المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نقض افتراءات للتشكيك في مصدرية القرآن الكريم و دلالته على نبوة محمد ..



د.ربيع أحمد
03-09-2013, 10:46 AM
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبي بعـده ، وعلى آله وصحبه ، أما بعد :


فمن سنن الله في خلقه التدافع بين الحق و الباطل و العداء بين أهل الإيمان و أهل الكفر فأعداء الإيمان لا يريدون ظهور الحق ، ولا علو الإسلام حتى لا يفضح باطلهم فيعملون جاهدين على التشكيك في الإسلام بشتى الطرق عن طريق قلب الحقائق و المجادلة بالباطل و نشر الأكاذيب و الخرافات و تدعيم الأكاذيب و الخرافات بالأدلة الواهية حتى تصير حقائق مسلمة عند ذوي العقول الضعيفة الجاهلة .


قال الله - سبحانه و تعالى - :﴿ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ ( سورة الكهف من الآية 56 ) أي أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُجَادِلُونَ بِالْبَاطِلِ، أَيْ: يُخَاصِمُونَ الرُّسُلَ بِالْبَاطِلِ، كَقَوْلِهِمْ فِي الرَّسُولِ: سَاحِرٌ، شَاعِرٌ، كَاهِنٌ، وَكَقَوْلِهِمْ فِي الْقُرْآنِ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، سِحْرٌ، شِعْرٌ، كِهَانَةٌ، وَكَسُؤَالِهِمْ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ، وَسُؤَالِهِمْ عَنِ الرُّوحِ عِنَادًا وَتَعَنُّتًا، لِيُبْطِلُوا الْحَقَّ بِجِدَالِهِمْ وَخِصَامِهِمْ بِالْبَاطِلِ[1].


والحق واضح ولكن الذين كفروا يجادلون بالباطل ليغلبوا به الحق ويبطلوه[2].


و قد قيض الله للإسلام من يدافع عنه و يذب عنه فلا تجد فرية افتراها أعداء الإسلام على الإسلام إلا و نجد عشرات بل مئات يردون عليها و يدحضونها بالحجة و البرهان ،ولا تجد شبهة يرددها أعداء الإسلام إلا و نجد عشرات بل مئات يدفعونها و يسحقونها بالدليل و البرهان .



و هذا مصداقا لقوله تعالى : ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّنُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ ( سورة الصف الآية 8 )أي يُرِيدُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ ﴿ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ ﴾ أَيْ: مَا بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، بِمُجَرَّدِ جِدَالِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ، فَمَثَلُهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُطْفِئَ شُعَاعَ الشَّمْسِ، أَوْ نُورَ الْقَمَرِ بِنَفْخِهِ، وَهَذَا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، فَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتِمَّ وَيَظْهَر َ؛ وَ لِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُقَابِلًا لَهُمْ فِيمَا رَامُوهُ وَأَرَادُوهُ : ﴿ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾[3] .



و قوله تعالى : ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ ( سورة الأنبياء من الآية 18 ) أَيْ نُبَيِّنُ الْحَقَّ فَيَدْحَضُ الْبَاطِلَ، وَلِهَذَا قَالَ: فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ أَيْ ذَاهِبٌ مُضْمَحِلٌّ[4].


و مما افتراه أعداء الإسلام من الباطل قولهم أن القرآن ليس من عند الله و ليس بمعجز و بإمكان البشر الإتيان بمثل القرآن و من ثم لا دليل على نبوة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - .


و قد رد القرآن عليهم بما يسحق افترائهم و بما يشفي صدور المؤمنين ، و لم يدع القرآن شبهة للكفار إلا ورد عليها و اقتلع جذورها قال الله - سبحانه و تعالى - :﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ ( سورة الفرقان الآية 33 ) ولا يأتيك هؤلاء المشركون بصفة غريبة من الصفات التي يقترحونها، ويريدون بها القدح فى نبوتك إلا دحضناها بالحق الذي يدفع قولهم ويقطع عروق أسئلتهم السخيفة، ويكون أحسن بيانا مما يقولون[5] . أي : وَلَا يَقُولُونَ قَوْلًا يُعَارِضُونَ بِهِ الْحَقَّ، إِلَّا أَجَبْنَاهُمْ بِمَا هُوَ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَأَبْيَنُ وَأَوْضَحُ وَأَفْصَحُ مِنْ مَقَالَتِهِمْ[6] .


أي : أنهم كلما جاءوا بمثل أو عرض شبهة ينزل القرآن الكريم بإبطال دعواهم وتفنيد كذبهم، وإلغاء شبهتهم ، وإحقاق الحق في ذلك وبأحسن تفسير لما اشتبه عليهم واضطربت نفوسهم فيه[7] .


قال الشعراوي – رحمه الله - : « ﴿ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ﴾ أي: بشيء عجيب يستدركون به عليك ﴿ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق ﴾ أي : ردّاً عليهم بالحق الثابت الذي لا جدالَ فيه »[8].

[1] - أضواء البيان للشنقيطي 3/306
[2] - في ظلال القرآن لسيد قطب 4/2276
[3]- تفسير ابن كثير 4/136
[4]- تفسير ابن كثير 5/294
[5]- تفسير المراغي 19/13
[6]- تفسير ابن كثير 6/99
[7]- أيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري 3/613
[8]- تفسير الشعراوي 14/8798

د.ربيع أحمد
03-09-2013, 10:47 AM
الدَّلِيل على صدق نبوة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -



قال أبو المظفر الإسفريني : « الدَّلِيل على صدق الْمُدَّعِي للنبوة هُوَ المعجزة و المعجزة فعل يظْهر على يَدي مدعي النُّبُوَّة بِخِلَاف الْعَادة فِي زمَان التَّكْلِيف مُوَافقا لدعواه وَ هُوَ يَدْعُو الْخلق إِلَى معارضته و يتحداهم أَن يَأْتُوا بِمثلِهِ فيعجزوا عَنهُ فيبين بِهِ صدق من يظْهر على يَده ، و َمَا من رَسُول من رسل الله تَعَالَى إِلَّا وَقد كَانَ مؤيدا بمعجزة أَو معجزات كَثِيرَة تدل على صدقه .


وَ قد أخبر الله تَعَالَى عَن كثير مِنْهَا فَذكر فِي قصَّة مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - فلق الْبَحْر وقلب الْعَصَا حَيَّة وَالْيَد الْبَيْضَاء و َفِي قصَّة دَاوُد وَسليمَان تليين الْحَدِيد وتسخير الرّيح وَالشَّيَاطِين والطيور وَجَمِيع دَوَاب الأَرْض فِي الْبر وَالْبَحْر .


وَ فِي قصَّة عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - إحْيَاء الْمَوْتَى وإبراء الأكمه والأبرص .



وَذكر فِي صفة الْمُصْطَفى - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه يَدْعُو مخالفيه إِلَى مُعَارضَة مَا أتى بِهِ من الْقُرْآن أَو سُورَة مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى ﴿ فَأتوا بِسُورَة من مثله ﴾ فَكَانَ الْقُرْآن معْجزَة لَهُ قاهرة لأعدائه إِلَى معجزات كَثِيرَة سواهَا ظَهرت على يَده بِخِلَاف الْعَادة مثل تكليم الذِّرَاع وتسبيح الْحَصَى فِي يَده و نبوع المَاء من بَين أَصَابِعه وحنين الْجذع عِنْد مُفَارقَته و إجابة الشَّجَرَة عِنْد دَعوته و انشقاق الْقَمَر فِي وقته كل ذَلِك قريب من مِائَتي معْجزَة ذكرنَا أَكْثَرهَا فِي الْأَوْسَط كل ذَلِك مَشْهُور فِي كتب الْأَخْبَار والتواريخ مَذْكُور اتّفق أهل النَّقْل على وجودهَا ونقولها بطرق يجب الْقطع على مَعْنَاهَا »[1] .


و قال فخر الدين الرازي : « الْمَسْأَلَة الأولى أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم – وَ الدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه ادّعى النُّبُوَّة وَظَهَرت المعجزة على يَده وكل من كَانَ كَذَلِك كَانَ رَسُولا حَقًا فالمقام الأولى أَنه ادّعى النُّبُوَّة وَذَلِكَ مَعْلُوم بالتواتر وَالْمقَام الثَّانِي أَنه أظهر المعجزة فالدليل عَلَيْهِ وُجُوه :



أَحدهَا : أَنه ظهر الْقُرْآن عَلَيْهِ وَالْقُرْآن كتاب شرِيف بَالغ فِي فصاحة اللَّفْظ وَفِي كَثْرَة الْعُلُوم فَإِن المباحث الإلهية وَارِدَة فِيهِ على أحسن الْوُجُوه وَ كَذَلِكَ عُلُوم الْأَخْلَاق و علوم السياسات وَ علم تصفية الْبَاطِن وَعلم أَحْوَال الْقُرُون الْمَاضِيَة
وهب أَن بَعضهم نَازع فِي كَونه بَالغا فِي الْكَمَال إِلَى حد الإعجاز إِلَّا أَنه لَا نزاع فِي كَونه كتابا شريفا عَالِيا كثير الْفَوَائِد كثير الْعُلُوم فصيحا فِي الْأَلْفَاظ .


ثمَّ إِن مُحَمَّدًا - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - نَشأ فِي مَكَّة وَتلك الْبَلدة كَانَت خَالِيَة عَن الْعلمَاء والأفاضل وَكَانَت خَالِيَة عَن الْكتب العلمية والمباحث الْحَقِيقِيَّة وَأَن مُحَمَّدًا - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يُسَافر إِلَّا مرَّتَيْنِ فِي مُدَّة قَليلَة ثمَّ إِنَّه لم يواظب على الْقِرَاءَة والاستفادة الْبَتَّةَ وانقضى من عمره أَرْبَعُونَ سنة على هَذِه الصّفة .


ثمَّ إِنَّه بعد انْقِضَاء الْأَرْبَعين ظهر مثل هَذَا الْكتاب عَلَيْهِ وَذَلِكَ معْجزَة قاهرة لِأَن ظُهُور مثل هَذَا الْكتاب على مثل ذَلِك الْإِنْسَان الْخَالِي عَن الْبَحْث والطلب والمطالعة والتعلم لَا يُمكن إِلَّا بإرشاد الله تَعَالَى ووحيه وإلهامه وَالْعلم بِهِ ضَرُورِيّ وَهَذَا هُوَ المُرَاد من قَوْله تَعَالَى : ﴿ وَإِن كُنْتُم فِي ريب مِمَّا نزلنَا على عَبدنَا فَأتوا بِسُورَة من مثله ﴾ أَي من مثل مُحَمَّد فِي عدم الْقِرَاءَة والمطالعة وَعدم الاستفادة من الْعلمَاء وَهَذَا وَجه قوي وبرهان قَاطع .


الْوَجْه الثَّانِي : وَهُوَ أَن مُحَمَّدًا - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - تحدى الْعَالمين بِالْقُرْآنِ فَهَذَا الْقُرْآن لَا يَخْلُو أَنه إِمَّا أَن يكون قد بلغ إِلَى حد الإعجاز أَو مَا كَانَ كَذَلِك فَإِن كَانَ بَالغا إِلَى حد الإعجاز فقد حصل الْمَقْصُود وَإِن قُلْنَا إِنَّه مَا كَانَ بَالغا إِلَى حد الإعجاز فَحِينَئِذٍ كَانَت معارضته مُمكنَة وَمَعَ الْقُدْرَة على الْمُعَارضَة وَحُصُول مَا يُوجب الرَّغْبَة فِي الْإِتْيَان بالمعارضة يكون ترك الْمُعَارضَة من خوارق الْعَادَات فَيكون معجزا فَثَبت ظُهُور المعجزة على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على كل وَاحِد من التَّقْدِيرَيْنِ .


الْوَجْه الثَّالِث : أَنه نقل عَنهُ معجزات كَثِيرَة وكل وَاحِد مِنْهَا وَإِن كَانَ مرويا بطرِيق الْآحَاد إِلَّا أَنه لَا بُد وَأَن يكون بَعْضهَا يَصح لِأَن الْأَخْبَار إِذا كثرت فَإِنَّهُ يمْتَنع فِي الْعَادة أَن يكون كلهَا كذبا فَثَبت بِهَذَا الْوُجُوه الثَّلَاثَة أَنه ظَهرت المعجزة عَلَيْهِ .


وَأما الْمقَام الثَّانِي : وَ هُوَ أَن كل من كَانَ كَذَلِك كَانَ نَبيا فالدليل عَلَيْهِ أَن الْملك الْعَظِيم إِذا حضر فِي المحفل الْعَظِيم فَقَامَ وَاحِد وَقَالَ يَا أَيهَا النَّاس أَنا رَسُول هَذَا الْملك إِلَيْكُم ثمَّ قَالَ أَيهَا الْملك إِن كنت صَادِقا فِي كَلَامي فَخَالف عادتك وقم عَن سريرك فَإِذا قَامَ ذَلِك الْملك عِنْد سَماع هَذَا الْكَلَام عرف الْحَاضِرُونَ بِالضَّرُورَةِ كَون ذَلِك الْمُدَّعِي صَادِقا فِي دَعْوَاهُ فَكَذَا هَهُنَا هَذَا تَمام الدَّلِيل »[2] .


ولو لم يكن للنبي - صلّى الله عليه وسلّم - معجزة إلا أنه تكلم بجوامع الكلم مع كونه أميّا لا يقرأ ولا يكتب ، لكفى ذلك حجة على الكفار بصدق نبوته - صلّى الله عليه وسلّم -[3] إذ ليس أمراً عادياً أن يتحول رجل أميّ بين عشية وضحاها إلى معلم بشرية، يبذل العلم للناس، ويقوّم علوم السابقين، ويبين ما فيها من تحريف وتغير [4] .



قال القسطلاني – رحمه الله - : « هذا الرسول كان أيضًا أميًا كأمته المبعوث إليهم، لم يقرأ كتابًا قط ولم يخطه بيمينه، كما قال تعالى : ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ ( سورة العنكبوت الآية 48) ، ولا خرج عن ديار قومه فأقام عند غيرهم حتى تعلم منهم، بل لو يزل أميًا بين أمة أمية لا يكتب ولا يقرأ حتى بلغ الأربعين من عمره ، ثم جاء بعد ذلك بهذا الكتاب المبين، وهذه الشريعة الباهرة، وهذا الدين القيم الذي اعترف حذاق الأرض ونظارها أنه لم يقرع العالم ناموس أعظم منه، وفي هذا برهان عظيم على صدقه »[5] .



يقول أبو عبد الله القرطبي : « ومقصود هَذَا الْكَلَام أَن النَّبِي الرفيع عِنْد الله الْعَظِيم الْقدر لَدَيْهِ كَانَ أُمِّيا مَنْسُوبا إِلَى ولادَة الْأُم وَمعنى هَذِه النِّسْبَة أَنه بقى على مَا كَانَ عَلَيْهِ أَي لم يتَعَلَّم علما من أحد وَلَا اكْتَسبهُ وَلَا خطّ كتابا بِيَمِينِهِ وَهَذَا مَعْرُوف من حَاله عِنْد الْمُوَافق والمخالف .


وَرُبمَا كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يحْسب شَيْئا عدده بأصابعه فَكَانَ يَقُول أَنا أمة أُميَّة لَا نكتب وَلَا نحسب الشَّهْر هَكَذَا وَهَكَذَا يُشِير بيدَيْهِ ثَلَاثًا والشهر هَكَذَا وَهَكَذَا و يخنس بِإِحْدَى أَصَابِعه يَعْنِي فِي الثَّالِثَة .


وَمَعَ ذَلِك فقد أُوتى جَوَامِع الْكَلم وبدائع الحكم وعلوم الْأَوَّلين فَأخْبر عَن الْقُرُون الْمَاضِيَة والأمم السالفة بأخبار هِيَ حق عِنْد أَرْبَاب الْعُلُوم و َلَا ينازعه أحد مِنْهُم فِيهَا بل إِذا سمعوها أذعنوا للتصديق بهَا وَ لم يكذبوه فِي شَيْء مِنْهَا وَكَذَلِكَ أخبر عَن الْأُمَم الْآتِيَة والوقائع المنتظرة أَخْبَارًا لَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا بإكتساب وَ إِنَّمَا ذَلِك بإعلام الْعَلِيم الْوَهَّاب فَجَاءَت على نَحْو مَا أخبر وَمَا بِهِ بشر وأنذر »[6] .


و قال الآمدي – رحمه الله - : « و الذي يدل على صِحَة رسَالَته وَصدقه في دَعوته مَا ظهر على يَده من المعجزات والآيات الباهرات فَمن جُمْلَتهَا الْقُرْآن الْمجِيد الذي : ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد ﴾ فَإِن من نظر بِعَين الِاعْتِبَار وَله قدم راسخ في الاختبار اعْلَم أَن الْقُرْآن من أظهر المعجزات وأبلغ مَا تخرق بِهِ الْعَادَات ، وَ أَن ذَلِك مِمَّا لَا يدْخل تَحت طوق الْبشر وَلَا يُمكن تَحْصِيله بفكر وَلَا نظر لما اشْتَمَل من النّظم الْغَرِيب و الأسلوب الْمُخَالف لما استنبطه البلغاء من الأوزان و الأساليب مَعَ الجزالة والبلاغة وَ جمع الْكثير من المعاني السديدة فِي الْأَلْفَاظ الوجيزة الرشيقة»[7].


و النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظهر بَين قَبيلَة مَا كَانُوا من أهل الْعلم وَمن بَلْدَة مَا كَانَ فِيهَا أحد من الْعلمَاء فِي ذَلِك الْعَصْر بل كَانَت الْجَهَالَة غالبة عَلَيْهِم وَلم يتَّفق لَهُ سفر من تِلْكَ الْبَلدة إِلَّا مرَّتَيْنِ كِلَاهُمَا إِلَى الشَّام وَ كَانَت مُدَّة سفر قَليلَة .


وَلم يذهب أحد من الْعلمَاء والحكماء إِلَى بَلَده حَتَّى يُقَال أَنه تعلم الْعلم من ذَلِك الْحَكِيم فإذا خرج من مثل هَذِه الْبَلدة وَمثل هَذِه الْقَبِيلَة رجل بارع الْكَمَال فائق على فحول الرِّجَال من غير أَن يمارس شَيْئا من الْعُلُوم وَلَا يخالط أحدا من الْعلمَاء أَلْبَتَّة .


ثمَّ بلغ فِي معرفَة الله تَعَالَى وَصِفَاته وأسمائه وأفعاله وَأَحْكَامه هَذَا الْمبلغ الْعَظِيم الَّذِي عجز عَنهُ جَمِيع الأذكياء من الْعُقَلَاء بل عجزوا عَن الْقرب مِنْهُ والمداناة لَهُ بل أقرّ الْكل بِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يُزَاد فِي تَقْرِير أصُول الدَّلَائِل ومهمات المعارف على مَا ورد فِي الْقُرْآن الْعَظِيم .


ثمَّ ذكر قصص الْأَوَّلين و تواريخ الْمُتَقَدِّمين بِحَيْثُ لم يتَمَكَّن أحد من الأعداء العارفين بذلك أَن يخطئه فِي شَيْء مِنْهَا بل بلغ كَلَامه فِي الْبعد من الريب إِلَى أَن قَالَ بذلك أَن يخطئه فِي شَيْء مِنْهَا بل بلغ كَلَامه فِي الْبعد من الريب إِلَى أَن قَالَ عِنْد مجادلتهم لَهُ : ﴿ تَعَالَوْا نَدع أبناءنا وأبناءكم وَنِسَاءَنَا ونساءكم وأنفسنا وَأَنْفُسكُمْ ثمَّ نبتهل فَنَجْعَل لعنة الله على الْكَاذِبين ﴾ .


فحادوا عَن ذَلِك وَعرفُوا صدقه واجابة دَعوته وَلم يقدر أحد من أعدائه أَن ينْسب إِلَيْهِ أَنه أَخذ ذَلِك من مطالعة كتاب وَلَا صُحْبَة أستاذ وَكَانَت هَذِه الاحوال ظَاهِرَة مَعْلُومَة عِنْد الأصدقاء والأعداء و القرباء و البعداء كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : ﴿ أم لم يعرفوا رسولهم فهم لَهُ منكرون ﴾ وَقَالَ : ﴿ وَمَا كنت تتلو من قبله من كتاب وَلَا تخطه بيمينك إِذا لارتاب المبطلون ﴾ وَقَالَ : ﴿ فقد لَبِثت فِيكُم عمرا من قبله أَفلا تعقلون ﴾ و كل من لَهُ عقل سليم و طبع مُسْتَقِيم علم أَن هَذِه الأحوال لَا تتيسر إِلَّا بالتعليم الإلهي والتوفيق الرباني [8] .


و من أدلة صدقه أَنه عَلَيْهِ - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ قبل إظهاره دَعْوَى الرسَالَة غير باحث عَن هَذِه الأمور وَلَا مَشْغُول بهَا وَلَا جرى على لِسَانه حَدِيث النُّبُوَّة لنَفسِهِ وَدَعوى الرسَالَة وَالَّذِي يدل على ذَلِك أَنه لَو اتّفق لَهُ خوض فِي هَذِه المطالب لقَالَ الْكفَّار أَنه أفنى عمره فِي ذَلِك وَفِي جمع الْقُرْآن حَتَّى قدر على ذَلِك بعد طول التَّأَمُّل والتدبر وَجَاء بِهِ .


وَلما لم يذكر هَذَا عَن أحد من الأعداء مَعَ شدَّة حرصهم على الطعْن فِيهِ وَفِي نبوته علمنَا ذَلِك وَمَعْلُوم أَن من انْقَضى من عمره أَرْبَعُونَ سنة وَلم يخض فِي شَيْء من هَذِه المطالب ثمَّ أَنه خَاضَ فِيهَا دفْعَة وَاحِد وأتى بِكَلَام عجز الْأَولونَ وَالْآخرُونَ عَن معارضته فصريح الْعقل يشْهد بِأَن هَذَا لَا يكون إِلَّا على سَبِيل الْوَحْي من الله تَعَالَى[9] .


و النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - نشأ أميا ، لا يقرأ ولا يكتب، ومات كذلك و كان في بلاد جهل ولم يخرج عن تلك البلاد قط إلا خرجتين: إحداهما إلى الشام و هو صبي مع عمه إلى أول أرض الشام ورجع ؛ والأخرى أيضا إلى أول الشام، ولم يطل بها البقاء، ولا فارق قومه قط.


و قد عرف عند قومه جميعاً بالصدق والأمانة، ولم يكن على علم بشيء من الدين، ولا الرسالات السابقة، ومكث على هذا أربعين سنة من عمره،ثم أتى بدين الإسلام و نزل عليه القرآن وقد جاء هذا القرآن بمعظم أخبار الرسالات السابقة وقص أخبارها بأدق تفاصيلها كأنه عايشها، وجاءت هذه الأخبار تماماً كما هو موجود في التوراة التي أنزلت على موسى، والإنجيل الذي أنزل على عيسى .


ولو وجد اليهود والنصارى في القرآن خلاف ما عندهم من الأخبار لروجوا ذلك و شنعوا فقد كانوا يتربصون به الدوائر ،و قد عودي صلى الله عليه وسلم ثم مكنه الله رقاب العرب كلها، فلم تتغير نفسه، ولا تغيرت سيرته، إلى أن مات ودرعه مرهونة في شعير لقوت أهله أصواع ليست بالكثيرة ولم يبيت قط في ملكه دينار ولا درهم.


و قد مات النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن علم الدنيا كيف تعبد ربها و اخرج العباد من جور الأديان إلى عدل الإسلام ، و آخى بين المسلمين و بين للناس ما يصلح دينهم ودنياهم فهل وجد في البشرية من وضع للبشر علوما تصلحهم دينا ودنيا أفرادا و جماعات و شعوب ثم يكون هو الذي يتولى تنفيذها و إصلاح أمة كبيرة بها و يتم له النجاح في ذلك بنفسه في عصره ؟ !! .


وهل وجد أحد من البشر قد وحد أمة مثل العرب خلال عشر سنوات ، والأمة العربية و قتئذ كانت أكثر الأمم شقاقا و تفرقة و عداءا و كثر فيها شرب الخمر و الزنا والقتل والنهب ؟!!
و لم يكن النبي محمد - عليه الصلاة والسلام - موحدا فقط فهناك محمد النبي ومحمد القائد ومحمد الملك ومحمد المقاتل ومحمد التاجر ومحمد الواعظ أو البشير ومحمد الحكيم ومحمد رجل الدولة ومحمد الخطيب ومحمد المصلح والمجدد ومحمد ملاذ اليتامى ومحمد حامي العبيد ( الرقيق ) والمدافع عنهم ومحمد محرر النساءومحمد القاضي.


