د. أحمد إدريس الطعان
04-19-2006, 02:55 AM
أخلاق القوة
الفلسفة والتطبيق
بسم الله الرحمن الرحيم
المحور التمهيدي من الأنسان نبدأ ، فالإنسان هو محور هذه الحياة ومنطلقها، وهو المخلوق المكرم ، ولقد كرمنا بني آدم [ سورة الإسراء آية : 70 ] والمفضل ، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً [ سورة الإسراء آية 70 ] والمسوَّد ، والمميز بالعقل ، وهو يمكن أن يرتفع بنفسه ليقارَن بالملأ الأعلى ، في مقعد صدق ، ويباهَى به الملائكة . كما يمكن أن ينحط بنفسه فيصبح أدنى من البهائم أولئك كالأنعام بل هم أضل [ سورة الأعراف آية 179 ] .
هذا الإنسان الخليفة إني جاعل في الأرض خليفة [ سورة البقرة آية 30 ] وهذا الإنسان المكرم متعه الباري عز وجل بحقوق لا يحق لأحد أن يعتدي عليها أو يهضمها ، وعليه واجبات لا بد أن يزاولها، وفي العصر الحديث يُرفع شعار حقوق الإنسان ، ويُغض النظر عن واجبات الإنسان ، ويصفق كثير من المسلمين لهذا الشعار - حقوق الإنسان- ، دون أن يسألوا أنفسهم من هو الإنسان صاحب هذه الحقوق ، وما هو مفهوم الإنسان عند من شرع لهذه الحقوق ؟ وما هو مفهوم الحق في منظور المشرعين لهذا المبدأ ، وما هي الخلفية الفكرية والفلسفية التي أنضجت هذه المبادئ ، وأثمرت هذا الشعار ؟
إن الإنسان المقصود في المبدأ العالمي المطروح في الهيئة الكبرى لهذا العالم ليس هو نفسه الإنسان المقصود في منظور إسلامنا وديننا ، الإنسان المقصود في الميثاق العالمي هو الإنسان المادي الذي لا يؤمن بألوهية ولا وحي ولا غيب ولا يوم أخروي يقف فيه الناس للجزاء .
إنه الإنسان الآلة الميكانيكية الخالية من أي بعد ميتافيزيقي أو روحاني ، إنه الإنسان الذي تقف حدود عقله في داخل هذا الكون المنظور المحسوس، وهو الإنسان الذي تقف حدود أمانيه ورغباته في داخل هذه المادة المتلاشية ، وهو الإنسان الذي لا يطمع في مستقبل آخر وآمال أخرى خارج هذه الأرض وخارج حدود هذا الكون .
بينما في إسلامنا فإن الإنسان هو المؤمن بالغيب وبالله الواحد الأحد ، وبالعالم الآخر ، ويعتبر حياته في هذه الدنيا هي الفصل الأول من المسرحية التي لن تتم إلا بإسدال الستار على عالم التكليف ، والانتقال إلى عالم الجزاء .
وفي الميثاق العالمي لحقوق الإنسان يٌعتبر الإنسان سيداً الكون ، ويده هي اليد الطولى فيه ، له أن يتصرف فيه كيف يشاء ، وبالحدود التي يوحي بها إليه عقله وضميره، ولذلك فهو يلوث البيئة ، ويستنسخ البشر ، ويجن البقر ، ويدفن النفايات النووية في البلدان الفقيرة ، ويلوث البحار ، ويعبث في الكون كيفما يشاء . بينما في الإسلام فإن الإنسان ليس سيداً للكون ، وإنما هو سيد في الكون ، والفارق بين الأمرين عظيم ، فكونه سيداً للكون يعني أنه هو المتصرف فيه ، والمالك له ، بينما حين يكون مسوداً في الكون فهو بمثابة الوالي المكلف بتصريف شؤون ولايته طبقاً لتعاليم مولاه ، ولا يحق له أن يصدر قراراته بنفسه وإنما ينفذ قرارات مولاه . [ راجع لأستاذنا العلامة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي محاضرته القيمة التي ألقاها في لندن بعنوان : أيهما أقدر على حماية حقوق الإنسان الله أم الإنسان ؟ . دار الفكر – دمشق ] .
أما المجتمعات الغربية ودعاة الحداثة فيقررون أن الإنسان ذاته هو الأولى برعاية هذه الحقوق ، وأما الإسلام فيؤكد أن رعاية هذه الحقوق هي لمن بيده الملك والأمر وهو الذي استخلف الإنسان على هذه الأرض ومتعه بالسيادة فيها . [ راجع للدكتور سعيد رمضان البوطي " الله أم الإنسان " ص 9 ] .
إن سيادة الإنسان وحقوقه في الإسلام هي خلعة إلاهية وتكريم رباني ، وأما في النظم الوضعية فهو حق ذاتي له ، استوجبه بذاته ولذاته ، ودون فضلٍ لأحدٍ عليه . وقد اقتضى ذلك في هذه النظم الحديثة أن الإنسان هو الذي يشرع لنفسه ولبني جنسه ، وأما في الإسلام فإن الإنسان مُستخلَف ومُكرَّم بخلعة التسويد ، وعليه أن يقابل ذلك بالخضوع والعبودية لمن بيده الملك والخلق والأمر . [ المرجع السابق ص 13 – 14 ] .
المحور الأساسي
أولاً - الفلسفة اليونانية :
إن الإنسان إذا لم يتشبع بالعبودية الخالصة لله عز وجل فإنه يمكن أن يجازف بأي تصرف ، ويبرر كل رغباته وأهوائه بالفلسفة أو بالعلم أو بالعقل أو حتى بالدين ..
وما يحصل اليوم في العالم المعاصر من ظلم وقهر وعدوان واستعمار لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يمارسه الإنسان المتعبد المؤمن ، فما هو إلا نزوات ، وأطماع ، وغرائز وأهواء انساق إليها الإنسان بسائق من الأنانية والطمع والجشع ، أو هو استكبار وتفرعن تملك الأنفس المتمردة ، وطغيان وجبروت استحوذ على الذوات المتجردة عن كينوناتها الإنسانية .
إن العالم الذي يوصف بأنه عالم متحضر اليوم هو الذي يمسك بزمام العالم على المستوى المادي المشاهد والملموس ، وهو الذي يتحكم بمصير الحياة البشرية كما يبدو ، وكما نلاحظ فإن العولمة التي تُطرح أو تُفرض ما هي إلا نتاج فلسفة نمت وترعرعت في ذلك الوسط من العالم وإذا تأملنا في تاريخ هذه الفلسفة فإننا سنجد أنها تقوم - في أغلبها -على مبدأ الأخلاق النفعية ، فليس هناك أي قيمة ذاتية للأخلاق وإنما تنبع قيمتها من مدى ما تحققه من أغراض على مستوى المادة أي الحياة المنظورة .
وسنحاول نحن هنا أن نُطل بشكلٍ موجزٍ على تاريخ الأسس الفلسفية للأخلاق في الغرب منذ أقدم عصورها إلى اليوم ، ثم ننظر في الانعكاسات الواقعية التي نتجت عن هذه الفلسفة ، ونبدأ بالسوفسطائيين الذين أقاموا الأخلاق على ثلاثة أسس هي :
1 – القوة : فالحق هو القوة ، والقانون من اختراع الضعفاء ليخدعوا به الأقوياء .
2 – اللذة : فالغاية الأساسية للأخلاق هي تحقيق أكبر قدر ممكن من اللذة .
3 – النسبية : فكل ما تراه أنت حقاً فهو كذلك بالنسبة لك ، وكذلك كل ما أراه أنا فهو كما أراه .
ثم جاء بعدهم أفلاطون فأقام الأخلاق على أربعة أسس :
1 – الحاجة : الحاجة هي أساس الدولة عند افلاطون وعند فلاسفة اليونان عموماً إذ أن الأخلاق ضرورية من أجل استقامة الدولة ، ولحاجة الناس بعضهم إلى بعض .
2 – القوة : ولذلك لا مكان في جمهورية أفلاطون للضعفاء والمعوقين والمشوهين وعلى الدولة أن تتخلص من هؤلاء لأنهم يشكلون عبئاً عليها .
4 – العنصرية : وهي مسألة لم يستطع فلاسفة اليونان التخلص منها ، ولذلك أجازوا لليوناني أن يسترق الأجناس الأخرى ومنعوه من استرقاق اليوناني ، وأجازوا للدولة اليونانية أن تبيد الدول الأجنبية ، بينما عليها أن تترفق بالمقاطعات اليونانية المتحاربة معها ، واليوناني ممزوج بالذهب بينما بقية الأجناس ممزوجة إما بالنحاس أو بالفضة .
وعند أرسطو بعض الشعوب أذكياء وتنقصها الشجاعة وبعضها شجعان وينقصها الذكاء بينما اليونان فقط هم الذين يجمعون بين الذكاء والشجاعة .
جاء بعد ذلك أبيقور فلم يكتف بأن اعتبر اللذة هي غاية الأخلاق وإنما اعتبر اللذة هي الخير المطلق .[ راجع د. عبد المقصود عبد الغني الأخلاق بين فلاسفة اليونان وحكماء الإسلام ص 119 وراجع أيضا أحمد أمين وزكي نجيب محمود " قصة الفلسفة اليونانية " ] .
