المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (فلسفة النسبية العامة وماهية الزمان والمكان) لأبي الفداء



د. هشام عزمي
06-28-2013, 09:32 PM
فلسفة النسبية العامة وماهية الزمان والمكان
من كتاب (آلة الموحدين في كشف خرافات الطبيعيين) لأبي الفداء
..
وفي الواقع فإنَ هذا الخلل الفلسفي المتعلق بتصور الزمان والمكان عند عامة الفيزيائيين المعاصرين يرجع إلى أينشتاين نفسه في تصوره الأول للنسبية العامة, كما أشرنا آنفاً, فقد كان تصور أينشتاين للزمان والمكان أنهما كيان أنطولوجي موجود خارج الذهن, ليس يتأثر بالجاذبية فينحني على حسب النظام الهندسي الذي يتصوره أستاذه منكوفسكي للعلاقة بين الزمان والمكان, بل إنه هو الجاذبية نفسها في الحقيقة, مع أن الانحناء الذي تعبر عنه تلك المنظومة الزمانكانية الرياضية ليس في الحقيقة (فيما دلتنا عليه المشاهدة) إلا انحناءَ لمسارات حركة الأجسام في الفراغ تحت تأثير نظام سببي مازلنا لا ندري ما حقيقته, مع اصطلاحنا على تسميته بالجاذبية!
ولعل السبب في أن استمرار الجدال الفلسفي إلى الآن في حقيقة كل من الزمان والفراغ ومنازعة كثير من الفلاسفة لأينشتاين ومن تابعوه في ذلك لم يؤثر على قبول الفيزيائيين للنموذج الرياضي الذي تعتمده النسبية العامة, يكمن في كون تلك النموذج يعطي تصويرا هندسيَا جيدا لتأثير الجاذبية على حركة الأجسام والضوء في الفراغ كما نراها في الواقع, وقد ثبتت صحة تصور أينشتاين لتلك الانحناءات في مسارات الأجسام أشعة الضوء تحت تأثير الجاذبية مراراَ وتكراراَ, فهو – أي نموذج النسبية العامة الرياضي – يبدو مناسباَ لذلك الغرض الوصفي للحركة تحت تأثير الجاذبية, بغض النظر عن التصور الأنطولوجي (أو الميتافزيقي عند بعضهم)لحقيقة كل من الزمان والفراغ والجاذبية فيما يسمى "بالزمكان" عند الطبيعيين.
فسواء كان المعتقد الفلسفي في البناء الهندسي لذلك النموذج مقصوراَ في إرجاع حقيقته إلى كونه مجرد تصور إبستمولوجي رياضي تجريدي لتتابع الأحداث وعلاقات عناصر ببعضها البعض كما يشتمل عليها الفراغ (في معناه اللغوي المجرد) كما تصور لايبنيز (كان لايبينيز َمتمسكاَ بالقول أن الفراغ ليس شيئاَ موجوداَ وإنما هو تصور ذهني نابع من وصفنا للعلاقات بين الأشياء), أو متمثلاَ في تصور أن الزمكان هذا نفسه كيان أنطولوجي أو فزيقي حقيقي موجود في الواقع, خارج عن مادة تلك الأجسام المتحركة أو داخل فيها أو مكمل لها أو غير ذلك مما يعتقده "مجسمة الزمكان", (كما تصوره أينشتاين في سنة 1913 الميلادية, وتوسع فيه فيما بعد "الجونات الثلاثة": جون إيرمان وجون ستاشل وجون نورتون) فإن التعبير الرياضي لنموذج النسبية العامة عن كثير مما يجري في الواقع من صور العلاقة بين الجاذبية (أياَ كانت حقيقتها) وحركة الأجسام في الفراغ (في صورة تتابع للأحداث) يظل صحيحاَ مقبولاَ بإجمال, ويظل هو السبب الأساسي لتمسك الطبيعيين به.
فالمشكلة على هذا التقرير أيها القارئ الكريم, ليست في التعبير الهندسي للنسبية العامة عما نراه واقعاَ وما نرصده عيانا من نظام الأجرام السماوية كما تقدم, إنما المشكلة تكمن في الأساس العقلي والفلسفي الذي يقوم عليه هذا النموذج الهندسي نفسه! وهذا يعني –إن صح- أن الفساد ضارب في أصل النسبية العامة نفسها, أن الحاجة تمس لنبذها بالكلية لصالح نموذج رياضي آخر لا يعاني من هذا الخلف العقلي الأنطولوجي, كمان نبذ القوم نموذج نيوتن لصالحها! ومن يدري؟ لعل الفيزياء إن قدر لها أن تتحرر في يوم من الأيام من قبضة أينشتاين ومن سحر النسبية العامة لعقول الفيزيائيين, فسيظهر في الأفق بناء نظري جديد يزول معه ذلك الإشكال الكبير (بكل المقاييس) الذي يعانيه الفيزيائيون اليوم في محاولتهم الجمع بين نظريات عالم الذرة ونظريات عالم الذرة ونظريات عالم الأجرام السماوية الكبيرة!
