أبو الفداء
08-29-2013, 08:07 PM
الحمد لله وحده،
أما بعد، فإنني أكتب هذه السطور لتحذير طلبة العلم من خوض ما خاضه المتكلمون من مسالك من حيث لا يشعرون. فأبدأ بإعلان براءتي وتراجعي عن كل كلام كتبته في هذا المنتدى أو غيره مما قد يفهم منه تشجيعي طلبة العلم على دراسة الفلسفة وعلم الكلام إلى جانب العلوم الشرعية، لمطلق "الرد على الملاحدة" (هكذا بلا قيد)، أو يفهم منه أني أرى مشروعية مناظرتهم أو الخوض معهم في شيء مما يأتون به من الدعاوى والشبهات، فإن هذا الجدال والله مما يفسد به دين الإنسان واعتقاده، وينمحق به اليقين من النفس ولو بعد حين. وما تشعبت فرق المتكلمين في تاريخ المسلمين وتكاثرت إلا على أثره. وقد كنت كتبت مقالا أو أكثر جئت فيه ببيان بطلان ما عليه الملحد من دعاوى تخالف البداهة والفطرة، مستعملا بعض طرائق الفلاسفة في التحليل المنطقي في صورة حجج ومقدمات، وأشرت في السياق إلى أني اضطررت إلى هذا لأن من نخاطبهم لا يقبلون غيره، وأنا الآن أعلن توبتي من هذا المسلك ومن هذا التعليل ورجوعي عنه، وأحذر منه إخواني طلبة العلم وفقهم الله. فليس لصاحب الباطل أن يلزمنا بمنهجه وطريقته الفاسدة ابتداءً، وكذب أهل الأهواء على أنفسهم في ادعاء خفاء الحق عليهم في تلك القضايا الفطرية البدهية لا يرجع على حجية الحق الواضح نفسه بالضعف أو الخفاء، ولا يحوجنا إلى بيانه بطرائقهم التي اشترطوها على خصومهم في الجدال، وبالرد المفصل على هرائهم الذي يزعمون أن لهم فيه دليلا ومستندا. هذا لا يلزمنا منه شيء أصلا.
فعلى الدعاة أن يكون سعيهم متوجها لصيانة المسلمين من مخاطر الإلحاد بخطاب منهجي مجمل يوجه إليهم (لا إلى الملاحدة) بقدر الحاجة، وليس دعوة الملحدين إلى المناقشة وتبادل أطراف الجدال في آحاد "براهينهم الفلسفية" ودعاواهم "العلمية". فإن المتكلمين أنفسهم الذين أسسوا علم الجدل في تراثنا المعرفي، اتفقوا على أن من يرد البدهيات الأولى والمسلمات العقلية الأولية لا يخاض معه بجدال ولا مناظرة، لأنه لا يرجى معه الوصول إلى حق أو باطل، والسفسطة لا توصل إلى شيء. ولكن لأنهم أهل كلام قد فتنتهم بضاعة الفلاسفة، لم يُعملوا تلك القاعدة عند التطبيق على الملاحدة والمشركين كما كان يلزمهم، وجادلوهم فيما لا يصح أن يطرح للمناظرة والجدال أصلا، وفيما كانوا يزعمون أنه عندهم من العلم الضروري غير المكتسب! وكيف تراهم يعملونها وهم ما وضعوا علم الكلام نفسه إلا لمناظرة هؤلاء ومغالبتهم بالبراهين الفلسفية طلبا للظهور عليهم؟ فإن قال قائل إن المناظرة مع هؤلاء (على طرائق علم الجدل) غرضها عندنا صيانة المسلمين وليس دعوة الملحد نفسه، قلنا إن هذا ليس دليلا على مشروعية استعمالها مع مثله فانتبهوا، ولسنا والله الحمد مضطرين إلى ذلك حتى نحقق المقصود من صيانة المسلمين.
والقصد أنه ليست مدافعة دعوى أهل الإلحاد أنهم على شيء وصيانة المسلمين منها، بما يحوجنا إلى سلوك طرائق المتكلمين والفلاسفة في مجادلتهم ولله الحمد، لا بدراسة فلسفات اليونان وما أخذه المتكلمون الأوائل منها، ولا بدراسة فلسفات المعاصرين من أصحاب التنوير الأوروبي وأتباعهم وما أخذه المتكلمون المعاصرون منها، ولا بدراسة نظريات الفيزياء والفلك والأحياء وغير ذلك مما حشره الملاحدة في مزاعمهم الباردة أن لهم في مثله حجة وبرهانا على عدمية الباري سبحانه وتعالى، وإنما تكون مدافعة تلك الدعوى ببيان حجية القرءان وبناء عرى الإيمان في قلوب المسلمين، على طريقة الآل والصحب والسلف الأولين، وصدهم عن تلك السبل المعوجة كلها وبيان فسادها المجمل دون تفصيل.
