المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إفحام اللادينية



ابن عبد البر الصغير
06-15-2013, 01:50 AM
هذه مداخلة اقتطفتها من مناظرتي الأولى مع الزميل الربوبي (http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?35418-%CD%E6%C7%D1-%C8%ED%E4-%E3%D3%E1%E3-%E6%E1%C7%CF%ED%E4%ED-%C7%C8%E4-%DA%C8%CF-%C7%E1%C8%D1-%E6%C7%E1%D1%C8%E6%C8%ED)، آثرت إفرادها عوض تركها ضمنا داخلها، لينتبه إليها أحد اللادينيين، عسى أن يتذكر و { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }، ولينتفع بها إخواني حين مباحثة أو مدارسة، عسى ينالني منها حظ في سبيل الله أو دعوة بظهر الغيب .


الحمد لله الواحد الذي لا يفنى ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يُريد، والصلاة والسلام على رسوله المرتضى، ونبيه المجتبى، المبعوث رحمة للعالمين. أما بعد ..


فسعيد لأنك يا زميلي تجاوزتَ النقط التي قد تؤدي بنا إلى المتاهات والتفريعات، وتجاوزا مني لما قد يخل بالنقاش ودفعا بمسار المناظرة فإني أعلق على جزئيتين رئيسيتين أولاهما :


1- الحكمة من سؤالي عن مصادرك



فأقول وبالله التوفيق : أن العقلاء اتفقوا في باب الاختيار، أن المختار لا يغير معتقده إلا إذا ترجح عنده فساد القديم وصلاح الجديد ، بمعنى أن المختار ما غير قناعاته إلا عند رجحان مذهبه الجديد وتفوقه على الأول. ولا يخفى أن المذاهب الفكرية المعاصرة يُراد لها ان تحل محل الأديان والشرائع، فلزم من ذلك تغطية الأولى لكل أدوار الثانية ، دورا دورا ووظيفة وظيفة، فتكون وظيفة الدين في حالته الشمولية حسب علم الاجتماع ملخصة في ست وظائف كبرى :

- الوظيفة التفسيرية : أي تفسير ظواهر الكون والإجابة على التساؤلات الوجودية المحيطة بالإنسان، حول حكمة الخلق والتعريف بالخالق ودور الإنسان في الحياة وما بعد الموت ،ودفع العدمية .

- الوظيفة التلقينية : وهو تلقين الناس لفسلفة الدين في الحياة والمجتمع وغيره .

- الوظيفة التطمينية : أي تطمين الأتباع على مصيرهم ما بعد الموت، ومعرفة المُنجي من المُهلك، وتحذير المخالفين.

- الوظيفة التأديبية : وهو ما يتعلق بالأخلاق والعبادات والمعاملات .

- الوظيفة التشريعية : سن القوانين الكفيلة بحماية حقوق الفرد والجماعة، ومعرفة الحلال والحرام ...

- الوظيفة النفسانواجتماعية : تحقيق الاستقرار للفرد والجماعة وضمان الوحدة التناغم الثقافي بين أفراد الدولة.

هذه الوظائف الكبرى لا تتحقق إلا بوجود : عقيدة، ومرجع، وعبادات، ودعوة. فإن اختلت أحد هذه الشروط استحال تحقيق هذه الوظائف .

فالمختار عقلا يستحيل أن يبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ، فلزم أن المذهب اللاديني وجب أن يكون له مصدرٌ لتعريف الناس بفلسفته ونظرته، ولتحقيق الوظائف الست الكبرى. وإلا كان عاجزا عن القيام بوظائف الدين، مغرقا الناس في عدمية مادية مهلكة ، ليكون توصيفه الدقيق : نحلة فكرية مهلهلة لا ضابط لها ولا وحدة .

فأخرج لي مصدرك الجامع الدال على عقيدك ؟ وهل ترى ان المذهب اللاديني قادر على تغطية الوظائف الدينية ؟ وإلا { أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ } .


أما بخصوص النقطة الثانية : وهي مسألة الحياد الإلهي


فأقول : أن هذا أول مأزق من مآزق اللادينية، وهو القول على الله بغير بينة ولا دليل ، فقد طالبتك ببراهين دالة على مذهبك في هذه الجزئية، فما كان جوابك إلا كلاما مُرسلا من أَضراب أظن وأعتقد، وحضرتك تعلم بأن كلمة " أظن " و " أعتقد " لا وزن لها في مناظرة عقلية منطقية تقوم على الأدلة والبراهين ،{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}.

