حمادة
11-26-2012, 02:27 PM
كتبه الأستاذ أبو الفداء
الحمد لله وحده.
أما بعد، فينبغي التفريق - أخي الكريم - بين المعاني اللغوية المجردة (ويدخل تحتها قواعد المنطق ومنها السببية) وبين ما تنطبق عليه تلك المعاني من الأشياء في الخارج (في الواقع). فأما المعاني اللغوية المجردة فليست شيئا واقعيا خارج الذهن حتى توصف بأنها مخلوقة، وأما مادة تلك المعاني وموضوعها فهي جميع الموجودات في الواقع وما يتعلق بها من صفات وعلاقات وأحوال، بما في ذلك الباري جل في علاه. وهذه المسألة مما يتعذر على بعض طلبة العلم تصوره، إذ المسلم يقطع بأن كل ما سوى الله تعالى فهو مخلوق ولا شك، فكيف يقال إن المعاني الذهنية المجردة ليست مخلوقة؟ وكثيرا ما يثار التساؤل على هذا النحو الذي تفضلت به: "الله هو خالق كل شيء، فكيف يقال بخضوعه لقانون المنطق؟" وهذه شبهة عقلية تحتاج إلى دقة نظر حتى يتبين وجه الخلل فيها. فهذا التساؤل الأخير يمكن نظمه في المقدمات التالية:
- إذا كان المنطق قانونا،
- وتقرر أنه لا يجوز أن يكون الباري خاضعا لأي قانون مخلوق،
- النتيجة: إذن فليس هو خاضعا لقانون المنطق وإنما هو خالقه المتقدم عليه.
ولبيان فساد هذه الشبهة، فإننا نطالب صاحبها ببيان مراده من لفظة "قانون" ولفظة "خاضع" في المقدمتين السالفتين، إذ القانون لفظ مجمل قد يطلق ويراد به النظام السببي الحادث (كقانون الجاذبية مثلا، وقانون حركة الأجرام في بحر السماء وغيرها)، وقد يطلق ويراد به التشريع الأخلاقي (الثواب والعقاب المترتب على أفعال مخصوصة) وقد يطلق ويراد به الأسس الذهنية البدهية للمنطق واللغة. فإذا كان المراد الوجه الأول أو الثاني، فنعم كل قانون من هذا الصنف فهو حادث بعد أن لم يكن ولا شك، والله تعالى لا يخضع له لأنه هو الذي أحدثه وأخضع له الحوادث على نحو ما أراد جل وعلا.
ولكن إن تكلمنا في المقابل عن قانون من قوانين المنطق كقانون السببية، الذي ينص على أن لكل مسبّب سببا متقدما عليه لا محالة، فهذا ليس قانونا حادثا بعد أن لم يكن، إذ ليس هو وصفا لعلاقة حادثة في الخارج، وإنما هو تقرير لعلاقات ذهنية ضرورية بين معاني لغوية مجردة لا يصح في العقل أن تتخلف. فلا يقال لصحة انطباق تلك المعاني على الأشياء الموجودة وتعلقها بصفات تلك الأشياء في الواقع إنه "خضوع" لقانون حادث، كما في المعنيين الأول والثاني للفظة "قانون". ولهذا لم يترتب على قولنا بصحة تلك القوانين واطرادها من الأزل = تعدد القدماء، إذ هي ليست إلا معاني مجردة في الأذهان يدرك العقل انطباقها الضروري على جميع الموجودات! والجهمية وأضرابهم من غلاة المتكلمين ما وقعوا في بدعة القول "بلزوم تعدد القدماء" من إثبات الصفات – بالمناسبة - إلا من خلطهم بين الصفات (التي هي معاني ذهنية مجردة) والذوات الواقعية الموجودة خارج الذهن، التي تنسب إليها تلك الصفات، فحكموا على الجميع بحكم واحد!
فمن نفس هذه البابة نقول إن القول بصحة واطراد قوانين المنطق واللغة من الأزل (التي هي معاني وتراكيب مجردة في الأذهان تنطبق بالضرورة على سائر الموجودات الواجبة منها والممكنة) ليس إشراكا للباري في صفة الأزلية وليس تعددا للقدماء! بل لا يجوز أن تربط قوانين المنطق بامتداد زمني معين أصلا، فلا يقال إنها حادثة ولا يقال إنها أزلية، لأنها ليست أشياء واقعية تحتمل أحد الوصفين! وإنما هي معاني مجردة في الأذهان، فما دامت في الوجود ذات أزلية، لزم أن تكون تلك المعاني الذهنية البدهية صحيحة في حق تلك الذات من الأزل، لا أن تكون قد بدأت صحتها بعد أن لم تكن تصح!