ومثال البيان المنهجي المجمل أن يقال (كما أصلته في كتاب "آلة الموحدين") إنه لا يصح في العقل المجرد أن يكون في شيء مما يأتي به الطبيعيون من نظرياتهم (التي لا تقوم إلا على تفسير المشاهدات والمحسوسات) أي برهان يصلح لنفي وجود الباري (من فوق "الطبيعة" نفسها) الذي خلق كل نظام في هذا العالم بقدر وإحكام، وأجراه على نحو ما يراه هؤلاء! هذا لا يصح لو كان القول بوجود الباري قولا ظنيا له أدلته النظرية (كما يحرص الفلاسفة على أن يصوروه)، فكيف وهو أصل من أصول الفطرة والبداهة الأولى نفسها؟ فمن سمع هذا التقرير المجمل وعقله، وهو مما لا يماري في صحته عاقل، فأي شيء يحوجه إلى التفصيل فيما جاء به الملاحدة من الفيزيائيين من انتصار لإلحادهم، دع عنك أن يُشترط فيه التخصص في الفيزياء، حتى يقطع دابر الشبهة في ذلك الباب من أصلها، ويكفي المسلمين شر الافتتان بها (وأعني زعمهم أن هذه النظرية أو تلك في علوم الفيزياء فيها ما يصح دليلا على عدمية الباري سبحانه، أو على أننا وهذا العالم لم يخلقنا خالق)؟ من سلك تلك المسالك التفصيلية عند التصدي لدعوى كلية مناقضة للبداهة الأولى كهذه فقد أضر بالمسلمين وأوشك أن يفتنهم في دينهم من حيث يحسب أنه يدفع الباطل. وقد وقع من أثر ذلك فيما رأيت من ابتداع بعض الجهلاء في عقائد المسلمين ما الله به عليم، يحتذون ما جرى عليه سلفهم من المتكلمين الأوائل حذو القذة بالقذة من حيث لا يشعرون.
وبمثل هذا الإجمال الكافي نقول في طرائق الفلاسفة ونظرياتهم كذلك، فالعلوم العقلية كلها مدارها على بناء البراهين العقلية لإثبات أو نقد الدعاوى المعرفية النظرية التي تفتقر (من حيث المبدأ) إلى أمثال تلك البراهين. فإذا عُرف ذلك، ثبت من مجرده أنه لا يصح إعمال تلك العلوم النظرية على قضايا الغيب الكبرى وما يتفرع عليها من معارف، لأن من تلك القضايا ما يكون الحق فيه من البدهيات الأولى المفطورة عليها نفس الإنسان، فلا تفتقر إلى نظر أو استدلال أصلا (كتلك الأصول التي تعرف صحة التوحيد في العقول تأسيسا عليها: كوجود الباري جل وعلا وكمال صفاته)، ولهذا ما جاء الأنبياء والمرسلون بإثباتها بالدليل النظري (لأنها لا تفتقر إليه ابتداءً) وإنما جاؤوا بالتذكير بمقتضياتها والتأسيس على تلك المقتضيات في نفوس الناس. ومن تلك القضايا ما لا طريق لمعرفته إلا بالوحي المعصوم، ومنها ما لا يصح للعاقل أن يسأل عنه ابتداءً، لأنه لا يضيره الجهل بها ولا ينفعه العلم بها. فمن جاء بجواب مجمل يبين فيه فساد طريقة الفلاسفة في التعامل مع تلك القضايا التي يشترط فيها الملحد أن يكون البرهان فيها "فلسفيا" أو "كلاميا" على طريقة أصحاب تلك الصناعات النظرية، فقد استغنى عن التفصيل وعن تناول كل "برهان فلسفي" يأتي به الملاحدة مما يتفرع على ذلك الأصل عندهم، وبين للمسلمين فساد ذلك الشرط وفساد تلك الطريقة رأسا، ووافق السلف الصالح رضي الله عنهم في مطلق النكير على الفلاسفة وطرائقهم وسلم بدينه من علم الكلام ومزالقه، ولم يقصر – مع ذلك كله - عن نوال المطلوب من تحذير المسلمين وصدهم عن باطل الملاحدة، بل هدم البنيان من قواعده كما هي طريقة المرسلين.
