الأسمر
04-22-2006, 10:09 PM
على هامش التفسير المادي للتاريخ الإسلامي
للدكتور عدنان زرزور
إذا أردنا أن نضع عنواناص أكثر دقة وتواضعاً لبعض الملاحظات التي نود إيرادها في هذه المقالة الموجزة لاستبدلنا كلمة ((المادي)) بـ ((الاقتصادي)) – مع الإشارة إلى أن المقصود بالتاريخ الإسلامي المد الإسلامي الأول – لأن المادية الجدلية (أو الديالكتيكية) التي يراد لها أن تصبح ((دين)) العالم الثالث , والعالم الإسلامي منه على وجه الخصوص , ((أسلوب)) يصيب الكون والعقل , وينسحب في بعض جوانبه الرئيسية على التاريخ ؛ يوقل ((ماركس)) في مقدمته للجزء الأول من كتاب ((رأس المال)) موضحاً الفرق بين جدليته وجدلية ((هيجل)) الذي بدأ رحلته من ((الأنا)) أو الذات , : (( إن أسلوبي الديالكتيكي ليس مجرد أسلوب مخالف لأسلوب هيجل , وإنما هو عكسه تماماً , لأن عملية التفكير عند هيجل هي خالقة العالم الحقيقي !! والعالم الحقيقي ليس إلا الشكل الخارجي الذي تتخذه الفكرة , أما أنا فأرى أن الفكرة ما هي إلا العالم المادي بعد أن يعكسه ذهن الإنسان ويصوغه في شكل أفكار )) .
ولتفنيد هذا الكلام مناسبة أخرى , ولكن يكفي أن يقال هنا : أنا ماركس وأتباعه يؤمنون بأن ((المادة)) تخلق ((أفكاراً)) وأن ((العقل)) انعكاس من انعكاسات المادة , وأن ((الكون)) مادة ولا شيء غير المادة ... وأن التاريخ الإنساني – لهذا كله – ليس أكثر من تاريخ صراع على الطعام والشراب !!
ولا يعنينا هنا – كما أشرت – تفنيد هذه الأخطاء , ولا بيان دوافعها النفسية أو خلفياتها الدينية عند ((ماركس)) ولا بيان الظروف التاريخية التي كانت تحيط بهذا الإنسان في ذلك العصر حتى انتهى إلى ما انتهى إليه , ولكن يعنينا هنا الإشارة إلى أمرين جوهريين : الأول : أن الماركسية بفلسفتها المادية التي تصيب أصل الكون , وتفسيرها الاقتصادي الذي يصيب تاريخ الإنسان زي من أزياء الفكر الأوربي لا الإنساني وأن تعميم أمرها على الإنسان جميعاً واحد من أوهام الأوربيين عموماً في وضع أنفسهم موضع العالم جغرافياً وتاريخياً وحضارياً !! فهم يتحدثون عن الحضارة الأوربية حين يتحدثون عن ((الحضارة)) وشرقنا ((أوسط)) بالنسبة إليهم لأنهم رة الأرض ومركزها الثابت – أو التحرك بثبات !! – وتاريخ ((العصور الوسطى)) بالنسبة إليهم .. الخ هذا الشريط الذي تطالعنا حلقاته في كل يوم . ولهذا – وهذا هو الأمر الثاني – الذي نود الإشارة إليه في هذه العجالة – فإننا ندعو إلى اجتياز عقبتين أو حلقتين عند دراة آراء القوم أو الإفادة من علومهم و ((ثقافتهم)) : الأولى : التحقق من مدى صحة هذه الآثار بالنسبة إلى واقعهم وتاريخهم . والثانية عدم جواز قياس حالنا على حالهم وتاريخنا على تاريخهم , هذا فضلاً عن الجريمة النكراء – وهذا استطراد لا نملك دفعه الآن – المتمثل في دراسة تاريخنا بأقلامهم من وجهة نظرهم , كما في حروب ((المسألة الشرقية)) والرجل المريض !! وحروب البلقان , وغير ذلك .
هذه بعض المنطلقات التي لا بد منها في نظرنا , أو لا بد من الإشارة إليها بين يدي الملاحظات التالية حول التفسير الاقتصادي لتاريخنا :
1- توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 632م وخاض الجيش الإسلامي معركته المشهورة في السهوب الفرنسية – موقعة بواتيه أو بلاط الشهداء – عام 732 , أي بعد مائة عام من وفاة النبي عليه السلام . وكانت تلك المعركة خاتمة مطاف موقوتة انتهت عندها تلك الوثبة الأولى في التاريخ الإسلامي .. والتي تلاحقت فيها معارك فاصلة في تاريخ الإسلام وتاريخ الإنسان , مثل القادسية ويرموك وغيرها من المعارك الكبرى . وإذا رجعنا إلى إحصاء عدد الجنود المسلمين في جميع هذه المعارك لم نجده يزيد على مائة ألف مقاتل ! ... مائة ألف يفتحون في مائة عام هذه الدنيا الواسعة التي استقر الإسلام في معظم أقطارها ... ولا نتحدث هنا عن ((غلبة الإسلام)) لسائر المذاهب والعقائد – فلهذا الموضوع دراسته خاصة – ولكن نتحدث عن ((الدوافع)) والمنطلقات التي كانت وراء هذا المد الذي لم يشهد التاريخ له مثيلاً من قبل . أذكر هنا أنن كنت أتلقى بشيء من ((الموضوعية)) الزائدة ما كان يلقى علينا من أسباب الفتوح الإسلامية , كالأسباب البشرية والاقتصادية والجغرافية ... والسبب الديني – كما يدعونه – الذي كان كالشرارة التي فجرت تلك العوامل والأسباب والطاقات ... وأقول في نفسي : في ذلك شيء من ((الموضوعية)) والحق والصواب . ثم تعلمت – يشهد الله – أن هذا ضرب من تمييع الحق ودس الم في الدسم , وأنه من فارغ القول الذي لا يتوصل منه إلا إلىالباطل .. وأن هذا لم يحمل عليه طيلسان العلماء الذين يعددون للطالب يحفظ بمقدار ما يحمل عليه من حقد دفين على هذه الوثبة التي ملَّكت الإسلام هذه المنطقة ((الوسط)) من العالم , واندحرت معها أمام المد الإسلامي دول وممالك ...
2- ونقف هن لنسأل أين هو العامل الاقتصادي في هذا الانسياح وهذه الحركة الكبرى في التاريخ ؟ لو خرج القوم للطعام والمتاع فإن غوطة دمشق وحدها - في ذلك اليوم – تطعم ما لا يقل عن مليون ! ناهيك عن سواد العراق ونيل مصر وكنوز الشمال الإفريقي وجنان الأندلس .. فلو خرج هؤلاء الفاتحون العظام ليأكلوا لاسترخوا في دمشق وما حولها واطمأنوا إلى المغنم الذي خرجو يطلبون .
بل إن التاريخ يحدثنا بعكس ما ذهب إليه أصحاب البطون ... إنه يحدثنا وينادي علينا من خلال تلك الوقائع نفسها , قبل أن نصل إلى ما وصلنا إليه من التحليل والتركيب .. جاء في فتوح البلدان أن ((رستماً)) كلم المغيرة بن شعبة حين وجهه إليه سعد قائد الجيش الإسلامي .. بكلام كثير , ثم قال له : قد علمت أن أنه لم يحملكم على ما أنتم فيه إلا ضيق المعاش وشدة الجهد ! ونحن نعطيكم ما تتشبعون به , ونصرفكم ببعض ما تحبون . فقال له المغيرة : إن الله بعث إلينا نبيه صلى الله عليه وسلم فسعدنا بإجابته واتباعه , وأمرنا بجهاد من خالف ديننا حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون , ونحن ندعوك إلى عبادة الله وحده , والإيمان بنبيه صلى الله عليه وسلم , فإن فعلت وإلا فالسيف بيننا وبينكم ....
وكأني بأرباب التفسير الاقتصادي للفتوحات الإسلامية يرددون ما قاله الجاهلي القديم ((رستم)) والذي كذبه وازدراه جنود الفتح أنفسهم على لسان المغيرة .. وربعي بن عامر .. وعلى لسان محمد وطلحة وزياد وغيرهم , وبحسبنا كلمة ربعي التي ذهبت في التاريخ , وكذلك قول أولئك الثلاثة الذين قالوا للفرس فيما يرويه الطبري :
((... ثم أتيناكم بأمر ربنا , نجاهد في سبيله , وننفذ لامره , وننجز موعوده , وندعوكم إلى الإسلام وحكمه , فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا وخلفنا فيكم كتاب الله , وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا بالجزى , فإن فعلتمم وإلا فإن الله قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم , فاقبلوا نصيحتنا , فوالله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم , ولقتالكم بعد أحب إلينا من صلحكم )) .
ونحن نقف عند هذه الأقوال ونشير إليها لا لنفند قولاص بقول , ولكن لأنها – كما أشرت – نص من أصحاب القضية أنفسهم لا يحتمل التذليل والتأويل !! وإلا – وعلى منهج ابن خلدون رحمه الله – فإن المعهود من حال المسلمين في ذلك الحين أنهم لا يخرجون إلا لمثل المعاني التي رباهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم , والتي ضحوا من أجلها بأموالهم وبأنفسهم كذلك . فمن أراد أن يصدق نصاً من النصوص أو واقعة من الوقائع , فلا يقبل من هذا جميعه ما يتعارض مع حالة الناس والمجتمع في ذلك الحين ... ولهذا فإن بوسعنا أن نملي على التاريخ – مرتاحين بحمد الله – تكذيبه لأغراض السلب والنهب في غزوات الإسلام وحروب الصدر الأول على الأقل .
3- ولهذا فإن من العبث والتشويه وقلة الاكتراث بعقول الناس تفسير التاريخ الإسلامي – بعامة – بأنه كان صراع بين اليسار واليمين !! ويح هؤلاء الدجاجلة : عثمان بن عفان الذي يجهز جيش العسرة , ويوزع تجارته التي أتته من الشام لفقراء المدينة – في موقف من أشد مواقف الأدب والتاريخ رهبة وهيبة – يقال أنه يمثل اليمين المترف ؟! مرة أخرى : دعوا للأوربيين قيمهم وموازينهم ولا تخبطوا من تاريخ الإسلام لحاجة من النفس , تدعلا مرة بالجهل , وأخرى باللؤم والحقد ... رضي الله عن أبي عبد الله الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم ... بمعنى أنه وقد أبصر رشده وفعل ما فعل , لن يقدم على ما يضره بإطلاق !!
4- وإذا أردنا أن نذهب أبعد من هذا في الحديث عن العامل الاقتصادي لقلنا إنه كان السبب في وقف حركة المد الإسلامي , ولم يكن هو الباعث عليها ... فمعركة بلاط الشهداء التي أشرنا إليها هزم فيها المسلمون , كما تقول الرواية التاريخية الموثوقة , لأنهم اشتغلوا بحماية الغنائم عن الهدف الأساسي من الفتح فقد كان الجيش الإسلامي ((يغص بالسبي والأسرى والغنائم وثروات فرنسا)) حين استطاع ((الفرنج)) بقيادة شارل مارتل أن يفتحوا ثغرة في الجيش الإسلامي في اليوم التاسع من القتال الضاري الرهيب اندفعوا منها صوب معسكر الغنائم , فارتفعت صيحة في الميدان أن المعسكر قد سقط في أيدي الأعداء !! فتركت قوة كبيرة من فرسان المسلمين المعركة وتقهقرت للدفاع عن الغنائم وتخليصها من يد الأعداء . ثم كانت الهزيمة المرة التي وقفت دون دخول القارة الأوربية في الإسلام ... فضلاً عن حمايته شبه جزيرة ايبرية !!
5- و أخيراً فإن الاقتصاد عامل من عوامل التاريخ – بصفة عامة – يختلف تقديره بين أمر وآخر , وبين واقعة وأخرى , كما تنضاف إليه سائر العوامل الأخرى التي تأتي في مقدمتها العقيدة والدين . وإن محاولة قصر عوامل التاريخ الكثيرة على الاقتصاد – الذي هو عامل وليس العامل الأول والأخير – لا ينطبق على تاريخ الإنسان الأوربي نفسه , فضلاً عن انطباقه على التاريخ الإسلامي , وقد تعمل هذه العوامل مجتمعة أو متفرقة , ولكننا لم نجد فيما بين أيدينا , وفيما يعلم الدارس من أحوال المجتمع الإسلامي القديم ما يحمله على التعسف في الفهم وادخال التاريخ الإسلامي في قمقم الاقتصاد والمال , بل إن الذي نجده هو العكس تماماً , كما أننا نلاحظ اليوم , ومن وراء الظواهر الكثيرة الخادعة , أن حروب الدول ومنازعات الجماعات داخل الأمم والشعوب يرجع إلى الدين والاعتقاد , ولو بمفهوم حضاري شامل أو تاريخي بعيد .. وما حروب ((المسألة الشرقية)) وقضية ((الشرق الأوسط)) منا ببعيد !
تُرى أليس من حقنا أن نلاحظ أن الخط البياني الذي يشير إلى العوامل التي تلتقي عليها الأمم , وتقاتل دونها الشعوب , ينطلق من ((الأشياء)) نحو ((الأفكار)) ومن المصالح نحو ((المبادئ)) وأن المصالح هي باب من ((الوسائل)) وليست باب من الغايات ... وهذا يعلمه – يقيناً – أولئك المشوهون لتاريخ الإسلام , لأنهم يريدون للمجتمع الإسلامي المعاصر أن ينخلع من الإيمان بنبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – ليدخلوه في الإيمان بـ(( نبوة)) ماركس ولينين !! . ((وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)) .
للدكتور عدنان زرزور
إذا أردنا أن نضع عنواناص أكثر دقة وتواضعاً لبعض الملاحظات التي نود إيرادها في هذه المقالة الموجزة لاستبدلنا كلمة ((المادي)) بـ ((الاقتصادي)) – مع الإشارة إلى أن المقصود بالتاريخ الإسلامي المد الإسلامي الأول – لأن المادية الجدلية (أو الديالكتيكية) التي يراد لها أن تصبح ((دين)) العالم الثالث , والعالم الإسلامي منه على وجه الخصوص , ((أسلوب)) يصيب الكون والعقل , وينسحب في بعض جوانبه الرئيسية على التاريخ ؛ يوقل ((ماركس)) في مقدمته للجزء الأول من كتاب ((رأس المال)) موضحاً الفرق بين جدليته وجدلية ((هيجل)) الذي بدأ رحلته من ((الأنا)) أو الذات , : (( إن أسلوبي الديالكتيكي ليس مجرد أسلوب مخالف لأسلوب هيجل , وإنما هو عكسه تماماً , لأن عملية التفكير عند هيجل هي خالقة العالم الحقيقي !! والعالم الحقيقي ليس إلا الشكل الخارجي الذي تتخذه الفكرة , أما أنا فأرى أن الفكرة ما هي إلا العالم المادي بعد أن يعكسه ذهن الإنسان ويصوغه في شكل أفكار )) .
ولتفنيد هذا الكلام مناسبة أخرى , ولكن يكفي أن يقال هنا : أنا ماركس وأتباعه يؤمنون بأن ((المادة)) تخلق ((أفكاراً)) وأن ((العقل)) انعكاس من انعكاسات المادة , وأن ((الكون)) مادة ولا شيء غير المادة ... وأن التاريخ الإنساني – لهذا كله – ليس أكثر من تاريخ صراع على الطعام والشراب !!
ولا يعنينا هنا – كما أشرت – تفنيد هذه الأخطاء , ولا بيان دوافعها النفسية أو خلفياتها الدينية عند ((ماركس)) ولا بيان الظروف التاريخية التي كانت تحيط بهذا الإنسان في ذلك العصر حتى انتهى إلى ما انتهى إليه , ولكن يعنينا هنا الإشارة إلى أمرين جوهريين : الأول : أن الماركسية بفلسفتها المادية التي تصيب أصل الكون , وتفسيرها الاقتصادي الذي يصيب تاريخ الإنسان زي من أزياء الفكر الأوربي لا الإنساني وأن تعميم أمرها على الإنسان جميعاً واحد من أوهام الأوربيين عموماً في وضع أنفسهم موضع العالم جغرافياً وتاريخياً وحضارياً !! فهم يتحدثون عن الحضارة الأوربية حين يتحدثون عن ((الحضارة)) وشرقنا ((أوسط)) بالنسبة إليهم لأنهم رة الأرض ومركزها الثابت – أو التحرك بثبات !! – وتاريخ ((العصور الوسطى)) بالنسبة إليهم .. الخ هذا الشريط الذي تطالعنا حلقاته في كل يوم . ولهذا – وهذا هو الأمر الثاني – الذي نود الإشارة إليه في هذه العجالة – فإننا ندعو إلى اجتياز عقبتين أو حلقتين عند دراة آراء القوم أو الإفادة من علومهم و ((ثقافتهم)) : الأولى : التحقق من مدى صحة هذه الآثار بالنسبة إلى واقعهم وتاريخهم . والثانية عدم جواز قياس حالنا على حالهم وتاريخنا على تاريخهم , هذا فضلاً عن الجريمة النكراء – وهذا استطراد لا نملك دفعه الآن – المتمثل في دراسة تاريخنا بأقلامهم من وجهة نظرهم , كما في حروب ((المسألة الشرقية)) والرجل المريض !! وحروب البلقان , وغير ذلك .
هذه بعض المنطلقات التي لا بد منها في نظرنا , أو لا بد من الإشارة إليها بين يدي الملاحظات التالية حول التفسير الاقتصادي لتاريخنا :
1- توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 632م وخاض الجيش الإسلامي معركته المشهورة في السهوب الفرنسية – موقعة بواتيه أو بلاط الشهداء – عام 732 , أي بعد مائة عام من وفاة النبي عليه السلام . وكانت تلك المعركة خاتمة مطاف موقوتة انتهت عندها تلك الوثبة الأولى في التاريخ الإسلامي .. والتي تلاحقت فيها معارك فاصلة في تاريخ الإسلام وتاريخ الإنسان , مثل القادسية ويرموك وغيرها من المعارك الكبرى . وإذا رجعنا إلى إحصاء عدد الجنود المسلمين في جميع هذه المعارك لم نجده يزيد على مائة ألف مقاتل ! ... مائة ألف يفتحون في مائة عام هذه الدنيا الواسعة التي استقر الإسلام في معظم أقطارها ... ولا نتحدث هنا عن ((غلبة الإسلام)) لسائر المذاهب والعقائد – فلهذا الموضوع دراسته خاصة – ولكن نتحدث عن ((الدوافع)) والمنطلقات التي كانت وراء هذا المد الذي لم يشهد التاريخ له مثيلاً من قبل . أذكر هنا أنن كنت أتلقى بشيء من ((الموضوعية)) الزائدة ما كان يلقى علينا من أسباب الفتوح الإسلامية , كالأسباب البشرية والاقتصادية والجغرافية ... والسبب الديني – كما يدعونه – الذي كان كالشرارة التي فجرت تلك العوامل والأسباب والطاقات ... وأقول في نفسي : في ذلك شيء من ((الموضوعية)) والحق والصواب . ثم تعلمت – يشهد الله – أن هذا ضرب من تمييع الحق ودس الم في الدسم , وأنه من فارغ القول الذي لا يتوصل منه إلا إلىالباطل .. وأن هذا لم يحمل عليه طيلسان العلماء الذين يعددون للطالب يحفظ بمقدار ما يحمل عليه من حقد دفين على هذه الوثبة التي ملَّكت الإسلام هذه المنطقة ((الوسط)) من العالم , واندحرت معها أمام المد الإسلامي دول وممالك ...
2- ونقف هن لنسأل أين هو العامل الاقتصادي في هذا الانسياح وهذه الحركة الكبرى في التاريخ ؟ لو خرج القوم للطعام والمتاع فإن غوطة دمشق وحدها - في ذلك اليوم – تطعم ما لا يقل عن مليون ! ناهيك عن سواد العراق ونيل مصر وكنوز الشمال الإفريقي وجنان الأندلس .. فلو خرج هؤلاء الفاتحون العظام ليأكلوا لاسترخوا في دمشق وما حولها واطمأنوا إلى المغنم الذي خرجو يطلبون .
بل إن التاريخ يحدثنا بعكس ما ذهب إليه أصحاب البطون ... إنه يحدثنا وينادي علينا من خلال تلك الوقائع نفسها , قبل أن نصل إلى ما وصلنا إليه من التحليل والتركيب .. جاء في فتوح البلدان أن ((رستماً)) كلم المغيرة بن شعبة حين وجهه إليه سعد قائد الجيش الإسلامي .. بكلام كثير , ثم قال له : قد علمت أن أنه لم يحملكم على ما أنتم فيه إلا ضيق المعاش وشدة الجهد ! ونحن نعطيكم ما تتشبعون به , ونصرفكم ببعض ما تحبون . فقال له المغيرة : إن الله بعث إلينا نبيه صلى الله عليه وسلم فسعدنا بإجابته واتباعه , وأمرنا بجهاد من خالف ديننا حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون , ونحن ندعوك إلى عبادة الله وحده , والإيمان بنبيه صلى الله عليه وسلم , فإن فعلت وإلا فالسيف بيننا وبينكم ....
وكأني بأرباب التفسير الاقتصادي للفتوحات الإسلامية يرددون ما قاله الجاهلي القديم ((رستم)) والذي كذبه وازدراه جنود الفتح أنفسهم على لسان المغيرة .. وربعي بن عامر .. وعلى لسان محمد وطلحة وزياد وغيرهم , وبحسبنا كلمة ربعي التي ذهبت في التاريخ , وكذلك قول أولئك الثلاثة الذين قالوا للفرس فيما يرويه الطبري :
((... ثم أتيناكم بأمر ربنا , نجاهد في سبيله , وننفذ لامره , وننجز موعوده , وندعوكم إلى الإسلام وحكمه , فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا وخلفنا فيكم كتاب الله , وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا بالجزى , فإن فعلتمم وإلا فإن الله قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم , فاقبلوا نصيحتنا , فوالله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم , ولقتالكم بعد أحب إلينا من صلحكم )) .
ونحن نقف عند هذه الأقوال ونشير إليها لا لنفند قولاص بقول , ولكن لأنها – كما أشرت – نص من أصحاب القضية أنفسهم لا يحتمل التذليل والتأويل !! وإلا – وعلى منهج ابن خلدون رحمه الله – فإن المعهود من حال المسلمين في ذلك الحين أنهم لا يخرجون إلا لمثل المعاني التي رباهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم , والتي ضحوا من أجلها بأموالهم وبأنفسهم كذلك . فمن أراد أن يصدق نصاً من النصوص أو واقعة من الوقائع , فلا يقبل من هذا جميعه ما يتعارض مع حالة الناس والمجتمع في ذلك الحين ... ولهذا فإن بوسعنا أن نملي على التاريخ – مرتاحين بحمد الله – تكذيبه لأغراض السلب والنهب في غزوات الإسلام وحروب الصدر الأول على الأقل .
3- ولهذا فإن من العبث والتشويه وقلة الاكتراث بعقول الناس تفسير التاريخ الإسلامي – بعامة – بأنه كان صراع بين اليسار واليمين !! ويح هؤلاء الدجاجلة : عثمان بن عفان الذي يجهز جيش العسرة , ويوزع تجارته التي أتته من الشام لفقراء المدينة – في موقف من أشد مواقف الأدب والتاريخ رهبة وهيبة – يقال أنه يمثل اليمين المترف ؟! مرة أخرى : دعوا للأوربيين قيمهم وموازينهم ولا تخبطوا من تاريخ الإسلام لحاجة من النفس , تدعلا مرة بالجهل , وأخرى باللؤم والحقد ... رضي الله عن أبي عبد الله الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم ... بمعنى أنه وقد أبصر رشده وفعل ما فعل , لن يقدم على ما يضره بإطلاق !!
4- وإذا أردنا أن نذهب أبعد من هذا في الحديث عن العامل الاقتصادي لقلنا إنه كان السبب في وقف حركة المد الإسلامي , ولم يكن هو الباعث عليها ... فمعركة بلاط الشهداء التي أشرنا إليها هزم فيها المسلمون , كما تقول الرواية التاريخية الموثوقة , لأنهم اشتغلوا بحماية الغنائم عن الهدف الأساسي من الفتح فقد كان الجيش الإسلامي ((يغص بالسبي والأسرى والغنائم وثروات فرنسا)) حين استطاع ((الفرنج)) بقيادة شارل مارتل أن يفتحوا ثغرة في الجيش الإسلامي في اليوم التاسع من القتال الضاري الرهيب اندفعوا منها صوب معسكر الغنائم , فارتفعت صيحة في الميدان أن المعسكر قد سقط في أيدي الأعداء !! فتركت قوة كبيرة من فرسان المسلمين المعركة وتقهقرت للدفاع عن الغنائم وتخليصها من يد الأعداء . ثم كانت الهزيمة المرة التي وقفت دون دخول القارة الأوربية في الإسلام ... فضلاً عن حمايته شبه جزيرة ايبرية !!
5- و أخيراً فإن الاقتصاد عامل من عوامل التاريخ – بصفة عامة – يختلف تقديره بين أمر وآخر , وبين واقعة وأخرى , كما تنضاف إليه سائر العوامل الأخرى التي تأتي في مقدمتها العقيدة والدين . وإن محاولة قصر عوامل التاريخ الكثيرة على الاقتصاد – الذي هو عامل وليس العامل الأول والأخير – لا ينطبق على تاريخ الإنسان الأوربي نفسه , فضلاً عن انطباقه على التاريخ الإسلامي , وقد تعمل هذه العوامل مجتمعة أو متفرقة , ولكننا لم نجد فيما بين أيدينا , وفيما يعلم الدارس من أحوال المجتمع الإسلامي القديم ما يحمله على التعسف في الفهم وادخال التاريخ الإسلامي في قمقم الاقتصاد والمال , بل إن الذي نجده هو العكس تماماً , كما أننا نلاحظ اليوم , ومن وراء الظواهر الكثيرة الخادعة , أن حروب الدول ومنازعات الجماعات داخل الأمم والشعوب يرجع إلى الدين والاعتقاد , ولو بمفهوم حضاري شامل أو تاريخي بعيد .. وما حروب ((المسألة الشرقية)) وقضية ((الشرق الأوسط)) منا ببعيد !
تُرى أليس من حقنا أن نلاحظ أن الخط البياني الذي يشير إلى العوامل التي تلتقي عليها الأمم , وتقاتل دونها الشعوب , ينطلق من ((الأشياء)) نحو ((الأفكار)) ومن المصالح نحو ((المبادئ)) وأن المصالح هي باب من ((الوسائل)) وليست باب من الغايات ... وهذا يعلمه – يقيناً – أولئك المشوهون لتاريخ الإسلام , لأنهم يريدون للمجتمع الإسلامي المعاصر أن ينخلع من الإيمان بنبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – ليدخلوه في الإيمان بـ(( نبوة)) ماركس ولينين !! . ((وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)) .