ماكـولا
02-10-2013, 11:39 PM
بسم الله , والحمدُ لله , والصلاةُ والسلامُ على رسولِ الله , وعلى آله وصحبه , وإخوانه , أما بعدُ :
فقد رويَ عن أبي الدرداءِ أنه قال " لَا تُهْلِكَ أُمَّة حَتَّى يتبعوا أهواءَهم، ويتركوا ما جاءتهم به أنبياؤهم من البينات والهُدى " , وما قُبض النبي صلى الله عليه وسلم الا وقد أتم دعوته , وبلغ رسالته , وأكمل الله به الدين القويم , فمن اتبعه كانَ على صراطٍ مستقيم . ولقد سار السلف على وصية نبيهم صلى الله عليه وسلم , وبلغوا رسالته الى الافاق ,على نور من الله , يرجون ثواب الله , على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فكانوا قدوة لمن بعدهم قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 15-100 " من قول مالك في السنة:وبه: حدثنا محمد بن أحمد بن علي، حدثنا الفريابي، حدثنا الحلواني، سمعت مطرف بن عبد الله، سمعت مالكا يقول: سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وولاة الأمر بعده سننا، الأخذ بها اتباع لكتاب الله، واستكمال بطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها، فهو مهتد، ومن استنصر بها، فهو منصور، ومن تركها، اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم، وساءت مصيرا."
فالمقصود بالسلف تلك الثُّلة المباركة, في تلك الحقبة النيّرة التي أثنى الله عليهم في كتابه , وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وهم الصحابة والتابعون وتابعيهم باحسان الى يوم الدين ! قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم قوله " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم .." بخاري
قال السفاريني في اللوامع " المراد بمذهب السلف ما كان عليه الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم - وأعيان التابعين لهم بإحسان وأتباعهم وأئمة الدين ممن شهد له بالإمامة ، وعرف عظم شأنه في الدين ، وتلقى الناس كلامهم خلف عن سلف ، دون من رمي ببدعة ، أو شهر بلقب غير مرضي مثل الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة والجبرية والجهمية والمعتزلة والكرامية " 1-20
وقد كانت طريقتهم السمع والطاعة " وقالوا سمعنا واطعنا " راجين بذلك المغفرة من رب عفور رحيم , ليقينهم بان مآلهم إليه يوماً " غفرانك ربنا واليك المصير " قد تلقوا القرآن والسنة من النبي صلى الله عليه وسلم غضاً طرياً بلا تأويل ولا تحريف ولا تعطيل ! فكانوا ادرى الناس باحوال النبي صلى الله عليه وسلم واقواله وافعاله وتقريراته . فكان السير على منوالهم طريق نجاة! لما حباهم الله عليه من التقى حيث علق النبي صلى الله عليه وسلم النجاة بذلك قائلاً " تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا ومن هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي " الترمذي صحيح بطرقه .
فاصطفاهم الله لصحبة خليله صلى الله عليه وسلم , للاخذ والفهم عنه وحتى ينشروا دينه , فيُجل الله ان يختار لنصرة دينه وشرعه من لا يعيّ كلامه ولا يفقَه مرامه !
قال الشاطبي في الاعتصام " فلفظ الجماعة مطابق للرواية الأخرى في قوله عليه الصلاة والسلام ما أنا عليه واصحابي فكأنه راجع إلى ما قالوه وما سنوه وما اجتهدوا فيه حجة على الإطلاق وبشهادة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لهم بذلك خصوصاً في قوله "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" وأشباهه أو لأنهم المتقلدون لكلام النبوة المهتدون للشريعة الذين فهموا أمر دين الله بالتلقي من نبيه مشافهة على علم وبصيرة بمواطن التشريع وقرائن الأحوال بخلاف غيرهم فإذا كل ما سنوه فهو سنة من غير نظير فيه بخلاف غيرهم فإن فيه لأهل الاجتهاد مجالا قطعا على هذا القول "
فكانوا على هذا أهدى أهل الارض لصراط رب العالمين , بتزكيّة نبيّ الاميين لهم ! فقهاً وعلماً وأصولاً وفروعاً , يقول الشاطبي " والذي عليه النبي وأصحابه ظاهر في الأصول الاعتقادية والعملية على الجملة، لم يخص من ذلك شيء دون شيء." , وقال " فهذا نص على دخول الأصول العملية تحت قوله: "ما أنا عليه وأصحابي"، وهو ظاهر؛ فإن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يقصر عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية. "
وقال البيهقي قال البيهقي في الاعتقاد 234 " وفي حديث عبد الله بن عمرو: (إلا واحدة، ما أنا عليه وأصحابي) وإنما اجتمع أصحابه على مسائل الأصول، فإنه لم يُرْوَ عن واحدٍ منهم خلاف ما أشرنا إليه في هذا الكتاب. فأما مسائل الفروع فما ليس فيه نص كتاب ولا نص سنة فقد اجتمعوا على بعضه واختلفوا في بعضه، فما اجتمعوا عليه ليس لأحد مخالفتُهم فيه، وما اختلفوا فيه فصاحب الشرع هو الذي سوّغ لهم هذا النوع من الاختلاف؛ حيث أمرهم بالاستنباط وبالاجتهاد مع علمه بأن ذلك يختلف، وجعل للمصيب منهم أجرين، وللمخطئ منهم أجرًا واحدًا، وذلك على ما يحتمل من الاجتهاد، ورُفع عنه ما أخطأ فيه "
فتأمل يرعاك الله حال أصحاب نبيك صلى الله عليه وسلم , وحملة رسالته , حتى تعيَ عظمَ غراس من يغرسهم الله ليستخدمهم في طاعته ! روى الامام احمد 3600 في مسنده
عن عبد الله بن مسعود قال " إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه و سلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رأوا سيئا فهو عند الله سيئ " وهو حديث حسن موقوف
قال الشافعي في الرسالة بعد أن ذكرهم وذكر من تعظيمهم وفضلهم: "وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به عليهم , وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا" وقال "وقد أثنى الله على الصحابة في القرآن والتوراة والإنجيل وسبق لهم من الفضل على لسان نبيهم ما ليس لأحد بعدهم"
قال ابن القيم في اعلام الموقعين " ومن المحال أن يخطئ الحق في حكم الله خير قلوب العباد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظفر به من بعدهم !, وأيضا فإن ما أفتى به أحدهم وسكت عنه الباقون كلهم فإما أن يكونوا قد رأوه حسناً , أو يكونوا قد رأوه قبيحاً ! فإن كانوا قد رأوه حسناً فهو حسن عند الله! -لعصمة اجتماعهم على غلط- وإن كانوا قد رأوه قبيحاً ولم ينكروه لم تكن قلوبهم من خير قلوب العباد وكان من أنكره بعدهم خيراً منهم وأعلم وهذا من أبين المحال" فتأمل هذا الكلام البديع الاصيل , حتى تبصر مواطن نبل قومٍ , قد تجرأوا على مقامهم , وعلى ما حباهم الله به من هذا الاختيار ليكونوا حملةً لدينه !
