المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : «الإرهابيات»



muslimah
04-15-2006, 07:06 PM
د. حصة لوتاه

كنت خارجة من إحدى محاضراتي في الأسبوع الماضي عندما شاهدت مجموعة من طالباتنا جالسات في أحد الفصول في حوار مع بعض المدرسات الأجنبيات. وكان الحوار يدور، كما أخبرتني بذلك بعض الطالبات ممن كن يدرسن معي وزميلات لأولئك الطالبات الجالسات في الحوار، حول رغبة مدرسهن،


وهو أجنبي أيضا ويدرسهن اللغة الإنجليزية، في إقناع الطالبات بتغيير زيهن الذي كن يلبسنه في الجامعة، والمتمثل في عباءتهن وفي النقاب، لأنه زي كما قال لهم لا يشعر معه بالارتياح فهو يذكره بزي «الإرهابيات» ولقد أتى لهن بأولئك المدرسات لإقناعهن بالعدول عن ارتداء مثل هذا الزي في الجامعة.


لم يشارك المدرس مباشرة في الحوار الذي شاهدته، إذ بدأ جالساً في أقصى الغرفة على المكتب ويقرأ جريدة في يده، بل ترك الحوار للمدرسات، على اعتبار أنهن، كما نستنتج من الفعل، نساء وقد يكون هناك في تحاورهن مع الطالبات، في تصوره، أرضية مشتركة تساعد ربما في إقناع الطالبات بالتغير.


سبق ذلك الحوار أيضا، كما ذكرت لي طالباتي، حوارات أخرى أجرتها معهن إحدى مدرساتهن، وكانت تلك الحوارات غير متعلقة بالزي فقط ، بل بشيء أكبر من ذلك وأخطر، شيء له بعد أكبر ويشكل مساسا بالعقيدة.


حيث طرحت عليهن مدرستهن أسئلة كثيرة حول طرق إيمانهن، وما الذي يجعلهن على يقين بأن تلك الطرق صحيحة أو مقنعة، فهن على سبيل المثال، وكما قالت لهن، يعبدن إله لا يرونه، فكيف يكون هذا الأمر مقنعا لهن، ثم قالت لهن «نحن الآن في غرفة مغلقة لا يراكم الله فيها فافعلوا ما تشاؤون».


بطبيعة الحال، إذا أخذنا حقيقة أن المدرس له وضع خاص في حياة الطالب، وانه يمثل القدوة ويحتل مكانا لا يخلو من التبجيل ، وإنه ينظر إليه أيضا على أنه يمتلك مرجعية علمية لا تخلو من مصداقية، فإن مثل هذه الحوارات التي تدور في الفصول الدراسية لن تمر على الجميع بدون أن تترك بصماتها.


بصمات قد تتعدى حالة الغضب والقلق أو الانزعاج الذي تشعر به الطالبة، ليس لأن معتقداتها فقط قد تعرضت للإساءة، بل لأنها أيضا، وهذه مسألة مهمة جدا ولا يجب أن نقلل من شأنها، لا تمتلك ناصية اللغة التي يتم معها التحاور بها،


فتعجز عن الرد المقنع، في حال ما إذا كانت لديها ردود تستطيع من خلالها تفنيد الحجج والرد بالبراهين على ما تقوله المدرسة، بل لأن الطالبة قد لا تجد حواراً موازيا له قوته يساعد يقينها على الثبات وعدم التزعزع ويقيها الدخول في دائرة الشك.


ذكرني ما شاهدته وما أثار لدي الكثير من الانزعاج بموضوع آخر ذي صلة. ففي فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر قام أحد الجنود الفرنسيين بتأجير مجموعة من النساء الجزائريات ممن كن يشتغلن كبائعات هوى، أو كن من الفئات الخارجة عن السياق الاجتماعي العام والملفوظة خارجه،


لتصويرهن حاسرات أو مبديات لجزء كبير من أجسادهن، كصدورهن أو أرجلهن. وقد استخدمت تلك الصور كبطاقات بريدية يرسلها الجنود الفرنسيون إلى أهاليهم وأصحابهم وقد عنونت «نساء من الجزائر». ولقد كتب المفكر الجزائري مالك علوله كتابا له حول هذا الموضوع أسماه «حريم الاستعمار»