فإن الخوض في تلك التفاصيل الجدلية والتشعب فيها على طريقة أصحابها في الاستدلال النظري يشوش على الحق الظاهر ولا يزيد الناس إلا بعدا عنه، ولا يزداد ما بين أيديهم من تلك البضاعة الجدلية تراكما وتضخما إلا زاد ضرره على اعتقادهم ويقينهم، لأنه يفسد القلوب ويورث في أهل القبلة عين ما ورثه المتكلمون الأوائل من الخوض في بضاعة فلاسفة اليونان، من جريان الرأي والرأي المقابل، واهتزاز اليقين ونزول البدهيات الفطرية والضروريات العقلية الأولى المركبة في نفس الإنسان من غير اكتساب أو تعلم (كحقيقة وجود الباري، وحقيقة تنزهه عن كل نقص، وحقيقة صحة ملة التوحيد وبطلان الشرك: وهو سائر الملل عدا الإسلام) منزلة الظنيات النظرية التي تتجاذبها أطراف "الأدلة"، ويطالَب المسلم فيها ببذل ما عنده من "أدلة عقلية" على صحتها لمن ينكرها، وكأن الجدال يجري في مسألة من مسائل الطهارة مثلا! مع أنها قضايا صحيحة بنفسها ضرورةً من غير دليل، لا "عقل" لمن ينكرها ابتداءً، وإنما جاء المرسلون (الذين نحن تبع لهم في دعوتنا) بالتأسيس عليها! فمطلب الجدال والمناظرة وتقديم البراهين العقلية في مثل هذا = مطلب فاسد أشد الفساد، ومن لم يجهد في بيان فساده لمن سلكه واتخذه أصلا ومنهجا، كما سبق إلى ذلك النكير أئمة السلف وعلماء السنة من أهل الحديث، فهو غاشّ للمسلمين، والله المستعان لا رب سواه. ثم إنه مما يورث أصحابه الاختراع والابتداع في الدين أشكالا وألوانا، كما وقع للمتكلمين الأوائل الذين تناولوا فلسفة اليونان ومنطق أرسطو، إذ يُظن أن الزمان قد أصبح الناس فيه يفتقرون إلى خطاب ديني تعرض فيه عقائد المسلمين على نحو يظهر منه توافقها مع "العلم الحديث"، فإذا بالخلط يقع في القبول والرد لبضاعة أصحاب تلك العلوم، وإذا بقضايا هي من مطلق الغيب كخلق السماوات والأرض وخلق الدواب على الأرض تتحول إلى ساحة للابتداع والاختراع والتنظير لا أول لها ولا آخر، يُخلط فيها النص المعصوم بما اعتنقه الطبيعيون من دعاوى طبيعية، مع أن الحق في ذلك الباب لا يوصَل إلى معرفته إلا من طريق الوحي المعصوم وحده بالضرورة، لأنه سؤال عن أحداث وقعت "قبل" جريان ما نسميه بالطبيعة على ما نراه الآن من نظم تجري فيها!
ولا يدخل في مسالك الفلاسفة والمتكلمين – فيما أرجو - ما كنت قد شرعت به في كتابي "آلة الموحدين" من تحذير المسلمين من نظريات في علوم الطبيعيات لم تقم عندهم إلا على أصول إلحادية مادية في النظر والتجريب، فيها ما يُتصور خفاؤه على كثير من المسلمين ممن له اشتغال بعلوم الطبيعيات، وقد رأيناها تروج فيما بينهم رواج العقائد الراسخة والمسلمات، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فهذا داع معتبر صحيح للتحقيق النظري والبحث والتنظير. فجئت في ذلك الكتاب بأصول كلية مجملة، ثم بينت مناقضة تلك النظريات الفاسدة لهاته الأصول، فما كان سبب فسادها أن منها ما يخالف النص في بعض تفاصيله كما يصنع بعض إخواننا الذين أغرقوا في تلك التفاصيل يطمعون في جعل بعضها دليلا على الفساد وكأن الأصل نفسه مقبول مسلّم عندنا، تماما كما صنع النصارى الخلقيون ونحوهم من قبلهم، وإنما كان سبب القول بفسادها أن الأصل المعرفي الذي تقوم عليه فاسد ابتداء، ومخالف لما عليه إجماع المسلمين! وإن كنت قد أتيت في ذلك الكتاب شيئا من مصطلحات المتكلمين (كالواجب والضروري والممكن ونحو ذلك)، فإنما كنت أرجو أنها مما لا اشتباه في فهم معناه بين طلبة العلم (وقد كنت اشترطت على قراء ذاك الكتاب أن يكونوا من طلبة العلم الشرعي أو ممن لهم به دراية)، وإلا فهذا ليس مما يشرع استعماله في مخاطبة أو جدال أصلا، ولا نحتاج إلى الخوض فيه مع أصحابه، والله أعلم.
ولا شك أن تصنيف كتاب كهذا يحتاج إلى مطالعة تلك العلوم وظهيرها الفلسفي، وتلك النظريات وحقائقها الكلية، ولكن هذا طريق من أراد أن يتخلل علما من تلك العلوم الواردة إلينا من غير المسلمين، ليطهره مما فيه من مخالفة اعتقاد المسلمين، حتى لا يقع المتخصصون في ذلك العلم في بلادنا في مخالفة عقيدتهم من حيث لا يشعرون، وليس هو طريق من أراد أن يحذر عامة المسلمين (بصرف النظر عن تخصصهم) من دعوى مفادها أن هذه النظرية أو تلك من نظريات الفيزياء الفلكية التي ربما أتى الملحدون بشرحها وبيانها، فيها دليل على عدم وجود الباري، أو دعوى أن داروين قد قدم للناس أول بديل طبيعي مستساغ "لفكرة الخلق"، أو نحو ذلك من هراء يكفي لنقضه جملة واحدة أو جملتين على الأكثر، يكتبها صاحبها بإحكام وإجمال كاف على نحو ما بينا، ثم يعمد إلى تحذير المسلمين من خطر التعرض للمزيد من ذلك، حتى لا تصغى إليه قلوبهم فيهلكوا! فعلى الدعاة إلى الله أن يميزوا الفرق بين هذين الطريقين في التصنيف والتنظير من جانب والخطاب الدعوي من الجانب الآخر، تمييزا واضحا، لأن في اختلاطهما خطر عظيم.