ثم تنتهي رحلة الفلسفة اليونانية بالشكاك الذين أعلنوا عجز العقل عن الوصول إلى اليقين ، ولم تكن فلسفتهم هذه سفسطة كما كانت لدى أسلافهم السوفسطائيين ، وإنما أعلنوا أن الشك هو المعتقد النهائي ، بمعنى أن الشك لم يعد وسيلة ، أو طريقاً للوصول بعد ذلك إلى اليقين ، ولم يعد مرحلة مؤقتة ينتقل الإنسان بعدها إلى المبدأ الراجح ، وإنما أصبح الشك هو نهاية العقل ونهاية البحث والمعرفة . [ راجع : يوسف كرم " تاريخ الفلسفة اليونانية " ص 234-241 و " قصة الفلسفة اليونانية " لأحمد أمين وزكي نجيب محمود ص 307 ] .
ثانياً - الفلسفة الغربية الحديثة :
سوف نقفز قفزة مديدة نتجاوز فترة ألف سنة هي فترة العصر الوسيط والتي تعتبرها أوربا فترة ظلام في تاريخها لنطل الآن على عصر النهضة وعصر التنوير ، ثم عصر الحداثة ، وسنحاول أن نبحث عن مبتغانا في الأساس الذي تقوم عليه الأخلاق في هذه الفلسفة التي وسمت بأنها فلسفة النهضة، وفلسفة الأنوار وهي التي أنتجت بعد ذلك الحضارة الحديثة .
ونبدأ بأقدم وأعظم فلاسفة التنوير وهو مكيافللي 1469 – 1527 م :
1 - لقد وجه مكيافللي ضربة قوية للأخلاق المسيحية لأنها بنظره أوهنت من عزيمة الإنسان وأسلمت الدنيا لأهل الجرأة والعنف . ولذلك فهو يفضل الوثنية على المسيحية لأن الوثنية بنظره تمجد الصحة والجاه والقوة وتضفي هيبة على القادة والأبطال ، بينما المسيحية تحض على التواضع والضعف . وهكذا بعد ألف سنة من سيادة المسيحية التي رفعت شعاري المحبة والتواضع حين قال المسيح عليه السلام " من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر " يعود مكيافللي ليستعيد مبدأ السوفسطائيين والإغريق عموماً في تكريس أخلاق القوة .
2 - والأساس الثاني للأخلاق عند مكيافللي هو أن الغاية تبرر الوسيلة ، ولذلك يجب على الحاكم بنظره أن يكون ماكراً مكر الذئب ، ضارياُ ضراوة الأسد ، غادراً غدر الثعلب ، وأن يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير ، وأن يحسن استخدام مبدأ فرق تسد ، من أجل المحافظة على سلطانه ولكن عليه في نفس الوقت أن يكون ماهراً في إخفاء صفاته المرذولة ، بارعاً في الرياء وإظهار الصفات الحميدة ، بل وحتى التدين الشديد . [ راجع : كافين رايلي " الغرب والعالم " ص 13 وبرتراند رسل " تاريخ الفلسفة الغربية " ص 28 ] .
وأعتقد أن نظرة تأمل في السياسة العالمية اليوم سيجد أنها محكومة بهذه الأخلاق المكيافللية التي تزيد القوي قوة والضعيف ضعفاً " .
هذه الأخلاق الثعلبية المكيافللية اكتملت بعده بقرن من الزمان حين آزرتها ذئبية توماس هوبز 1588 – 1679 فإذا كان مكيافللي قد اجتر من الفلسفة اليونانية أخلاق القوة السوفسطائية وأضاف إليها أن القوة تبرر الوسيلة فإن توماس هوبز قرر أن يجتر من الفلسفة اليونانية الأخلاق الأبيقورية القائمة على مبدأ اللذة ، وأضاف إليها الأنانية ، وتناول ذلك تحت عنوان الذئبية الإنسانية ، فاعتبر الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان ، فإن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب ، فالأخلاق يجب أن تقوم على المادة والمنفعة وأخلاق السوق .
[ انظر : كافين رايلي " الغرب والعالم " ص 40 وروبرت أغروس " العلم في منظوره " ص 79 ، 80 ] .
إلا أن أبرز ممثل لأخلاق القوة في الفلسفة الغربية الحديثة هو فريدريك نيتشه 1844 – 1900م والذي اجتمع لديه كل ما كان من تراث فلسفي سابق يحض على القوة ويدعو إليها، بالإضافة إلى تأثره الشديد بنظرية داروين في الانتخاب الطبيعي ، والبقاء للأقوى ، فطرح نيتشه مبدأ الإنسان الأرقى أو الأقوى واستوحى ذلك من فلسفة زرادشت ، واستعان بعلم الأحياء الدارويني ، وأُعجب جداً ببسمارك ونابليون .
ويعتبر نيتشة صاحب الإعلان الشهير عن موت الله سبحانه وتعالى ، لأن وجود الله سبحانه وتعالى بنظره يحول دون تأكيد الإنسان لذاته ، ولذلك كان يقول ، لو كان هناك إله فكيف أطيق أن لا أكون إلهاً .
وسخر من الضعفاء والفقراء الذين يحسبون أنهم صالحين ، لأنهم لا يملكون مخالب لينشبوها في أعناق الآخرين ، وحارب كسلفه مكيافللي المسيحية لأنها تحض على أخلاق الرقيق ، وأخلاق العبيد كالحب والتسامح والغفران والتواضع ، وقال عن العهد الجديد بأنه إنجيل إنسان من نوع وضيع ، وكان مثله الأعلى في الحياة الإنسان المتحجر القلب ، المتجرد من العواطف ، الذي لا يعرف الشفقة أو الرحمة . وكان يرغب بالقضاء على الملايين من الضعفاء والفقراء والمعوقين ، لأنه لا يؤمن إلا بالبطل وبأخلاق القوة كما كان أفلاطون يحلم في جمهوريته المثالية
[ راجع : فؤاد زكريا " نيتشه " ص 130 – 40 – 99 – 101 – 102 وول ديورانت – قصة الفلسفة 24 – 526 و برتراندرسل – تاريخ الفلسفة الغربية – ص 401 ، 403 ، 398 ] .
وهكذا ففي نظر نيتشه حفنة من القوة خير من كيس من الحق . وإن الضعفاء الذين يُسمون عدم الأمانة خيانة وعار ، والقوة ظلم ، يعبرون بذلك عن عجزهم وضعفهم وهوانهم . وإن من يريد الحياة يجب أن يسمح لرغباته بالانطلاق إلى أبعد مدى أما الأمانة والعدالة والوفاء فليست من أخلاق الرجال الأبطال ، وإنما من أخلاق العبيد . [ انظر : ول ديورانت " قصة الفلسفة " : ص 25 ] .
إن القوة هي الفضيلة الأساسية بنظر نيتشه ، والضعف هو النقيصة الوحيدة ، وإن الحكم الفصل في جميع الخلافات ومصائر الأمور هو القوة لا العدالة ، وهكذا كان بسمارك يقول : " إنه لا محبة للغير بين الأمم ، وإن قضايا الدول الحديثة لا ينبغي أن تقررها أصوات الناخبين ولا بلاغة الخطب ، وإنما الدم والحديد . [ انظر : ديورانت " السابق " ص 506 ] .
لقد كان بسمارك إذاً رمزاً لهذه الأخلاق النيتشوية ، وإذا كان نيتشة هو فيلسوف القوة فإن بسمارك كان سياسيُّ القوة .
ومن هنا تم رفض المسيحية لدى هؤلاء ، لأنها كما هو معلن عنه ديانة الحب والسلام ، وهي بنظر فلاسفة وسياسييِّ القوة لا تصلح لتبرير القوة العسكرية ، والفصل الحديدي ، ولذا فإن بسمارك الذي فرض سيادته على النمسا ، وأخضع فرنسا في شهور قليلة ، ودمج الدويلات الألمانية في امبراطورية عظمى ، لم يكن يؤمن بأخلاق الحب والتسامح والتواضع ، ومن هنا تم استبدال إله المسيحية بالسوبرمان " أو الإنسان الأعلى " إله نيتشة الجديد . "" إن أقوى وأسمى إرادة للحياة لا تجد تعبيراً لها في الصراع البائس من أجل البقاء ولكن في إرادة الحرب ، وإرادة القوة وإرادة السيادة [ انظر : ديورانت " السابق " ص 511 ] . وهذا ما تحاول أمريكا اليوم أن تفرضه على العالم .
لقد ماتت جميع الآلهة بنظر نيتشه وأتاحت الفرصة للإله الجديد السوبرمان أي الإنسان الأعلى . ولقد كتب نيتشة كتابين أحدهما " ما فوق الخير والشر " والثاني " تاريخ تسلسل الأخلاق " وكان يرجو في هذين الكتابين تدمير الأخلاق القديمة القائمة على المحبة والصدق والتواضع لتحل محلها أخلاق الإنسان الأعلى ، الإنسان المتأله المتفرعن المتغطرس الذي لا يؤمن إلا بالقوة والبطش . ولذلك كان نيتشة شديد الإعجاب بنابليون الذي تسبب في قتل الملايين من الرجال " يا له من منظر رائع عندما قدم الملايين من الأوربيين أنفسهم لنابليون من أجل تحقيق أهدافه ، لقد ضحوا بحياتهم عن طيب خاطر له ، وراحوا يتغنون باسمه وهم يسقطون في ميدان المعركة " [ انظر : " ديورانت السابق " ص 535 ].
