إلى حب الله
10-14-2013, 09:39 PM
الرد على أقوال الأشاعرة في كلام الله ..
منقول من أحد ردود موقع الدرر السنية على الرابط التالي :
http://dorar.net/enc/firq/234
أثبت الأشاعرة بإجمال صفة الكلام لله، وقالوا خلافاً للمعتزلة والجهمية وغيرهم من النفاة إن هذه الصفة ثابتة، قائمة بالله تعالى، ولكنهم فسروها بأنها معنى يقوم بذات الله، لازم له أزلاً وأبداً، وسموا هذا المعنى بالكلام النفسي وقالوا إن هذا المعنى القائم بالذات لا ينقسم إلى سرٍّ وعلانية، ولا يكون منه شيء في نفس الربِّ وشيء منه عند الملائكة، بل أسماع الملائكة أو غيرهم لكلامه إنما هو خلق إدراك لهم فقط ((انظر نقض التأسيس - مخطوط 2 / 52)).
فحصروا الكلام بما يقوم بالنفس، وأنه لازم للذات لا ينفك عنها، وأن الألفاظ والحروف ليست كلاماً. وقد احتجوا لأقوالهم بعدة حجج منها:
1- قوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ [المجادلة: 8].
2- وقوله تعالى: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً [الأعراف: 205].
3- قوله تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الملك: 13]. فسمى الإسرار قولاً.
4- وقوله تعالى: آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا [عمران: 41].
5- وقول عمر – رضي الله عنه – (زورت في نفسي مقالة أردت أن أقولها).
6- وقول الشاعر النصراني الأخطل :
إن الكلام لفي الفؤاد... ..
هذه أهم حججهم على الكلام النفسي، وقد ناقش شيخ الإسلام هذه الحجج، وبيَّن أنه لا دليل لهم فيها:
1-
أما قوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة: 8] فعنه جوابان:
أحدهما:
أن المراد أنهم قالوه بألسنتهم سرًّا، وحينئذٍ فلا حجة لهم فيه. وهذا هو الذي ذكره المفسرون، حيث كانوا يقولون: سام عليك، فإذا خرجوا يقولون في أنفسهم، أي يقول بعضهم لبعض: لو كان نبيًّا عذبنا بقولنا له ما نقول ((انظر الإيمان صـ 129 - مجموع الفتاوى - 15 / 35)).
والثاني:
أنه قيده بالنفس، وهذا على أن المقصود أنهم قالوه بقلوبهم، وإذا قيد القول بالنفس كان دلالة المقيد خلاف دلالة المطلق، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:
((إن الله تجاوز لأمتي عمَّا حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم أو تعمل))
((رواه البخاري ومسلم)) ، وهذا رد عليهم مطلقاً لأنه قال "ما لم تتكلم" فدل على أن حديث النفس ليس هو الكلام المطلق.
2-
وأما قوله تعالى: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً [الأعراف: 205] فالمقصود الذكر باللسان لأنه قال " تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول "، ومن استقراء النصوص يتبين أن الذي يقيد بالنفس لفظ "الحديث"، مثل الحديث السابق: " وما حدثت به أنفسها "، أما لفظ "الكلام" فلم يعرف أنه أريد به ما في النفس فقط ((انظر الإيمان صـ 130)).
3-
أما قوله: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ [الملك: 13] واحتجاجهم على أن القول المسر في القلب دون اللسان لقوله تعالى في آخر الآية: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
، فـ "هذه حجة ضعيفة جدًّا؛ لأن قوله: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ يبيِّن أن القول يسر به تارة، ويجهر به أخرى، وهذا إنما هو فيما يكون في القول الذي هو بحروف مسموعة، وقوله بعد ذلك: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإنه إذا كان عليماً بذات الصدور فعلمه بالقول المسر والمجهور به أولى" ((انظر الإيمان صـ 130 - مجموع الفتاوى 15 / 36)).
4-
أما قوله تعالى: آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا [آل عمران: 41] فقد ذكر في مريم ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم: 10] و"لم يستثن شيئاً، والقصة واحدة، وهذا يدل على أن الاستثناء منقطع، والمعنى: آيتك ألا تكلم الناس، لكن ترمز لهم رمزا" ((انظر الإيمان صـ 131)).