وقد وفقني الله تعالى للشروع بتصنيف كتاب في بيان أوجه المخادعة النفسية التي يخادع بها الملحد والمشرك نفسه حتى يوهمها بأنه على شيء، فأثبتّ فيه أن الفلسفة (كصنعة) إنما هي من ذلك، وأن إغراق أصحابها فيها فيما يتعلق بقضايا الغيب الكبرى مع صدودهم عما جاء به المرسلون، إنما هو من أعظم آيات ذلك الخداع النفسي عند أصحابه من شدة الهوى، وبينت أن علم الكلام لم يظهر بين أظهرنا إلا من كراهة بعض المسلمين لأن يبدو عليهم الضعف العقلي بإزاء تلك البضاعة الخبيثة التي جاء بها فلاسفة الإلحاد ومن تابعهم، وهذا أيضا من صنوف الهوى التي سبق إلى مثلها سائر أهل الملل الأخرى فيما يقال له عندهم "علم اللاهوت" أو "الإلهيات" أو "الاعتذاريات" أو "فلسفة الدين" أو نحو ذلك. فمع أن تكلف الرد والجواب الفلسفي يحتاج إلى دقة نظر وقوة عقل ولا شك، إلا أنه لا يفضي بصاحبه – في هذه القضايا - إلى إقامة قواعد الحق وإحكام اليقين أبدا، بل إلى العكس من ذلك، إذ كيف يبدأ الإنسان بحقيقة بدهية من بدهيات العقل الأولى ثم يشرع في طلب الدليل النظري عليها، فيكون الدليل أبعد عن الذهن (لا محالة) من الحقيقة المراد إثباتها نفسها؟ هذا خلف وفساد كبير لا يخدم إلا أهواء الفلاسفة، وقد بينت ذلك في كتابي المذكور وضربت له الكثير من الأمثلة في كلام القوم (لا سيما ما يقال له عندهم "مشكلة الشر") والحمد والمنة، وسميته "نوال المراد في العلم بنفوس أهل الزيغ والإلحاد". وقد كنت فيما مضى أحسب أن نهي السلف عن علم الكلام وذمهم له إنما هو متوجه لبضاعة المبتدعة من أصحابه (أي رؤوس الفرق الكلامية ومن تابعهم) وما جاؤوا به من قواعد وأصول بدعية، وأحسب كما يحسب كثير من طلبة العلم أن مصنفات شيخ الإسلام رحمه الله وتلميذه ابن القيم تدخل تحت "علم الكلام" كما صنفها المخالفون. ولم أكن أنتبه إلى أن هذا هو عين قول كل واحد من أصحاب تلك الطوائف البدعية نفسها بما زينه لهم الشيطان من اعتقاد النفع وإعلاء حجة الحق والانتصار للعقائد بتلك الطرائق البدعية!
فالحق أن علم الكلام مذموم لمنهجه وطريقته في تناول موضوعه، لا لبعض ثمراته في ذلك، كما أن الفلسفة مذمومة منهجا وطريقة لنفس السبب، إذ لا يصح استعمال ذلك المسلك النظري فيما ننازع فيه أهل الملل الشركية (بما فيها الإلحاد بصنوفه) من أصول فطرية بدهية في ذات الله وصفاته، لا يطرق فيها سبيل التنظير والاستدلال العقلي إلا زالت عنها تلك الصفة الضرورية الفطرية تبعا بمجرد ذلك! ولو كان في ذلك المسلك خير لرأيناه في محاججة القرءان للمشركين، ولرأيناه في طريقة الرسول عليه السلام وأصحابه في مخاطبة أهل الملل أجمعين، ولكن هذا لم يكن، لأن من جادل في الواضحات الجليات فقد حكم على نفسه بالتمحض في الهوى وبأنه لا رجاء في هدايته أصلا حتى يخاض معه أو يجادَل! والله لم يبعث المرسلين فلاسفة ولا متكلمين، وإنما بعثهم مبشرين ومنذرين، يخاطبون العقلاء بالتأسيس على ما هو معقود في فطرهم ونفوسهم من مقدمات التوحيد التي لا ينكرها إلا صاحب هوى. وصاحب الهوى لا تساق إليه الأدلة، وإنما يخاطب بالوعظ والزجر بما يناسب حاله، وهذا ما نجد القرءان طافحا به عند التأمل: التذكير بالحق الجلي الواضح وآياته الجلية (وليس أدلته العقلية الكلامية)، ثم الوعظ البليغ الذي تهتز له الجبال وتنخلع منه القلوب! فعلى كل من سلك طريق الدعوة إلى الله تعالى أن يعي أن المشرك والملحد ممن سمع القرءان يوما ثم بقي على ما هو عليه، إنما هو صاحب أهواء بعضها فوق بعض طبقات، يكذب على نفسه وهو يعلم، فلا يصح أن يتصدى له من يزيده مما يحب ويهوى من بضاعة الجدل والخصومات! هذه طريقة المتكلمين التي ذمهم من أجلها السلف والأئمة، وليست طريقة المرسلين وأصحابهم والتابعين، والفرق بين الطريقتين يجب ألا يخفى على طلبة العلم.
وفي الكتاب المذكور تفصيل ذلك وبيانه ببسط وتوسع، أسأل الله أن يعجل بتمامه على النحو الذي يرضيه سبحانه، وأن ينفع به المسلمين، والحمد لله رب العالمين.