ومنطقنا أيها الزميل قائم على البينة على من ادعى، فأنتَ تدَّعي ان الله لم ينزل دينا ولم يكلم رسولا، ونحن أحرى بمطالبتك بالدليل على هذا المذهب { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } .

وهذه أزمة المذهب اللاديني جملة وتفصيلا، وقد سبق أن قرأتُ لرواد في هذا المذهب يبنون نظريات شاهقة على أساس ظني سافل ضعيف، ففرويد على جلالة قدره في علم النفس الديني، بدأ كتابه "الطوطم والطابو" بكلمة : "كان في قديم الزمان ..." فتأمل !!.

مما جعلني أتأكد بأن المذهب اللاديني مبني على هوى النفس وليس على أصول منطقية قوية وأركان عقلية محكمة {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ}. وأظنك أيها الزميل ما دخلتَ لمنتدانا هذا لو لم تحس ما سبق ذكره آنفا .

فتكون الأسئلة التي ستصطدم بها هي كالآتي :


كيف عَلمتَ أن الرب الخالق لم ينزل دينا ؟؟؟ فهل كلمّك أو حدثك وأخبرك بأن العقل يُغني عن الدين ؟

وحاصل سؤالي للتبسيط أكثر : ما دليلك على أن الله عز وجل ارتضى للبشرية اللادينية ؟ وأنّك على الملة الصحيحة ؟



اما أدلتنا على بعثة الرسل وإنزال الشرائع ونقض مبدأ الحياد الإلهي . فأقول وبالله التوفيق :

أن انعدام الدليل عند المخالف، دليل ، بمعنى أناَّ نقول بأن صدق الدعوى من عدمه يكون مرتهنا بحجم أدلتها، مفروضا بقوة حججها، فإن انعدمت هذه الحجج والبراهين جملة وتفصيلا، كانت الدعوى مجرد سفسطة مرسلة لا شيء يعضدها، فيكون نقيضها أولى بالتسليم وأحق بالتصديق لأن مانع القضية السالبة يسلم جدلاً بنقيضها ولا دفع لمنعه . و مانع القضية العقلية يسلم جدلا بالمقدَّم، وعلى المدعي دفع المنع بإثبات النقيض .

تماما مثل الملحد الذي يُريد ان يدلس على المؤمن أو اللاديني، فيطالبه بالدليل على وجود الله تعالى، فنواجهه بالقول أنه هو المطالب بإثبات النقيض ولسنا نحن { أَفِي ٱللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ}. لأن الجائز العقلي لا يُنفى من أجل مستحيل عقلي ، فإن كان هذا في الجائز، فالواجب العقلي أحق بهذه القاعدة من الجائز ، خاصة وأن فطرة العقل دالة عليه ببراهين أخرى .وقس على هذا قولك، لأن الأصل ليس في عدم إنزال الشرائع والحياد، بل الأصل هو إرسال الرسل وتدبير الكون وغيره، فتكون مطالبا بالدليل لأنك ادعيتَ النقيض .

ثم نسأل المخالف، هل إرسال الرسل وإنزال الكتب وتدبير الكون هو واقع عندكم في باب الإمكان العقلي أم الممتنع ؟ فإن قلتَ من باب الإمكان فقد وافقت فطرة العقل، وإن قلتَ بالاستحالة فقد خالفتَ المقتضى، فنسألك حينها عن المانع العقلي لذلك ؟


فإن العقل دلَّ على ان الباري سبحانه متصف بصفات الكمال، يستحيل في حقه سبحانه صفات النقص، فإن قُلتَ بأن الله متصف بالحكمة والقدرة والكلام، وانه قادر على إرسال الرسل وإنزال الشرائع وتدبير الكون وأحوال المخلوقات وعنايته بهم، وجب عليك بداهة الإيمان بدين أنزله ليعرف الناس به، فالإنسان له مدارك ناقصة، والغيبي لا يتوصل إليه بالتأمل إنما بالخبر عن رب العزة ، فقد أتوصل إلى وجود الله وعلى طرف من صفاته عقلا، لكني لا أستطيع معرفة ما يريده منا تفصيلا. فالقدرة تنفي الممتنع.

وكمال حكمته تقتضي بأن لا يخلق عباده ويتركهم هملا، لا يعرفهم بنفسه، ولا أمر لهم جامع، ولا نهي لهم مانع . فتكون اللادينية قد نفت الحكمة عن الخالق بإقرارها مبدأ الحياد.