5-
أما قول عمر في قصة السقيفة "زورت في نفسي مقالة" فهي حجة عليهم، لأن التزوير: إصلاح الكلام وتهيئته، "فلفظها يدل على أنه قدر في نفسه ما يريد أن يقوله ولم يقله، فعلم أنه لا يكون قولاً إلا إذا قيل باللسان، وقبل ذلك لم يكن قولاً، لكن كان مقدراً في النفس، يراد أن يقال، كما يقدر الإنسان في نفسه أنَّه يحج, وأنَّه يصلي، وأنَّه يسافر، إلى غير ذلك، فيكون لما يريده من القول والعمل صورة ذهنية مقدرة في النفس، ولكن لا يسمى قولاً وعملاً إلا إذا وجدت في الخارج... ((انظر الإيمان صـ 131- 132)) " وهذا يدل عليه الحديث السابق: إن الله تجاوز لأمتي عمَّا حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل.
6-
أما البيت المنسوب للأخطل، ففيه ما فيه من ناحية صحة نسبته إليه، حتى ألفاظ البيت حرفت لتوافق مقصود من استشهد به من أهل الكلام، وقد تعجب شيخ الإسلام من هؤلاء الذين يحتجون بهذا البيت الذي قاله نصراني ، ولم يثبت عنه – فقال: " ولو احتج في مسألة بحديث أخرجاه في الصحيحين عن النَّبي صلى الله عليه وسلم لقالوا: هذا خبر واحد، ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول، وهذا البيت لم يثبت نقله عن قائله بإسناد صحيح, لا واحد ولا أكثر من واحد، ولا تلقاه أهل العربية بالقبول، فكيف يثبت به أدنى شيء من اللغة، فضلاً عن مسمَّى الكلام" ((انظر الإيمان صـ 132))، وقد أطال شيخ الإسلام في المناقشة بما يشفي ويكفي((انظر الإيمان صـ 132 - 134)) .
هذه أدلة الأشاعرة النقلية واللغوية على قولهم بالكلام النفسي، مع بيان بطلان استدلالهم فيها، وبيان أنها في الرد عليهم أقرب من أن تكون دليلاً لهم.
وشيخ الإسلام لم يقتصر على مثل هذه الردود، وإنما ناقش حقيقة مذهبهم في الكلام النفسي، وأن قولهم فيه باطل، وقد جاءت هذه المناقشة المهمة في التسعينية
من خلال عدد من الأوجه ((انظر التسعينية الوجه الثاني عشر إلى الوجه الخامس والعشرين صـ 151 - 169)) ، ويمكن تلخيص مناقشاته هذه بما يلي:
اعترض على دعوى الأشاعرة بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس فقيل لهم: أنتم قلتم: إن الكلام هو الخبر والأمر والنهي، وأن ذلك كله معنى يقوم بالنفس، فيقال لكم: إذا كان الكلام عندكم لا صيغة له, فما الفرق بين الخبر والعلم، وبين الأمر, والنهي, والإرادة؟ لأن الخبر – بدون صيغة وألفاظ – ليس غير العلم الذي يقوم بالنفس، وكذا الأمر والنهي – بغير صيغة ولفظ الأمر والنهي – وليس غير الإرادة التي تقوم بالنفس. وإذا صح هذا كان إثباتكم للكلام النفسي على أنه الخبر والأمر والنهي إنما يرجع إلى صفتي: العلم والإرادة، والنتيجة أن قولكم يؤدي إلى إنكار صفة الكلام، لأن ما أثبتموه من الكلام النفسي لم يكن غير العلم والإرادة.
أجاب الأشاعرة عن ذلك – كما يعبر عنهم الرازي – بما يلي:
أ -
أجاب بعضهم بأن الخبر يؤول إلى العلم، بناء على أن بعض الناس قال في الكلام إن الأمر والنهي يؤول إلى الخبر، وإذا كان كذلك فلم لا يؤول الخبر أيضا إلى العلم. ولكن شيخ الإسلام ضعف هذا الجواب بناء على أن الإنسان يجد في نفسه فرقاً بين الطلب والخبر ((انظر التسعينية صـ 152 - 154)) .
