المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة أهديها لأشبال الثورة السورية



هشام بن الزبير
03-02-2012, 09:22 AM
سامحني أبي...

نظر من الشرفة وهو يرتعش, تابع الحركة في الشارع بعينين خائفتين, كانوا مائتين يزيدون قليلا أو ينقصون, لكن كانوا كالبحر في هيبته وهديره, تذكر شاطئ طرطوس, تذكر رماله وأمواجه وجرت على خده دمعة, ما أجملك يا وطن! ما أبهاك وما أحلمك!

سمع طلقات متتالية سرعان ما اختفى أزيزها وسط التكبير المتعالي, رأى طفلا يسقط أرضا يتشحط في دمه, كان الرصاص ينهمر على كل من يدنو منه, فحص برجله التراب لحظات ثم همد. ألصق فادي وجهه بالزجاج, شعر بشيء يختفي من داخله, لقد فارقه الخوف, كم سمع من أبيه وهو طفل: "قائدنا إلى الأبد, ملهمنا البطل, الرئيس الحكيم..." كان يحشو عقله الصغير بهذا الهراء خوفا عليه أن ينطق بكلمة مهلكة.

إنه هناك في سريره يفترش سنواته الخمسين ويلتحف الذل وينخره الخوف, إنه يغلق الباب على فادي ليلا منذ اندلاع الثورة خشية أن ينزل للتظاهر, إنه يريده أن يحيا, لكن هل هذه حياة؟ أخذ ورقة وكتب عليها: " سامحني أبي.. الوطن أجمل من ذلك!" ثم نزل من النافذة, تمسك بعمود الكهرباء وانزلق بجسمه الغض كأنه يولد من جديد.

وجد نفسه في مؤخرة المظاهرة, وانطلق يصدح بالتكبير: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. شعر بقوة لم يعهدها من قبل, وتخيل القناص فوق المباني مختبئا, ابتسم وفتح أزرار قميصه الأبيض فبدا جسمه النحيل, وضع يده على صدره, لقد هدأ قلبه وغشيته سكينة عجيبة, لم يعد يقفز داخل صدره كما كان خلال أسابيع قضاها يرقب سير الحالمين بالحرية من خلف الزجاج, لقد صار واحدا منهم, سمع صوت رشاش يقطع ظلام الليل ليختلط بصوت التكبير, لكن الناس لم تفر, بقي مرفوع الهامة يمشي في ظلمة الليل ويرقب الفجر الآتي, اخترق الصفوف بصدره العاري, شم ريحا زكية تملأ أنفه, وانطلق مع الجموع يخط على أرض الوطن ملحمة البذل, مضى يرفع شعار الحياة في وجه تجارالموت: "الموت ولا المذلة.. الموت ولا المذلة.. الموت ولا المذلة.."

كان صدى هذه الكلمات ينزل على المختبئين في أسرتهم المتلفعين بدموعهم كالرعد القاصف, لقد اختاروا استمرار المذلة, فيما آثر الأحرار الموت كي يحيا الحلم بوطن تظله الحرية والعزة والكرامة, شعر فادي بطعم هذه الكلمات, إنه لن يعود لتجرع المهانة بعد اليوم, لقد حسم أمره, إما حياة وإما موت, أما المذلة فقد آن الأوان لغسلها عن ثرى الوطن, عاد الرصاص يجلجل فوق الرؤوس فارتفعت الحناجر بالتهليل: "لا إلــه إلا الله.. لا إلــه إلا الله.. لا إلــه إلا الله.. لا إلــه إلا الله.. لا إلــه إلا الله.. لا إلــه إلا الله.."

إن فادي يقول هذه الكلمة منذ عقل, لكنها تحمل إليه الآن معنى جليلا لم يتبينه من قبل, إنه يحس بهيبتها وسلطانها بعد ستة عشر ربيعا على هذا الوطن الأسير, لا إله إلا الله, فكيف أخافكم؟ ليس لكم من الأمر شيء, أحس بالكلمة العجيبة تملأ صدره وتضخ في شرايينه قوة هائلة, رفع بها صوته وقد صار على رأس المظاهرة: لا إله إلا اللــه, ما أكملها حتى سمع صوتا مدويا يهز كيانه, ثم أحس بشيء دافئ يملأ فمه, سال الدم القاني على صدره, سقط ليعانق الأرض وليسقيها ويطهرها من المذلة وليغرس فيها بذرة العزة, سقط فادي بعد أن اخترقت قفاه رصاصة غدر تحمل ختم وطن آخر.