المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من روائع الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله



elserdap
04-26-2013, 02:14 AM
روائع الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله في حديثه عن العلمانية
Dark enlightenment الاستنارة المظلمة هي كلمة متناقضة لكنها واقعية في الغرب فعلى الانسان ان يتخلى عن غروره وأواهامه ومركزيته ويعود للطبيعة فقوانينه هي قوانينها فالهم الأكبر للعلمانية هو توجيه ضربات متتالية للانسان وتحطيم صورته المثالية عن نفسه وألا يستمد اي عزاء زائف من وهم المركزية في الكون فالانسان عليه ان يعود الى قوانين الطبيعة ويصير مثل الاشياء ويذوب في عالم المادة اللاغائي اللاقيمي فالعقلانية المادية العلمانية تنتهي الى لاعقلانية مادية إلحادية قاتلة .

العلمانية زودت الإمبريالية الغربية بإطار نظري لإبادة الملايين بإسم العرقية المادية والبيولوجية الداروينية فظهرت اليد الخفية عن آدم سميث – المنفعة عن بنتام –وسائل الإنتاج عند ماركس – الجنس عند فرويد –إرادة القوة عند نيتشه – قانون البقاء عند داروين – الطفرة الحيوية عند برجسون –الروح المطلقة عند هيجل – روح العصر – عبء الرجل الأبيض العبء الحضاري.

بعد موت الإله لا داعي للتمحك في ظلاله كما يقول نيتشه فلا داعي للقول بالأخلاق أو المساواة بين البشر أو القيم أو الغائيات والتمحك هو عمل جبان غير قادر على قبول وضع الانسان في عالم بلا قيمة غائية وفي وجود عرضي زائل لا قيمة له لذا رحب نيتشه أخيرا بالعدمية .

الماركيز جان أنطوان نيكولاس دي كوندورسيه 1794 رياضي فرنسي أسس للعلمانية رياضيا وماديا وانتصر للعلمانية الرياضية وبعد ان انتصرت العلمانية في فرنسا دخل فندقا صغيرا وطلب طبق أومليت صغير مُكون من 12 بيضة وكان هذا طلبا غريبا جعل العاملون بالفندق يساورهم القلق بشأنه فهو قد أخطأ في عدد البيضات وهو أمر غير عادي وغير رشيد ويتجاوز القانون الرياضي العام الذي هو نفسه أسس له فقُبض عليه وأودع السجن ومات في السجن فمات بنفس السم الذي سقى به العالم .

في بداية تطبيق العلمانية يحدث دائما صراع بين الانسان والطبيعة مَن منهما له المركز والأساس ودائما تتم تصفية المعركة لحساب الطبيعة فقوانينها هي الأساس ومنها المبدأ وإليها المآل وبذا يتم تهميش الانسان وتتم تصفيته ويسقط الجميع في أحضان المادية حيث لا مُطلقات ولا مرجعيات ولا متجاوز ويفشل النموذج الهيوماني ففي نهاية الامر يتم دائما تغليب الجانب المادي وهو الجانب الأقوى ويذوب الانسان وتذوب هويته .

كيف يمكن للعقل في إطار المادة العقلانية أن يُفرق بين ما هو أخلاقي وبين ما هو غير أخلاقي فالعقل لا يُشع نورا وإنما فقط هو موصل جيد للنور أو الظلام فحسب .. فمرجعيته النهائية هي الطبيعة وماذا لو أثبت أحد العلمانيين أنه من المجدي القضاء على العجزة والمعاقين والأقزام باعتبارهم فائض بشري لا قيمة مادية منه كما فعل هتلر بالضبط ؟ألا يمكن تحديد النسل من خلال إبادة المرضى المزمنين إن ابادة مثل هؤلاء أمر مُستوعب داخل النموذج العلماني فالمرجعية هي الطبيعة والطبيعة لا تحابي أحدا .

ماذا يفعل العقل العلمي أمام العالم الألماني الذي كان يضع الطفل التوأم وشقيقة في حجرتين منفصلتين ويجرى على أحدهما تجارب ويرى مدى تأثر الآخر فيُعرض أحدهما للتسخين أو التبريد أو التعذيب أو الموت ولذا فقد تراكم كم هائل من المعلومات النفسية في الحقبة النازية .