ثم إنه أجاب عن ذلك بأن الرَّازي والأشاعرة إذا كانوا قد أجابوا عن مسألة الأمر والنهي بأن الله قد يأمر بما لا يريد – ومعهم في هذا حقٌّ بالنسبة للإرادة الكونية
– إلا أنهم لم يمكنهم أن يقولوا: إن الله أخبر بما لا يعلمه، أو بما يعلم ضده، بل علمه من لوازم خبره، ولهذا أخبر الله تعالى عن رسوله بأن القرآن لما جاءه، جاءه العلم فقال تعالى: فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران: 61] وقال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ [البقرة: 120] ، وهذا مما احتج به الأئمة على تكفير من قال بخلق القرآن، لأن الله أخبر أن هذا الذي جاءه من العلم، وقول المعتزلة يستلزم أن يكون علم الله مخلوقاً (( انظر التسعينية صـ 154)) .
أما دعوى أن الإنسان قد يحكم أو يخبر بخلاف علمه –وهي حجة الرازي التي سبقت– فإن شيخ الإسلام ردَّ عليها من وجوه:
أحدها:
أن الأشاعرة أنفسهم قد أقروا بفسادها؛ وذلك "أنهم يحتجون على وجوب الصدق لله بأن الكلام النفساني يمتنع فيه الكذب لوجوب العلم لله، وامتناع الجهل، وهذا الدليل قد ذكره جميع أئمتهم حتى الرازي ذكره – لكن قال: إنما يدل على صدق الكلام النفساني لا على صدق الحروف الدالة عليه – وإذا جاز أن يتصف الحي بحكم نفساني لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه، بل يعلم خلافه، امتنع حينئذ أن يقال: الحكم النفساني مستلزم للعلم، أو أنه يمتنع أن يكون بخلاف العلم فيكون كذباً. وهذا الذي قالوه تناقض في عين الشيء، ليس تناقضاً من جهة اللزوم..." ((انظر التسعينية صـ 155 - مجموع الفتاوى 13 / 129)) ، ووجه التناقض واضح فإنهم لما أرادوا أن يقولوا أن الخبر قد يغاير العلم استدلوا بأن الإنسان قد يحكم ويخبر بخلاف علمه مما هو كذب، فيكون خبره مخالفاً لعلمه، ثم قالوا في الاستدلال على أن الله صادق أن الكلام النفساني يمتنع فيه الكذب لوجوب العلم لله وامتناع الجهل، وعليه فيمتنع أن يكون في خبر الله ما يخالف علمه، وهذا يناقض القول السابق بأن الإنسان قد يخبر بخلاف علمه. وإذا علم أن أصل المسألة إنما يتعلق بخبر الله وعلمه لا خبر الإنسان وعلمه بأن تناقضهم، ولم يفدهم شيئاً كون ذلك قد يقع للإنسان، لأنهم إنما احتجوا بذلك ليتوصلوا به إلى صحة مغايرة الخبر للعلم بالنسبة لله، وهم يقولون إن خبر الله لا يخالف علمه.
الثاني-
تناقضهم أيضاً في مسألة الإيمان، فإنهم يقولون – كما يقول الجويني– "عن حقيقة الإيمان التصديق بالله تعالى، فالمؤمن بالله من صدقه، ثم التصديق على التحيق كلام النفس، ولا يثبت كلام النفس إلا مع العلم، فإنا أوضحنا أن كلام النفس يثبت على حسب الاعتقاد" ((انظر الإرشاد للجويني صـ 379)) ، قال شيخ الإسلام مبيناً تناقضهم: "وهذا تصريح بأنه لا يكون (أي الإيمان والتصديق) مع عدم العلم، ولا يكون على خلاف المعتقد، وهذا يناقض ما أثبتوه به كلام النفس وادعوا أنه مغاير للعلم" ((انظر التسعينية صـ 157)) ، ويلاحظ هنا أن الجويني صرح بأن التصديق – على التحقيق – كلام النفس، ثم صرح بأنه لا يكون كلام النفس إلا مع العلم. وهذا مناقض تماماً لما ذكروه في الكلام النفسي.
ولبعض الأشاعرة تناقض آخر في مسألة الإيمان، حيث صرح أبو إسحاق بأن الإيمان هو التصديق، وأن ذلك لا يتحقق إلا بالمعرفة والإقرار، وإذا كان من المعلوم أن الإقرار إنما يكون باللسان، كان هذا مناقضاً لما ادعوه من أن الكلام مجرد ما يقوم بالنفس ((انظر التسعينية صـ 160 - 161)).
