقاد صحة خرافة داروين في أصل الإنسان، فهو فتح للباب أمام ذلك الاعتقاد ولا شك، وتجويز لحصوله عند المسلمين في يوم من الأيام، والله المستعان! مع أن لنا أن نسأل هذا المفتي، ما مرادك "بتكوين متمهل على انفراد"؟ هل هو تصور الدراونة لمخلوق يخلقه الله تعالى أبترا أعرجا منقوص الأعضاء، ثم تظهر له أعضاء جديدة مع كل طفرة "عشوائية" (على مهل) حتى يصبح في يوم من الأيام نوعا صالحا للبقاء؟ أم أنه تكوين الإنسان من سلاسة الهومينيد (القردة العليا) قردا بعد قرد، كما يعتقده داروين وأتباعه؟ يبدو أنها ليست الثانية لأنه يقول "على انفراد"! فما معنى "تكوين متمهل" هنا إذن وكيف نفهمها في هذا السياق؟ وما معنى أنه لا يوجد في النص ما يدل على أن الله تعالى خلق الإنسان من تراب "على دفعة واحدة"؟ ما مرادك من "دفعة واحدة" هذه؟ النص صريح – والأمة مطبقة على فهمه - في أن الله تعالى خلق آدم بيده من صلصال خلقا كاملا، إلا أنه سبحانه لم ينفخ فيه الروح من فوره ولكن أرجأ ذلك حينا من الدهر لحكمة لديه سبحانه. فآدم قد خلق على صورته الكاملة من الصلصال "دفعة واحدة" وفي مرة واحدة، وهي عقيدة المسلم التي لا يجوز له إبدال غيرها بها! فهل تدعونا هذه الفتوى إلى البحث في الكيفية التي خلق الله بها آدم بيده في ذلك الحدث الغيبي المحض، وتجيز لنا أن يأتينا دليل (قاطع) من غير طريق الوحي يخبرنا في يوم من الأيام عما إذا كان قد خُلق آدم من الطين على هيئته وصورته الكاملة في "دفعة واحدة" أم خلقه الله على مراحل "بتمهل"، كأن يكون قد خلق رأسه أولا – مثلا – ثم صدره وبطنه ثم كتفه ثم رجله .. الخ؟
ما هذا الكلام، وكيف استجازه هذا المفتي هداه الله، بل كيف يتصوره أصلا؟
ثم ما هو "طريق النشوء" هذا الذي زعم صاحب الفتوى دخوله تحت قدرة الله كطريق للخلق والتكوين؟ إن كان لا يدري أن "النشوء" عند من يقولون به إنما يعني نشوء الشيء استقلالا بلا "منشىء"، وتكونه من نفسه استقلالا بلا مكون، فتلك مصيبة، وإن كان يدري فالمصيبة أعظم! نعم الله تعالى قادر على أن يخلق مخلوقا (نوعا جديدا) من مخلوق آخر، ومن شاء أن يصف بعض الأنواع التي تتغير بعض خصائصها الجينية بأمر خالقها تغيرا طفيفا حتى تتأقلم مع البيئة الجديدة على أنها قد صارت أنواعا أخرى جديدة، فلا بأس بأن يوصف هذا بأنه خلق من خلق، والله قادر عليه ولا إشكال، وليس هو "تطورا" أو "تطويرا" كما أسلفنا، وإنما هو خلق محكم لبيئة مخصوصة، يتبعه خلق آخر محكم لبيئة أخرى مناسبة له، إبداعا من بعد إبداع وإحكاما من بعد إحكام (ما لم تقتض حكمة الخالق أن يحكم على نوع من الأنواع بالانقراض فلا يقضي فيه بذلك التكيف الجيني الملائم كما ذكرنا). أما أن يقال إن الله قادر على أن يخلق من "طريق النشوء" فهذا كلام من لا يدري ما "النشوء" هذا أصلا!