إن فكرة كون الزمان والفراغ شيئان واقعيان متلاحمان أنطولوجياَ على هيئة "نسيج" أو سطح أو جسم أو نحو ذلك مما يفترض وجوده في الخارج بمقتضى التصور الهندسي النسبائي المجرد, هذه مغالطة عقلية وتناقض منطقي ولغوي في الحقيقة وليس موقفاَ مستساغاَ من الناحية الفلسفية كما يحلو لعامة فلاسفة العلم المعاصرين أن يصوروه, ولك أن تتأمل كيف أن منطق هذا النسيج المزعوم يقوم على تفسير حركة أي جسيم حر في الفضاء (التي تكون مستقيمة في معزل عن أي تأثير خارجي) على أنها في واقع الأمر مستقيمة (على خط مستقيم) وإنما تبدو لنا منحنية في بعض الأحيان بسبب إنحناء الزمكان في الواقع حول الأجسام الكثيفة! بمعنى أن الجسم يتحرك على خط مستقيم في الفراغ في الواقع ولكننا نراه منحنياَ بسبب انحناء الزمكان نفسه حول الأجسام الثقيلة (فيما يقال له الجاذبية)! إذن فنحن لانرى الأشياء تتحرك في الفراغ (كما هو معقول اللغة) إنما نراها عند الرصد تتحرك في هذا النسيج الذي يقال له الزمكان, ولهذا تظهر لنا منحنية مع أنها في الحقيقة تمشي على خط مستقيم! فتأمل كيف تحول الزمن - بالفعل- في مفهومهم الأنطولوجي للزمكان إلى شئ سحري غامض مركب في "نسيج الكون" قد يجعلنا نرى واقعاَ غير الواقع, ونرى الحركة لا في الفراغ (الذي نفهمه في لغتنا وبداهة عقولنا على أنه وصف العلاقات المكانية للأجسام) ولكن في مزيج أنطولوجي من الفراغ والزمان, فإذا بنا نصف الأشياء بغير ماهي عليه بالحقيقة! كل هذه الدعاوي الأنطولوجية الثقيلة المنطوية على تناقضات لا تخفى, وميتافزيقا تقلب اللغة الطبيعية رأساَ على عقب كما ترى, يقبلها القوم من أينشتاين من أجل ماذا؟ حتى يلزموا أنفسهم بتفسيره لثبات سرعة الضوء؟ شئ عجيب حقاَ, ويحتاج من الرياضيين إلى كثير من التأمل والمراجعة فيما أزعم, وأعني المراجهة الصادقة المتجردة, لا كما غرق فية الفلاسفة من تصنيف العقائد والأفكار السائدة, والتلاعب في التأويل والتسويغ تحت رواية الإعضال والإشكال, والتعلق بأي موقف يروق للواحد منهم لا لشئ إلا لأنه قد قال به غير واحد من أقرانه حتى بات مذهباَ له أنصاره أيا ما كان! فإنه لا ينبغي بحال من الأحوال أن يستجاز خرق البديهيات العقلية وقلب اللغة الطبيعية رأساَ على عقب, في سبيل تفسير ظاهرة من الظواهر المحسوسه! ولا ينبغي أن نرضى بأن يقودنا هذا النموذج الرياضي الهندسي أو ذاك إلى التناقضات العقلية, ونصر على التمسك به لمجرد أن رأيناه يصف بعض المشاهدات وصفاَ صحيحاَ!
فعندما يصل الأمر إلى تصور أن سائر الأحداث الماضية والحاضرة والمستقبلة, كلها موجودة "الآن" تحقيقاَ في الواقع (خارج الذهن) على نسيج الزمكان هذا, بما يجيز لمن يملك أسباب التنقل بين تلك الأحداث أن يتحرك عبر كل من الزمان والفراغ معاَ إن استطاع ذلك, حركة حرة لا حقيقة فيها للماضي والحاضر والمستقبل, أو أن يرى الحوادث كلها معاَ في آن واحد (ما وقع منها ولا لم يقع بعد), فإن هذا حقيقة التناقض اللغوي والمنطقي الفج, وهو هدم فعلي لمعنى كلمة "الآن" نفسها في اللغة الطبيعية, ولا ينبغي أن يرتضيه الفلاسفة! بل لا يحتاج العاقل إلى أن يكون من الفلاسفة أو المناطقة حتى يرى أن مجرد قولنا أن الماضي موجود الآن في الواقع – مثلا – حقيقتها التناقض, لآن كل ما جاز في اللغة أن يقال له إنه ماضي فقد مضى وانتهى وانقضى ولا وجود له الآن (فهي حال كنا عليها ثم تغيرت وانتهت), وكل ما جاز في اللغة أن يقال له حاضر (الآن) فلم يكن له موجود في الماضي عندما كان ذلك الماضي هو حاضر الزمان! فبأي عقل يجتمع الماضي والحاضر في كيان أنطولوجي أو فزيقي واحد يتطلع الفيزيائيون إلى إكتشاف كيفية التنقل عليه بغير تقيد بما تقتضيه البداهة اللغوية والعقلية من كون الماضي ماضياَ منتهياَ في الواقع وكون الحاضر حاضراَ مشاهداَ في الواقع, وكون المستقبل وأحداثاَ وأحوالاَ غيبية لم تقع بعد ولا وجود لها الآن في الواقع؟ وإذا كان الفراغ هو تصورنا العقلي للعلاقات المكانية بين الأشياء في كل حال من أحوالها, وكان الزمان هو تتابع تلك الأحوال حالاَ بعد حال, فبأي عقل يتصور وجود نسيج ما أو كيان ما في خارج الذهن يجمع تلك المعاني اللغوية المجردة ليحتوي الأجسام والطاقات وسائر عناصر الكون في إطاره على نحو ما يتصور "مجسمة الزمكان"؟