وكمال ألوهيته أن يكون مطاعا، ومعرفة ذلك لا يكون إلا بالرسل .

وكمال ربوبيته أن يقيم الحجة على الخلق لأن الجزاء لا يكون إلا بعد الإنذار، ومعتقدك بالبعث والجزاء ينسب الظلم له - وحاشاه- فكيف يعذب شخصا لا يعلم أوامره ونواهيه وما يريد منه ؟ فكان مقتضى ذلك إرسال الرسل .

وكمال ملكه وسلطانه، بتدبير شؤون الكون وإنزال الشريعة .

فيكون معتقدك ناسبا إلى الخالق صفات نقص، وذلك يتجلى في :

-إهماله لعباده وعدم إنزاله لدين يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقد عُلم أن الباطل كثير ذو وجوه عديدة، فهذا يهوي ساجدا لحيوان، وذاك يعبد بشرا، وآخر يدعوا صنما، والرابع ملحد، والخامس يعبد شيطانا، والسادس يعبد كوكبا إلى آخره ..فكان الأولى إذ خلقهم أن لا يدعهم هملا دون استدلال، وقد علم أنهم ليسوا على قدر واحد في العلم والفهم، فلم يُنزل دينا كي يعرفنا بنفسه، وترك البشرية تتخبط وحدها تبحث عن الخالق.

- قد عُلم أن البشرية تشقى في إطار القوانين الوضعية ، التي سببت التعاسة للناس حيث طغت العدمية والمادية على حياة البشر، فكثرت نسب الجريمة، من قتل واغتصاب غيرها، وطغت الآفات النفسية وهذا باعتراف علماء الاجتماع والنفس، فكان أن الله حسب معتقدك، ترك الناس تموج هذا الموج، فلا هو جبر الناس على عقل واحد يُهتدى به لمنهج واحد يحقق للناس آمالهم، ولا تدخل بإنزال دين يحقق السعادة والرخاء للبشرية باحتكامهم إليه.

- أنه أودع في النفس محبة الدين بمعتقداته وروحانياته كمحبة العبادات والطقوس الدينية، فكان أن معتقدك نسب له الخطأ في ذلك، فلم ينزل دينا ذو عبادات حتى يرضي هذه النفوس التواقة.

- أن الإنسان تواق للمعرفة ، يشرئب عنقه لكل حديث عن ما بعد الموت، يحب أن يَعلم مصيره بعده، وهل هو على الحق أم على الباطل مستحق لما سيأتي بعده أم غير مستحق، فإن لم يعلم ذلك قضت مضاجعه الأفكار من كل جانب، فحل عليه الضنك من حيث لا يدري، فتركه الخالق بمعتقدك يعيش هذا.

- أنه أودع في الإنسان مسألة التمحيص والاختيار ، لأنه كائن متدين رامز، فترى الناس تُقبل على المباحثات العقدية والدينية أياًّ كانت مهنهم، يتحاورون بينهم سواء في الجزئيات أو الكليات أو حتى في أديان وملل أخرى، فإن كان الإنسان ميالا للاختيار بين الأديان والأفكار فلماذا جعل الله فيه هذه الصفة إن لم ينزل دينا ؟ .

- قصور العقل عن معرفة أجوبة الأسئلة الوجودية التي تعتري الإنسان، وقد اتفق علماء الاجتماع على أن الإنسان كائن رامز يستحيل أن يعيش دون ترميز الظواهر حوله، فالعقل قاصر عن معرفة ما يريده الله منا تفصيلا، وذلك كمعرفة غاية الخلق، وما بعد الموت ولماذا الموت، ومن هو هذا الخالق، هل هناك بعث ؟ هل هناك جزاء وغيره .

- أن معتقدك ينسب الظلم ، فقد قلتَ بأن الله سيحاسب البشرية وهو لم ينزل دينا ولا إنذارا يعرف الناس به وبما يريده منهم تفصيلا ليجتنب العاقل عقوبته وتقوم الحجة على المسيء المشاكس .



فيكون الممكن العقلي مرتقيا إلى درجة الواجب، لما عُلم من مفاسد . فيكون الحياد الإلهي هو الممتنع العقلي الذي يلزمه أدلة تعضده .




وأكتفي بهذا القدر في بيان النقطة، محتفظا ببعض الإلزامات الأخرى لعلنا نحتاجها مستقبلا، والحمد لله رب العالمين.