د. محمود عبد الرازق الرضواني
05-06-2006, 03:23 PM
الحمد لله الذي تفرد بوحدانية الألوهية ، وتعزز بعظمة الربوبية ، القائم على نفوس العالم بآجالها ، والعالم بتقلبها وأحوالها ، المان عليهم بتواتر آلائه ، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه ، الذي أنشأ الخلق حين أراد بلا وزير ولا مشير ، وخلق البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير ، فمضت فيهم بقدرته مشيئته ، ونفذت فيهم بعزته إرادته ، فألهمهم حسن الإطلاق ، وركب فيهم تشعب الأخلاق ، فهم على طبقات أقدارهم يمشون ، وعلى تشعب أخلاقهم يدورون وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون ، وكل حزب بما لديهم فرحون ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، فاطر السماوات العلا ، ومنشيء الأرضين والثري ، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وأشهد أن محمدا عبده المجتبي ، ورسوله المرتضي ، بعثه على حين فترة من الرسل ودروس من السبل ، فدمغ به الطغيان ، وأكمل به الإيمان ، وأظهره على كل الأديان ، وقمع به أهل الأوثان ، فصلي الله عليه وسلم ما دار في السماء فلك ، وما سبح في الملكوت ملك وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلي يوم الدين ، أما بعد ..
فحديثنا بإذن الله تعالى في هذا المقال يدور حول بداية الكون ونشأة الإنسان ، وقد علمنا فيما سبق أن الإنسان لا يتميز عن غيره من المخلوقات بالنطق والكلام فجميع الكائنات تتكلم بهيئات وكيفيات تخصها ، ولا يتميز أيضا بالعقل والحكمة فكل المخلوقات حريصة على تحصيل الخيرات والابتعاد عن المهلكات ، كما أنها تعيش في مجموعات متوافقات متفاهمات ، وهذا يعني أنه لا ينفرد بصفة الاجتماعية وكذلك لايتميز عن غيره بصفة العبودية ، والسؤال الآن : هل ما يميز الإنسان أنه حر مكلف مسئول ؟ لأن البعض ربما يقول إن هذا الوصف ليس للكائنات الأخرى على الأرض ؟!
والجواب أن الحرية والمسئولية لا تخص الإنسان وحده ، فمن ناحية الحرية والاختيار ، الحرية في الاختيار بين ضدين من الأفعال ، كالحرية في اختيار الطعام والشراب والملبس والمسكن ، فكثير من المخلوقات يتصف بذلك ، فما الذي يمنع الطير والحيوان أن يبحث عن طعامه وشرابه حيث يشاء ، كما يفعل الإنسان ذلك سواء بسواء ، بل هذه الكائنات أكثر حرية من الإنسان ؟ والواقع يشهد بذلك ويؤكده ، والقرآن أيضا يصرح به ويقرره ، فالله أوحي إلي النحل أن تبحث عن رزقها حيث تشاء وتأكل من الثمرات ما تشاء ، فقال تعالى : وَأَوْحَي رَبُّكَ إلي النَّحْل أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الجِبَال بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ، ثُمَّ كُلي مِنْ كُل الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُل رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلفٌ أَلوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ للنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلكَ لآيَةً لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ النحل/69:68 .
ومن جهة الجزاء والمسئولية فقد ثبت أن الخلق يقتص بعضهم من بعض ، وأن الله يأخذ للمظلوم الحق من الظالم ، حتى يتحقق العدل بين سائر الخلق ، فعند مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم قَال :
( لتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلي أَهْلهَا يَوْمَ القِيَامَةِ حتى يُقَادَ للشَّاةِ الجَلحَاءِ مِنَ الشَّاةِ القَرْنَاءِ ، ومعني القود هو القصاص ، وهو مجازاة الجاني بمثل صنيعه ، وفي رواية أحمد : ( يَقْتَصُّ الخَلقُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حتى الجَمَّاءُ مِنَ القَرْنَاءِ وَحتى الذَّرَّةُ مِنَ الذَّرَّةِ ) الذرة النملة ، ومعني الجلحاء أو الجماء هي التي لا قرون لها عكس القرناء .