ويرد على المهاجمين لسياسة نابليون فيقول : " لم يكن نابليون جزاراً ، بل كان محسناً نافعاً ، لأنه قدم للناس موتاً عسكرياً شريفأ ، لأن الحرب أفضل علاج للشعوب التي دب فيها الضعف والترف والراحة والهوان والخسة " . [ السابق ص 545 ] .
لم يكن نيتشة فيلسوف القوة فقط بل كان فيلسوف العنصرية أيضاً ، فقد كان يؤسس للعنصرية الألمانية التي سيتبناها فيما بعد هتلر ويكوي العالم بنارها كما تكويه اليوم أمريكا . فرأى نيتشة أن أخلاق السادة هي أخلاق رومانية وأما أخلاق الضمير والشفقة فهي أخلاق سامية ، وأن الشعب الألماني يمتاز بطبيعة رزينة وعمق يبعث على الأمل في أن تنهض ألمانياً يوماً لتخليص العالم . إن ما يوجد في الشعب الألماني من فضائل الرجولة يفوق ما هو موجود في بقية الشعوب [ انظر : السابق ص 526 – 538 ] .
والآن ما الذي حصل لنيتشة الذي أسكرته العظمة وافترى حين صرخ بملء صوته في العالم مات الله "سبحانه وتعالى " لقد قال نيتشة ثملاً بأن المستقبل سوف يقسم الماضي إلى ما قبل نيتشة وما بعد نيتشة ولكن ما الذي حصل ؟
لقد كان جزاءاً عادلاً لمن يتمرد على كينونته وهويته ، ويرفض خلعة الباري عز وجل ، فها هو نيتشة يقضي الأحد عشر سنة الأخيرة من حياته مجنوناً ، وألعوبة بأيدي الصبيان ولقد كان يرفض الضعف فأصبح الآن ضعيفاً ، وكان يرفض الشفقة فأصبح مثاراً للشفقة . وكان يحلم بإبادة الضعفاء والمعوقين والمجانين وها هو اليوم ضعيفاً مجنوناً يعيش في المارستان ، فما أعظم حكمة الله عز وجل ، وما أعدل رحمته .
لقد رأينا فيما سبق أن أسس الأخلاق الرئيسة أربعة هي : القوة ، اللذة ، العنصرية ، والحاجة . ورأينا كيف سارت هذه الأسس مترافقة مع أصناف الفلسفة عند اليونان ، وفي أوربا . وها هو فرويد يسير شوطاً أبعد بفلسفة اللذة فيعتبر اللذة المقصودة هي اللذة الجنسية ، في حين كانت تشمل كل أنواع اللذة ، مثل لذة العظمة ، ولذة الواجب ، أما فرويد فقرر أن الموجه للسلوك الإنساني هو اللذة الجنسية ، وإذا علمنا أنه يعتبر الناس أشراراً بطباعهم فإننا ندرك السر في الإباحية العابثة التي تشيع اليوم في المجتمعات الغربية .
وأما فلسفة القوة والحاجة فإن الفلاسفة النفعيين أمثال وليم جيمس وجون استيوارت مل ، وجون ديوى قد تقدموا بها شوطاً آخر حين أضافوا إليهما فلسفة المنفعة" البراجماتزم "،وقالوا بأن المقياس الأول والأخير للأخلاق هو المصلحة والمنفعة الشخصية .
وأما فلسفة العنصرية فقد خصصها رينان أكثر ، وصبغها بصبغة علمية ، وألبسها مسوحاً أكاديمياً حين قرر أن الجنس السامي دون الجنس الآري في التفكير، وخصص أكثر حتى يستثني اليهود أبناء عمومتنا حين قرر أنه من العبث أن نتلمس لدى العرب آراء علمية أو دروساً فلسفية خصوصاً وأن الإسلام قد ضيق آفاقهم وانتزع من بينهم كل بحث نظري وأضحى الطفل المسلم يحتقر العلم والفلسفة . [انظر : د. إبراهيم مدكور " في الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيق " 1 /16] .
أما في العصر الحديث عصر الديمقراطية وحقوق الإنسان والعولمة فإن صموئيل هنتغتون وفرنسيس فوكوياما قد تقدما بفلسفة العنصرية والقوة إلى أبعد مدى . [ انظر : صموئيل هنتغتون : صدام الحضارات ، وفرنسيس فوكوياما : نهاية التاريخ ] .
هذه إذن هي أسس الأخلاق في الفلسفة الغربية على مر التاريخ وهي الأسس التي انتصرت وسادت : القوة – اللذة – المنفعة – العنصرية ، فهل كان لهذه الأسس صدى في الواقع العالمي بالأمس واليوم ؟
إن الأخلاق الأبيقورية والمكيافللية والنيتشوية هي التي جعلت بسمارك ونابليون لا يباليان بملايين الجنود الذين يموتون في سبيل تحقيق العظمة ، وفي سبيل نشوة القوة ، والشعور بالمجد . وإن أخلاق المنفعة والقوة والعنصرية هي التي دفعت الاستعمار في القرون الماضية إلى بلادنا لنهب خيراتها وثرواتها ، وجعلته يبنى أمجاده وثراءه ورفاهيته وحضارته على حساب فقرنا وامتصاص دمائنا .
وإن فلسفة القوة والمنفعة والعنصرية هي التي دفعت هتلر إلى إبادة ملايين البشر من اليهود والغجر والمعوقين والمسنين لأنهم عُدُّوا أفواهاً مستهلِكة غير منتِجة ، وعُدَّ ذلك إنجازاً عقلانياً لأنه حرر النازية من أية أعباء أخلاقية مثالية ، وتعاملت مع البشر بكفاءة بالغة وبمادية صارمة كما لو أنهم مادة استعمالية نسبية تخضع لقوانين الطبيعة والمادة . وكذلك فعل ستالين حين أباد ملايين من الفلاحين الكولاك في إطار دراسة علاقات الإنتاج ومعدلات النمو " لأن هؤلاء كانوا يعوقون عملية الإنتاج الحتمية " . [ انظر : د. عبد الوهاب المسيري " موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية " الجزء الأول] .
لقد كان المسؤولون في إدارات هتلر وستاليني يتحدثون عن الإبادات الجماعية ببرود شديد كما يتكلم رجل الأعمال عن ميزانيته ولم يكن في حديثهم أي أثر للعاطفة أو الشفقة يقول شبيير مهندس هتلر الأول : " إن تركيزي المرضي على الإنتاج وإحصاءات الناتج طمس عندي جميع المشاعر والاعتبارات الإنسانية " [ انظر : كافين رايلي " الغرب والعالم " 2 / 294 و د. عبد الوهاب المسيري " موسوعة اليهود واليهودية " 1 / 77 ] .
وفلسفة القوة هي التي دفعت أمريكا إلى إلقاء قنابلها النووية على هيروشيما وناغازاكي دون حساب لأي اعتبارات إنسانية ، لأن الرغبة في السيادة والسيطرة جعلت الاعتبارات الإنسانية مرجأة . وهي التي جعلتها تقتل في فيتنام ثلاثة ملايين فيتنامي . وهي التي جعلتها قبل ذاك تبيد شعباً بأكمله هم الهنود الحمر، لتحل محله في أرضه ووطنه . وهي التي دفعت بريطانيا لإبادة ثلاثة أرباع الشعب الأسترالي . ودفعت فرنسا لإبادات جماعية وإحراق مدن بأكملها ، وإبادة مليون ونصف إنسان في الجزائر .
هذه الفلسفة هي التي تسود اليوم في العالم ، ومن هنا فإن منظر الفلسطينيين حين نشاهدهم مكبلين مصفوفين على الجدران ، أو جاثين على الركب ، أو منبطحين على الأرض ، أو يُركلون بالأقدام ، وإن منظر الأشلاء المتناثرة ، والجثث المتفحمة ، وبقع الدم الحمراء ، هذا المنظر هو مصدر ألم لنا بل مصدر شقاء متواصل كل يوم ، ولكنه بالنسبة لشارون وبوش وكل سياسيي القوة مصدر لذة وشعور بالنشوة .
وكذلك فإن منظر السجناء في سجن أبي غريب وهم عراة لا حول لهم ولا قوة ، يحولهم العدو إلى أدوات بناء ، أدوات للتسلية واللعب والعبث ، فيصنعون منهم هرماً بشرياً عارياً للتسلية كما يتسلى أحدنا بأعواد الكبريت ، وإن منظر تلك المرأة التي تجردت من أنوثتها وهي تجر بحبل ذلك العراقي كما يجرون كلابهم ، ومنظرها كذلك وهي تعبث بأعضائه وهو عار ،كل ذلك مصدر ألم لكل إنسان فيه ذرة إنسانية ، ولكنه مصدر لذة وشعور بالمتعة والنشوة للإسرائيلي أو الأمريكي الذي تشبع بأخلاق القوة ، وأخلاق اللذة ، وأخلاق المنفعة ، وأخلاق العنصرية .
