الأسمر
04-17-2006, 09:39 PM
موازين البحث عن المستشرقين
للدكتور مصطفى السباعي
يعتمد جمهرة المستشرقين في تحرير أبحاثهم عن الشريعة الإسلامية على ميزان غريب بالغ الغرابة في ميدان البحث العلمي , فمن المعروف أن العالم المخلص يتجرد عن كل هوى وميل شخصي فيما يريد البحث عنه ويتابع النصوص والمراجع الموثوق بها , فما أدت إليه بعد المقارنة والتمحيص كان هو النتيجة المحتمة التي ينبغي عليه اعتقادها .
ولكن أغلب هؤلاء المستشرقين يضعون في أذهانهم – كما قلت من قبل – فكرة معينة يريدون تصيد الأدلة لإثباتها , وحين يبحثون عن هذه الأدلة لا تهمهم صحتها بمقدار ما يهمه إمكان الاستفادة منها لدعم آرائهم الشخصية , وكثيراً ما يستنبطون الأمر الكلي من حادثة جزئية , ومن هنا يقعون في مفارقات عجيبة لولا الهوى والغرض لربأوا بأنفسهم عنها , وسنضرب لذلك بعض الأمثلة :
1- في محاولة المستشرق "جولد زيهر" للإثبات زعمه بأن الحديث في مجموعه من صنع القرون الثلاثة الأولى للهجرة وليس من قول الرسول صلى الله عليه و سلم ادعى أن أحكام الشريعة لم تكن معروفة لجمهور علماء المسلمين في الصدر الأول من الإسلام , وأن الجهل بها وبتاريخ الرسول صلى الله عليه و سلم كان لاصقاً بكبار الأئمة ! وقد حشد لذلك بعض الروايات الساقطة المتهافتة , ومن ذلك ما نقله عن كتاب للدميري من أن أبا حنيفة رحمه الله لم يكن يعرف هل كانت معركة بدر قبل أحد أم كانت أحد قبلها !..
ولا شك أن في أن أقل الناس اطلاعاً على التاريخ يرد مثل هذه الرواية , فأبو حنيفة وهو أشهر أئمة الإسلام الذين تحدثوا عن أحكام الحرب في الإسلام حديثاً مستفيضاً في فقهه الذي أثر عنه وفي كتب تلامذته الذين نشروا علمه كأبي يوسف ومحمد , يستحيل على العقل أن يصدق بأنه كان جاهلاً بوقائع سيرة الرسول [صلى الله عليه وسلم ] ومغازيه وهي التي استمد منها فقهه في أحكام الحرب , وحسبنا أن نذكر هنا كتابين في فقهه في هذا الموضوع يعتبران من أهم الكتب المؤلفة في التشريع الدولي , في الإسلام .
أولهما – كتاب الرد على سِيَر (1) الأوزاعي لأبي يوسف رحمه الله .
ثانيهما – كتاب السير الكبير لمحمد رحمه الله وقد شرحه السرخسي , وهو من أقدم وأهم مراجع الفقه الإسلامي في العلاقات الدولية , وقد طبع أخيراً تحت إشراف جامعة الدول العربية برغبة من جمعية محمد بن الحسن الشيباني للحقوق الدولية .
وفي هذين الكتابين يتضح إلمام تلامذة الإمام وهم حاملو علمه بتاريخ المعارك الإسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين .
وجولد زيهر لا يخفى عليه أمر هذين الكتابين , وبإمكانه لو أراد الحق أن يعرف ما إذا كان أبو حنيفة جاهلاًَ باليرة أو عالماً بها من غير أن يلجاً لإلى رواية ((الدميري)) في ((الحيوان)) وهو ليس مؤرخاً وكتابه ليس كتاب فقه ولا تاريخ , وإنما يحشر فيه كل ما يرى إيراده من حكايات ونوارد تتصل بموضوع كتابه من غير أن يعني نفسه البحث عن صحتها , ولا يخفى ما كان بين أبي حنيفة ومعاصريه ومقلديهم من بعدهم من عداء منهجي فكري , وقد كان هذا العداء مادة دسمة لرواة الأخبار ومؤلفي كتب الحكايات والنوادر لنسبة حوادث وحكايات منها ما يرفع من شأن أبي حنيفة , ومنها ما يضع من سمعته . وأكثرها ملفق موضوع للمسامرة والتندلا من قبل محبيه أو كارهيه على السواء , مما يجعلها عديمة القيمة العلمية في نظر العلماء والباحثين .
