المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل تميز الإنسان بالعبادة والحرية ؟



د. محمود عبد الرازق الرضواني
05-06-2006, 03:23 PM
الحمد لله الذي تفرد بوحدانية الألوهية ، وتعزز بعظمة الربوبية ، القائم على نفوس العالم بآجالها ، والعالم بتقلبها وأحوالها ، المان عليهم بتواتر آلائه ، والمتفضل عليهم بسوابغ نعمائه ، الذي أنشأ الخلق حين أراد بلا وزير ولا مشير ، وخلق البشر كما أراد بلا شبيه ولا نظير ، فمضت فيهم بقدرته مشيئته ، ونفذت فيهم بعزته إرادته ، فألهمهم حسن الإطلاق ، وركب فيهم تشعب الأخلاق ، فهم على طبقات أقدارهم يمشون ، وعلى تشعب أخلاقهم يدورون وفيما قضي وقدر عليهم يهيمون ، وكل حزب بما لديهم فرحون ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، فاطر السماوات العلا ، ومنشيء الأرضين والثري ، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وأشهد أن محمدا عبده المجتبي ، ورسوله المرتضي ، بعثه على حين فترة من الرسل ودروس من السبل ، فدمغ به الطغيان ، وأكمل به الإيمان ، وأظهره على كل الأديان ، وقمع به أهل الأوثان ، فصلي الله عليه وسلم ما دار في السماء فلك ، وما سبح في الملكوت ملك وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلي يوم الدين ، أما بعد ..

فحديثنا بإذن الله تعالى في هذا المقال يدور حول بداية الكون ونشأة الإنسان ، وقد علمنا فيما سبق أن الإنسان لا يتميز عن غيره من المخلوقات بالنطق والكلام فجميع الكائنات تتكلم بهيئات وكيفيات تخصها ، ولا يتميز أيضا بالعقل والحكمة فكل المخلوقات حريصة على تحصيل الخيرات والابتعاد عن المهلكات ، كما أنها تعيش في مجموعات متوافقات متفاهمات ، وهذا يعني أنه لا ينفرد بصفة الاجتماعية وكذلك لايتميز عن غيره بصفة العبودية ، والسؤال الآن : هل ما يميز الإنسان أنه حر مكلف مسئول ؟ لأن البعض ربما يقول إن هذا الوصف ليس للكائنات الأخرى على الأرض ؟!

والجواب أن الحرية والمسئولية لا تخص الإنسان وحده ، فمن ناحية الحرية والاختيار ، الحرية في الاختيار بين ضدين من الأفعال ، كالحرية في اختيار الطعام والشراب والملبس والمسكن ، فكثير من المخلوقات يتصف بذلك ، فما الذي يمنع الطير والحيوان أن يبحث عن طعامه وشرابه حيث يشاء ، كما يفعل الإنسان ذلك سواء بسواء ، بل هذه الكائنات أكثر حرية من الإنسان ؟ والواقع يشهد بذلك ويؤكده ، والقرآن أيضا يصرح به ويقرره ، فالله أوحي إلي النحل أن تبحث عن رزقها حيث تشاء وتأكل من الثمرات ما تشاء ، فقال تعالى :  وَأَوْحَي رَبُّكَ إلي النَّحْل أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الجِبَال بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ، ثُمَّ كُلي مِنْ كُل الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُل رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلفٌ أَلوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ للنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلكَ لآيَةً لقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ  النحل/69:68 .

ومن جهة الجزاء والمسئولية فقد ثبت أن الخلق يقتص بعضهم من بعض ، وأن الله يأخذ للمظلوم الحق من الظالم ، حتى يتحقق العدل بين سائر الخلق ، فعند مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ  أَنَّ رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم قَال :
( لتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إلي أَهْلهَا يَوْمَ القِيَامَةِ حتى يُقَادَ للشَّاةِ الجَلحَاءِ مِنَ الشَّاةِ القَرْنَاءِ ، ومعني القود هو القصاص ، وهو مجازاة الجاني بمثل صنيعه ، وفي رواية أحمد : ( يَقْتَصُّ الخَلقُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حتى الجَمَّاءُ مِنَ القَرْنَاءِ وَحتى الذَّرَّةُ مِنَ الذَّرَّةِ ) الذرة النملة ، ومعني الجلحاء أو الجماء هي التي لا قرون لها عكس القرناء .