العلمانية أدت إلى توازن الرعب في العالم ففي كل جانب من جنبات العالم توجد اسلحة نووية تكفي لتدمير الكوكب .

أصبح من الممكن في العالم العلماني إغراء الإنسان وإيهامه بأن ما يرغب فيه هو قرار حر نابع من داخله ولكنه في الحقيقة أسير مئات الإعلانات التي ولَّدت لديه قراراته .

ماذا لو تم إجماع الأغلبية على إبادة الأقلية وإجماع الشعوب الأوربية على استعمار الدول الفقيرة ونهب ثرواتها .

مؤسسة الإبادة في الدولة النازية كانت تُسمى مؤسسة تدعيم القومية الألمانية ومن خلال هذه المؤسسة العلمانية ذات الكفاءة المثالية كان يتم عمل خط التجميع للمساجين ويتم اعطاؤهم أرقام ثم فرزهم ثم إدخالهم أفران الغاز ليحترقوا بمنتهى الكفاءة والمثالية في الاداء - وخط التجميع يوجد في السلخانات وتم استخدامه ضد الأقليات في المانيا العلمانية - وكانت يتم الفرز بمنتهى الكفاءة فمَن هو صالح للإستخدام يتم إيداعه في المصانع العملاقة للإنتاج الضخم بأقل من الكفاف وغير الصالح للإستخدام يدخل أفران الغاز بمنتهى الكفاءة ولا يستطيع باحث بعيدا عن المعايير الاخلاقية أن ينكر مدى التقدم الرهيب الذي أحرزته الفترة النازية في كافة العلوم وكم الإنتاج منقطع النظير ... وعندما دخل الالمان شبه جزيرة القرم وجدوا اليهود القراءون فتم تشكيل لجنة بمنتهى الحيادية لمعرفة مدى جدوى استخدامهم أم حرقهم فتبين أنهم أكفاء وبالتالي تم تأجيل قرار إبادتهم .

في مؤتمر فانسي الذي عُقد عام 1942 تم تقسيم ضحايا النازية إلى أربعة أقسام القسم الأول مَن ستتم إبادته على الفور ومن تتم إبادته من خلال الجوع والثالث الذي سيتم تعقيمه - لن ينجب - أما الرابع فيتم دمجه في المجتمع الألماني وجرى الحديث عن إبادة المعاقين باعتباره نوع من الصحة العرقية وعلاج الأمراض الوراثية الخطيرة والعملية كلها كانت عملية تطهير للجنس الألماني لا أكثر فإبادة البشر عملية مجردة تماما وترشيدية داخل المنظومة العلمانية الحيادية .
وقد حذرت القيادة النازية من استخدام العنف بلا مبرر وقد أشار هتلر في خُطبه إلى أن عمليات التصفية لابد أن تتم بطريقة محايدة وبدون نزعات سادية بل إن إطلاق النار على اليهود لأسباب شخصية يعاقب عليه القانون النازي بالإعدام وقد أكد هملر على ذلك مرارا .

Euthenesia القتل الرحيم وهذا تعريف خاطيء فالتعريف الصحيح هو القتل العلمي العقلاني الأداتي أي التخلص من المعاقين وأصحاب الأمراض النفسية وأصحاب الأمراض المزمنة عن طريق التصفية الجسدية وضم إليهم النازيون مصابي الحروب لأن تكاليف علاجهم تمثل عبء كبير على الدولة .

في عام 1933 أصدر النازي قانون التعقيم لمنع المرضى من التكاثر وتم إصدار قرار منع إقامة علاقات جنسية بين اليهود والجنس الآري الراقي وطُلب من كل طبيب ان يبلغ عن كل مولود جديد معوق وبدأت عمليات القتل الرحيم طبقا لمشروع T4 وقُتل بالفعل 70 ألف معاق وعاجز - يأكلون ولا ينتجون - وحسب الإحصاءات الألمانية فإن قتل هؤلاء أدى إلى توفير 239 طن من المربى في عام واحد فقط .
وقد صُنف اليهود باعتبارهم مرضى لعدم نقائهم العرقي ولهذا تمت تصفيتهم سريعا .