كما أخبرنا الله عن مخلوقات غيبية حية تعيش مع الإنسان وتشاركه وصف الحرية والمسئولية ، كما أنها تراه ولا يراها ، وهؤلاء هم الجن والشياطين قال تعالى في وصف حالهم : إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ، وهم أيضا مكلفون بشرعنا ، ولهم مقومات التكليف التي وهبها الله لنا فقال تعالى : وَإِذْ صَرَفْنَا إِليْكَ نَفَرًا مِنْ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلمَّا قُضِيَ وَلوْا إلي قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِل مِنْ بَعْدِ مُوسَي مُصَدِّقًا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلي الحَقِّ وَإلي طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ، يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَليمٍ ، وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللهِ فَليْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ وَليْسَ لهُ مِنْ دُونِهِ أَوليَاءُ أُوْلئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، وقال تعالى في إثبات الحرية لهم : وَأَنَّا مِنَّا الصَّالحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ، وقال سبحانه وتعالي في محاسبتهم عن أفعالهم : وَأَنَّا مِنَّا المُسْلمُونَ وَمِنَّا القَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلمَ فَأُوْلئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ، وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لجَهَنَّمَ حَطَبًا .
وعند البخاري ومسلم من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُ أنه قَال : ( انْطَلقَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، عَامِدِينَ إلي سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيل بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلتْ عَليْهِمُ الشُّهُبُ ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إلي قَوْمِهِمْ ، فَقَالُوا : مَا لكُمْ فَقَالُوا : حِيل بَيْننَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ ، وَأُرْسِلتْ عَليْنَا الشُّهُبُ قَالُوا : مَا حَال بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلا شَيْءٌ حَدَثَ ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا ، فَانْظُرُوا مَا هَذَا الذِي حَال بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ ؟ فَانْصَرَفَ أُولئِكَ الذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ ، إلي النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم وَهُوَ بِنَخْلةَ عَامِدِينَ إلي سُوقِ عُكَاظٍ ، وَهُوَ يُصلي بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ الفَجْرِ فَلمَّا سَمِعُوا القُرْآنَ ، اسْتَمَعُوا لهُ فَقَالُوا : هَذَا وَالله الذِي حَال بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَهُنَالكَ حِينَ رَجَعُوا إلي قَوْمِهِمْ ، وَقَالُوا : يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهدِي إلي الرُّشْدِ فَآمَنَّا بهِ وَلنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا فَأَنْزَل الله على نَبِيِّهِ صلي الله عليه وسلم :
قُل أُوحِيَ إلي أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إلي الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلدًا وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا على اللهِ شَطَطًا ، وقد خاطب الله الجن والإنس كسائر العقلاء ، وجعلهم في التكليف والحساب سواء ، فقال تعالى : يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ أَلمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَليْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا على أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمْ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا على أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ، وقال سبحانه : يَامَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلطَانٍ .
وروي مسلم من حديث أبي السَّائِبِ مَوْلي هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنَّهُ دَخَل على أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ فِي بَيْتِهِ ، يقول أبو السائب : فَوَجَدْتُهُ يُصَلي فَجَلسْتُ أَنْتَظِرُهُ حتى يَقْضِيَ صَلاتَهُ فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا فِي عَرَاجِينَ فِي نَاحِيَةِ البَيْتِ – والعراجين هي أعواد النخل اليابسة- فَالتَفَتُّ فَإِذَا حَيَّةٌ فَوَثَبْتُ لأَقْتُلهَا فَأَشَارَ إلي - وهو في الصلاة - أَنِ اجْلسْ فَجَلسْتُ فَلمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إلي بَيْتٍ فِي الدَّارِ فَقَال : أَتَرَي هَذَا البَيْتَ فَقُلتُ نَعَمْ قَال كَانَ فِيهِ فَتًي مِنَّا حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ ، فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ إلي الخَنْدَقِ فَكَانَ ذَلكَ الفَتَي يَسْتَأْذِنُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ بِأَنْصَافِ النَّهَارِ فَيَرْجِعُ إلي أَهْلهِ فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا فَقَال لهُ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ خُذْ عَليْكَ سِلاحَكَ فَإِنِّي أَخْشَي عَليْكَ قُرَيْظَةَ فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلاحَهُ ثُمَّ رَجَعَ فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ البَابَيْنِ قَائِمَةً فَأَهوى إِليْهَا الرُّمْحَ ليَطْعُنَهَا بِهِ وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ فَقَالتْ لهُ اكْفُفْ عَليْكَ رُمْحَكَ وَادْخُل البَيْتَ حتى تَنْظُرَ مَا الذِي أَخْرَجَنِي فَدَخَل فَإِذَا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ على الفِرَاشِ فَأَهوى إِليْهَا بِالرُّمْحِ فَانْتَظَمَهَا بِهِ – رماها فأصابها - فَاضْطَرَبَتْ عَليْهِ الحية وقتلته فَمَا يُدْرَي أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الحَيَّةُ أَمِ الفَتَي قَال أبو سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ فَجِئْنَا إلي رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَذَكَرْنَا ذَلكَ لهُ وَقُلنَا ادْعُ اللهَ يُحْيِيهِ لنَا فَقَال اسْتَغْفِرُوا لصَاحِبِكُمْ ثُمَّ قَال إِنَّ بِالمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلمُوا فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ – أن يخرج - فَإِنْ بَدَا لكُمْ بَعْدَ ذَلكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ .
كل ذلك يدل على أن الإنسان يشترك مع الجان في وصف الحرية والمسئولية ، وحد يقول حريتنا يا دكتور ، إذا كان الإنسان لا يتميز عن غيره من الكائنات بأنه حيوان ناطق يتكلم بأجود الكلمات وأبلغ العبارات ولا يتميز عن غيره بالعقل والاجتماعية أو العبادة والحرية ، أو المحاسبة والمسئولية ، وعلمنا أن الآراء الفكرية التي قدمتها العقول البشرية عليها تعقيبات منطقية واعتراضات نقلية ، فما هو الوصف المقنع الذي يتميز به الإنسان عن غيره من المخلوقات ؟
اعلم يا أخي الكريم أن كل العقول لو اجتمعت للإجابة عن هذا السؤال دون هداية من خالقها فلن تتمكن بمفردها من تقديم الإجابة المقنعة التي تشبع العقول السليمة أو الفطرة القويمة ، والسبب في ذلك أن الإنسان له امتداد سابق على وجوده في هذا الزمان ، ولكي يوفق أي فيلسوف مفكر في الإجابة والبرهان ، لا بد من إلمامه بتفاصيل النشأة التي لم تشهدها العينان ، ولن نجد من يخبرنا عن بداية الكون والإنسان ، إلا الله الذي خلق جميع الكائنات وأوجد فيهما الإنس والجان ، ومن ثم وردت الإشارة إلي ذلك في القرآن ، فقال سبحانه وتعالي في سورة الفرقان :
الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَي على العَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَل بِهِ خَبِيرًا الفرقان /59 ، فربنا هو الوحيد الذي يعطينا تفصيل الجواب الذي يتعلق بنشأة الإنسان ، كما وردت العبارة بصريح البيان في قوله تعالى : مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلا خَلقَ أَنفُسِهِمْ ومَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلينَ عَضُدًا الكهف/51 ، ولذا سوف يتحتم علينا أن نلجأ إلي طريقة أخرى أعلى من عقولنا وأرقي من مداركنا لنتعرف على الوصف الذي يتميزنا عمن حولنا من الكائنات ؟
فإذا كان العقلاء يقرون ويعلمون علم اليقين ، أن المصنع الذي ينتج آلة من الآلات ، يضع دليلا مرفقا لشرح الخصائص المميزة ، وتوضيح التعليمات الموجزة ، التي تمكن الإنسان من تشغيل الأجهزة ، ولو حدث عطب أو تلف نتيجة الالتزام بالنظام ، أو وجود الخلل في بعض عوامل الأمان ، فالمصنع هو الوحيد المسئول عن الضمان ، وإعادة الثقة والاطمئنان لكل العملاء .
ولما كان أولي من يبين خصائص الأشياء ، ويشرح للجميع نظام المصنوعات والمنتجات هو صانعها ومنتجها ، فإن من العقل والحكمة أن نرجع في البحث عن الوصف الذي يمزينا عن غيرنا إلي من صانعنا وخالقنا ، فهو الوحيد الذي يمكن أن يفسر لنا السبب في وجودنا ووجود المخلوقات ، ويوضح لنا لماذا ترابطت العلل والمعلولات ، في النظام العام لجميع الكائنات ، وصاحب العقل السليم سيوافقنا على هذا الأساس ، ويشاركنا مع سائر الناس في التحرىبإخلاص عن إجابة مقنعة .
ومعلوم لدي كل العقلاء أن الكلام المباشر مع خالق الأشياء ممتنع ، لأن الوحي قد انقطع بموت الأنبياء ، فلم يبق لدينا إلا رسالة السماء للتعرف على كلام الله ، سواء الرسالة التي أنزلت على موسي أو عيسي أو محمد عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام ، وذلك حتى نظفر من خطاب الله بالعلم ، الذي يرشدنا إلي بداية الكون والإنسان وما يتميز به عن الحيوان أو غيره من الكائنات الأخرى .
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه على العقلاء ، هو السؤال عن توثيق المصادر السماوية ومدي ثبوتها ، والتأكد بالفعل أن هذه الرسالة التي بين أيدينا والمنسوبة إلي نبي من الأنبياء ، هي بعينها ما جاءت عن الله حقا ، وأن ما فيها هو كلام الله صدقا ، ولذلك وجب قبل التعرف على الوصف الذي يتميز به الإنسان ، التثبت من نسبة الكتب السماوية الموجودة الآن إلي أصحابها .
فهل التوراة الموجودة بأيدي اليهود حاليا هي التي نزلت على موسي ؟ وهل تصح مرجعا لكلام الله يعتمد عليه ؟ من المعلوم أن التوراة التي نزلت على موسي كتبت في ألواح نزلت من السماء وأن الله كتبها بيده وهذه ميزة فضل الله بها التوراة على غيرها من الكتب السماوية ، وقد ورد النص بذكر هذه الألواح في القرآن والسنة ، فمن القرآن قوله تعالى : وَكَتَبْنَا لهُ فِي الأَلوَاحِ مِنْ كُل شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لكُل شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الفَاسِقِينَ الأعراف:145 ، وقوله : وَلمَّا رَجَعَ مُوسَي إلي قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَال بِئْسَمَا خَلفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلقَي الأَلوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِليْهِ الأعراف:150 ، وقوله : وَلمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَي الغَضَبُ أَخَذَ الأَلوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًي وَرَحْمَةٌ للذِينَ هُمْ لرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ الأعراف:154 ، ومن السنة ما أخرجه مسلم في القدر من حديث أبي هُرَيْرَةَ أن رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم قَال : ( احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَي ، فَقَال مُوسَي : يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ ، فَقَال لهُ آدَمُ : أَنْتَ مُوسَي اصْطَفَاكَ اللهُ بِكَلامِهِ وكَتَبَ لكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ ، أَتَلُومُنِي على أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللهُ على قَبْل أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً ؟ فَقَال النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم : فَحَجَّ آدَمُ مُوسَي ، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَي ) .
وكذلك ورد ذكر الألواح والنص على وجودها في العهد القديم في عدة مواضع ، كقول كاتب التوراة في سفر الخروج : ( وَقَال الرَّبُّ لمُوسَي : اصْعَدْ إلي الجَبَل وَامْكُثْ هُنَاكَ لأُعْطِيَكَ الوَصَايَا وَالشَّرَائِعَ التِي كَتَبْتُهَا على لوْحَيِ الحَجَرِ لتُلقِّنَهَا لهُمْ ) ، وكما ورد أيضا في قول موسي سفر الخروج : ( وَسَلمَنِي الرَّبُّ لوْحَيِ الحَجَرِ المَكْتُوبَيْنِ بِأَصْبَعِ اللهِ ، حَيْثُ خَطَّ عَليْهِمَا جَمِيعَ الوَصَايَا التِي كَلمَكُمْ بِهَا الرَّبُّ فِي الجَبَل مِنْ وَسَطِ النَّارِ فِي يَوْمِ الاجْتِمَاعِ ، وَحِينَ أَعْطَانِي الرَّبُّ لوْحَيْ حَجَرِ العَهْدِ فِي نِهَايَةِ الأَرْبَعِينَ نَهَاراً وَالأَرْبَعِينَ ليْلةً ، قَال لي الرَّبُّ : قُمْ وَأَسْرِعْ بِالنُّزُول مِنْ هُنَا ) .
وقد بينت التوراة الموجودة بأيدي اليهود والنصارى الآن أن موسي كسر اللوحين عندما وجد قومه قد عبدوا العجل : ( وَمَا إِنِ اقْتَرَبَ مُوسَي مِنَ المُخَيَّمِ وَشَاهَدَ العِجْل وَالرَّقْصَ حتى احْتَدَمَ غَضَبُهُ وَأَلقَي بِاللوْحَيْنِ مِنْ يَدِهِ وَكَسَّرَهُمَا عِنْدَ سَفْحِ الجَبَل ) ، وتذكر التوراة أيضا أن الرب أمر موسي أن ينحت لوحين من حجر مثل الأولين حتى يكتب الرب عليهما الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين :
( ثُمَّ قَال الرَّبُّ لمُوسَي انْحَتْ لكَ لوْحَينِ مِنْ حَجَرٍ مِثْل اللوْحَينِ الأَوَّليْنِ ، فَأَكْتُبَ أَنَا عَليْهِمَا الكَلمَاتِ التِي دَوَّنْتُهَا على اللوْحَينِ الأَوَّليْنِ اللذَيْنِ كَسَرْتَهُمَا ، وَتَأَهَّبْ فِي الصَّبَاحِ ثُمَّ اصْعَدْ إلي جَبَل سِينَاءَ وَامْثُل أَمَامِي هُنَاكَ على قِمَّةِ الجَبَل وَلاَ يَصْعَدْ مَعْكَ أَحَدٌ وَلاَ يُشَاهَدْ على الجَبَل إِنْسَانٌ وَلاَ تَرْعَ الغَنَمُ أَيْضاً وَالبَقَرُ بِاتِّجَاهِ هَذَا الجَبَل ، فَنَحَتَ مُوسَي لوْحَيْنِ مِنْ حَجَرٍ مُمَاثِليْنِ للأَوَّليْنِ ، وَبَكَّرَ فِي الصَّبَاحِ ، وَصَعِدَ إلي جَبَل سِينَاءَ حَسَبَ أَمْرِ الرَّب ) ، وكثير من النصوص الأخرى التي تدل جملة وتفصيلا على وجود ألواح كتبت بيد الله عز وجل .
فحديثنا بإذن الله تعالى في هذا المقال يدور حول بداية الكون ونشأة الإنسان ، وقد علمنا فيما سبق أن الإنسان لا يتميز عن غيره من المخلوقات بالنطق والكلام فجميع الكائنات تتكلم بهيئات وكيفيات تخصها ، ولا يتميز أيضا بالعقل والحكمة فكل المخلوقات حريصة على تحصيل الخيرات والابتعاد عن المهلكات ، كما أنها تعيش في مجموعات متوافقات متفاهمات ، وهذا يعني أنه لا ينفرد بصفة الاجتماعية وكذلك لايتميز عن غيره بصفة العبودية ، والسؤال الآن : هل ما يميز الإنسان أنه حر مكلف مسئول ؟ لأن البعض ربما يقول إن هذا الوصف ليس للكائنات الأخرى على الأرض ؟!
والجواب أن الحرية والمسئولية لا تخص الإنسان وحده ، فمن ناحية الحرية والاختيار ، الحرية في الاختيار بين ضدين من الأفعال ، كالحرية في اختيار الطعام والشراب والملبس والمسكن ، فكثير من المخلوقات يتصف بذلك ، فما الذي يمنع الطير والحيوان أن يبحث عن طعامه وشرابه حيث يشاء ، كما يفعل الإنسان ذلك سواء بسواء ، بل هذه الكائنات أكثر حرية من الإنسان ؟ والواقع يشهد بذلك ويؤكده ، والقرآن أيضا يصرح به ويقرره ، فالله أوحي إلي النحل أن تبحث عن رزقها حيث تشاء وتأكل من الثمرات ما تشاء ، فقال تعالى : وَأَوْحَي رَبُّكَ إلي النَّحْل أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الجِبَال بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ، ثُمَّ كُلي مِنْ كُل الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُل رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلفٌ أَلوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ للنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلكَ لآيَةً لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ النحل/69:68 .
ومن جهة الجزاء والمسئولية فقد ثبت أن الخلق يقتص بعضهم من بعض ، وأن الله يأخذ للمظلوم الحق من الظالم ، حتى يتحقق العدل بين سائر الخلق ، فعند مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم قَال :
( لتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلي أَهْلهَا يَوْمَ القِيَامَةِ حتى يُقَادَ للشَّاةِ الجَلحَاءِ مِنَ الشَّاةِ القَرْنَاءِ ، ومعني القود هو القصاص ، وهو مجازاة الجاني بمثل صنيعه ، وفي رواية أحمد : ( يَقْتَصُّ الخَلقُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حتى الجَمَّاءُ مِنَ القَرْنَاءِ وَحتى الذَّرَّةُ مِنَ الذَّرَّةِ ) الذرة النملة ، ومعني الجلحاء أو الجماء هي التي لا قرون لها عكس القرناء .
كما أخبرنا الله عن مخلوقات غيبية حية تعيش مع الإنسان وتشاركه وصف الحرية والمسئولية ، كما أنها تراه ولا يراها ، وهؤلاء هم الجن والشياطين قال تعالى في وصف حالهم : إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ، وهم أيضا مكلفون بشرعنا ، ولهم مقومات التكليف التي وهبها الله لنا فقال تعالى : وَإِذْ صَرَفْنَا إِليْكَ نَفَرًا مِنْ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلمَّا قُضِيَ وَلوْا إلي قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِل مِنْ بَعْدِ مُوسَي مُصَدِّقًا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلي الحَقِّ وَإلي طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ، يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَليمٍ ، وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللهِ فَليْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ وَليْسَ لهُ مِنْ دُونِهِ أَوليَاءُ أُوْلئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، وقال تعالى في إثبات الحرية لهم : وَأَنَّا مِنَّا الصَّالحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ، وقال سبحانه وتعالي في محاسبتهم عن أفعالهم : وَأَنَّا مِنَّا المُسْلمُونَ وَمِنَّا القَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلمَ فَأُوْلئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ، وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لجَهَنَّمَ حَطَبًا .
وعند البخاري ومسلم من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُ أنه قَال : ( انْطَلقَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، عَامِدِينَ إلي سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيل بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلتْ عَليْهِمُ الشُّهُبُ ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إلي قَوْمِهِمْ ، فَقَالُوا : مَا لكُمْ فَقَالُوا : حِيل بَيْننَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ ، وَأُرْسِلتْ عَليْنَا الشُّهُبُ قَالُوا : مَا حَال بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلا شَيْءٌ حَدَثَ ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا ، فَانْظُرُوا مَا هَذَا الذِي حَال بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ ؟ فَانْصَرَفَ أُولئِكَ الذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ ، إلي النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم وَهُوَ بِنَخْلةَ عَامِدِينَ إلي سُوقِ عُكَاظٍ ، وَهُوَ يُصلي بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ الفَجْرِ فَلمَّا سَمِعُوا القُرْآنَ ، اسْتَمَعُوا لهُ فَقَالُوا : هَذَا وَالله الذِي حَال بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَهُنَالكَ حِينَ رَجَعُوا إلي قَوْمِهِمْ ، وَقَالُوا : يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهدِي إلي الرُّشْدِ فَآمَنَّا بهِ وَلنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا فَأَنْزَل الله على نَبِيِّهِ صلي الله عليه وسلم :
قُل أُوحِيَ إلي أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إلي الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلدًا وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا على اللهِ شَطَطًا ، وقد خاطب الله الجن والإنس كسائر العقلاء ، وجعلهم في التكليف والحساب سواء ، فقال تعالى : يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ أَلمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَليْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا على أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمْ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا على أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ، وقال سبحانه : يَامَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلطَانٍ .
وروي مسلم من حديث أبي السَّائِبِ مَوْلي هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنَّهُ دَخَل على أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ فِي بَيْتِهِ ، يقول أبو السائب : فَوَجَدْتُهُ يُصَلي فَجَلسْتُ أَنْتَظِرُهُ حتى يَقْضِيَ صَلاتَهُ فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا فِي عَرَاجِينَ فِي نَاحِيَةِ البَيْتِ – والعراجين هي أعواد النخل اليابسة- فَالتَفَتُّ فَإِذَا حَيَّةٌ فَوَثَبْتُ لأَقْتُلهَا فَأَشَارَ إلي - وهو في الصلاة - أَنِ اجْلسْ فَجَلسْتُ فَلمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إلي بَيْتٍ فِي الدَّارِ فَقَال : أَتَرَي هَذَا البَيْتَ فَقُلتُ نَعَمْ قَال كَانَ فِيهِ فَتًي مِنَّا حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ ، فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ إلي الخَنْدَقِ فَكَانَ ذَلكَ الفَتَي يَسْتَأْذِنُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ بِأَنْصَافِ النَّهَارِ فَيَرْجِعُ إلي أَهْلهِ فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا فَقَال لهُ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ خُذْ عَليْكَ سِلاحَكَ فَإِنِّي أَخْشَي عَليْكَ قُرَيْظَةَ فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلاحَهُ ثُمَّ رَجَعَ فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ البَابَيْنِ قَائِمَةً فَأَهوى إِليْهَا الرُّمْحَ ليَطْعُنَهَا بِهِ وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ فَقَالتْ لهُ اكْفُفْ عَليْكَ رُمْحَكَ وَادْخُل البَيْتَ حتى تَنْظُرَ مَا الذِي أَخْرَجَنِي فَدَخَل فَإِذَا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ على الفِرَاشِ فَأَهوى إِليْهَا بِالرُّمْحِ فَانْتَظَمَهَا بِهِ – رماها فأصابها - فَاضْطَرَبَتْ عَليْهِ الحية وقتلته فَمَا يُدْرَي أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الحَيَّةُ أَمِ الفَتَي قَال أبو سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ فَجِئْنَا إلي رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَذَكَرْنَا ذَلكَ لهُ وَقُلنَا ادْعُ اللهَ يُحْيِيهِ لنَا فَقَال اسْتَغْفِرُوا لصَاحِبِكُمْ ثُمَّ قَال إِنَّ بِالمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلمُوا فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ – أن يخرج - فَإِنْ بَدَا لكُمْ بَعْدَ ذَلكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ .
كل ذلك يدل على أن الإنسان يشترك مع الجان في وصف الحرية والمسئولية ، وحد يقول حريتنا يا دكتور ، إذا كان الإنسان لا يتميز عن غيره من الكائنات بأنه حيوان ناطق يتكلم بأجود الكلمات وأبلغ العبارات ولا يتميز عن غيره بالعقل والاجتماعية أو العبادة والحرية ، أو المحاسبة والمسئولية ، وعلمنا أن الآراء الفكرية التي قدمتها العقول البشرية عليها تعقيبات منطقية واعتراضات نقلية ، فما هو الوصف المقنع الذي يتميز به الإنسان عن غيره من المخلوقات ؟
اعلم يا أخي الكريم أن كل العقول لو اجتمعت للإجابة عن هذا السؤال دون هداية من خالقها فلن تتمكن بمفردها من تقديم الإجابة المقنعة التي تشبع العقول السليمة أو الفطرة القويمة ، والسبب في ذلك أن الإنسان له امتداد سابق على وجوده في هذا الزمان ، ولكي يوفق أي فيلسوف مفكر في الإجابة والبرهان ، لا بد من إلمامه بتفاصيل النشأة التي لم تشهدها العينان ، ولن نجد من يخبرنا عن بداية الكون والإنسان ، إلا الله الذي خلق جميع الكائنات وأوجد فيهما الإنس والجان ، ومن ثم وردت الإشارة إلي ذلك في القرآن ، فقال سبحانه وتعالي في سورة الفرقان :
الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَي على العَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَل بِهِ خَبِيرًا الفرقان /59 ، فربنا هو الوحيد الذي يعطينا تفصيل الجواب الذي يتعلق بنشأة الإنسان ، كما وردت العبارة بصريح البيان في قوله تعالى : مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلا خَلقَ أَنفُسِهِمْ ومَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلينَ عَضُدًا الكهف/51 ، ولذا سوف يتحتم علينا أن نلجأ إلي طريقة أخرى أعلى من عقولنا وأرقي من مداركنا لنتعرف على الوصف الذي يتميزنا عمن حولنا من الكائنات ؟
فإذا كان العقلاء يقرون ويعلمون علم اليقين ، أن المصنع الذي ينتج آلة من الآلات ، يضع دليلا مرفقا لشرح الخصائص المميزة ، وتوضيح التعليمات الموجزة ، التي تمكن الإنسان من تشغيل الأجهزة ، ولو حدث عطب أو تلف نتيجة الالتزام بالنظام ، أو وجود الخلل في بعض عوامل الأمان ، فالمصنع هو الوحيد المسئول عن الضمان ، وإعادة الثقة والاطمئنان لكل العملاء .
ولما كان أولي من يبين خصائص الأشياء ، ويشرح للجميع نظام المصنوعات والمنتجات هو صانعها ومنتجها ، فإن من العقل والحكمة أن نرجع في البحث عن الوصف الذي يمزينا عن غيرنا إلي من صانعنا وخالقنا ، فهو الوحيد الذي يمكن أن يفسر لنا السبب في وجودنا ووجود المخلوقات ، ويوضح لنا لماذا ترابطت العلل والمعلولات ، في النظام العام لجميع الكائنات ، وصاحب العقل السليم سيوافقنا على هذا الأساس ، ويشاركنا مع سائر الناس في التحرىبإخلاص عن إجابة مقنعة .
ومعلوم لدي كل العقلاء أن الكلام المباشر مع خالق الأشياء ممتنع ، لأن الوحي قد انقطع بموت الأنبياء ، فلم يبق لدينا إلا رسالة السماء للتعرف على كلام الله ، سواء الرسالة التي أنزلت على موسي أو عيسي أو محمد عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام ، وذلك حتى نظفر من خطاب الله بالعلم ، الذي يرشدنا إلي بداية الكون والإنسان وما يتميز به عن الحيوان أو غيره من الكائنات الأخرى .
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه على العقلاء ، هو السؤال عن توثيق المصادر السماوية ومدي ثبوتها ، والتأكد بالفعل أن هذه الرسالة التي بين أيدينا والمنسوبة إلي نبي من الأنبياء ، هي بعينها ما جاءت عن الله حقا ، وأن ما فيها هو كلام الله صدقا ، ولذلك وجب قبل التعرف على الوصف الذي يتميز به الإنسان ، التثبت من نسبة الكتب السماوية الموجودة الآن إلي أصحابها .
فهل التوراة الموجودة بأيدي اليهود حاليا هي التي نزلت على موسي ؟ وهل تصح مرجعا لكلام الله يعتمد عليه ؟ من المعلوم أن التوراة التي نزلت على موسي كتبت في ألواح نزلت من السماء وأن الله كتبها بيده وهذه ميزة فضل الله بها التوراة على غيرها من الكتب السماوية ، وقد ورد النص بذكر هذه الألواح في القرآن والسنة ، فمن القرآن قوله تعالى : وَكَتَبْنَا لهُ فِي الأَلوَاحِ مِنْ كُل شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لكُل شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الفَاسِقِينَ الأعراف:145 ، وقوله : وَلمَّا رَجَعَ مُوسَي إلي قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَال بِئْسَمَا خَلفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلقَي الأَلوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِليْهِ الأعراف:150 ، وقوله : وَلمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَي الغَضَبُ أَخَذَ الأَلوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًي وَرَحْمَةٌ للذِينَ هُمْ لرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ الأعراف:154 ، ومن السنة ما أخرجه مسلم في القدر من حديث أبي هُرَيْرَةَ أن رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم قَال : ( احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَي ، فَقَال مُوسَي : يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ ، فَقَال لهُ آدَمُ : أَنْتَ مُوسَي اصْطَفَاكَ اللهُ بِكَلامِهِ وكَتَبَ لكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ ، أَتَلُومُنِي على أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللهُ على قَبْل أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً ؟ فَقَال النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم : فَحَجَّ آدَمُ مُوسَي ، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَي ) .
وكذلك ورد ذكر الألواح والنص على وجودها في العهد القديم في عدة مواضع ، كقول كاتب التوراة في سفر الخروج : ( وَقَال الرَّبُّ لمُوسَي : اصْعَدْ إلي الجَبَل وَامْكُثْ هُنَاكَ لأُعْطِيَكَ الوَصَايَا وَالشَّرَائِعَ التِي كَتَبْتُهَا على لوْحَيِ الحَجَرِ لتُلقِّنَهَا لهُمْ ) ، وكما ورد أيضا في قول موسي سفر الخروج : ( وَسَلمَنِي الرَّبُّ لوْحَيِ الحَجَرِ المَكْتُوبَيْنِ بِأَصْبَعِ اللهِ ، حَيْثُ خَطَّ عَليْهِمَا جَمِيعَ الوَصَايَا التِي كَلمَكُمْ بِهَا الرَّبُّ فِي الجَبَل مِنْ وَسَطِ النَّارِ فِي يَوْمِ الاجْتِمَاعِ ، وَحِينَ أَعْطَانِي الرَّبُّ لوْحَيْ حَجَرِ العَهْدِ فِي نِهَايَةِ الأَرْبَعِينَ نَهَاراً وَالأَرْبَعِينَ ليْلةً ، قَال لي الرَّبُّ : قُمْ وَأَسْرِعْ بِالنُّزُول مِنْ هُنَا ) .
وقد بينت التوراة الموجودة بأيدي اليهود والنصارى الآن أن موسي كسر اللوحين عندما وجد قومه قد عبدوا العجل : ( وَمَا إِنِ اقْتَرَبَ مُوسَي مِنَ المُخَيَّمِ وَشَاهَدَ العِجْل وَالرَّقْصَ حتى احْتَدَمَ غَضَبُهُ وَأَلقَي بِاللوْحَيْنِ مِنْ يَدِهِ وَكَسَّرَهُمَا عِنْدَ سَفْحِ الجَبَل ) ، وتذكر التوراة أيضا أن الرب أمر موسي أن ينحت لوحين من حجر مثل الأولين حتى يكتب الرب عليهما الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين :
( ثُمَّ قَال الرَّبُّ لمُوسَي انْحَتْ لكَ لوْحَينِ مِنْ حَجَرٍ مِثْل اللوْحَينِ الأَوَّليْنِ ، فَأَكْتُبَ أَنَا عَليْهِمَا الكَلمَاتِ التِي دَوَّنْتُهَا على اللوْحَينِ الأَوَّليْنِ اللذَيْنِ كَسَرْتَهُمَا ، وَتَأَهَّبْ فِي الصَّبَاحِ ثُمَّ اصْعَدْ إلي جَبَل سِينَاءَ وَامْثُل أَمَامِي هُنَاكَ على قِمَّةِ الجَبَل وَلاَ يَصْعَدْ مَعْكَ أَحَدٌ وَلاَ يُشَاهَدْ على الجَبَل إِنْسَانٌ وَلاَ تَرْعَ الغَنَمُ أَيْضاً وَالبَقَرُ بِاتِّجَاهِ هَذَا الجَبَل ، فَنَحَتَ مُوسَي لوْحَيْنِ مِنْ حَجَرٍ مُمَاثِليْنِ للأَوَّليْنِ ، وَبَكَّرَ فِي الصَّبَاحِ ، وَصَعِدَ إلي جَبَل سِينَاءَ حَسَبَ أَمْرِ الرَّب ) ، وكثير من النصوص الأخرى التي تدل جملة وتفصيلا على وجود ألواح كتبت بيد الله عز وجل .