كما أخبرنا الله عن مخلوقات غيبية حية تعيش مع الإنسان وتشاركه وصف الحرية والمسئولية ، كما أنها تراه ولا يراها ، وهؤلاء هم الجن والشياطين قال تعالى في وصف حالهم :  إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ  ، وهم أيضا مكلفون بشرعنا ، ولهم مقومات التكليف التي وهبها الله لنا فقال تعالى :  وَإِذْ صَرَفْنَا إِليْكَ نَفَرًا مِنْ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلمَّا قُضِيَ وَلوْا إلي قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِل مِنْ بَعْدِ مُوسَي مُصَدِّقًا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلي الحَقِّ وَإلي طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ، يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَليمٍ ، وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللهِ فَليْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ وَليْسَ لهُ مِنْ دُونِهِ أَوليَاءُ أُوْلئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ  ، وقال تعالى في إثبات الحرية لهم :  وَأَنَّا مِنَّا الصَّالحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا  ، وقال سبحانه وتعالي في محاسبتهم عن أفعالهم :  وَأَنَّا مِنَّا المُسْلمُونَ وَمِنَّا القَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلمَ فَأُوْلئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ، وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لجَهَنَّمَ حَطَبًا  .

وعند البخاري ومسلم من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهُ أنه قَال : ( انْطَلقَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، عَامِدِينَ إلي سُوقِ عُكَاظٍ وَقَدْ حِيل بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ وَأُرْسِلتْ عَليْهِمُ الشُّهُبُ ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إلي قَوْمِهِمْ ، فَقَالُوا : مَا لكُمْ فَقَالُوا : حِيل بَيْننَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ ، وَأُرْسِلتْ عَليْنَا الشُّهُبُ قَالُوا : مَا حَال بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ إِلا شَيْءٌ حَدَثَ ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا ، فَانْظُرُوا مَا هَذَا الذِي حَال بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ ؟ فَانْصَرَفَ أُولئِكَ الذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهَامَةَ ، إلي النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم وَهُوَ بِنَخْلةَ عَامِدِينَ إلي سُوقِ عُكَاظٍ ، وَهُوَ يُصلي بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ الفَجْرِ فَلمَّا سَمِعُوا القُرْآنَ ، اسْتَمَعُوا لهُ فَقَالُوا : هَذَا وَالله الذِي حَال بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ فَهُنَالكَ حِينَ رَجَعُوا إلي قَوْمِهِمْ ، وَقَالُوا : يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهدِي إلي الرُّشْدِ فَآمَنَّا بهِ وَلنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا فَأَنْزَل الله على نَبِيِّهِ صلي الله عليه وسلم :
 قُل أُوحِيَ إلي أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إلي الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلدًا وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا على اللهِ شَطَطًا  ، وقد خاطب الله الجن والإنس كسائر العقلاء ، وجعلهم في التكليف والحساب سواء ، فقال تعالى :  يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ أَلمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَليْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا على أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمْ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا على أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ  ، وقال سبحانه :  يَامَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلطَانٍ  .

وروي مسلم من حديث أبي السَّائِبِ مَوْلي هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنَّهُ دَخَل على أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ فِي بَيْتِهِ ، يقول أبو السائب : فَوَجَدْتُهُ يُصَلي فَجَلسْتُ أَنْتَظِرُهُ حتى يَقْضِيَ صَلاتَهُ فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا فِي عَرَاجِينَ فِي نَاحِيَةِ البَيْتِ – والعراجين هي أعواد النخل اليابسة- فَالتَفَتُّ فَإِذَا حَيَّةٌ فَوَثَبْتُ لأَقْتُلهَا فَأَشَارَ إلي - وهو في الصلاة - أَنِ اجْلسْ فَجَلسْتُ فَلمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إلي بَيْتٍ فِي الدَّارِ فَقَال : أَتَرَي هَذَا البَيْتَ فَقُلتُ نَعَمْ قَال كَانَ فِيهِ فَتًي مِنَّا حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ ، فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ إلي الخَنْدَقِ فَكَانَ ذَلكَ الفَتَي يَسْتَأْذِنُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ بِأَنْصَافِ النَّهَارِ فَيَرْجِعُ إلي أَهْلهِ فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا فَقَال لهُ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ خُذْ عَليْكَ سِلاحَكَ فَإِنِّي أَخْشَي عَليْكَ قُرَيْظَةَ فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلاحَهُ ثُمَّ رَجَعَ فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ البَابَيْنِ قَائِمَةً فَأَهوى إِليْهَا الرُّمْحَ ليَطْعُنَهَا بِهِ وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ فَقَالتْ لهُ اكْفُفْ عَليْكَ رُمْحَكَ وَادْخُل البَيْتَ حتى تَنْظُرَ مَا الذِي أَخْرَجَنِي فَدَخَل فَإِذَا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ على الفِرَاشِ فَأَهوى إِليْهَا بِالرُّمْحِ فَانْتَظَمَهَا بِهِ – رماها فأصابها - فَاضْطَرَبَتْ عَليْهِ الحية وقتلته فَمَا يُدْرَي أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الحَيَّةُ أَمِ الفَتَي قَال أبو سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ فَجِئْنَا إلي رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَذَكَرْنَا ذَلكَ لهُ وَقُلنَا ادْعُ اللهَ يُحْيِيهِ لنَا فَقَال اسْتَغْفِرُوا لصَاحِبِكُمْ ثُمَّ قَال إِنَّ بِالمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلمُوا فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ – أن يخرج - فَإِنْ بَدَا لكُمْ بَعْدَ ذَلكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ .

كل ذلك يدل على أن الإنسان يشترك مع الجان في وصف الحرية والمسئولية ، وحد يقول حريتنا يا دكتور ، إذا كان الإنسان لا يتميز عن غيره من الكائنات بأنه حيوان ناطق يتكلم بأجود الكلمات وأبلغ العبارات ولا يتميز عن غيره بالعقل والاجتماعية أو العبادة والحرية ، أو المحاسبة والمسئولية ، وعلمنا أن الآراء الفكرية التي قدمتها العقول البشرية عليها تعقيبات منطقية واعتراضات نقلية ، فما هو الوصف المقنع الذي يتميز به الإنسان عن غيره من المخلوقات ؟

اعلم يا أخي الكريم أن كل العقول لو اجتمعت للإجابة عن هذا السؤال دون هداية من خالقها فلن تتمكن بمفردها من تقديم الإجابة المقنعة التي تشبع العقول السليمة أو الفطرة القويمة ، والسبب في ذلك أن الإنسان له امتداد سابق على وجوده في هذا الزمان ، ولكي يوفق أي فيلسوف مفكر في الإجابة والبرهان ، لا بد من إلمامه بتفاصيل النشأة التي لم تشهدها العينان ، ولن نجد من يخبرنا عن بداية الكون والإنسان ، إلا الله الذي خلق جميع الكائنات وأوجد فيهما الإنس والجان ، ومن ثم وردت الإشارة إلي ذلك في القرآن ، فقال سبحانه وتعالي في سورة الفرقان :
 الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَي على العَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَل بِهِ خَبِيرًا  الفرقان /59 ، فربنا هو الوحيد الذي يعطينا تفصيل الجواب الذي يتعلق بنشأة الإنسان ، كما وردت العبارة بصريح البيان في قوله تعالى :  مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلا خَلقَ أَنفُسِهِمْ ومَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلينَ عَضُدًا  الكهف/51 ، ولذا سوف يتحتم علينا أن نلجأ إلي طريقة أخرى أعلى من عقولنا وأرقي من مداركنا لنتعرف على الوصف الذي يتميزنا عمن حولنا من الكائنات ؟

فإذا كان العقلاء يقرون ويعلمون علم اليقين ، أن المصنع الذي ينتج آلة من الآلات ، يضع دليلا مرفقا لشرح الخصائص المميزة ، وتوضيح التعليمات الموجزة ، التي تمكن الإنسان من تشغيل الأجهزة ، ولو حدث عطب أو تلف نتيجة الالتزام بالنظام ، أو وجود الخلل في بعض عوامل الأمان ، فالمصنع هو الوحيد المسئول عن الضمان ، وإعادة الثقة والاطمئنان لكل العملاء .

ولما كان أولي من يبين خصائص الأشياء ، ويشرح للجميع نظام المصنوعات والمنتجات هو صانعها ومنتجها ، فإن من العقل والحكمة أن نرجع في البحث عن الوصف الذي يمزينا عن غيرنا إلي من صانعنا وخالقنا ، فهو الوحيد الذي يمكن أن يفسر لنا السبب في وجودنا ووجود المخلوقات ، ويوضح لنا لماذا ترابطت العلل والمعلولات ، في النظام العام لجميع الكائنات ، وصاحب العقل السليم سيوافقنا على هذا الأساس ، ويشاركنا مع سائر الناس في التحرىبإخلاص عن إجابة مقنعة .

ومعلوم لدي كل العقلاء أن الكلام المباشر مع خالق الأشياء ممتنع ، لأن الوحي قد انقطع بموت الأنبياء ، فلم يبق لدينا إلا رسالة السماء للتعرف على كلام الله ، سواء الرسالة التي أنزلت على موسي أو عيسي أو محمد عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام ، وذلك حتى نظفر من خطاب الله بالعلم ، الذي يرشدنا إلي بداية الكون والإنسان وما يتميز به عن الحيوان أو غيره من الكائنات الأخرى .

غير أن السؤال الذي يطرح نفسه على العقلاء ، هو السؤال عن توثيق المصادر السماوية ومدي ثبوتها ، والتأكد بالفعل أن هذه الرسالة التي بين أيدينا والمنسوبة إلي نبي من الأنبياء ، هي بعينها ما جاءت عن الله حقا ، وأن ما فيها هو كلام الله صدقا ، ولذلك وجب قبل التعرف على الوصف الذي يتميز به الإنسان ، التثبت من نسبة الكتب السماوية الموجودة الآن إلي أصحابها .

