ابن عبد البر الصغير
06-14-2013, 09:21 PM
الحمد لله خالق السماوات والأرض، جاعل الظلمات والنور، أحمده حمدا كما ينبغي لكرم وجهه وعزّ جلاله، وأستعينه استعانة من لا حول له ولا قوة إلا به، وأستهديه بهُداه الذي لا يضل من أنعم به عليه، وأستغفره لما أزلفتُ وأخرتُ استغفار من يُقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قائم بلا عمد، واحد بلا عدد، لا يفنى ولا يَبيد، ولا يكون إلا ما يُريد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خصه تعالى بجوامع الكلم، وغرر الحكم، علم المؤمنين الكتاب والحكمة. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. وبعد :
فالسنة راجعة في معناها إلى الكتاب، وهي في عمومها تفصيل لمجمله، وبيان لمشكله، وبسط لمُختصره، فلا تجد في السنة أمرا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية. لذا كانت منزلتها في التشريع بعد القرآن الكريم مباشرة.
الكلام في تعريف السنة :
أما تعريفها فلغة هي الطريقة المسلوكة أياًّ كانت حميدة أو ذميمة، ومنه قوله تعالى : { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } .
واصطلاحا : فهي عند الأصوليين كلُّ ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - غير القرآن الكريم- من قول أو فعل أو تقرير. فالسنة أعم والحديث أخص ويُستعملان بمعنى الترادف.
الكلام في أنواعها :
والسنة ثلاثة أنواع : قولية وفعلية وتقريرية
ذلك أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسوله وأنزل عليه كتابه ليبلغه للناس ويبين لهم، { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } * { بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }. فكان بيانه تارة بكلام يخاطبهم به، وأخرى بفعل يفعله أمامهم يوضح به ما نزل مجملا، وتارة بتقريره بأن يسكت عمَّا يقع من أصحابه بعد علمه به .
أما السنة القولية : فهي الأحاديث التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مختلف الأغراض والمناسبات مثل : قوله عليه الصلاة والسلام " لا وصية لوارث" - متفق عليه-.
وقوله عليه الصلاة والسلام في البحر " هو الطهور ماؤه الحل ميتته" - ابن ماجة الحديث رقم 386-.
والسنة الفعلية : هي الأعمال التي قام بها عليه السلام على وجه البيان لما ورد في القرآن الكريم والتبليغ عن الله تبارك وتعالى للأمة الإسلامية. ومثال ذلك كيفية أداء الصلاة ولمناسك الحج، وكذا معاملاته في البيوع والتقاضي. ولا يُعتبر الفعل منه صلى الله عليه وسلم تشريعا إلا إذا قصد به التشريع دون بقية الأفعال الجبلية من أكل وشرب أو غيرها.
أما السنة التقريرية : فهي ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم مما صدر عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم من أقوال وأفعال:
فسكوته وعدم إنكاره أو موافقته واستحسانه يعتبر كأن الفعل أو القول صادر عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ومثال ذلك ما روي : " أن صحابيين خرجا في سفر فحضرتهما الصلاة ولم يجدا ماء فتيمما وصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر فلما قصا أمرهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمرهما أقر كلا منهما على ما فعل فقال للذي لم يعد :أصبت السنة وأجزأتك صلاتك وقال للذي أعاد: لك الأجر مرتين" - النسائي ج1 / ح 213-. ومثاله أيضا إقراره عليه السلام لمعاذ بن جبل على كيفية القضاء كما هو مشهور.
الكلام عن مراتبها :
أما مراتبها فنقول بتوفيق الله : أن الفعل منه عليه السلام يأتي في الدرجة الأولى من مراتب السنة، لأنه أبلغ من القول المجرد، ومن هذا القبيل ما روي عنه عليه السلام عن كيفية صلاته وحجه.
ومعظم السنة من باب القول، وتأتي في الدرجة الثانية بعد فعله عليه الصلاة والسلام، ومن السنة القولية ما روي عنه عليه السلام أنه قال : " لا صوم لمن لم يبيت الصيام من الليل" - الموطأ ج1 الصفحة 288-.
والقول منه إذا قارنه الفعل فذلك أبلغ ما يكون في التأسي بالنسبة للمكلفين، ومن هذا القبيل أداؤه للصلاة ومناسك الحج. وقوله : " خذوا عني مناسككم، وصلوا كما رأتموني أصلي" - البخاري ج2/ ح 637-.