إن المعاني المجردة في الذهن التي تعبر عن علاقات الأشياء بعضها ببعض لا يعقل أصلاَ أن تتحول إلى كيانات أنطولوجية موجودة في الخارج! تماما كما ليس هناك شئ في الخارج (أنطولوجي) اسمه "فوق" وآخر اسمه "تحت" بحيث نتطلع في يوم من الأيام إلى أن ندرس الخصائص الفزيقية "للفوق" و "التحت" ونخضعه للإختبار الإمبريقي, فكذلك يقال في كل من "الفراغ" و "الزمان" المعاني اللغوية المجردة لا وجود لها خارج الذهن, وإنما يوجد في الواقع ما تعبر عنه تلك المعاني من أعيان أو صفات أو أحوال وعلاقات, فليست تلك المعاني أعياناَ في الخارج, ولا هي مقصورة على التعبير في لغة الإنسان عن أعيان في الواقع بالضرورة! فلا يعقل مثلا أن نتصور أن "السرعة" التي يتحرك بها جسم ما, يمكن أن نراها في الواقع في يوم من الأيام على هيئة أشرطة أو مسطحات فزيقية أو نحو ذلك (كما نمثلها رياضياَ بالخطوط على الورق), حتى إذا ما أمسكنا بتلك الأشرطة – مثلا – في الواقع أمكننا أن نتحكم في تلك الصفة للجسيم الموصوف بها! فنحن من الأصل لا نستعمل كلمة "سرعة" للتعبير عن كيان أو عين واقعية, وإنما نصف بها حالاَ متغيرة! فهي ليست الا معنى لغوي مجرد نصف به معدل حركة الجسم في المكان على مر الزمن! فعندما ينسى الفيزيائي أن ذلك المنحنى أو الخط المستقيم الذي يرسمه على الورقة بين نقطتين عند تتبعه لحركة جسم ما أو لتاريخ جسم ما في إطار الزمكان (مثلا) ليس الا تجريداَ هندسياَ لتتابع أحوال ذلك الجسم في الفراغ إنتقاله من حال إلى حال, فإذا به يتصور لذلك الخط أو المنحنى وجوداَ أنطولوجياَخارج الذهن = فإن هذا وهم عقلي لا ينبغي أن يعامل معاملة الموقف الفلسفي المقبول أو المستساغ!
لا مانع عندنا من تصور شئ كالأثير – مثلا - يربط بين الأجسام والطاقات ويملأ فراغ الكون المنظور بأكمله (وإن كان زعماَ عريضاَ من الناحية الأنطولوجية), ولكن أن يقال أن هذا الشئ هو حقية ما نسميه في اللغة بالفراغ أو المكان, فضلاَ عن أن يكون نسيجاَ جامعاَ لكل من المكان والزمان في شئ واحد, فهذا ما ندعو عقلاء المسلمين إلى تدقيق النظر في معناه وإلى التأمل في تبعاته ولوازمه الفلسفية الخطيرة.
ولو كنت فاعلاَ لكفاني أن أقرر ها هنا أن فكرة انحناء مسار الزمن حتى ينقلب المستقبل ماضياَ والماضي مستقبلاَ, وحتى يؤثر المسبب في سببه ويتأثر السبب بمسببه = هذه فكرة سخيفة جلية البطلان, ولا ينبغي لعاقل قط أن يستسيغ العبث بقاعدة السببية حتى ينتصر لفرضية جاءت من حله المبتكر لمعادلات النسبية! هذا جوابي يبدو واضحاَ للغاية, فلماذا لا يكفيهم مثل هذا الجواب؟
لأنه بمنتهى السهولة, لايمكن التقدم به كورقة بحثية في مؤتمر أو دورية عالمية للفيزياء! لأنه يسفه أحلام كثير منهم! فكأنما يقول قائلهم بلسان الحال: "كيف تروم الاعتراض على فكرة من أفكار النسبية العامة بما يرجع على أصلها النظري بالمراجعة والتقويم, دون استعمال معادلات النسبية نفسها في ذلك, أو دون أن تكون المحاججة قوامها الاستنباط الرياضي الصرف؟ أما علمت أن الفلاسفة كانوا ولا يزالون مختلفين ولا ينقضي خلافهم؟", والعاقل المنصف يدري أنه لا إشكال في أن يكون الطرح الفلسفي من خارج دائرة التخصص, باعثاَ على النظر والمراجعة في هذه النظرية أو تلك داخل دائرة التخصص, فالعبرة عند عقلاء الباحثين إنما تكون بالدليل وقوته لا بالسلطة المعرفية! ولكن هذا أمر يشهدون به ويقبلونه ما كانت ثمرته على الهوى والمزاج, أما إن جاءت على خلاف ذلك فلا!