وناقش فيه التحدي الذي كانت تشكله المرأة الجزائرية للمحتل بزيها الذي تلبسه والذي كان يحجبها عن نظر الجنود الفرنسيين. لقد كان دافع ذلك الجندي، في عمله ذاك، كما نقرأ من سلوكه الذي قام به، أن يكسر ذلك التحدي الكبير الذي عاشه الكثير من الجنود الفرنسيون في الجزائر،


والمتمثل في عجزهم التام عن اختراق جسد المرأة الجزائرية بأبصارهم، وهي مسألة كانت تقلقهم وتثير انزعاجهم، وربما خوفهم أيضا. ليس لأنهم يشكون بأن تلك المرأة قد تخفي تحت ردائها ذاك، الملتحفة به التحافا كاملا، قنبلة أو رشاشا يحصد بعضهم،


ولا لأن ذلك الجسد الأنثوي محجوب عن تنزه عيونهم في أرجائه، بل هي مسألة أبعد من ذلك، إنها المتعلقة باليقين الذي يستند إليه العقل الأوروبي من أن رؤيته للشيء يساوي ليس فقط وجود ذلك الشيء، بل اليقين به.


إن البصر في الثقافة الأوروبية، كما يجادل بعض فلاسفتها ويدرك بعض فلاسفتنا، هو مصدر المعرفة والحقيقة، وهو الذي تستند عليه تلك الثقافة في قراءتها واستقراءاتها للأشياء. وهي بذلك تقف على النقيض من معظم الثقافات الشرقية، والتي ترى في البصر بوابة الدنيا التي قد تدخل الإنسان في عالم التلذذ بما هو مادي وتبهره به،


وتحجب عنه إدراك ما هو روحاني أو غير مرئي وتعزله عنه. المشاهدة المباشرة في الفكر الأوروبي الحديث تساوي الحضور، وتساوي الحقيقة المطلقة أيضا، أما في الفكر الشرقي فإنها تساوي الحجاب حيث انها تحجب عن الرائي البحث في جوهر الأشياء وتتركه على سطحها.


من هنا ندرك لماذا شعر ذلك المدرس مع طالباتنا، مثلما يشعر الكثير من الأجانب عموما، وحتى من يتبعونهم في مرجعيتهم الفكرية، بالقلق من رؤية بعض فتياتنا يلبسن النقاب أو البرقع،


فهذه مسألة تشكل تحديا لهم من حيث انها تطالبهن بالبعد عن قراءة الأشياء قراءة سطحية وتدعوهن إلى محاولة الاقتراب من جوهر الأشياء وحقيقتها مما يشكل لهم تحديا غير موجود في البعد المادي لثقافتهم الغربية.


ثم لا ننسى أيضا أن نذكر هنا بأن الإعلام، غربي وشرقي أيضا، صار يعزز كافة الرؤى السلبية والاستعمارية عن الإسلام، وبخاصة في جوانبه المرئية، مما يجعل الكثيرين من المتعاملين معه من غير المسلمين يشعرون بالقلق حين التعامل مع رموزه.


إن الإرث الاستعماري السلبي فيما يتعلق بصورتنا وبعقيدتنا ليس بالإرث الهين ولا بالبسيط، لذا فإن تعرض أبنائنا له بالشدة والقوة التي أصبحنا نلمسها في مدارسنا ومؤسساتنا التعليمية له بدون شك آثاره الكبيرة.


فهم أولا في طور التكون واكتسابهم للمعرفة في السن الصغيرة مبني على أخذ الأمور على أنها مسلمات. ثم أننا عندما نسلم عهدتهم لأجانب يحملون العداء لعقيدتهم فإننا نقول لهم بشكل ضمني أن هؤلاء الأجانب هم من يملكون زمام المعرفة ويجب التحلي برؤاهم، أليست هذه هي الحقيقة التي يشي بها هذا السلوك.


لقد كان مؤسس هذه الدولة رجلا رفع شأنها في كل مكان بإعلائه لكل القيم الجميلة التي تمثلها، ولقد أعطى ذاك الرجل بسلوكه ذاك حتى البدوي البسيط شعوراً بالعزة تجاه ما يحمله من إرث ومن ثقافة.


ونحن على يقين بأن من جاءوا من بعد زايد ليسوا إلا امتداده، وأنهم مدركون أن الأمم لا تنهض إلا بيقينها بأنها تنتمي لما يشعرها بالفخر، فهي خير أمة أخرجت للناس. نحن فقط نريد أن نلفت الأنظار للسوس الذي يدخل في جسدنا وقد يتسبب في خرابه.


* نقلا عن جريدة "البيان" الإماراتية