المحور الختامي
نطرح هنا عدة أسئلة :
السؤال الأول :
هل الإسلام ضد القوة ؟ وهو القائل سبحانه وتعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة [ سورة الأنفال آية 60 ] وهو القائل صلى الله عليه وسلم [ المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ] ؟
إن الإسلام هو دين القوة إن خير من استأجرت القوي الأمين [ سورة القصص آية 26 ] ، ولكن هناك فرق بين المنظور الإسلامي للقوة والمنظور الفلسفي الغربي ففي الإسلام القوة للردع ، لردع الشر والأشرار ، ولردع الباطل ، والقوة في الإسلام مكبوحة بالرحمة والإنصاف والعدل مكبوحة بالأمانة " القوي الأمين " .
أما في الفلسفة الغربية فكما رأينا القوة هي الفرعنة والغطرسة والتأله ، وهي ليست لخدمة الإنسانية ، وإنما لخدمة لون من ألوان الإنسان هو الإنسان الأبيض . إن القوة في الإسلام نوعان : قوة مادية عسكرية وقوة معنوية هي الأمانة ، والثانية هي الحاكمة على الأولى والموجهة لها ، القوة في الإسلام محصنة بداعية الخوف والخشية من الله عز وجل ، بينما القوة الغربية مدفوعة بدافع الغرور والأنانية والتمرد والتفرعن .
و السؤال الثاني هل الإسلام ضد اللذة ؟
أيضاً فالإسلام أباح للإنسان الاستمتاع بالطيبات من الحياة الدنيا قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ سورة الأعراف آية : 32 ] وأباح الاستمتاع المشروع بين الزوجين ولكنه ضبط اللذة بمعيار التوسط لا بمعيار البهيمية ، ولفت نظر الإنسان إلى أصناف سامية جداً من اللذة فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين [ سورة السجدة آية : 17 ] [ أعدت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ] إن الإسلام لا يحارب اللذة وإنما يهذبها ويخلصها من الانحراف والشذوذ .
والسؤال الثالث : هل الإسلام ضد المنفعة ؟
إن الإسلام يلبي حاجات الإنسان ومنافعه بواقعية [ ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ] وحيثما كانت المنفعة والمصلحة فثم شرع الله ، ولكنه يمزج هذه الدعوة بالإيثار والتفاني ، ويحذر من الأثرة والأنانية ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ سورة الحشر آية : 9 ] كما أن المصالح في الإسلام متراتبة بحسب الأهمية : الدين فالنفس فالعقل فالعرض فالمال ، كذلك فإن مصلحة المجموع مقدمة على المصلحة الفردية ، والمصلحة ليست قاصرة فقط على المنظور الدنيوي البحت بل إذا كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا فإن والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخيرٌ أملاً [ سورة الكهف آية : 46 ] . الأصل في الدعوة الإسلامية أنها دعوة إلى الآخرة وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولكن في الطريق يحتاج الإنسان إلى البلاغ الذي يعينه في الوصول إلى الغاية ولا تنس نصيبك من الدنيا [ سورة القصص آية : 77 ] .
والسؤال الرابع : هل الإسلام ضد العنصرية ؟
نعم الإسلام ضد العنصرية مصطلحاً ومفهوماً ، لأن المصطلح نشأ في ظروف القتل والإبادة للآخرين ، فالعنصرية جاءت من الزعم بأفضلية عنصر ما من البشر على عنصر آخر ، والمقصود بالعنصر هنا الدم والتكوين البشري ، فالألماني بنظر الفلسفة النازية أرقى من سائر الشعوب لأن دماءه من أنقى الدماء ، وهكذا انتشرت فكرة العنصرية .
واليوم فإن المفاهيم المطروحة في العالم المعاصر مثل حقوق الإنسان ، والديمقراطية والحرية هي مفاهيم عنصرية على مستوى التطبيق الواقعي ، ولذلك فالعراق يُفتش عشرات المرات بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل بينما إسرائيل تفخر أمام العالم بترسانتها النووية ، وسلمان رشدي يدافع عنه الغرب بكل وسائله الإعلامية لأنه يهاجم الإسلام ، وروجيه غارودي يُحاكم وتُصادر كتبه لأنه قال كلمة لم يرض عنها اليهود ، والمرأة لها أن تلبس ما تشاء ولكن إذا كان ذلك باسم الإسلام وتحت مبدئه وشعاره فليُخلع الحجاب في أول دولة ترفع شعار الحرية والديمقراطية ، ولتداس هذه المفاهيم ما دامت تستند إلى مرجعية إسلامية ، ولذلك يسخر مراد هوفمان من حقوق الإنسان حين يقول : إن حقوق الإنسان والديمقراطية لها عيون زرقاء وشعر أشقر ، ويعني بذلك أنها تطبق فقط حين تكون لصالح الأوربيين .
نعم إن الإسلام يحارب هذا المفهوم العنصري ويطرح بدلاً منه مبدأ المساواة ويخاطب الناس جميعاً دون تمييز ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى [ سورة الحجرات آية : 13 ] والتكريم والتفضيل للبشر جميعاً دون تحيز لجنسٍ أو لون ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً [ سورة الإسراء آية : 70 ] .
والإسلام إذ يطرح مبدأ المساواة يطرح إلى جواره مبدأً آخر لإثارة التنافس على الفضائل بين الناس والأمم والشعوب ، وهذا المبدأ هو مبدأ الخيرية كنتم خير أمة أخرجت للناس [ سورة آل عمران آية : 110 ] ومبدأ الخيرية يختلف عن مبدأ العنصرية في أن هذا الثاني يقوم على أساس أفضلية العنصر والدم والتركيب الجبلي ، بينما في مبدأ الخيرية يكون المعيار هو العمل والعمران الحضاري ، والأداء الإنساني فاليهود كانوا أفضل العالمين حين عمروا الأرض بمنهج الخالق سبحانه وتعالى يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين [ سورة البقرة آية : 47 ] ولكنهم حين أقبلوا على أهوائهم أصبحوا من أراذل الناس وشرار الخلق ومسخوا قردة وخنازيراً فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين [ سورة الأعراف آية : 166 ] ، والأمة الإسلامية هي خير الأمم حين تعمر الأرض بمنهج الله عز وجل ، وتكون شر الأمم حين تتقاعس عن المهمة التي وكلها الله عز وجل إليها . وإن تتولو يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [ سورة محمد آية : 38 ] كذلكم على مستوى الأفراد [ لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح ] فكل عمل يسهم في بناء الحضارة ورقي الإنسانية فهو من العمل الصالح الذي يكون معياراً للتفاضل والخيرية .
الخلاصة :لقد عرفنا ورأينا أن معيار الأخلاق منذ أفلاطون إلى فرنسيس فوكومايا ، وصموئيل هنتغتون على مستوى التنظير الفلسفي ، ومنذ بركليز وهيرون 459 ق . م إلى نابليون وهتلر وستالين إلى بوش اليوم على مستوى الممارسة السياسية العملية كان دائماً هو : القوة أو المنفعة أو اللذة أو العنصرية ، فما هو أساس الأخلاق في الإسلام ؟ إنه باختصار وبكلمة واحدة طلب مرضاة الله عز وجل ، والثمار الأخلاقية التي ينتجها هذا الأساس ثماراً طيبة يمكن أن تحقق السعادة للبشر أفراداً ومجتمعات .
أخيراً لا بد من القول :
إن الإنسان بطبيعته ميال إلى العاجلة ، تتغلب عليه الأنانية ، فلما ظهر العلم الحديث والمكتشفات الحديثة ، والاختراعات العصرية ، سكِر الإنسان بالعلم ، وظن أنه إله هذا العالم، ووصل به الطغيان إلى درجة أنه تجرأ وأعلن موت الله سبحانه وتعالى – كما افترى نيتشة - واعتقد الإنسان أنه سيطر على الكون ، وامتلك ناصية الطبيعة . وبالأمس لما أرسل الباري عز وجل رسالة للإنسان المتغطرس المتجبر في إعصار آسيا الذي أودى بحياة ربع مليون إنسان في بضع لحظات ، هز هذا الإعصار ذلك الإنسان الثمل السكران بالعلم والمادة ، والمغرور بقوته ، ولا يزال هذا الإعصار يهزه ، ولعله يوقظه فيتذكر هويته تذكراً صحيحاً ، ويقرأ حقيقته قراءة صادقة .
إن الإنسان عبد شاء أم أبى ، وإنه بمقدار ما يحقق عبوديته لله عز وجل يكون سيداً مُسوَّداً ، وكائناً متفرداً ، وبمقدار ما يتشبع هذا الإنسان بعبوديته لخالقه عز وجل فإنه يرتفع بإنسانيته ، ويسمو بهويته . هو عبد مكرمُ مسوَّدٌ مُعزَّزٌ مُستخلَفٌ إن رضي بعبوديته اختياراً، وهو عبدٌ ذليلٌ ضعيفٌ مُهانٌ خائبٌ خاسرٌ إن أبى إلا أن تُفرض عليه العبودية اضطراراً … وما أجمل قول الإمام الشافعي هنا :
ومما زادني شرفاً وتِيها وكدت بأخمصي أطأ الثريّا
دخولي تحت قولك ياعبادي وأن صيّرت أحمد لي نبيّا
وصلى الله على سيدنا محمدٍ النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين .
الفلسفة والتطبيق
بسم الله الرحمن الرحيم
المحور التمهيدي من الأنسان نبدأ ، فالإنسان هو محور هذه الحياة ومنطلقها، وهو المخلوق المكرم ، ولقد كرمنا بني آدم [ سورة الإسراء آية : 70 ] والمفضل ، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً [ سورة الإسراء آية 70 ] والمسوَّد ، والمميز بالعقل ، وهو يمكن أن يرتفع بنفسه ليقارَن بالملأ الأعلى ، في مقعد صدق ، ويباهَى به الملائكة . كما يمكن أن ينحط بنفسه فيصبح أدنى من البهائم أولئك كالأنعام بل هم أضل [ سورة الأعراف آية 179 ] .
هذا الإنسان الخليفة إني جاعل في الأرض خليفة [ سورة البقرة آية 30 ] وهذا الإنسان المكرم متعه الباري عز وجل بحقوق لا يحق لأحد أن يعتدي عليها أو يهضمها ، وعليه واجبات لا بد أن يزاولها، وفي العصر الحديث يُرفع شعار حقوق الإنسان ، ويُغض النظر عن واجبات الإنسان ، ويصفق كثير من المسلمين لهذا الشعار - حقوق الإنسان- ، دون أن يسألوا أنفسهم من هو الإنسان صاحب هذه الحقوق ، وما هو مفهوم الإنسان عند من شرع لهذه الحقوق ؟ وما هو مفهوم الحق في منظور المشرعين لهذا المبدأ ، وما هي الخلفية الفكرية والفلسفية التي أنضجت هذه المبادئ ، وأثمرت هذا الشعار ؟
إن الإنسان المقصود في المبدأ العالمي المطروح في الهيئة الكبرى لهذا العالم ليس هو نفسه الإنسان المقصود في منظور إسلامنا وديننا ، الإنسان المقصود في الميثاق العالمي هو الإنسان المادي الذي لا يؤمن بألوهية ولا وحي ولا غيب ولا يوم أخروي يقف فيه الناس للجزاء .
إنه الإنسان الآلة الميكانيكية الخالية من أي بعد ميتافيزيقي أو روحاني ، إنه الإنسان الذي تقف حدود عقله في داخل هذا الكون المنظور المحسوس، وهو الإنسان الذي تقف حدود أمانيه ورغباته في داخل هذه المادة المتلاشية ، وهو الإنسان الذي لا يطمع في مستقبل آخر وآمال أخرى خارج هذه الأرض وخارج حدود هذا الكون .
بينما في إسلامنا فإن الإنسان هو المؤمن بالغيب وبالله الواحد الأحد ، وبالعالم الآخر ، ويعتبر حياته في هذه الدنيا هي الفصل الأول من المسرحية التي لن تتم إلا بإسدال الستار على عالم التكليف ، والانتقال إلى عالم الجزاء .
وفي الميثاق العالمي لحقوق الإنسان يٌعتبر الإنسان سيداً الكون ، ويده هي اليد الطولى فيه ، له أن يتصرف فيه كيف يشاء ، وبالحدود التي يوحي بها إليه عقله وضميره، ولذلك فهو يلوث البيئة ، ويستنسخ البشر ، ويجن البقر ، ويدفن النفايات النووية في البلدان الفقيرة ، ويلوث البحار ، ويعبث في الكون كيفما يشاء . بينما في الإسلام فإن الإنسان ليس سيداً للكون ، وإنما هو سيد في الكون ، والفارق بين الأمرين عظيم ، فكونه سيداً للكون يعني أنه هو المتصرف فيه ، والمالك له ، بينما حين يكون مسوداً في الكون فهو بمثابة الوالي المكلف بتصريف شؤون ولايته طبقاً لتعاليم مولاه ، ولا يحق له أن يصدر قراراته بنفسه وإنما ينفذ قرارات مولاه . [ راجع لأستاذنا العلامة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي محاضرته القيمة التي ألقاها في لندن بعنوان : أيهما أقدر على حماية حقوق الإنسان الله أم الإنسان ؟ . دار الفكر – دمشق ] .
أما المجتمعات الغربية ودعاة الحداثة فيقررون أن الإنسان ذاته هو الأولى برعاية هذه الحقوق ، وأما الإسلام فيؤكد أن رعاية هذه الحقوق هي لمن بيده الملك والأمر وهو الذي استخلف الإنسان على هذه الأرض ومتعه بالسيادة فيها . [ راجع للدكتور سعيد رمضان البوطي " الله أم الإنسان " ص 9 ] .
إن سيادة الإنسان وحقوقه في الإسلام هي خلعة إلاهية وتكريم رباني ، وأما في النظم الوضعية فهو حق ذاتي له ، استوجبه بذاته ولذاته ، ودون فضلٍ لأحدٍ عليه . وقد اقتضى ذلك في هذه النظم الحديثة أن الإنسان هو الذي يشرع لنفسه ولبني جنسه ، وأما في الإسلام فإن الإنسان مُستخلَف ومُكرَّم بخلعة التسويد ، وعليه أن يقابل ذلك بالخضوع والعبودية لمن بيده الملك والخلق والأمر . [ المرجع السابق ص 13 – 14 ] .
المحور الأساسي
أولاً - الفلسفة اليونانية :
إن الإنسان إذا لم يتشبع بالعبودية الخالصة لله عز وجل فإنه يمكن أن يجازف بأي تصرف ، ويبرر كل رغباته وأهوائه بالفلسفة أو بالعلم أو بالعقل أو حتى بالدين ..
وما يحصل اليوم في العالم المعاصر من ظلم وقهر وعدوان واستعمار لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يمارسه الإنسان المتعبد المؤمن ، فما هو إلا نزوات ، وأطماع ، وغرائز وأهواء انساق إليها الإنسان بسائق من الأنانية والطمع والجشع ، أو هو استكبار وتفرعن تملك الأنفس المتمردة ، وطغيان وجبروت استحوذ على الذوات المتجردة عن كينوناتها الإنسانية .
إن العالم الذي يوصف بأنه عالم متحضر اليوم هو الذي يمسك بزمام العالم على المستوى المادي المشاهد والملموس ، وهو الذي يتحكم بمصير الحياة البشرية كما يبدو ، وكما نلاحظ فإن العولمة التي تُطرح أو تُفرض ما هي إلا نتاج فلسفة نمت وترعرعت في ذلك الوسط من العالم وإذا تأملنا في تاريخ هذه الفلسفة فإننا سنجد أنها تقوم - في أغلبها -على مبدأ الأخلاق النفعية ، فليس هناك أي قيمة ذاتية للأخلاق وإنما تنبع قيمتها من مدى ما تحققه من أغراض على مستوى المادة أي الحياة المنظورة .
وسنحاول نحن هنا أن نُطل بشكلٍ موجزٍ على تاريخ الأسس الفلسفية للأخلاق في الغرب منذ أقدم عصورها إلى اليوم ، ثم ننظر في الانعكاسات الواقعية التي نتجت عن هذه الفلسفة ، ونبدأ بالسوفسطائيين الذين أقاموا الأخلاق على ثلاثة أسس هي :
1 – القوة : فالحق هو القوة ، والقانون من اختراع الضعفاء ليخدعوا به الأقوياء .
2 – اللذة : فالغاية الأساسية للأخلاق هي تحقيق أكبر قدر ممكن من اللذة .
3 – النسبية : فكل ما تراه أنت حقاً فهو كذلك بالنسبة لك ، وكذلك كل ما أراه أنا فهو كما أراه .
ثم جاء بعدهم أفلاطون فأقام الأخلاق على أربعة أسس :
1 – الحاجة : الحاجة هي أساس الدولة عند افلاطون وعند فلاسفة اليونان عموماً إذ أن الأخلاق ضرورية من أجل استقامة الدولة ، ولحاجة الناس بعضهم إلى بعض .
2 – القوة : ولذلك لا مكان في جمهورية أفلاطون للضعفاء والمعوقين والمشوهين وعلى الدولة أن تتخلص من هؤلاء لأنهم يشكلون عبئاً عليها .
4 – العنصرية : وهي مسألة لم يستطع فلاسفة اليونان التخلص منها ، ولذلك أجازوا لليوناني أن يسترق الأجناس الأخرى ومنعوه من استرقاق اليوناني ، وأجازوا للدولة اليونانية أن تبيد الدول الأجنبية ، بينما عليها أن تترفق بالمقاطعات اليونانية المتحاربة معها ، واليوناني ممزوج بالذهب بينما بقية الأجناس ممزوجة إما بالنحاس أو بالفضة .
وعند أرسطو بعض الشعوب أذكياء وتنقصها الشجاعة وبعضها شجعان وينقصها الذكاء بينما اليونان فقط هم الذين يجمعون بين الذكاء والشجاعة .
جاء بعد ذلك أبيقور فلم يكتف بأن اعتبر اللذة هي غاية الأخلاق وإنما اعتبر اللذة هي الخير المطلق .[ راجع د. عبد المقصود عبد الغني الأخلاق بين فلاسفة اليونان وحكماء الإسلام ص 119 وراجع أيضا أحمد أمين وزكي نجيب محمود " قصة الفلسفة اليونانية " ] .