أما إقراره عليه السلام فيأتي في الرتبة الأخيرة من هاته الأنواع الثلاثة. وسنة الصحابي رضوان الله عليه سنة يعمل بها، والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجد" - ابن ماجة في المقدمة-.
الكلام في حجية السنة:
والسنة حجة شرعية قولا كانت أو فعلا أو تقريرا ، يعمل بها متى نقلت إلينا بسند صحيح يُفيد القطع أو الظن الراجح وكان المقصود بها التشريع، وفي ذلك أدلة شرعية كثيرة منها قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً }* { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }. وقوله تعالى : { وَمَا آتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }. وقوله صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن يقعد الرجل متكئا على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا في من حرام حرمناه. ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله" - رواه أبو داود وأخرجه أحمد في مسنده / ج4 صفحة 132-.
وقد نفت الآية الخامسة والستون من سورة النساء الإيمان عن كل من لا يعمل بحديث رسول الله وسنته وما جاء فيها من أحكام شرعية لأن الأمر يقتضي الوجوب، وقد أمرنا بطاعة الرسول، فما علينا إلا أن نعمل بكل ما ورد إلينا عنه عليه الصلاة والسلام من سنة صحيحة. هذا ويرى الأصوليون أن الفعل منه عليه السلام دليل مطلق الإذن فيه، ما لم يدل دليل على غيره من قول أو قرينة حال أو غيرهما. ومثاله وصاله أحيانا ونهيه عليه السلام عن الوصال في الصوم.
ثم إذا قُرن الفعل بالقول كان ذلك في أعلى مراتب الصحة، بخلاف ما إذا لم يطابقه الفعل، لأن القول وإن اقتضى الصحة، فذلك لا يدل على أفضلية ولا مفضولية، اما إقراره عليه السلام فإذا وافق الفعل فهو صحيح في التأسي، أما إذا خالفه فهو غير صحيح. لذا فإقراره عليه السلام لا يدل على مطلق الجواز، لأن إقراره وإن اقتضى الصحة فالترك كالمعارض. ومثاله إعراضه عن سماع اللهو وإن كان مباحا. وتأتي السنة في الدرجة الثانية بعد القرآن في الحجية .
فماذا يقتضي هذا الترتيب ؟ وماذا يترتب عن ذلك ؟
يترتب عن ذلك أن المجتهد لا يعود إلى السنة للبحث عن حكم الواقعة أو النازلة المعروضة عليه إلا إذا لم يجد في القرآن حكما لها، ويؤكد ذلك :
- ورود السنة بعد القرآن في جميع النصوص الشرعية.
- كون القرآن مقطوعا به جملة وتفصيلا بخلاف السنة فهي مظنونة، وإذا صح القطع فيها فجملة لا تفصيلا، ومن ثم قدم المقطوع به على المظنون.
الكلام في أقسام السنة باعتبار سندها :
يقول الشيخ صبحي الصالح في كتابه "علوم الحديث ومصطلحه" : ( الحديث إما مقبول وهو الصحيح، وإما مردود وهو الضعيف، وهذا هو التقسيم الطبيعي الذي تندرج تحت نوعيه أقسام كثيرة أخرى تتفاوت صحة وضعفا بتفاوت أحوال الرواة وأحوال متون الأحاديث ) - صفحة 141-.
والسنة تنقسم باعتبار سندها إلى قسمين رئيسيين:
1- الأحاديث غير المتصلة السند: وهي الأحاديث التي توجد في سندها ثغرة أو ثغرات.
2- الأحاديث المتصلة السند : وهي الأحاديث التي رُويت عن راو توفرت فيه شروط الرواية عن راو مثله إلى أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع ثبوت معاصرة الصحابي للنبي وإن لم يثبت أنه التقى به حسب ما يشترطه الإمام مسلم. وتنقسم من حيث رواتها إلى ثلاثة أقسام :
* المتواتر : وهو في اصطلاح الأصوليين ما روي عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عن جماعة إلى أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأكثر المتواتر من السنة الفعلية ككيفة صلاته وكيفة أدائه لمناسك الحج، وأحاديث الصوم والآذان، وغير ذلك من شعائر الدين التي تلقاها المسلمون عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالمشاهدة أو السماع جموعا عن جموع من غير اختلاف في عصر من العصور، ومن السنة القولية المتواترة قوله صلى الله عليه وسلم : " من كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " - ابن ماجة / المقدمة . ح 30-
والحديث المتواتر عند الأصوليين قطعي الثبوت يفيد العلم اليقيني الضروري حيث لا يتطرق إليه الشك . وقد أجمع العلماء على حجيته ووجوب العمل به إذ له نفس القوة التي للقرآن فيكفر جاحده
. والسنة المتواترة تنسخ القرآن وتخصص عمومه وتقيد مطلقه .
* المشهور :وهو ما رواه عن الصحابة عدد لا يبلغ حد التواتر ثم تواتر في عهد التابعين وإن كان اشتهاره في عهد تابعي التابعين محل خلاف. والأحاديث المشهورة تفيد ظنا قريبا من اليقين لأنها قطعية الثبوت عن الصحابة، لذا يجب العمل بها وذلك لتنزه الصحابة عن الكذب وشهادة الله تعالى بصدقهم وعدالتهم في الكثير من الآيات، ومنها قوله تعالى : { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }
والأحاديث المشهورة كثيرة منها : " بني الإسلام على خمس... الحديث " - البخاري ص 47- ، و " لا ضرر ولا ضرار" - أحمد /ج1 ص 313-، و " لا تنكح المرأة على عمتها ولا المرأة على خالتها" -البخاري / نكاح- ، و " إنما الأعمال بالنيات ..." - البخاري كتاب بدء الوحي" . والأحاديث المشهورة تقيد مطلق القرآن ومثاله :
- حديث المغيرة بن شعبة في المسح على الخفين قيد به الأمر بغسل الرجلين في الوضوء.
- حديث " لا تنكح المرأة على عمتها ..." قيد به الحل في قوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ } في سورة النساء الآية 24.
- كما أنها تخصص عموم القرآن ومثال ذلك: حديث " نحن معاشر الأنبياء لا نورث" - البخاري كتاب الفرائض ح 6726- خصص به عموم المورث في آيات الفرائض.
- حديث " لا يرث القاتل شيئا " - أبو داود ج4 / 4564- خصص به عموم الوارث في الآيات.
* خبر الآحاد : وهو كل حديث رواه واحد او اثنان عن ذلك إلى أن يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، واختلف في خبر الآحاد هل يفيد العلم أي اليقين أم يفيد الظن على ثلاثة أقوال :
- أنه يفيد الظن وهو مذهب جمهور الأصوليين .
- أنه يفيد اليقين وهو رواية عن أحمد والظاهرية وبعض المالكية.
- قد يفيد اليقين إن وُجدت قرائن تفيد ذلك، وقد يفيد الظن وإن عري من القرائن.
ومذاهب الفقهاء في قبول خبر الآحاد والعمل به يمكن تلخيصها كالآتي :
- الحنفية يقبلون العمل بخبر الآحاد إذا كان راويه من الفقهاء الثقات عندهم ولا يعارض القياس.
- ومذهب الإمام مالك لا يقدم القياس على خبر الآحاد إلا في حالة التعارض وكان الخبر يعارض القواعد العامة أو الأصول الثابتة في الشريعة، ولم تؤيده قاعدة أخرى ترجح العمل بخبر الآحاد.
- أما مذهب الشافعية والحنابلة وجمهور الفقهاء وقول المتأخرين من المالكية فهو العمل بخبر الآحاد إذا ثبتت صحته وتقدمه على القياس.
الكلام في وظيفة السنة بالنسبة للقرآن الكريم :
بيّن الإمام الشافعي نسبة السنة إلى القرآن وحددها في أربع صور فقال رحمه الله تعالى : ( السنة إما أن تكون مقررة ومؤكدة حكما جاء في القرآن الكريم، أو مبينة وشارحة له، أو للاستدلال بها على النسخ أو منشئة حكما سكت عنه القرآن ..) - الرسالة، الصفحة 64-.
وهي كالآتي مع الشرح :
1 - سنة مقررة مؤكدة لحكم جاء في القرآن : وعندئذ يكون للحكم مصدران ودليلان : دليل مثبت من القرآن، ودليل من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كقوله : " استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان .." - ابن ماجة كتاب النكاح-. فإنه مؤكد لقوله تعالى :{ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً }.
ومن هذا النوع الأحاديث الآمرة بالصلاة والزكاة والحج وبر الوالدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأحاديث النهي عن الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس والزنا، وشرب الخمر ... إلى غير ذلك من الأحاديث التي دلّت عليها آيات القرآن الكريم وأيدتها السنة النبوية الشريفة.
2- سنة مبينة شارحة للقرآن: وهذا البيان على أوجه :
أ- أن تبين السنة مجمل القرآن : كما هو الشأن في الأحاديث التي فصلت كيفية إقامة الصلاة وأدائها على الوجه المطلوب، وكذلك الأحاديث التي فصلت فريضة إيتاء الزكاة، ونفس الشيء بالنسبة للأحاديث التي بينت مناسك الحج وغير ذلك من العبادات والمعاملات التي أجملها القرآن الكريم، وتناولتها السنة بالتوضيح والتبيين مصداقا لقوله تعالى { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }.
ب- أن تخصص السنة عامَّ القرآن: مثل نهيه عليه السلام عن : " أن تزوج المرأة على عمتها أو خالتها .. " فإنه مخصص لقوله تعالى بعد ذكر المحرمات من النساء : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ }. ومن ذلك أيضا قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ ...} فالولد جاء عاما في الآيات وخصصته السنة بألا يكون قاتلا أو كافرا.
ج- أن تقيد السنة مطلق القرآن : كما في قوله تعالى : { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } حيث إن القطع لم يقيد بموضع خاص ولا بقدر محدد فقيدته السنة بالرسغ وخصصته بالنصاب، وذلك الأمر في قوله تعالى : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } حيث أطلقت الوصية في الآية وقيدتها السنة بعدم الزيادة على الثلث.
3- سنة ناسخة لحكم ثابت بالقرآن : ومن ذلك الحديث : " لا وصية لوارث" حيث قال بعض الفقهاء إنه ناسخ لوجوب الوصية للوالدين في قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ }.
4- سنة مؤسسة ومنشئة لحكم غير وارد في القرآن : ومن هذا القبيل تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، وتحريم لبس الحرير والتختم بالذهب على الرجال، وكذا الأحكام المتعلقة بالذبائح والصيد ورجم الزاني المحصن.
وبناء على ما سبق قال الأصوليون : " الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب" كما قالوا: " السنة قاضية على الكتاب" - سنن الدارمي باب 48-.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه الفقير إلى رحمة ربه الغني القدير الملقب : بـ "ابن عبد البر الصغير ".
عفا الله عنه وعن والديه وجميع المسلمين، حامدا الله سبحانه وتعالى مصليا على رسوله محمد وآله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قائم بلا عمد، واحد بلا عدد، لا يفنى ولا يَبيد، ولا يكون إلا ما يُريد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خصه تعالى بجوامع الكلم، وغرر الحكم، علم المؤمنين الكتاب والحكمة. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. وبعد :
فالسنة راجعة في معناها إلى الكتاب، وهي في عمومها تفصيل لمجمله، وبيان لمشكله، وبسط لمُختصره، فلا تجد في السنة أمرا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية. لذا كانت منزلتها في التشريع بعد القرآن الكريم مباشرة.
الكلام في تعريف السنة :
أما تعريفها فلغة هي الطريقة المسلوكة أياًّ كانت حميدة أو ذميمة، ومنه قوله تعالى : { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً } .
واصطلاحا : فهي عند الأصوليين كلُّ ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - غير القرآن الكريم- من قول أو فعل أو تقرير. فالسنة أعم والحديث أخص ويُستعملان بمعنى الترادف.
الكلام في أنواعها :
والسنة ثلاثة أنواع : قولية وفعلية وتقريرية
ذلك أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسوله وأنزل عليه كتابه ليبلغه للناس ويبين لهم، { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } * { بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }. فكان بيانه تارة بكلام يخاطبهم به، وأخرى بفعل يفعله أمامهم يوضح به ما نزل مجملا، وتارة بتقريره بأن يسكت عمَّا يقع من أصحابه بعد علمه به .
أما السنة القولية : فهي الأحاديث التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مختلف الأغراض والمناسبات مثل : قوله عليه الصلاة والسلام " لا وصية لوارث" - متفق عليه-.
وقوله عليه الصلاة والسلام في البحر " هو الطهور ماؤه الحل ميتته" - ابن ماجة الحديث رقم 386-.
والسنة الفعلية : هي الأعمال التي قام بها عليه السلام على وجه البيان لما ورد في القرآن الكريم والتبليغ عن الله تبارك وتعالى للأمة الإسلامية. ومثال ذلك كيفية أداء الصلاة ولمناسك الحج، وكذا معاملاته في البيوع والتقاضي. ولا يُعتبر الفعل منه صلى الله عليه وسلم تشريعا إلا إذا قصد به التشريع دون بقية الأفعال الجبلية من أكل وشرب أو غيرها.
أما السنة التقريرية : فهي ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم مما صدر عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم من أقوال وأفعال:
فسكوته وعدم إنكاره أو موافقته واستحسانه يعتبر كأن الفعل أو القول صادر عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ومثال ذلك ما روي : " أن صحابيين خرجا في سفر فحضرتهما الصلاة ولم يجدا ماء فتيمما وصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر فلما قصا أمرهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمرهما أقر كلا منهما على ما فعل فقال للذي لم يعد :أصبت السنة وأجزأتك صلاتك وقال للذي أعاد: لك الأجر مرتين" - النسائي ج1 / ح 213-. ومثاله أيضا إقراره عليه السلام لمعاذ بن جبل على كيفية القضاء كما هو مشهور.
الكلام عن مراتبها :
أما مراتبها فنقول بتوفيق الله : أن الفعل منه عليه السلام يأتي في الدرجة الأولى من مراتب السنة، لأنه أبلغ من القول المجرد، ومن هذا القبيل ما روي عنه عليه السلام عن كيفية صلاته وحجه.
ومعظم السنة من باب القول، وتأتي في الدرجة الثانية بعد فعله عليه الصلاة والسلام، ومن السنة القولية ما روي عنه عليه السلام أنه قال : " لا صوم لمن لم يبيت الصيام من الليل" - الموطأ ج1 الصفحة 288-.
والقول منه إذا قارنه الفعل فذلك أبلغ ما يكون في التأسي بالنسبة للمكلفين، ومن هذا القبيل أداؤه للصلاة ومناسك الحج. وقوله : " خذوا عني مناسككم، وصلوا كما رأتموني أصلي" - البخاري ج2/ ح 637-.
أما إقراره عليه السلام فيأتي في الرتبة الأخيرة من هاته الأنواع الثلاثة. وسنة الصحابي رضوان الله عليه سنة يعمل بها، والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجد" - ابن ماجة في المقدمة-.
الكلام في حجية السنة:
والسنة حجة شرعية قولا كانت أو فعلا أو تقريرا ، يعمل بها متى نقلت إلينا بسند صحيح يُفيد القطع أو الظن الراجح وكان المقصود بها التشريع، وفي ذلك أدلة شرعية كثيرة منها قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسْتَغْفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً }* { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }. وقوله تعالى : { وَمَا آتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }. وقوله صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن يقعد الرجل متكئا على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا في من حرام حرمناه. ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله" - رواه أبو داود وأخرجه أحمد في مسنده / ج4 صفحة 132-.
وقد نفت الآية الخامسة والستون من سورة النساء الإيمان عن كل من لا يعمل بحديث رسول الله وسنته وما جاء فيها من أحكام شرعية لأن الأمر يقتضي الوجوب، وقد أمرنا بطاعة الرسول، فما علينا إلا أن نعمل بكل ما ورد إلينا عنه عليه الصلاة والسلام من سنة صحيحة. هذا ويرى الأصوليون أن الفعل منه عليه السلام دليل مطلق الإذن فيه، ما لم يدل دليل على غيره من قول أو قرينة حال أو غيرهما. ومثاله وصاله أحيانا ونهيه عليه السلام عن الوصال في الصوم.
ثم إذا قُرن الفعل بالقول كان ذلك في أعلى مراتب الصحة، بخلاف ما إذا لم يطابقه الفعل، لأن القول وإن اقتضى الصحة، فذلك لا يدل على أفضلية ولا مفضولية، اما إقراره عليه السلام فإذا وافق الفعل فهو صحيح في التأسي، أما إذا خالفه فهو غير صحيح. لذا فإقراره عليه السلام لا يدل على مطلق الجواز، لأن إقراره وإن اقتضى الصحة فالترك كالمعارض. ومثاله إعراضه عن سماع اللهو وإن كان مباحا. وتأتي السنة في الدرجة الثانية بعد القرآن في الحجية .
فماذا يقتضي هذا الترتيب ؟ وماذا يترتب عن ذلك ؟
يترتب عن ذلك أن المجتهد لا يعود إلى السنة للبحث عن حكم الواقعة أو النازلة المعروضة عليه إلا إذا لم يجد في القرآن حكما لها، ويؤكد ذلك :
- ورود السنة بعد القرآن في جميع النصوص الشرعية.
- كون القرآن مقطوعا به جملة وتفصيلا بخلاف السنة فهي مظنونة، وإذا صح القطع فيها فجملة لا تفصيلا، ومن ثم قدم المقطوع به على المظنون.
الكلام في أقسام السنة باعتبار سندها :
يقول الشيخ صبحي الصالح في كتابه "علوم الحديث ومصطلحه" : ( الحديث إما مقبول وهو الصحيح، وإما مردود وهو الضعيف، وهذا هو التقسيم الطبيعي الذي تندرج تحت نوعيه أقسام كثيرة أخرى تتفاوت صحة وضعفا بتفاوت أحوال الرواة وأحوال متون الأحاديث ) - صفحة 141-.
والسنة تنقسم باعتبار سندها إلى قسمين رئيسيين:
1- الأحاديث غير المتصلة السند: وهي الأحاديث التي توجد في سندها ثغرة أو ثغرات.
2- الأحاديث المتصلة السند : وهي الأحاديث التي رُويت عن راو توفرت فيه شروط الرواية عن راو مثله إلى أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع ثبوت معاصرة الصحابي للنبي وإن لم يثبت أنه التقى به حسب ما يشترطه الإمام مسلم. وتنقسم من حيث رواتها إلى ثلاثة أقسام :
* المتواتر : وهو في اصطلاح الأصوليين ما روي عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عن جماعة إلى أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأكثر المتواتر من السنة الفعلية ككيفة صلاته وكيفة أدائه لمناسك الحج، وأحاديث الصوم والآذان، وغير ذلك من شعائر الدين التي تلقاها المسلمون عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالمشاهدة أو السماع جموعا عن جموع من غير اختلاف في عصر من العصور، ومن السنة القولية المتواترة قوله صلى الله عليه وسلم : " من كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " - ابن ماجة / المقدمة . ح 30-
والحديث المتواتر عند الأصوليين قطعي الثبوت يفيد العلم اليقيني الضروري حيث لا يتطرق إليه الشك . وقد أجمع العلماء على حجيته ووجوب العمل به إذ له نفس القوة التي للقرآن فيكفر جاحده
. والسنة المتواترة تنسخ القرآن وتخصص عمومه وتقيد مطلقه .
* المشهور :وهو ما رواه عن الصحابة عدد لا يبلغ حد التواتر ثم تواتر في عهد التابعين وإن كان اشتهاره في عهد تابعي التابعين محل خلاف. والأحاديث المشهورة تفيد ظنا قريبا من اليقين لأنها قطعية الثبوت عن الصحابة، لذا يجب العمل بها وذلك لتنزه الصحابة عن الكذب وشهادة الله تعالى بصدقهم وعدالتهم في الكثير من الآيات، ومنها قوله تعالى : { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }
والأحاديث المشهورة كثيرة منها : " بني الإسلام على خمس... الحديث " - البخاري ص 47- ، و " لا ضرر ولا ضرار" - أحمد /ج1 ص 313-، و " لا تنكح المرأة على عمتها ولا المرأة على خالتها" -البخاري / نكاح- ، و " إنما الأعمال بالنيات ..." - البخاري كتاب بدء الوحي" . والأحاديث المشهورة تقيد مطلق القرآن ومثاله :
- حديث المغيرة بن شعبة في المسح على الخفين قيد به الأمر بغسل الرجلين في الوضوء.
- حديث " لا تنكح المرأة على عمتها ..." قيد به الحل في قوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ } في سورة النساء الآية 24.
- كما أنها تخصص عموم القرآن ومثال ذلك: حديث " نحن معاشر الأنبياء لا نورث" - البخاري كتاب الفرائض ح 6726- خصص به عموم المورث في آيات الفرائض.
- حديث " لا يرث القاتل شيئا " - أبو داود ج4 / 4564- خصص به عموم الوارث في الآيات.
* خبر الآحاد : وهو كل حديث رواه واحد او اثنان عن ذلك إلى أن يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، واختلف في خبر الآحاد هل يفيد العلم أي اليقين أم يفيد الظن على ثلاثة أقوال :
- أنه يفيد الظن وهو مذهب جمهور الأصوليين .
- أنه يفيد اليقين وهو رواية عن أحمد والظاهرية وبعض المالكية.