فالواقع أن هذا الإشكال الذي يبحثه هوكينغ في ورقته تلك له نظائر رياضية تتفاوت في مقدار ما فيها من إشكال منقطي, قد امتلأ بها تاريخ الفيزياء المعاصرة من بدايات النصف الأول من القرن الماضي, أو بالأحرى مذ انتقلت الفيزياء من الهندسة الإقليدية إلى الهندسة غير الإقليدية على يد أينشتاين! لقد أراد أينشتاين أن يفسر ظاهرة الجاذبية تفسيراَ هندسياَ محضاَ, لا على أنها قوة كما عند نيوتن ولا على أنها تفاعل لجسيمات ذرية دقيقة كما تقتضيه ميكانيكا الكم, ولكن على أنها نتاج هندسة الزمكان نفسها! ومنذ ذلك الحين, نزل بساحة الفيزيائيين جملة من الأفكار الرياضية المحيرة بل المتناقضة (أنطولوجيا) تحت راية النسبية العامة, بلغت أن قيل فيها تلك المقولة الشهيرة أن النسبية لا يفهمها حق الفهم إلا القلة من الفيزيائيين! هذه الصفة لتلك النظرية هي – في نفسها – من أسباب هذه الذي نراه من استساغة بعض الباحثين في النسبية العامة للمتناقضات العقلية الجلية, لتسويغ هذا الحل أو ذاك لمعادلات أينشتاين على أشكال هندسية افتراضية تجيزها رياضيات "الزمكان". ثم ترى بعضهم لا يجد إشكالا –البته- في الكلام عن هيكل "الزمكان" هذا وكأنه شئ مادي يمكن لجسم ما أن يحنيه أو يقلبه أو يتحرك في عكس اتجاهه.. إلخ! وترى بعضهم يبلغ أن يدعي أن انقلاب السببية داخل تلك "الزمكانات المغلقة" لا إشكال فيه لأنه لن يلحظه إلا الراصد من نظام زمكاني معين دون غيره, فتراهم يجيزون انعكاس السببية مادام ذلك الانعكاس – بزعمهم – لم يكون إلا في عين هذا الراصد أو ذاك! بمعنى أنه مما يصح في عقولهم أن تجري الأحداث في نظام زمكاني (حركي) معين على نحو تكون فيه الواقعة (أ) التي سبب الواقعة (ب) سابقة عليها في غين الراصد الداخلي, بينما تكون متأخرة عليها في عين الراصد الخارجي, أو العكس! ومن ثم نرى مولد نظرية فلسفية بعد – حداثية جديدة في مسألة السببية تجعلها أمراَ أنطولوجياَ نسبياَ يقال له السببية النسبانية, لتنضم قاعدة السببية إلى غيرها من القضايا العقلية التى ادعى بعض الفلاسفة نسبيتها كقضية الحق والأخلاق وغيرها, وإذا بالمحال العقلي يصبح ممكنا تحت هذه الاسم الجديد ولا إشكال!
لا إشكال عند القوم في شئ من ذلك أصلا, مادام البحث والتنظير "العلمي" مستمراَ في طريق يخدم عقائدهم!
تقدم أن عامة الطبيعيين يؤمنون بأن أينشتاين قد تمكن من إثبات أن الماضي والحاضر والمستقبل كلها أشياء أنطولوجية موجودة الآن في الواقع تحقيقاَ, في إطار ما يسمى بالزمكان, ومستند ذلك عندهم يبدأ من مسألة تقاصر الزمان في النسبية الخاصة, يقولون بما أن الرصد (ر1) المتحرك بسرعة ما يتباطأ الزمان الذي يقاس على ساعته عما يقاس على ساعة راصد آخر (ر2) في حالة سكون, فإن هذا يعني أن ما يعده (ر1) هو الحاضر في حال حركته, لن يكون مايعده (ر2) هو الحاضر نفس اللحظة, بل سيكون ماضياَ بالنسبة له! ومن ثم ففي لأي لحظة في أثناء حركة (ر1), سيكون الحاضر الذي يقع الآن بالنسبة له, هو شئ من الماضي قد وقع بالفعل بالنسبة للراصد الساكن (ر2)! ولكن هذا التصور لمفهوم تباطؤ الزمان فيه مغالطة أنطولوجية كبيرة. فصحيح أن الساعة في يد (ر1) قد تحركت بصورة أبطأ بالنسبة للساعة في يد (ر2) ولكن هذا لايعني ولا يلزم منه أصلاَ, أن يكون ثمة شئ أنطولوجي واقعي اسمه الزمان هو موجود الآن بالفعل,’ قد سبق (ر1) إليه, سواء بإطلاق أو بالنسبة له وحده! صحيح أن الزمان في حقيقته ليس إلا أقيستنا النسبية للحركة, ولكن سواء (ر1) أو (ر2) أو أي راصد في أي نقطة من نقاط الأرض, فإنهم جميعاَ يشتركون – بضرورة العقل – في لحظة واحدة يقال لها " الآن", بالنسبة لأي نظام حركي تكراري مستقر ننسب إليه قياسنا للزمن, كالحركة النسبية التتابعية بين الشمس والأرض مثلاَ, أما ما نسميه بتباطؤ الزمان الذي يقاس على ساعة أينشتاين, فليس إلا تباطؤ للحركة في إطار حركي ما, بالنسبة إلى نظام حركي آخر, فإن اشترك كلا النظامين في مرجعية قياس واحدة للزمان (كأن يتفقا على نقل المرجعية من الساعات الملفوفة حول معصم كل منهما إلى الساعة الذرية في فرنسا مثلاَ) فسيزول هذا التفاوت المتوهم بينهما ولا شك, ولن يصلح بحال أن يقال إن النظام 1 واقع الآن في لحظة من لحظات الزمان لم يصل إليها النظام 2 بعد!
والقصد أنه لا يعقل أن يقال أن جسماَ ما في الفضاء البعيد هو "الآن" في المستقبل (أو في الماضي) بالنسبة لي! هذا يعني أني أقول – في اللغة, وتأمل هذا جيداَ- أن قولي أن الجسم (س) موجود الآن في النقطة (ن) في الفضاء يستوي في المعنى بقولي " إن الجسم (س) سيوجد فالمستقبل في النقطة (ن) في الفضاء "! وهذا تناقض لغوي واضح! لايمكن أن يصح في العقل أن يكون حاضري أنا هو ماض غيري, ومستقبل غيري هو حاضري, علماَ بأننا نعتقد أننا نشترك جميعاَ في الوجود في لحظة يقال لها "الآن" بصرف النظر عن النظام الحركي القياسي الذي نسبناها فيه إلى ما قبلها (كقولنا الساعة الآن كذا أو نحو ذلك)! لايصح في اللغة (ومن ثم في بداهة العقل) أن يقال " إن كل ما كان موجوداَ في الماضي وكل ما سيكون موجوداَ في المستقبل " موجود الآن"هذا يعني أن معنى الحاضر قد انطبق على معنى الماضي والمستقبل, وهو تناقض واضح!
أي مرجعية قياسية هذه التي أخرج الفيزيائيون بها انفسهم من سياق تتابع أحداث الكون في كل مكان, ليزعموا أن جميع تلك الأحداث المتتابعة موجودة "الآن" بالنسبة لها؟ ومامعنى الحدوث والحركة أصلاَ أن سلمنا بوجود هذا الزمكان في الواقع خارج الذهن؟ لو تصورنا الزمكان هذا على أنه جسم مثلاَ بحيث لو قطعنا في أي جزء منه فسنرى أحداثاَ تجري في لحظة ما, فما معنى جريان الحوادث أصلاَ وهو أمامنا شئ ساكن لا حقيقة لأي حركة فيه ولا لأي حدوث إلا تلك الصورة التي نراها على أي مقطع منه؟ لهذا نقول إن تحويل الزمكان إلى كيان أنطولوجي حقيقي على هذا النحو مغالطة عقلية كبرى فالجاذبية حقيقة لها – ولا بد- سببها ( أو أسبابها ) الذي يعمل في الفراغ بين حول ( أوبمعبدة من ) الأجسام التي تيدو وكأنها تتجاذب فيما نرى, ولكن تباطؤ الحركة فيما نرى ليس تباطؤ للزمن, وانحراف الحركة ليس انحرافاَ للزمن, وانحناء المسار ليس انحناءَ للفراغ نفسه, وهكذا!
اللحظة التي يقال لها "الآن" هي اللحظة الحالية لجميع ما في الكون في مسار حركته أينما كان وبأيما سرعة كانت حركته وفي أيما إتجاه بالنسبة إلى أي نظام حركي ثابت يقاس إليه زمان الجميع! ففي لحظة شروق الشمس اليوم في لندن – مثلا – كان كل شئ في الكون في تلك اللحظة موجوداَ في مكان ما (أنطولوجياَ), متحركاَ بسرعة ما, هي الحاضر بالنسبة لهم جميعا, التي إن شاؤوا أن يصفوا حالة الكون فيها إبستمياَ بأنها كانت حاصلة عند الساعة السادسة صباحاَ في لندن (والوصف الإبستمي يعني القياس والتنسيب لنظام حركي ثابت) جاز لهم ذلك! ولكن يقيناَ لم يكن أحد تلك الأشياء في تلك اللحظة التي عيناها بالقياس, واقعاَ في مستقبل الآخر أو ماضيه, بالنسبة إلى أي نظام قياسي يختاره أي راصد لتقدير الزمان! لم يكن كل من الماضي والحاضر والمستقبل وهما في أذهاننا في تلك اللحظة يختلف بإختلاف حركة وموضع كل واحد منا داخل ذلك الزمكان الأنطولوجي.
ولينتبه القارئ الكريم إلى أننا لسنا نقول – بناء على هذا النقد – بالرجوع إلى نموذج نيوتن –مثلا- للحركة والزمان, كلا, ولكن نقول بضرورة تنقية التصور النسبائي للواقع المادي من تلك المغالطة الفلسفية وجميع ماترتب عليها من تصورات فاسدة!