بل إن هذه الفتوى العجيبة تفتح الباب أمام ما لا يقول به كثير من "التطويريين" أنفسهم، إذ يؤمنون بأن آدم عليه السلام قد خلق من طين خلقا مباشرا كما أخبر الله تعالى في النص، وأن له وضعا استثنائيا على هذا الاعتبار في خروجه من قاعدة التطور المزعوم، بينما يلوح هذا المفتى بأن آدم قد خلق على مراحل وأطوار، ربما يثبت لنا في يوم من الأيام أنها كانت على نحو كذا وكذا!
فنعوذ بالله من ذاك الوهن ومن تلك الهزيمة النفسية التي تزكم الأنوف!
فيا هؤلاء "التطويريين" دعونا نكررها لكم لعلها تصيب من عقولكم ما هو مستقر في نفوس سائر المسلمين: خلق الله تبارك وتعالى ليس عبثا ولا لعبا، وليس هو "محاولة" لضبط الخلق وتقديره بقدره الصحيح، بإحداث "طفرات" في البرنامج الجيني ترقى بها (أو ببعضها) تلك المخلوقات من حالتها الفوضوية البائسة التي خرجت إلى الوجود عليها (بحسب نظرية داروين)، سبحان الله وتعالى عن ذلك العجز والقصور والعبث علوا كبيرا!
فإذا ارتضيتم موافقة المسلمين على أن الخلق لم يكن عبثا (وهو ما تصرحون بأنكم تعتقدونه وتؤمنون به)، ولم يكن "نشوءا" ولا "تطفرا" ولا "عشواء" ولا "انتخابا للمخلوق الأصلح للبقاء من جملة كبيرة من المخلوقات الناقصة المتهالكة"، ولم يكن شيئا من تلك المقتضيات الصريحة التي تقتضيها عقيدة الانتخاب الطبيعي والتطفر العشوائي، فبالله ما وجه تعلقكم بأن الله قد خلق الخلق "بالتطوير" أو "بتوجيه التطور" أو "بالتدخل في الوقت المناسب"، وكأنه سبحانه كان الأصل في صفته أنه متعطل عن الفعل والخلق في هذا العالم، فلا يتسبب في شيء من أحداث "الطبيعة"، وإنما تتعلل الطبيعة بنفسها استقلالا، إلا فيما "يتدخل" فيه الخالق بالفعل والإحداث من آن لآخر (كما يقول أصحاب المذهب "أ") فيكون هو "فاعله"؟ أهو التعلق بالاسم فقط (التطور)، حتى لا يقال "جهلاء" متشددون رفضوا "العلم الحديث" ورموه وراء ظهورهم تمسكا بدينهم؟ نعوذ بالله من الخذلان وأهله.
إن المتأمل في آي القرءان وصحيح السنة يجد أن خلق الله في هذا العالم وقع على صنفين كليين لا ثالث لهما:
- إحداث للمخلوق من العدم (أي من عدم ذلك المخلوق أو النوع نفسه، وليس عدم المادة التي يتكون منها)، وهو ما يقال له الخلق بغير مثال سابق، وفيه قول الله تعالى: ((وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [النور : 45] وهو نص صريح في أن الله تعالى خلق جميع أنواع الدواب التي فصل في بيان بعضها، من الماء، لا من بعضها البعض ولا من أصل واحد كما يعتقده التطوريون. ويقول جل وعلا: ((وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)) الآية [الزمر : 6] وتأمل قوله "أنزل". وقوله تعالى: ((وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ)) [الزخرف : 12] ولعله أن يكون نصا صريحا كذلك في أن أنواع المخلوقات على الأرض قد خلقت "أزواجا" (بالخلق المباشر)، وليس تدرجا من أصل واحد. وهذا القسم من الخلق الرباني يدخل فيه خلق آدم من الطين وخلق إبليس من النار، وخلق الملائكة من النور. هذه النصوص قد توافر السلف وجميع المسلمين قرونا طويلة على فهمها على أن خلق الله تعالى لسائر الدواب إنما كان خلقا مباشرا من غير مثال سابق ومن غير "سلف" تطوري أو نحو ذلك مما جاء به الدراونة.