ولقد أرشد الصحابي الجليل ابن عمر لعلو كعبهم , داعياً اقتفاءَ آثارهم فقال "من كان مستناً فليستن بمن قد مات ؛أولئك أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم -كانوا خير هذه الأمة ،أبرّها قلوباً، وأعمقها علماً ،وأقلها تكلفاً ،قوم اختارهم الله لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم-" الحلية 305
ولو قمتَ بقلب هذا المعنى لظهر لك سوءة الاستنان بهدي من بعدهم , لكونهم لا يعدون من خيار هذه الامة , ولجهالة احوال قلوبهم وما انطوت عليه ! , والتكلف سيمة من بعدهم
كيف لو انضاف له قلة علم ؟ ولذلك قال ابن رجب " كلام السلف قليل كثير الفائدة , وكلام الخلف كثير قليل الفائدة !" -والله المستعان !- , فلو لم يكن في سنة غيرهم الا شرف الصحبة لكفى بها شرفاً !
وروى البخاري عن حذيفة قال " يا معشر القراء استقيموا فقد سُبِقتم سبقاً بعيداً فإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالاً بعيداً " 6853
قال المباركفوري في مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " (استقيموا) أي على جادة الشريعة ، أي اسلكوا طريق الاستقامة ، بأن تتمسكوا بأمر الله فعلاً وتركاً. (فقد سبقتم) بفتح السين والموحدة ، قال الحافظ : هو المعتمد ، وحكي بضم السين وكسر الباء مبنياً للمفعول ، والمعنى على الأول : اسلكوا طريق الاستقامة ؛ لأنكم أدركتم أوائل الإسلام ، فإن تتمسكوا بالكتاب والسنة ، تسبقوا إلى كل خير ؛ لأن من جاء بعدكم إن عمل بعملكم لم يصل إليكم لسبقكم إلى الإسلام ، ومرتبة المتبوع فوق مرتبة التابع ، وإلا فهو أبعد منه حساً وحكماً. وعلى الثاني : أي سبقكم المتصفون بتلك الاستقامة إلى الله ، فكيف ترضون لنفوسكم هذا التخلف المؤدي إلى الانحراف عن سنن الاستقامة يميناً وشمالاً ، الموجب للهلاك الأبدي. (سبقاً بعيداً) أي ظاهر التفاوت. (وإن أخذتم يميناً وشمالاً) أي خالفتم المذكور بالإعراض عن الجادة والانحراف عن طريق الاستقامة. (فقد ضللتم ضلالاً بعيداً) أي عن الحق بحيث يبعد رجوعكم عنه إليه ، وكلام حذيفة منتزع من قوله تعالى : "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " ، والذي له حكم الرفع من حديث حذيفة هذا الإشارة إلى فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين مضوا على طريق الاستقامة "
يقول ابن الحاج " فما حدث بعد السلف رضي الله عنهم لا يخلو إما أن يكونوا علموه وعلموا أنه موافق للشريعة ولم يعملوا به ومعاذ الله أن يكون ذلك إذ أنه يلزم منه تنقيصهم وتفضيل من بعدهم عليهم ومعلوم أنهم أكمل الناس في كل شيء وأشدهم اتباعاً , وإما أن يكونوا علموه وتركوا العمل به لم يتركوا إلا لموجب أوجب تركه فكيف يمكن فعله؟ هذا مما لا يعقل! وإما أن يكونوا لم يعلموه فيكون من ادعى علمه بعدهم أعلم منهم وأفضل وأعرف بوجوه البر وأحرص عليها ! ولو كان ذلك خيراً لعلموه ولظهر لهم ومعلوم أنهم أعقل الناس وأعلمهم وقد قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: عقول الناس على قدر أزمنتهم ولأجل هذا المعنى لم يكن عندهم إشكال في الدين ولا في الاعتقادات لوفور عقولهم وإنما حدثت الشبه بعدهم لما خالطت العجمة الألسن فلنقصان عقول من بعدهم عن عقولهم وقع ما وقع " 4-264
* فإن قيل: من أين لكم أنه لم يفعله وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم؟.
فهذا سؤال بعيد جداً عن معرفة هديه وسنته وما كان عليه ولو صح هذا السؤال وقبل لاستحب لنا مستحب الأذان للتراويح وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحب لنا مستحب آخر الغسل لكل صلاة وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحب لنا مستحب آخر النداء بعد الأذان للصلاة يرحمكم الله ورفع بها صوته وقال من أين لكم أنه لم ينقل! واستحب لنا آخر لبس السواد والطرحة للخطيب وخروجه بالشاويش يصيح بين يديه ورفع المؤذنين أصواتهم كلما ذكر الله واسم رسوله جماعة وفرادى وقال: من أين لكم أن هذا لم ينقل! واستحب لنا آخر صلاة ليلة النصف من شعبان أو ليلة أول جمعة من رجب وقال من أين لكم أن إحياءهما لم ينقل ؟! وانفتح باب البدعة وقال كل من دعا إلى بدعة من أين لكم أن هذا لم ينقل؟!! ومن هذا تركه أخذ الزكاة من الخضروات والمباطخ وهم يزرعونها بجواره بالمدينة كل سنة فلا يطالبهم بزكاة ولا هم يؤدونها إليه." اعلام الموقعين 2- 460
ولذلك كانت القاعدة أن ما ترجحت مصلحته , وكان المقتضي لفعله ظاهراً مع الوسع والطاقة ولم يُفعل , كانت المصلحة في تركة , ويستدل لذلك شيخ الاسلام في تركة السلف بدعة المولد النبوي قائلاً " فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيراً , ولو كان هذا خيراً محضاً، أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص."
لو كان خيراً لسبقونا اليه ..
يقرر الشاطبي في الموافقات 6-392 قاعدة " لو كان خيراً لسبقونا اليه " توهم بعض المتأخرين استظهار نص قد خفي عليهم فقال " وما توهمه المتأخرون من أنه دليل على ما زعموا ليس بدليل عليه ألبتة؛ إذ لو كان دليلا عليه؛ لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء، فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارض له، ولو كان ترك العمل؛ فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين، وكل من خالف الإجماع؛ فهو مخطئ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، فما كانوا عليه من فعل أو ترك؛ فهو السنة والأمر المعتبر، وهو الهدى، وليس ثم إلا صواب أو خطأ؛ فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ، وهذا كافٍ، والحديث الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جارٍ هذا المجرى.
ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي أنه الخليفة بعده؛ لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدم اعتباره، لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ، وكثيراً ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة، يحملونهما مذاهبهم، ويغبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة، ويظنون أنهم على شيء.
ولذلك أمثلة كثيرة كالاستلالات الباطنية على سوء مذهبهم بما هو شهير في النقل عنهم، وسيأتي منه أشياء في دليل الكتاب إن شاء الله، واستدلال التناسخية على صحة ما زعموا بقوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}... وكثير من فرق الاعتقادات تعلق بظواهر من الكتاب والسنة في تصحيح ما ذهبوا إليه؛ مما لم يجر له ذكر ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين، وحاش لله من ذلك.!
ومنه أيضا استدلال من أجاز قراءة القرآن بالإدارة، وذكر الله برفع الأصوات وبهيئة الاجتماع بقوله عليه الصلاة والسلام: "ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله ويتدارسُونه فيما بينهم" الحديث، والحديث الآخر: "ما اجتمع قوم يذكرون الله..." إلخ، وبسائر ما جاء في فضل مجالس الذكر وكذلك استدلال من استدل على جواز دعاء المؤذنين بالليل بقوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} .. وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}.. وبجهر قوام الليل بالقرآن، واستدلالهم على الرقص في المساجد وغيرها بحديث لعب الحبشة في المسجد بالدرق والحراب، وقوله عليه الصلاة والسلام لهم: "دونكم يا بني أرفدة". متفق عليه
واستدلال كل من اخترع بدعة أو استحسن محدثة لم تكن في السلف الصالح، بأن السلف اخترعوا أشياء لم تكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ككتب المصحف، وتصنيف الكتب، وتدوين الدواوين، وتضمين الصناع، وسائر ما ذكر الأصوليون في أصل المصالح المرسلة؛ فخلطوا وغلطوا، واتبعوا ما تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها، وهو كله خطأ على الدين، واتباع لسبيل الملحدين؛ فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك، وعبروا على هذه المسالك؛ إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون، وحادوا عن فهمها وهذا الأخير هو الصواب إذ المتقدمون من السلف الصالح هم كانوا على الصراط المستقيم، ولم يفهموا من الأدلة المذكورة وما أشبهها إلا ما كانوا عليه، وهذه المحدثات لم تكن فيهم، ولا عملوا بها؛ فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال، وصار عملهم بخلاف ذلك دليلاً إجماعياً على أن هؤلاء في استدلالاتهم وعملهم مخطئون ومخالفون للسنة.
فيقال لمن استدل بأمثال ذلك: هل وجد هذا المعنى الذي استنبطت في عمل الأولين أو لم يوجد؟ فإن زعم أنه لم يوجد -ولا بد من ذلك- فيقال له: أفكانوا غافلين عما تنبهت له أو جاهلين به، أم لا؟ ولا يسعه أن يقول بهذا؛ لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه، وخرق للإجماع، وإن قال: إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة، كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها؛ قيل له: فما الذي حال بينهم وبين العمل بمقتضاها على زعمك حتى خالفوها إلى غيرها؟ ما ذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيها على الخطأ دونك أيها المُتَقَوِّل، والبرهان الشرعي والعادي دالٌ على عكس القضية، فكل ما جاء مخالفاً لما عليه السلف الصلاح؛ فهو الضلال بعينه.
فإن زعم أن ما انتحله من ذلك إنما هو من قبيل المسكوت عنه في الأولين، وإذا كان مسكوتاً عنه ووجد له في الأدلة مساغ؛ فلا مخالفة، إنما المخالفة أن يعاند ما نقل عنهم بضده، وهو البدعة المنكرة، قيل له: بل هو مخالف؛ لأن ما سكت عنه في الشريعة على وجهين:
أحدهما:أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يشرع له أمر زائد على ما مضى فيه؛ فلا سبيل إلى مخالفته لأن تركهم لما عمل به هؤلاء مضاد له، فمن استلحقه صار مخالفاً للسنة، حسبما تبين في كتاب المقاصد.
والثاني: أن لا توجد مظنة العمل به ثم توجد؛ فيشرع له أمر زائد يلائم تصرفات الشرع في مثله، وهي المصالح المرسلة، وهي من أصول الشريعة المبني عليها؛ إذ هي راجعة إلى أدلة الشرع، حسبما تبين في علم الأصول؛ فلا يصح إدخال ذلك تحت جنس البدع.
وأيضا؛ فالمصالح المرسلة -عند القائل بها- لا تدخل في التعبدات ألبتة، وإنما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة، وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية، ولذلك تجد مالكا وهو المسترسل في القول بالمصالح المرسلة مشددًا في العبادات أن لا تقع إلا على ما كانت عليه في الأولين؛ فلذلك نهى عن أشياء وكره أشياء، وإن كان إطلاق الأدلة لا ينفيها بناء منه على أنها تقيدت مطلقاتها بالعمل؛ فلا مزيد عليه، وقد تمهد أيضا في الأصول أن المطلق إذا وقع العمل به على وجه؛ لم يكن حجة في غيره فالحاصل أن الأمر أو الإذن إذا وقع على أمر له دليل مطلق؛ فرأيت الأولين قد عنوا به على وجه واستمر عليه عملهم؛ فلا حجة فيه على العمل على وجه آخر، بل هو مفتقر إلى دليل يتبعه في إعمال ذلك الوجه، وذلك كله مبين في باب الأوامر والنواهي من هذا الكتاب، لكن على وجه آخر؛ فإذًا ليس ما انتحل هذا المخالف العمل به من قبيل المسكوت عنه، ولا من قبيل ما أصله المصالح المرسلة؛ فلم يبق إذًا أن يكون إلا من قبيل المعارض لما مضى عليه عمل الأقدمين، وكفى بذلك مزلة قدم، وبالله التوفيق."
ويقول الشاطبي في الموافقات 6-404 " فاعلم أن أخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين:
أحدهما: أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار واقتباس ما تضمنه من الحكم ليعرض عليه النازلة المفروضة لتقع في الوجود على وفاق ما أعطى الدليل من الحكم، أما قبل وقوعها؛ فبأن توقع على وفقه، وأما بعد وقوعها؛ فليتلافى الأمر، ويستدرك الخطأ الواقع فيها، بحيث يغلب على الظن أو يقطع بأن ذلك قصد الشارع، وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة.
والثاني: أن يؤخذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة، أن يظهر في بادئ الرأي موافقة ذلك الغرض للدليل من غير تحر لقصد الشارع، بل المقصود منه تنزيل الدليل على وفق غرضه، وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكام من الأدلة , ويظهر هذا المعنى من الآية الكريمة: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ؛ فليس مقصودهم الاقتباس منها وغنماً , مرادهم الفتنة بها بهواهم؛ إذ هو السابق المعتبر، وأخذ الادلة فيه بالتبع لتكون لهم حجة في زيغهم، {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ليس لهم هوى يقدمونه على أحكام الأدلة؛ فلذلك {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، ويقولون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} ، فيتبرؤون إلى الله مما ارتكبه أولئك الزائغون؛ فلذلك صار أهل الوجه الأول محكمين للدليل على أهوائهم، وهو أصل الشريعة؛ لأنها إنما جاءت لتخرج المكلف عن هواه حتى يكون عبدا لله، وأهل الوجه الثاني يحكمون أهواءهم على الأدلة حتى تكون الأدلة في أخذهم لها تبعا"
ويقول في الاعتصام 285 " كل من اتبع المتشابهات أو حرف المناطات أو حمل الآيات مالا تحمله عند السلف الصالح أو تمسك بالأحاديث الواهية أو أخذ الأدلة ببادي الرأي له أن يستدل على كل فعل أو قول أو أعتقاد وافق غرضه بآية أو حديث لا يفوز بذلك اصلاً ! والدليل عليه استدلال كل فرقة شهرت بالبدعة على بدعتها بآية أو حديث من غير توقف - حسبما تقدم ذكره - ... ,فمن طلب خلاص نفسه تثبت حتى يتضح له الطريق ومن تساهل رمته ايدي الهوى في معاطب لا مخلص له منها إلا ما شاء الله"
وقال ابن عبد الهادي في معرض من رده على السبكي في تأوله بعض الادلة ليقوي بها بدعته حيث قال بعد تفنيده شبهته " وهذا يبين أن هذا التأويل الذي تأول عليه المعترض هذه الآية تأويل باطل قطعاً ، ولو كان حقاً لسبقونا إليه علماً وعملاً وإرشاداً ونصيحة , ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة ، فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا وضلوا عنه ، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر ، فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه" الصارم المنكي في الرد على السبكي 318
وقال الموصلي في مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة 2-128 " إن إحداث قول في تفسير كتاب الله الذي كان السلف والائمة على خلافه , يستلزم أحد أمرين : إما أن يكون خطأ في نفسه , أو تكون أقوال السلف المخالفة له خطأ , ولا يشك عاقل انه أولى بالغلط والخطأ من قول السلف . "
فكانوا بحق أتباع الرسل !
يقول شيخ الاسلام " ومن المستقر في أذهان المسلمين : أن ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء هم الذين قاموا بالدين علما وعملا ودعوة إلى الله والرسول فهؤلاء أتباع الرسول حقا وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير فزكت في نفسها وزكى الناس بها . وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة ولذلك كانوا ورثة الأنبياء الذين قال الله تعالى فيهم : { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار } فالأيدي القوة في أمر الله والأبصار البصائر في دين الله فبالبصائر يدرك الحق ويعرف وبالقوة يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه . فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم والفقه في الدين والبصر والتأويل ؛ ففجرت من النصوص أنهار العلوم واستنبطت منها كنوزها ورزقت فيها فهما خاصا كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل : " هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس ؟ فقال : لا ؛ والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ؛ إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه . فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الذي أنبتته الأرض الطيبة . وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن الطبقة الثانية ؛ وهي التي حفظت النصوص فكان همها حفظها وضبطها ؛ فوردها الناس وتلقوها بالقبول ؛ واستنبطوا منها واستخرجوا كنوزها واتجروا فيها ؛ وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات ؛ ورووها كل بحسبه . { قد علم كل أناس مشربهم } ..."
* فلذلك كان إجماعهم حجة !
يقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة " رواه الترمذي وغيره وصححه الالباني
قال شيخ الاسلام " وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصومًا، وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم، فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم، ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه"
وقال ابن القيم في اعلام الموقعين " من المتنع ان يقولوا في كتاب الله الخطأ المحض ويمسك الباقون عن الصواب فلا يتكلمون به وهذه الصورة المذكورة وامثالها قد تكلم فيها غيرهم بالصواب والمحظور إنما هو خلو عصرهم عن ناطق بالصواب واشتماله على ناطق بغيره فقط فهذا هو المحال.."
يتبع ..