و عظمة شخصيته - صلى الله عليه وسلم - تكمن في تنقية وتطهير أمة مشربة بالهمجية والتخلف ومنغمسة في ظلام أخلاقي مطلق ، وينهض بأمة بأكملها غارقة في الحضيض – كما كان حال العرب – ويجعلهم حملة مشاعل الحضارة والمدنية والتعليم ، و تكمن عظمة شخصيته - صلى الله عليه وسلم - أيضا في توحيد العناصر المتنافرة والمتضاربة والمتشاكسة والمختلفة في المجتمع برابطة الأخوة والإحسان ، والخلاصة أن اتحاد صفة وضع النظريات والتنظيم والقيادة و الدعوة إلى الله و دعوى النبوة لدليل ساطع على صدق نبوته - عليه الصلاة والسلام - .


و لرسولنا - صلى الله عليه وسلم - أعمالاً كبرى يتمثل فيها نجاحه في دعوته ، وهذه الأعمال يمكن تلخيصها فيما يلي :
العمل الأول : أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى على الوثنية، وأحل محلها الإيمان بالله واليوم الآخر .
العمل الثاني : أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى على رذائل الجاهلية ونقائصها ، و أقام مقامها الفضائل والمكارم والآداب .
العمل الثالث : أنه - صلى الله عليه وسلم - أقام الدين الحق الذي يصل بالإنسان إلى أقصى ما قدر له من كمال.
العمل الرابع: أنه - صلى الله عليه وسلم - أحدث ثورة كبرى غيرت الأوضاع، والعقول، والقلوب، ونظام الحياة الذى درج عليه أهل الجاهلية .

العمل الخامس: أنه - صلى الله عليه وسلم - وحّد الأمة العربية، وأقام دولة كبرى تحت راية القرآن الكريم .
هذه هي الأعمال التي تمثل نجاح الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مهمته ؛ وهى كما تبدو كلها أمور كبيرة، وإقامتها، بل إقامة واحد منها، من الخطورة بمكان .
وإنه لا يمكن أن يتأتى النجاح لفرد في بعض هذه الأعمال، فضلاً عن توفر النجاح في كل ناحية من هذه النواحي .


إن القيام بهذه الأعمال والنجاح فيها على هذا النحو، لهو المعجزة الكبرى لحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإذا كان عيسى - عليه السلام - له معجزة إحياء الموتى ، و موسى - عليه السلام - له معجزة العصا ، فإن هاتين المعجزتين في جانب هذه الانتصارات ، وإلى جانب هذه المعجزات ، لا تساوى شيئًا[10] .

و مما يؤيد صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من العبث أن يعرض شخص نفسه للقتل والتشريد والهلاك من أجل إدعاء كاذب ،و النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض نفسه للقتل والتشريد والهلاك و لا يريد من ذلك إلا نشر التوحيد و عبادة الله و التحلي بمكارم الأخلاق .

[1] - التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين 169-170
[2] - معالم أصول الدين لفخر الدين الرازي ص 99 - 100
[3] - شمائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأحمد زواوي 2/156
[4]- الرسل والرسالات لعمر الأشقر ص 203
[5] - المواهب اللدنية بالمنح المحمدية 2/534
[6]- الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 298
[7]- غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 342
[8]- إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق لابن الوزير ص 80
[9]- إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق لابن الوزير ص 81
[10]- العقائد الإسلامية لسيد سابق ص 201

د.ربيع أحمد
03-09-2013, 10:49 AM
فرية أن النبي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يكن أميا




يردد بعض المغرضين أن النبي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - لم يكن أميا ، و هذا باطل يخالف ما في السنة و الكتاب ففي القرآن ما يدل على أميته - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - قال تعالى : ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ﴾ ( سورة الأعراف من الآية 157 )


و أكثر المفسرين أن الأمي هو الذي لا يكتب ولا يقرأ ، وقد وصف الله – سبحانه و تعالى - النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمي ؛ لأنه لم يقرأ كتابا، ولا تعلم الكتابة .


قال الزجاج – رحمه الله - : « الْأُمِّيُّ : هو على خلقة الأمَّة، لم يتعلم الكتاب فهو على جِبِلَّتِهِ »[1] .



و قال الطبري – رحمه الله - : « "الأمي" عند العرب : هو الذي لا يكتب »[2] .



و قال الواحدي – رحمه الله - : « ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ﴾ وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ»[3].



و قال البغوي – رحمه الله -: « وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ عَلَى نَبِيٍّ أُمِّيٍّ لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ »[4].



و قال ابن عطية – رحمه الله - : « والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب، نسب إلى الأم: إما لأنه بحال أمه من عدم الكتاب لا بحال أبيه، إذ النساء ليس من شغلهن الكتاب، قاله الطبري، وإما لأنه بحال ولدته أمه فيها لم ينتقل عنها، وقيل نسب إلى الأمة وهي القامة والخلقة، كأنه ليس له من الآدميين إلا ذلك »[5] .

و قال ابن عطية – رحمه الله – أيضا : « والْأُمِّيِّينَ: يراد بهم العرب، والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ كتابا، قيل هو منسوب إلى الأم، أي هو على الخلقة الأولى في بطن أمه، وقيل هو منسوب إلى الأمة، أي على سليقة البشر دون تعلم، وقيل منسوب إلى أم القرى وهي مكة وهذا ضعيف ؛ لأن الوصف بـ ( الْأُمِّيِّينَ ) على هذا يقف على قريش، وإنما المراد جميع العرب »[6] .



و قال تعالى : ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ ( سورة العنكبوت الآية 48 )


يقول الطبري : « يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ : ﴿ وَمَا كُنْتَ ﴾ يَا مُحَمَّدُ ﴿ تَتْلُو ﴾ يَعْنِي تَقْرَأُ ﴿ مِنْ قَبْلِهِ ﴾ يَعْنِي مِنْ قَبْلِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ إِلَيْكَ ﴿ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ يَقُولُ: وَلَمْ تَكُنْ تَكْتُبُ بِيَمِينِكَ، وَلَكِنَّكَ كُنْتَ أُمِّيًّا ﴿ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ يَقُولُ: وَلَوْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُوحَى إِلَيْكَ تَقْرَأُ الْكِتَابَ، أَوْ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، إِذَنْ لَارْتَابَ: يَقُولُ: إِذَنْ لَشَكَّ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي أَمْرِكَ، وَمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي تَتْلُوهُ عَلَيْهِمُ الْمُبْطِلُونَ , الْقَائِلُونَ: إِنَّهُ سَجْعٌ وَكَهَانَةٌ، وَإِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ »[7] .


قال حسين المالكي : « و قوله : ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ ﴾ ( سورة العنكبوت من الآية 48) أي : و ما كنت تقرأ قبل هذا القرآن , الذي تسنم من قمة البلاغة وقمة الفصاحة أرفع مكان .


﴿ مِنْ كِتَابٍ ﴾ حتى يتعلق المرتاب بعلاقة الشبهة والارتياب .


﴿ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ أي: ولم تكن تكتب شيئا بيدك, وهو محو للشبهة الزائفة, وتقرير للمعجزة النائفة ولكن كما قال : ﴿مَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ﴾ ( سورة ونس من الآية 101 ) ﴿ وَلوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾ ( سورة النساء من الآية 82 ) .


فإن ظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الشريفة على من لم يعرف قبله بالقراءة والخط والتعليم خارق للعادة .
﴿ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ ( سورة العنكبوت من الآية 48) أي : و لو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا: لعله تعلمه أو التقطه من كتب الأولين , و سماهم لكفرهم مبطلين .


و قيل : لارتاب أهل الكتاب لوجدناهم نعتك على خلاف ما في كتبهم مقرر , فيكون إبطالهم باعتبار الواقع دون المقدر »[8] .


و قال الشيخ البراك – حفظه الله - : « وتأمل قولَه سبحانه وتعالى : ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ ( سورة العنكبوت الآية 48 ) فمن أدلة صدقه - صلى الله عليه وسلم - إنه جاء بهذا الكتاب العظيم، وهو - صلى الله عليه وسلم - أمي لا يقرأ ولا يكتب؛ بل يكتبُ ويقرأ له أصحابُه - رضي الله عنهم - .


فكونه بهذه المثابة من الصدق، والأمانة، والطهر، والشرف، والفضائل، ولا يقرأ، ولا يكتب، ولا اتصل بأحد يمكن أن يتلقى عنه، ثم يأتي بهذا القرآن العظيم المحكم؛ هذا أعظم دليل على صدقه »[9] .
و قال الزحيلي - حفظه الله - : « و لم تكن أيها النّبي قبل النّبوة تقرأ شيئا من الكتب، ولا تعرف الكتابة و لا القراءة ، ولا تستطيع أن تخطّ سطرا من الكتاب بيمينك ، فأنت خالي الذهن ، لم تتشرب بشيء سابق، ولو كنت قارئا وكاتبا ، لشكّ المشركون الجهلة فيما نزّل إليك ، وادّعوا أنه مأخوذ من كتب سابقة.


وإذ لم تكن كاتبا ولا قارئا ولا سبيل لك إلى التّعلم، فلا وجه لارتياب كل من عاداك، فأهل الباطل هم المتمسكون بالضلالات الموروثة، والانحرافات الشائعة »[10] .



و عن ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، أَنَّهُ قَالَ : « إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ ، لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا » يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَمَرَّةً ثَلاَثِينَ[11]



و قد رد ابن كثير على فرية من زعم أن النبي قد تعلم الكتابة فقال : « وَمَنْ زَعَمَ مِنْ مُتَأَخَّرِي الْفُقَهَاءِ، كَالْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، كَتَبَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ: "هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ" فَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةٌ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: "ثُمَّ أَخَذَ فَكَتَبَ": وَهَذِهِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: "ثُمَّ أَمَرَ فَكَتَبَ".


وَلِهَذَا اشْتَدَّ النَّكِيرُ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ على من قال بقول الباجي، وتبرؤوا مِنْهُ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا وَخَطَبُوا بِهِ فِي مَحَافِلِهِمْ: وَإِنَّمَا أَرَادَ الرَّجُلُ -أَعْنِي الْبَاجِيَّ، فِيمَا يَظْهَرُ عَنْهُ -أَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ، لَا أَنَّهُ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، كَمَا قَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِخْبَارًا عَنِ الدَّجَّالِ: "مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ" وَفِي رِوَايَةٍ: "ك ف ر، يَقْرَؤُهَا كُلُّ مُؤْمِنٍ" ، وَمَا أَوْرَدَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ، عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى تَعَلَّمَ الْكِتَابَةَ، فَضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ »[12] .



و قال ابن كثير أيضا : « وقد زعم بعضهم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى تعلم الكتابة ، وهذا قول لا دليل عليه، فهو مردود، إلا مارواه البيهقي من حديث أبي عقيل يحيى بن المتوكل ، عن مجالد ، عن عون بن عبد الله، عن أبيه قال : لم يمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كتب وقرأ .



وقال مجالد : فذكرت ذلك للشعبي فقال : قد صدق، سمعت من أصحابنا يذكرون ذلك، ويحيى هذا ضعيف ، و مجالد فيه كلام .


وهكذا ادعى بعض علماء المغرب أنه كتب- صلى الله عليه وسلم - صلح الحديبية، فأنكر ذلك عليه أشد الإنكار وتبرئ من قائله على رؤوس المنابر، وعملوا فيه الأشعار، وقد غره في ذلك ما جاء في بعض روايات البخاري: " فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله.." ، وقد علم أن المقيد يقضي على المطلق، ففي الرواية الأخرى : " فأمر علياً فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم – " »[13] .


و قال ابن حجر– رحمه الله - : « قَوْلُهُ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكِتَابَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ فَكَتَبَ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الصُّلْحِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَلَيْسَتْ فِيهِ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ .



وَلِهَذَا أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى أَبِي مَسْعُودٍ نِسْبَتَهَا إِلَى تَخْرِيجِ الْبُخَارِيِّ وَقَالَ لَيْسَ فِي الْبُخَارِيِّ هَذِهِ اللَّفْظَةُ وَلَا فِي مُسْلِمٍ وَهُوَ كَمَا قَالَ عَنْ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِلَفْظِ فَأَرَاهُ مَكَانَهَا فَمَحَاهَا وَكتب بن عَبْدِ اللَّهِ انْتَهَى وَقَدْ عَرَفْتُ ثُبُوتَهَا فِي الْبُخَارِيِّ فِي مَظِنَّةِ الْحَدِيثِ .


وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهَا النَّسَائِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى مِثْلَ مَا هُنَا سَوَاءً وَكَذَا أَخْرَجَهَا أَحْمَدُ عَنْ حُجَيْنِ بْنِ الْمَثْنَى عَنْ إِسْرَائِيلَ وَلَفْظُهُ فَأَخَذَ الْكِتَابَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ فَكَتَبَ مَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ .


وَقَدْ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ فَادَّعَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ بِيَدِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ يَكْتُبُ فَشَنَّعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأَنْدَلُسِ فِي زَمَانِهِ وَرَمَوْهُ بِالزَّنْدَقَةِ وَأَنَّ الَّذِي قَالَه مُخَالف الْقُرْآنَ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ بَرِئْتُ مِمَّنْ شَرَى دُنْيَا بِآخِرَةٍ وَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كَتَبَ .


فَجَمَعَهُمُ الْأَمِيرُ فَاسْتَظْهَرَ الْبَاجِيُّ عَلَيْهِمْ بِمَا لَدَيْهِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَقَالَ لِلْأَمِيرِ هَذَا لَا يُنَافِي الْقُرْآنَ بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ مَفْهُومِ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ النَّفْيَ بِمَا قَبْلَ وُرُودِ الْقُرْآنِ فَقَالَ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تخطه بيمينك وَبَعْدَ أَنْ تَحَقَّقَتْ أُمِّيَّتُهُ وَتَقَرَّرَتْ بِذَلِكَ مُعْجِزَتُهُ وَأُمِنَ الِارْتِيَابَ فِي ذَلِكَ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَعْرِفَ الْكِتَابَةَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيم فَتكون معْجزَة أُخْرَى .


وَذكر بن دِحْيَةَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ وَافَقُوا الْبَاجِيَّ فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ شَيْخُهُ أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ وَأَبُو الْفَتْحِ النَّيْسَابُورِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ عُلَمَاءِ إِفْرِيقِيَةَ وَغَيرهَا وَاحْتج بَعضهم لذَلِك بِمَا أخرجه بن أبيشَيْبَةَ وَعُمَرُ بْنُ شَبَّةَ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : مَا مَاتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَتَبَ وَقَرَأَ .


قَالَ مُجَاهِدٌ فَذَكَرْتُهُ لِلشَّعْبِيِّ فَقَالَ صَدَقَ قَدْ سَمِعْتُ مَنْ يَذْكُرُ ذَلِكَ وَمِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَلَى أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ مُعَاوِيَةَ أَنْ يَكْتُبَ لِلْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ فَقَالَ عُيَيْنَةُ أَتَرَانِي أَذْهَبُ بِصَحِيفَةِ الْمُتَلَمِّسِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّحِيفَةَ فَنَظَرَ فِيهَا فَقَالَ قَدْ كَتَبَ لَكَ بِمَا أُمِرَ لَكَ قَالَ يُونُسُ فَنَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب بعد مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ .


قَالَ عِيَاضٌ وَرَدَتْ آثَارٌ تَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ حُرُوفِ الْخَطِّ وَحُسْنِ تَصْوِيرِهَا كَقَوْلِهِ لِكَاتِبِهِ ضَعِ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِكَ فَإِنَّهُ أَذْكَرُ لَكَ وَقَوْلِهِ لِمُعَاوِيَةَ أَلْقِ الدَّوَاةَ وَحَرِّفِ الْقَلَمَ وَأَقِمِ الْبَاءَ وَفَرِّقِ السِّينَ وَلَا تَعْوِرِ الْمِيمَ وَقَوْلُهُ لَا تَمُدَّ بِسْمِ اللَّهِ قَالَ وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ كَتَبَ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرْزَقَ عِلْمَ وَضْعِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ أُوتِيَ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ .


وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِضَعْفِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَعَنْ قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ بِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ وَالْكَاتِبُ فِيهَا عَلِيٌّ وَقَدْ صَرَّحَ فِي حَدِيثِ الْمِسْوَرِ بِأَنَّ عَلِيًّا هُوَ الَّذِي كَتَبَ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ النُّكْتَةَ فِي قَوْلِهِ فَأَخَذَ الْكِتَابَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ لِبَيَانِ أَنَّ قَوْلَهُ : أَرِنِي إِيَّاهَا أَنَّهُ مَا احْتَاجَ إِلَى أَنْ يُرِيَهُ مَوْضِعَ الْكَلِمَةِ الَّتِي امْتَنَعَ عَلِيٌّ مِنْ مَحْوِهَا إِلَّا لِكَوْنِهِ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَتَبَ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ فَمَحَاهَا فَأَعَادَهَا لِعَلِيٍّ فَكَتَبَ .


وَبِهَذَا جَزَمَ بن التِّينِ وَأَطْلَقَ كَتَبَ بِمَعْنَى أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ وَهُوَ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ وَكَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَعَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كِتَابَةِ اسْمِهِ الشَّرِيفِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ أَنْ يَصِيرَ عَالِمًا بِالْكِتَابَةِ وَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا .


فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ يَعْرِفُ تَصَوُّرَ بعض الْكَلِمَات وَيحسن وَضعهَا بِيَدِهِ وَخُصُوصًا الْأَسْمَاءَ وَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا كَكَثِيرٍ مِنَ الْمُلُوكِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَرَتْ يَدُهُ بِالْكِتَابَةِ حِينَئِذٍ وَهُوَ لَا يُحْسِنُهَا فَخَرَجَ الْمَكْتُوبُ عَلَى وَفْقِ الْمُرَادِ فَيَكُونَ مُعْجِزَةً أُخْرَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ خَاصَّةً وَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ أُمِّيًّا وَبِهَذَا أَجَابَ أَبُو جَعْفَرٍ السِمْنَانِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَتَبعهُ بن الْجَوْزِيِّ وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا وَيَكُونُ آيَةً أُخْرَى لَكِنَّهُ يُنَاقِضُ كَوْنَهُ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ وَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي قَامَتْ بِهَا الْحُجَّةُ وَأُفْحِمَ الْجَاحِدُ وَانْحَسَمَتِ الشُّبْهَةُ .


فَلَوْ جَازَ أَنْ يَصِيرَ يَكْتُبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَعَادَتِ الشُّبْهَةُ وَقَالَ الْمُعَانِدُ كَانَ يُحْسِنُ يَكْتُبُ لَكِنَّهُ كَانَ يَكْتُمُ ذَلِكَ قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَالْمُعْجِزَاتُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا .


والْحَقُّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَكَتَبَ أَيْ أَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَكْتُبَ انْتَهَى وَفِي دَعْوَى أَنَّ كِتَابَةَ اسْمِهِ الشَّرِيفِ فَقَطْ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ تَسْتَلْزِمُ مُنَاقَضَةَ الْمُعْجِزَةِ وَتُثْبِتُ كَوْنَهَ غَيْرَ أُمِّيٍّ نَظَرٌ كَبِيرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ »[14] .


و قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على قول إبراهيم النخعي : " منهم من لا يحسن أن يكتب " في قوله تعالى : ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ﴾ ( سورة البقرة من الآية 78 ) : « قوله "لا يحسن أن يكتب" نفى لمعرفة الكتابة، لا لجودة معرفة الكتابة ، كما يسبق إلى الوهم .


و قديما قام بعض أساتذتنا يدعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كان يعرف الكتابة ، ولكنة لا يحسنها ، لخبر استدل به هو - أو اتبع فيه من استدل به من أعاجم المستشرقين - .
وهو ما جاء في تاريخ الطبري 3: 80 في شرح قصة الحديبية، حين جاء سهيل بن عمرو، لكتابة الصلح.


روى الطبري عن البراء بن عازب قال : ".. فلما كتب الكتاب، كتب:"هذا ما تقاضى عليه محمد رسول الله"، فقالوا لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك ، ولكن أنت محمد بن عبد الله. قال : أنا رسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله . قال لعلي : امح"رسول الله" . قال : لا والله لا أمحاك أبدا . فأخذه رسول الله وليس يحسن يكتب: "فكتب مكان "رسول الله" "محمد"، فكتب: " هذا ما قاضى عليه محمد".


فظن أولا أن ضمير الفاعل في قوله "فكتب مكان "رسول الله" - محمد"، هو رسول الله - صلى الله عليه - . وليس كذلك بل هو: علي بن أبي طالب الكاتب.


وفي الكلام اختصار، فإنه لما أمر عليا أن يمحو الكتاب فأبى، أخذه رسول الله، وليس يحسن يكتب، فمحاه. وتفسير ذلك قد أتى في حديث البخاري عن البراء بن عازب أيضًا 3: 184:"فقال لعلى" امحه. فقال على: ما أنا بالذي أمحاه فمحاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بيده ".


و أخرى أنه أخطأ في معنى"يحسن"، فإنها هنا بمعنى"يعلم"، وهو أدب حسن في العبارة ، حتى لا ينفي عنه العلم .


وقد جاء في تفسير الطبري 21: 6 في تفسير قوله تعالى : ﴿ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ ( سورة السجدة من الآية 7 ) ، ما نصه :"معنى ذلك : أعلم كل شيء خلقه. كأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى أنه ألهم كل خلقه ما يحتاجون إليه .


وأن قوله:"أحسن"، إنما هو من قول القائل:"فلا يحسن كذا"، إذا كان يعلمه". هذا، والعرب تتأدب بمثل هذا، فتضع اللفظ مكان اللفظ؛ وتبطل بعض معناه، ليكون تنزيها للسان، أو تكرمه للذي تخبر عنه.


فمعنى قوله :"ليس يحسن يكتب " ، أي ليس يعرف يكتب . و قد أطال السهيلي في الروض الأنف 1: 230 بكلام ليس يغني في تفسير هذا الكلمة »[15] .


و قد يستدل بعض المغرضين بما رواه البخاري عن ابْن عَبَّاس أنه لَمَّا حُضِرَ النَّبِىّ - عليه السلام – و َفِى الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ النَّبِى - صلى الله عليه وسلم - : " هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ " لكن هذا من قبيل بنى الملك أي أمر بالبناء و كتب الملك أي أمر بالكتابة ، و كسى الملك الكعبة أي أمر بكسوة الكعبة ،و الناس لم تزل تقول : قَتلَ الأمير ، وكتب الأمير وجلد وضرب ، و إنما تقصد أنه وجه بذلك وأمر به ، من غير أن يفهم السامع أنه فعله بنفسه .



و الأمي في لغة العرب هو من لا يقرأ و لا يكتب قال ابن منظور : « والأُمِّيّ : الَّذِي لَا يَكْتُبُ ، قَالَ الزَّجَّاجُ : الأُمِّيُّ الَّذِي عَلَى خِلْقَة الأُمَّةِ لَمْ يَتَعَلَّم الكِتاب فَهُوَ عَلَى جِبِلَّتِه ، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ : ﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ ﴾ .


قَالَ أَبو إِسْحَاقَ : مَعْنَى الأُمِّيّ المَنْسُوب إِلَى مَا عَلَيْهِ جَبَلَتْه أُمُّه أَيْ لَا يَكتُبُ، فَهُوَ فِي أَنه لَا يَكتُب أُمِّيٌّ ؛ لأَن الكِتابة هِيَ مُكْتسَبَةٌ فكأَنه نُسِب إِلَى مَا يُولد عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا وَلَدَته أُمُّهُ عَلَيْهِ ، وَ كَانَتِ الكُتَّاب فِي الْعَرَبِ مِنْ أَهل الطَّائِفِ تَعَلَّموها مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الحِيرة ، وأَخذها أَهل الْحِيرَةِ عَنْ أَهل الأَنْبار .


و فِي الْحَدِيثِ : " إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُب وَلَا نَحْسُب " ، أَراد أَنهم عَلَى أَصل وِلَادَةِ أُمِّهم لَمْ يَتَعَلَّموا الكِتابة و الحِساب ، فَهُمْ عَلَى جِبِلَّتِهم الأُولى . وَ فِي الْحَدِيثِ : " بُعِثتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّة "


قِيلَ لِلْعَرَبِ الأُمِّيُّون ؛ لأَن الكِتابة كَانَتْ فِيهِمْ عَزِيزة أَو عَديمة ؛ و َمِنْهُ قَوْلُهُ : ﴿ بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ﴾ »[16] .