أما بعد، فإنني أكتب هذه السطور لتحذير طلبة العلم من خوض ما خاضه المتكلمون من مسالك من حيث لا يشعرون. فأبدأ بإعلان براءتي وتراجعي عن كل كلام كتبته في هذا المنتدى أو غيره مما قد يفهم منه تشجيعي طلبة العلم على دراسة الفلسفة وعلم الكلام إلى جانب العلوم الشرعية، لمطلق "الرد على الملاحدة" (هكذا بلا قيد)، أو يفهم منه أني أرى مشروعية مناظرتهم أو الخوض معهم في شيء مما يأتون به من الدعاوى والشبهات، فإن هذا الجدال والله مما يفسد به دين الإنسان واعتقاده، وينمحق به اليقين من النفس ولو بعد حين. وما تشعبت فرق المتكلمين في تاريخ المسلمين وتكاثرت إلا على أثره. وقد كنت كتبت مقالا أو أكثر جئت فيه ببيان بطلان ما عليه الملحد من دعاوى تخالف البداهة والفطرة، مستعملا بعض طرائق الفلاسفة في التحليل المنطقي في صورة حجج ومقدمات، وأشرت في السياق إلى أني اضطررت إلى هذا لأن من نخاطبهم لا يقبلون غيره، وأنا الآن أعلن توبتي من هذا المسلك ومن هذا التعليل ورجوعي عنه، وأحذر منه إخواني طلبة العلم وفقهم الله. فليس لصاحب الباطل أن يلزمنا بمنهجه وطريقته الفاسدة ابتداءً، وكذب أهل الأهواء على أنفسهم في ادعاء خفاء الحق عليهم في تلك القضايا الفطرية البدهية لا يرجع على حجية الحق الواضح نفسه بالضعف أو الخفاء، ولا يحوجنا إلى بيانه بطرائقهم التي اشترطوها على خصومهم في الجدال، وبالرد المفصل على هرائهم الذي يزعمون أن لهم فيه دليلا ومستندا. هذا لا يلزمنا منه شيء أصلا.
فعلى الدعاة أن يكون سعيهم متوجها لصيانة المسلمين من مخاطر الإلحاد بخطاب منهجي مجمل يوجه إليهم (لا إلى الملاحدة) بقدر الحاجة، وليس دعوة الملحدين إلى المناقشة وتبادل أطراف الجدال في آحاد "براهينهم الفلسفية" ودعاواهم "العلمية". فإن المتكلمين أنفسهم الذين أسسوا علم الجدل في تراثنا المعرفي، اتفقوا على أن من يرد البدهيات الأولى والمسلمات العقلية الأولية لا يخاض معه بجدال ولا مناظرة، لأنه لا يرجى معه الوصول إلى حق أو باطل، والسفسطة لا توصل إلى شيء. ولكن لأنهم أهل كلام قد فتنتهم بضاعة الفلاسفة، لم يُعملوا تلك القاعدة عند التطبيق على الملاحدة والمشركين كما كان يلزمهم، وجادلوهم فيما لا يصح أن يطرح للمناظرة والجدال أصلا، وفيما كانوا يزعمون أنه عندهم من العلم الضروري غير المكتسب! وكيف تراهم يعملونها وهم ما وضعوا علم الكلام نفسه إلا لمناظرة هؤلاء ومغالبتهم بالبراهين الفلسفية طلبا للظهور عليهم؟ فإن قال قائل إن المناظرة مع هؤلاء (على طرائق علم الجدل) غرضها عندنا صيانة المسلمين وليس دعوة الملحد نفسه، قلنا إن هذا ليس دليلا على مشروعية استعمالها مع مثله فانتبهوا، ولسنا والله الحمد مضطرين إلى ذلك حتى نحقق المقصود من صيانة المسلمين.
والقصد أنه ليست مدافعة دعوى أهل الإلحاد أنهم على شيء وصيانة المسلمين منها، بما يحوجنا إلى سلوك طرائق المتكلمين والفلاسفة في مجادلتهم ولله الحمد، لا بدراسة فلسفات اليونان وما أخذه المتكلمون الأوائل منها، ولا بدراسة فلسفات المعاصرين من أصحاب التنوير الأوروبي وأتباعهم وما أخذه المتكلمون المعاصرون منها، ولا بدراسة نظريات الفيزياء والفلك والأحياء وغير ذلك مما حشره الملاحدة في مزاعمهم الباردة أن لهم في مثله حجة وبرهانا على عدمية الباري سبحانه وتعالى، وإنما تكون مدافعة تلك الدعوى ببيان حجية القرءان وبناء عرى الإيمان في قلوب المسلمين، على طريقة الآل والصحب والسلف الأولين، وصدهم عن تلك السبل المعوجة كلها وبيان فسادها المجمل دون تفصيل.
ومثال البيان المنهجي المجمل أن يقال (كما أصلته في كتاب "آلة الموحدين") إنه لا يصح في العقل المجرد أن يكون في شيء مما يأتي به الطبيعيون من نظرياتهم (التي لا تقوم إلا على تفسير المشاهدات والمحسوسات) أي برهان يصلح لنفي وجود الباري (من فوق "الطبيعة" نفسها) الذي خلق كل نظام في هذا العالم بقدر وإحكام، وأجراه على نحو ما يراه هؤلاء! هذا لا يصح لو كان القول بوجود الباري قولا ظنيا له أدلته النظرية (كما يحرص الفلاسفة على أن يصوروه)، فكيف وهو أصل من أصول الفطرة والبداهة الأولى نفسها؟ فمن سمع هذا التقرير المجمل وعقله، وهو مما لا يماري في صحته عاقل، فأي شيء يحوجه إلى التفصيل فيما جاء به الملاحدة من الفيزيائيين من انتصار لإلحادهم، دع عنك أن يُشترط فيه التخصص في الفيزياء، حتى يقطع دابر الشبهة في ذلك الباب من أصلها، ويكفي المسلمين شر الافتتان بها (وأعني زعمهم أن هذه النظرية أو تلك في علوم الفيزياء فيها ما يصح دليلا على عدمية الباري سبحانه، أو على أننا وهذا العالم لم يخلقنا خالق)؟ من سلك تلك المسالك التفصيلية عند التصدي لدعوى كلية مناقضة للبداهة الأولى كهذه فقد أضر بالمسلمين وأوشك أن يفتنهم في دينهم من حيث يحسب أنه يدفع الباطل. وقد وقع من أثر ذلك فيما رأيت من ابتداع بعض الجهلاء في عقائد المسلمين ما الله به عليم، يحتذون ما جرى عليه سلفهم من المتكلمين الأوائل حذو القذة بالقذة من حيث لا يشعرون.
وبمثل هذا الإجمال الكافي نقول في طرائق الفلاسفة ونظرياتهم كذلك، فالعلوم العقلية كلها مدارها على بناء البراهين العقلية لإثبات أو نقد الدعاوى المعرفية النظرية التي تفتقر (من حيث المبدأ) إلى أمثال تلك البراهين. فإذا عُرف ذلك، ثبت من مجرده أنه لا يصح إعمال تلك العلوم النظرية على قضايا الغيب الكبرى وما يتفرع عليها من معارف، لأن من تلك القضايا ما يكون الحق فيه من البدهيات الأولى المفطورة عليها نفس الإنسان، فلا تفتقر إلى نظر أو استدلال أصلا (كتلك الأصول التي تعرف صحة التوحيد في العقول تأسيسا عليها: كوجود الباري جل وعلا وكمال صفاته)، ولهذا ما جاء الأنبياء والمرسلون بإثباتها بالدليل النظري (لأنها لا تفتقر إليه ابتداءً) وإنما جاؤوا بالتذكير بمقتضياتها والتأسيس على تلك المقتضيات في نفوس الناس. ومن تلك القضايا ما لا طريق لمعرفته إلا بالوحي المعصوم، ومنها ما لا يصح للعاقل أن يسأل عنه ابتداءً، لأنه لا يضيره الجهل بها ولا ينفعه العلم بها. فمن جاء بجواب مجمل يبين فيه فساد طريقة الفلاسفة في التعامل مع تلك القضايا التي يشترط فيها الملحد أن يكون البرهان فيها "فلسفيا" أو "كلاميا" على طريقة أصحاب تلك الصناعات النظرية، فقد استغنى عن التفصيل وعن تناول كل "برهان فلسفي" يأتي به الملاحدة مما يتفرع على ذلك الأصل عندهم، وبين للمسلمين فساد ذلك الشرط وفساد تلك الطريقة رأسا، ووافق السلف الصالح رضي الله عنهم في مطلق النكير على الفلاسفة وطرائقهم وسلم بدينه من علم الكلام ومزالقه، ولم يقصر – مع ذلك كله - عن نوال المطلوب من تحذير المسلمين وصدهم عن باطل الملاحدة، بل هدم البنيان من قواعده كما هي طريقة المرسلين.