فقد رويَ عن أبي الدرداءِ أنه قال " لَا تُهْلِكَ أُمَّة حَتَّى يتبعوا أهواءَهم، ويتركوا ما جاءتهم به أنبياؤهم من البينات والهُدى " , وما قُبض النبي صلى الله عليه وسلم الا وقد أتم دعوته , وبلغ رسالته , وأكمل الله به الدين القويم , فمن اتبعه كانَ على صراطٍ مستقيم . ولقد سار السلف على وصية نبيهم صلى الله عليه وسلم , وبلغوا رسالته الى الافاق ,على نور من الله , يرجون ثواب الله , على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فكانوا قدوة لمن بعدهم قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 15-100 " من قول مالك في السنة:وبه: حدثنا محمد بن أحمد بن علي، حدثنا الفريابي، حدثنا الحلواني، سمعت مطرف بن عبد الله، سمعت مالكا يقول: سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وولاة الأمر بعده سننا، الأخذ بها اتباع لكتاب الله، واستكمال بطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها، فهو مهتد، ومن استنصر بها، فهو منصور، ومن تركها، اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم، وساءت مصيرا."
فالمقصود بالسلف تلك الثُّلة المباركة, في تلك الحقبة النيّرة التي أثنى الله عليهم في كتابه , وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وهم الصحابة والتابعون وتابعيهم باحسان الى يوم الدين ! قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم قوله " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم .." بخاري
قال السفاريني في اللوامع " المراد بمذهب السلف ما كان عليه الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم - وأعيان التابعين لهم بإحسان وأتباعهم وأئمة الدين ممن شهد له بالإمامة ، وعرف عظم شأنه في الدين ، وتلقى الناس كلامهم خلف عن سلف ، دون من رمي ببدعة ، أو شهر بلقب غير مرضي مثل الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة والجبرية والجهمية والمعتزلة والكرامية " 1-20
وقد كانت طريقتهم السمع والطاعة " وقالوا سمعنا واطعنا " راجين بذلك المغفرة من رب عفور رحيم , ليقينهم بان مآلهم إليه يوماً " غفرانك ربنا واليك المصير " قد تلقوا القرآن والسنة من النبي صلى الله عليه وسلم غضاً طرياً بلا تأويل ولا تحريف ولا تعطيل ! فكانوا ادرى الناس باحوال النبي صلى الله عليه وسلم واقواله وافعاله وتقريراته . فكان السير على منوالهم طريق نجاة! لما حباهم الله عليه من التقى حيث علق النبي صلى الله عليه وسلم النجاة بذلك قائلاً " تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا ومن هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي " الترمذي صحيح بطرقه .
فاصطفاهم الله لصحبة خليله صلى الله عليه وسلم , للاخذ والفهم عنه وحتى ينشروا دينه , فيُجل الله ان يختار لنصرة دينه وشرعه من لا يعيّ كلامه ولا يفقَه مرامه !
قال الشاطبي في الاعتصام " فلفظ الجماعة مطابق للرواية الأخرى في قوله عليه الصلاة والسلام ما أنا عليه واصحابي فكأنه راجع إلى ما قالوه وما سنوه وما اجتهدوا فيه حجة على الإطلاق وبشهادة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لهم بذلك خصوصاً في قوله "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" وأشباهه أو لأنهم المتقلدون لكلام النبوة المهتدون للشريعة الذين فهموا أمر دين الله بالتلقي من نبيه مشافهة على علم وبصيرة بمواطن التشريع وقرائن الأحوال بخلاف غيرهم فإذا كل ما سنوه فهو سنة من غير نظير فيه بخلاف غيرهم فإن فيه لأهل الاجتهاد مجالا قطعا على هذا القول "
فكانوا على هذا أهدى أهل الارض لصراط رب العالمين , بتزكيّة نبيّ الاميين لهم ! فقهاً وعلماً وأصولاً وفروعاً , يقول الشاطبي " والذي عليه النبي وأصحابه ظاهر في الأصول الاعتقادية والعملية على الجملة، لم يخص من ذلك شيء دون شيء." , وقال " فهذا نص على دخول الأصول العملية تحت قوله: "ما أنا عليه وأصحابي"، وهو ظاهر؛ فإن المخالف في أصل من أصول الشريعة العملية لا يقصر عن المخالف في أصل من الأصول الاعتقادية في هدم القواعد الشرعية. "
وقال البيهقي قال البيهقي في الاعتقاد 234 " وفي حديث عبد الله بن عمرو: (إلا واحدة، ما أنا عليه وأصحابي) وإنما اجتمع أصحابه على مسائل الأصول، فإنه لم يُرْوَ عن واحدٍ منهم خلاف ما أشرنا إليه في هذا الكتاب. فأما مسائل الفروع فما ليس فيه نص كتاب ولا نص سنة فقد اجتمعوا على بعضه واختلفوا في بعضه، فما اجتمعوا عليه ليس لأحد مخالفتُهم فيه، وما اختلفوا فيه فصاحب الشرع هو الذي سوّغ لهم هذا النوع من الاختلاف؛ حيث أمرهم بالاستنباط وبالاجتهاد مع علمه بأن ذلك يختلف، وجعل للمصيب منهم أجرين، وللمخطئ منهم أجرًا واحدًا، وذلك على ما يحتمل من الاجتهاد، ورُفع عنه ما أخطأ فيه "
فتأمل يرعاك الله حال أصحاب نبيك صلى الله عليه وسلم , وحملة رسالته , حتى تعيَ عظمَ غراس من يغرسهم الله ليستخدمهم في طاعته ! روى الامام احمد 3600 في مسنده
عن عبد الله بن مسعود قال " إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه و سلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رأوا سيئا فهو عند الله سيئ " وهو حديث حسن موقوف
قال الشافعي في الرسالة بعد أن ذكرهم وذكر من تعظيمهم وفضلهم: "وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به عليهم , وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا" وقال "وقد أثنى الله على الصحابة في القرآن والتوراة والإنجيل وسبق لهم من الفضل على لسان نبيهم ما ليس لأحد بعدهم"
قال ابن القيم في اعلام الموقعين " ومن المحال أن يخطئ الحق في حكم الله خير قلوب العباد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظفر به من بعدهم !, وأيضا فإن ما أفتى به أحدهم وسكت عنه الباقون كلهم فإما أن يكونوا قد رأوه حسناً , أو يكونوا قد رأوه قبيحاً ! فإن كانوا قد رأوه حسناً فهو حسن عند الله! -لعصمة اجتماعهم على غلط- وإن كانوا قد رأوه قبيحاً ولم ينكروه لم تكن قلوبهم من خير قلوب العباد وكان من أنكره بعدهم خيراً منهم وأعلم وهذا من أبين المحال" فتأمل هذا الكلام البديع الاصيل , حتى تبصر مواطن نبل قومٍ , قد تجرأوا على مقامهم , وعلى ما حباهم الله به من هذا الاختيار ليكونوا حملةً لدينه !