و قال الزبيدي أن الأمي هو : « مَنْ لَا يَكْتُبُ، أَو من عَلَى خِلْقَةِ الأُمَّةِ لم يَتَعَلَّم الكِتابَ وَهُوَ باقٍ على جِبِلَّتِهِ .



وَ فِي الحَديث : " إِنّا أُمَّةٌ أُمِّيَّة لَا نَكْتُب وَلَا نَحْسُب " أَرَادَ : أنّه على أَصْلِ وِلادَةِ أُمِّهم لم يَتَعَلَّمُوا الْكِتَابَة و الحِسابَ ، فهم على جبِلَّتِهم الأُولَى.


وَقيل لسَيّدِنا مُحَمَّدٍ - صَلَّى الله عَلَيْه وسلَّم - الأُمِّي؛ لأَنَّ أُمَّةَ العَرَب لم تَكُنْ تكتُبُ وَلَا تَقْرَأُ المكتوبَ، وَبَعثه الله رَسُولًا وَهُوَ لَا يَكْتُبُ وَلَا يقْرَأ مِنْ كِتابٍ .


وَ كَانَت هَذِه الخَلَّةُ إِحْدَى آياتِهِ المُعْجِزَة ؛ لأنَّه - صَلَّى الله عَلَيْه وسلَّم - تَلَا عَلَيْهِم كِتابَ الله مَنْظومًا تارَةً بعد أُخْرَى بالنَّظْمِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَلم يُغَيِّرْه وَلم يُبَدِّلْ أَلْفَاظَهُ، فَفِي ذَلِك أَنْزَلَ الله تعالىَ : ﴿ وَمَا كُنتَ تَتلُواْ مِن قَبلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُهُ بِيَمِيِنكَ إِذًا لَّاَرتَابَ المُبْطِلُونَ ﴾ »[17] .

[1]- معاني القرآن للزجاج 2/381
[2]- تفسير الطبري 2/259
[3]- الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 1/416
[4]- تفسير البغوي 3/445
[5]- تفسير ابن عطية 1/169
[6]- تفسير ابن عطية 5/306
[7] - تفسير الطبري 18/424
[8] - العقد الثمين في شرح أحاديث أصول الدين ص 200
[9] - شرح العقيدة الطحاوية للبراك ص 90
[10]- التفسير الوسيط للزحيلي 3/1971
[11]- رواه البخاري في صحيحه 3/27 حديث رقم 1913 ، ورواه مسلم في صحيحه 2/761 حديث رقم 1080 ، واللفظ للبخاري
[12] - تفسير ابن كثير 6/286
[13] - الفصول في السيرة لابن كثير ص 296
[14] - فتح الباري لابن حجر 5/503-504
[15]- هامش تفسير الطبري ص 2/258 بتحقيق الشيخ أحمد شاكر
[16]- لسان العرب لابن منظور 12/34
[17] - تاج العروس للزبيدي 31/237

د.ربيع أحمد
03-09-2013, 10:51 AM
كيفية التمييز بين الأنبياء و غيرهم من الناس



يفترق الأنبياء – صلوات الله عليهم – عن الناس بفروق كثيرة منها ما ذكره ابن الوزير – رحمه الله – في كتابه الماتع إيثار الحق على الخلق و هي :


الأول : اتِّفَاق الْأَنْبِيَاء فِي التَّوْحِيد وَالدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى وَالتَّرْغِيب فِيمَا لَدَيْهِ و الترهيب من عُقُوبَته فَالْأول مِنْهُم يبشر بِالثَّانِي وَالْآخر مِنْهُم يُؤمن بِالْأولِ وَلَيْسَ أحد مِنْهُم يُخطئ أحدا وَلَا ينقم عَلَيْهِ وَلَا ينتقصه بِخِلَاف سَائِر أَرْبَاب الخوارق وَسَائِر الْعلمَاء والأولياء فَإِنَّهُ يجْرِي بَينهم الْمُعَارضَة الدَّالَّة على ارْتِفَاع الْعِصْمَة .


الْوَجْه الثَّانِي : صَاحب المعجزات يُفَارق صَاحب الْحِيَل وَالسحر فِي الزي و الرواء[1] والهيبة وَالْكَلَام وَالْأَفْعَال وَفِي كَافَّة الْأَحْوَال أنوار التَّقْوَى تلألأ فِي وَجه صَاحب المعجزات وآثار الصّلاح تلوح فِي وُجُوه أهل الْخيرَات تعرفهم بِسِيمَاهُمْ كَمَا قَالَ رَبهم ومولاهم .


شيمتهم التحلم والاصطبار وَدينهمْ الصفح وَالْعَفو وَالِاسْتِغْفَار والجود فالسخاء و الإيثار والمصافاة مَعَ الْمَسَاكِين والفقراء والحنو والحدب على الضُّعَفَاء والأعراض عَن زخارف الدُّنْيَا وَعَن إتباع الشَّهَوَات والهوى .


وَأما أَصْحَاب السحر والحيل فرذائل التزوير لائحة فِي وُجُوههم و مخايل الختل والغدر وَاضِحَة فِي جباههم قصارى هَمهمْ استمالة الأغبياء وإيثار مَوَاطِن الْمُلُوك والأمراء والأغنياء وَغَايَة أمنيتهم نيل الجاه والعز فِي الدُّنْيَا وَالظفر بِمَا يُوَافق النَّفس والهوى .


وَإِلَى هَذَا الْوَجْه الْإِشَارَة بقوله تَعَالَى : ﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ ( سورة المؤمنون الآية 69 ) وَقَوله : ﴿ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ﴾ ( سورة يونس من الآية 77 ) كَمَا تقدم فِي كَلَام مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - وَقَوله تَعَالَى : ﴿ أتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُممُّهْتَدُونَ ﴾ ( سورة يس الآية 21 ) وأمثالها .



الْوَجْه الثَّالِث : أَنه يظْهر على كل نَبِي مَا يميزه من السَّحَرَة وَأهل الْحِيَل مِثَال ذَلِك إِيمَان السَّحَرَة بمُوسَى واعترافهم أَن الَّذِي جَاءَ بِهِ لَيْسَ فِي جنس السحر وإحياء عِيسَى للموتى وَذَلِكَ إن مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - كَانَ فِي وَقت ظهر فِيهِ علم السحر وَعِيسَى – عَلَيْهِ السَّلَام - كَانَ فِي زمن ظهر فِيهِ علم الطِّبّ فجَاء كل وَاحِد مِنْهُمَا بِمَا يعرفهُ أهل عصره وَكَذَلِكَ مُحَمَّد - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانَ فِي زمَان ظَهرت فِيهِ الفصاحة فجَاء بِالْقُرْآنِ الْعَظِيم الَّذِي لَا يخفى عَلَيْهِم مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من وُجُوه الإعجاز [2].


و يجب ألا نخلط بين الأمر الخارق للعادة مع دعوى النبوة الذي هو المعجزة و بين الأمر الخارق للعادة مع الاستقامة والصلاح و عدم دعوى النبوة و هي الكرامة فالمعجزة هي الأمر الخارق للعادة ، وكذلك الكرامة في عرف أئمة أهل العلم المتقدمين إلا أن المعجزة تقترن بدعوى النبوة و الكرامة لا تقترن بذلك [3] .


و من يقول لا نثبت الكرامة ؛ لأننا لو أثبتنا الكرامات لاشتبه الساحر بالولي و الولي بالنبي ؛ لأن كل واحد منهم يأتي بخارق فالجواب لا يمكن الالتباس ؛ لأن الكرامة على يد ولي ، والولي لا يمكن أن يدعي النبوة ، ولو ادعاها لم يكن وليا أية النبي تكون على يد نبي ، والشعوذة و السحر على يد عدو بعيد من ولاية الله ، وتكون بفعله باستعانته بالشياطين فينالها بكسبه بخلاف الكرامة فهي من الله تعالى لا يطلبها الولي بكسبه [4] .



و كل عاقل يميز بين سيرة الساحر و الدجال والكذاب و بين سيرة النبي الصالح ، وكل إناء بما فيه ينضح فالنبي لابد أن يأتي بما أمرت به الأنبياء من التوحيد والعدل والصدق ، ويخبر بيوم الجزاء و بما أعد الله تعالى للصالحين و ما توعد به الكافرين و الفاسقين و الساحر لا يأمر بخير و الدجال كذلك مثله لا يحول إلا حول مال أو رياسة أو جاه أو منصب ولابد أن يثبت كذب المتنبئ الكاذب وصدق النبي الصادق الصالح [5].


و السحرة – هداهم الله – مشتهرون بالفسق و الفجور و عدم الدعوة لعبادة الله و لا يتحدّون الآخرين ولا يطلبون المواجهة فيما يقومون به ؛ لعلمهم أنّ عملهم نتيجة التعليم والتعلّم والتمرين، وأنّ هذا الطريق مفتوح أمام جميع الناس الراغبين في سلوك ذلك الطريق، وأمّا ما يقوم به الأنبياء فإنّه مقترن بالتحدي وطلب المواجهة وتعجيز الآخرين لإثبات أحقّيّتهم فيما يدّعونه من عبادة الله وحده .


وهناك فرق شاسع بين غاية الأنبياء من أفعالهم الخارقة للعادة و هدف السحرة من أفعالهم الخارقة للعادة ، فالأنبياء – عليهم الصلاة والسلام - إنّما يقومون بتلك الأفعال الخارقة للعادة من أجل تحقيق غاية نبيلة سامية رفيعة ألا وهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور و من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد أما وأفعال السحرة فغايتها هدف مادي من طلب المال أو المنصب أو كلاهما.


إذن يشترط للمعجزة أن تكون أمر خارق للعادة مع دعوى النبوة و دعوة الناس لعبادة الله و صلاح الداعي إلى عبادة الله تمييزا لهؤلاء الرسل عن غيرهم ممن تحدث لهم بعد الخوارق لكنهم لا يدعون لعبادة الخالق ولا لدين الخالق ، بل سحرة خبثاء .


ومن هنا ندرك كذب من يقول المعجزة ليست دليلا على صحة نبوة مدعي النبوة لظهور الخوارق على أيدي بعض الناس غير الأنبياء إذ يستحيل ظهور أمر خارق للعادة مع دعوى النبوة ،و يكون مدعيها كاذب فالتأييد بالمعجزة مع دعوى الرسالة إن لم يكن مدعيها نبي فهذا تأييد من الله لمدعيها الكاذب و هذا لا يجوز في حق الله ،فتحتم أن يكون ظهور المعجزة مع دعوى الرسالة دليل على صدق النبوة .


و قد اتفقت الكتب والشرائع على أنّ الله - جل وعلا - لا يؤيّد الكذّاب عليه، بل لا بُدّ أن يظهر كذبه، وأن ينتقم منه،و لو أن حاجب الأمير قال للناس :إن الأمير قد أمركم بفعل كذا وكذا . فإن الناس يعلمون أنه لا يتعمد الكذب في مثل هذا وإن لم يكن بحضرته ، فكيف إذا كان بحضرته ، والله لا يغيب عنه شيء .


و قال ابن القيم : «وقد جرت لي مناظرة بمصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرياسة، فقلت له في أثناء الكلام : أنتم بتكذيبكم محمدا صلى الله عليه وسلم قد شتمتم الله أعظم شتيمة. فعجب من ذلك ، و قال : مثلك يقول هذا الكلام ! فقلت له : إسمع الآن تقريره .


إذا قلتم : إن محمدا ملك ظالم قهر الناس بسيفه و ليس برسول من عند الله ، و قد أقام ثلاثا وعشرين سنة يدعي أنه رسول الله أرسله إلى الخلق كافة ، و يقول : أمرني الله بكذا و نهاني عن كذا و أوحى إلي كذا؛ ولم يكن من ذلك شيء ، ويقول : إنه أباح لي سبي ذراري من كذبني وخالفني ونساءهم وغنيمة أموالهم وقتل رجالهم ، فلا يخلو إما أن تقولوا أن الله سبحانه كان يطلع على ذلك ويشاهده ويعلمه، أو تقولوا أنه خفى عنه ولم يعلم به.


فإن قلتم لم يعلم به نسبتموه إلى أقبح الجهل وكان من علم ذلك أعلم منه، وإن قلتم بل كان ذلك كله بعلمه ومشاهدته واطلاعه عليه فلا يخلو إما أن يكون قادرا على تغييره والأخذ على يديه ومنعه من ذلك، أولا، فإن لم يكن قادرا فقد نسبتموه إلى أقبح العجز المنافي للربوبية، وإن كان قادرا وهو مع ذلك يعزه و ينصره و يؤيده و يعيه و يعلى كلمته ، ويجيب دعاءه ويمكنه من أعدائه ويظهر على يديه من أنواع المعجزات والكرامات ما يزيد على الألف .


ولا يقصده أحد بسوء إلا أظفره به ولا يدعوه بدعوة إلا استجابها له فهذا من أعظم الظلم والسفه الذي لا يليق نسبته إلى آحاد العقلاء فضلا عن رب الأرض والسماء؛ فكيف وهو يشهد له بإقراره على دعوته وبتأييده وبكلامه وهذه عندكم شهادة زور وكذب فلما سمع ذلك قال معاذ الله أن يفعل الله هذا بكاذب مفتر بل هو نبي صادق من اتبعه أفلح وسعد »[6] .


و يشترط للمعجزة عدم قدرة الناس على معارضتها وعجزهم عن مقابلتها والإتيان بما جاء به مدعي النبوة أو إبطال ما جاء به مدعي النبوة .
[1]- الرواء حسن المنظر
[2]- إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق لابن الوزير ص 69 باختصار
[3]- تهذيب شرح الطحاوية للدكتور محمد صلاح الصاوي ص 83
[4]- شرح العقيدة الواسطية لابن عثيمين ص 618 - 619
[5] العقائد السلفية لأحمد بن حجر آل بوطامي ص 424
[6] - هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم ص 87

د.ربيع أحمد
03-09-2013, 10:52 AM
فرية المعجزة لا تدل على صدق النبوة ؛ لأن ما كان خارقاً للعادة في زمان قد يكون اعتيادياً في زمان آخر


يردد بعض المغرضين – هداهم الله للحق – فرية يغني فسادها عن إفسادها و بطلانها عن إبطالها ألا وهي أن المعجزة لا تدل على صدق النبوة بحجة أن ما كان خارقاً للعادة في زمان قد يكون اعتيادياً في زمان آخر كالطيران في السماء من الأُمور المستحيلة في الزمان الماضي ، ولكنّه أصبح الآن من الأُمور المتعارفة و الاعتيادية عن طريق اختراع الطائرة ، و التحدث عن بعد كان مستحيلا في الزمان الماضي لكنه أصبح الآن من الأُمور المتعارفة و الاعتيادية عن طريق اختراع الهاتف المحمول .

و الجواب أن المعجزة تكون على خلاف القوانين المتعارفة و تحدث دون توفر العلل الاعتيادية سواء في الماضي أو الحاضر كتحول عصا موسى - عليه السلام - إلى حيّة تسعى كان ولا يزال خارقا للعادة ، أو أن ينبع الماء بين أصابع النبي محمد - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم – كان ولا يزال خارقا للعادة أو يسبح الطعام بين يديه كان ولا يزال خارقا للعادة ،و الطيران في الهواء له سبب اعتيادي في الزمن الحاضر ألا و هو الطائرة ،و الكلام عن بعد له سبب اعتيادي في الزمن الحاضر ألا وهو التليفون المحمول فلا يكون خارقا للعادة .

د.ربيع أحمد
03-09-2013, 10:54 AM
فرية أن دلائل النبوة غير القرآن لا يصح التمسك بها في إثبات نبوته - صلى الله عليه وسلم -



يقول بعض المغرضين مَا ذكره المسلمون من تَسْبِيح الْحَصَى وانشقاق الْقَمَر وتكليم الغزالة وحنين الْجذع وَنَحْو ذَلِك مما يعتقدونه أنه يدل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - هو من قبيل الآحاد فآحاد هَذِه الأمور غير مَعْلُومَة وَلَا منقولة بطرِيق التَّوَاتُر وَإِنَّمَا هى مستندة إِلَى الْآحَاد وهى مِمَّا لَا سَبِيل إِلَى التَّمَسُّك بهَا فى القطعيات وَإِثْبَات النبوات .


و قد أجاب الآمدي عن هذه الشبهة بقوله : « و َمَا قيل من آحَاد المعجزات التي أَشَرنَا إِلَيْهَا من انْشِقَاق الْقَمَر و تسبيح الْحَصَى وَ نَحْوه لم يثبت بطرِيق متواتر فبعيد فَإنَّا نعلم ضَرُورَة أَن مَا من عصر من الْأَعْصَار إِلَّا وَ أَصْحَاب الْأَخْبَار وأرباب الْآثَار وَأهل السّير والتواريخ قوم لَا يتَصَوَّر مِنْهُم التواطؤ على الْكَذِب عَادَة و هم بأسرهم متفقون على نقل آحَاد هَذِه الْأَعْلَام وَكَذَا فِي كل عصر إِلَى الصَّدْر الأول .


ثمَّ وَلَو سلم ذَلِك في الْآحَاد فَلَا محَالة أَن عُمُوم وُرُودهَا يُوجب الْعلم بصدور المعجزات عَنهُ وَظُهُور الخوارق عَنهُ جملَة كَمَا نعلم بِالضَّرُورَةِ شجاعة عنتر وكرم حَاتِم لِكَثْرَة مَا رَوَاهُ النقلَة عَنْهُمَا من أَحْوَال مُخْتَلفَة تدل على كرم هَذَا وشجاعة هَذَا وَإِن كَانَ نقل كل حَالَة مِنْهُمَا نقل آحَاد لَا نقل تَوَاتر »[1].


و قال القسطلاني – رحمه الله - : « و أما ما عدا القرآن من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - ، كنبع الماء من بين أصابعه ، وتكثير الطعام ببركته ، وانشقاق القمر، و نطق الجماد ، فمنه ما وقع التحدي به ، و منه ما وقع دالا على صدقه من غير سبق تحد .


و مجموع ذلك يفيد القطع بأنه ظهر على يده - صلى الله عليه وسلم- من خوارق العادات شيء كثير - كما يقطع بجود حاتم ، و شجاعة على- و إن كانت أفراد ذلك ظنية وردت موارد الآحاد مع أن كثيرا من المعجزات النبوية قد اشتهر و رواه العدد الكثير ، والجم الغفير ، و أفاد الكثير منه القطع عند أهل العلم بالآثار و العناية بالسير و الأخبار ، و إن لم يصل عند غيرهم إلى هذه المرتبة لعدم عنايتهم بذلك .


فلو ادعى مدع أن غالب هذه الوقائع مفيد للقطع النظري لما كان مستبعدا ، و ذلك أنه لا مرية أن رواة الأخبار في كل طبقة قد حدثوا بهذه الأخبار في الجملة ، ولا يحفظ عن أحد من الصحابة مخالفة الراوي فيما حكاه من ذلك و لا الإنكار عليه فيما هنالك ، فيكون الساكت منهم كالناطق ، لأن مجموعهم محفوظ عن الإغضاء على الباطل ،


وعلى تقدير أن يوجد من بعضهم إنكار أو طعن على بعض من روى شيئا من ذلك فإنما هو من جهة توقف في صدق الراوي أو تهمته بكذب، أو توقف في ضبطه أو نسبته إلى سوء الحفظ، أو جواز الغلط، ولا يوجد أحد منهم طعن في المروى، كما وجد منهم في غير هذا الفن من الأحكام وحروف القرآن ونحو ذلك والله أعلم »[2] .


[1]- غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 357
[2] - المواهب اللدنية للقسطلاني 2/249 - 250

د.ربيع أحمد
03-09-2013, 10:56 AM
لماذا كان القرآن معجزة لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم – ؟




قال الله - سبحانه و تعالى - : ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ و المراد من مثل القرآن : ما يشابهه في حسن النظم ، وبراعة الأسلوب و جمال العبارة و عذوبة الكلمات والقصد في اللفظ مع وفائه بالمعنى و الجمال الصوتي للكلام وهذا الوجه من الإعجاز يتحقق في كل سورة من سور القرآن .



و كان القرآن الكريم معجزة عظيمة لنبينا محمد - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - ؛ لِأَنَّهُ قد تحدى بِهِ كَافَّة الفصحاء البلغاء وَمُدَّة مقَامه بَينهم فَلم يقدروا على مُعَارضَة شَيْء مِنْهُ فَإِذن هُوَ معْجزَة بَيَان ذَلِك أَنه - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَعثه الله إِلَى قوم كَانَ مُعظم علمهمْ الْكَلَام الفصيح البليغ الْمليح .


فَلَقَد خصوا من البلاغة وَالْحكم بِمَا لم يخص بِهِ غَيرهم من الْأُمَم و أوتوا من دراية اللِّسَان مَا لم يؤته إِنْسَان وَمن فصل الْخطاب مَا يتعجب مِنْهُ أولُوا الْأَلْبَاب جعل الله لَهُم ذَلِك طبعا وخلقه فيهم غريزة و وضعا فَيَأْتُونَ مِنْهُ على البديهة بالعجب و يدلون بِهِ إِلَى كل سَبَب .


فيخطبون بدلهَا فِي المقامات وشديد الْخطب ويرتجزون بِهِ بَين الطعْن وَالضَّرْب فَرُبمَا مدحوا شَيْئا وضيعا فَرفع وَرُبمَا ذموا شريفا فَوضع فيصيرون بمدحهم النَّاقِص كَامِلا و النبيه خاملا وَ ذَلِكَ لفصاحتهم الرائقة وبلاغتهم الفائقة فَكَانُوا يأْتونَ من ذَلِك بِالسحرِ الْحَلَال ويوردونه أعذب من المَاء الزلَال فيخدعون بذلك الْأَلْبَاب ويذللون الصعاب ويذهبون الأحن ويهيجون الْفِتَن ويجرءون الجبان ويبسطون يَد الْجَعْد البنان .


فهم يعْرفُونَ أَصْنَاف الْكَلَام مَا كَانَ مِنْهُ نثرا وَمَا كَانَ ذَا نظام قد عمروا بذلك أزمانهم وَجعلُوا ذَلِك مهمتهم وشأنهم حَتَّى بلغُوا مِنْهُ أَعلَى الرتب وأطلوا مِنْهُ على كل غابة وَ سَب لَا ينازعهم فِي ذَلِك مُنَازع وَ لَا يدافعهم عَن ذَلِك مدافع فَبَيْنَمَا هم كَذَلِك إِذْ جَاءَهُم رَسُول كريم بقرآن حَكِيم فعرضه عَلَيْهِم وأسمعهم إِيَّاه وَ اسْتدلَّ على صدقه بذلك .


وَ قَالَ لَهُم إِن كُنْتُم فِي شكّ من صدقي فائتوا بقرآن مثله وَ عند سماعهم لَهُ راعهم مَا سمعُوا و َعَلمُوا أَنهم دون معارضته قد انْقَطَعُوا فَلم يقدروا على ذَلِك ثمَّ إِنَّه طلب مِنْهُم أَن يأتوا بِعشر سور مثله فعجزوا وَلم يقدروا ثمَّ طلب مِنْهُم أَن يَأْتُوا بِسُورَة مثله فَلم يستطيعوا .


وَعند ذَلِك أخْبرهُم ، وَقَالَ لَهُم : ﴿ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ يعْنى عونا فَعِنْدَ ذَلِك ظهر عجزهم وتبلدهم وَإِن كَانُوا هم اللسن الفصحاء اللد البلغاء .


وَ عند ظُهُور عجزهم تبينت حجَّته ووضحت محجته وَ هَكَذَا حَال غير وَاحِد من الرُّسُل أَلا ترى أَن الله تَعَالَى أرسل مُوسَى بن عمرَان إِلَى قوم كَانَ مُعظم علمهمْ وعملهم السحر فأيده بقلب العصى حَيَّة تسْعَى فرام السَّحَرَة معارضته ومقاومته فَلم يقدروا من ذَلِك على شَيْء وَ عند عجزهم تبين صدقه وَأَنه رَسُول من عِنْد الله .


وَكَذَلِكَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَام - بَعثه الله فِي زمَان كَانَ مُعظم علم أَهله الطِّبّ فأيده بإحياء الْمَوْتَى وإبراء الأكمه والأبرص وَعند عجزهم عَن الْإِتْيَان بِشَيْء من ذَلِك تبين صدقه وَأَنه رَسُول من عِنْد الله فَعلم بِهَذَا الْبُرْهَان الَّذِي لم يتَطَرَّق إِلَيْهِ خلل أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله[1] .