فجولد زيهر أعرض عن كل ما دوّن من تاريخ أبي حنيفة تدويناً علمياً ثابتاً , واعتمد رواية مكذوبة لا يتمالك طالب العلم المبتدئ في الدراسة من الضحك لسماعها ليدعم بذلك ما تخيله من أن السنة النبوية من صنع المسلمين في القورن الأولى .
2- ومثال آخر عن هذا المستشرق أيضاً فقد أعرض عما أجمعت عليه كتب الجرح والتعديل وكتب التاريخ من صدق الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمه الله (50-124هـ) وورعه وأمانته ودينه وزعم أن الزهري لم يكن كذلك بل كان يضع الحديث للأمويين , وهو الذي وضع حديث ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد الخ ..)) لعبد الملك بن مروان وكل حجته أن هذا الحديث من رواية الزهري , وأن الزهري كان معاصراً لعبد الملك بن مروان ! .. وسنناقشه في ذلك مناقشة مفصلة في المقالات التالية إن شاء الله .
3- يحاول المستشرقون أن يؤكدوا تعالي العرب الفاتحين عن المسلمين الأعاجم وانتقاصهم من مكانتهم وفي ذلك يقول المستشرق ((بروكلمان)) في كتابه تاريخ الشعوب الإسلامية :
((وإذا كان العرب يؤلفون طبقة الحاكمين فقد كان الأعاجم من الجهة الثانية هم الرعية أي القطيع! .وجمعها رعايا كما يدعوهم تشبيه سامي قديم كان مألوفاً حتى عن الآشوريين .))
فهذا المستشرق قد أعرض عن جميع الوثائق التاريخية التي تؤكد عدالة الفاتحين المسلمين ومعاملتهم أفراد الشعب على السواء من غير تفرقة بين عربي وغيره , وتعلق بلفظ ((الرعية)) تعلقاً لغوياً واستنتج منها أن المسلمين نظروا إلى الأعاجم نظر القطيع من الغنم ولو رجعنا إلى مادة ((رعى)) في قواميس اللغة وجدناها تقول في القاموس المحيط : والراعي كل من ولي أمر القوم , والقوم رعية , وراعيته لاحظته محستاً إليه وراعيت أمره حفظته , كرعاه .
فالراعي في اللغة يطلق على راعي الغنم وعلى ر\يس القوم وولي أمرهم , والرعية تطلق على الماشية وتطلق على القوم , ومن معاني الرعاية الحفظ والإحسان .
فلما أطلقها الإسلام على القوم لم يخص بها الأعاجم ليشير إلى أنه يراهم كالقطيع من الغنم , وإنما أطلقها على الشعب عامة , والأحاديث في ذلك كثيرة معروفة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره : ((ألا كلكم راع , وكلكم مسؤول عن رعيته , فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته , والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته , والمرأة راعية على أهل بيت روجها وولده وهي مسؤولة عنهم , وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه , ألا فكلكم راع كلكم مسؤول عن رعيته)) قال الحافظ ابن حجر (فتح الباري 13/96) في شرح هذا الحديث ((والراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما أؤتمن على حفظه فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه)) .
وقد جاء في حديث آخر إطلاق الرعية على المسلمين في الحديث الذي رواه البخاري وغيره ((ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة)) .
فكيف أغمض بروكلمان عينيه عن هذا كله واستجاز لعلمه أن يدعي بأن المسلمين نظروا إلى الأعاجم نظرة القطيع وأنهم أطلقوا عليهم وحدهم لفظ ((الرعية)) ؟ ليس له سند إلا أن لفظ الرعية يطلق على الغنم أيضاً , وقد علمت معانيها اللغوية , أما تخصيص إطلاقها بالأعاجم فليس له سند ولا شبهة يتعلق بها , وإنما هو الغرض والهوى .
4- زعم المستشرق ((مايور)) كما نقله عنه مرجيليوت أن أهل البدو كانوا كثيري الاهتمام بتعلم البلاغة وطلاقة اللسان فلا يبعد أن النبي عليه الصلاة والسلام مارس هذا الفن حتى نبغ به .
وهذا يعطينا صورة عن موازين البحث عند هؤلاء فالمسألة عنده تقوم على استنتاج وهمي من أمر لم يقع , فلا العرب كانوا يتعلمون البلاغة , ولا كانت لها مدارس وأساتذة يضعون قواعدها , ولا النبي صلى الله عليه وسلم عرف عنه قبل النبوة أنه فعل ذلك , وليس بين أيدينا نص واحد يثبته بل المؤكد أن الرسول لم ينقل عنه أثر من نثر أو شعر قبل النبوة وقبل أن يتنزل عليه القرآن الكريم .