ولقد أرشد الصحابي الجليل ابن عمر لعلو كعبهم , داعياً اقتفاءَ آثارهم فقال "من كان مستناً فليستن بمن قد مات ؛أولئك أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم -كانوا خير هذه الأمة ،أبرّها قلوباً، وأعمقها علماً ،وأقلها تكلفاً ،قوم اختارهم الله لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم-" الحلية 305
ولو قمتَ بقلب هذا المعنى لظهر لك سوءة الاستنان بهدي من بعدهم , لكونهم لا يعدون من خيار هذه الامة , ولجهالة احوال قلوبهم وما انطوت عليه ! , والتكلف سيمة من بعدهم
كيف لو انضاف له قلة علم ؟ ولذلك قال ابن رجب " كلام السلف قليل كثير الفائدة , وكلام الخلف كثير قليل الفائدة !" -والله المستعان !- , فلو لم يكن في سنة غيرهم الا شرف الصحبة لكفى بها شرفاً !
وروى البخاري عن حذيفة قال " يا معشر القراء استقيموا فقد سُبِقتم سبقاً بعيداً فإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالاً بعيداً " 6853
قال المباركفوري في مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " (استقيموا) أي على جادة الشريعة ، أي اسلكوا طريق الاستقامة ، بأن تتمسكوا بأمر الله فعلاً وتركاً. (فقد سبقتم) بفتح السين والموحدة ، قال الحافظ : هو المعتمد ، وحكي بضم السين وكسر الباء مبنياً للمفعول ، والمعنى على الأول : اسلكوا طريق الاستقامة ؛ لأنكم أدركتم أوائل الإسلام ، فإن تتمسكوا بالكتاب والسنة ، تسبقوا إلى كل خير ؛ لأن من جاء بعدكم إن عمل بعملكم لم يصل إليكم لسبقكم إلى الإسلام ، ومرتبة المتبوع فوق مرتبة التابع ، وإلا فهو أبعد منه حساً وحكماً. وعلى الثاني : أي سبقكم المتصفون بتلك الاستقامة إلى الله ، فكيف ترضون لنفوسكم هذا التخلف المؤدي إلى الانحراف عن سنن الاستقامة يميناً وشمالاً ، الموجب للهلاك الأبدي. (سبقاً بعيداً) أي ظاهر التفاوت. (وإن أخذتم يميناً وشمالاً) أي خالفتم المذكور بالإعراض عن الجادة والانحراف عن طريق الاستقامة. (فقد ضللتم ضلالاً بعيداً) أي عن الحق بحيث يبعد رجوعكم عنه إليه ، وكلام حذيفة منتزع من قوله تعالى : "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " ، والذي له حكم الرفع من حديث حذيفة هذا الإشارة إلى فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين مضوا على طريق الاستقامة "
يقول ابن الحاج " فما حدث بعد السلف رضي الله عنهم لا يخلو إما أن يكونوا علموه وعلموا أنه موافق للشريعة ولم يعملوا به ومعاذ الله أن يكون ذلك إذ أنه يلزم منه تنقيصهم وتفضيل من بعدهم عليهم ومعلوم أنهم أكمل الناس في كل شيء وأشدهم اتباعاً , وإما أن يكونوا علموه وتركوا العمل به لم يتركوا إلا لموجب أوجب تركه فكيف يمكن فعله؟ هذا مما لا يعقل! وإما أن يكونوا لم يعلموه فيكون من ادعى علمه بعدهم أعلم منهم وأفضل وأعرف بوجوه البر وأحرص عليها ! ولو كان ذلك خيراً لعلموه ولظهر لهم ومعلوم أنهم أعقل الناس وأعلمهم وقد قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: عقول الناس على قدر أزمنتهم ولأجل هذا المعنى لم يكن عندهم إشكال في الدين ولا في الاعتقادات لوفور عقولهم وإنما حدثت الشبه بعدهم لما خالطت العجمة الألسن فلنقصان عقول من بعدهم عن عقولهم وقع ما وقع " 4-264
* فإن قيل: من أين لكم أنه لم يفعله وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم؟.
فهذا سؤال بعيد جداً عن معرفة هديه وسنته وما كان عليه ولو صح هذا السؤال وقبل لاستحب لنا مستحب الأذان للتراويح وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحب لنا مستحب آخر الغسل لكل صلاة وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحب لنا مستحب آخر النداء بعد الأذان للصلاة يرحمكم الله ورفع بها صوته وقال من أين لكم أنه لم ينقل! واستحب لنا آخر لبس السواد والطرحة للخطيب وخروجه بالشاويش يصيح بين يديه ورفع المؤذنين أصواتهم كلما ذكر الله واسم رسوله جماعة وفرادى وقال: من أين لكم أن هذا لم ينقل! واستحب لنا آخر صلاة ليلة النصف من شعبان أو ليلة أول جمعة من رجب وقال من أين لكم أن إحياءهما لم ينقل ؟! وانفتح باب البدعة وقال كل من دعا إلى بدعة من أين لكم أن هذا لم ينقل؟!! ومن هذا تركه أخذ الزكاة من الخضروات والمباطخ وهم يزرعونها بجواره بالمدينة كل سنة فلا يطالبهم بزكاة ولا هم يؤدونها إليه." اعلام الموقعين 2- 460
ولذلك كانت القاعدة أن ما ترجحت مصلحته , وكان المقتضي لفعله ظاهراً مع الوسع والطاقة ولم يُفعل , كانت المصلحة في تركة , ويستدل لذلك شيخ الاسلام في تركة السلف بدعة المولد النبوي قائلاً " فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيراً , ولو كان هذا خيراً محضاً، أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص."
