المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فقهٌ غائب في ظلمة الأهواء



مالك مناع
08-22-2013, 03:21 PM
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة -رحمه الله (20/57ـ59)-:

«... " فإذا ازْدَحَمَ وَاجِبَانِ -لَا يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا-؛ فَقُدِّمَ أَوْكَدُهُمَا: لَمْ يَكُنْ الْآخَرُ -فِي هَذِهِ الْحَالِ وَاجِبًا-، وَلَمْ يَكُنْ تَارِكُهُ -لِأَجْلِ فِعْلِ الْأَوْكَدِ- تَارِكَ وَاجِبٍ فِي الْحَقِيقَةِ-.
وَكَذَلِكَ: إذَا اجْتَمَعَ مُحَرَّمَانِ -لَا يُمْكِنُ تَرْكُ أَعْظَمِهِمَا إلَّا بِفِعْلِ أَدْنَاهُمَا-: لَمْ يَكُنْ فِعْلُ الْأَدْنَى -فِي هَذِهِ الْحَالِ- مُحَرَّمًا -فِي الْحَقِيقَةِ-، وَإِنْ سُمِّيَ ذَلِكَ: تَرْكَ وَاجِبٍ، وَسُمِّيَ هَذَا: فِعْلَ مُحَرَّمٍ -بِاعْتِبَارِ الْإِطْلَاقِ-؛ لَمْ يَضُرَّ.

وَيُقَالُ -فِي مِثْلِ هَذَا-:
تَرْكُ الْوَاجِبِ لِعُذْرِ، وَفِعْلُ الْمُحَرَّمِ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ ، أَوْ لِلضَّرُورَةِ، أَوْ لِدَفْعِ مَا هُوَ أحرم.
وَهَذَا -كَمَا يُقَالُ لِمَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا-: إنَّهُ صَلَّاهَا فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمُطْلَقِ- قَضَاءً-.
هَذَا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ ، أَوْ نَسِيَهَا؛ فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ» .
وَهَذَا -بَابُ التَّعَارُضِ- بَابٌ وَاسِعٌ –جِدًّا-؛ لَا سِيَّمَا فِي الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ الَّتِي نَقَصَتْ فِيهَا آثَارُ النُّبُوَّةِ ، وَخِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ تَكْثُرُ فِيهَا.
وكُلَّمَا ازْدَادَ النَّقْصُ: ازْدَادَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ.

وَوُجُودُ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا اخْتَلَطَتْ الْحَسَنَاتُ بِالسَّيِّئَاتِ: وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ وَالتَّلَازُمُ:

* فَأَقْوَامٌ قَدْ يَنْظُرُونَ إلَى الْحَسَنَاتِ؛ فَيُرَجِّحُونَ هَذَا الْجَانِبَ -وَإِنْ تَضَمَّنَ سَيِّئَاتٍ عَظِيمَةً-.
* وَأَقْوَامٌ قَدْ يَنْظُرُونَ إلَى السَّيِّئَاتِ؛ فَيُرَجِّحُونَ الْجَانِبَ الْآخَرَ -وَإِنْ تَرَكَ حَسَنَاتٍ عَظِيمَةً-.
* والمتوسطون- الَّذِينَ يَنْظُرُونَ الْأَمْرَيْنِ-:
قَدْ لَا يَتَبَيَّنُ لَهُمْ -أَوْ لِأَكْثَرِهِمْ- مِقْدَارُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ .
أَوْ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ؛ فَلَا يَجِدُونَ مَنْ يُعِينُهُمْ الْعَمَلَ بِالْحَسَنَاتِ ، وَتَرْكَ السَّيِّئَاتِ؛ لِكَوْنِ الْأَهْوَاءِ قَارَنَتْ الْآرَاءَ....
فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَتَدَبَّرَ أَنْوَاعَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ.