فهل التوراة الموجودة بأيدي اليهود حاليا هي التي نزلت على موسي  ؟ وهل تصح مرجعا لكلام الله يعتمد عليه ؟ من المعلوم أن التوراة التي نزلت على موسي  كتبت في ألواح نزلت من السماء وأن الله كتبها بيده وهذه ميزة فضل الله بها التوراة على غيرها من الكتب السماوية ، وقد ورد النص بذكر هذه الألواح في القرآن والسنة ، فمن القرآن قوله تعالى :  وَكَتَبْنَا لهُ فِي الأَلوَاحِ مِنْ كُل شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لكُل شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الفَاسِقِينَ  الأعراف:145 ، وقوله :  وَلمَّا رَجَعَ مُوسَي إلي قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَال بِئْسَمَا خَلفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلقَي الأَلوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِليْهِ  الأعراف:150 ، وقوله :  وَلمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَي الغَضَبُ أَخَذَ الأَلوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًي وَرَحْمَةٌ للذِينَ هُمْ لرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ  الأعراف:154 ، ومن السنة ما أخرجه مسلم في القدر من حديث أبي هُرَيْرَةَ  أن رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم قَال : ( احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَي ، فَقَال مُوسَي : يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ ، فَقَال لهُ آدَمُ : أَنْتَ مُوسَي اصْطَفَاكَ اللهُ بِكَلامِهِ وكَتَبَ لكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ ، أَتَلُومُنِي على أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللهُ على قَبْل أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً ؟ فَقَال النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم : فَحَجَّ آدَمُ مُوسَي ، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَي ) .

وكذلك ورد ذكر الألواح والنص على وجودها في العهد القديم في عدة مواضع ، كقول كاتب التوراة في سفر الخروج : ( وَقَال الرَّبُّ لمُوسَي : اصْعَدْ إلي الجَبَل وَامْكُثْ هُنَاكَ لأُعْطِيَكَ الوَصَايَا وَالشَّرَائِعَ التِي كَتَبْتُهَا على لوْحَيِ الحَجَرِ لتُلقِّنَهَا لهُمْ ) ، وكما ورد أيضا في قول موسي  سفر الخروج : ( وَسَلمَنِي الرَّبُّ لوْحَيِ الحَجَرِ المَكْتُوبَيْنِ بِأَصْبَعِ اللهِ ، حَيْثُ خَطَّ عَليْهِمَا جَمِيعَ الوَصَايَا التِي كَلمَكُمْ بِهَا الرَّبُّ فِي الجَبَل مِنْ وَسَطِ النَّارِ فِي يَوْمِ الاجْتِمَاعِ ، وَحِينَ أَعْطَانِي الرَّبُّ لوْحَيْ حَجَرِ العَهْدِ فِي نِهَايَةِ الأَرْبَعِينَ نَهَاراً وَالأَرْبَعِينَ ليْلةً ، قَال لي الرَّبُّ : قُمْ وَأَسْرِعْ بِالنُّزُول مِنْ هُنَا ) .

وقد بينت التوراة الموجودة بأيدي اليهود والنصارى الآن أن موسي  كسر اللوحين عندما وجد قومه قد عبدوا العجل : ( وَمَا إِنِ اقْتَرَبَ مُوسَي مِنَ المُخَيَّمِ وَشَاهَدَ العِجْل وَالرَّقْصَ حتى احْتَدَمَ غَضَبُهُ وَأَلقَي بِاللوْحَيْنِ مِنْ يَدِهِ وَكَسَّرَهُمَا عِنْدَ سَفْحِ الجَبَل ) ، وتذكر التوراة أيضا أن الرب أمر موسي  أن ينحت لوحين من حجر مثل الأولين حتى يكتب الرب عليهما الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين :
( ثُمَّ قَال الرَّبُّ لمُوسَي انْحَتْ لكَ لوْحَينِ مِنْ حَجَرٍ مِثْل اللوْحَينِ الأَوَّليْنِ ، فَأَكْتُبَ أَنَا عَليْهِمَا الكَلمَاتِ التِي دَوَّنْتُهَا على اللوْحَينِ الأَوَّليْنِ اللذَيْنِ كَسَرْتَهُمَا ، وَتَأَهَّبْ فِي الصَّبَاحِ ثُمَّ اصْعَدْ إلي جَبَل سِينَاءَ وَامْثُل أَمَامِي هُنَاكَ على قِمَّةِ الجَبَل وَلاَ يَصْعَدْ مَعْكَ أَحَدٌ وَلاَ يُشَاهَدْ على الجَبَل إِنْسَانٌ وَلاَ تَرْعَ الغَنَمُ أَيْضاً وَالبَقَرُ بِاتِّجَاهِ هَذَا الجَبَل ، فَنَحَتَ مُوسَي لوْحَيْنِ مِنْ حَجَرٍ مُمَاثِليْنِ للأَوَّليْنِ ، وَبَكَّرَ فِي الصَّبَاحِ ، وَصَعِدَ إلي جَبَل سِينَاءَ حَسَبَ أَمْرِ الرَّب ) ، وكثير من النصوص الأخرى التي تدل جملة وتفصيلا على وجود ألواح كتبت بيد الله عز وجل .