لو كان خيراً لسبقونا اليه ..
يقرر الشاطبي في الموافقات 6-392 قاعدة " لو كان خيراً لسبقونا اليه " توهم بعض المتأخرين استظهار نص قد خفي عليهم فقال " وما توهمه المتأخرون من أنه دليل على ما زعموا ليس بدليل عليه ألبتة؛ إذ لو كان دليلا عليه؛ لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء، فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارض له، ولو كان ترك العمل؛ فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين، وكل من خالف الإجماع؛ فهو مخطئ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، فما كانوا عليه من فعل أو ترك؛ فهو السنة والأمر المعتبر، وهو الهدى، وليس ثم إلا صواب أو خطأ؛ فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ، وهذا كافٍ، والحديث الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جارٍ هذا المجرى.
ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي أنه الخليفة بعده؛ لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدم اعتباره، لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ، وكثيراً ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة، يحملونهما مذاهبهم، ويغبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة، ويظنون أنهم على شيء.
ولذلك أمثلة كثيرة كالاستلالات الباطنية على سوء مذهبهم بما هو شهير في النقل عنهم، وسيأتي منه أشياء في دليل الكتاب إن شاء الله، واستدلال التناسخية على صحة ما زعموا بقوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}... وكثير من فرق الاعتقادات تعلق بظواهر من الكتاب والسنة في تصحيح ما ذهبوا إليه؛ مما لم يجر له ذكر ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين، وحاش لله من ذلك.!
ومنه أيضا استدلال من أجاز قراءة القرآن بالإدارة، وذكر الله برفع الأصوات وبهيئة الاجتماع بقوله عليه الصلاة والسلام: "ما اجتمع قوم يتلون كتاب الله ويتدارسُونه فيما بينهم" الحديث، والحديث الآخر: "ما اجتمع قوم يذكرون الله..." إلخ، وبسائر ما جاء في فضل مجالس الذكر وكذلك استدلال من استدل على جواز دعاء المؤذنين بالليل بقوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} .. وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}.. وبجهر قوام الليل بالقرآن، واستدلالهم على الرقص في المساجد وغيرها بحديث لعب الحبشة في المسجد بالدرق والحراب، وقوله عليه الصلاة والسلام لهم: "دونكم يا بني أرفدة". متفق عليه
واستدلال كل من اخترع بدعة أو استحسن محدثة لم تكن في السلف الصالح، بأن السلف اخترعوا أشياء لم تكن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ككتب المصحف، وتصنيف الكتب، وتدوين الدواوين، وتضمين الصناع، وسائر ما ذكر الأصوليون في أصل المصالح المرسلة؛ فخلطوا وغلطوا، واتبعوا ما تشابه من الشريعة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها، وهو كله خطأ على الدين، واتباع لسبيل الملحدين؛ فإن هؤلاء الذين أدركوا هذه المدارك، وعبروا على هذه المسالك؛ إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الشريعة ما لم يفهمه الأولون، وحادوا عن فهمها وهذا الأخير هو الصواب إذ المتقدمون من السلف الصالح هم كانوا على الصراط المستقيم، ولم يفهموا من الأدلة المذكورة وما أشبهها إلا ما كانوا عليه، وهذه المحدثات لم تكن فيهم، ولا عملوا بها؛ فدل على أن تلك الأدلة لم تتضمن هذه المعاني المخترعة بحال، وصار عملهم بخلاف ذلك دليلاً إجماعياً على أن هؤلاء في استدلالاتهم وعملهم مخطئون ومخالفون للسنة.
فيقال لمن استدل بأمثال ذلك: هل وجد هذا المعنى الذي استنبطت في عمل الأولين أو لم يوجد؟ فإن زعم أنه لم يوجد -ولا بد من ذلك- فيقال له: أفكانوا غافلين عما تنبهت له أو جاهلين به، أم لا؟ ولا يسعه أن يقول بهذا؛ لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه، وخرق للإجماع، وإن قال: إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة، كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها؛ قيل له: فما الذي حال بينهم وبين العمل بمقتضاها على زعمك حتى خالفوها إلى غيرها؟ ما ذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيها على الخطأ دونك أيها المُتَقَوِّل، والبرهان الشرعي والعادي دالٌ على عكس القضية، فكل ما جاء مخالفاً لما عليه السلف الصلاح؛ فهو الضلال بعينه.
فإن زعم أن ما انتحله من ذلك إنما هو من قبيل المسكوت عنه في الأولين، وإذا كان مسكوتاً عنه ووجد له في الأدلة مساغ؛ فلا مخالفة، إنما المخالفة أن يعاند ما نقل عنهم بضده، وهو البدعة المنكرة، قيل له: بل هو مخالف؛ لأن ما سكت عنه في الشريعة على وجهين:
أحدهما:أن تكون مظنة العمل به موجودة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يشرع له أمر زائد على ما مضى فيه؛ فلا سبيل إلى مخالفته لأن تركهم لما عمل به هؤلاء مضاد له، فمن استلحقه صار مخالفاً للسنة، حسبما تبين في كتاب المقاصد.
والثاني: أن لا توجد مظنة العمل به ثم توجد؛ فيشرع له أمر زائد يلائم تصرفات الشرع في مثله، وهي المصالح المرسلة، وهي من أصول الشريعة المبني عليها؛ إذ هي راجعة إلى أدلة الشرع، حسبما تبين في علم الأصول؛ فلا يصح إدخال ذلك تحت جنس البدع.