وَقَدْ يَكُونُ الْوَاجِبُ فِي بَعْضِهَا - كَمَا بَيَّنْته فِيمَا تَقَدَّمَ -: الْعَفْوَ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ -فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ-؛ لَا التَّحْلِيلَ وَالْإِسْقَاطَ، مِثْلَ : أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرِهِ بِطَاعَةِ فِعْلًا لِمَعْصِيَةِ أَكْبَرَ مِنْهَا ، فَيَتْرُكُ الْأَمْرَ بِهَا :دَفْعًا لِوُقُوعِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ:
مِثْلَ : أَنْ تَرْفَعَ مُذْنِبًا إلَى ذِي سُلْطَانٍ ظَالِمٍ ، فَيَعْتَدِي عَلَيْهِ فِي الْعُقُوبَةِ مَا يَكُونُ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِنْ ذَنْبِه.
وَمِثْلَ : أَنْ يَكُونَ فِي نَهْيِهِ عَنْ بَعْضِ الْمُنْكَرَاتِ تَرْكًا لِمَعْرُوفِ هُوَ أَعْظَمُ مَنْفَعَةً مِنْ تَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، فَيَسْكُتُ عَنْ النَّهْيِ : خَوْفًا أَنْ يَسْتَلْزِمَ تَرْكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِمَّا هُوَ –عِنْدَهُ- أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ تَرْكِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ.
فَالْعَالِمُ تَارَةً يَأْمُرُ ، وَتَارَةً يَنْهَى ، وَتَارَةً يُبِيحُ ، وَتَارَةً يَسْكُتُ عَن الْأَمْرِ، أَوْ النَّهْيِ ، أَوْ الْإِبَاحَةِ : كَالْأَمْرِ بِالصَّلَاحِ الْخَالِصِ- أَوْ الرَّاجِحِ- ،أَوْ النَّهْيِ عَنْ الْفَسَادِ الْخَالِصِ -أَوْ الرَّاجِحِ-.
وَعِنْدَ التَّعَارُضِ : يُرَجَّحُ الرَّاجِحُ - كَمَا تَقَدَّمَ - بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمُمْكِنِ- إمَّا لِجَهْلِهِ- وَإِمَّا لِظُلْمِهِ - وَلَا يُمْكِنُ إزَالَةُ جَهْلِهِ وَظُلْمِهِ-؛ فَرُبَّمَا كَانَ الْأَصْلَحُ الْكَفَّ وَالْإِمْسَاكَ عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ؛ كَمَا قِيلَ: إنَّ مِنْ الْمَسَائِلِ مَسَائِلَ جَوَابُهَا السُّكُوتُ ؛ كَمَا سَكَتَ الشَّارِعُ -فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ- عَنْ الْأَمْرِ بِأَشْيَاءَ ، وَالنَّهْيِ عَنْ أَشْيَاءَ ؛ حَتَّى عَلَا الْإِسْلَامُ وَظَهَرَ.
فَالْعَالِمُ فِي الْبَيَانِ وَالْبَلَاغِ كَذَلِكَ؛ قَدْ يُؤَخِّرُ الْبَيَانَ وَالْبَلَاغَ لِأَشْيَاءَ إلَى وَقْتِ التَّمَكُّنِ ؛ كَمَا أَخَّرَ اللَّهُ –سُبْحَانَهُ- إنْزَالَ آيَاتٍ ، وَبَيَانَ أَحْكَامٍ إلَى وَقْتِ تَمَكُّنِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا- إلَى بَيَانِهَا.
يُبَيِّنُ حَقِيقَةَ الْحَالِ- فِي هَذَا- أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}.
وَالْحُجَّةُ عَلَى الْعِبَادِ إنَّمَا تَقُومُ بِشَيْئَيْنِ:

* بِشَرْطِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْعِلْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
* وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ.

فَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنْ الْعِلْمِ –كَالْمَجْنُونِ-، أَوْ الْعَاجِزِ عَنْ الْعَمَلِ : فَلَا أَمْرَ عَلَيْهِ ، وَلَا نَهْيَ.
وَإِذَا انْقَطَعَ الْعِلْمُ بِبَعْضِ الدِّينِ، أَوْ حَصَلَ الْعَجْزُ عَنْ بَعْضِهِ: كَانَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ عَنْ الْعِلْمِ أَوْ الْعَمَلِ –بِقَوْلِهِ- كَمَنْ انْقَطَعَ عَنْ الْعِلْمِ بِجَمِيعِ الدِّينِ، أَوْ عَجَزَ عَنْ جَمِيعِهِ -كَالْجُنُونِ –مَثَلًا-.
وَهَذِهِ أَوْقَاتُ الْفَتَرَاتِ ؛ فَإِذَا حَصَلَ مَنْ يَقُومُ بِالدِّينِ -مِنْ الْعُلَمَاءِ، أَوْ الْأُمَرَاءِ، أَوْ مَجْمُوعِهِمَا -: كَانَ بَيَانُهُ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ -شَيْئًا فَشَيْئًا- بِمَنْزِلَةِ بَيَانِ الرَّسُولِ لِمَا بُعِثَ بِهِ- شَيْئًا فَشَيْئًا-.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُبَلِّغُ إلَّا مَا أَمْكَنَ عِلْمُهُ، وَالْعَمَلُ بِهِ .