- إحداث للمخلوق على مثال سابق، وهو ما يكون من خلق الأجنة في الأرحام، وخلق الأجيال المتتابعة من المخلوقات على الأرض بعضها من بعض، كل مخلوق بحسب ما جعل الله في نوعه من طريقة للتكاثر والتناسل، خلقا من بعد خلق، كما في قوله تعالى ((خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)) [الزمر : 6]، والخلق في الأرحام هو ما يقول فيه الملك جل وعلا ((وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً)) [نوح : 14]، والأطوار هنا يراد بها النطفة ثم العقلة ثم المضغة كما قال من يعتد بكلامهم في فهم كتاب الله تعالى، وهو إجماع المسلمين في فهمها الذي لم يُعرف في الأمة خلافه، فمن أتى فيها بتأويل آخر (كقولهم إن الارتقاء أو التطور هو المقصود بتلك الأطوار) فقد افترى على الله الكذب! (3)
وليس الخلق على مثال سابق "تطويرا" ولا يجوز أن يكون كذلك، إذ التطوير الذي يقصدونه معنى مذموم في ذاته كما بينا. ولو كان الخلق من طريق التناسل (خلقا من بعد خلق) طريقا لإحداث أنواع جديدة من الكائنات الحية على الأرض على غير مثال سابق، بل لو كان ذلك هو طريق الخلق الأوحد وتكوين الأنواع كلها من أصل واحد كما يعتقده مخانيث الدراونة من أهل القبلة، لكان ذكره أولى من ذكر هذين الصنفين جميعا، ولما جاز أن ينعقد إجماع المسلمين من السلف الأول وإلى يوم ظهور تلك الطائفة الجديدة بينهم على خلاف هذا التصور الدارويني لخلق الله تعالى لأنواع الكائنات الحية على الأرض، تبعا للنص الصريح كما أسلفنا! فواقع الأمر أننا معاشر المسلمين من أهل الحديث والأثر، أهل الفرقة الناجية، لا نقيم وزنا لما يخالف إجماع الأولين في فهم أخبار الغيب التي جاء بها النص الشرعي، ولا نرى معقولية الخروج بتأويلات جديدة لم يكن للأولين دراية بها ولا بقريب منها لما خاطبهم به الله تعالى من نصوص الوحي المطهر! فمن شذ عن هذه القاعدة الكبرى عندنا فليس منا ولسنا منه، وهو عندنا من أهل البدع والضلالات، والله الهادي إلى سواء السبيل!
وحتى لا نقابَل باعتراضات ساقطة على هذا الإطلاق بخصوص تغير الكائنات الحية عبر الأجيال للتكيف وكذا، نقول إنه ليس التغير الجيني عبر أجيال الأنواع مما يعد من قبيل حدوث الأنواع الجديدة أصلا وإنما يدخل في باب الخلق من بعد خلق، وهو تعديل رباني على أنواع قائمة بالفعل. وليس هو من "التطور" أو "التطوير" وإنما هو تغيير في خصائص المخلوق الواحد أو النوع الواحد بما يتوافق مع تغير البيئة التي يعيش فيها، تغييرا محسوبا محكما مقدرا على أحسن تقدير، فلا كان الكائن (النوع) من قبله ناقصا عاجزا، ولا صار من بعده أكثر تطورا أو أحسن رقيا! وإنما كان في كلا الحالين جميعا على أحسن ما يكون لموافقة بيئته التي يعيش فيها، فانتقل من مواءمة وموافقة إلى مواءمة أخرى وموافقة أخرى، تكيفا بعد تكيف، وتوافقا بعد توافق، مع بقاء أصل النوع كما هو، ما لم يشأ الله له أن يهلك وينقرض، فيسبب الأسباب لذلك سبحانه وتعالى، مع أسباب أخرى يغفلها أو يتغافلها الدراونة تتعلق بحفظ التوازن البيئي العام على الأرض، وحفظ سلاسل الطعام Food Chains من الانهيار، ونحو ذلك مما نقول به لأنه مقتضى حكمة حكيم عليم لا يقضي في خلقه إلا بالحق وبتقدير محكم متين.