- قد يفيد اليقين إن وُجدت قرائن تفيد ذلك، وقد يفيد الظن وإن عري من القرائن.
ومذاهب الفقهاء في قبول خبر الآحاد والعمل به يمكن تلخيصها كالآتي :
- الحنفية يقبلون العمل بخبر الآحاد إذا كان راويه من الفقهاء الثقات عندهم ولا يعارض القياس.
- ومذهب الإمام مالك لا يقدم القياس على خبر الآحاد إلا في حالة التعارض وكان الخبر يعارض القواعد العامة أو الأصول الثابتة في الشريعة، ولم تؤيده قاعدة أخرى ترجح العمل بخبر الآحاد.
- أما مذهب الشافعية والحنابلة وجمهور الفقهاء وقول المتأخرين من المالكية فهو العمل بخبر الآحاد إذا ثبتت صحته وتقدمه على القياس.
الكلام في وظيفة السنة بالنسبة للقرآن الكريم :
بيّن الإمام الشافعي نسبة السنة إلى القرآن وحددها في أربع صور فقال رحمه الله تعالى : ( السنة إما أن تكون مقررة ومؤكدة حكما جاء في القرآن الكريم، أو مبينة وشارحة له، أو للاستدلال بها على النسخ أو منشئة حكما سكت عنه القرآن ..) - الرسالة، الصفحة 64-.
وهي كالآتي مع الشرح :
1 - سنة مقررة مؤكدة لحكم جاء في القرآن : وعندئذ يكون للحكم مصدران ودليلان : دليل مثبت من القرآن، ودليل من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كقوله : " استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان .." - ابن ماجة كتاب النكاح-. فإنه مؤكد لقوله تعالى :{ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً }.
ومن هذا النوع الأحاديث الآمرة بالصلاة والزكاة والحج وبر الوالدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأحاديث النهي عن الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس والزنا، وشرب الخمر ... إلى غير ذلك من الأحاديث التي دلّت عليها آيات القرآن الكريم وأيدتها السنة النبوية الشريفة.
2- سنة مبينة شارحة للقرآن: وهذا البيان على أوجه :
أ- أن تبين السنة مجمل القرآن : كما هو الشأن في الأحاديث التي فصلت كيفية إقامة الصلاة وأدائها على الوجه المطلوب، وكذلك الأحاديث التي فصلت فريضة إيتاء الزكاة، ونفس الشيء بالنسبة للأحاديث التي بينت مناسك الحج وغير ذلك من العبادات والمعاملات التي أجملها القرآن الكريم، وتناولتها السنة بالتوضيح والتبيين مصداقا لقوله تعالى { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }.
ب- أن تخصص السنة عامَّ القرآن: مثل نهيه عليه السلام عن : " أن تزوج المرأة على عمتها أو خالتها .. " فإنه مخصص لقوله تعالى بعد ذكر المحرمات من النساء : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ }. ومن ذلك أيضا قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ ...} فالولد جاء عاما في الآيات وخصصته السنة بألا يكون قاتلا أو كافرا.
ج- أن تقيد السنة مطلق القرآن : كما في قوله تعالى : { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } حيث إن القطع لم يقيد بموضع خاص ولا بقدر محدد فقيدته السنة بالرسغ وخصصته بالنصاب، وذلك الأمر في قوله تعالى : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } حيث أطلقت الوصية في الآية وقيدتها السنة بعدم الزيادة على الثلث.
3- سنة ناسخة لحكم ثابت بالقرآن : ومن ذلك الحديث : " لا وصية لوارث" حيث قال بعض الفقهاء إنه ناسخ لوجوب الوصية للوالدين في قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ }.
4- سنة مؤسسة ومنشئة لحكم غير وارد في القرآن : ومن هذا القبيل تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وتحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، وتحريم لبس الحرير والتختم بالذهب على الرجال، وكذا الأحكام المتعلقة بالذبائح والصيد ورجم الزاني المحصن.
وبناء على ما سبق قال الأصوليون : " الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب" كما قالوا: " السنة قاضية على الكتاب" - سنن الدارمي باب 48-.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه الفقير إلى رحمة ربه الغني القدير الملقب : بـ "ابن عبد البر الصغير ".
عفا الله عنه وعن والديه وجميع المسلمين، حامدا الله سبحانه وتعالى مصليا على رسوله محمد وآله وأصحابه الطيبين الطاهرين.