وأمر آخر يكشف لنا عن أساس ثالث من أسس النقد والبحث عند هؤلاء المستشرقين هو إفراطهم في اختراع العلل والأسباب والحوادث التي يدرسونها اختراعاً ليس له سند إلا التخيل والتحكم , ويزيد في فساد أسلوبهم هذا أنهم يتخيلون أحداث الشرق والغرب وعاداتهم وأخلاقهم بأوهامهم وخيالاتهم الغريبة عن الشرق والغرب والمسلمين ولا يريدون أن يعترفوا بأن لكل بيئة مقاييسها وأذواقها وعاداتها .
وقد أحسن المستشرق الفرنسي المسلم ((ناصر الدين دينيه)) في حديثه عن أسلوب المستشرقين وموازينهم في الحكم على الأشياء مما جعلهم يتناقضون فيما بينهم تناقضاً واضحاً في الحكم على شيء واحد , كل ذلك لأنهم حاولوا أن يحللوا السيرة المحمدية وتاريخ ظهور الإسلام بحسب العقلية الأوربية فضلوا بذلك ضلالاً بعيداً لأن هذا غير هذا , ولأن المنطق الأوربي لا يمكن أن يأتي بنتائج صحيحة في تاريخ الأنبياء الشرقيين .
ثم قال :إن هؤلاء المستشرقين الذين حاولوا نقد سيرة النبي بهذا الأسلوب الأوربي البحت لبثوا ثلاثة أرباع قرن يدققون ويمحصون بزعمهم , حتى يهدموا ما اتفق عليه الجمهور من المسلمين من سيرة نبيهم , وكان ينبغي لهم بعد هذه التدقيقات الطويلة العريضة العميقة أن يتمكنوا من هدم الآراء المقررة والروايات المشهورة من السيرة النبوية , فهل تسنى لهم شيء من ذلك ؟ .
الجواب , أنهم لم يتمكنوا من إثبات أقل شيء جديد , بل إذا أمعنا النظر في الآراء الجديدة التي أتى بها هؤلاء المستشرقون , من فرنسيين وإنجليز وألمان وبلجيكيين وهولانديين الخ لا نجد إلا خلطاص وخبطاً , وإنك لترى كل واحد منهم يقرر ما نقضه غيره من هؤلاء المدققين بزعمهم أو ينقض ما قرره .
ثم أخذ ((دينيه)) يورد الأمثال على هذه المتناقضات وختم كلامه بقوله :
وإن أردنا استقصاء هذه التناقضات التي نجدها بين تمحيصات هؤلاء الممحصين بزعمهم يطول بنا الأمر , ولا نقدر أن نعرف أية حقيقة , ولا يبقى أمامنا إلا أن نرجع إلى السيرة النبوية التي كتبها العرب , فأما المؤلفون الذين زعموا أنهم يريدون ترجمة محمد [صلى الله عليه وسلم] بصورة علمية شديد التدقيق فلم يتفقوا منها ولو على نقطة مهمة , وبرغم جميع ما نقبوه ونقروه , وحاولوا كشفه بزعمهم , فلم يصلوا ولن يصلوا إلا إلى تمثيل أشخاص في تلك السيرة ليسوا أغرق في الحقيقة الواقعية من أبطال أقاصيص فالتر سكوت واسكندر دوماس , فهؤلاء القصاص تخيلوا أشخاصاً من أبناء جنسهم يقدرون أن يفهموهم , ولم يلحظوا إلا ختلاف الأدوار بينهم , أما أولئك المستشرقون فنسوا أنه كان عليهم قبل كل شيء أن يسدوا الهوة الحيقة التي تفصل بين عقليتهم الغربية والأشخاص الشرقيين الذين يترجمونهم , وأنهم بدون هذه الملاحظة جديرون بأن يقعوا في الوهم في كل نقطة (2) .
المصدر : مجلة حضارة الإسلام العدد الثاني للسنة الثالثة (ربيع الثاني1382هـ-أيلول1962م)
____________________
(1) اصطلح الفقهاء على تسمية مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم بالسِيَر جمع سيرة .