والدراونة – بالمناسبة - يتغافلون هذا الجانب (جانب التوازن الكلي المحفوظ في النظام الحيوي ككل) عمدا لأن لازمه هدم الأصلين الكليين لنظريتهم تلك، إذ حقيقته القول بأنه ما من تغير يقع في الحوض الجيني إلا وفي سائر متغيرات المنظومة الكونية للحياة على الأرض ما يستوعبه ولا يسمح بصيرورته سببا في انهيار النظام نفسه، كما يستلزمه التصور الدارويني العشوائي الذي يعتقدون – دفعا بالصدر - أنه ظل يجري على الأرض لملايين السنين من غير أن يتعرض لحدث عشوائي واحد يمكن أن يكون سببا في انهياره كله من أوله إلى آخره! فهم يؤمنون بغياب الضابط أو المنظم أو الحاكم الخارجي، ومن غير هذا الأصل الكلي لديهم لا يكون "لآلية" داروين أي معنى أصلا! ولهذا قدمنا أن من رام الجمع بين الخلق المحكم والتنظيم الخارجي من جهة، وبين آلية داروين الطبيعية من جهة أخرى، فقد ناقض نفسه أشد التناقض، وصار كالمنبتّ، لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، والكل منه براء!
وقد تعلق بعض التطويريين بكلام للأئمة فيما مفاده أن أيام الخلق لا يلزم أن تكون أياما على مقياسنا المعروف لليوم والليلة، لأن النص قد جاء بأيام لها مقاييس مختلفة كما في قوله تعالى ((وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ)) الآية [الحج : 47]، فقد يكون طول يوم الخلق هذا مئة سنة أو ألف سنة أو مليون أو أكثر، والله أعلم بحقيقة ذلك. فقال هؤلاء إن هذا الطول لليوم الذي خلقت فيه الدواب يتفق مع ما يقوله "السجل الحفري" الدارويني من طول المسافة الزمنية الجيولوجية بين المخلوق الأقدم والأحدث بما يدعم القول بالتطور، بل عده بعض المساكين من "الإعجاز" إذ رأوا النص عندنا يسمح بقبول قصص القوم في "النشأة الأولى" على طولها الفاحش، بخلاف نصوص أهل الكتاب. ونقول إن هذا استدلال واه في غاية الوهاء، لأن الجواز والإمكان شيء، والتحقق والوقوع شيء آخر. فالمسلم المتجرد من فتنة دارون ونظريته، لا يميل في الترجيح في هذا الشأن (قضية طول يوم الخلق) إلا مع النص الشرعي، فإن وجده قال بمقتضاه، وإلا سكت. أما أن يتخذ ذلك الإمكان في مقدار اليوم الذي تكلم به بعض أهل العلم دليلا في نفسه أو قرينة على صحة مزاعم الدراونة في قصتهم "الارتقائية" الأسطورية الطويلة هذه، فهذا ما لا يقوله عاقل!
وفي الختام نقول إنه مهما وجد المسلم من حفريات ومن قرائن حسية على التقارب الجيني أو الجزيئي أو المورفولوجي (أو على أي وجه كان) بين صنوف الكائنات في الأرض، فإنه يرفض فكرة وضعها في مسلسل تاريخي "ارتقائي" أو "تطوري" أو "تطويري" أو "تدرجي" أو أيا ما كان اسمه، لأنه يرفض الأساس الفلسفي الذي عليه رتب الدراونة أنواع المخلوقات، وبه تأولوا تلك المشاهدات في الحفريات وغيرها، ولأنه يؤمن بأن الله تعالى قد خلق كل صنف من صنوف المخلوقات (كل دابة) في مكانه الصحيح وفي بيئته الصحيحة وعلى أكمل ما يقتضيه بقاء ذلك الصنف وتكاثره في الأرض، خلقا تاما محكما من أول مرة، وهو ما يقتضيه العقل الصحيح بموجب كمال صفات الله تعالى، وما أطبق المسلمون عليه عبر القرون من فهم لنصوص الخلق والتكوين! فماذا بقي إذن من ذلك "النموذج" الذي تتمسك به تلك الطائفة إلا أن يكون وهما يوهمون به أنفسهم، من شدة ما في نفوسهم من افتتان بتلك النظرية الإلحادية الساقطة، حتى لا يبقى لإمامهم المدعو "عمرو شريف" من متعلق في كلامه إلا تقريره بكل ثقة أن هذا ما أثبته العلم الحديث، وهو علم له أهله ويجب احترامهم ويجب قبول بضاعتهم، وإرجاع الأمر فيه إليهم، إلى آخر ذاك الكلام الذي إن دل على شيء فإنما يدل على نفس منهزمة قد ارتضت لصاحبها تقليد الأكاديميات الكبرى فيما اتفق أصحابها عليه وإن جاءت بما يصادم صريح العقل والدين، ويخالف قطعيات النص وفهمه الذي أجمع عليها المسلمون من يوم أن نزل القرءان على خاتم المرسلين!