وَلَمْ تَأْتِ الشَّرِيعَةُ –جُمْلَةً-؛ كَمَا يُقَالُ: إذَا أَرَدْت أَنْ تُطَاعَ فَأْمُرْ بِمَا يُسْتَطَاعُ. فَكَذَلِكَ الْمُجَدِّدُ لِدِينِهِ ، وَالْمُحْيِي لِسُنَّتِهِ : لَا يُبَلِّغُ إلَّا مَا أَمْكَنَ عِلْمُهُ ، وَالْعَمَلُ بِهِ.
كَمَا أَنَّ الدَّاخِلَ فِي الْإِسْلَامِ لَا يُمْكِنُ -حِينَ دُخُولِهِ- أَنْ يُلَقَّنَ جَمِيعَ شَرَائِعِهِ، وَيُؤْمَرَ بِهَا –كُلِّهَا-.
وَكَذَلِكَ التَّائِبُ مِنْ الذُّنُوبِ، وَالْمُتَعَلِّمُ ، وَالْمُسْتَرْشِدُ : لَا يُمْكِنُ- فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ- أَنْ يُؤْمَرَ بِجَمِيعِ الدِّينِ ، وَيُذْكَرَ لَهُ جَمِيعُ الْعِلْمِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُطِيقُ ذَلِكَ.
وَإِذَا لَمْ يُطِقْهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ- فِي هَذِهِ الْحَالِ-، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ لِلْعَالِمِ، وَالْأَمِيرِ: أَنْ يُوجِبَهُ –جَمِيعَهُ- ابْتِدَاءً-.
بَلْ يَعْفُوَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ- بِمَا لَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ وَعَمَلُهُج- إلَى وَقْتِ الْإِمْكَانِ؛ كَمَا عَفَا الرَّسُولُ عَمَّا عَفَا عَنْهُ إلَى وَقْتِ بَيَانِهِ.
وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ إقْرَارِ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْوَاجِبَاتِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ ، وَقَدْ فَرَضْنَا انْتِفَاءَ هَذَا الشَّرْطِ.

فَتَدَبَّرْ هَذَا الْأَصْلَ؛ فَإِنَّهُ نَافِعٌ.

وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ سُقُوطُ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ -وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً، أَوْ مُحَرَّمَةً -فِي الْأَصْلِ- لِعَدَمِ إمْكَانِ الْبَلَاغِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ حُجَّةُ اللَّهِ فِي الْوُجُوبِ ، أَوْ التَّحْرِيمِ ؛ فَإِنَّ الْعَجْزَ مُسْقِطٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ -وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فِي الْأَصْلِ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ-.
وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ -عِلْمًا وَعَمَلًا-: أَنَّ مَا قَالَهُ الْعَالِمُ ،أَوْ الْأَمِيرُ- أَوْ فَعَلَهُ بِاجْتِهَادِ، أَوْ تَقْلِيدٍ- : فَإِذَا لَمْ يَرَ الْعَالِمُ الْآخَرُ ، وَالْأَمِيرُ الْآخَرُ مِثْلَ رَأْيِ الْأَوَّلِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِهِ ، أَوْ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِمَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً ، وَلَا يَنْهَى عَنْهُ ؛ إذْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْهَى غَيْرَهُ عَنْ اتِّبَاعِ اجْتِهَادِهِ ، وَلَا أَنْ يُوجِبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعَهُ.
فَهَذِهِ الْأُمُورُ -فِي حَقِّهِ- مِنْ الْأَعْمَالِ الْمَعْفُوَّةِ ، لَا يَأْمُرُ بِهَا ، وَلَا يَنْهَى عَنْهَا ؛ بَلْ هِيَ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالْعَفْوِ.
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ –جِدًّا-؛ فَتَدَبَّرْهُ " .

مالك مناع
08-22-2013, 03:24 PM
أرجو تعديل العنوان: فقهٌ غائب في ظلمة الأهواء ..!
وجزاكم الله خيراً ..

عياض
09-04-2013, 01:23 AM
المشكلة سيدي ان كل فرد يسقط احكام هذا على جماعته و تياره و حزبه و مذهبه و حركته دون اسقاطه على مناطاته الشرعية المتمثلة في جماعة المسلمين كلها و دولتهم كاملة غير منقوصة و التي تنزل عليها ظواهر النصوص الشرعية و البشرية و ان لم يكونوا يقصدونها او اخطؤوها او لم يكن مذهبهم لقولهم هم انفسهم ان ما صح من الشرع واقعا و تنزيلا فهو مذهبهم...
مع الملاحظة ان هذا النص القيم مكانه قسم الحوار عن الاسلام لا القسم العام فنفعه لا يشمل المسلمين وحدهم

عياض
09-13-2013, 01:05 PM
للرفع رفع الله قدر الناقل و الكاتب لهذا الكلام الجامع القيم