ثم تنتهي رحلة الفلسفة اليونانية بالشكاك الذين أعلنوا عجز العقل عن الوصول إلى اليقين ، ولم تكن فلسفتهم هذه سفسطة كما كانت لدى أسلافهم السوفسطائيين ، وإنما أعلنوا أن الشك هو المعتقد النهائي ، بمعنى أن الشك لم يعد وسيلة ، أو طريقاً للوصول بعد ذلك إلى اليقين ، ولم يعد مرحلة مؤقتة ينتقل الإنسان بعدها إلى المبدأ الراجح ، وإنما أصبح الشك هو نهاية العقل ونهاية البحث والمعرفة . [ راجع : يوسف كرم " تاريخ الفلسفة اليونانية " ص 234-241 و " قصة الفلسفة اليونانية " لأحمد أمين وزكي نجيب محمود ص 307 ] .
ثانياً - الفلسفة الغربية الحديثة :
سوف نقفز قفزة مديدة نتجاوز فترة ألف سنة هي فترة العصر الوسيط والتي تعتبرها أوربا فترة ظلام في تاريخها لنطل الآن على عصر النهضة وعصر التنوير ، ثم عصر الحداثة ، وسنحاول أن نبحث عن مبتغانا في الأساس الذي تقوم عليه الأخلاق في هذه الفلسفة التي وسمت بأنها فلسفة النهضة، وفلسفة الأنوار وهي التي أنتجت بعد ذلك الحضارة الحديثة .
ونبدأ بأقدم وأعظم فلاسفة التنوير وهو مكيافللي 1469 – 1527 م :
1 - لقد وجه مكيافللي ضربة قوية للأخلاق المسيحية لأنها بنظره أوهنت من عزيمة الإنسان وأسلمت الدنيا لأهل الجرأة والعنف . ولذلك فهو يفضل الوثنية على المسيحية لأن الوثنية بنظره تمجد الصحة والجاه والقوة وتضفي هيبة على القادة والأبطال ، بينما المسيحية تحض على التواضع والضعف . وهكذا بعد ألف سنة من سيادة المسيحية التي رفعت شعاري المحبة والتواضع حين قال المسيح عليه السلام " من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر " يعود مكيافللي ليستعيد مبدأ السوفسطائيين والإغريق عموماً في تكريس أخلاق القوة .
2 - والأساس الثاني للأخلاق عند مكيافللي هو أن الغاية تبرر الوسيلة ، ولذلك يجب على الحاكم بنظره أن يكون ماكراً مكر الذئب ، ضارياُ ضراوة الأسد ، غادراً غدر الثعلب ، وأن يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير ، وأن يحسن استخدام مبدأ فرق تسد ، من أجل المحافظة على سلطانه ولكن عليه في نفس الوقت أن يكون ماهراً في إخفاء صفاته المرذولة ، بارعاً في الرياء وإظهار الصفات الحميدة ، بل وحتى التدين الشديد . [ راجع : كافين رايلي " الغرب والعالم " ص 13 وبرتراند رسل " تاريخ الفلسفة الغربية " ص 28 ] .
وأعتقد أن نظرة تأمل في السياسة العالمية اليوم سيجد أنها محكومة بهذه الأخلاق المكيافللية التي تزيد القوي قوة والضعيف ضعفاً " .
هذه الأخلاق الثعلبية المكيافللية اكتملت بعده بقرن من الزمان حين آزرتها ذئبية توماس هوبز 1588 – 1679 فإذا كان مكيافللي قد اجتر من الفلسفة اليونانية أخلاق القوة السوفسطائية وأضاف إليها أن القوة تبرر الوسيلة فإن توماس هوبز قرر أن يجتر من الفلسفة اليونانية الأخلاق الأبيقورية القائمة على مبدأ اللذة ، وأضاف إليها الأنانية ، وتناول ذلك تحت عنوان الذئبية الإنسانية ، فاعتبر الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان ، فإن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب ، فالأخلاق يجب أن تقوم على المادة والمنفعة وأخلاق السوق .
[ انظر : كافين رايلي " الغرب والعالم " ص 40 وروبرت أغروس " العلم في منظوره " ص 79 ، 80 ] .
إلا أن أبرز ممثل لأخلاق القوة في الفلسفة الغربية الحديثة هو فريدريك نيتشه 1844 – 1900م والذي اجتمع لديه كل ما كان من تراث فلسفي سابق يحض على القوة ويدعو إليها، بالإضافة إلى تأثره الشديد بنظرية داروين في الانتخاب الطبيعي ، والبقاء للأقوى ، فطرح نيتشه مبدأ الإنسان الأرقى أو الأقوى واستوحى ذلك من فلسفة زرادشت ، واستعان بعلم الأحياء الدارويني ، وأُعجب جداً ببسمارك ونابليون .
ويعتبر نيتشة صاحب الإعلان الشهير عن موت الله سبحانه وتعالى ، لأن وجود الله سبحانه وتعالى بنظره يحول دون تأكيد الإنسان لذاته ، ولذلك كان يقول ، لو كان هناك إله فكيف أطيق أن لا أكون إلهاً .
وسخر من الضعفاء والفقراء الذين يحسبون أنهم صالحين ، لأنهم لا يملكون مخالب لينشبوها في أعناق الآخرين ، وحارب كسلفه مكيافللي المسيحية لأنها تحض على أخلاق الرقيق ، وأخلاق العبيد كالحب والتسامح والغفران والتواضع ، وقال عن العهد الجديد بأنه إنجيل إنسان من نوع وضيع ، وكان مثله الأعلى في الحياة الإنسان المتحجر القلب ، المتجرد من العواطف ، الذي لا يعرف الشفقة أو الرحمة . وكان يرغب بالقضاء على الملايين من الضعفاء والفقراء والمعوقين ، لأنه لا يؤمن إلا بالبطل وبأخلاق القوة كما كان أفلاطون يحلم في جمهوريته المثالية
[ راجع : فؤاد زكريا " نيتشه " ص 130 – 40 – 99 – 101 – 102 وول ديورانت – قصة الفلسفة 24 – 526 و برتراندرسل – تاريخ الفلسفة الغربية – ص 401 ، 403 ، 398 ] .
وهكذا ففي نظر نيتشه حفنة من القوة خير من كيس من الحق . وإن الضعفاء الذين يُسمون عدم الأمانة خيانة وعار ، والقوة ظلم ، يعبرون بذلك عن عجزهم وضعفهم وهوانهم . وإن من يريد الحياة يجب أن يسمح لرغباته بالانطلاق إلى أبعد مدى أما الأمانة والعدالة والوفاء فليست من أخلاق الرجال الأبطال ، وإنما من أخلاق العبيد . [ انظر : ول ديورانت " قصة الفلسفة " : ص 25 ] .
إن القوة هي الفضيلة الأساسية بنظر نيتشه ، والضعف هو النقيصة الوحيدة ، وإن الحكم الفصل في جميع الخلافات ومصائر الأمور هو القوة لا العدالة ، وهكذا كان بسمارك يقول : " إنه لا محبة للغير بين الأمم ، وإن قضايا الدول الحديثة لا ينبغي أن تقررها أصوات الناخبين ولا بلاغة الخطب ، وإنما الدم والحديد . [ انظر : ديورانت " السابق " ص 506 ] .
لقد كان بسمارك إذاً رمزاً لهذه الأخلاق النيتشوية ، وإذا كان نيتشة هو فيلسوف القوة فإن بسمارك كان سياسيُّ القوة .
ومن هنا تم رفض المسيحية لدى هؤلاء ، لأنها كما هو معلن عنه ديانة الحب والسلام ، وهي بنظر فلاسفة وسياسييِّ القوة لا تصلح لتبرير القوة العسكرية ، والفصل الحديدي ، ولذا فإن بسمارك الذي فرض سيادته على النمسا ، وأخضع فرنسا في شهور قليلة ، ودمج الدويلات الألمانية في امبراطورية عظمى ، لم يكن يؤمن بأخلاق الحب والتسامح والتواضع ، ومن هنا تم استبدال إله المسيحية بالسوبرمان " أو الإنسان الأعلى " إله نيتشة الجديد . "" إن أقوى وأسمى إرادة للحياة لا تجد تعبيراً لها في الصراع البائس من أجل البقاء ولكن في إرادة الحرب ، وإرادة القوة وإرادة السيادة [ انظر : ديورانت " السابق " ص 511 ] . وهذا ما تحاول أمريكا اليوم أن تفرضه على العالم .
لقد ماتت جميع الآلهة بنظر نيتشه وأتاحت الفرصة للإله الجديد السوبرمان أي الإنسان الأعلى . ولقد كتب نيتشة كتابين أحدهما " ما فوق الخير والشر " والثاني " تاريخ تسلسل الأخلاق " وكان يرجو في هذين الكتابين تدمير الأخلاق القديمة القائمة على المحبة والصدق والتواضع لتحل محلها أخلاق الإنسان الأعلى ، الإنسان المتأله المتفرعن المتغطرس الذي لا يؤمن إلا بالقوة والبطش . ولذلك كان نيتشة شديد الإعجاب بنابليون الذي تسبب في قتل الملايين من الرجال " يا له من منظر رائع عندما قدم الملايين من الأوربيين أنفسهم لنابليون من أجل تحقيق أهدافه ، لقد ضحوا بحياتهم عن طيب خاطر له ، وراحوا يتغنون باسمه وهم يسقطون في ميدان المعركة " [ انظر : " ديورانت السابق " ص 535 ].