و قال تقي الدين المقريزي : « فإن اللَّه - جل جلاله - أنزل هذا القرآن الكريم ، على وصف مباين لأوصاف كلام البشر ؛ لأنه منظوم و ليس منثور ونظمه ليس كنظم الرسائل ، ولا نظم الخطب ، و لا نظم الأشعار، و لا هو كسجع الكهان ، و أعلم سبحانه وتعالى أن أحدا لا يستطيع أن يأتي بمثله، ثم أمره - صلّى اللَّه عليه وسلّم - أن يتحداهم على الإتيان به إن ادعوا أنهم قادرون عليه »[2] .


و قال ابن كثير – رحمه الله - : « فَلَفْظُهُ مُعْجِزٌ تَحَدَّى بِهِ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ أَوْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ مَثَلِهِ أَوْ بِسُورَةٍ، وَقَطَعَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الِاسْتِقْبَالِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا وَلَنْ يَفْعَلُوا وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ كَلَامُ الْخَالِق - عز و جل - ، وَالله تَعَالَى لَا يُشبههُ شئ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ »[3].

و قال ابن تيمية – رحمه الله - : « قَدْ يَكُونُ فِي تَتَابُعِ الْآيَاتِ حِكْمَةٌ، فَيُتَابِعُ تَعَالَى بَيْنَ الْآيَاتِ، كَمَا أَرْسَلَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِآيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ لِعُمُومِ دَعْوَتِهِ وَشُمُولِهَا، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ كُلَّمَا كَثُرَتْ، وَتَوَارَدَتْ عَلَى مَدْلُولٍ وَاحِدٍ كَانَ أَوْكَدَ وَأَظْهَرَ وَأَيْسَرَ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَقَدْ يَعْرِفُ دَلَالَةَ أَحَدِ الْأَدِلَّةِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْآخَرَ، وَقَدْ يُبَلِّغُ هَذَا مَا لَمْ يُبَلِّغْ هَذَا، وَقَدْ يُرْسَلُ الْأَنْبِيَاءُ بِآيَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ، وَتُقْسَى قُلُوبُ الْكُفَّارِ عَنِ الْإِيمَانِ لِتَتَابُعِ الْآيَاتِ آيَةً بَعْدَ آيَةٍ لِيَنْتَشِرَ ذَلِكَ، وَيَظْهَرَ، وَيَبْلُغَ ذَلِكَ قَوْمًا آخَرِينَ فَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِيمَانِهِمْ، كَمَا فَعَلَ بِآيَاتِ مُوسَى، وَآيَاتِ مُحَمَّدٍ، كَمَا ذَكَرَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ يُقْسِي قَلْبَ فِرْعَوْنَ لِتَظْهَرَ عَجَائِبُهُ وَآيَاتُهُ، وَكَمَا صَدَّ الْمُكَذِّبِينَ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى يُمَانِعُوهُ، وَيَسْعَوْا فِي مُعَارَضَتِهِ، وَالْقَدْحِ فِي آيَاتِهِ فَيَظْهَرُ بِذَلِكَ عَجْزُهُمْ عَنْ مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ، وَغَيْرِهِ مِنْ آيَاتِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ ظُهُورِ آيَاتِهِ، وَبَرَاهِينِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوِ اتُّبِعَ ابْتِدَاءً بِدُونِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى مُعَارَضَتِهِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَى يَقِينِهِ، وَصَبْرِهِ، وَجِهَادِهِ، وَيَقِينِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَصَبْرِهِمْ، وَجِهَادِهِمْ مَا يَنَالُونَ بِهِ عَظِيمَ الدَّرَجَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ »[4] .


و قال القسطلاني - رحمه الله - : « إعجازه هو الوصف الذي صار به خارجا عن جنس كلام العرب من النظم و النثر و الخطب والشعر والرجز والسجع، فلا يدخل في شيء منها ولا يختلط بها مع كون ألفاظه وحروفه من جنس كلامهم، ومستعملة في نظمهم ونثرهم، ولذلك تحيرت عقولهم، وتدلهت أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله في حسن كلامهم، فلا ريب أنه في فصاحته قد قرع القلوب ببديع نظمه، وفى بلاغته قد أصاب المعاني بصائب سهمه، فإنه حجة الله الواضحة، ومحجته اللائحة، ودليله القاهر، وبرهانه الباهر، ما رام معارضته شقي إلا تهافت تهافت الفراش في الشهاب، وذل ذل النقد حول الليوث الغضاب .


وقد حكى عن غير واحد ممن عارضه أنه اعترته روعة وهيبة كفته عن ذلك، كما حكى عن يحيى بن حكيم الغزال- بتخفيف الزاي وقد تشدد- وكان بليغ الأندلس في زمانه أنه قد رام شيئا من هذا، فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها، وينسج بزعمه على منوالها، فاعترته خشية ورقة، حملته على التوبة والإنابة .


وحكى أيضا أن ابن المقفع – و كان أفصح أهل وقته - طلب ذلك ورامه ، و نظم كلاما وجعله مفصلا، وسماه سورا فاجتاز يوما بصبي يقرأ في مكتب قوله تعالى : ﴿ وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ... ﴾ الآية ، فرجع و محى ما عمل وقال : أشهد أن هذا لا يعارض أبدا ، وما هو من كلام البشر »[5] .


و قال الزرقاني – رحمه الله - : « أبرع الشعراء لم يكتب له التبريز والإجادة والجمع بين المعنى الناصع واللفظ الجامع إلا في أبيات معدودة من قصائد محدودة أما سائر شعرهم بعد فبين متوسط ورديء وها هم أولاء يعلنون حكمهم هذا نفسه أو أقل منه على الناثرين من الخطباء والكتاب .


وإن أردت أن تلمس بيدك هذه الخاصة فافتح المصحف الشريف مرة واعمد إلى جملة من كتاب الله وأحصها عددا ثم خذ بعدد تلك الكلمات من أي كلام آخر وقارن بين الجملتين ووازن بين الكلامين وانظر أيهما أملأ بالمعاني مع القصد في الألفاظ ثم انظر أي كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها بما هو خير منها في ذلك الكلام الإلهي و كم كلمة يجب أن تسقطها أو تبدلها في ذلك الكلام البشري؟


إنك إذا حاولت هذه المحاولة فستنتهي إلى هذه الحقيقة التي أعلنها ابن عطية فيما يحكي السيوطي عنه وهو يتحدث عن القرآن الكريم إذ يقول لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم توجد ا.هـ


وذلك بخلاف كلام الناس مهما سما وعلا حتى كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أوتي جوامع الكلم وأشرقت نفسه بنور النبوة والوحي وصيغ على أكمل ما خلق الله فإنه مع تحليقه في سماء البيان وسموه على كلام كل إنسان لا يزال هناك بون بعيد بينه وبين القرآن وسبحان الله و بحمده سبحانه الله العظيم ! »[6] .
و يقول الشيخ أبو بكر الجزائري – رحمه الله - : « نزول القرآن الكريم عليه وحيا أوحاه الله تعالى إليه فإنه أكبر معجزة عرفها الوجود البشري إذ العادة قاضية بأن أميا لم يقرأ و لم يكتب و لم يجلس بين يدى أستاذ أو مرب أو معلم قط قاضية باستحالة تكلمه بالعلوم والمعارف و معرفته لها و تفوقه فيها فضلا عن أن يأتي بما لم يأت به غيره من كل معاصريه و ممن يأتي بعدهم إلى انقراض الحياة و نهاية الكون .


فالقرآن الكريم و قد حوى أعظم تشريع و اشتمل على قدر من العلوم الإلهية و على أثبت الحقائق العلمية كنظام الزوجية و القوانين الكونية كما تعرض لبدء الخليقة و ذكر من قصص الماضين و أخبار السابقين الشيء العجيب و أخبر بمغيبات عديدة فكانت كما أخبر حرفيا بلا زيادة أو نقصان .


هذا الكتاب يأتي به أمي يتحدى كل الخلق على الإتيان بمثله أو بعشر سور من مثل سوره أو سورة واحدة فتعجز البشرية و معها الجن كلهم و تطأطئ رأسها و تسكت عن المعارضة لأكبر معجزة أوتيها محمد - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم – لتدل على صدق نبوته و ثبوت رسالته .


عرف هذا فداه أبي و أمي حين قال : "ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة"[7] .


و هذه صورة التحدي قائمة إلى يوم القيامة تحويها آية واحدة هي قوله تعالى : ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ ( سورة البقرة 23 -24 )
فقوله تعالى : ﴿ وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾ أي الإتيان بسورة قرآنية من أمي مثل محمد - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم – في أميته هذا التحدي ، وهو نفي الإتيان بسورة من أمي مثل محمد في أميته مازال قائما »[8].


و قال الشعراوي – رحمه الله - : « والحق سبحانه وتعالى تدرج في التحدي مع الكافرين فطلب منهم أن يأتوا بمثل القرآن، ثم طلب عشر سور من مثله


ثم تدرج في التحدي فطلب سورة واحدة. والنزل في التحدي من القرآن كله إلى عشر سور. إلى سورة واحدة دليل ضد من تحداهم فلا يستطيعون أن يأتوا بمثل القرآن فيقول : إذن فأتوا بعشر سور فلا يستطيعون ويصبح موقفهم مدعاة للسخرية .


فيقول : فأتوا بسورة و هذا منتهى الاستهانة بالذين تحداهم الله سبحانه وتعالى و إثباتاً لأنهم لا يقدرون على شيء »[9].

و الألفاظ والمعاني والتراكيب النحوية في القرآن تنوَّعت ودخل فيها كل لغات في العرب ، و العربي نفسه كان لا يحيط بلغة العرب جميعاً بألفاظها وتفاصيلها ، و القرآن فيه كلمات بلغة قريش، وفيه كلمات بلغة هذيل، وفيه كلمات بلغة تميم، وفيه كلمات بلغة هوازن، وفيه كلمات بلغة أهل اليمن، وفيه كلمات بلغة حِمْيَر و غير ذلك .

و للقرآن جمالا لغويا يفوق أجمل الأشعار ، و جمال القرآن اللغوي يعتبر ظاهرة عجيبة امتاز بها القرآن في رصف حروفه وترتيب كلماته ترتيبا دونه كل ترتيب ونظام تعاطاه الناس في كلامهم .


وبيان ذلك أنك إذا استمعت إلى حروف القرآن خارجة من مخارجها الصحيحة تشعر بلذة جديدة في رصف هذه الحروف بعضها بجانب بعض في الكلمات والآيات هذا ينقر وذاك يصفر وهذا يخفى وذاك يظهر وهذا يهمس وذاك يجهر إلى غير ذلك مما هو مقرر في باب مخارج الحروف وصفاتها في علم التجويد .


ومن هنا يتجلى لك جمال لغة القرآن حين خرج إلى الناس في هذه المجموعة المختلفة المؤتلفة الجامعة بين اللين والشدة والخشونة والرقة والجهر والخفية على وجه دقيق محكم وضع كلا من الحروف وصفاتها المتقابلة في موضعه بميزان حتى تألف من المجموع قالب لفظي مدهش .


وقشرة سطحية أخاذة امتزجت فيها جزالة البداوة في غير خشونة برقة الحضارة من غير ميوعة وتلاقت عندها أذواق القبائل العربية على اختلافها بكل يسر وسهولة ولقد وصل هذا الجمال اللغوي إلى قمة الإعجاز بحيث لو داخل في القرآن شيء من كلام الناس لاعتل مذاقه في أفواه قارئيه واختل نظامه في آذان سامعيه .


ومن عجيب أمر هذا الجمال اللغوي وذاك النظام الصوتي أنهما كما كانا دليل إعجاز من ناحية كانا سورا منيعا لحفظ القرآن من ناحية أخرى وذلك أن من شأن الجمال اللغوي والنظام الصوتي أن يسترعي الأسماع ويثير الانتباه ويحرك داعية الإقبال في كل إنسان إلى هذا القرآن الكريم وبذلك يبقى أبد الدهر سائدا على ألسنة الخلق وفي آذانهم ويعرف بذاته ومزاياه بينهم فلا يجرؤ أحد على تغييره وتبديله [10] .


و على الرغم من أن القرآن الكريم نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم- على مدار الثلاث والعشرين سنة، ومع ذلك فأول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل من القرآن من البلاغة على درجة واحدة .


و يقول الشيخ مناع القطان : « والحقيقة أن القرآن معجز بكل ما يتحمله هذا اللفظ من معنى :


فهو مُعْجز في ألفاظه و أسلوبه ، والحرف الواحد منه في موضعه من الإعجاز الذي لا يغني عنه غيره في تماسك الكلمة، والكلمة في موضعها من الإعجاز في تماسك الجملة، والجملة في موضعها من الإعجاز في تماسك الآية .


وهو مُعْجز في بيانه ونظمه، يجد فيه القارئ صورة حية للحياة والكون والإنسان .


وهو مُعجز في معانيه التي كشفت الستار عن الحقيقة الإنسانية ورسالتها في الوجود .


وهو مُعجز بعلومه ومعارفه التي أثبت العلم الحديث كثيرًا من حقائقها المغيبة .


وهو مُعجز في تشريعه وصيانته لحقوق الإنسان وتكوين مجتمع مثالي تسعد الدنيا على يديه »[11] .


و يقول الدكتور محمد بكر إسماعيل : « اصطفى الله من ألفاظ اللغة العربية أفصحها وأيسرها على اللسان، وأسهلها على الأفهام, وأمتعها للآذان، وأقواها تأثيرًا على القلوب, وأوفاها تأدية للمعاني، ثم ركَّبَها تركيبًا محكم البنيان، لا يدانيه في نسجه كلام البشر من قريب ولا من بعيد، وذلك لما يكمن في ألفاظه من الإيحاءات التي تعبر إلى خلجات النفس، وتقتَحِم شغاف القلوب .


وما يكون في تركيبه من ألفة عجيبة، وانسجام وثيق بين هذه الألفاظ, مهما تقاربت مخارج حروفها أو تباعدت .

فقد جاء رصف المباني وفق رصف المعاني، فالتقى البحران على أمر قد قُدِرَ، فاستساغته جميع القبائل على اختلاف لهجاتها قراءة وسماعًا .


واستسلمت لهذا النسق الفريد، والترتيب العجيب أساطين البلاغة في كل زمان ومكان، واستمدَّت منه النفوس المؤمنة روحها وريحانها، فلم يشبع من دراسته العلماء، ولم يملّ تلاوته أحد من الأتقياء »[12] .


نعود و نكرر أن القرآن معجزة عظيمة لنبينا محمد - صلى الله عليه و سلم - فلا يستطيع أحد أن يأتي بمثله إذ رغم أن القرآن من جنس ما تكلم به العرب و هم كانوا من أهل البلاغة و الفصاحة و الشعر و النثر إلا أنه لم يستطع أحد منهم أن يأتي بمثله في البيان و الحلاوة و الحسن و الكمال و العذوبة و أداء المعنى المراد رغم حرص العرب ، و غير العرب على معارضته .


فلما عجز العرب عن الإتيان بمثله ، و هم كانوا في قمة الفصاحة و البلاغة و كانوا يتربصون بالإسلام الدوائر و كانوا يحاربون الإسلام بشتى الطرق علم أن غيرهم أعجز عن معارضة القرآن و لا يستطيع بشر معارضته فهو ليس من قول البشر بل قول خالق البشر .


قال تعالى : ﴿ أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ يقول تعالى ذكره: أم يقول هؤلاء المشركون: افترى محمد هذا القرآن من نفسه فاختلقه وافتعله؟ قل يا محمد لهم: إن كان كما تقولون إني اختلقته وافتريته، فإنكم مثلي من العَرب، ولساني مثل لسانكم، وكلامي [مثل كلامكم] ، فجيئوا بسورة مثل هذا القرآن [13].


و قد احتج الله علي مشركي العرب فِي إثبات نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما قطع عذرهم فقال : ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا ﴾ أي : فِي شك من صدق هذا الكتاب الذي أنزلناه على محمد ، وقلتم : لا ندري هل هو من عند الله أم لا ؟ ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ أي : من مثل القرآن ، كقوله : ﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾ ( سورة الطور من الآية 34 )، و قوله : ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾( سورة يونس من الآية 38 ) ، و قوله : ﴿ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه ِ﴾ ( سورة الإسراء من الآية 88 ) كل ذلك يريد به مثل القرآن فالمعنى: فأتوا بمثل ما أتى به محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الإعجاز وحسن النظم والإخبار عما كان وعما يكون دون تعلم الكتاب و دراسة الأخبار [14] .


و معنى الْآيَة : هُوَ الِاحْتِجَاج على الْكفَّار بمعجزة الْقُرْآن ؛ فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ : إِن مُحَمَّدًا قد افتراه ، فَقَالَ لَهُم : إِن كَانَ افتراه و أتى بِهِ من عِنْد نَفسه فَأتوا أَنْتُم بِمثلِهِ[15].


و يقول تعالى : ﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ﴾( سورة الطور الآيات 33 – 34 ) أي : يقول : جلّ ثناؤه : فليأت قائلو ذلك له من المشركين بقرآن مثله، فإنهم من أهل لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ولن يتعذر عليهم أن يأتوا من ذلك بمثل الذي أتى به محمد - صلى الله عليه وسلم - إن كانوا صادقين في أن محمدا صلى الله عليه وسلم تقوّله وتخلَّقه [16] .


و يقول السمرقندي – رحمه الله - : « يعني إن قلتم إن محمداً - صلّى الله عليه وسلم - يقول: من ذات نفسه ، فأتوا بمثل هذا القرآن كما جاء به إِنْ كانُوا صادِقِينَ في قولهم »[17].


و لنقف يسيرا مع قوله - سبحانه و تعالى - :﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ( سورة يونس الآية 37- 38 ) فهذه الكلمات القرآنية تحكي ما يردده المغرضون و ترد عليهم بكلام موجز في غاية الروعة و الفصاحة .


قال ابن كثير – رحمه الله - : « هَذَا بَيَانٌ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْبَشَرُ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ وَلَا بِعَشْرِ سُوَرٍ وَلَا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ بِفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَوَجَازَتِهِ وحلاوته واشتماله على المعاني العزيزة النافعة في الدنيا والآخرة لا تكون إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الَّذِي لَا يُشْبِهُهُ شيء في ذاته ولا في صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ فَكَلَامُهُ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ .


وَ لِهَذَا قَالَ تَعَالَى : ﴿ وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ أَيْ مِثْلُ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا كَلَامَ الْبَشَرِ ﴿ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي من الكتب المتقدمة ومهيمنا عليه وَمُبَيِّنًا لِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ وَالتَّبْدِيلِ .

وَقَوْلُهُ : ﴿ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ﴾ أَيْ وَبَيَانُ الْأَحْكَامِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بَيَانًا شَافِيًا كَافِيًا حَقًّا لَا مِرْيَةَ فِيهِ مِنَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِيهِ خَبَرُ مَا قَبْلَكُمْ وَنَبَأُ مَا بَعْدَكُمْ وَفَصْلُ مَا بَيْنَكُمْ أَيْ خَبَرٌ عَمَّا سَلَفَ وَعَمَّا سَيَأْتِي وَحُكْمٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ بِالشَّرْعِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ.


وَقَوْلُهُ : ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ﴾ أَيْ إِنِ ادَّعَيْتُمْ وَافْتَرَيْتُمْ وَشَكَكْتُمْ فِي أَنَّ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَقُلْتُمْ كَذِبًا وَمَيْنًا إِنَّ هَذَا مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ فَمُحَمَّدٌ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَقَدْ جَاءَ فِيمَا زَعَمْتُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَأْتُوا أَنْتُمْ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، أَيْ من جنس هذا الْقُرْآنِ وَاسْتَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ مَنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ إِنْسٍ وَجَانٍّ .


وَهَذَا هُوَ الْمَقَامُ الثَّالِثُ فِي التَّحَدِّي فَإِنَّهُ تَعَالَى تَحَدَّاهُمْ وَدَعَاهُمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ مِنْ عند محمد فليعارضوه بنظير ما جاء به وحده وليستعينوا بمن شاؤوا وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهِ فَقَالَ تَعَالَى : ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ ( سورة الْإِسْرَاءِ الآية 88 )


ثُمَّ تَقَاصَرَ مَعَهُمْ إِلَى عَشْرِ سُوَرٍ مِنْهُ فَقَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ : ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ﴾ ( سورة هُودٍ الآية 13) ثُمَّ تَنَازَلَ إِلَى سُورَةٍ فَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ : ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ﴾ .


وَكَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ تَحَدَّاهُمْ بِسُورَةٍ مِنْهُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ أَبَدًا فَقَالَ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ ( سورة البقرة من الآية 24) الآية .
هَذَا وَقَدْ كَانَتِ الْفَصَاحَةُ مِنْ سَجَايَاهُمْ، وَأَشْعَارِهِمْ وَمُعَلَّقَاتِهِمْ إِلَيْهَا الْمُنْتَهَى فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَكِنْ جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِهِ ، وَ لِهَذَا آمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِمَا عَرَفَ مِنْ بَلَاغَةِ هَذَا الْكَلَامِ وَحَلَاوَتِهِ وَجَزَالَتِهِ وَطَلَاوَتِهِ وَإِفَادَتِهِ وَ بَرَاعَتِهِ فَكَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ وَأَفْهَمَهُمْ لَهُ وَأَتْبَعَهُمْ لَهُ وَأَشَدَّهُمْ لَهُ انْقِيَادًا كَمَا عَرَفَ السَّحَرَةُ لِعِلْمِهِمْ بِفُنُونِ السِّحْرِ أَنَّ هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ مُؤَيَّدٍ مُسَدَّدٍ مُرْسَلٍ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ هَذَا لَا يُسْتَطَاعُ لِبَشَرٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ .


وَكَذَلِكَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بُعِثَ فِي زَمَانِ عُلَمَاءِ الطِّبِّ وَمُعَالَجَةِ الْمَرْضَى فَكَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَ يُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ، وَ مِثْلُ هَذَا لَا مَدْخَلَ لِلْعِلَاجِ وَالدَّوَاءِ فِيهِ فَعَرَفَ مَنْ عَرَفَ مِنْهُمْ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ .


وَ لِهَذَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ " مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا آمَنَ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا " »[18] .


و قال المراغي – رحمه الله - : « ﴿ وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ أي لا يصح ولا يعقل أن يفتريه أحد على الله من دونه وينسبه إليه، إذ لا يقدر على ذلك غيره - عز و جل - ، فإن ما فيه من علوم عالية ، و حكم سامية، وتشريع عادل، وآداب اجتماعية، وأنباء بالغيوب الماضية والمستقبلة ليس في طوق البشر ولا هو داخل تحت قدرته وفى حيّز مكانته، ولئن سلم أن بشرا في مكنته ذلك فلن يكون إلا أرقى الحكماء و الأنبياء و الملائكة ، ومثل هذا لن يفترى على الله شيئا .


و لقد ثبت أن أشد أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، و هو أبو جهل قال : إن محمدا لم يكذب على بشر قط ، أفيكذب على الله ؟ .
﴿ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْه ِ﴾ أي ولكن كان تصديق الذي تقدمه من الوحي لرسل الله تعالى بالإجمال كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم بدعوته إلى أصول الدين الحق من الإيمان بالله واليوم الآخر وصالح الأعمال بعد أن نسى بعض هذا بقية أتباعهم وضلّوا عن بعض، ولم يكن محمد النبي الأمي يعلم شيئا من ذلك لولا الوحي عن ربه .


﴿ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ ﴾ أي وتفصيل ما كتب وأثبت من الشرائع والأحكام والعبر والمواعظ وشئون الاجتماع .


﴿ لا رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي لا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه لوضوح برهانه ؛ لأنه الحق والهدى .


﴿ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ﴾ أي من وحيه لا افتراء من عند غيره و لا اختلافا كما قال : ﴿ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾ .


و بعد أن أبان أنه أجلّ وأعظم من أن يفترى لعجز الخلق عن الإتيان بمثله .


انتقل إلى حكاية زعم هؤلاء الجاهلين والمعاندين الذين قالوا: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد افتراه و فنّد مزاعمهم وتعجّب من حالهم وشنيع مقالهم وتحداهم أن يأتوا بمثله فقال :


﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ﴾ أي ما كان ينبغي أن تقولوا إن محمد - صلى الله عليه وسلم - افتراه من عند نفسه واختلقه ، إذ لو كان الأمر كما تقولون وأنه اختلقه و افتراه ، فأتوا بسورة مثله في نظمه و أسلوبه و علمه مفتراة في موضوعها ، لا تلتزمون أن تكون حقا في أخبارها ، فإن لسانه لسانكم ، وكلامه كلامكم ، وأنتم أشد مرانا وتمرسا للنثر والنظم منه ، واطلبوا من يعينكم على ذلك من دون الله ، ولن تستطيعوا أن تفعلوا شيئا ، فإن جميع الخلق عاجزون عن هذا ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ إن كنتم صادقين في زعمكم أنه مفترى .