د. محمود عبد الرازق الرضواني
05-06-2006, 03:26 PM
والسؤال الآن أين هذه الألواح التي نزلت من السماء وتسلمها موسي  عند جبل الطور بسيناء ؟ ما يؤكده علماء الأديان أن التوراة الموجودة الآن باعتراف اليهود ليست هي ألواح موسي  ، وأنها كتبت بعد موته بقرون طويله على مراحل متعددة ، والأدلة قائمة على أن التوراة التي كتبها أحبار بني إسرائيل عبر تاريخهم الطويل تعرضت للتغيير والتبديل ، كما قال تعالى :  مِنْ الذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا ليًّا بِأَلسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ  ، غير أنها تحوي من الآثار الصحيحة والأحكام الصريحة ما يتوافق مع الفطرة السليمة والشريعة المستقيمة وقد بقيت تلك الأثار إلي عهد النبي صلي الله عليه وسلم ، فقد ثبت في السنة عند البخاري المطهرة أَنَّ اليَهُودَ جَاءُوا إلي النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ قَدْ زَنَيَا ، فَقَال لهُمْ : كَيْفَ تَفْعَلُونَ بِمَنْ زَنَي مِنْكُمْ ؟ قَالُوا : نُحَمِّمُهُمَا وَنَضْرِبُهُمَا ، فَقَال : لا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ ؟ فَقَالُوا : لا نَجِدُ فِيهَا شَيْئًا ، فَقَال لهُمْ عَبْد ُاللهِ بْنُ سَلامٍ : كَذَبْتُمْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ، فَوَضَعَ مِدْرَاسُهَا الذِي يُدَرِّسُهَا مِنْهُمْ كَفَّهُ على آيَةِ الرَّجْمِ ، فَطَفِقَ يَقْرَأُ مَا دُونَ يَدِهِ وَمَا وَرَاءَهَا وَلا يَقْرَأُ آيَةَ الرَّجْمِ ، فَنَزَعَ يَدَهُ عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ فَقَال : مَا هَذِهِ ؟ فَلمَّا رَأَوْا ذَلكَ قَالُوا : هِيَ آيَةُ الرَّجْمِ ، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا قَرِيبًا مِنْ حَيْثُ مَوْضِعُ الجَنَائِزِ عِنْدَ المَسْجِدِ ، فَرَأَيْتُ صَاحِبَهَا يَحْنِي عَليْهَا يَقِيهَا الحِجَارَةَ ) .

أما الأناجيل الموجودة اليوم إنجيل متي ومرقس ولوقا ويوحنا ، فهل هذه الأناجيل هي كلام الله الذي أوحاه إلي رسوله عيسي  ؟ أم هي حكاية عن حياته وسرد لقصة وفاته من وجهة نظر النصارى ؟ وأين نسخة الإنجيل الأصلية التي نزلت على عيسي  أو أملاها للحواريين ؟ وهل سمع أصحاب الأناجيل متي ومرقس ولوقا ويوحنا هذه الأناجيل من عيسي  سماعا مباشرا ؟ أم وصل إليهم الإنجيل كسند متصل بنقل العدل الضابط عن مثله إلي منتهاه من غير شذوذ ولا علة ؟

ورد في مقدمة إنجيل لوقا عن السبب في كتابته هذا الإنجيل حيث قال : ( لمَّا كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَقْدَمُوا على تَدْوِينِ قِصَّةٍ فِي الأَحْدَاثِ التِي تَمَّتْ بَيْنَنَا كَمَا سَلمَهَا إِليْنَا أُولئِكَ الذِينَ كَانُوا مِنَ البَدَايَةِ شُهُودَ عِيَانٍ ثُمَّ صَارُوا خُدَّاماً للكَلمَةِ ، رَأَيْتُ أَنَا أَيْضاً بَعْدَمَا تَفَحَّصْتُ كُل شَيْءٍ مِنْ أَوَّل الأَمْرِ تَفَحُّصاً دَقِيقاً أَنْ أَكْتُبَهَا إِليْكَ مُرَتَّبَةً أَيُّهَا العَزِيزُ ثَاوُفِيلُسَ لتَتَأَكَّدَ لكَ صِحَّةُ الكَلاَمِ الذِي تَلقَّيْتَه ) ، فالنص يشعر القارئ بأن صاحبه يكتب قصة عن المسيح  سوف يبعث بها كرسالة إلي عزيز لديه ، وفي مقدمة إنجيل متي : ( هَذَا سِجِلُّ نَسَبِ يَسُوعَ المَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْرَاهِيمَ ، إِبْرَاهِيمُ أَنْجَبَ إِسْحقَ وَإِسْحقُ أَنْجَبَ يَعْقُوبَ وَيَعْقُوبُ أَنْجَبَ يَهُوذَا ... إلي قوله : وَمَتَّانُ أَنْجَبَ يَعْقُوبَ وَيَعْقُوبُ أَنْجَبَ يُوسُفَ رَجُل مَرْيَمَ التِي وُلدَ مِنْهَا يَسُوعُ الذِي يُدْعَي المَسِيحَ ، فَجُمْلةُ الأَجْيَال مِنْ إِبْرَاهِيمَ إلي دَاوُدَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ جِيلاً ) ، ويستحيل من سياق هذا النص أن يكون عيسي  هو من نطق بهذا الكلام وسرد للناس نسبه بمثل هذه الصياغة !