ويرد على المهاجمين لسياسة نابليون فيقول : " لم يكن نابليون جزاراً ، بل كان محسناً نافعاً ، لأنه قدم للناس موتاً عسكرياً شريفأ ، لأن الحرب أفضل علاج للشعوب التي دب فيها الضعف والترف والراحة والهوان والخسة " . [ السابق ص 545 ] .
لم يكن نيتشة فيلسوف القوة فقط بل كان فيلسوف العنصرية أيضاً ، فقد كان يؤسس للعنصرية الألمانية التي سيتبناها فيما بعد هتلر ويكوي العالم بنارها كما تكويه اليوم أمريكا . فرأى نيتشة أن أخلاق السادة هي أخلاق رومانية وأما أخلاق الضمير والشفقة فهي أخلاق سامية ، وأن الشعب الألماني يمتاز بطبيعة رزينة وعمق يبعث على الأمل في أن تنهض ألمانياً يوماً لتخليص العالم . إن ما يوجد في الشعب الألماني من فضائل الرجولة يفوق ما هو موجود في بقية الشعوب [ انظر : السابق ص 526 – 538 ] .
والآن ما الذي حصل لنيتشة الذي أسكرته العظمة وافترى حين صرخ بملء صوته في العالم مات الله "سبحانه وتعالى " لقد قال نيتشة ثملاً بأن المستقبل سوف يقسم الماضي إلى ما قبل نيتشة وما بعد نيتشة ولكن ما الذي حصل ؟
لقد كان جزاءاً عادلاً لمن يتمرد على كينونته وهويته ، ويرفض خلعة الباري عز وجل ، فها هو نيتشة يقضي الأحد عشر سنة الأخيرة من حياته مجنوناً ، وألعوبة بأيدي الصبيان ولقد كان يرفض الضعف فأصبح الآن ضعيفاً ، وكان يرفض الشفقة فأصبح مثاراً للشفقة . وكان يحلم بإبادة الضعفاء والمعوقين والمجانين وها هو اليوم ضعيفاً مجنوناً يعيش في المارستان ، فما أعظم حكمة الله عز وجل ، وما أعدل رحمته .
لقد رأينا فيما سبق أن أسس الأخلاق الرئيسة أربعة هي : القوة ، اللذة ، العنصرية ، والحاجة . ورأينا كيف سارت هذه الأسس مترافقة مع أصناف الفلسفة عند اليونان ، وفي أوربا . وها هو فرويد يسير شوطاً أبعد بفلسفة اللذة فيعتبر اللذة المقصودة هي اللذة الجنسية ، في حين كانت تشمل كل أنواع اللذة ، مثل لذة العظمة ، ولذة الواجب ، أما فرويد فقرر أن الموجه للسلوك الإنساني هو اللذة الجنسية ، وإذا علمنا أنه يعتبر الناس أشراراً بطباعهم فإننا ندرك السر في الإباحية العابثة التي تشيع اليوم في المجتمعات الغربية .
وأما فلسفة القوة والحاجة فإن الفلاسفة النفعيين أمثال وليم جيمس وجون استيوارت مل ، وجون ديوى قد تقدموا بها شوطاً آخر حين أضافوا إليهما فلسفة المنفعة" البراجماتزم "،وقالوا بأن المقياس الأول والأخير للأخلاق هو المصلحة والمنفعة الشخصية .
وأما فلسفة العنصرية فقد خصصها رينان أكثر ، وصبغها بصبغة علمية ، وألبسها مسوحاً أكاديمياً حين قرر أن الجنس السامي دون الجنس الآري في التفكير، وخصص أكثر حتى يستثني اليهود أبناء عمومتنا حين قرر أنه من العبث أن نتلمس لدى العرب آراء علمية أو دروساً فلسفية خصوصاً وأن الإسلام قد ضيق آفاقهم وانتزع من بينهم كل بحث نظري وأضحى الطفل المسلم يحتقر العلم والفلسفة . [انظر : د. إبراهيم مدكور " في الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيق " 1 /16] .
أما في العصر الحديث عصر الديمقراطية وحقوق الإنسان والعولمة فإن صموئيل هنتغتون وفرنسيس فوكوياما قد تقدما بفلسفة العنصرية والقوة إلى أبعد مدى . [ انظر : صموئيل هنتغتون : صدام الحضارات ، وفرنسيس فوكوياما : نهاية التاريخ ] .
هذه إذن هي أسس الأخلاق في الفلسفة الغربية على مر التاريخ وهي الأسس التي انتصرت وسادت : القوة – اللذة – المنفعة – العنصرية ، فهل كان لهذه الأسس صدى في الواقع العالمي بالأمس واليوم ؟
إن الأخلاق الأبيقورية والمكيافللية والنيتشوية هي التي جعلت بسمارك ونابليون لا يباليان بملايين الجنود الذين يموتون في سبيل تحقيق العظمة ، وفي سبيل نشوة القوة ، والشعور بالمجد . وإن أخلاق المنفعة والقوة والعنصرية هي التي دفعت الاستعمار في القرون الماضية إلى بلادنا لنهب خيراتها وثرواتها ، وجعلته يبنى أمجاده وثراءه ورفاهيته وحضارته على حساب فقرنا وامتصاص دمائنا .
وإن فلسفة القوة والمنفعة والعنصرية هي التي دفعت هتلر إلى إبادة ملايين البشر من اليهود والغجر والمعوقين والمسنين لأنهم عُدُّوا أفواهاً مستهلِكة غير منتِجة ، وعُدَّ ذلك إنجازاً عقلانياً لأنه حرر النازية من أية أعباء أخلاقية مثالية ، وتعاملت مع البشر بكفاءة بالغة وبمادية صارمة كما لو أنهم مادة استعمالية نسبية تخضع لقوانين الطبيعة والمادة . وكذلك فعل ستالين حين أباد ملايين من الفلاحين الكولاك في إطار دراسة علاقات الإنتاج ومعدلات النمو " لأن هؤلاء كانوا يعوقون عملية الإنتاج الحتمية " . [ انظر : د. عبد الوهاب المسيري " موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية " الجزء الأول] .
لقد كان المسؤولون في إدارات هتلر وستاليني يتحدثون عن الإبادات الجماعية ببرود شديد كما يتكلم رجل الأعمال عن ميزانيته ولم يكن في حديثهم أي أثر للعاطفة أو الشفقة يقول شبيير مهندس هتلر الأول : " إن تركيزي المرضي على الإنتاج وإحصاءات الناتج طمس عندي جميع المشاعر والاعتبارات الإنسانية " [ انظر : كافين رايلي " الغرب والعالم " 2 / 294 و د. عبد الوهاب المسيري " موسوعة اليهود واليهودية " 1 / 77 ] .
وفلسفة القوة هي التي دفعت أمريكا إلى إلقاء قنابلها النووية على هيروشيما وناغازاكي دون حساب لأي اعتبارات إنسانية ، لأن الرغبة في السيادة والسيطرة جعلت الاعتبارات الإنسانية مرجأة . وهي التي جعلتها تقتل في فيتنام ثلاثة ملايين فيتنامي . وهي التي جعلتها قبل ذاك تبيد شعباً بأكمله هم الهنود الحمر، لتحل محله في أرضه ووطنه . وهي التي دفعت بريطانيا لإبادة ثلاثة أرباع الشعب الأسترالي . ودفعت فرنسا لإبادات جماعية وإحراق مدن بأكملها ، وإبادة مليون ونصف إنسان في الجزائر .
هذه الفلسفة هي التي تسود اليوم في العالم ، ومن هنا فإن منظر الفلسطينيين حين نشاهدهم مكبلين مصفوفين على الجدران ، أو جاثين على الركب ، أو منبطحين على الأرض ، أو يُركلون بالأقدام ، وإن منظر الأشلاء المتناثرة ، والجثث المتفحمة ، وبقع الدم الحمراء ، هذا المنظر هو مصدر ألم لنا بل مصدر شقاء متواصل كل يوم ، ولكنه بالنسبة لشارون وبوش وكل سياسيي القوة مصدر لذة وشعور بالنشوة .
وكذلك فإن منظر السجناء في سجن أبي غريب وهم عراة لا حول لهم ولا قوة ، يحولهم العدو إلى أدوات بناء ، أدوات للتسلية واللعب والعبث ، فيصنعون منهم هرماً بشرياً عارياً للتسلية كما يتسلى أحدنا بأعواد الكبريت ، وإن منظر تلك المرأة التي تجردت من أنوثتها وهي تجر بحبل ذلك العراقي كما يجرون كلابهم ، ومنظرها كذلك وهي تعبث بأعضائه وهو عار ،كل ذلك مصدر ألم لكل إنسان فيه ذرة إنسانية ، ولكنه مصدر لذة وشعور بالمتعة والنشوة للإسرائيلي أو الأمريكي الذي تشبع بأخلاق القوة ، وأخلاق اللذة ، وأخلاق المنفعة ، وأخلاق العنصرية .