ولبيان تأثير المعتقد الغيبي الإلحادي على التنظير الرياضي والتصور الفلسفي لهذه القضية عند الطبيعيين, يكفي أن تقرر أن من أثبت خالقاَ غيبياَ ذا إرادة وعلم, قد رتب أحداث الكون كلها في كل مكان منه على نحو ما أراد, وكتب كل ماهو كائن إلى قيام الساعة بصورة حتمية منقضية لا محيد عنها ولا شذوذ لأي جسيم من جسيمات الكون عنها, فإنه سيعتنق التصوير الحتماني التام ليس فقط في السببية ولكن في بناء التاريخ الكوني وتتابع الأحداث, وسيشهد (على مقتضى اللغة الطبيعية والبداهة العقلية) بأن الفراغ أو المكان والزمان ليسا إلا معنيين ذهنيين كليين يستعملان في اللغة لوصف علاقات وتتابعات القوى والحركات والانتقالات لما نراه من جسيمات الكون التي تمضي كلها في حركتها على مسار ثابت قد قدره الخالق بالضرورة تقديراَ مسبقاَ لا يتبدل ولايتغير, هذا التصور العقلي اللغوي للزمان والفراغ يتفق مع ما يقتضيه إثبات الخالق. وذاك التصور الحتمي للسببية وتتابع الأحداث يقتضيه إثباتاَ لامتناع خروج أي شئ من خلق الخالق عن سلطانه وتدبيره في أي لحظة من لحظات الزمان, فما من حدث يقع في الكون إلا وهو من خلقه, هو وسائر أسبابه من أولها إلى آخرها, ما علمنا منها ومالم نعلم, وهذا بموجب كونه هو العلة الأولى لكل حدث من حوادث الكون !
ومن ثم,فإن انتقال الأحداث باطراد ثابت من الماضي إلى المستقبل عبر لحظة تنتقل في وعينا في اتجاه واحد لا ينعكس, نعقلها وندركها جميعنا على أنها هي الحاضر على أيما مقياس من مقاييس الزمان قسناها أو قدرناها إبستميا, ونعلم أن لله فيها صفة وفعلاَ حالياَ لا يعلمه سواه, إنما هو حقيقة أنطولوجية يقتضيها التسليم بأنه ليس في الوجود إلا خالق ومخلوق وأن جميع المخلوقين في العالم المخلوق خضوع للمسار المعين الذي أراده الخالق وللمستقبل المحدد الذي اختاره لهذا العالم, يمضي بهم حدثا َبعد حدث كما قدره رب العالمين, فلا محل عند من كان هذا اعتقاده للزعم بأن " سهم الزمان " كما يسميه الطبيعيون إنما يلتزم بهذا الاتجاه تحديداَ دون غيره ( مع أن الرياضيات تجيز له الانقلاب إلى الجهة المعاكسة ) بسبب قانون الديناميكا الحرارية – مثلا – الذي جعلوه نصا ( بحسب تصورهم الإلحادي ) على أن الكون كان لا يزال ماضياَ من البناء إلى التفكك ومن النظام إلى الفوضى ( مع أنها في الحقيقة ليست إلا وصفاَ لنمط نظامي مخلوق لانتشار الطاقة في الأجسام ) ولا محل عنده للزعم بأن الماضي والحاضر والمستقبل كلهم "مخلوقون" في الواقع " الآن" فعلا, لأن هذا يعنى أن المخلوق (س) لم يخلق بعد مع كونه قد خلق بالفعل, وأن (ص) لم يمت مع كونه قد مات بالفعل, وأن الأسباب التي يجبأن تكون في الماضي لنتائج في المستقبل موجودة كلها الآن واقعاَ, بما يهدم معنى الحدوث نفسه! وهذا كله خلف عقلي باطل ينفي عن الخالق صفات كثيرة بعضها قد أوجبه العقل وثبت بالنص, وبعضها لم نعرفه إلا بالنص الصحيح المنسوب إلى الخالق من طريق نبي ثابت النبوة!
والقصد من كل هذا بيان التعاضد المنطقي ( وليس مجرد التناسق باصطلاح المناطقة ) والتلازم بين ما يوجبه العقل من وجود الخالق, وما يوجبه من اطراد السببية في اتجاه واحد, وما يوجبه كذلك من انفصال معنى الماضي والحاضر والمستقبل, وتمايزها في العقل واللغة وامتناع اجتماعها كلها أو بعضها في وصف حدث واحد لا بلإطلاق لا بنسبية, وهي كلها قضايا تقطع بها عقول البشر وهي الجارية على ألسنتهم مجبولة عليها عقولهم, في مقابل ذاك التاقض والتهافت المخزي الذي يغرق فيه الملحد بمجرد أن يترك لخياله المجال مفتوحاَ في بناء الفرضيات والتصورات الرياضية والهندسية واستحلاب التأويلات الأنطولوجية منها بالهوى المحض!

يتبع إن شاء الله بملحق حول (مغالطات أنطولوجيا الهندسة غير الإقليدية وخرافة "نسيج الفراغ")

إلى حب الله
06-29-2013, 12:12 AM
مقال دسم جدا يا دكتور هشام - صدق من قال إن الكتاب لطلبة العلم فما فوق وليس أقل -
وكنت أود لو تضع ولو نبذة مختصرة لتعريفات بعض الكلمات المستخدمة في مثل هذه المواضيع الفلسفية العلمية إذا جاز التعبير ...
إبستمولجي .. أنطولوجي ..... إلخ
وأن توضع في أول الموضوع مع النشر منفردا : فيكون أفيد للقاريء المتوسط أو العادي المحب للاستزادة من العلوم ولو بوجه عام ..
وشكرا لمن قام بتفريغ الكتابة ...

hamzaD
06-29-2013, 01:17 AM
كتاب الة الموحدين يستحق ان يوزع بنطاق اوسع من هذا...مع الشكر للدكتور هشام الذي تكلف عناء النقل.

muslim.pure
06-29-2013, 01:29 AM
بارك الله فيك د.هشام
هل هناك نسخة الكترونية للكتاب

hamzaD
06-29-2013, 01:54 PM
لنتائج في المستقبل موجودة كلها الآن واقعاَ, بما يهدم معنى الحدوث نفسه! وهذا كله خلف عقلي باطل ينفي عن الخالق صفات كثيرة بعضها قد أوجبه العقل وثبت بالنص, وبعضها لم نعرفه إلا بالنص الصحيح المنسوب إلى الخالق من طريق نبي ثابت النبوة!
اه كم يعجبني المنهج الابستمولوجي للشيخ ابو الفداء،، لكن من جهة اخرى هل لديك فكرة عن هذه الصفات التي يتحدث عنها الشيخ د هشام ؟ هل يريد مثلا ان يوحي ان تجسيم الزمكان ينفي التدرج في الخلق و اتجاه الزمن الواحد المثبت في كتاب الله ؟
بالتفكير في الامر نجد ان الايمان بهذه العقيدة سيوقعنا في مخالفات لا تحصى للنصوص الشرعية...

محمود المغيربي
06-29-2013, 10:31 PM
هل توجد نسخة إلكترونية؟!

BStranger
06-29-2013, 11:03 PM
الموضوع جيد، ولكن أطلب من الكاتب توضيح، فحسب النسبية، أنه كلما زادت سرعة جسم بطأ زمنه، وهذا يحدث بالفعل في الاقمار الصناعية الخاصة بتحديد المواقع (gps) حيث ان سرعتها الكبيرة تبطئ زمنها فيصبح هنالك فارق بين زمانها وزمان الارض فتعطي المواقع خاطئة، فقام العلماء باعادة ضبطها حيث انه يتيم تقديم ساعتها النووية لكي تتنساب مع الارض، هل هذا مخالف لكلامك؟

hamzaD
06-29-2013, 11:47 PM
الموضوع جيد، ولكن أطلب من الكاتب توضيح، فحسب النسبية، أنه كلما زادت سرعة جسم بطأ زمنه، وهذا يحدث بالفعل في الاقمار الصناعية الخاصة بتحديد المواقع (gps) حيث ان سرعتها الكبيرة تبطئ زمنها فيصبح هنالك فارق بين زمانها وزمان الارض فتعطي المواقع خاطئة، فقام العلماء باعادة ضبطها حيث انه يتيم تقديم ساعتها النووية لكي تتنساب مع الارض، هل هذا مخالف لكلامك؟
لا يا اخي ليس هذا هو ما يتحدث عنه الشيخ، النسبية مثبة تجريبيا لكن الشيخ يتحدث عن تجسم الزمكان الذي يقول به الطبيعيون، الذي يوقعنا في تناقضات منطقية، اذ حسب هذا التصور فماضيك لم يمت و مستقبلك موجود في نفس الوقت، كل شيء حدث او سيحدث موجود ليس في علم الله فقط بل موجود وجودا انطلوجيا حقيقيا الان خارج الدهن، و هذا يخالف ما اتتنا به مصادر المعرفة لدينا العقلية و النقلية منها.

BStranger
06-30-2013, 02:45 AM
لا يا اخي ليس هذا هو ما يتحدث عنه الشيخ، النسبية مثبة تجريبيا لكن الشيخ يتحدث عن تجسم الزمكان الذي يقول به الطبيعيون، الذي يوقعنا في تناقضات منطقية، اذ حسب هذا التصور فماضيك لم يمت و مستقبلك موجود في نفس الوقت، كل شيء حدث او سيحدث موجود ليس في علم الله فقط بل موجود وجودا انطلوجيا حقيقيا الان خارج الدهن، و هذا يخالف ما اتتنا به مصادر المعرفة لدينا العقلية و النقلية منها.

فهمت، شكراً للتوضيح.

وسام الشامي
06-30-2013, 05:58 PM
وهذا فلم وثائقي يتبنى الفيزيائيون فيه تجسيم المكان ويشرحون ذلك
وللأسف الفلم غير مترجم للعربية.

? The Fabric of the Cosmos: What Is Space
البناء الكوني: ما هو المكان ؟

http://www.youtube.com/watch?v=CGZG5N_skcM

د. هشام عزمي
07-06-2013, 12:45 AM
مغالطات أنطولوجيا الهندسة غير الإقليدية وخرافة نسيج الفراغ (http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?53771-%E3%DB%C7%E1%D8%C7%CA-%C3%E4%D8%E6%E1%E6%CC%ED%C7-%C7%E1%E5%E4%CF%D3%C9-%DB%ED%D1-%C7%E1%C5%DE%E1%ED%CF%ED%C9-%E6%CE%D1%C7%DD%C9-%E4%D3%ED%CC-%C7%E1%DD%D1%C7%DB-%C3%C8%E6-%C7%E1%DD%CF%C7%C1)