فالله أسأل أن يحفظ المسلمين من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يكفيهم شر المبتدعة وأهل الأهواء، وأن يحسن خاتمتنا ويحشرنا في زمرة الأنبياء، والحمد لله رب العالمين.
-------------------
(1) لذا يجب أن ينتبه الإخوة إلى أنه من الخطإ الكبير أن يُستدرج المسلمون – كما أراه يقع في كثير من الأحيان والله المستعان - إلى النظر في ألوان وصنوف ما يعده الدراونة والتطويريون من أدلة صحة النظرية ووقوع التطور تحقيقا، فإن نزاعنا مع الدراونة نزاع فلسفي بالأساس، يضرب في الأصل العقلي الكلي الذي به استجاز القوم البحث في المسألة نفسها أولا من خلال أدوات البحث الطبيعي (وهي قضية إبستمية في العلاقة بين دائرة الفزيقا ودائرة الميتافزيقا، ولا يتسع هذا المقام للبسط فيها)، ثم في الأصل العقلي الكلي الذي به استجازوا الكلام عن "الخلق" على أنه "تطوير" من أصول بدائية ومنحطة "تصميميا" وصولا إلى فروع "راقية". ثم عند الرد على ذاك الفصيل المفتون من المسلمين بهؤلاء ونظريتهم تلك، يجب أن يكون الكلام في المسألة على أنها قضية عقيدة في الله تعالى وصفاته وفي مسألة الخلق، فيضاف إلى ما تقدم الكلام في مفهوم "الغيب المطلق" وفهم السلف للنص وإجماعات المسلمين الموروثة في باب خلق السماوات والأرض ونحو ذلك من قضايا تقطع دابر الشبهة من أصلها، من غير أن يتطرق الكلام إلى السجل الحفري وعلم الأحياء الجزيئي وهذه الأشياء!
(2) ولم يجد الرجل مفرا من التسليم بضرورة أن تكون المسألة قوامها آلية ثابتة ونظام مستمر، وهو ما أوقعه في التناقض، وترك الباب مفتوحا أمام من افتتنوا بنظريته تلك لادعاء خضوع تلك الآلية التي اخترعها لترتيب رباني وخلق محكم، وهو إغراق في نفس هذا التناقض الذي تعاني منه النظرية، وقعت فيه النصارى الداروينيين ثم تابعتهم تلك الطائفة من جهلاء المسلمين حذو القذة بالقذة!
(3) والعجيب أن المنتحلين لتلك الآية الكريمة كدليل قرءاني "لنظرية داروين"، يفوتهم أنها خارجة من بعد آية في غاية المهابة يقول رب العزة فيها: ((ما لكم لا ترجون لله وقارا))، فيأتي الوصف بأنه سبحانه قد خلقنا أطوارا في مقام التذكير بعمل من أعمال الخلق يدعو العاقل لتوقير الخالق جل وعلا بما هو أهله، فبالله كيف يكون المقصود بالخلق على أطوار أننا قد كان أصل خلقتنا جميعا تلك المسرحية الهزلية السخيفة التي يعتقدها الدراونة، وأي توقير لله تعالى يكون في استحضار تلك الصورة "التطورية" الهزلية يا هؤلاء لو كنتم تعقلون؟