المحور الختامي
نطرح هنا عدة أسئلة :
السؤال الأول :
هل الإسلام ضد القوة ؟ وهو القائل سبحانه وتعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة [ سورة الأنفال آية 60 ] وهو القائل صلى الله عليه وسلم [ المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ] ؟
إن الإسلام هو دين القوة إن خير من استأجرت القوي الأمين [ سورة القصص آية 26 ] ، ولكن هناك فرق بين المنظور الإسلامي للقوة والمنظور الفلسفي الغربي ففي الإسلام القوة للردع ، لردع الشر والأشرار ، ولردع الباطل ، والقوة في الإسلام مكبوحة بالرحمة والإنصاف والعدل مكبوحة بالأمانة " القوي الأمين " .
أما في الفلسفة الغربية فكما رأينا القوة هي الفرعنة والغطرسة والتأله ، وهي ليست لخدمة الإنسانية ، وإنما لخدمة لون من ألوان الإنسان هو الإنسان الأبيض . إن القوة في الإسلام نوعان : قوة مادية عسكرية وقوة معنوية هي الأمانة ، والثانية هي الحاكمة على الأولى والموجهة لها ، القوة في الإسلام محصنة بداعية الخوف والخشية من الله عز وجل ، بينما القوة الغربية مدفوعة بدافع الغرور والأنانية والتمرد والتفرعن .
و السؤال الثاني هل الإسلام ضد اللذة ؟
أيضاً فالإسلام أباح للإنسان الاستمتاع بالطيبات من الحياة الدنيا قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق [ سورة الأعراف آية : 32 ] وأباح الاستمتاع المشروع بين الزوجين ولكنه ضبط اللذة بمعيار التوسط لا بمعيار البهيمية ، ولفت نظر الإنسان إلى أصناف سامية جداً من اللذة فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين [ سورة السجدة آية : 17 ] [ أعدت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ] إن الإسلام لا يحارب اللذة وإنما يهذبها ويخلصها من الانحراف والشذوذ .
والسؤال الثالث : هل الإسلام ضد المنفعة ؟
إن الإسلام يلبي حاجات الإنسان ومنافعه بواقعية [ ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ] وحيثما كانت المنفعة والمصلحة فثم شرع الله ، ولكنه يمزج هذه الدعوة بالإيثار والتفاني ، ويحذر من الأثرة والأنانية ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ سورة الحشر آية : 9 ] كما أن المصالح في الإسلام متراتبة بحسب الأهمية : الدين فالنفس فالعقل فالعرض فالمال ، كذلك فإن مصلحة المجموع مقدمة على المصلحة الفردية ، والمصلحة ليست قاصرة فقط على المنظور الدنيوي البحت بل إذا كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا فإن والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخيرٌ أملاً [ سورة الكهف آية : 46 ] . الأصل في الدعوة الإسلامية أنها دعوة إلى الآخرة وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولكن في الطريق يحتاج الإنسان إلى البلاغ الذي يعينه في الوصول إلى الغاية ولا تنس نصيبك من الدنيا [ سورة القصص آية : 77 ] .
والسؤال الرابع : هل الإسلام ضد العنصرية ؟
نعم الإسلام ضد العنصرية مصطلحاً ومفهوماً ، لأن المصطلح نشأ في ظروف القتل والإبادة للآخرين ، فالعنصرية جاءت من الزعم بأفضلية عنصر ما من البشر على عنصر آخر ، والمقصود بالعنصر هنا الدم والتكوين البشري ، فالألماني بنظر الفلسفة النازية أرقى من سائر الشعوب لأن دماءه من أنقى الدماء ، وهكذا انتشرت فكرة العنصرية .
واليوم فإن المفاهيم المطروحة في العالم المعاصر مثل حقوق الإنسان ، والديمقراطية والحرية هي مفاهيم عنصرية على مستوى التطبيق الواقعي ، ولذلك فالعراق يُفتش عشرات المرات بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل بينما إسرائيل تفخر أمام العالم بترسانتها النووية ، وسلمان رشدي يدافع عنه الغرب بكل وسائله الإعلامية لأنه يهاجم الإسلام ، وروجيه غارودي يُحاكم وتُصادر كتبه لأنه قال كلمة لم يرض عنها اليهود ، والمرأة لها أن تلبس ما تشاء ولكن إذا كان ذلك باسم الإسلام وتحت مبدئه وشعاره فليُخلع الحجاب في أول دولة ترفع شعار الحرية والديمقراطية ، ولتداس هذه المفاهيم ما دامت تستند إلى مرجعية إسلامية ، ولذلك يسخر مراد هوفمان من حقوق الإنسان حين يقول : إن حقوق الإنسان والديمقراطية لها عيون زرقاء وشعر أشقر ، ويعني بذلك أنها تطبق فقط حين تكون لصالح الأوربيين .
نعم إن الإسلام يحارب هذا المفهوم العنصري ويطرح بدلاً منه مبدأ المساواة ويخاطب الناس جميعاً دون تمييز ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى [ سورة الحجرات آية : 13 ] والتكريم والتفضيل للبشر جميعاً دون تحيز لجنسٍ أو لون ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلاً [ سورة الإسراء آية : 70 ] .
والإسلام إذ يطرح مبدأ المساواة يطرح إلى جواره مبدأً آخر لإثارة التنافس على الفضائل بين الناس والأمم والشعوب ، وهذا المبدأ هو مبدأ الخيرية كنتم خير أمة أخرجت للناس [ سورة آل عمران آية : 110 ] ومبدأ الخيرية يختلف عن مبدأ العنصرية في أن هذا الثاني يقوم على أساس أفضلية العنصر والدم والتركيب الجبلي ، بينما في مبدأ الخيرية يكون المعيار هو العمل والعمران الحضاري ، والأداء الإنساني فاليهود كانوا أفضل العالمين حين عمروا الأرض بمنهج الخالق سبحانه وتعالى يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين [ سورة البقرة آية : 47 ] ولكنهم حين أقبلوا على أهوائهم أصبحوا من أراذل الناس وشرار الخلق ومسخوا قردة وخنازيراً فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين [ سورة الأعراف آية : 166 ] ، والأمة الإسلامية هي خير الأمم حين تعمر الأرض بمنهج الله عز وجل ، وتكون شر الأمم حين تتقاعس عن المهمة التي وكلها الله عز وجل إليها . وإن تتولو يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [ سورة محمد آية : 38 ] كذلكم على مستوى الأفراد [ لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح ] فكل عمل يسهم في بناء الحضارة ورقي الإنسانية فهو من العمل الصالح الذي يكون معياراً للتفاضل والخيرية .
الخلاصة :لقد عرفنا ورأينا أن معيار الأخلاق منذ أفلاطون إلى فرنسيس فوكومايا ، وصموئيل هنتغتون على مستوى التنظير الفلسفي ، ومنذ بركليز وهيرون 459 ق . م إلى نابليون وهتلر وستالين إلى بوش اليوم على مستوى الممارسة السياسية العملية كان دائماً هو : القوة أو المنفعة أو اللذة أو العنصرية ، فما هو أساس الأخلاق في الإسلام ؟ إنه باختصار وبكلمة واحدة طلب مرضاة الله عز وجل ، والثمار الأخلاقية التي ينتجها هذا الأساس ثماراً طيبة يمكن أن تحقق السعادة للبشر أفراداً ومجتمعات .
أخيراً لا بد من القول :
إن الإنسان بطبيعته ميال إلى العاجلة ، تتغلب عليه الأنانية ، فلما ظهر العلم الحديث والمكتشفات الحديثة ، والاختراعات العصرية ، سكِر الإنسان بالعلم ، وظن أنه إله هذا العالم، ووصل به الطغيان إلى درجة أنه تجرأ وأعلن موت الله سبحانه وتعالى – كما افترى نيتشة - واعتقد الإنسان أنه سيطر على الكون ، وامتلك ناصية الطبيعة . وبالأمس لما أرسل الباري عز وجل رسالة للإنسان المتغطرس المتجبر في إعصار آسيا الذي أودى بحياة ربع مليون إنسان في بضع لحظات ، هز هذا الإعصار ذلك الإنسان الثمل السكران بالعلم والمادة ، والمغرور بقوته ، ولا يزال هذا الإعصار يهزه ، ولعله يوقظه فيتذكر هويته تذكراً صحيحاً ، ويقرأ حقيقته قراءة صادقة .
إن الإنسان عبد شاء أم أبى ، وإنه بمقدار ما يحقق عبوديته لله عز وجل يكون سيداً مُسوَّداً ، وكائناً متفرداً ، وبمقدار ما يتشبع هذا الإنسان بعبوديته لخالقه عز وجل فإنه يرتفع بإنسانيته ، ويسمو بهويته . هو عبد مكرمُ مسوَّدٌ مُعزَّزٌ مُستخلَفٌ إن رضي بعبوديته اختياراً، وهو عبدٌ ذليلٌ ضعيفٌ مُهانٌ خائبٌ خاسرٌ إن أبى إلا أن تُفرض عليه العبودية اضطراراً … وما أجمل قول الإمام الشافعي هنا :
ومما زادني شرفاً وتِيها وكدت بأخمصي أطأ الثريّا
دخولي تحت قولك ياعبادي وأن صيّرت أحمد لي نبيّا
وصلى الله على سيدنا محمدٍ النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين .