المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لوحة تجريدية نفسية وعقلية في إثبات وجود الله .



خالد الفيل
11-20-2012, 07:05 AM
(1)
إن مسألة الحديث عن وجود الله , تدخل فيما تدخل في نطاق الممكنات , ولا يمكن أن تكون من الممتنعات لأنها إن كانت كذلك فلن نحتاج في تصويرها وعرضها وثباتها إلي أدني مجادلة , فأنت لا تجد إنسان مثلاً يجادل في إمكانية إجتماع الضدين , أو أن الشئ هو ذاته , أو أن الجزء أكبر من الكل , لأنه علم بالضرورة أن هذا الشئ ممتنع , أما وجود الله فهو من الممكنات , والممكنات لا يمكن الحديث عنها بنفي أو إثبات إلا بدليل وفي ذلك يقول الأستاذ عبد الله الشهري حفظه الله ورعاه عندما قال : " لا يمكن لإنسان أياً كان في قضية وجود الخالق أن يحكم على الخالق بحكم إلا وقد سبق ذلك الحكم تصور معيّن عن الخالق الذي يريد الحكم عليه. حتى المُلحد الجلد لا يمكنه إنكار الصانع إلا وحكمه فرع عن تصور معين لخالق يأباه و لا يوافق عليه، إذ يستحيل أن يخوض المُلحد في قضية ممتنعة لذاتها (أي مستحيلة استحالة تامة) أو قضت ضرورة العقل بانتفائها، فهذا عبث وسفه، مثال ذلك أنك لا تجد عاقلاً يخوض بنظره ويجول بفكره للبرهنة على إمكان اجتماع النقيضين – كاجتماع الوجود والعدم - لأن علم ذلك (أي علم استحالة اجتماعهما) ضروري مركوز في النفس ومجرد محاولة البرهنة على إمكان ضد ذلك سفه وجنون يتباعد عنه حتى أخبث الملاحدة. وهكذا الخالق فإنه ليس شيئاً ممتنعاً لذاته ولا يحكم العقل بضرورة انتفاء وجوده، لأنه لو كان كذلك لكان إثبات امتناع وجوده أسهل من إثبات وجوده، بل لن يكون هناك حاجة لتجشم إثبات امتناع وجوده لأن الضرورات لا تفتقر إلى نظر، وعليه فوجود الخالق ممكن في أقل الأحوال مجاراةً للمخالف، والممكن لا يُمكن الحكم عليه بنفي أو إثبات إلا بدليل، فوجب على المُلحد إثبات عدم وجود الخالق بالأدلة كما أنه هو يطلب من المثبتين المؤمنين إبراز الأدلة على وجوده "

خالد الفيل
11-20-2012, 07:10 AM
(2)
وإذا سلمنا جدلاً بأن مسألة وجود الله لا يمكن إثباتها عقلاُ ولا عن طريق العلم , هذا فقط من باب التنزل مع الخصم وإلزامه الحجة وإلا فإن الله واجب الوجود وهو من أوضح الحقائق في منظومة الإستدلالات العقلية , وليس العلم ببعيد من إثبات وجود الله ومن شاء البرهان فليقراء كتاب " العلم يدعو إلي الإيمان " وكتاب موريس بوكاي " العلم والقرآن والإنجيل والتوراة " .
وضع بليز باسكال ما أصبح يعرف فيما يعرف بعد ب " رهان باسكال " يقول فيه : " اما أن يكون الله موجوداً وأما ألا يكون , ولكن إلي إي جانب ننحاز ؟؟ أن العقل لا يستطيع أن يعيننا فهنالك هوة لا قرار لها بين المخلوق والخالق , فعلي أيها تراهن ؟؟أن الأمر أشبه بقطعة نقود قد تظهر فيها صورة أو كتابة . فليس ثمة سبب لتأكيد أحد الإحتمالين علي حساب الآخر . ولن نستطيع أن تقدم حججاً تؤيد هذا دون ذلك . قد يقال لا رهان في مثل ذلك , غير أن المراهنة أمر لا مفر منه , فهو شئ يتوقف علي إرادتك أنها عملية أصبحت مندمجاً فيها بالفعل فماذا ستختار ؟؟
فلننظر للأمر أنك لما كنت مضطرا للإختيار فإن عقلك لن يشعر بالإهانة إذا إخترت أحدهما دون الآخر فتلك نقطة واضحة ولكن ماذا نقول عن سعادتك ؟ لنقارن الكسب والخسارة في حالة المراهنة علي أن الله موجود بالفعل . أنك إذا راهنت علي أنه موجود وكان موجوداً فلن تخسر شيئاً فإذا كسبت ربحت كل شئ وإذا خسرت لم تخسر شيئاً فلتراهن إذن بلا تردد علي أنه موجود بالفعل !! " من كتاب خواطر باسكال .
والسؤال هنا : لماذا كانت الطمأنينة والسعادة في إختيار وجود الله ؟؟ لماذا يبحث البشر عن معني لحياتهم ؟؟ هل الأمر فقط مسألة رهان كما قال باسكال ؟


(3)
يتفق الفيلسوف جيمس مع باسكال في أن العقل لا يستطيع ان يثبت وجود الله أو عدمه لكنه لا يكتفي برِهان باسكال وحده فيقرر أن " للقلب أسبابه التي لا يعرفها العقل " . ويدافع جيمس عما يسميه " طبيعتنا الوجدانية " وعن مطالبها , التي تعادل تقريباً ما يمسيه علم النفس المعاصر " حاجاتنا العاطفية " , بل يذهب جيمس لأبعد من ذلك فيقول أن كل القرارات والأحكام الحيوية حتي عندما تبدو عقلية إلي أبعد الحدود وقائمة علي اساس منطقي هي في الواقع ضروب من الأختيار العاطفي الذي تقوم به " طبيعتنا الوجدانية " , فلنضرب مثلاً لذلك الإعتقاد السائد لدي كل عالم أو فيلسوف وهو أن الحقيقة هي القيمة العليا , وبأن النتائج التي يصل إليها العقل او الذكاء مفضلة علي رغباتنا ولكن جيمس يتسأل : " ماذا نقول عن تلك المواقف التي يكون لبعضها أهمية كبري بالنسبة للسعادة البشرية والتي لا يستطيع العقل فيها أن يصل إلي حقيقة ؟؟ " لنتأمل مشكلتنا الراهنة وهي وجود الله إن الشكاك أو اللاادري يقول " توقف ولا تثبت ولا تنفي ولا تختر شيئاً أصلاً " , ويقول البعض يجب ألا نؤمن أبداً علي أساس أن الأدلة غير كافية ويذهبون إلي أن من اللا أخلاقية أن نفعل ذلك , وهنا يتسأل جيمس بذكاء : " أليست وجهة النظر هذه موقفاً وجدانياً إلي أبعد الحدود مبنياً علي الإختيار العاطفي ؟؟ أن ما يقوله الشخص الذي يتخذ هذا الموقف حقيقة هو أنه يفضل أن يخاطر بفقدان شئ طيب إذ يرفض الإيمان بما قد يكون صحيحاً علي أن يخاطر بالإيمان بشئ قد لا يكون صحيحاً !!؟؟ " .
ويعتقد جيمس أن الشكاك أو اللاأدري يخاف من أن يخدعه الأمل إلي حد أنه يسرع إلي الطرف المقابل فيخدعه الخوف , وهذا في راي جيمس أمر ممتنع فإذا كان علينا أن نختار بين مخاطرتين فإنه يتساءل علي أي اساس يختار المرء المخاطرة التي لا يكسب فيها شيئاً ونخسر فيها كل شئ بدلاً من تلك التي لا نخسر منها شيئاً وقد نجني كسباً كبيراً وهذا ما صاغه جميس بعبارات رائعة :
" إن كان ها هنا خداع وهنالك خداع , فما الذي يثبت أن الخداع عن طريق الأمل أسوأ إلي هذا الحد من الخداع عن طريق الخوف ؟؟ أنني واحد من الذين لا يجدون دليلاً علي ذلك " . فإختيار الشكاك نفسه هو عبارة عن أختيار عاطفي غير أنه إختيار للخوف بدلاً عن الأمل , ولو سألت أي إنسان عاقل إيهما تفضل الخوف أم الأمل ؟؟ فأنت وأنا نعرف الجواب مسبقاً , أليس كذلك ؟؟!!

خالد الفيل
11-20-2012, 07:14 AM
(4)
أسَّسَ لأوجست ساباتييه العقيدة الإلهية في لوحة تجريدية نفسية ولا أروع فقال ( نقلها الدكتور محمد عبد الله دراز ) : " إن هذه العقيدة تتولد في الإنسان منذ نشأته علي أثر شعوره بمناقضة جوهرية بين حساسيته وإرادته , وهما القوتان اللتان تتألف منهما حياة النفس في أيسر مظاهرهما .
في الحق أن حياتنا النفسية قائمة في جوهرها علي حركتين متعاكستين :
أحدهما تتجه من الخارج إلي الداخل ( من المحيط إلي المركز ) والأخري من الداخل إلي الخارج ( من المركز إلي المحيط ) فالحركة الأولي تمثل تأثير الأشياء علي النفس بواسطة الحس ( وتلك هي حال انفعال النفس وقابلتيها ) والحركة الثانية تمثل مجاوبة النفس علي الأشياء بتوسط الإرداة ( وهذه هي حالة تأثير النفس وفاعليتها ) بيد أن هذه الحركتين لا تنطبقان تمام الإنطباق وليس بينهما كمال تناسق وتجارب وذلك أن الحساسية تسحق الإرداة وتكبتها , فكلما اندفعت موجة الحركة الإرادية من داخل من النفس , وارتطمت علي صخرة الأشياء الخارجية فأنكسرت عليها , رجعت كئيبة مبتئسة وهذه الصدمات المتوالية وتلك المنازعات المستمرة بين النفس وبين العالم الخارجي هما السبب الأول لكل أنواع الألام ولكنها في الوقت نفسه هي منبع النور ومصدر الشعور ذلك أن ارتداد الموجه إلي مركزها يولد في هذا المركز حرارة تشبه حرارة الناشئة من حركة العجلة علي محورها ثم لا تلبث هذه الحرارة أن تبعث شرارة ضوئية تضئ جوانب الوجدان وذلك هو الوعي وتنبه البصيرة والذي يصبح به النفس مدركة ( بالكسر ) , ومدركة ( بالفتح) , وحاكمة ومحكومة معا , كأنها كائن مزدوج : أحد شقيه هذه النفس المثالية , والآخر تلك النفس المكبوتة الواقعية
هكذا ولدت الحياة النفسية بين وخزات الألم والإخفاق , أليست كل ولادة تصحبها الآلام والدموع ؟؟
ولو أننا تابعنا هذه الملاحظة في سائر الحالات النفسية , لرأيناها كلها كما تولد من مناقضه تفني في مناقضة أخري , فرغبة العلم تنتهي بالإعتراف بالجهل , ورغبة الإستمتاع تنتهي بالتقزز , كأنها تحمل في نفسها جرثومة فنائها , والإسراف في الحرص علي السعادة يذهب براحة الطمأنينة والرضي ويزيد الألم شدة !!!
فأين المفر !؟؟؟
من الخطأ أن يعتمد الناس علي تقدم العلوم الطبيعية في إنقاذهم من هذا البؤس والحرمان , فإن العلم بدلا من أن يلطف من هذه المناقضة العنيدة يزيد في حدتها , ويشحذ سلاحها الفتاك , وذلك أن كل اكتشاف علمي يضم حلقة جديدة إلي سلسلة الأسباب الضرورية التي لابد منها في نظام الاشياء واتساقها وثباتها فيزيد بذلك قيدا في حريتنا وغلا في أعناقنا ولا نزال نتقدم في هذا السبيل حتي نصل إلي المناقضة العامة بين العلم والعمل وبين التفكير والحركة وبين قوانين الطبيعة وقوانين الأخلاق , وهكذا نقيم حربا داخلية بين ملكات النفس تنتهي إلي شعور اليأس من قيمة الحياة .
ومن هذه الأزمة الداخلية ينشأ التدين كأن هذه الأزمة تفتح صخرة الطبيعة شقا يتفجر منه ماء الحياة لا علي معني أن الدين يقدم لنا حلا نظريا لهذه المشكلة لأن الحل الذي يقدمه لنا التدين هو في الحقيقة عملي محض , فهو لا يفتح لنا بابا جديدا من المعرفة بل يعود بنا عمليا إلي المبدأ الذي إقتبسنا منه وجودنا و ويمنحنا شعور الثقة والإيمان بمبدأ الحياة وبنهايتها . منزلة هذه الثقة من عالم النفس كمنزلة غريزة البقاء من عالم الطبيعة المادية , ولكنها صورة أسمي من تلك , فإنها في عالم المادة تسير بقوة قاهرة عمياء , أما في عالم النفس فإنها تستضئ بنور الشعور والإرادة المفكرة . ومن جهة أخري فإنها تستند إلي حقائق واقعية , وتقوم علي شعور ملازم لكل فطرة إنسانية وهو شعور التبعية المطلقة لقانون الوجود العام .