قام الدكتور بوخنوالد - هانس إيسيل - بعمل تجارب طبية على المعتقلين في الدولة النازية مثل تعريضهم لغرف تفريغ الهواء لمعرفة كم يستطيع الانسان أن يمكث حتى يموت وتعريضهم لغازات سامة لمعرفة مدى فاعليتها والتركيزات المطلوبة لإحداث الوفاة ..وقام بعمليات جراحية بدون تخدير لمعرفة درجات الألم ومسارات الأعصاب وقد وفرت الفترة النازية كمية عملاقة من المعلومات الطبية في كافة المجالات وحتى يومنا هذا هنا جدل كبير بين العلماء حول جواز استخدام تلك المعلومات أم لا احتراما للذين ماتوا بسببها .

كان الدكتور راشر النازي يُعرض مرضاه للتجميد لمعرفة الفترة التي بعدها يموت الانسان ودرجة التجمد الكافية للموت وبالفعل أمد الدكتور راشر العلم بطرق كثيرة لإطالة حياة الطيارين الذين يسقطون في المياه المتجمدة وكان أُسلوب العمل هو تجميد السجناء تدريجيا مع متابعة النبض والتنفس والحرارة وضغط الدم بانتظام وقد مات أغلب من تمت التجارب عليهم والباقون أصيبوا بلوثات عقلية وتمت إبادتهم بعد ذلك .

أُجريت في ألمانيا النازية تجارب زرع الغرغرينة في الجروح كما تم الحَقن بالميكروبات لمعرفة الأسرع فتكا والدكتور منجل هو صاحب تجارب التوائم وكما قال بريمو ليفي فإن ألمانيا النازية هي المكان الوحيد الذي كان بوسع العلماء أن يدرسوا فيه جثتا توأمين قُتلا في نفس اللحظة والنتائج التي توصل إليها العلماء النازيون هي نتائج فريدة لم تتح لغيرهم صراحة .

من المدهش أنه تم تصنيف اليابانيين في تلك الفترة على أنهم آريين شرقيين وهذا لعمق العلاقات بين المانيا واليابان في تلك الفترة وقد منع القانون النازي بدءا من عام 1935 أي شخص له أحد الأجداد يهودي أن يشغل وظيفة ضابط في الجيش النازي .

Einsatzgruppen هو إسم فرق إبادة الأقليات عديمة الجدوى في الجيش الالماني حيث كان يتم تجريد الضحايا من أية ادوات نافعة مثل حشوات الأسنان الذهبية ثم يقوم الضحايا بحفر القبور بأيديهم ثم يُقتلون وهم واقفون في وسط القبر بمنتهى الأداتية .

في محاكمات ما بعد النازية كان الجواب المتكرر لفرق الابادة أنهم كانوا موظفون لكن كيف نقوم بإدانة هؤلاء الموظفين ونحن نؤمن بالعقل الأداتي ونُنكر المتجاوز وننكر الغائية والمركزية وإذا كانت الأخلاق نسبية ولكل فرد ذاتيته الأخلاقية فبأي حق لي أن أفرض ذاتيتي الأخلاقية على ذاتية ذلك الموظف الاخلاقية بل بأي حق لي أن أتهم ذاتية هتلر الداروينية العقلانية العلمية الرصينة فالعلم المنفصل عن القيمة يستحيل نقده من خلال منظومة علمانية هي الاُخرى منفصلة عن القيمة .. والديموقراطية تدور في إطار النسبية الكاملة وترتبط بعدد الأصابع الموافقة بغض النظر عن القيمة والغاية للقرار المُتخذ حيث يتم تمرير مشروع أي قانون بفرق صوت واحد وهذا جائز ديموقراطيا بغض النظر عن طبيعة القانون أو مادته .

المشروع الإمبريالي الغربي قامت به حكومات تم انتخابها بطرق ديموقراطية سليمة وعمليات السخرة والابادة كانت تخطى بالموافقة فهي مسموح بها ديموقراطيا هل علينا أن نقبل بهذه القرارات بما أنها نابعة من إرادة الشعب أم نرفض هذه القرارات الديموقراطية استنادا إلى مرجعيات أخلاقية متجاوزة ؟ لا يوجد بديل ثالث متاح .

الخالق في المنظور الربوبي هو خالق عند لحظة الخلق فحسب ثم إلى قانون طبيعي بعد تلك اللحظة .

بعد ظهور الداروينية في بريطانيا على يد عالم مغمور يدعى تشارلز داروين ظهر الإنسان شيء ضمن الأشياء وظهر بلا أية مرجعية عليا وظهر ضائعا في هذا العالم فهو نتاج تطور بدايته داخل مستنقع وهذا التطور لن يقف عند الانسان بل هو مستمر وغير متوقف .. والإنسان شأنه شأن الأميبا لا يتمتع بأي حرية أو أعباء أخلاقية والقانون الأخلاقي مجرد تطور ولذا فهو نسبي وقتي فلا يوجد فارق صراحة بين مجموعة من الشباب يخطفون فتاة ويتناوبون اغتصابها وبين ذئاب يخطفون شاة ليتلذذوا بها ..البقاء هو القيمة الوحيدة والصراع هو الآلية والعالم ما هو إلا حرب الجميع ضد الجميع ومهما تطورت الكائنات فلن تنتج فكرا متجاوزا وقد بررت الداروينية المشروع الإمبريالي والمشروع النازي وأراحت مجرمي الحروب من أية أعباء أخلاقية .

مع تصاعد معدلات العلمنة يتم حصر الدين أكثر فأكثر وبعد أن يكون في المعاملات الشخصية يصير علاقة خاصة بين العبد وربه ويزداد الحصار فتصير العلاقة قلبية وهذا أضعف الإيمان إن كان يسمى إيمانا أصلا .

أصبحت العلمانية هي الإله الجديد ولعل الوقوف أثناء النشيد الوطني .. وتقديس الدولة .. والأُمة فوق الجميع .. كل هذه مصطلحات متجاوزة وتعني انتقال صفة القداسة من الدين للدولة ومن الدولة للقوانين المادية فالشعب ما هو إلا قوة بشرية متراكمة توظفها الدولة للصالح العام وظهرت مصطلحات مثل مصلحة الدولة العليا.. وقدَر الأُمة .. وتراب الوطن وهنا أصبحت الدولة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وقد برر أدولف أيخمان مذابحه التي ارتكبها في الفترة النازية بأنه مواطن صالح يتبع تعليمات الدولة العليا.. فداخل الدولة المطلقة نقلع النباتات المريضة ونقوم بإبادتها كما تمت إبادة ملايين اليهود والغجر فالولاء للوطن سيحل محل الولاء لله داخل الدولة العلمانية وقد حلت الدولة الغربية مشكلة الأثنيات العرقية عن طريق الدمج أو الإبادة أو الطرد وحلت الدولة محل الدين فهي التي تحدد الإطار الإجتماعي والأخلاقي الذي على المواطنين أن يسيروا في حلقته وبالتالي تآكلت الدعائم الاخلاقية والثقافية وظهرت بدلا عنها ثقافة المجتمع وأخلاقيات المجتمع وظهرت النُخب الفاسدة في الدولة العلمانية التي لا تحقق ثروتها بفضل استثمارها بقدر ما تحققه بقدر استغلالها وانتهازيتها والرشاوي والربا والمضاربات والوسائل القذرة للربح وهذه الدولة المدجنة بالأعلام المزخرفة والمواكب البهية والتشريفات العالية وظيفتها ليس التعبير عن إرادة الجماهير وانما استنزاف طاقتها الجهادية وتبديد طموحها للإستقلال .

نجاح الدولة العلمانية في الغرب مرتبط اساسا بمدى النهب الذي مارسته أثناء الحقبة الاستعمارية فتراكم الثروات الرأسمالي هو تراكم امبريالي في الاساس .

قررت كل دولة علمانية أن تضع نفسها فوق الجميع كما تقول كثير من الأناشيد الوطنية وتقوم بغزو الآخر والاستيلاء على أرضه واستباحته إذا كان هذا في صالح مقدرات الدولة العليا ويجب على الفرد أن يُذعن في هدوء باعتبار أن إرادة الأُمة هي المرجعية النهائية والوحيدة ومع الوقت تتغول الدولة وتستأسد وتظهر الدولة التنين والتي لا تريد من الآن فصاعدا فصل الدين عن الدولة وإنما فصل طموحات الفرد وكل أحلامه عن الدولة وتصبح الدولة هي المطلق واللوجس والمرجعية والغاية .

عمليات الربا والتجارة غير المشروعة تتطلب ممن يقوم بها نوع من الحياد والموضوعية الباردة ومن ثَم تقوم الدولة بتفكيك العلاقات التراحمية إلى علاقات نفعية .

أدركت العلمانية الغربية أن المواجهة العسكرية مع الدول الفقيرة لنهب الثروات صارت مكلفة ومرهقة بعد انتشار وسائل الاعلام والصحوات الإسلامية وهزائم فيتنام وأفغانستان فقررت أن تلجأ إلى التفكيك وتصدير العلمانية إلى النخب المثقفة وتدويل الشركات عابرة القارات وتدجين المثقفين من خلال ندوات تُنفق عليها الملايين وأندية الروتاري والليونز حيث يتم استئناس النخب المثقفة فيتم التركيز على الزيادة السكانية والحد من تزايد السكان وعلينا أن نترك الندية ونعترف بالواقع وفي النهاية نستسلم للعدو .

لم تظهر مشكلة الأقليات في العالم الثالث إلا بعد اقتحام الدول العلمانية لها وتغذيتها للأثنيات والجيوب الصغيرة في الدول النامية .

النشاط الاقتصادي هو مرجعية ذاته ولا يمكن الحكم عليه من منظور خارج عنه متجاوز له فالمجتمع ككل ينحل الى سوق ومصنع والمواطن الصالح هو الذي يسير حسب خطوط الموضة ويكون منتج ومستهلك بأداتية عالية بغض النظر عن مشاكل الاغتراب والتسلع واللامعنى واللامعيارية التي تصيب الانسان في اقتصاديات السوق حيث اليد الخفية لآدم سميث وآليات السوق - والسوق يتنازع المطلقية مع قيم المجتمع - وفي الغالب النزاع يُحسم لصالح السوق لأنه الأقرب إلى الطبيعة المادية والقوانين الطبيعية وقد قدمت العلمانية الفرصة الذهبية لكل المؤسسات الانتهازية فالمؤسسة من حقها استخدام كل الوسائل لتنفيذ غاياتها والدولة في هذا لا تهدف إلى إشباع حاجة سكانها بقدر ما تهدف الى زيادة ثرواتها وإنتاجيتها وقوتها العسكرية والإقتصادية .

في المجتمعات التقليدية فإن العمل هو فقط لتحقيق الحاجات الأساسية وهو ليس غاية في حد ذاته فحياة الإنسان ليست مُكرسة تماما للعمل والهدف من العملية الإنتاجية ليس مراكمة رؤوس الأموال وإنما إشباع الحاجة .. وبنية المجتمع التقليدي مستقرة ولا يوجد تفكك أُسري إذ لا حاجة لتفتيت الاسرة من أجل تراكم المال .

سيادة مجموعة القيم التي لا علاقة لها بالفرد هو جوهر الحداثة وتحل الوظيفة الاقتصادية محل العواطف والمشاعر الإنسانية والأخلاقية والمعنوية .

مع الوقت تُصبح العبادات داخل المنظومة العلمانية مصدرا للهدوء النفسي فحسب ويصبح الانتماء للمسجد مثل الإنتماء لنادي لعب الشطرنج - على حد تعبير رودنسون - .

الشذوذ الجنسي يصبح داخل المنظومة العلمانية ميل جنسي والعاهرة تصبح عاملة جنس واستخدام العنف يسمى موازين القوى والإذعان للعنف يصبح مقدرة على التكيف والحروب الغربية تصبح حروب عالمية .

العلماني شخص غير قادر على إرجاء إشباع رغباته فهو يريد الآن وهنا ولذا فكلمة علمانية تعني زمانية .

مشكلة الاقتصاد العلماني أنه يدور في إطار بعيد عن الغائية أو القيمة الخلقية وفي إطار تصعيد للإستهلاك لم يطالب به أحد.

القبلة التي ينظر اليها الجميع في الصلاة هي مكان فارغ في الحائط تشير الى الما وراء .

الممثلة وعارضة الأزياء كلها في الغالب وظائف تدور في إطار جسد المرأة ولا تتجاوزه فالمرأة تتحرك في أوساط مشبوهه وحياتها الخاصة مِلك للجميع وتلعب أدورا تتطلب منها استباحة جسدها للجمهور ومع ذلك تلقى هذه الوظائف في المجتمع العلماني كل العناية والترحيب والتبجيل لأنه مجتمع بلا غاية أو قيمة معيارية أو مرجعية أخلاقية أو قيمية .. يُلاحَظ أن الكثير من مصممي الأزياء من الشواذ جنسيا .

عملية علمنة الاسرة ظهرت أول ما ظهرت في حقوق المرأة ثم حقوق الطفل ثم تفككت الأُسرة واختفت حيث تحل العلاقات التعاقدية محل العلاقات التراحمية وتنهار الأُسرة إذ يسعى أبناؤها لتراكم رأس المال بمجرد البلوغ ويتحول الاطفال إلى وحدات اقتصادية منتجة وتبدأ مؤسسة الزواج في الاختفاء وتحل محلها علاقات أكثر حيادا ونفعية .

إذا اجتمع رجل وامرأة في الغرب فإنهما لا يُحسان بوجود الشيطان بينهما لأن عالمهما أصبح حياديا تماما خاليا من القداسة أو الخير أو الشر كل ما يتطلبه اللقاء شهادة خلو من مرض الإيدز مُعتمده بتاريخ حديث .

السائح هو باحث شرِه عن اللذة وقد يود مشاهدة الآثار لكنه لا يطيق التاريخ .

الرياضة بدلا من أن تكون وسيلة لتهذيب النفس وصحة البدن تتحول إلى قمة الصراع الدارويني ويصبح الهدف تحقيق الأرقام القياسية التي تتجاوز قدرة الانسان ويتم علمنة اللاعب الى أقصى حد فهو يُدرب تدريبا قاسيا ثم يُباع الى دول مختلفة ثم يُستخدم في النهاية كإعلان لبيع السلع .

هناك فرق بين الجريمة التي تُرتكب في دولة علمانية وأُخرى دينية فعندما يقوم جيش من العلماء والخبراء والفنيين بتصنيع سلاح كيماوي ثم تسليطه على مدينة ما فنحن لا نستطيع ان نُلقي بالمسئولية على شخص بعينه حتى الذي يضرب السلاح فالكل يعمل بمنتهى الكفاءة بدون ضحك أو بكاء بدون تحريم أو قداسة لذا كان الجنود الالمان ممنوعون من الاساءة لليهود وهم في طريقهم لأفران الغاز لأن ركل السجين هو تصرف إنساني سلبي ومع أنه سلبي إلا أنه يظل في إطار إنساني فإذا قام الجندي بركل السجين اليوم فربما يشعر غدا بالشفقة على شيخ أو طفل وبعد غد ربما يقع في حب إحدي الفتيات وهي في طريقها للحرق وهنا يصبح إنسان مُركب ذو أبعاد جوانية وهذا الإنسان لا يصلح في دولة علمانية حيث سيؤدي حتما إلى خلل ما وهذا يفسر لنا كيف كانت ألمانيا النازية تعاقب أي جندي ألماني يُسيء إلى أحد اليهود وهو في طريقه للحرق في أفران الغاز .

مفهوم الإنسانية جمعاء هو مفهوم أخلاقي قِيمي متجاوز وليس هناك ما يُلزم الانساني الطبيعي بتلك القيود والمُثل الغير مادية .

نهاية التاريخ مرتبطة دائما بنهاية الانسان حيث تنتهي الظاهرة الانسانية كظاهرة مُركبة وكحيز للخيارات الإنسانية يرى فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ أن نهاية الإنسان بنهاية التاريخ وتطبيق الليبرالية على العالم أجمع هذا أمر غير سيء فاختفاء الانسان ليس كارثة كونية فالكون سيظل يدور طبقا لقوانينه الطبيعية الكامنة بداخله ولا هو كارثة بيولوجية فالانسان سيبقى حيا كالحيوانات منسجما مع المادة ما سيختفي هو الانسان بمعناه الشائع وهذا أمر ليس بهذا القدر من السوء .. فنهاية التاريخ حيث يتحول العالم إلى مادة استعمالية ويتحول الانسان إلى شيء ضمن الأشياء ويسيل العالم كله داخل قوانين المادة الصامتة عندها فحسب تنتصر الليبرالية .

اعلان حقوق الانسان هو إعلان علماني يستند إلى القانون الطبيعي .

الحداثة هي رؤية تتغير كل أسبوع تقريبا لكن تعتمد أساسا على غياب المرجعيات والقيم المُطلقة .

نحن نعرف امبراطوريات ظهرت في الهند والصين وأمريكا الجنوبية وكل هذه الامبراطوريات انتهت دون أن تترك أثرا في أُوربا أما الحضارة الغربية الحديثة فهي تعتبر نفسها المُطلق الذي يجب على الجميع اتباعه ويتحدد مرتبة الدولة حسب اقترابها او ابتعادها من أُسس الحضارة الغربية الحديثة وهذا أمر مُستهجن نظريا وعمليا .

الغرب يقدم دعمه للعالم العربي فقط لأنه يحتاج أن يتحول العالم إلى شبه مصنع وشبه سوبر ماركت فالبدوي في صحراء نجد والفلاح في صعيد مصر كل هؤلاء لن يحتاجوا الهامبورجر أو التي شيرت أو البنطلون الجينز وهم بهذا يقفون في وجه علمنة العالم بقسوة بسبب تقاليدهم ومن ثم لا يمكن تجويعهم أو حرمانهم فهم ثغرة في نظام الآلة الجديد النظام العالمي الجديد.

عندما تصل العلمانية إلى الجميع تختفي كل المنحنيات وتنبسط كل النتوءات ويظهر بشر ذوو بعد واحد وتختفي الذاتيه والخصوصية والعمق والحضارة والانسان .

المساواة التي يريدها النظام العلماني هي ليست مساواة ولكن تسوية أي رفض كل الخصوصيات والمركزيات والمطلقات فالجميع مادة استعمالية حيث يتم تفكيك أسلحة الآخرين القيمية والحضارية والاخلاقية وينصب سلاحه هو في المركز .

المطلوب انسان اقتصادي مادي لا ذاكرة له وشرق عربي مرن قادر على تنفيذ المطلوب ببراءة وحيادية .

السياحة تُسهل اللذة حيث تتوقف العلاقات التراحمية وتظهر العلاقات التعاقدية فالمجتمع المغلق يعيش في إطار المقدس والحلال والحرام فمن العسير تحقيق اللذة في مجتمع كهذا يُغلِّب تأنيب الضمير على اللذة الوقتية لذا دائما تكون اللذة أسهل في مجتمع منفتح مباح .

الدولة المركزية الحديثة لا تطلب دفع الضرائب فحسب وإنما أيضا الولاء الكامل لكل طقوس الدولة .

فكرة الروح تفترض أن كل فرد مختلف عن الاخر وأنه حر ومسئول مسئولية مباشرة عن أفعاله .

لماذا دائما نفترض أن تدمير العالم شر وتشجيره خير ؟؟ صراحة لا يوجد ماديا دليل واحد على أن التدمير شر أو التشجير خير فالمادة حركة بلا غاية يستوي فيها التدمير والتشجير .

أصبحت العدمية زائر دائم بيننا على حد قول نيتشه .

تراكم السلع يؤدي الى افتقار دائم للإتزان وفقدان التحكم واختفاء الحدود وهو افتقار ذو تكلفة عالية انسانيا وقد أدى التركز نحو اللذة إلى زيادة معدلات الجريمة وتفكك الاسرة والعبثية والعدمية.

القفص الحديدي عند فيبر .. السجن الحديدي عند زيميل .. الانسان ذو البعد الواحد عند ماركوز .. فالانيسان في العالم العلماني ذرة لا معنى لها .

ما تحقق في الغرب لم يكن تراكم رأسمالي وإنما تراكم امبريالي ودائما ما يصحب التقدم العلمي تخلف كوني فالتلوث وأسلحة الدمار الشامل وثقب الاوزون وتلوث البحار وتزايد ثاني أكسيد الكربون ...والتقدم العلمي يفيد الغرب وحده بينما التخلف الكوني يضرنا جميعا ... ثمة احصائية تقول أنه لو تم حساب كل ما لمشروع صناعي وما عليه فستكون جميع المشاريع الصناعية خاسرة فالغرب حقق ما حقق من نجاح لأن الاخرين دفعوا الثمن .

يربط فيبر بين الانسان الوثني وبين العلماني فكلاهما يفتقر للمرجعية الأخلاقية والقيمية والمطلقة المتجاوزة والانسان يعيش في عالم يفتقر إلى المركز ويتسم بتعدد العقائد والنسق المعرفية والآلهة المحلية للحصول على تهدئة مؤقته لذا هو دائم التقدم بقرابين وفي نفس الوقت فإن من خصائص الوثني الأنانية والاستغراق في المتع .

الحداثة هي انفصال الإنسان عن العلاقات الكونية ليُخضع كل علاقات البشر للتفاوض وللعلاقات التعاقدية .

الإنسان مجموعة من الرغبات المادية التي لا تُشبع والنمو المتزايد في السلع مرتبط دائما بهذا الافتراض وهذه السلع لا يمكن الحصول عليها إلا بمزيد من بذل الجهد وهكذا يدخل الانسان دوامة العلمانية وينهار في النهاية لصالح المادة التي لا تنتهي .

في النظم الاشتراكية يظهر دائما بطل الانتاج الذي كفاءته تفوق دائما كفاءة أي انسان سَوي فهو إنسان وظيفي عملي توحد تماما مع وظيفته يراكم الثروات ويقمع ذاته تماما ويظل الترويج لهذه الشخصية في الإعلام العلماني مع عدم ذكر أي شيء عن التكلفة النفسية والأخلاقية لعملية اختزال الانسان .

في العلمانية الانسان مجرد ظاهرة لا سر فيه ولا غاية لوجوده.

المنظومات العلمانية كثيرا ما تستورد مصطلحات ومفاهيم دينية دون أي التزام بالأعباء بالأخلاقية المرتبطة بهذه المفاهيم ....... وعندما كان الرجل الأبيض يبيد الحضارات بأكملها كان يتحدث عن عبء الرجل الأبيض .

عندما سُئل هتلر عن سبب كرهه لليهود أجاب لا يمكن أن يكون هناك شعبان مُختاران.

العلمانية لا يمكنها أن تعيش إلا على التوسع وإلغاء الآخر .

هيأت العلمانية للصهيونية والنازية والفاشية .

اكتشفت العلمانية أخيرا إفلاس مبدأ اللذة والمنفعه في جلبه السعادة للإنسان وبالتالي ظهرت أزمة المعنى .. وحاول العلمانيون البحث عن السعادة وراء التضحية بالمال أو تبني الفقراء كما فعل بيل جيتس ولكن هذه أيضا لم تجلب اللذة المطلوبة فالعلماني حتى في تضحيته هو أناني وفي بذله فهو منفعي .

كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل
04-26-2013, 02:41 AM
ما هذه الدرر يا دكتور
الله يبيض وجهك في الدارين ويرحم والديك

elserdap
04-26-2013, 11:17 AM
ما هذه الدرر يا دكتور
الله يبيض وجهك في الدارين ويرحم والديك
الله يبارك فيك أخي الحبيب ويرفع قدرك في الدارين إن شاء الله

علي الادربسي
04-27-2013, 06:31 PM
ماشاء الله عليك أستادي . كلام رائع و ووافي جد ا من الأستاد لمسيري رحمه الله . فقط لو يتدبر العلماني العربي في هدا الكلام و يزنه بالعقل . جازاك الله خيرا أستادي .

Omar Saad
04-28-2013, 05:55 PM
رحم الله الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمة واسعة.
وجزاك الله خيرا أستاذ سرداب على هذه المقالة القيمة.

لكن لدي تساؤل عن هذه الجزئية تحديدا:


الماركيز جان أنطوان نيكولاس دي كوندورسيه 1794 رياضي فرنسي أسس للعلمانية رياضيا وماديا وانتصر للعلمانية الرياضية وبعد ان انتصرت العلمانية في فرنسا دخل فندقا صغيرا وطلب طبق أومليت صغير مُكون من 12 بيضة وكان هذا طلبا غريبا جعل العاملون بالفندق يساورهم القلق بشأنه فهو قد أخطأ في عدد البيضات وهو أمر غير عادي وغير رشيد ويتجاوز القانون الرياضي العام الذي هو نفسه أسس له فقُبض عليه وأودع السجن ومات في السجن فمات بنفس السم الذي سقى به العالم .


هل لي أن أسأل ما مدى صحة هذه الرواية؟
لأني بصراحة بحثت عنها في الإنترنت فلم أجدها.
بل وجدت على صفحته على موقع الويكيبيديا أنه دخل السجن على خلفية اعتراضه على الحكم بإعدام الملك أو شيء من هذا القبيل.

فهلا أكدتها أو نفيتها أستاذي الفاضل؟

شكرا جزيلا.

عبد التواب
05-02-2013, 03:40 PM
جزاك الله خير