وأيضا؛ فالمصالح المرسلة -عند القائل بها- لا تدخل في التعبدات ألبتة، وإنما هي راجعة إلى حفظ أصل الملة، وحياطة أهلها في تصرفاتهم العادية، ولذلك تجد مالكا وهو المسترسل في القول بالمصالح المرسلة مشددًا في العبادات أن لا تقع إلا على ما كانت عليه في الأولين؛ فلذلك نهى عن أشياء وكره أشياء، وإن كان إطلاق الأدلة لا ينفيها بناء منه على أنها تقيدت مطلقاتها بالعمل؛ فلا مزيد عليه، وقد تمهد أيضا في الأصول أن المطلق إذا وقع العمل به على وجه؛ لم يكن حجة في غيره فالحاصل أن الأمر أو الإذن إذا وقع على أمر له دليل مطلق؛ فرأيت الأولين قد عنوا به على وجه واستمر عليه عملهم؛ فلا حجة فيه على العمل على وجه آخر، بل هو مفتقر إلى دليل يتبعه في إعمال ذلك الوجه، وذلك كله مبين في باب الأوامر والنواهي من هذا الكتاب، لكن على وجه آخر؛ فإذًا ليس ما انتحل هذا المخالف العمل به من قبيل المسكوت عنه، ولا من قبيل ما أصله المصالح المرسلة؛ فلم يبق إذًا أن يكون إلا من قبيل المعارض لما مضى عليه عمل الأقدمين، وكفى بذلك مزلة قدم، وبالله التوفيق."
ويقول الشاطبي في الموافقات 6-404 " فاعلم أن أخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين:
أحدهما: أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار واقتباس ما تضمنه من الحكم ليعرض عليه النازلة المفروضة لتقع في الوجود على وفاق ما أعطى الدليل من الحكم، أما قبل وقوعها؛ فبأن توقع على وفقه، وأما بعد وقوعها؛ فليتلافى الأمر، ويستدرك الخطأ الواقع فيها، بحيث يغلب على الظن أو يقطع بأن ذلك قصد الشارع، وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة.
والثاني: أن يؤخذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة، أن يظهر في بادئ الرأي موافقة ذلك الغرض للدليل من غير تحر لقصد الشارع، بل المقصود منه تنزيل الدليل على وفق غرضه، وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكام من الأدلة , ويظهر هذا المعنى من الآية الكريمة: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ؛ فليس مقصودهم الاقتباس منها وغنماً , مرادهم الفتنة بها بهواهم؛ إذ هو السابق المعتبر، وأخذ الادلة فيه بالتبع لتكون لهم حجة في زيغهم، {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ليس لهم هوى يقدمونه على أحكام الأدلة؛ فلذلك {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، ويقولون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} ، فيتبرؤون إلى الله مما ارتكبه أولئك الزائغون؛ فلذلك صار أهل الوجه الأول محكمين للدليل على أهوائهم، وهو أصل الشريعة؛ لأنها إنما جاءت لتخرج المكلف عن هواه حتى يكون عبدا لله، وأهل الوجه الثاني يحكمون أهواءهم على الأدلة حتى تكون الأدلة في أخذهم لها تبعا"
ويقول في الاعتصام 285 " كل من اتبع المتشابهات أو حرف المناطات أو حمل الآيات مالا تحمله عند السلف الصالح أو تمسك بالأحاديث الواهية أو أخذ الأدلة ببادي الرأي له أن يستدل على كل فعل أو قول أو أعتقاد وافق غرضه بآية أو حديث لا يفوز بذلك اصلاً ! والدليل عليه استدلال كل فرقة شهرت بالبدعة على بدعتها بآية أو حديث من غير توقف - حسبما تقدم ذكره - ... ,فمن طلب خلاص نفسه تثبت حتى يتضح له الطريق ومن تساهل رمته ايدي الهوى في معاطب لا مخلص له منها إلا ما شاء الله"
وقال ابن عبد الهادي في معرض من رده على السبكي في تأوله بعض الادلة ليقوي بها بدعته حيث قال بعد تفنيده شبهته " وهذا يبين أن هذا التأويل الذي تأول عليه المعترض هذه الآية تأويل باطل قطعاً ، ولو كان حقاً لسبقونا إليه علماً وعملاً وإرشاداً ونصيحة , ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة ، فإن هذا يتضمن أنهم جهلوا الحق في هذا وضلوا عنه ، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر ، فكيف إذا كان التأويل يخالف تأويلهم ويناقضه" الصارم المنكي في الرد على السبكي 318
وقال الموصلي في مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة 2-128 " إن إحداث قول في تفسير كتاب الله الذي كان السلف والائمة على خلافه , يستلزم أحد أمرين : إما أن يكون خطأ في نفسه , أو تكون أقوال السلف المخالفة له خطأ , ولا يشك عاقل انه أولى بالغلط والخطأ من قول السلف . "
فكانوا بحق أتباع الرسل !
يقول شيخ الاسلام " ومن المستقر في أذهان المسلمين : أن ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء هم الذين قاموا بالدين علما وعملا ودعوة إلى الله والرسول فهؤلاء أتباع الرسول حقا وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير فزكت في نفسها وزكى الناس بها . وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة ولذلك كانوا ورثة الأنبياء الذين قال الله تعالى فيهم : { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار } فالأيدي القوة في أمر الله والأبصار البصائر في دين الله فبالبصائر يدرك الحق ويعرف وبالقوة يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه . فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم والفقه في الدين والبصر والتأويل ؛ ففجرت من النصوص أنهار العلوم واستنبطت منها كنوزها ورزقت فيها فهما خاصا كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل : " هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس ؟ فقال : لا ؛ والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ؛ إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه . فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الذي أنبتته الأرض الطيبة . وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن الطبقة الثانية ؛ وهي التي حفظت النصوص فكان همها حفظها وضبطها ؛ فوردها الناس وتلقوها بالقبول ؛ واستنبطوا منها واستخرجوا كنوزها واتجروا فيها ؛ وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات ؛ ورووها كل بحسبه . { قد علم كل أناس مشربهم } ..."
* فلذلك كان إجماعهم حجة !
يقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة " رواه الترمذي وغيره وصححه الالباني
قال شيخ الاسلام " وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصومًا، وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم، فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم، ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه"
وقال ابن القيم في اعلام الموقعين " من المتنع ان يقولوا في كتاب الله الخطأ المحض ويمسك الباقون عن الصواب فلا يتكلمون به وهذه الصورة المذكورة وامثالها قد تكلم فيها غيرهم بالصواب والمحظور إنما هو خلو عصرهم عن ناطق بالصواب واشتماله على ناطق بغيره فقط فهذا هو المحال.."
يتبع ..