فإن الخوض في تلك التفاصيل الجدلية والتشعب فيها على طريقة أصحابها في الاستدلال النظري يشوش على الحق الظاهر ولا يزيد الناس إلا بعدا عنه، ولا يزداد ما بين أيديهم من تلك البضاعة الجدلية تراكما وتضخما إلا زاد ضرره على اعتقادهم ويقينهم، لأنه يفسد القلوب ويورث في أهل القبلة عين ما ورثه المتكلمون الأوائل من الخوض في بضاعة فلاسفة اليونان، من جريان الرأي والرأي المقابل، واهتزاز اليقين ونزول البدهيات الفطرية والضروريات العقلية الأولى المركبة في نفس الإنسان من غير اكتساب أو تعلم (كحقيقة وجود الباري، وحقيقة تنزهه عن كل نقص، وحقيقة صحة ملة التوحيد وبطلان الشرك: وهو سائر الملل عدا الإسلام) منزلة الظنيات النظرية التي تتجاذبها أطراف "الأدلة"، ويطالَب المسلم فيها ببذل ما عنده من "أدلة عقلية" على صحتها لمن ينكرها، وكأن الجدال يجري في مسألة من مسائل الطهارة مثلا! مع أنها قضايا صحيحة بنفسها ضرورةً من غير دليل، لا "عقل" لمن ينكرها ابتداءً، وإنما جاء المرسلون (الذين نحن تبع لهم في دعوتنا) بالتأسيس عليها! فمطلب الجدال والمناظرة وتقديم البراهين العقلية في مثل هذا = مطلب فاسد أشد الفساد، ومن لم يجهد في بيان فساده لمن سلكه واتخذه أصلا ومنهجا، كما سبق إلى ذلك النكير أئمة السلف وعلماء السنة من أهل الحديث، فهو غاشّ للمسلمين، والله المستعان لا رب سواه. ثم إنه مما يورث أصحابه الاختراع والابتداع في الدين أشكالا وألوانا، كما وقع للمتكلمين الأوائل الذين تناولوا فلسفة اليونان ومنطق أرسطو، إذ يُظن أن الزمان قد أصبح الناس فيه يفتقرون إلى خطاب ديني تعرض فيه عقائد المسلمين على نحو يظهر منه توافقها مع "العلم الحديث"، فإذا بالخلط يقع في القبول والرد لبضاعة أصحاب تلك العلوم، وإذا بقضايا هي من مطلق الغيب كخلق السماوات والأرض وخلق الدواب على الأرض تتحول إلى ساحة للابتداع والاختراع والتنظير لا أول لها ولا آخر، يُخلط فيها النص المعصوم بما اعتنقه الطبيعيون من دعاوى طبيعية، مع أن الحق في ذلك الباب لا يوصَل إلى معرفته إلا من طريق الوحي المعصوم وحده بالضرورة، لأنه سؤال عن أحداث وقعت "قبل" جريان ما نسميه بالطبيعة على ما نراه الآن من نظم تجري فيها!
ولا يدخل في مسالك الفلاسفة والمتكلمين – فيما أرجو - ما كنت قد شرعت به في كتابي "آلة الموحدين" من تحذير المسلمين من نظريات في علوم الطبيعيات لم تقم عندهم إلا على أصول إلحادية مادية في النظر والتجريب، فيها ما يُتصور خفاؤه على كثير من المسلمين ممن له اشتغال بعلوم الطبيعيات، وقد رأيناها تروج فيما بينهم رواج العقائد الراسخة والمسلمات، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فهذا داع معتبر صحيح للتحقيق النظري والبحث والتنظير. فجئت في ذلك الكتاب بأصول كلية مجملة، ثم بينت مناقضة تلك النظريات الفاسدة لهاته الأصول، فما كان سبب فسادها أن منها ما يخالف النص في بعض تفاصيله كما يصنع بعض إخواننا الذين أغرقوا في تلك التفاصيل يطمعون في جعل بعضها دليلا على الفساد وكأن الأصل نفسه مقبول مسلّم عندنا، تماما كما صنع النصارى الخلقيون ونحوهم من قبلهم، وإنما كان سبب القول بفسادها أن الأصل المعرفي الذي تقوم عليه فاسد ابتداء، ومخالف لما عليه إجماع المسلمين! وإن كنت قد أتيت في ذلك الكتاب شيئا من مصطلحات المتكلمين (كالواجب والضروري والممكن ونحو ذلك)، فإنما كنت أرجو أنها مما لا اشتباه في فهم معناه بين طلبة العلم (وقد كنت اشترطت على قراء ذاك الكتاب أن يكونوا من طلبة العلم الشرعي أو ممن لهم به دراية)، وإلا فهذا ليس مما يشرع استعماله في مخاطبة أو جدال أصلا، ولا نحتاج إلى الخوض فيه مع أصحابه، والله أعلم.
ولا شك أن تصنيف كتاب كهذا يحتاج إلى مطالعة تلك العلوم وظهيرها الفلسفي، وتلك النظريات وحقائقها الكلية، ولكن هذا طريق من أراد أن يتخلل علما من تلك العلوم الواردة إلينا من غير المسلمين، ليطهره مما فيه من مخالفة اعتقاد المسلمين، حتى لا يقع المتخصصون في ذلك العلم في بلادنا في مخالفة عقيدتهم من حيث لا يشعرون، وليس هو طريق من أراد أن يحذر عامة المسلمين (بصرف النظر عن تخصصهم) من دعوى مفادها أن هذه النظرية أو تلك من نظريات الفيزياء الفلكية التي ربما أتى الملحدون بشرحها وبيانها، فيها دليل على عدم وجود الباري، أو دعوى أن داروين قد قدم للناس أول بديل طبيعي مستساغ "لفكرة الخلق"، أو نحو ذلك من هراء يكفي لنقضه جملة واحدة أو جملتين على الأكثر، يكتبها صاحبها بإحكام وإجمال كاف على نحو ما بينا، ثم يعمد إلى تحذير المسلمين من خطر التعرض للمزيد من ذلك، حتى لا تصغى إليه قلوبهم فيهلكوا! فعلى الدعاة إلى الله أن يميزوا الفرق بين هذين الطريقين في التصنيف والتنظير من جانب والخطاب الدعوي من الجانب الآخر، تمييزا واضحا، لأن في اختلاطهما خطر عظيم.