وإذ قد عجزتم عن ذلك مع شدة تمرّسكم ولم يوجد في كلام أولئك الذين نصبت لهم المنابر في سوق عكاظ ، و بهم دارت رحى النظم والنثر ، وتقضّت أعمارهم في الإنشاء والإنشاد مثله- فهو ليس من كلام البشر، بل هو من كلام خالق القوى والقدر .


و من البين أنه ما كان لعاقل مثله - صلى الله عليه وسلم - أن يتحداهم هذا التحدي لو لم يكن موقنا أن الإنس والجن لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن في جملته ولا بسورة مثله، إذ لو كان هو الذي أنشأه و ألّفه لمصلحة الناس برأيه لكان عقله و ذكاؤه يمنعانه من الجزم بعجز عقلاء الخلق من العوالم الظاهرة و الباطنة عن الإتيان بسورة مثل ما أتى هو به .


إذ العاقل الفطن يعلم أن ما يمكنه من الأمر قد يمكن غيره ، بل ربما وجد من هو أقدر منه عليه .


و الخلاصة : - إن محمد - صلى الله عليه وسلم - كان على يقين بأنه من عند ربه، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كغيره لا يقدر على الإتيان بمثله »[19] .


و يقول السعدي – رحمه الله - : « يقول تعالى : ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ أي : غير ممكن ولا متصور، أن يفترى هذا القرآن على الله تعالى ؛ لأنه الكتاب العظيم الذي ﴿ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ ( فصلت الآية 42 ).


و هو الكتاب الذي لو ﴿ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ ، و هو كتاب الله الذي تكلم به ﴿ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ ، فكيف يقدر أحد من الخلق ، أن يتكلم بمثله ، أو بما يقاربه ، و الكلام تابع لعظمة المتكلم ووصفه ؟!! .


فإن كان أحد يماثل الله في عظمته ، و أوصاف كماله ، أمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن ، ولو تنزلنا على الفرض والتقدير ، فتقوله أحد على رب العالمين ، لعاجله بالعقوبة ، و بادره بالنكال .


﴿ وَلَكِنْ ﴾ الله أنزل هذا الكتاب، رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين .


أنزله ﴿ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ من كتب الله السماوية ، بأن وافقها ، وصدقها بما شهدت به ، و بشرت بنزوله ، فوقع كما أخبرت .


﴿ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ ﴾ للحلال والحرام ، والأحكام الدينية والقدرية ، و الإخبارات الصادقة .


﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ أي: لا شك ولا مرية فيه بوجه من الوجوه، بل هو الحق اليقين: تنزيل من رب العالمين الذي ربى جميع الخلق بنعمه .


و من أعظم أنواع تربيته أن أنزل عليهم هذا الكتاب الذي فيه مصالحهم الدينية و الدنيوية ، المشتمل على مكارم الأخلاق و محاسن الأعمال .


﴿ أَمْ يَقُولُونَ ﴾ أي : المكذبون به عنادا وبغيا : ﴿ افْتَرَاهُ ﴾ محمد على الله ، واختلقه ، ﴿ قُلْ ﴾ لهم - ملزما لهم بشيء - إن قدروا عليه ، أمكن ما ادعوه ، و إلا كان قولهم باطلا .


﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ يعاونكم على الإتيان بسورة مثله ، و هذا محال ، و لو كان ممكنا لادعوا قدرتهم على ذلك ، ولأتوا بمثله .


ولكن لما بان عجزهم تبين أن ما قالوه باطلا ، لا حظ له من الحجة »[20] .


و يقول سيد قطب – رحمه الله - : « ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ فهو بخصائصه ، الموضوعية و التعبيرية بهذا الكمال في تناسقه و بهذا الكمال في العقيدة التي جاء بها ، و في النظام الإنساني الذي يتضمن قواعده و بهذا الكمال في تصوير حقيقة الألوهية ، و في تصوير طبيعة البشر ، و طبيعة الحياة ، و طبيعة الكون لا يمكن أن يكون مفترى من دون الله، لأن قدرة واحدة هي التي تملك الإتيان به هي قدرة الله.

القدرة التي تحيط بالأوائل والأواخر، وبالظواهر والسرائر، وتضع المنهج المبرأ من القصور والنقص ومن آثار الجهل والعجز ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ ما كان من شأنه أصلاً أن يفترى فليس الافتراء هو المنفي ، ولكن جواز وجوده هو المنفي ، وهو أبلغ في النفي وأبعد .


﴿ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ من الكتب التي سبق بها الرسل تصديقها في أصل العقيدة ، و في الدعوة إلى الخير .


﴿ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ ﴾ الواحد الذي جاء به الرسل جميعاً من عند الله، تتفق أصوله وتختلف تفصيلاته .


وهذا القرآن يفصل كتاب الله ويبين وسائل الخير الذي جاء به، ووسائل تحقيقه وصيانته : فالعقيدة في الله واحدة ، و الدعوة إلى الخير واحدة ، ولكن صورة هذا الخير فيها تفصيل، والتشريع الذي يحققه فيه تفصيل، يناسب نمو البشرية وقتها، وتطورات البشرية بعدها، بعد أن بلغت سن الرشد فخوطبت بالقرآن خطاب الراشدين ، ولم تخاطب بالخوارق المادية التي لا سبيل فيها للعقل والتفكير .


﴿ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ تقرير وتوكيد لنفي جواز افترائه عن طريق إثبات مصدره: ﴿ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾


﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ﴾ بعد هذا النفي والتقرير ، فهو إذن من صنع محمد. ومحمد بشر ينطق باللغة التي ينطقون بها ، ولا يملك من حروفها إلا ما يملكون. (ألف. لام. ميم) . (ألف. لام. را.) . (ألف. لام. ميم. صاد) ...إلخ فدونهم إذن- ومعهم من يستطيعون جمعهم- فليفتروا ، كما افترى (بزعمهم) محمد فليفتروا سورة واحدة لا قرآناً كاملاً :﴿ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ .
وقد ثبت هذا التحدي وثبت العجز عنه ، وما يزال ثابتاً ولن يزال ، و الذين يدركون بلاغة هذه اللغة ، و يتذوقون الجمال الفني و التناسق فيها ، يدركون أن هذا النسق من القول لا يستطيعه إنسان ، و كذلك الذين يدرسون النظم الاجتماعية ، والأصول التشريعية ، ويدرسون النظام الذي جاء به هذا القرآن ، يدركون أن النظرة فيه إلى تنظيم الجماعة الإنسانية و مقتضيات حياتها من جميع جوانبها ، و الفرص المدخرة فيه لمواجهة الأطوار و التقلبات في يسر ومرونة .



كل أولئك أكبر من أن يحيط به عقل بشري واحد، أو مجموعة العقول في جيل واحد أو في جميع الأجيال. ومثلهم الذين يدرسون النفس الإنسانية ووسائل الأصول إلى التأثير فيها وتوجيهها ثم يدرسون وسائل القرآن وأساليبه .


فليس هو إعجاز اللفظ والتعبير وأسلوب الأداء وحده ، ولكنه الإعجاز المطلق الذي يلمسه الخبراء في هذا وفي النظم والتشريعات والنفسيات وما إليها..


و الذين زاولوا فن التعبير، و الذين لهم بصر بالأداء الفني، يدركون أكثر من غيرهم مدى ما في الأداء القرآني من إعجاز في هذا الجانب ، و الذين زاولوا التفكير الاجتماعي والقانوني والنفسي ، و الإنساني بصفة عامة ، يدركون أكثر من غيرهم مدى الإعجاز الموضوعي في هذا الكتاب أيضاً »[21].

و يقول الألوسي – رحمه الله - : « فإن ما افترى إنسان يقدر إنسان آخر أن يفترى مثله »[22] .

ولو كان العرب يظنون أن محمدا -صلى الله عليه وسلم - استعان بغيره في تأليف القرآن الكريم لأمكنهم أيضا من أجل المعارضة والتحدي أن يستعينوا بغيرهم؛ لأنهم مثله في معرفة اللغة وفي المكنة من الاستعانة، فلما لم يفعلوا ذلك وآثروا المقاتلة والمقارعة بالسنان على المعارضة والمقاولة باللسان - ثبت أن بلاغة القرآن الكريم كانت مسلمة عندهم، وأنهم عاجزون عن المعارضة، وغاية الأمر أنهم صاروا مفترقين بين مصدق بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن المنزل عليه من ربه، وبين معاند متحير في بديع بلاغة القرآن، والأخبار المنقولة في ذلك عن الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وغيرهما تؤيد ذلك[23].
[1]- الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ص 323- 325
[2] - إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع 9/39
[3] - قصص الأنبياء لابن كثير 2/430
[4]- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 6/430
[5] - المواهب اللدنية بالمنح المحمدية للقسطلاني 2/246
[6] - مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/325
[7] - متفق عليه رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل حديث رقم 4981، ورواه مسلم في صحيحه ، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته، حديث رقم 152.
[8]- عقيدة المؤمن لأبي بكر الجزائري ص 179 - 180
[9] - تفسير الشعراوي 1/197
[10] - مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/313
[11] - مباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص 254 - 255
[12]- دراسات في علوم القرآن لمحمد بكر إسماعيل ص 328
[13]- تفسير الطبري 15/91
[14]- تفسير الواحدي 1/102 بتصرف يسير
[15]- تفسير السمعاني 2/384
[16]- تفسير الطبري 22/481
[17]- بحر العلوم 3/354
[18]- تفسير ابن كثير 4/234 - 235
[19]- تفسير المراغي 11/107 -108
[20]- تفسير السعدي ص 364
[21]- في ظلال القرآن 3/1789-1790
[22]- روح البيان للألوسي 4/106
[23]- مختصر إظهار الحق ص 155

د.ربيع أحمد
03-09-2013, 10:57 AM
من معجزات النبي محمد - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - غير القرآن و الرد على من ينكرها بدعوى أنها من نقل المسلمين



و من معجزات النبي - صلى الله عليه و سلم - غير القرآن الإخبار ببعض الغيبيات و تحققها فقد أذن الله لهذه الأخبار أن تقع ، تصديقاً وتأييداً لنبوة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، و لا سبيل إلى معرفة هـذه الغيوب إلا ممن هي في يده ، وهو الله - جل وعلا - عالم الغيب والشهادة، مثل الإخبار عن أويس بن عامر فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إن خير التابعين رجل يقال له أويس . وله والدة . وكان به بياض . فمروه فليستغفر لكم »[1].



و كان عمر بن الخطاب ، إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن ، سألهم : أفيكم أويس بن عامر ؟ حتى أتى على أويس . فقال : أنت أويس بن عامر ؟ قال : نعم . قال : من مراد ثم من قرن ؟ قال : نعم . قال : فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم ؟ قال : نعم . قال : لك والدة ؟ قال : نعم . قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ، ثم من قرن . كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم . له والدة هو بها بر . لو أقسم على الله لأبره . فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل " . فاستغفر لي . فاستغفر له . فقال له عمر : أين تريد ؟ قال : الكوفة . قال : ألا أكتب لك إلى عاملها ؟ قال : أكون في غبراء الناس أحب إلي .


قال : فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم . فوافق عمر . فسأله عن أويس . قال : تركته رث البيت قليل المتاع . قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن . كان به برص فبرأ منه . إلا موضع درهم . له والدة هو بها بر . لو أقسم على الله لأبره . فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل " فأتى أويسا فقال : استغفر لي . قال : أنت أحدث عهدا بسفر صالح . فاستغفر لي . قال : استغفر لي . قال : أنت أحدث عهدا بسفر صالح . فاستغفر لي . قال : لقيت عمر ؟ قال : نعم . فاستغفر له . ففطن له الناس . فانطلق على وجهه . قال أسير : وكسوته بردة . فكان كلما رآه إنسان قال : من أين لأويس هذه البردة ؟[2] .


و من الإخبار بالغيب الإخبار عن قتال التتار فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : «‏بين يدي الساعة تقاتلون قوماً ينتعلون الشعر وتقاتلون قوما كأن وجوههم ‏‏ المجان المطرقة»[3] ووجوه التتار كالمجان المطرقة أي وُجُوههمْ كالتُّرْسِ لِبَسْطِهَا وَتَدْوِيرهَا وَكالْمِطْرَقَةِ لِغِلَظِهَا وَكَثْرَة لَحْمهَا .


و من الإخبار بالغيب الإخبار عن شهادة عمر وعثمان - رضي الله عنهما - فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً، ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم، فضربه برجله، وقال : « أثبت أحد، فإنما عليك نبي، وصِدّيق، وشهيدان »[4] ، وقد قتل عمر و عثمان .


و من الإخبار بالغيب الإخبار بمقتل علي رضي الله عنه فعن أبي سنان الدؤلي - رحمه الله تعالى - ، أنه عاد علياً - رضي الله عنه - في شكوى له شكاها، قال: فقلت له : لقد تخوّفنا عليك يا أمير المؤمنين في شكواك هذه، فقال: لكني ـ والله ـ ما تخوّفت على نفسي منه، لأني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصادق المصدوق يقول : « إنك ستُضرب ضربةً ههنا، ويكون صاحبها أشقاها، كما كان عاقرُ الناقة أشقى ثمود »[5] .


ومن الإخبار بالغيب إخباره عن مشاركة أم حرام فى أول غزو للبحر و وفاتها قبل غزو مدينة قيصر ففى خبر أم حرام بنت ملحان ، سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : « أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا ». قالت أم حرام: قلتُ: يا رسول الله أنا فيهم ؟ قال : « أنتِ فيهم ». ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم ». فقلتُ: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال : « لا »[6].


و إن قيل الإخبار بالغيب ليس دليل على النبوة لاحتمال الكهانة فالجواب الإخبار بالغيب إذا اقترن بدعوى النبوة فهو دليل على النبوة لا الكهانة إذ الكهانة ليس فيها دعوى النبوة و شخصية النبي الصادق تختلف عن شخصية الكاهن الكذاب ، والنبي الصادق خبره يطابق ما سيحدث أما الكاهن فخبره قد يوافق بعض الذي سيحدث أو لا يوافق الذي سيحدث ، و ما هدف النبي محمد – صلى الله عليه وسلم - من إدعاء النبوة ؟فمن يقرأ سيرته يجده لا يرغب في سلطة ولا مال ولا جاه ،و لما يجازف النبي صلى الله عليه وسلم و يقول سيحدث كذا .
و من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاسماع تسبيح الطعام بين يدى رسول الله - صلى الله عليه و سلم- فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ، قال: كنا نعد الآيات بركة ، وأنتم تعدونها تخويفاً، كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ، فقل الماء، فقال: اطلبوا فضلة من ماء، فجاءوا بإناءٍ فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، ثم قال: حي على الطهور المبارك، والبركة من الله، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل [7] .



و من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا سماع الصحابة بكاء جذع النخلة و صراخها لما فارقها رسول الله إلى المنبر فعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار- أو رجل- يا رسول الله، ألا نجعل لك منبراً ؟ قال: إن شئتم.فجعلوا له منبراً فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي - صلى الله عليه و سلم - فضمه إليه ، يئن أنين الصبي الذي يسكن قال: " كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها " [8] .


و من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا انقياد الشجرة لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فعن جابر ابن عبدالله قال : سرنا مع رسول الله ‏- ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏- حتى نزلنا واديا ‏ ‏أفيح ‏ ‏فذهب رسول الله ‏ ‏- صلى الله عليه وسلم ‏- ‏يقضي حاجته فاتبعته ‏ ‏بإداوة ‏ ‏من ماء فنظر رسول الله ‏- ‏صلى الله عليه وسلم ‏- ‏فلم ير شيئا يستتر به فإذا شجرتان بشاطئ الوادي فانطلق رسول الله ‏ ‏- صلى الله عليه وسلم -‏ ‏إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال انقادي علي بإذن الله فانقادت معه كالبعير ‏ ‏المخشوش ‏ ‏الذي ‏ ‏يصانع قائده ‏ ‏حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها فقال انقادي علي بإذن الله فانقادت معه كذلك حتى إذا كان ‏ ‏بالمنصف ‏ ‏مما بينهما لأم بينهما ‏ ‏يعني جمعهما فقال ‏ ‏التئما ‏ ‏علي بإذن الله فالتأمتا .


قال ‏ ‏جابر ‏ ‏فخرجت ‏ ‏أحضر ‏ ‏مخافة أن يحس رسول الله ‏ - ‏صلى الله عليه وسلم - ‏ ‏بقربي فيبتعد وقال ‏ ‏محمد بن عباد ‏ ‏فيتبعد فجلست أحدث نفسي فحانت مني لفتة فإذا أنا برسول الله ‏- ‏صلى الله عليه وسلم -‏ ‏مقبلا و إذا الشجرتان قد افترقتا فقامت كل واحدة منهما على ساق فرأيت رسول الله ‏- ‏صلى الله عليه وسلم ‏- ‏وقف وقفة فقال برأسه هكذا وأشار ‏ ‏أبو إسماعيل ‏ ‏برأسه يمينا وشمالا [9] .


و كل هذه المعجزات لدليل ساطع على صدق النبوة فكيف إذا اجتمعت مع حسن سيرته و اتصافه بالصدق والأمانة و دعواه النبوة في وقت البشرية بحاجة لنبي و تأييد الله له ونصره على أعدائه و إخباره بالغيب .


و إن قيل هذه المعجزات ليست دليلا على صدق النبوة إذ هي من نقل المسلمين لا غيرهم فالجوابأن هذا القول غير صحيح فلكل قوم عربا وعجما أخبار يتناقلونها عبر الأزمنة و أحداث تنتقل من جيل إلى جيل ، فهل يصح أن يقول أحد ما الدليل على صحة هذه الأخبار دون أن يدرسها و يناقشها بعد أن يلم بها إلمامًا واسعًا ، فإذا كان كذلك مع أخبار الأمم والأقوام و التي لا يهتم عامة الناس بضبط أحداثها ودقة تفاصيلها .


فما الشأن بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله الله إلى قوم عرفوا بقوة الحافظة وسعة الذاكرة ودقة الملاحظة ، فإن هذه الأخبار والوقائع التي ذكرنها منها ما هو في القرآن ومنها ما هو متواتر يعلمه العامة والخاصة ؛ والمتواتر هو ما نقله العدد الكثير من الناس الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب ، وهو ما تناقلته الأمة المسلمة جيلاً بعد جيل وخلفًا عن سلف من أخبار معجزات النبي الأكرم - صلى الله عليه وسلم - .


وليس لأحد أن يشكك في شهادة هؤلاء الأخيار الأفاضل ، أو يزعم أن هؤلاء الأفاضل إنما شهدوا لنبيهم فشهادتهم غير مقبولة ، فإن هذا الزعم من شأنه أن يلغى جميع معجزات الأنبياء و جميع ما ورد عن أخبار السابقين لأنه يمكننا أن نقول أن ما ورد عن عيسي - عليه السلام - أو ورد عن موسي - عليه السلام - إنما ذكره أصحابهما والمقربون منهما، و كذلك الشأن مع بقية أخبار الأمم السابقة و المعاصرة .


و من البديهيات أن المروي بالتواتر لا يستطيع أحد إنكاره ،و من المحال لدى أي عقل اتفاق رواة التواتر على كذب ، ومن ينكر وجود شخصية من الشخصيات كملك أو وزير كان موجودا يكذبه المؤرخون و يأتون له بكل سهولة بأكثر من نقل ورواية بأن هذه الشخصية كانت موجودة بالفعل ، وأن الأحداث التي حصلت لها مروية بأكثر من رواية وكذلك نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم و معجزاته ثابتة و مروية بالتواتر من آلافالصحابة و التابعين و حتى عصرنا هذا .

[1]- رواه مسلم في صحيحه رقم 2542
[2]- رواه مسلم في صحيحه رقم2542
[3] - رواه البخاري في صحيحه
[4] - رواه البخاري في صحيحه
[5] - رواه أبو يعلى في مسنده و الطبراني في التاريخ الكبير و حسنه الهيثمي
[6] - رواه البخاري في صحيحه
[7] - رواه مسلم في صحيحه
[8] - رواه البخاري في صحيحه
[9] - رواه مسلم في صحيحه

د.ربيع أحمد
03-09-2013, 12:05 PM
فرية أن مَا أَتَى بِهِ النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - من جنس كَلَام العرب إلا أنه أفصح منهم لتقدم النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - فِي البلاغة عَلَيْهِم و ليس ؛ لأنه من عند الله ، و هذا لا دليل فيه على الإعجاز




يردد بعض المغرضين أن مَا أَتَى بِهِ النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - من جنس كَلَام العرب غير أَنه كَانَ أفْصح و أوجز وَأحسن نظما وَأَن يكون ذَلِك إِنَّمَا تأتى لَهُ بتقدمه فِي البلاغة عَلَيْهِم وَحسن فَصَاحَته و ليس لأنه من عند الله و هذا لا دليل فيه على الإعجاز فلا يوجد من هو أبلغ من النبي محمد - صلى الله عليهوسلم - فيكون عدم وجود من يرد القرآن بلاغيّا راجع لكون القائل و هو محمد - صلى الله عليه وسلم - أبلغ العرب.



و الجواب إِن قدر مَا يَقْتَضِيهِ التَّقَدُّم والحذق فِي الصِّنَاعَة قدر مَعْرُوف لَا يخرق الْعَادة مثله وَلَا يعجز أهل الصِّنَاعَة والمتقدمون فِيهَا عَنهُ مَعَ التحدي والتقريع بِالْعَجزِ والقصور ؛ لِأَن الْعَادة جَارِيَة بِجمع الدَّوَاعِي والهمم على بُلُوغ منزلَة الحاذق الْمُتَقَدّم فِي الصِّنَاعَة .



وَمَا أَتَى بِهِ النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - من الْقُرْآن قد خرج عَن حد مَا يكْتَسب بالحذق وَعجز الْقَوْم عَن معارضته ومقابلته مَعَ إيثارهم لذَلِك واجتماع هممهم لَهُ وتوفر دواعيهم عَلَيْهِ وعلمهم بجعله حجَّة لَهُ وَدلَالَة على صدقه فَخرج بذلك عَن نمط مَا سَأَلْتُم عَنهُ .


وعَلى أَن الْآيَة فِي الْقُرْآن أَنه منزل بِلِسَان الْعَرَب وَكَلَامهم ومنظوم على وزن يُفَارق سَائِر أوزان كَلَامهم وَلَو كَانَ من بعض النظوم الَّتِي يعرفونها لعلموا أَنه شعر أَو خطابة أَو رجز أَو طَوِيل أَو مزدوج غير أَن ناظمه قد برع وَتقدم فِيهِ وَلَيْسَ يخرج الحذق فِي الصَّنْعَة إِلَى أَن يُؤْتِي بِغَيْر جِنْسهَا وَمَا لَيْسَ مِنْهَا فِي شَيْء وَمَا لَا يعرفهُ أَهلهَا .



وَإِذا كَانَ ذَلِك كَذَلِك وَكُنَّا نعلم أَن قُريْشًا أفْصح الْعَرَب وأعرفها بِاللِّسَانِ وأقدرها على سَائِر أوزان الْكَلَام وَأَنَّهَا قد دهشت وطاشت عقولها فِيمَا أَتَى بِهِ فَقَالَت مرّة إِنَّه سحر وَقَالَت تَارَة إِنَّه ﴿ معلم مَجْنُون ﴾ ، َقَالَت أُخْرَى : ﴿ أساطير الْأَوَّلين اكتتبها ﴾ وَ قَالَت تَارَة أُخْرَى : ﴿ شعر ﴾ وَقَالَت تَارَة سلمَان يلقنه ويلقي إِلَيْهِ حَتَّى قَالَ تَعَالَى : ﴿ لِسَان الَّذِي يلحدون إِلَيْهِ أعجمي وَهَذَا لِسَان عَرَبِيّ مُبين ﴾ علم بذلك أَن مَا أَتَى بِهِ لَيْسَ من جنس الحذق والتقدم فِي الصِّنَاعَة فِي شَيْء[1] .



و القرآن الكريم لو كان من كلام النبي - صلى الله عليهوسلم -لما وجدت آيات كثيرة تنص على أنه رسول و لما وجدت آيات كثيرة تتصدر بفعل الأمر قل و لما نزلت آيات كثيرة بعد طول انتظار و لما وجدت آيات كثيرة تعاتبه و عند مقارنة كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن نجد اختلافا كبيرا و كلام النبي - صلى الله عليهو سلم - استطاع بعض الناس معارضة بعضه أما القرآن فلم يستطع أحد معارضته .