ولبيان فساد القول بأن الله خلق "قانون السببية" – مثلا - بعد أن لم يكن، تأمل معي في لازم هذا القول ومقتضاه. فنحن عندما نقول إن الله تعالى هو العلة الأولى، نرد بذلك على الملاحدة، فإنما نستند إلى بداهة وضرورية قانون السببية في العقل، بمعنى أننا نستصحب هذه القاعدة كأساس بدهي لا يحتاج إلى ذكر أو برهان. فإن جاز في العقل أن يقال إن هذا القانون "مخلوق"، فقد وقع الدور المنطقي، وخرج الباري بذلك من أن يكون منطبقا عليه معنى السببية والعلية، ولزم إذن أن تسقط دعوانا أنه سبحانه هو السبب الأول، وأنه "مسبب الأسباب" وأن تسقط كل دعوى فيها نسبة لفعل من الأفعال إليه على سبيل السببية والفاعلية (لأن الفاعل سبب تتعلل به أفعاله بالبداهة). وهذا كما ترى تعطيل للعقل نفسه، وقول بما حقيقته أن الله لا يعرف هل تصح في حقه الممتنعات أم لا، فلا ندري لعلها تصح بموجب قانون منطقي آخر كان قد خلقه ثم أفناه قبل قانوننا هذا! بل لا يُعرف هل وجوده نفسه واجب أصلا أم لا، إذ لا يلزم أن يكون وجوبه في منطقنا هذا الذي نعرفه، مطردا في منطق كائنات أخرى أو مخلوقات أخرى في عالم آخر (مثلا)! وهذه السفسطة قد تكلم بها الملاحدة كثيرا بالفعل، فلم يكن لدى العقلاء في جوابهم إلا القول ببطلان دعوى حدوث قوانين المنطق وإمكان أن يصح ما يخالف بدهيات العقل أو يناقضها في يوم من الأيام!
أرجو أن يكون هذا الجواب قد أزال الإشكال من غير أن يفتح عليك إشكالات أخرى، والله الموفق للسداد والرشاد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الحمد لله وحده.
أما بعد، فينبغي التفريق - أخي الكريم - بين المعاني اللغوية المجردة (ويدخل تحتها قواعد المنطق ومنها السببية) وبين ما تنطبق عليه تلك المعاني من الأشياء في الخارج (في الواقع). فأما المعاني اللغوية المجردة فليست شيئا واقعيا خارج الذهن حتى توصف بأنها مخلوقة، وأما مادة تلك المعاني وموضوعها فهي جميع الموجودات في الواقع وما يتعلق بها من صفات وعلاقات وأحوال، بما في ذلك الباري جل في علاه. وهذه المسألة مما يتعذر على بعض طلبة العلم تصوره، إذ المسلم يقطع بأن كل ما سوى الله تعالى فهو مخلوق ولا شك، فكيف يقال إن المعاني الذهنية المجردة ليست مخلوقة؟ وكثيرا ما يثار التساؤل على هذا النحو الذي تفضلت به: "الله هو خالق كل شيء، فكيف يقال بخضوعه لقانون المنطق؟" وهذه شبهة عقلية تحتاج إلى دقة نظر حتى يتبين وجه الخلل فيها. فهذا التساؤل الأخير يمكن نظمه في المقدمات التالية:
- إذا كان المنطق قانونا،
- وتقرر أنه لا يجوز أن يكون الباري خاضعا لأي قانون مخلوق،
- النتيجة: إذن فليس هو خاضعا لقانون المنطق وإنما هو خالقه المتقدم عليه.
ولبيان فساد هذه الشبهة، فإننا نطالب صاحبها ببيان مراده من لفظة "قانون" ولفظة "خاضع" في المقدمتين السالفتين، إذ القانون لفظ مجمل قد يطلق ويراد به النظام السببي الحادث (كقانون الجاذبية مثلا، وقانون حركة الأجرام في بحر السماء وغيرها)، وقد يطلق ويراد به التشريع الأخلاقي (الثواب والعقاب المترتب على أفعال مخصوصة) وقد يطلق ويراد به الأسس الذهنية البدهية للمنطق واللغة. فإذا كان المراد الوجه الأول أو الثاني، فنعم كل قانون من هذا الصنف فهو حادث بعد أن لم يكن ولا شك، والله تعالى لا يخضع له لأنه هو الذي أحدثه وأخضع له الحوادث على نحو ما أراد جل وعلا.