من كتابه الذي ألفه في الرد على الأب لامانس اليسوعي بعنوان ((إنك في واد وإنا لفي واد)) نقلاً عن مقدمة حاضر العالم الإسلامي للأمير شكيب رسلان : 1/33
للدكتور مصطفى السباعي
يعتمد جمهرة المستشرقين في تحرير أبحاثهم عن الشريعة الإسلامية على ميزان غريب بالغ الغرابة في ميدان البحث العلمي , فمن المعروف أن العالم المخلص يتجرد عن كل هوى وميل شخصي فيما يريد البحث عنه ويتابع النصوص والمراجع الموثوق بها , فما أدت إليه بعد المقارنة والتمحيص كان هو النتيجة المحتمة التي ينبغي عليه اعتقادها .
ولكن أغلب هؤلاء المستشرقين يضعون في أذهانهم – كما قلت من قبل – فكرة معينة يريدون تصيد الأدلة لإثباتها , وحين يبحثون عن هذه الأدلة لا تهمهم صحتها بمقدار ما يهمه إمكان الاستفادة منها لدعم آرائهم الشخصية , وكثيراً ما يستنبطون الأمر الكلي من حادثة جزئية , ومن هنا يقعون في مفارقات عجيبة لولا الهوى والغرض لربأوا بأنفسهم عنها , وسنضرب لذلك بعض الأمثلة :
1- في محاولة المستشرق "جولد زيهر" للإثبات زعمه بأن الحديث في مجموعه من صنع القرون الثلاثة الأولى للهجرة وليس من قول الرسول صلى الله عليه و سلم ادعى أن أحكام الشريعة لم تكن معروفة لجمهور علماء المسلمين في الصدر الأول من الإسلام , وأن الجهل بها وبتاريخ الرسول صلى الله عليه و سلم كان لاصقاً بكبار الأئمة ! وقد حشد لذلك بعض الروايات الساقطة المتهافتة , ومن ذلك ما نقله عن كتاب للدميري من أن أبا حنيفة رحمه الله لم يكن يعرف هل كانت معركة بدر قبل أحد أم كانت أحد قبلها !..
ولا شك أن في أن أقل الناس اطلاعاً على التاريخ يرد مثل هذه الرواية , فأبو حنيفة وهو أشهر أئمة الإسلام الذين تحدثوا عن أحكام الحرب في الإسلام حديثاً مستفيضاً في فقهه الذي أثر عنه وفي كتب تلامذته الذين نشروا علمه كأبي يوسف ومحمد , يستحيل على العقل أن يصدق بأنه كان جاهلاً بوقائع سيرة الرسول [صلى الله عليه وسلم ] ومغازيه وهي التي استمد منها فقهه في أحكام الحرب , وحسبنا أن نذكر هنا كتابين في فقهه في هذا الموضوع يعتبران من أهم الكتب المؤلفة في التشريع الدولي , في الإسلام .
أولهما – كتاب الرد على سِيَر (1) الأوزاعي لأبي يوسف رحمه الله .
ثانيهما – كتاب السير الكبير لمحمد رحمه الله وقد شرحه السرخسي , وهو من أقدم وأهم مراجع الفقه الإسلامي في العلاقات الدولية , وقد طبع أخيراً تحت إشراف جامعة الدول العربية برغبة من جمعية محمد بن الحسن الشيباني للحقوق الدولية .
وفي هذين الكتابين يتضح إلمام تلامذة الإمام وهم حاملو علمه بتاريخ المعارك الإسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين .
وجولد زيهر لا يخفى عليه أمر هذين الكتابين , وبإمكانه لو أراد الحق أن يعرف ما إذا كان أبو حنيفة جاهلاًَ باليرة أو عالماً بها من غير أن يلجاً لإلى رواية ((الدميري)) في ((الحيوان)) وهو ليس مؤرخاً وكتابه ليس كتاب فقه ولا تاريخ , وإنما يحشر فيه كل ما يرى إيراده من حكايات ونوارد تتصل بموضوع كتابه من غير أن يعني نفسه البحث عن صحتها , ولا يخفى ما كان بين أبي حنيفة ومعاصريه ومقلديهم من بعدهم من عداء منهجي فكري , وقد كان هذا العداء مادة دسمة لرواة الأخبار ومؤلفي كتب الحكايات والنوادر لنسبة حوادث وحكايات منها ما يرفع من شأن أبي حنيفة , ومنها ما يضع من سمعته . وأكثرها ملفق موضوع للمسامرة والتندلا من قبل محبيه أو كارهيه على السواء , مما يجعلها عديمة القيمة العلمية في نظر العلماء والباحثين .