العرب على اختلاف مراتبهم في البيان لم يرتفعوا إلى طبقة البلاغة المحمدية، وأزعم أن هذا القصور الذاتي الذي قعد بهم عن مجاراته في عامة كلامه هو الذي قعد بهم عن معارضة قرآنه. وإذًا لا يكون هذا العجز حجة لكم على قدسية الأسلوب القرآني كما لم يكن حجة عندكم على قدسية الأسلوب النبوي .



فنجيب : أما أن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان هو أفصح العرب ، وكان له في هذه الفضيلة البيانية المقام الأول بينهم غير مزاحم، فذلك ما لا نماري - بل لا نمتري - فيه نحن ولا أحد ممن يعرف العربية غير أننا نسأل ما مبلغ هذا التفاوت الذي كان بينهم وبينه ؟ أكان مما يتفق مثله في مجاري العادات بين بعض الناس وبعض في حدود القوة البشرية ، أم كان أمرًا شاذًّا خارقًا للعادة بالكلية ؟



فأما إن كان كما نعهد شبيهًا بما يكون في العادة بين البليغ و الأبلغ ، وبين الحسن والأحسن، فلا شك أن هذا النحو من العلو إن حال بينهم وبين المجيء بمثل كلامه كله لم يكن ليحول بينهم وبين قطعة واحدة منه .


ولئن أعجزهم هذا القدر اليسير أن يحتذوه على التمام لم يكن ليعجزهم أن ينزلوا منه بمكان قريب. ألا وإننا قد أرخينا لهم العنان في معارضة القرآن بهذا أو ذاك، وأغمضنا لهم فيما يجيئوننا به أن يكون كلًّا أو بعضًا، وكثيرًا أو يسيرًا، ومماثلًا أو قريبًا من المماثل، فكان عجزهم عن ذلك كله سواء .


وأما إن قيل: إن التفاوت بينه - عليه السلام - وبين سائر البلغاء كان إلى حد انقطاع صلتهم به جملة؛ لاختصاصه من بين العرب ومن بين الناس بفطرة شاذة لا تنتسب إلى سائر الفطر في قليل ولا كثير إلا كما تنتسب القدرة إلى العجز، أو الإمكان إلى الاستحالة، فلا شك أن القول بذلك هو أخو القول بأن الإنسان ما ليس بإنسان، أو هو التسليم بأن ما يجيء به هذا الإنسان لا يكون من عمل الإنسان .



ذلك أن الطبيعة الإنسانية العامة واحدة، والطبائع الشخصية تقع فيها الأشباه والأمثال في الشيء بعد الشيء وفي الواحد بعد الواحد ؛ إن لم يكن ذلك في عصر ففي عصور متطاولة ، وإن لم يكن في كل فنون الكلام ففي بعض فنونه .



وكم رأينا من أناس كثيرة تتشابه قلوبهم وعقولهم وألسنتهم فتتوافق خواطرها وعباراتهم حينًا، وتتقارب أحيانًا، حتى لقد يخيل إليك أن الروح الساري في القولين روح واحد، وأن النفس ها هنا هو النفس هناك. وكذلك رأينا من الأدباء المتأخرين من يكتب بأسلوب ابن المقفع وعبد الحميد، ومن يكتب بأسلوب الهمذاني والخوارزمي، وهلم جرا .



فلو كان أسلوب القرآن من عمل صاحبه الإنسان لكان خليقًا أن يجيء بشيء من مثله من كان أشبه بهذا الإنسان مزاجًا، وأقرب إليه هديًا وسمتًا، وألصق به رحمًا، وأكثر عنه أخذًا وتعلمًا، أو لكان جديرًا بأصحابه الذين نزل القرآن بين أظهرهم فقرءوه واستظهروه ؛ وتذوقوا معناه وتمثلوه، وترسموا خطواته واغترفوا من مناهله - أن يدنوا أسلوبهم شيئًا من أسلوبه على ما تقضي به غريزة التأسي ، وشيمة نقل الطباع من الطباع ، ولكن شيئًا من ذلك كله لم يكن .

وإنما كان قصارى فضل البليغ فيهم كما هو جهد البليغ فينا أن يظفر بشيء يقتبسه منه في تضاعيف مقالته ليزيدها به علوًّا ونباهة شأن .


بل نقول : لو كان الأسلوب القرآني صورة لتلك الفطرة المحمدية لوجب على قياس ما أصلته من المقدمات أن ينطبع من هذه الصورة على سائر الكلام المحمدي ما انطبع منها على أسلوب القرآن ؛ لأن الفطرة الواحدة لا تكون فطرتين ، والنفس الواحدة لا تكون نفسين .


ونحن نرى الأسلوب القرآني فنراه ضربًا وحده، ونرى الأسلوب النبوي، فنراه ضربًا وحده لا يجري مع القرآن في ميدان إلا كما تجري محلقات الطير في جو السماء لا تستطيع إليها صعودًا، ثم نرى أساليب الناس فنراها على اختلافها ضربًا واحدًا لا تعلو عن سطح الأرض، فمنها ما يحبو حبوًا، ومنها ما يشتد عدوًا، ونسبة أقواها إلى القرآن كنسبة هذه "السيارات" الأرضية إلى تلك "السيارات" السماوية!


نعم، لقد تقرأ القطعة من الكلام النبوي فتطمع في اقتناصها ومجاراتها كما تطمع في اقتناص الطائر أو مجاراته؛ ولقد تقرأ الكلمة من الحكمة فيشتبه عليك أمرها: أمن كلمات النبوة هي أم من كلمات الصحابة أو التابعين؟ ذلك على ما عملت من امتياز الأسلوب النبوي بمزيد الفصاحة ونقاء الديباجة وإحكام السرد.


ولكنه امتياز قد يدق على غير المنتهين في هذا الفن. وقد يقصر الذوق وحده عن إدراكه، فيلجأ إلى النقل يستعينه في تمييز بعض الحديث المرفوع من الحديث الموقوف أو المقطوع .


أما الأسلوب القرآني فإنه يحمل طابعًا لا يلتبس معه بغيره، ولا يجعل طامعًا يطمع أن يحوم حول حماه؛ بل يدع الأعناق، تشرئب إليه ثم يردها ناكسة الأذقان على الصدور .


كل من يرى بعينين أو يسمع بأذنين إذا وضع القرآن بإزاء غير القرآن في كلفتي ميزان، ثم نظر بإحدى عينيه أو استمع بإحدى أذنيه إلى أسلوب القرآن، وبالأخرى إلى أسلوب الحديث النبوي وأساليب سائر الناس، وكان قد رزق حظ ما من الحاسة البيانية والذوق اللغوي فإنه لا محالة سيؤمن معنا بهذه الحقيقة الجلية، وهي أن أسلوب القرآن لا يدانيه شيء من هذه الأساليب كلها » [2].

[1] - تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل للباقلاني ص 170 -171
[2]- النبأ العظيم للدكتور محمد دراز ص 125 - 129

د.ربيع أحمد
03-09-2013, 12:07 PM
حديث : " وإنّما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ " ليس حصر المعجزة في القرآن و حسب




استدل البعض بحديث : " ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " على أن النبي - صلى الله عليه وسلم – ليس له معجزة سوى القرآن و هذا خطأ .


وَالْمَعْنَى أن كل نبي أوتى من خوارق المعجزات مَا يَقْتَضِي إِيمَانَ مَنْ رَأَى ذَلِكَ مِنْ أولى البصائر والنهى، لا من أَهْلِ الْعِنَادِ وَالشَّقَاءِ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ، أَيْ جُلُّهُ وَأَعْظَمُهُ وَأَبْهَرُهُ، الْقُرْآنُ الَّذِي أَوْحَاهُ الله إلىّ ، فَإِنَّهُ لَا يَبِيدُ وَلَا يَذْهَبُ كَمَا ذَهَبَتْ مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ وَانْقَضَتْ بِانْقِضَاءِ أَيَّامِهِمْ، فَلَا تُشَاهَدُ، بل يخبر عنها بالتواتر والآحاد، بخلاف القرآن العظيم الذي أوحاه الله إليه فَإِنَّهُ مُعْجِزَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُ ، مُسْتَمِرَّةٌ دَائِمَةُ الْبَقَاءِ بَعْدَهُ ، مَسْمُوعَةٌ لِكُلٍّ مَنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شهيد[1].



و قال محمد الشامي – رحمه الله - : « كل نبي اختص بما يثبت دعواه من خوارق العادات حسب زمانه ، فإذا انقطع زمانه انقطعت تلك المعجزة فخصّ كل نبي بما أثبت به دعواه من خوارق العادات المناسبة لحال قومه .


كقلب العصا ثعبانا في زمن موسى فكانت تلقف ما صنعوا ، وإخراج اليد بيضاء و إنما كان كذلك ؛ لأنه الغالب في زمانه السحر، إذ كان ماشيا عند فرعون فأتاهم بما هو فوقه فاضطرّهم إلى الإيمان به ولم يقع ذلك لغيره .


وفي زمن عيسى الطب، فجاءهم بما هو أعلى منه من إبراء الأكمه والأبرص بما ليس في قدرة بشر وهو إحياء الميّت.


وأمّا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسله في العرب العرباء أصل الفصاحة والبلاغة وتأليف الكلام على أعلى طبقاتها ومحاسن بدايتها باسم القرآن فأعجزهم عن الإتيان بأقصر سورة منه »[2]


و قال د. سعيد بن وهف : « وليس المراد في هذا الحديث حصر معجزاته - صلى الله عليه وسلم - في القرآن ، ولا أنه لم يؤت من المعجزات الحسّيّة كمن تقدّمه، بل المراد أن القرآن المعجزة العظمى التي اختص بها دون غيره ؛ لأن كل نبي أُعطِيَ معجزة خاصة به ، تحدّى بها من أُرسِلَ إليهم ، و كانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه ؛ ولهذا لما كان السحر فاشياً في قوم فرعون جاءه موسى بالعصا على صورة ما يصنع السّحرة، لكنها تلقف ما صنعوا، ولم يقع ذلك بعينه لغيره .


ولما كان الأطباء في غاية الظهور جاء عيسى بما حيّر الأطباء، من: إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص، وكل ذلك من جنس عملهم، ولكن لم تصل إليه قدرتهم .


ولما كانت العرب أرباب الفصاحة والبلاغة والخطابة جعل الله سبحانه معجزة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - القرآن الكريم الذي ﴿ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ .


ولكن معجزة القرآن الكريم تتميز عن سائر المعجزات ؛ لأنه حجة مستمرّة، باقية على مرّ العصور، والبراهين التي كانت للأنبياء انقرض زمانها في حياتهم ولم يبق منها إلا الخبر عنها، أما القرآن فلا يزال حجة قائمة كأنما يسمعها السّامع من فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولاستمرار هذه الحجة البالغة قال - صلى الله عليه وسلم -: " فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يومَ القيامةِ "»[3] .

[1] - البداية و النهاية لابن كثير 6/257
[2] - سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد لمحمد الصالحي الشامي 9/412
[3]- العروة الوثقى في ضوء الكتاب والسُّنَّة لسعيد وهف ص 49 - 50

د.ربيع أحمد
03-09-2013, 12:11 PM
فرية مادام الناس يقدرون على الإتيان ببعض كلمات القرآن فهم يقدرون على الإتيان بكل كلمات القرآن




يقول بعض أهل الباطل مَا من أحد إِلَّا وَهُوَ قَادر على أَن يأتى مِنْ القرآن بِالْكَلِمَةِ والكلمات وَالْآيَة والآيات وَمن كَانَ قَادِرًا على ذَلِك كَانَ قَادِرًا على كُله .


و الجواب عن هذه الشبهة ما قاله الآمدي : « وقدرة بعض النَّاس على الْإِتْيَان بِمَا شابه مِنْهُ كلمة أَو كَلِمَات لَا توجب الْقُدْرَة على مَا وَقع بِهِ الإعجاز وَ إِلَّا كَانَ لكل من أمكنه الْإِتْيَان بِكَلِمَة أَو كَلِمَتَيْنِ من نظم أَو نثر أَن يكون شَاعِرًا ناثرا أو لَا يَقع الْفرق بَين الألكن[1] والألسن .


وَلَا يخفى مَا في ذَلِك من الْعَبَث والزلل فَإنَّا نحس من أَنْفُسنَا الْعَجز عَن بعض مَا نقل عَن فصحاء الْعَرَب من نظم أَو نثر وَإِن كُنَّا لَا نجد أَنْفُسنَا وقدرنا قَاصِرَة عَن الْإِتْيَان مِنْهُ بِكَلِمَة أو كَلِمَات .


بل وَلَيْسَ هَذَا إِلَّا نَظِير مَا لَو قيل بِوُجُوب كَون الْجَبَل مَقْدُورًا حمله بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا لكَون بعضه مَقْدُورًا إِذْ هُوَ زيف وسفسطة ثمَّ وَلَو كَانَ ذَلِك مَقْدُورًا لَهُم لبَادرُوا إِلَى الْإِتْيَان بِهِ وسارعوا إِلَى دفع مَا تحدى بِهِ »[2] .


و قال أبو بكر الباقلاني – رحمه الله - : «فَإِن قَالَ قَائِل فَإِذا قدر الْعباد عنْدكُمْ على مثل الْكَلِمَة والكلمتين والحرف والحرفين فَمَا أنكرتم أَن يقدروا على مثل جَمِيعه وَألا يكون فِي ذَلِك إعجاز يُقَال لَهُ لَو وَجب مَا قلته لوَجَبَ إِذا قدر النَّاس على مثل مَا سَأَلت عَنهُ أَن يَكُونُوا كلهم شعراء وخطباء وَأَصْحَاب نظم ورسائل لقدرتهم على الْكَلِمَة والاثنتين وَهَذَا جهل مِمَّن صَار إِلَيْهِ .


وَلَيْسَ يجب إِذا تعذر على الْإِنْسَان نظم الْكثير أَن يتَعَذَّر عَلَيْهِ نظم الْيَسِير كَمَا لَا يجب إِذا تعذر عَلَيْهِ شرب مَاء الْبحار والأنهار أَن يتَعَذَّر عَلَيْهِ شرب الجرعة والجرعتين ، وَ إِذا تعذر عَلَيْهِ الصعُود إِلَى السَّمَاء وَ حمل الْجبَال أَن يتَعَذَّر عَلَيْهِ قطع الذِّرَاع إِلَى فَوق والذراعين وَ حمل الرطل والرطلين ، وَ إِذا كَانَ حمل الْجبَال والصعود إِلَى السَّمَاء آيَة لمن ظهر على يَده وَجب أَن يكون نظم الْقُرْآن آيَة لمن أَتَى بِهِ ، و َإِن لم يكن نظم مَا دون سُورَة مِنْهُ آيَة لأحد »[3] .


[1]- الألكن هو من لا يستطيع إخراج بعض الحروف من مخارجها سواء كان لا ينطق بالحرف البتّة أو ينطق به مغيّراً أو بزيادته أو تكراره .
[2]- غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 354 - 355
[3]- تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل للباقلاني ص 177

د.ربيع أحمد
03-09-2013, 12:13 PM
فرية اقتباس القرآن من كتب أهل الكتاب


يردد بعض المغرضين أن القرآن الكريم قد اقتبسه من كتب أهل الكتاب ، وقد تعلم كتب أهل الكتاب من الراهب بحيرا عندما لقيه في الشام ، و من ورقة بن نوفل الذي كان من متنصرة العرب العلماء بالنصرانية وأحد أقرباء خديجة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُا - ، و عن الغلام الرومي الأعجمي الذي كان يعمل حداداً في مكة المكرمة ، و هذه فرية ضعيفة يغني فسادها عن إفسادها و بطلانها عن إبطالها إذ لو صح أن القرآن اقتبسه النبي - صلى الله عليه وسلم- من كتب أهل الكتاب لاتخذه أعداؤه من المشركين حجة لهم ، بهدف الطعن فيه .


وهم الذين تعلقوا بأوهى التهم كزعمهم أنه تعلم من رومي حداد أعجمي ، فقال تعالى : ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ﴾( سورة النحل الآية 103 ) أي هذا الحداد الرومي أعجمي لا يحسن العربية ، فليس بمعقول أن يكون هذا الأعجمي مصدراً لهذا القرآن الذي هو أبلغ نصوص العربية بل هو معجزة المعجزات ومفخرة العرب واللغة العربية .


و مما يدحض شبهة اقتباس القرآن من كتب أهل الكتاب أن النبي -صلى الله عليه وسلم - أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب ، ولم يثبت أنه رأى التوراة و الإنجيل أو قرأ فيهما أو نقل منهما .


و مما يدحض شبهة اقتباس القرآن من كتب أهل الكتاب أن القرآن الكريم فضح اليهود والنصارى ، وهتك أستارهم ، وذمهم فكيف يكون مقتبسا منهم ؟!! .


و مما يدحض شبهة اقتباس القرآن من كتب أهل الكتاب أن أحكام الشريعة الإسلامية كانت تتنزَّل متدرجة حسب الحوادث ، والوقائع ، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتوقف في الحكم على بعض الأمور حتى ينزل الوحي عليه ، مما يدل على أنه ليس لديه علم سابق .


و مما يدحض شبهة اقتباس القرآن من كتب أهل الكتاب وجود اختلاف مع أهل الكتاب في كثيرٍ من الأحكام ، وما حصل من توافق في بعض الأحكام لا يدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخذ منهم ، وتعلم على أيديهم ، وإنما لكون اليهودية والنصرانية أصلهما صحيح يتفق مع أصول الإسلام ، لولا ما اعتراهما من تحريفٍ وتغيير وتبديل .



و مما يدحض شبهة اقتباس القرآن من كتب أهل الكتاب أن في القرآن الكريم قصص لأنبياء وسابقين لا يعرفهم أهل الكتاب، كقصة صالح وهود وشعيب عليهم السلام كما أن في القصص القرآني تفاصيل غير موجودة في كتبهم، كمعجزات سيدنا عيسى - عليه السلام - ونفى رصلبه وقتله، وتبرئة الأنبياء مما افتروه عليهم من خطايا و قبائح .


و لو كان مصدر القرآن بعض أهل الكتاب لكانوا هم الأحرى بالنبوة والرسالة و لماذا أخفوا أنهم مصدر القرآن ، و لو كان هذا حقا لأتخذه جميع أعداء الإسلام في عصر النبوة لصد الناس عن الإسلام و هذا أيسر من قتاله أو التدبير لقتله - صلى الله عليه وسلم -.


وكيف يكون القرآن مصدره بعض أهل الكتاب و القرآن مليء بما يناقض ما عليه أهل الكتاب و يفضحهم و شتان بين أسلوب القرآن و أسلوب كتب أهل الكتاب المحرفة ؟!
و أسباب نزول الآيات تنفي التعلم المسبق للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأين كان معلموه المفترضون حين نزل عليه القرآن في غزواته، وهو بين أصحابه يجيب عن أسئلتهم ؟!!


و قال أبو بكر الباقلاني :«مَعَ تِلَاوَته عَلَيْهِم فِي نَص التَّنْزِيل قَوْله : ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ ( سورة العنكبوت الآية 48 )


وَلَو عرفوه بذلك أَو بِصُحْبَة أهل الكتب ونقلة السّير ومداخلة أهل الْأَخْبَار ومجالسة أهل هَذَا الشَّأْن لم يَلْبَثُوا أَن يَقُولُوا لَهُ هَذَا كذب ؛ لِأَنَّك مَا زلت مَعْرُوفا بِصُحْبَة أهل الْكتب ومجالستهم وقصدهم إِلَى مواضعهم ومواطنهم ومجاراتهم وَالْأَخْذ عَنْهُم والاستفادة مِنْهُم »[1] .


و قاصمة الظهر أن أول ترجمة عربية للكتاب المقدس عند أهل الكتاب ظهرت بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بقرن من الزمان، وهي ترجمة أسقف أشبيليا يوحنا عام 724م ، فالكتاب المقدس عند أهل الكتاب لم يكن متداولاً بين الناس زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان حكراً على بعض القساوسة

[1] - تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل للباقلاني ص 168

د.ربيع أحمد
03-09-2013, 12:14 PM
فرية لو كان الإتيان بكتاب ما معجزا لعجز البشر عن الإتيان بمثله لكان كتاب إقليدس معجزا



يردد بعض المغرضين فرية تافهة لا حظ لها من النظر و العقل و هي لو كان الإتيان بكتاب ما معجزا لعجز البشر عن الإتيان بمثله لكان كتاب إقليدس معجزا و دليلا على نبوته ، و الجواب أن كتاب إقليدس لا يعجز البشر عن الإتيان بمثله ، ولا يصح فيه هذا التوهم و قد ألف غيره كتبا مثل كتابه أما القرآن فلم يؤلف أحدا كتابا مثله و كتاب إقليدس ليس كتابا خارقا للعادة و ليس المقصود من تأليفه التحدي و دعوى النبوة فهل توجّه إقليدس للمشتغلين في الرياضيات و الهندسة وتحداهم بكتابه ؟!! و عليه فليس كتاب إقليدس معجزا و ليس دليلا على نبوة إقليدس .


و رحم الله الرافعي حينما رد قول ابن الراوندي في كتاب (الفريد) :" إن المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالقرآن الذي تحدى به النبي فلم تقدر على معارضته؛ فيقال لهم : أخبرونا : لو ادعى مدع لمن تقدم من الفلاسفة. . . مثل دعواكم في القرآن فقال: الدليل على صدق بطليموس أو إقليدس، إن إقليدس ادعى أن الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه، أكانت نبوته تثبت؟ "


فقال الرافعي ردا عليه :«قلنا: فأعجب لهذا الجهل الذي يكون قياساً من أقيسة العلم. . . وأعجب (للكلام) الذي يقال فيه: إن هذا كتاب وذلك كتاب فكلاهما كتاب؛ ولما كان كذلك فأحدهما مثل الآخر؛ ولما كان أحدهما معجزاً فالثاني معجز لا محالة .


وما ثبت لصاحب الأول يثبت بالطبع لصاحب الثاني ، وما دمنا نعرف أن صاحب الكتاب الثاني لم تثبت له نبوة
فنبوة صاحب الأول لا تثبت. . .لعمري إن مثل هذه الأقيسة التي يحسبها ابن الراوندي سبيلاً من الحجة وباباً من البرهان لهي في حقيقة العلم كأشد هذيان عرفه الأطباء قط؛ وإلا فأين كتابَ من كتاب ؛ وأين وضعَ من وضع؛ وأين قومَ من قوم؛ وأين رجل من رجل ؟


ولو أن الإعجاز كان في ورق القرآن وفيما يخط عليه، لكان كل كتاب في الأرض ككل كتاب في الأرض ولاطَّرد ذلك القياس كله على ما وصفه كما يطرد القياس عينه في قولنا: إن كل حمار يتنفس، وابن الراوندي يتنفس، فابن الراوندي يكون ماذا. . .؟


ولو أن مثل هذه السخافة تسمى علماً تقوم به الحجة فيما يُحتج له ويبطل به البرهان فيما يُحتج عليه، لما بقيت في الأرض حقيقة صريحة ولا حق معروف ولا شيء يسمى باسمه »[1] .


و الفرق بين كتاب إقليدس و كتاب الله كالفرق بين السماء و الأرض فقد تميز كتاب الله بعذوبة الألفاظ و فصاحة الكلمات و روعة التعبير أما كتاب إقليدس فلا .


و قد تميز كتاب الله بإرضائه العامة والخاصة ومعنى هذا أن القرآن الكريم إذا قرأته على العامة أو قرئ عليهم أحسوا جلاله وذاقوا حلاوته وفهموا منه على قدر استعدادهم ما يرضي عقولهم وعواطفهم .


وكذلك الخاصة إذا قرؤوه أو قرئ عليهم أحسوا جللاه وذاقوا حلاوته وفهموا منه أكثر مما يفهم العامة ورأوا أنهم بين يدي كلام ليس كمثله كلام لا في إشراق ديباجته ولا في امتلائه وثروته .


و لا كذلك كلام البشر فإنه إن أرضى الخاصة والأذكياء لجنوحه إلى التجوز والإغراب والإشارة لم يرض العامة لأنهم لا يفهمونه وإن أرضى العامة لجنوحه إلى التصريح والحقائق العارية المكشوفة لم يرض الخاصة لنزوله إلى مستوى ليس فيه متاع لأذواقهم ومشاربهم وعقولهم[2] .


و كتاب إقليدس لا يرضي كل الناس بل يرضي طائفة معينة من الناس .


و تميز كتاب الله بإرضائه العقل والعاطفة فالقرآن الكريم يخاطب العقل والقلب معا أما كتاب إقليدس فيخاطب العقل فقط .