وقد وفقني الله تعالى للشروع بتصنيف كتاب في بيان أوجه المخادعة النفسية التي يخادع بها الملحد والمشرك نفسه حتى يوهمها بأنه على شيء، فأثبتّ فيه أن الفلسفة (كصنعة) إنما هي من ذلك، وأن إغراق أصحابها فيها فيما يتعلق بقضايا الغيب الكبرى مع صدودهم عما جاء به المرسلون، إنما هو من أعظم آيات ذلك الخداع النفسي عند أصحابه من شدة الهوى، وبينت أن علم الكلام لم يظهر بين أظهرنا إلا من كراهة بعض المسلمين لأن يبدو عليهم الضعف العقلي بإزاء تلك البضاعة الخبيثة التي جاء بها فلاسفة الإلحاد ومن تابعهم، وهذا أيضا من صنوف الهوى التي سبق إلى مثلها سائر أهل الملل الأخرى فيما يقال له عندهم "علم اللاهوت" أو "الإلهيات" أو "الاعتذاريات" أو "فلسفة الدين" أو نحو ذلك. فمع أن تكلف الرد والجواب الفلسفي يحتاج إلى دقة نظر وقوة عقل ولا شك، إلا أنه لا يفضي بصاحبه – في هذه القضايا - إلى إقامة قواعد الحق وإحكام اليقين أبدا، بل إلى العكس من ذلك، إذ كيف يبدأ الإنسان بحقيقة بدهية من بدهيات العقل الأولى ثم يشرع في طلب الدليل النظري عليها، فيكون الدليل أبعد عن الذهن (لا محالة) من الحقيقة المراد إثباتها نفسها؟ هذا خلف وفساد كبير لا يخدم إلا أهواء الفلاسفة، وقد بينت ذلك في كتابي المذكور وضربت له الكثير من الأمثلة في كلام القوم (لا سيما ما يقال له عندهم "مشكلة الشر") والحمد والمنة، وسميته "نوال المراد في العلم بنفوس أهل الزيغ والإلحاد". وقد كنت فيما مضى أحسب أن نهي السلف عن علم الكلام وذمهم له إنما هو متوجه لبضاعة المبتدعة من أصحابه (أي رؤوس الفرق الكلامية ومن تابعهم) وما جاؤوا به من قواعد وأصول بدعية، وأحسب كما يحسب كثير من طلبة العلم أن مصنفات شيخ الإسلام رحمه الله وتلميذه ابن القيم تدخل تحت "علم الكلام" كما صنفها المخالفون. ولم أكن أنتبه إلى أن هذا هو عين قول كل واحد من أصحاب تلك الطوائف البدعية نفسها بما زينه لهم الشيطان من اعتقاد النفع وإعلاء حجة الحق والانتصار للعقائد بتلك الطرائق البدعية!
فالحق أن علم الكلام مذموم لمنهجه وطريقته في تناول موضوعه، لا لبعض ثمراته في ذلك، كما أن الفلسفة مذمومة منهجا وطريقة لنفس السبب، إذ لا يصح استعمال ذلك المسلك النظري فيما ننازع فيه أهل الملل الشركية (بما فيها الإلحاد بصنوفه) من أصول فطرية بدهية في ذات الله وصفاته، لا يطرق فيها سبيل التنظير والاستدلال العقلي إلا زالت عنها تلك الصفة الضرورية الفطرية تبعا بمجرد ذلك! ولو كان في ذلك المسلك خير لرأيناه في محاججة القرءان للمشركين، ولرأيناه في طريقة الرسول عليه السلام وأصحابه في مخاطبة أهل الملل أجمعين، ولكن هذا لم يكن، لأن من جادل في الواضحات الجليات فقد حكم على نفسه بالتمحض في الهوى وبأنه لا رجاء في هدايته أصلا حتى يخاض معه أو يجادَل! والله لم يبعث المرسلين فلاسفة ولا متكلمين، وإنما بعثهم مبشرين ومنذرين، يخاطبون العقلاء بالتأسيس على ما هو معقود في فطرهم ونفوسهم من مقدمات التوحيد التي لا ينكرها إلا صاحب هوى. وصاحب الهوى لا تساق إليه الأدلة، وإنما يخاطب بالوعظ والزجر بما يناسب حاله، وهذا ما نجد القرءان طافحا به عند التأمل: التذكير بالحق الجلي الواضح وآياته الجلية (وليس أدلته العقلية الكلامية)، ثم الوعظ البليغ الذي تهتز له الجبال وتنخلع منه القلوب! فعلى كل من سلك طريق الدعوة إلى الله تعالى أن يعي أن المشرك والملحد ممن سمع القرءان يوما ثم بقي على ما هو عليه، إنما هو صاحب أهواء بعضها فوق بعض طبقات، يكذب على نفسه وهو يعلم، فلا يصح أن يتصدى له من يزيده مما يحب ويهوى من بضاعة الجدل والخصومات! هذه طريقة المتكلمين التي ذمهم من أجلها السلف والأئمة، وليست طريقة المرسلين وأصحابهم والتابعين، والفرق بين الطريقتين يجب ألا يخفى على طلبة العلم.
وفي الكتاب المذكور تفصيل ذلك وبيانه ببسط وتوسع، أسأل الله أن يعجل بتمامه على النحو الذي يرضيه سبحانه، وأن ينفع به المسلمين، والحمد لله رب العالمين.