فجولد زيهر أعرض عن كل ما دوّن من تاريخ أبي حنيفة تدويناً علمياً ثابتاً , واعتمد رواية مكذوبة لا يتمالك طالب العلم المبتدئ في الدراسة من الضحك لسماعها ليدعم بذلك ما تخيله من أن السنة النبوية من صنع المسلمين في القورن الأولى .
2- ومثال آخر عن هذا المستشرق أيضاً فقد أعرض عما أجمعت عليه كتب الجرح والتعديل وكتب التاريخ من صدق الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمه الله (50-124هـ) وورعه وأمانته ودينه وزعم أن الزهري لم يكن كذلك بل كان يضع الحديث للأمويين , وهو الذي وضع حديث ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد الخ ..)) لعبد الملك بن مروان وكل حجته أن هذا الحديث من رواية الزهري , وأن الزهري كان معاصراً لعبد الملك بن مروان ! .. وسنناقشه في ذلك مناقشة مفصلة في المقالات التالية إن شاء الله .
3- يحاول المستشرقون أن يؤكدوا تعالي العرب الفاتحين عن المسلمين الأعاجم وانتقاصهم من مكانتهم وفي ذلك يقول المستشرق ((بروكلمان)) في كتابه تاريخ الشعوب الإسلامية :
((وإذا كان العرب يؤلفون طبقة الحاكمين فقد كان الأعاجم من الجهة الثانية هم الرعية أي القطيع! .وجمعها رعايا كما يدعوهم تشبيه سامي قديم كان مألوفاً حتى عن الآشوريين .))
فهذا المستشرق قد أعرض عن جميع الوثائق التاريخية التي تؤكد عدالة الفاتحين المسلمين ومعاملتهم أفراد الشعب على السواء من غير تفرقة بين عربي وغيره , وتعلق بلفظ ((الرعية)) تعلقاً لغوياً واستنتج منها أن المسلمين نظروا إلى الأعاجم نظر القطيع من الغنم ولو رجعنا إلى مادة ((رعى)) في قواميس اللغة وجدناها تقول في القاموس المحيط : والراعي كل من ولي أمر القوم , والقوم رعية , وراعيته لاحظته محستاً إليه وراعيت أمره حفظته , كرعاه .
فالراعي في اللغة يطلق على راعي الغنم وعلى ر\يس القوم وولي أمرهم , والرعية تطلق على الماشية وتطلق على القوم , ومن معاني الرعاية الحفظ والإحسان .
فلما أطلقها الإسلام على القوم لم يخص بها الأعاجم ليشير إلى أنه يراهم كالقطيع من الغنم , وإنما أطلقها على الشعب عامة , والأحاديث في ذلك كثيرة معروفة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره : ((ألا كلكم راع , وكلكم مسؤول عن رعيته , فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته , والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته , والمرأة راعية على أهل بيت روجها وولده وهي مسؤولة عنهم , وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه , ألا فكلكم راع كلكم مسؤول عن رعيته)) قال الحافظ ابن حجر (فتح الباري 13/96) في شرح هذا الحديث ((والراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما أؤتمن على حفظه فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه)) .
وقد جاء في حديث آخر إطلاق الرعية على المسلمين في الحديث الذي رواه البخاري وغيره ((ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة)) .
فكيف أغمض بروكلمان عينيه عن هذا كله واستجاز لعلمه أن يدعي بأن المسلمين نظروا إلى الأعاجم نظرة القطيع وأنهم أطلقوا عليهم وحدهم لفظ ((الرعية)) ؟ ليس له سند إلا أن لفظ الرعية يطلق على الغنم أيضاً , وقد علمت معانيها اللغوية , أما تخصيص إطلاقها بالأعاجم فليس له سند ولا شبهة يتعلق بها , وإنما هو الغرض والهوى .
4- زعم المستشرق ((مايور)) كما نقله عنه مرجيليوت أن أهل البدو كانوا كثيري الاهتمام بتعلم البلاغة وطلاقة اللسان فلا يبعد أن النبي عليه الصلاة والسلام مارس هذا الفن حتى نبغ به .
وهذا يعطينا صورة عن موازين البحث عند هؤلاء فالمسألة عنده تقوم على استنتاج وهمي من أمر لم يقع , فلا العرب كانوا يتعلمون البلاغة , ولا كانت لها مدارس وأساتذة يضعون قواعدها , ولا النبي صلى الله عليه وسلم عرف عنه قبل النبوة أنه فعل ذلك , وليس بين أيدينا نص واحد يثبته بل المؤكد أن الرسول لم ينقل عنه أثر من نثر أو شعر قبل النبوة وقبل أن يتنزل عليه القرآن الكريم .