و كلام الناس إن وفى بحق العقل بخس العاطفة حقها وإن وفى بحق العاطفة بخس العقل حقه وبمقدار ما يقرب من أحدهما يبعد عن الآخر حتى لقد بات العرف العام يقسم الأساليب البشرية إلى نوعين لا ثالث لهما أسلوب علمي وأسلوب أدبي فطلاب العلم لا يرضيهم أسلوب الأدب وطلاب الأدب لا يرضيهم أسلوب العلم .


و هكذا تجد كلام العلماء والمحققين فيه من الجفاء والعري ما لا يهز القلوب ويحرك النفوس وتجد في كلام الأدباء والشعراء من الهزال والعقم العلمي ما لا يغذي الأفكار ويقنع العقول ذلك لأن القوى العاقلة والقوى الشاعرة في بني الإنسان غير متكافئة وعلى فرض تكافئها في شخص فإنهما لا تعملان دفعة واحدة بل على سبيل البدع والمناوبة [3] .


و قد جمع القرآن بين الإجمال والبيان مع أنهما غايتان متقابلتان لا يجتمعان في كلام واحد للناس بل كلامهم إما مجمل وإما مبين ؛ لأن الكلمة إما واضحة المعنى لا تحتاج إلى بيان وإما خفية المعنى تحتاج إلى بيان .


ولكن القرآن وحده هو الذي انخرقت له العادة فتسمع الجملة منه وإذا هي بينة مجملة في آن واحد أما أنها بينة أو مبينة بتشديد الياء وفتحها فلأنها واضحة المغزى وضوحا يريح النفس من عناء التنقيب والبحث لأول وهلة فإذا أمنعت النظر فيها لاحت منها معان جديدة كلها صحيح أو محتمل لأن يكون صحيحا وكلما أمنعت فيها النظر زادتك من المعارف والأسرار بقدر ما تصيب أنت من النظر وما تحمل من الاستعداد على حد قول القائل :
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا


ولهذا السر وسع كتاب الله جميع أصحاب المذهب الحضر من أبناء البشر ووجد أصحاب هذه المذاهب المختلفة والمشارب المتباينة شفاء أنفسهم وعقولهم فيه وأخذت الأجيال المتعاقبة من مدده الفياض ما جعلهم يجتمعون عليه ويدينون به ولا كذلك البشر في كلامهم فإنهم إذا قصدوا إلى توضيح أغراضهم ضاقت ألفاظهم ولم تتسع لاستنباط وتأويل وإذا قصدوا إلى إجمالها لم يتضح ما أرادوه وربما التحق عندئذ بالألغاز وما لا يفيد [4] .


و تميز القرآن بالقصد في اللفظ مع وفائه بالمعنى ومعنى هذا إنك في كل من جمل القرآن تجد بيانا قاصدا مقدرا على حاجة النفوس البشرية من الهداية الإلهية دون أن يزيد اللفظ على المعنى أو يقصر عن الوفاء بحاجات الخلق من هداية الخالق ومع هذا القصد اللفظي البريء من الإسراف والتقتير تجده قد جلى لك المعنى في صورة كاملة لا تنقص شيئا يعتبر عنصرا أصليا فيها أو حلية مكملة لها كما أنها لا تزيد شيئا يعتبر دخيلا فيها وغريبا عنها بل هو كما قال الله : ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ .



ولا يمكن أن تظفر في غير القرآن بمثل هذا الذي تظفر به في القرآن بل كل منطيق بليغ مهما تفوق في البلاغة والبيان تجده بين هاتين الغايتين كالزوج بين ضرتين بمقدار ما يرضي إحداهما يغضب الأخرى فإن ألقى البليغ باله إلى القصد في اللفظ وتخليصه مما عسى أن يكون من الفضول فيه حمله ذلك في الغالب على أن يغض من شأن المعنى فتجيء صورته ناقصة خفية ربما يصل اللفظ معها إلى حد الإلغاز والتعمية .


و إذا ألقى البليغ باله إلى الوفاء بالمعنى وتجلية صورته كاملة حمله ذلك على أن يخرج عن حد القصد في اللفظ راكبا متن الإسهاب والإكثار حرصا على أن يفوته شيء من المعنى الذي يقصده ولكن ينذر حينئذ أن يسلم هذا اللفظ من داء التخمة في إسرافه وفضوله تلك التخمة التي تذهب ببهائه ورونقه وتجعل السامع يتعثر في ذيوله لا يكاد يميز بين زوائد المعنى وأصوله .


وإذا افترضنا أن بليغا كتب له التوفيق بين هاتين الغايتين وهما القصد في اللفظ مع الوفاء بالمعنى في جملة أو جملتين من كلامه فإن الكلال والإعياء لا بد لاحقا به في بقية هذا الكلام وندر أن يصادفه هذا التوفيق مرة ثانية إلا في الفينة بعد الفينة كما تصادف الإنسان قطعة من الذهب أو الماس في الحين بعد الحين وهو يبحث في التراب أو ينقب بين الصخور [5] .


و القرآن قارئه لا يمله ، وسامعه لا يمجه، بل الإنكباب على تلاوته يزيده حلاوة ، و ترديده يوجب له محبة و طلاوة ، لا يزال غضّا طريّا ، و غيره من الكلام و لو بلغ في الحسن والبلاغة ما بلغ يمل مع الترديد ، و يعادى إذا أعيد ، و كتابنا يستلذ به في الخلوات ، و يؤنس بتلاوته في الأزمات ، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك ،حتى أحدث أصحابها لها لحونا وطرقا ، يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها [6] .
[1] - إعجاز القرآن والبلاغة النبوية للرافعي ص 126
[2] - مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/313
[3] - مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/315
[4] - مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/323
[5] - مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/324
[6] - المواهب اللدنية بالمنح المحمدية للقسطلاني 2/247

د.ربيع أحمد
03-09-2013, 12:16 PM
شبهة من يزعم أن عدم قدرة الناس على مجاراة أسلوب القرآن ليس خصوصية للقرآن؛ لأن أسلوب كل قائل صورة نفسه ومزاجه فلا يستطيع غيره أن يحل محله


يقول الدكتور محمد بن عبد الله دراز - رحمه الله - : « سيقول السائل إذا انتهى معنا إلى هذا الموضع: لقد أغلقتم عنا بهذا البيان بابًا من الشك، ولكنكم لم تلبثوا أن فتحتم علينا منه بابًا جديدًا، ألم تقولوا لنا: إن هذه الصناعة البيانية ليست في الناس بدرجة واحدة، وإن القوى تذهب فيه متفاوتة على مراتب شتى، فما نرى إذًا علينا من حرج أن نعد الإعجاز الذي حدثتمونا عنه أمرًا مشاعًا يجري في أساليب الناس كما يجري في القرآن.


ألا ترون أن كل قائل أو كاتب إنما يضع في بيانه قطعة من عقله ووجدانه على الصورة التي تهديه إليها فطرته ومواهبه؟ وأن اختلاف الناس في هذه الوسائل يتبعه البتة اختلاف طرائقهم في التعبير عن أغراضهم؟


إنكم لتستطيعون أن تحصوا في اللغة العربية صورًا كلامية بعدة الناطقين بها، بحيث لا تجدون كاتبًا يكتب كما يكتب كاتب آخر على السواء، ولا قائلًا كذلك.


بل أنتم لا محالة واجدون عند كل واحد منهاجًا خاصًّا في الأداء؛ فليس البدوي كالحضري ، ولا الذكي كالغبي و ليس الطائش كالحليم ، ولا المريض كالسليم . وليس الأدنى في هذا الباب يستطيع الصعود إلى الأعلى، ولا الأعلى يستطيع النزول إلى الأدنى.


بل المتشابهان فطرة ومزاجًا، المتساويان تربية وتعليمًا قد يشربان من كأس واحدة ثم لا يتناطقان بالكلام على صورة واحدة .


فكيف تأمرون الناس أن يجيئوكم بمثل القرآن وهم لا يقدرون أن يجيء بعضهم بمثل كلام بعض؟ وكيف تعدون عجزهم عنه آية على قدسيته وأنتم لا تعدون عجز كل امرئ عن الإتيان بأسلوب غيره آية على أن ذلك الأسلوب صنع إلهي محض لا كسب فيه للذي جرى على لسانه؟


أليس هذا القياس يسوغ لنا أن نفترض القرآن كلامًا بشريًّا كسائر كلام البشر، غير أنه اختص أسلوبه بصاحبه كما اختص كل امرئ بأسلوب نفسه؟


وجوابنا لهذا القائل أن نقول له: لسنا نماريك في أن كلام المتكلم إنما هو صورة تمليها عليه فطرته ومواهبه، ولا في أن هذه الفطر والمواهب لتفاوتها عند أكثر الناس لا بد أن تترك أثرها من التفاوت في صورة كلامهم، ولا في أن تلك الفطر والمواهب إن تشابهت عند فريق من الناس فأملت عليهم صورًا متشابهة من القول فإنها لا تخرجها في عامة الأمر صورة واحدة .


كل هذا نسلمه ولا ننكره، ولكنه لا يضرنا ولا يوهن شيئًا من حجتنا؛ ذلك أننا حين نتحدى الناس بالقرآن لا نطالبهم أن يجيئونا بنفس صورته الكلامية، كلا، ذلك ما لا نطمع فيه، ولا ندعو المعارضين إليه، وإنما نطلب كلامًا أيًّا كان نمطه ومنهاجه، على النحو الذي يحسنه المتكلم أيًّا كانت فطرته ومزاجه .


بحيث إذا قيس مع القرآن بمقياس الفضيلة البيانية حاذاه أو قاربه في ذلك المقياس وإن كان على غير صورته الخاصة، فالأمر الذي ندعوهم إلى التماثل أو المقاربة فيه هو هذا القدر الذي فيه يتنافس البلغاء، وفيه يتماثلون أو يتقاربون. وذلك غير المعارض والصور المعينة التي لا بد من الاختلاف فيها بين متكلم ومتكلم .


فإن عسر عليك أن تفهم كيف تجيء المماثلة مع هذا الاختلاف ضربنا لك مثلًا ؛ قومًا يستبقون إلى غاية محدودة، وقد اتخذوا لذلك مجالًا واسعًا لا يزاحم بعضهم فيه بعضًا ، و لا يضع أحدهم قدمه على موضع قدم صاحبه، بل جعل كل منهم يذهب في طريقه الخاص به موازيًا لقِرنه في المبدأ والوجهة.


ثم يكون منهم المجلي والمصلي، والمقفي والتالي، ويكون منهم من لا حظَّ له في الرهان. ويكون منهم المتكافئون المتعادلون. وهكذا تراهم وهم مختلفو المنازل يقع بينهم التماثل كما يقع بينهم التفاضل بنسبة ما قطعه كل منهم من طريقه إلى الغاية المشتركة .


فكذلك المتنافسون في حلبة البيان يعمد كل منهم إلى الغرض من الطريق التي يرضاها، وعلى الوجه الذي يستمليه من نفسه، ثم يقع بينهم التماثل أو التفاضل على قدر ما يوفون من حاجة البيان أو ينقصون منها، وإن اختلفت المذاهب التي انتحاها كل منهم .


هب -إذًا- المدعوين لمعارضة القرآن فيهم الأكفاء والأنداء لنبي القرآن في الفطرة والسليقة العربية ، أو من هم أكمل منه فيها، أو هبهم جميعًا دونه في تلك المنزلة. فأما الأعلون فسيجيئون على وفق سليقتهم بقول أحسن من قوله. وأما الأنداد فسيجيئون بشيء مثله. وأما الآخرون فلن يكبر عليهم أن يقاربوا ويجيئوا بشيء من مثله، وشيء من هذه المراتب الثلاث لو تم لكان كافيًا في رد الحجة وإبطال التحدي » [1].




كَيفَ يكون الْقُرْآن معجزا وَهُوَ غير خَارج عَن حُرُوف المعجم ؟



قال أبو بكر الباقلاني :«فَإِن قَالُوا كَيفَ يكون الْقُرْآن معجزا وَهُوَ غير خَارج عَن حُرُوف المعجم الَّتِي يتَكَلَّم بهَا الْخلق من أهل الفصاحة والعي واللكنة قيل لَهُم لَيْسَ الإعجاز فِي نفس الْحُرُوف وَإِنَّمَا هُوَ فِي نظمها وإحكام رصفها وَكَونهَا على وزن مَا أَتَى بِهِ النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - »[2] .


و قال الدكتور محمد بن عبد الله دراز - رحمه الله - : « شبهة من قد يظن أن القرآن إن كان معجزًا فليس إعجازه من ناحيته اللغوية ؛ لأنه لم يخرج عن لغة العرب في مفرداته ولا في قواعد تركيبه فإن قال: قد تبينتُ الآن أن سكوت الناس عن معارضة القرآن كان عجزًا، وأنهم وجدوا في طبيعة القرآن سرًّا من أسرار الإعجاز يسمو به عن قدرتهم .

ولكني لست أفهم أن ناحيته اللغوية يمكن أن تكون من مظان هذ السر ؛ لأني أقرأ القرآن فلا أجده يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية : فمن حروفهم رُكِّبَتْ كلماتُه . و من كلماتهم أُلفت جمله وآياته ، و على مناهجهم في التأليف جاء تأليفه .


فأي جديد في مفردات القرآن لم يعرفه العرب من موادها وأبنيتها؟ وأي جديد في تركيب القرآن لم تعرفه العرب من طرائقها ولم تأخذ به في مذاهبها، حتى نقول: إنه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية؟


قلنا له : أما أن القرآن الكريم لم يخرج في لغته عن سنن العرب في كلامهم إفرادًا وتركيبًا فذلك في جملته حق لا ريب فيه، وبذلك كان أدخل في الإعجاز، وأوضح في قطع الأعذار ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ﴾ .


وأما بعد، فهل ذهب عنك أن مثل صنعة البيان كمثل صنعة البنيان، فالمهندسون البناءون لا يخلقون مادة بناء لم تكن في الأرض، ولا يخرجون في صنعتهم عن قواعدها العامة، ولا يعدو ما يصنعونه أن يكون جدرانًا مرفوعة، وسقفًا موضوعة، وأبوابًا مشرعة، ولكنهم تتفاضل صناعاتهم وراء ذلك في اختيار أمتن المواد وأبقاها على الدهر، و أكنها للناس من الحر والقر .


و في تعميق الأساس وتطويل البنيان، وتخفيف المحمول منها على حامله، والانتفاع بالمساحة اليسيرة في المرافق الكثيرة ، وترتيب الحجرات والأبهاء ، بحيث يتخللها الضوء والهواء، فمنهم من يفي بذلك كله أو جله، ومنهم من يخل بشيء منه أو أشياء.. إلى فنون من الزينة والزخرف يتفاوت الذوق الهندسي فيها تفاوتًا بعيدًا .


كذلك ترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد على طرائق شتى يتفاوت حظها في الحسن والقبول ، و ما من كلمة من كلامهم و لا وضع من أوضاعهم بخارج عن مواد اللغة وقواعدها في الجملة .


و لكنه حسن الاختيار في تلك المواد والأوضاع قد يعلو بالكلام حتى يسترعي سمعك، ويثلج صدرك، ويملك قلبك. وسوء الاختيار في شيء من ذلك قد ينزل به حتى تمجه أذنك، وتغشى منه نفسك، وينفر منه طبعك .


ذلك أن اللغة فيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، وفيها العبارة والإشارة والفحوى والإيماء، وفيها الخبر والإنشاء، وفيها الجمل الاسمية والفعلية، وفيهاالنفي والإثبات، وفيها الحقيقة والمجاز، وفيها الإطناب والإيجاز، وفيها الذكر والحذف، وفيها الابتداء والعطف، وفيها التعريف والتنكير، وفيها التقديم والتأخير، وهلم جرا..


ومن كل هذه المسالك ينفذ الناس إلى أغراضهم، غير ناكبين بوضع منها عن أوضاع اللغة جملة، بل في شعابها يتفرقون، وعند حدودها يلتقون .


بيد أنه ليس شيء من هذه المسالك بالذي يحمل في كل موطن، وليس شيء منها بالذي يقبح في كل موطن، إذًا لهان الأمر على طالبه، ولأصبحت البلاغة في لسان الناس طعمًا واحدًا، وفي سمعهم نغمة واحدة. كلا، فإن الطريق الواحد قد يبلغك مأمنك حينًا، ويقصر بك عن غايتك حينًا آخر .


ورب كلمة تراها في موضع كالخرزة الضائعة ثم تراها بعينها في موضع آخر، كالدرة اللامعة فالشأن إذًا في اختيار هذه الطرق أيها أحق بأن يسلك في غرض غرض، وأيها أقرب توصيلًا إلى مقصد مقصد .


ففي الجدال أيها أقوم بالحجة، وأدحض للشبهة، وفي الوصف أيها أدق مثيلًا للواقع، وفي موطن اللين أيها أخف على الأسماع وأرفق بالطباع، وفي موطن الشدة أيها أشد اطلاعًا على الأفئدة بتلك النار الموقدة، وعلى الجملة أيها أوفى بحاجات البيان وأبقى بطراوته على الزمان .


والأمر في هذا الاختيار عسير غير يسير ؛ لأن مجال الاختيار كثير الشعب، مختلف الألوان في صور المفردات والتراكيب، والناس ليسوا سواء في استعراض هذه الألوان، فضلًا عن الموازنة بينها، فضلًا عن حسن الاختيار فيها، فرب رجلين يهتدي أحدهما إلى ما غَفَل عنه صاحبه، ويغفل كل منهما عما هدي إليه الآخر، ورب وجه واحد يفوتك ها هنا يعدل وجهين تحصلهما هناك، أو بالعكس .


وعن جملة الملاحظات التي يلاحظها القائل في قوله ، تتولد صورة خاصة مثلها في هذه المركبات المعنوية مثل "المزاج" في تلك المركبات العنصرية المادية، وهذا "المزاج" هو الذي نسميه بالأسلوب أو الطريقة، وعلى حسبه يقع التفاوت في درجات الكلام وفي حظه من الحسن والقبول .


فالجديد في لغة القرآن أنه في كل شأن يتناوله من شئون القول يتخير له أشرف المواد، وأمسها رحمًا بالمعنى المراد، وأجمعها للشوارد، وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها وهي أحق به، بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته الناصعة، وصورته الكاملة .


ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين، وقراره المكين. لا يومًا أو بعض يوم، بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور، فلا المكان يريد بساكنه بدلًا، ولا الساكن يبغي عن منزله حِوَلًا.. وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان .


هذا مطلب له دليله، وإجمال له تفصيله ، وليس من قصدنا أن نعجلك الآن بالبحث في أدلته وتفاصيله ، وإنما أردنا أن نزيح عنك هذه الشبهة لتعلم أن ليس كل كلام عربي ككل كلام عربي، وأن هذه الناحية اللغوية جديرة بأن تتفاوت فيها القوى نازلة إلى حد العجز، أو صاعدة إلى حد الإعجاز » [3] .

[1]- النبأ العظيم للدكتور محمد دراز ص 123 - 125
[2] - تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل للباقلاني ص 178
[3]- النبأ العظيم للدكتور محمد دراز ص 118 - 121

د.ربيع أحمد
03-09-2013, 12:18 PM
كَيفَ لَزِمت حجَّة الْقُرْآن غير العرب و هم لا يعلمون اللغة العربية ؟



قال أبو بكر الباقلاني : « فَإِن قَالُوا كَيفَ لَزِمت حجَّة الْقُرْآن الْهِنْد وَالتّرْك وهم لَا يعْرفُونَ أَن مَا أَتَى بِهِ معجز قيل لَهُم من حَيْثُ إِنَّهُم إِذا فتشوا علمُوا أَن الْعَرَب الَّذين بعث فيهم النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - كَانُوا أفْصح النَّاس وأقدرهم على نظم الْكَلَام الْعَرَبِيّ وَأَنَّهُمْ النِّهَايَة فِي هَذَا الْبَاب .


وَأَنَّهُمْ مَعَ ذَلِك أحرص النَّاس على تَكْذِيبه - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - وَأَنه نَشأ مَعَهم وَأَنَّهُمْ يعْرفُونَ دخيلته وَأهل مُجَالَسَته فِي ظعنه وإقامته وَأَنه مَا كَانَ يَتْلُو من قبله من كتاب وَلَا يخطه بِيَمِينِهِ وَأَنه مَعَ ذَلِك كُله أجمع تحداهم بِمثلِهِ أَو بِسُورَة من مثله مُجْتَمعين أَو مفترقين فعجزوا عَن ذَلِك أجمع كَمَا أَن حجَّة مُوسَى وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَام - قَائِمَة على من لَيْسَ بساحر وَلَا طَبِيب لعلمه بِأَنَّهُمَا تحديا أطب النَّاس وأعظمهم سحرًا بِمثل مَا أَتَيَا بِهِ فعجزوا عَن ذَلِك مَعَ الْحِرْص على تكذيبهما والإتيان بِمثل مَا أَتَيَا بِهِ »[1] .











من أَيْن يعلم أَن النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - تحدى الْعَرَب أَن تَأتي بِمثلِهِ وطالبهم بذلك ؟



قال أبو بكر الباقلاني : « فَإِن قَالَ قَائِل من أهل الْملَل وَغَيرهم من أَيْن يعلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تحدى الْعَرَب أَن تَأتي بِمثلِهِ وطالبهم بذلك قيل لَهُم يعلم ذَلِك اضطرارا من دينه وَقَوله كَمَا نعلم وجوده وظهوره و كما نعلم وجود الْقُرْآن نَفسه اضطرارا .


هَذَا على أَنه فِي نَص التِّلَاوَة نَحْو قَوْله : ﴿ فَأتوا بِسُورَة من مثله ﴾ ، و ﴿ قل لَئِن اجْتمعت الْإِنْس وَالْجِنّ على أَن يَأْتُوا بِمثل هَذَا الْقُرْآن لَا يأْتونَ بِمثلِهِ ﴾ وَهَذَا غَايَة التحدي والتقريع وَقد وصل قَوْله : ﴿ فَأتوا بِسُورَة من مثله﴾ بقوله : ﴿ وَادعوا شهداءكم من دون الله ﴾ فَلَا مُتَعَلق لأحد فِي هَذَا الْبَاب »[2] .





كَيفية إبطال حجَّة من أَتَى بِكَلَام منظوم وَزعم أَنه مثل الْقُرْآن



قال أبو بكر الباقلاني : « فَإِن قَالُوا كَيفَ تبطلون حجَّة من أَتَى بِكَلَام منظوم وَزعم أَنه مثل الْقُرْآن و عروضه قيل لَهُ لعلمنا بِأَنَّهُ لَيْسَ بِمثل لَهُ وَلَا من جنس نظمه فَإِن قدر على ذَلِك قَادر فليأت بِهِ لنريه أَنه خلاف لَهُ ونعلم ذَلِك بعجز الْعَرَب أَيْضا عَن مُعَارضَة الْقُرْآن مَعَ الْعلم بِأَنَّهُم أفْصح الفصحاء وأبلغ البلغاء وأشعر وأخطب من على وَجه الأَرْض مِمَّن تكلم بلسانهم بعدهمْ فتعلم بذلك تعذر معارضته على من بعدهمْ »[3] .




فرية أن القرآن شعر أو أن القرآن سحر



يريد بعض المغرضين أن يقدح في إعجاز القرآن فيقول القرآن ليس كلاما معجزا فما هو إلا ضرب من ضروب الشعر أو ضرب من ضروب السحر ،و كل من له ذوق في اللغة و الفهم يعلم أن القرآن كلام منثور لكنه معجز ليس كمثله كلام ؛ لأنه صادر من متكلم قادر ليس كمثله شيء .


وما هو بالشعر ولا بالسحر ؛ لأن الشعر معروف لهم بتقفيته ووزنه وقانونه ورسمه والقرآن ليس منه .


ولأن السحر محاولات خبيثة لا تصدر إلا من نفس خبيثة ولقد علمت قريش أكثر من غيرهم طهارة النفس المحمدية وسموها ونبلها إذ كانوا أعلم الناس به وأعرفهم بحسن سيرته وسلوكه .


وقد نشأ فيه وشب وشاب بينهم هذا إلى أن القرآن كله ما هو إلا دعوة طيبة لأهداف طيبة لا محل فيها إلى خبث ورجس بل هي تحارب السحر وخبثه ورجسه وتسمه بأنه كفر إذ قال : ﴿ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ﴾ .


ثم إن السحر معروف المقدمات والوسائل فليس بمعجز ولا يمكنه ولن يمكنه أن يأتي في يوم من الأيام بمثل هذا الذي جاء به القرآن [4] .