أجل من ذا الذي يستطيع أن يبعد عن نفسه هذا الشعور ؟! أليس حظنا من القدر قد رسم من دون استشارتنا فقضي علينا أن يكون وجودنا في زمان ومكان معينين وترك لنا ميراثا من الملكات والطبائع لم يكن لنا فيه شئ من الأختيار , ؟ بل إننا لا نجد في أنفسنا ولا في أيه مجموعة من الكائنات الفردية السبب الكافي لوجودنا , ولا غايته النهائية المعقولة ولذلك نجد أنفسنا مضطرين إلي نبحث من هذا السبب وهذه الغاية خارجا عنا في الوجود العام , وما التدين إلا الأعتراف بهذه التبعية في تسليم وخضوع .
هذا الشعور بالتبعية هو الاساس التجريبي للعقيدة الإلهية , ومهما تكن فكرة الألوهية في عقولنا ناقصة غير محددة فإن موضوعها لا يفلت قط من شعورنا فهو حاضر لدينا بل يفرض نفسه علينا في هذا الشعور حتي إنه يسوغ لنا أن نضع هذه المعادلة الحسابية مطمئنين : إن شعورنا بالتبعية المطلقة هو شعورنا بحضور السر الإلهي فينا , هذا هو الينبوع العميق الذي تفيض منه فكرة الإلوهية بقوة لا تقاوم .
غير أنه يجب أن نعرف كيف يقبل العقل الإنساني هذه التبعية مبدأ الحياة العالمية ؟ هذا العقل الثائر الذي يري نفسه من طبيعة غير طبيعة الاشياء الخارجية , ويري أن اخص خصائصه هو أنه يفهم هذه الاشياء ويسيطر عليها ويسخرها ؟!! فالإنسان كما يقول باسكال : " ليس إلا قصبة ضئيلة ولكنها قصبة مفكرة حتي إنه لو سحقه لكان هو أنبل من الذي يسحقه لانه يعرف أنه المسحوق , بينما الكون لا يعي من أمر نفسه شئ " !!!
ومن هنا يتين أن المبدأ العالمي الذي يخضع له الإنسان ليس هو ذلك الكون المادي بل الروح العالمية التي تدبره , وذلك أن القوة العاقلة لا تخضع إلا لسلطان قوة عاقلة تسيطر عليها وعلي العالم علي السواء , وهكذا نجد الحياة العقلية التي كانت قد إفتتحت بالنزاع بين الشعور الذاتي والتجربة الخارجية تكتمل بحد ثالث جامع ينتظم الحدين معا : وهو الشعور بخضوعهما جميعا لهذا السلطان الأعلي .
هذه الصفحة التي كتبها أوجست ساباتيه لا تزال تحتفظ بجمالها ودقة تصويرها للفكرة الإلهية في الديانات العليا , ولكن هل تنطبق علي كل الديانات ؟! أليست من دقة الفلسفة والمبالغة في التجريد بحيث يبعد أن تكون فكرة عالمية ؟؟
لقد أحس أوجست ساباتيه بهذا فقال : " إن الذين يعترضون بذلك إنما يبرهنون علي أنهم لم يروا جيدا هذه المتناقضات الأصيلة في حياتنا اليومية , من مبدئها إلي نهايتها فإنه لأجل أن يتحقق الإنسان من هذه المتناقضات ويقاسيها ليس بحاجة إلي أن ينظر حتي يصبح فيلسوفا .
إنها لتتجلي علي كل العقول علي أختلاف درجاتها من الثقافة والإستنارة , وإنها في نفوس الهمج الذي ترعبهم تقلبات الجو في وسط الغابات , ليست بأقل منها في نفوسنا حين تضطرب أفكارنا أمام اللغز العالمي وأمام ظاهرة الموت . لقد تختلف العبارات ونوع الشعور ولكن الهزة الدينية التي تزلزل الإنسان هي في جوهرها شئ واحد فكل أحد حين يكف عن التفكير في عجزه وجهله وفنائه وحين يجمع أمره_ صابرا مستسلما_ علي أن يضي هذه الحياة كما هي يشعر رغما عنه بزفرة يفيض بها صدره , وتكاد تنطق بها شفتاه , وماهي في الحقيقة إلا فاتحة دعاء ومناجاة "