وهذه النصوص تدل على صدق ما ذكره القرطبي في أن هذ الكتاب الذي بأيدي النصارى اليوم ليس هو الإنجيل الذي قال الله فيه على لسان رسوله صلي الله عليه وسلم :  وَأَنْزَل التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيل مِنْ قَبْلُ هُدًي للنَّاسِ  ، لأن هذا الكتاب قد توافق النصارى على أنه إنما تلقي عن اثنين من الحواريين وهما متاؤوش ويوحنا ، وعن اثنين من تلاميذ الحواريين وهما ماركش ولوقا ، وأن عيسي  لم يشافههم بكتاب مكتوب عن الله كما فعل موسي  ، ولكن لما رفع الله عيسي  إليه تفرق الحواريون في البلاد والأقاليم كما أمرهم عيسي  ، فكان منهم من كتب بعض سيرة عيسي ، وبعض معجزاته وبعض أحواله ، حسب ما تذكر أو ما يسر الله عليه فيه ، فربما توارد الأربعة على شيء واحد فحدثوا به وربما انفرد بعضهم بزيادة معني ، وكذلك كثيرا ما يوجد بينهم من اختلاف مساق وتناقض بين قولين وزيادة ونقصان وهذا واضح من المقارنة بينها .

وعلى الرغم من ذلك فإن الأناجيل التي بأيدي النصارى اليوم نقل كتابها فيها من النصوص ما يدل على صدق ما جاء في القرآن والسنة ، وأن النصارى اليوم يعرفون محمدا كما يعرفون أبناءهم ، وسوف نعرض عليكم بإذن الله تعالى في عدة محاضرات قادمة الدليل من الأناجيل على أن النصارى في عصرنا اليوم يعرفون محمدا صلي الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، يعرفونه بأسلوبه ونظامه وطريقة كلامه ، تماما كما ورد في قول الله عز وجل :  الذِينَ آتَيْنَاهُمْ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ ليَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلمُونَ  .

أما القرآن الكريم فهو آخر الكتب السماوية التي ما زالت بوضعها الأول ، يقول المستشرق الفرنسي موريس بوكأي : ( صحة النص القرآني المنزل على محمد لا تقبل الجدل وتعطي النص مكانة خاصة بين كتب التنزيل ، ولا يشترك مع نص القرآن في هذه الصحة لا العهد القديم ولا العهد الجديد ، وسبب ذلك أن القرآن قد دون في عصر النبي ، ولم يتعرض النص القرآني لأي تحريف من يوم أن أنزل على الرسول حتى يومنا هذا ) .

لقد اتخذ الرسول صلي الله عليه وسلم كتَّابا للوحي كان يملي عليهم ما جاءه من كلام الله ويأمرهم بكتابة ما ينزل من القرآن أولا بأول ، وهؤلاء الكتاب معروفون بالإسم فردا فردا ، ويمكن للقارئ أن ينظر تفصيل ذلك في علوم القرآن عند المسلمين ، هذا بالإضافة إلي حفظ أعداد كبيرة من أصحاب الرسول صلي الله عليه وسلم للقرآن كله كلمة كلمة ، وهم أيضا معروفون بالإسم فردا فردا ، ثم بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنا أمر أمير المؤمنين عثمان بن عفان  ، وهو من خيار الصحابة وصهر رسول الله صلي الله عليه وسلم وخليفة المسلمين ، أن تكتب عدة نسخ من القرآن فكتبت وهي بذاتها موجودة إلي الآن ، ويمكن لكل فرد أن يطلع على بعضها في المدينة المنورة وفي مكة المكرمة وبعض البلاد الإسلامية الأخرى ، وعليها طبع القرآن وانتشرت نسخه في كل مكان .

وقد ميز الله القرآن عن سائر ما سبق من الرسالات بأنه النص الوحيد في العالم حتى عصرنا الحاضر الذي يقرأ بنفس أسلوب الوحي الأول بإعجاز تركيبه وبلاغة كلماته كنظم معجز يتحدى العالم أجمع أن يأتوا بمثله ، كما قال الله تعالى :  قُل لئِنْ اجْتَمعَتْ الإِنسُ وَالجِنُّ على أَنْ يَأْتُوا بِمِثْل هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثلهِ وَلوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لبَعْضٍ ظَهِيرًا  ، وقال أيضا :  أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُل فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 

كما ميز الله القرآن أيضا بأن تكفل بحفظه وبقائه إلي يوم القيامة دون تحريف أو تبديل وذلك من خلال أمرين اثنين :
الأمر الأول : أن الله عز وجل حفظه قرآنا يتلى ومنهجا ثابتا لا يتغير فهيأ الأسباب لحفظ القرآن والسنة على الدوام ، فقال في حفظ منهجه :  إِنَّا نَحْنُ نَزَّلنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لهُ لحَافِظُونَ  ، فالمسلمون يكتشفون مواقع التغيير في القرآن إذا حدثت سهوا أو عمدا بتلقائية عجيبة ، فلا يستطيع أحد في العالم أن يدرج فيه حرف واحدا أو كلمة واحدة أو تشكيل مخالف لما هو عليه الآن وإلا قامت الدنيا ولم تقعد .

وفي حفظ السنة تميزت الأمة الإسلامية في براعة نادرة بالأسانيد ووضع قواعدها التي تميز بين المقبول والمردود والصحيح والضعيف مما نسب إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وهو ما عرف بعلم مصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل الذي يعد من خصائص الفكر الإسلامي ، ويكفي للتدليل على مكانة علم الحديث وخدمة القرآن عند المسلمين أن ينظر القارئ نظرة عابرة إلي تراثهم في المكتبة الإسلامية من علوم قائمة على خدمة القرآن والسنة وخصوصا ما ظهر من البرامج الحديثة والمتطورة التي يستخدم فيها الكمبيوتر .

الأمر الثاني : أن الله حفظ الإسلام واقعا مرئيا بوجود من يطبقه على نفسه على مر السنين وهؤلاء هم حجة الله على غيرهم من المنحرفين ، فقد يدعي أحدهم أن منهج القرآن منهج مثالي لا يصلح في هذا الزمان ، أو يمكن أن يطبق في مكان دون آخر ، ومن ثم تكفل الله بوجود من يطبق منهج الحق على نفسه في واقعية مستمرة إلي يوم القيامة ، ففي صحيح مسلم من حديث ثوبان قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ على الحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلهُمْ حتى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلكَ ) .

إذا تبين للمسلم ولسائر الناس أن القرآن محفوظ إلي الآن ، وأنه كلام الله دون زيادة أو نقصان ، فالسؤال الآن : هل ورد في القرآن وصف يتميز به الإنسان عمن حوله من الكائنات ؟

والجواب : نعم فالقرآن ينفرد بحل التناقض في حياة الإنسان ، ويفسر نشأته في قديم الزمان ، ويضع الحقائق العظمي واضحة للعيان ، وقد ورد فيه الوصف الذي يتميز به الإنسان عمن حوله من الكائنات ، فقال تعالى بعد خلقه للأرض والسماوات ، يخاطب ملائكته عن حكمته في وجود المخلوقات :  وَإِذْ قَال رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  فاستخلفه في الأرض وخوله ، وابتلاه فيها واستأمنه ، فترة معلومة إلي يوم موعود .

فالله سبحانه وتعالي قال عند بداية حياة الإنسان :  إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  ، وقال عند نهايته في آخر الزمان :  وَلقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَي كَمَا خَلقْنَاكُمْ أَوَّل مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ  ، وعند الإمام مسلم قال رسول الله صلي الله عليه وسلم عن مجمل الحياة بطولها ولماذا أو جدنا الله خلالها : ( إِنَّ الدُّنْيَا حُلوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ؟ ) قال الإمام النووي في شرحه للحديث : ( ومعني مستخلفكم فيها جاعلكم خلفاء من القرون الذين قبلكم ، فينظر هل تعملون بطاعته أم بمعصيته وشهواتكم ) .

وفي شرح سنن ابن ماجة قوله : ( مستخلفكم أي جاعلكم خليفة أي وكيلا ، ففيه أن أموالكم ليست لكم بل الله سبحانه جعلكم في التصرف فيها بمنزلة وكلاء ، أو جاعلكم خلفاء للأرض ممن كان قبلكم وأعطاكم ما كان في أيديهم ) ،
أما أقوال المفسرين في معني قوله تعالى :  إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  (البقرة/30) فتكاد تنحصر في قولين :
الأول : إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي ، وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه ، وهذا قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وطائفة أخرى من المفسرين .

الثاني : أن معني الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا يخلف بعضهم بعضا ، كما في قوله تعالى :
 ثُمَّ جَعَلنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ  (يونس/14) ، وهذا قول عبد الله بن عباس  وطائفة أخرى من المفسرين .

يقول ابن الجوزي أيضا : ( وفي معني خلافة آدم قولان : أحدهما أنه خليفة عن الله تعالى في إقامة شرعه ودلائل توحيده والحكم في خلقه ، وهذا قول ابن مسعود و مجاهد والثاني أنه خلف من سلف في الأرض قبله ، وهذا قول ابن عباس والحسن ) .

ولكن الرأي الأول وإن قال به ابن مسعود ومجاهد وبعض المفسرين إلا أن أغلبهم يميلون إلي الرأي الثاني رغبة في تنزيه الله عن معاني النقص ، فما غاب الله حتى يستخلف عنه نائبا في ملكه ، وسنري في المحاضرات القادمة إن شاء الله أنه لا خلاف مطلقا بين الرأيين ، وأن ما ورد في القرآن يدل بوضوح على المعنيين ، وأنهما لازمان لاستخلاف الإنسان ، وسوف تظهر بإذن الله هذه المسألة عند إتمام النظرة الشاملة لما يتعلق بالإنسان وبداية الكون ، وعند اكتمال أركان الموضوع ، غير أن ما يعنينا الآن أنه ليس فيما تقدم من آراء سلفية أي اعتراض على أن اللوازم الضرورية ، لمعني الاستخلاف ، وجود مستخلف ومستخلف ومستخلف عليه ، الله والإنسان والعالم :

أ - فالمستخلف للإنسان في الأرض هو الله إما على المعني الأول الذي ذكره عبد الله بن مسعود في قوله تعالى :
 إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَليفَةً  (البقرة/30) أي خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي أو كما قال عبد الله بن عباس خليفة لمن سبق من الجن يخلف بعضهم بعضا ، فالذي استخلفه هو الله .

ب - والمستخلف في ملك الله حقيقة هو الإنسان ، لأنه طالما أنه مستخلف في الأرض ، فالملك الذي يحيا فيه ليس له ، بل لخالقه ومالكه ، فإن كان الملك لله والإنسان مستخلف فيه بأمره وشرعه ، فهذا هو ما أشار إليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في أن الإنسان خليفة عن الله تعالى في إقامة شرعه ودلائل توحيده والحكم في خلقه ، وإن كان الإنسان خليفة لمن سبق ، فالملك أيضا ليس ملك من سبق إلا على سبيل الاستخلاف في الأرض وحمل الأمانة لا على سبيل التملك والأصالة ، وسيلزم هنا بالضرورة لا محالة أن الإنسان الأول سيكون خلفا لمن سبق من الجن ، وسيقال بالضرورة مباشرة والجن خلف لمن ؟
فليس عند ذلك إلا القول بأن الجن كانوا فيما سبق خلفاء لقوم آخرين الله أعلم بهم ، ويلزم من هذا التسلسل وهو باطل ، أو يلزم القول بأن الجن خلفاء لله في الأرض والإنس يخلفونهم من بعدهم ، لكن سنقع فيما احترز منه القائلون بأن الإنسان خليفة لمن سبق رغبة منهم في تنزيه الله عن معاني النقص ، فما غاب الله حتى يستخلف الجن في أرضه ، أو ينيبهم عنه في ملكه .
كما أن الجن مازالوا في الأرض يشتركون مع الإنس في الأحكام الشرعية ويتحملون عند الحساب نفس المسئولية ، وإن جاز بالضرورة أن يكون الجن خلفاء عن الله في الأرض ، ألا يجوز ذلك في حق الإنس ، وقد فضل الله آدم وبنيه على كثير من خلقه ، كما قال تعالى :  وَلقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلقْنَا تَفْضِيلا  (الإسراء/70) ؟

بل وصل أمر التفضيل إلي أن الله أمر الملائكة بالسجود للإنسان الأول فقال تعالى :  وَإِذْ قَال رَبُّكَ للمَلائِكَةِ إِنِّي خَالقٌ بَشَرًا مِنْ صَلصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لهُ سَاجِدِينَ ، فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلا إِبْليسَ أبي أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ  (الحجر/31:28) .

هذه المسألة في الحقيقة معضلة وسنشرح كيفية الخروج من هذه المشكلة ، بإذن الله في المحاضرات القادمة ، غير أن النتيجة الملزمة التي نقررها الآن ، أنه لا اعتراض على أن الإنسان ، مستخلف في أرض الله مخول فيها كما قال :  آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلكُمْ مُسْتَخْلفِينَ فِيهِ فَالذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ  (الحديد/7) .

ح – أما المستخلف عليه فهي الأرض وهي موضوع الابتلاء والاستخلاف ، قد هيأها الله لأداء هذه المهمة التي سيقوم بها الإنسان ، كما أن العالم مهيأ أيضا لتبقي الأرض على هذا الحال إلي وقت محدود ويوم موعود .

فاستخلاف الإنسان في الأرض وتخويله فيها هو الوصف الذي تميز به عمن حوله من الكائنات ، كما أنه يوضح الرؤية الصحيحة للعلاقة بين الله والإنسان وسائر المخلوقات ، تلك العلاقة التي حارت فيها العقول بمختلف الفلسفات ولم تنجح في تفسيرها نظرية من النظريات ، فالله مستخلفٌ استخلف الإنسان في الحياة ، والإنسان مستخلفٌ يعيش في ملك الله ، والأرض مستخلف عليها في العالم الذي هيأه الله لتحقيق ذلك.

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .

khadiija
07-23-2007, 09:26 PM
بارك الله فيك وجزاك الله الجنه على هذه المحااااااضره القيمه جداااااااااااااااااااااااااااا