و قال ابن الوزير : « ولو كانت الفصاحة من مقدورات السّحرة, وحيل حذّاقهم المهرة لقدروا بذلك على معارضة القرآن, فكيف وقد عجزوا عن يسير البيان ! فأكثرهم لا يعرف وزن بيت من أيّ الأوزان, ولا يدري كيف الجولان في هذا الميدان! فانظروا في هذه المعجزة العظيمة الباقية على مرّ الدّهور الطويلة, التي أخرست مهرة الكلام من العرب وأسكنتهم وأردت فرسان البلاغة فنكستهم, أظهر الله به عجزهم, وأبطل به عزاهم وعزّهم »[5] .
[1]- تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل للباقلاني ص 181
[2]- تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل للباقلاني ص 183
[3]- تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل للباقلاني ص 184
[4] - مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/311
[5]- الرَّوضُ البَاسمْ في الذِّبِّ عَنْ سُنَّةِ أبي القَاسِم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – 2/592

د.ربيع أحمد
03-09-2013, 12:32 PM
تفاهة معارضة مسيلمة و أمثاله للقرآن



قال الآمدي – رحمه الله - : « وَمِنْهُم[1] من حمله فرط جَهله وقصور عقله على الْمُعَارضَة و الإتيان بِمثلِهِ كَمَا نقل من ترهات مُسَيْلمَة في قَوْله : الْفِيل والفيل وَمَا أَدْرَاك مَا الْفِيل لَهُ ذَنْب طَوِيل وخرطوم وثيل .


وَقَوله : والزارعات زراعا فالحاصدات حصدا والطاحنات طحنا إِلَى غير ذَلِك من كَلَامه وَلَا يخفى مَا فى ذَلِك من الركاكة والفهاهة وَمَا فِيهِ من الدّلَالَة على جهل قَائِله وَضعف عقله وسخف رَأْيه حَيْثُ ظن أَن هَذَا الْكَلَام الغث الرث الذى هُوَ مضحكة الْعُقَلَاء ومستهزأ الأدباء معَارض لما أعجزت الفصحاء معارضته وأعيه الألباء مناقضته من حِين الْبعْثَة إِلَى زَمَاننَا هَذَا »[2].


و قال عبد العزيز آل معمر – رحمه الله - : « ولقد رام بعض سخفاء العقول محاكاة بعض قصار المفصل، فأتى من الهذيان بالعجب العجاب ، كقول مسيلمة الكذاب اللعين : " يا ضفدع كم تنقين، أعلاك في الماء، وأسفلك في الطين، لا الماء تكدرين، ولا الشراب تمنعين ".


فلما سمع أبو بكر الصديق هذا الكلام قال: " إنه كلام لم يخرج من إل ". قيل: " الإل " بالكسر هو الله - تعالى - وقيل: " الإل " بالأصل: الجيد. أي لم يجئ من الأصل الذي جاء منه القرآن .


ولما سمع مسيلمة والنازعات قال : " والزارعات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، و الطاحنات طحنا ، والخابزات خبزا ، والثاردات ثردا ، و اللاقمات لقما ، لقد فضلتم علي أهل الوبر ، و ما سبقكم أهل المدر ".


وقال معارضا لسورة الكوثر : " إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر، إن مبغضك رجل كافر ".


وكقول الآخر: " ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين شراسيف وحشا ".
وقال آخر: " الفيل وما الفيل وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل، وشفر طويل، وإن ذلك من خلق ربنا لقليل ".


وهذا كلام فيه من السخافة ما لا خفاء به على من لا يعلم ، فضلا عمن يعلم .


ثم جاء جماعة من المتأخرين ممن انتهت إليهم الرياسة في الفصاحة ، فتعرضوا لمعارضته ، كابن المقفع و المعري و المتنبي ، ونظراء لهم ، فلم يأتوا إلا بما تمجه الأسماع ، وتنبو عنه الطباع ، و نادى عليهم بالخزي و الانقطاع ، وصيرهم مثلة و سخرية و ضحكة إلى أن تاب أكثرهم ، وأظهر ندمه ونسكه »[3] .


يقول محمد الزرقاني – رحمه الله - : « يذكر التاريخ أن مسيلمة الكذاب رغم أنه أوحي إليه بكلام كالقرآن ثم طلع على الناس بهذا الهذر إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر .


وبهذا السخف والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا وأنت خبير بأن مثل ذلك الإسفاف ليس من المعارضة في قليل ولا كثير .


وأين محاكاة الببغاء من فصاحة الإنسان وأين هذه الكلمات السوقية الركيكة من ألفاظ القرآن الرفيعة ومعانيه العالية وهل المعارضة إلا الإتيان بمثل الأصل في لغته وأسلوبه ومعانيه أو بأرقى منه في ذلك ؟ »[4] .

و المتتبع لكلام من توهم أنه قد عارض القرآن كمسيلمة نجد كلامه لا يخلو من تفاهة و سفه فهو يأتي بآيات من القرآن الكريم فيسرق أكثر ألفاظها و يبدل بعض ألفاظها أو يأتي بكلام على وزن الكلمات القرآنية بألفاظ سوقية و معان سوقية فهذا من قبيل المحاكاة ، وليست من المعارضة في شيء ، ليست معارضة الكلام أن تحاكيه تأخذ كلمة وتضع بدلها كلمة أخرى وتستخدم نفس الوزن والتحدّي كان بسورة مِن مثل القرآن في الألفاظ و المعاني و النظم و الجمال اللغوي و الجمال الصوتي ، و لم يكن التحدّي بكلام مسجوع .


و المعارضة أن تعمد إلى معنى من المعاني فتؤديه نفسه بأسلوب آخر يوازي الأصل في بلاغته أو يزيد أي المعارضة هي أن تأتي بمقصود الشخص الذي قال الكلام الأول ، تأتي بمقصوده و لكن بعباراتأفصحمن يحاول ذلك في المعاني القرآنية فإنما يحاول محالًا ، و التجربة أصدق شاهد .


وإني أسئل من يتوهم القدرة على معارضة القرآن رغم أن فصاحته لا شك أدنى بكثير من فصاحة العرب الأوائل لماذا لم تحاول قريش مع عنادها وإيذائها للنبي - صلى الله عليه وسلم - معارضة القرآنمع أنها أفصح قبائل العرب أو على الأقل من أفصح قبائل العرب ، وكانت تعرف للكلمة قيمتها و كانت تعرف الكلام الفصيح من غيره و قد آوت المعلقاتالسبع وعلقتها بالكعبة ؟!!


و لماذا لم تحاول قبائل العرب الأخرى كبني سعد وحمير وغيرها من قبائل العربالمشهورة بالفصاحة معارضة القرآن ؟!

و كان العرب في الجاهلية ليس لهم ثقافة غير الشعر و النثر و الخطابة والتجارة فلماذا عجزوا عن معارضة القرآن ثم يأتي من لا فقه له باللغة فيزعم أنه عارض القرآن ؟! .

و الذي يقرأ قول مسيلمة : (( إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر، إن مبغضك رجل كافر )) يجد أن مسيلمة - عليه من الله ما يستحقه - قد سرق كثير من ألفاظ سورة الكوثر فالكلام منحول من سورة الكوثر و بدل بعض الألفاظ و ليس في كلامه النظم الجميل و لا مسحة من جمال لغوي و لا مسحة من جمال صوتي و هذا الكلام لا يماثل القرآن في شيء و إنما هو ضرب من الاقتباس من القرآن مع التصرف .



و الذي يقرأ قول مسيلمة - عليه من الله ما يستحقه - : (( والزارعات زرعا ، و الحاصدات حصدا ، و الذاريات قمحا ، و الطاحنات طحنا ، والخابزات خبزا ، والثاردات ثردا ، و اللاقمات لقما ، لقد فضلتم علي أهل الوبر ، و ما سبقكم أهل المدر ))[5] )) يجد أن مسيلمة قد أتى بألفاظ سوقية على وزن كلمات سورة النازعات ، و قال الشعراوي – رحمه الله - : « هذا الكلام لوناً من هراء فارغ ؛ لأن الحق إنما أنزل كلامه موزونا جاذباً لمعانٍ لها قيمتها في الخبر »[6] .


و ما ذكره مسيلمة- عليه من الله ما يستحقه - من هذا الكلام الركيك في غاية التهافت ، و لا يحمل أي معنى بلاغي لإيصال معنى مفيد و المعارضة بين كلامين إنما تكون معارضة إذا كان بينهما مقاربة ومداناة بحيث يلتبس أحدهما بالآخر أو يكون أحدهما مقاربا للآخر .


و يقول الدكتور محمد بن عبد الله دراز - رحمه الله - : « شبهة غِرٍّ ناشئ يتوهم القدرة على محاكاة القرآن فأما إن كان مثار الشبهة عنده أنه زاول شيئًا من صناعة الشعر أو الكتابة، وآنس من نفسه اقتدارًا في البيان فوسوس له شيطان الإعجاب بنفسه والجهل بالقرآن أنه يستطيع الإتيان بمثل أسلوبه ، فذلك ظن لا يظنه بنفسه أحد من الكبار المنتهين ، و إنما يعرض -إن عرض- للأغرار الناشئين .


ومثل هذا دواؤه عندنا نصح نتقدم به إليه أن يطيل النظر في أساليب العرب، وأن يستظهر على فهمها بدراسة طرف من علوم الأدب، حتى تستحكم عنده ملكة النقد البياني، و يستبين له طريق الحكم في مراتب الكلام وطبقاته ، ثم ينظر في القرآن بعد ذلك .


وأنا له زعيم بأن كل خطوة يخطوها في هذه السبيل ستزيده معرفة بقدره ، وستحل عن نفسه عقدة من عقد الشك في أمره ؛ إذ يرى هنالك أنه كلما ازداد بصيرة بأسرار اللغة، وإحسانًا في تصريف القول ، وامتلاكًا لناصية البيان ، ازداد بقدر ذلك هضمًا لنفسه، وإنكارًا لقوته، وخضوعًا بكليته أمام أسلوب القرآن ، وهذا قد يبدو لك عجيبًا، أن يزداد شعور المرء بعجزه عن الصنعة بقدر ما تتكامل فيها قوته ويتسع بها علمه .


ولكن لا عجب، فتلك سنة الله في آياته التي يصنعها بيديه: لا يزيدك العلم بها والوقوف على أسرارها إلا إذعانًا لعظمتها وثقة بالعجز عنها. ولا كذلك صناعات الخلق، فإن فضل العلم بها يمكنك منها ويفتح لك الطريق إلى الزيادة عليها، ومن هنا كان سحرة فرعون هم أول المؤمنين برب موسى وهارون .


فإن أبى المغرور إلا إصرارًا على غروره، وكبُر عليه أن يُقر بعجزه وقصوره، دعوناه إلى الميدان ليجرب نفسه و يبرز قوته ، و قلنا له : أخرج لنا أحسن ما عندك لننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين .


غير أننا نعظه بواحدة أخرى : ألا يخرج على الناس ببضاعته حتى يطيل الروية ويحكم الموازنة، وحتى يستيقن الإحسان والإجادة ؛ فإنه إن فعل ذلك كان أدنى أن يتدارك غلطه ويواري سوءته، وإلا فقد أساء المسكين إلى نفسه من حيث أراد الإحسان إليها .


وإن في التاريخ لَعِبَرًا تؤثَر عن أناس حاولوا مثل هذه المحاولة؛ فجاءوا في معارضة القرآن بكلام لا يشبه القرآن ولا يشبه كلام أنفسهم؛ بل نزلوا إلى ضرب من السخف والتفاهة بادٍ عَوارُه ، باقٍ عارُه وشَنارُه : فمنهم عاقلٌ استحيا أن يُتم تجربته ، فحطم قلمه ومزق صحيفته.


ومنهم ماكر وجد الناس في زمنه أعقل من أن تروج فيهم سخافاته، فطوى صحفه وأخفاها إلى حين . ومنهم طائش برز بها إلى الناس، فكان سخرية للساخرين ومثلًا للآخرين .


فمن حدثته نفسه أن يعيد هذه التجربة مرة أخرى فلينظر في تلك العبر وليأخذ بأحسنها، ومن لم يستحِ فليصنع ما يشاء » [7].


و قال الدكتور محمد بن عبد الله دراز - رحمه الله - في نسف ما يردده بعض المغرضين من قدرة أحد من البشر الإتيان بمثل القرآن : « شبهة أديب متواضع ينسب هذه القدرة إلى غيره من الفحول وأما إن كان مدخل الشبهة عنده أنه رأى في الناس من هو أعلى منه كعبًا في هذه الصناعة .


فقال في نفسه: "لئن لم أكن أنا من فرسان هذا الميدان ، ولم يكن لي في معارضة القرآن يدان، لعل هذا الأمر يكون يسيرًا على من هو أفصح مني لسانًا وأسحر بيانًا"


فمثل هذا نقول له: ارجع إلى أهل الذكر من أدباء عصرك فاسألهم هل يقدرون أن يأتوا بمثله ؟ فإن قالوا لك : " لو نشاء لقلنا مثل هذا" فقل : "هاتوا برهانكم! " و إن قالوا : " لا طاقة لنا به " فقل : أي شيء أكبر من العجز شهادة على الإعجاز؟


ثم ارجع إلى التاريخ فاسأله : ما بال القرون الأولى ؟ ينبئك التاريخ أن أحدًا لم يرفع رأسه أمام القرآن في عصر من أعصاره ، و أن بضعة النفر الذين انغضوا رءوسهم إليه باءوا بالخزي والهوان ، و سحب الدهر على آثارهم ذيل النسيان .


أجل ، لقد سجل التاريخ هذا العجز على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن ، و ما أدراك ما عصر نزول القرآن ؟ هو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي، وهل بلغت المجامع اللغوية في أمة من الأمم ما بلغته الأمة العربية في ذلك العصر من العناية بلغتها، حتى أدركت هذه اللغة أشدها؛ وتم لهم بقدر الطاقة البشرية تهذيب كلماتها وأساليبها ؟ ..


و ما هذه الجموع المحشودة في الصحراء ، وما هذه المنابر المرفوعة هنا وهناك ؟ إنها أسواق العرب تعرض فيها أنفس بضائعهم وأجود صناعاتهم ؛ و ما هي إلا بضاعة الكلام ، و صناعة الشعر والخطابة ، يتبارون في عرضها و نقدها ، و اختيار أحسنها والمفاخرة بها ، و يتنافسون فيها أشد التنافس ، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم ، وما أمر حسان والخنساء وغيرهما بخافٍ على متأدب .


فما هو إلا أن جاء القرآن ، وإذا الأسواق قد انفضت، إلا منه، وإذا الأندية قد صَفِرت، إلا عنه، فما قدر أحد منهم أن يُباريَه أو يجاريَه ، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة ، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة ، أو تقديم واحدة و تأخير أخرى ؛ ذلك على أنه لم يسد عليهم باب العارضة بل فتحه على مصراعيه ، بل دعاهم إليه أفرادًا أو جماعات.


بل تحداهم وكرر عليهم ذلك التحدي في صور شتى، متهكمًا بهم متنزلًا معهم إلى الأخف فالأخف : فدعاهم أول مرة أن يجبئوا بمثله، ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله، ثم أن يأتوا بسورة واحدة مثله، ثم بسورة واحدة من مثله، وأباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا، ثم رماهم والعالم كله بالعجز في غير مواربة ؛ فقال : ﴿ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾


وقال : ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ﴾ ، فانظر أي إلهاب، وأي استفزاز! لقد أجهز عليهم بالحكم البات المؤبد في قوله : ﴿ وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾ ثم هددهم بالنار، ثم سواهم بالأحجار، فلعمري لو كان فيهم لسان يتحرك لما صمتوا عن منافسته وهم الأعداء الألداء، وأباة الضيم الاعزاء .


وقد أصاب منهم موضع عزتهم وفخارهم، ولكنهم لم يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى معارضته، ولا سُلَّمًا يصعدون به إلى مزاحمته، بل وجدوا أنفسهم منه أمام طود شامخ، فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا ... حتى إذا استيأسوا من قدرتهم واستيقنوا عجزهم ما كان جوابهم إلا أن ركبوا متن الحتوف .


واستنطقوا السيوف بدل الحروف. وتلك هي الحيلة التي يلجأ إليها كل مغلوب في الحجة والبرهان، وكل من لا يستطيع دفعًا عن نفسه بالقلم واللسان .


ومضى عصر القرآن والتحدي قائمًا فليجرب كل امرئ نفسه، وجاء العصر الذي بعده، وفي البادية وأطرافها أقوام لم تختلط أنسابهم ، ولم تنحرف ألسنتهم ، ولم تتغير سليقتهم ، و فيهم من لو استطاعوا أن يأتوا هذا الدين من أساسه ، ويثبتوا أنهم قادرون من أمر القرآن على ما عجز عنه أوئلهم ، لفعلوا ، و لكنهم ذلت أعناقهم له خاضعين ، و حيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل .


ثم مضت تلك القرون، وورث هذه اللغة عن أهلها الوارثون ، غير أن هؤلاء الذين جاءوا من بعد ، كانوا أشد عجزًا وأقل طمعًا في هذا المطلب العزيز .


فكانت شهادتهم على أنفسهم مضافة إلى شهادة التاريخ على أسلافهم ، و كان برهان الإعجاز قائمًا أمامهم من طريقين : وجداني وبرهاني . ولا يزال هذا دأب الناس والقرآن حتى يرث الله الأرض و من عليها » [8] .

[1] - منهم الضمير يعود على الكفار
2]- غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 344
[3]- منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب 2/435
[4] - مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2/334
[5]- بعض العلماء ينسب هذه الكلمات للنضر بن الحارث كما في تفسير النسفي 1/522 ، والبحر المحيط 4/584 ،و تفسير السمعاني 2/127 ، وتفسير القرطبي 7/41
[6]- تفسير الشعراوي 6/3796
[7]- النبأ العظيم للدكتور محمد دراز ص 110 - 112
[8]- النبأ العظيم للدكتور محمد دراز ص 112 - 114

د.ربيع أحمد
03-09-2013, 12:34 PM
فرية أن القرآن من تأليف الجن



يدعي بعض المغرضين أن القرآن الكريم من تأليف الجن و هذا فرية باطلة فكما يوجد في الإنس من يحقدون على الحق مع العلم بأنه الحق ، فيتمنّون لو أمكنهم إفساد صفة الإعجاز في القرآن بأيّ وسيلة ممكنة ، كذلك يوجد في الجن من يحقدون مثل هذا الحقد ، ويتمنّون مثل هذا التمنّي .

فلما لم نر إنسانا أوحى إليه من قبل أحد الجان بمثل القرآن، أو بمثل بعض منه، علمنا بدليل الواقع المشاهد أنه ليس من تأليف الجان ولا من إيحائهم[1].





هل وصل خبر التحدى بالقرآن إلى كل العالم وهل يلزم من عجز بعض الخلق عجز كل الخلق ؟



رد يحيي بن حمزة – رحمه الله – على من يقول سلمنا وقوع التحدي، ولكن هل وصل خبر التحدي إلى كل العالم، أو إلى بعضه، وباطل أن يكون واصلا إلى كله، لأنا نعلم بالضرورة أن أهل الهند والصين والروم، وسائر الأقاليم البعيدة، ما كانوا يعلمون وجود محمد - صلّى الله عليه وسلّم - في الدنيا، فضلا عن أن يقال: إنهم عالمون بتحديه بالقرآن، وباطل أن يكون واصلا إلى بعضهم، لأنهم ولو عجزوا عن المعارضة فإنه لا يكفى فى صحة دعوى النبوة، عجزهم عن معارضته، لأنهم بعض الخلق، وعجز بعض الخلق لا يكون عجزا لجميعهم، وإلا لزم في بعض الحذاق في صناعته إذا تحدى أهل قريته، ثم عجزوا عن ذلك، أن يكون نبيا لمكان دعواه، وهذا ظاهر الفساد وهذا يبطل ما ذكرتموه من التحدي بالقرآن .


فقال يحيي بن حمزة - رحمه الله - : « وجوابه من وجهين : أما أولا : فلأنا نعلم بالضرورة أن العرب الذين قرع أسماعهم التحدى، وخوطبوا به «العين للعين» كانوا لا محالة أقدر على معارضته من غيرهم، لاختصاصهم بما لم يختص به غيرهم من سائر الأقاليم من الفصاحة والبلاغة، فلما عرفنا عجزهم كان غيرهم لا محالة أعجز من ذلك لما ذكرناه .


وأما ثانيا : فهب أن خبر تحدّيه بالقرآن ما وصل إلى كل العالم في زمانه، لكن لا شك في وصوله إليهم الآن، مع أنهم لم يعارضوه، وفى هذا دلالة على صحة نبوته، ويؤيد ما ذكرناه أنا نرى من يصنف كتابا في أي علم كان، ويظن أنه قد أتى فيه باليد البيضاء، فلا يلبث إلا مقدار ما يصل إلى الأقاليم والبلاد، ويحصل بعد ذلك ما يبطله ويدل على تناقضه وضعفه على القرب لأجل شدة الحرص على ذلك، وهذا ظاهر في جميع التصانيف كلها، فلو كان ثم معارضة توجد للقرآن، لكانت قد حصلت في هذه الأزمان المتمادية، والسنين المتطاولة، ولا شك في بلوغه لهذه الأقاليم التى زعمتم، وفى هذا بطلان ما زعمتموه »[2].





فرية قد وقع في التاريخ معارضات كثيرة للقرآن فسقط التحدي




رد يحيي بن حمزة – رحمه الله – على من يقول قد وقع هناك معارضات للقرآن، فإن العرب قد عارضوه بالقصائد السبع وعارضه مسيلمة الكذاب بكلامه الذي يحكى عنه، وعارضه النضر بن الحارث بأخبار الفرس وملوك العجم، وعارضه ابن المقفع من كلامه وقابوس بن وشمكير ، والمعرى، فكيف يقال إن المعارضة ما وقعت ؟!.


فقال يحيي بن حمزة – رحمه الله – : « وجوابه هو أن النظار من أهل الفصاحة والبلاغة مجمعون على أن المعارضة بين الكلامين إنما تكون معارضة إذا كان بينهما مقاربة ومداناة بحيث يلتبس أحدهما بالآخر أو يكون أحدهما مقاربا للآخر، وكل عاقل يعلم بالضرورة أن هذه القصائد السبع ليس بينها وبين القرآن مقاربة ولا مداناة ، بحيث يشتبه أحدهما بالآخر .


وكيف لا وهذه القصائد من فن الشعر ، و القرآن ليس من فنون الشعر في ورد ولا صدر، فلا يجوز كونها معارضة له، وأما ما حكى عن النضر بن الحارث، فإنما نقل حكايات ملوك العجم، وليس من أسلوب القرآن، فلا يكون معارضا له .

وأما ما يحكى عن مسيلمة الكذاب فهو بالخلاعة أحق منه بالمعارضة، لنزول قدره، وتمكنه في الحماقة ؛ لأن من حق ما يكون معارضا، أن يكون بينه وبين المعارض مقاربة ومداناة، بحيث يشتبه الأمر فيهما، فأما إذا كان الكلامان في غاية البعد والانقطاع، فلا يعد أحدهما معارضا للآخر » [3].





فرية أن العرب ما عجزوا عن معارضة القرآن لكن تأخروا عن معارضة القرآن لعدم علمهم بما اشتمل عليه القرآن، من شرح حقائق صفات الله تعالى، والبعث والنشور وأحكام الآخرة، وأحوال الملائكة



قال يحيي بن حمزة – رحمه الله – : « لا يقال : فلعل العرب إنما عجزوا عن معارضة القرآن ليس لأنهم غير قادرين عليها، وإنما تأخروا عن المعارضة، لعدم علمهم بما اشتمل عليه القرآن، من شرح حقائق صفات الله تعالى، والبعث والنشور وأحكام الآخرة، وأحوال الملائكة، وغير ذلك مما لا مدخل لأفهامهم فى تعقله وإتقانه .


لأنا نقول هذا فاسد لأمرين : أما أولا فهب أن العرب كانوا غير عالمين بحقائق هذه الأشياء، لكن اليهود كانوا بين أظهرهم وكان عليهم السؤال عنها، ثم يكسونها عبارات يعارضون بها القرآن.


وأما ثانيا فلأن اليهود أنفسهم كان فيهم فصحاء، فكان يجب مع علمهم بها أن يعارضوه، فلما لم تكن هناك معارضة لا من جهة اليهود، ولا من جهة غيرهم، دل على بطلانها وتعذرها »[4].


هذا و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات و كتب ربيع أحمد حامدا لله و مصليا على نبيه - صلى الله عليه وسلم - الاثنين 16 /ربيع الأول/1434هـ ، 28/يناير/2013م

[1] - من روائع القرآن لمحمد سعيد البوطي ص 130
[2] - الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز 3/208
[3]- الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز 3/213
[4]- الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز 3/213