وأمر آخر يكشف لنا عن أساس ثالث من أسس النقد والبحث عند هؤلاء المستشرقين هو إفراطهم في اختراع العلل والأسباب والحوادث التي يدرسونها اختراعاً ليس له سند إلا التخيل والتحكم , ويزيد في فساد أسلوبهم هذا أنهم يتخيلون أحداث الشرق والغرب وعاداتهم وأخلاقهم بأوهامهم وخيالاتهم الغريبة عن الشرق والغرب والمسلمين ولا يريدون أن يعترفوا بأن لكل بيئة مقاييسها وأذواقها وعاداتها .
وقد أحسن المستشرق الفرنسي المسلم ((ناصر الدين دينيه)) في حديثه عن أسلوب المستشرقين وموازينهم في الحكم على الأشياء مما جعلهم يتناقضون فيما بينهم تناقضاً واضحاً في الحكم على شيء واحد , كل ذلك لأنهم حاولوا أن يحللوا السيرة المحمدية وتاريخ ظهور الإسلام بحسب العقلية الأوربية فضلوا بذلك ضلالاً بعيداً لأن هذا غير هذا , ولأن المنطق الأوربي لا يمكن أن يأتي بنتائج صحيحة في تاريخ الأنبياء الشرقيين .
ثم قال :إن هؤلاء المستشرقين الذين حاولوا نقد سيرة النبي بهذا الأسلوب الأوربي البحت لبثوا ثلاثة أرباع قرن يدققون ويمحصون بزعمهم , حتى يهدموا ما اتفق عليه الجمهور من المسلمين من سيرة نبيهم , وكان ينبغي لهم بعد هذه التدقيقات الطويلة العريضة العميقة أن يتمكنوا من هدم الآراء المقررة والروايات المشهورة من السيرة النبوية , فهل تسنى لهم شيء من ذلك ؟ .
الجواب , أنهم لم يتمكنوا من إثبات أقل شيء جديد , بل إذا أمعنا النظر في الآراء الجديدة التي أتى بها هؤلاء المستشرقون , من فرنسيين وإنجليز وألمان وبلجيكيين وهولانديين الخ لا نجد إلا خلطاص وخبطاً , وإنك لترى كل واحد منهم يقرر ما نقضه غيره من هؤلاء المدققين بزعمهم أو ينقض ما قرره .
ثم أخذ ((دينيه)) يورد الأمثال على هذه المتناقضات وختم كلامه بقوله :
وإن أردنا استقصاء هذه التناقضات التي نجدها بين تمحيصات هؤلاء الممحصين بزعمهم يطول بنا الأمر , ولا نقدر أن نعرف أية حقيقة , ولا يبقى أمامنا إلا أن نرجع إلى السيرة النبوية التي كتبها العرب , فأما المؤلفون الذين زعموا أنهم يريدون ترجمة محمد [صلى الله عليه وسلم] بصورة علمية شديد التدقيق فلم يتفقوا منها ولو على نقطة مهمة , وبرغم جميع ما نقبوه ونقروه , وحاولوا كشفه بزعمهم , فلم يصلوا ولن يصلوا إلا إلى تمثيل أشخاص في تلك السيرة ليسوا أغرق في الحقيقة الواقعية من أبطال أقاصيص فالتر سكوت واسكندر دوماس , فهؤلاء القصاص تخيلوا أشخاصاً من أبناء جنسهم يقدرون أن يفهموهم , ولم يلحظوا إلا ختلاف الأدوار بينهم , أما أولئك المستشرقون فنسوا أنه كان عليهم قبل كل شيء أن يسدوا الهوة الحيقة التي تفصل بين عقليتهم الغربية والأشخاص الشرقيين الذين يترجمونهم , وأنهم بدون هذه الملاحظة جديرون بأن يقعوا في الوهم في كل نقطة (2) .
المصدر : مجلة حضارة الإسلام العدد الثاني للسنة الثالثة (ربيع الثاني1382هـ-أيلول1962م)
____________________
(1) اصطلح الفقهاء على تسمية مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم بالسِيَر جمع سيرة .
من كتابه الذي ألفه في الرد على الأب لامانس اليسوعي بعنوان ((إنك في واد وإنا لفي واد)) نقلاً عن مقدمة حاضر العالم الإسلامي للأمير شكيب رسلان : 1/33