ولكن إن تكلمنا في المقابل عن قانون من قوانين المنطق كقانون السببية، الذي ينص على أن لكل مسبّب سببا متقدما عليه لا محالة، فهذا ليس قانونا حادثا بعد أن لم يكن، إذ ليس هو وصفا لعلاقة حادثة في الخارج، وإنما هو تقرير لعلاقات ذهنية ضرورية بين معاني لغوية مجردة لا يصح في العقل أن تتخلف. فلا يقال لصحة انطباق تلك المعاني على الأشياء الموجودة وتعلقها بصفات تلك الأشياء في الواقع إنه "خضوع" لقانون حادث، كما في المعنيين الأول والثاني للفظة "قانون". ولهذا لم يترتب على قولنا بصحة تلك القوانين واطرادها من الأزل = تعدد القدماء، إذ هي ليست إلا معاني مجردة في الأذهان يدرك العقل انطباقها الضروري على جميع الموجودات! والجهمية وأضرابهم من غلاة المتكلمين ما وقعوا في بدعة القول "بلزوم تعدد القدماء" من إثبات الصفات – بالمناسبة - إلا من خلطهم بين الصفات (التي هي معاني ذهنية مجردة) والذوات الواقعية الموجودة خارج الذهن، التي تنسب إليها تلك الصفات، فحكموا على الجميع بحكم واحد!
فمن نفس هذه البابة نقول إن القول بصحة واطراد قوانين المنطق واللغة من الأزل (التي هي معاني وتراكيب مجردة في الأذهان تنطبق بالضرورة على سائر الموجودات الواجبة منها والممكنة) ليس إشراكا للباري في صفة الأزلية وليس تعددا للقدماء! بل لا يجوز أن تربط قوانين المنطق بامتداد زمني معين أصلا، فلا يقال إنها حادثة ولا يقال إنها أزلية، لأنها ليست أشياء واقعية تحتمل أحد الوصفين! وإنما هي معاني مجردة في الأذهان، فما دامت في الوجود ذات أزلية، لزم أن تكون تلك المعاني الذهنية البدهية صحيحة في حق تلك الذات من الأزل، لا أن تكون قد بدأت صحتها بعد أن لم تكن تصح!
ولبيان فساد القول بأن الله خلق "قانون السببية" – مثلا - بعد أن لم يكن، تأمل معي في لازم هذا القول ومقتضاه. فنحن عندما نقول إن الله تعالى هو العلة الأولى، نرد بذلك على الملاحدة، فإنما نستند إلى بداهة وضرورية قانون السببية في العقل، بمعنى أننا نستصحب هذه القاعدة كأساس بدهي لا يحتاج إلى ذكر أو برهان. فإن جاز في العقل أن يقال إن هذا القانون "مخلوق"، فقد وقع الدور المنطقي، وخرج الباري بذلك من أن يكون منطبقا عليه معنى السببية والعلية، ولزم إذن أن تسقط دعوانا أنه سبحانه هو السبب الأول، وأنه "مسبب الأسباب" وأن تسقط كل دعوى فيها نسبة لفعل من الأفعال إليه على سبيل السببية والفاعلية (لأن الفاعل سبب تتعلل به أفعاله بالبداهة). وهذا كما ترى تعطيل للعقل نفسه، وقول بما حقيقته أن الله لا يعرف هل تصح في حقه الممتنعات أم لا، فلا ندري لعلها تصح بموجب قانون منطقي آخر كان قد خلقه ثم أفناه قبل قانوننا هذا! بل لا يُعرف هل وجوده نفسه واجب أصلا أم لا، إذ لا يلزم أن يكون وجوبه في منطقنا هذا الذي نعرفه، مطردا في منطق كائنات أخرى أو مخلوقات أخرى في عالم آخر (مثلا)! وهذه السفسطة قد تكلم بها الملاحدة كثيرا بالفعل، فلم يكن لدى العقلاء في جوابهم إلا القول ببطلان دعوى حدوث قوانين المنطق وإمكان أن يصح ما يخالف بدهيات العقل أو يناقضها في يوم من الأيام!
أرجو أن يكون هذا الجواب قد أزال الإشكال من غير أن يفتح عليك إشكالات أخرى، والله الموفق للسداد والرشاد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.