الثالث:
أن دعواهم – في مغايرة الخبر للعلم – بأن الإنسان قد يخبر بخلاف علمه مما هو كذب "يهدم عليهم إثبات العلم بصدق الكلام النفساني القائم بذات الله، وإذا فسد ذلك لم ينفعهم إثبات كلام له يجوز أن يكون صدقاً أو كذباً، بل لم ينفعهم إثبات كلام لم يعلموا وجوده إلا وهو كذب؛ فإنهم لم يثبتوا الخبر النفساني إلا بتقدير الخبر الكذب، فهم لم يعلموا وجود خبر نفساني إلا ما كان كذباً، فإن أثبتوا لله ذلك كان كفراً باطلاً خلاف مقصودهم وخلاف إجماع الخلائق، إذ أحد لا يثبت لله كلاماً لازماً لذاته هو كذب، وإن لم يثبتوا ذلك لم يكن لهم طريق إلى إثبات الخبر النفساني بحال، لأنا حينئذ لم نعلم وجود معنى نفسانياً صدقاً غير العلم ونحوه لا شاهداً ولا غائباً" ((انظر التسعينية صـ 162)) .
الرابع:
أن الله تعالى قال: فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] "فنفى عنهم التكذيب وأثبت الجحود، ومعلوم أن التكذيب باللسان لم يكن منتفياً عنهم التكذيب, وأثبت الجحود، ومعلوم أن التكذيب باللسان لم يكن منتفياً عنهم، فعلم أنه نفى عنهم تكذيب القلب، ولو كان المكذب الجاحد علمه يقوم بقلبه خبر نفساني لكانوا مكذبين بقلوبهم، فلما نفى عنهم تكذيب القلوب علم أن الجحود الذي هو ضرب الكذب، والتكذيب بالحق المعلوم – ليس هو كذباً في النفس ولا تكذيباً فيها، وذلك يوجب أن العالم بالشيء لا يكذب به, ولا يخبر في نفسه بخلاف علمه" ((انظر التسعينية صـ 165)) ، وقد اعترض على هذا باعتراض أجاب عنه شيخ الإسلام ((انظر التسعينية صـ 165 - 166)) .
ولشيخ الإسلام مناقشات وأوجه أخرى في الرد ((انظر التسعينية صـ 166 - 169)). وبهذه الأوجه يتبين أن ما ادعاه الأشاعرة من أن الخبر يغاير العلم غير صحيح بالنسبة لله، وإذا ثبت هذا تبين أن إثباتهم للكلام النفسي ليس شيئاً غير صفة العلم، فأين صفة الكلام التي أثبتوها مغايرة لصفة العلم؟.
ب -
أما بالنسبة لقولهم في مغايرة الأمر والنهي للإرادة بأن الله قد يأمر بما لا يريد، فقد أجاب شيخ الإسلام عن ذلك بأجوبة منها:
الأول:
أنه احتج بإرادة الكائنات، وهذا في الإرادة الشاملة لكل موجود, المنتفية عن كل معدوم, وهي الإرادة الكونية القدرية، وهذه ليست الإرادة التي هي مدلول الأمر والنهي، لأن هذه مستلزمة للمحبة والرضا. وقد جاءت النصوص بالتفريق بين الإرادتين، فالكونية مثل قوله تعالى: فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء[الأنعام: 125] والثانية مثل قوله تعالى: مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6] ، وغيرها كثير ((انظر التسعينية صـ 151)).
الثاني:
أن احتجاج الرازي بإرادة الكائنات – وهي الإرادة الكونية - وأن الله قد يأمر بما لا يريد : معارض بأن النهي مستلزم لكراهة المنهي عنه، كما أن الأمر مستلزم لمحبة الأمور به، والمكروه لا يكون مراداً – شرعاً -. والمنهي عنه إذا وقع – يعتوره أمران:
# أنه مراد إرادة كونية شاملة.
# وأنه غير مراد الإرادة الدينية، بل هو مكروه.
فالإرادة المنفية عن المكروه الواقع غير الإرادة اللازمة له، وكل منهي عنه وإن كان مراداً فهو مكروه والكراهة مستلزمة له، فإجابة الرازي بأن إرادة الكائنات فيها ما هو منهي مردودة بأن ما كان منها منهياً عنه فهو مكروه، فلزمت الكراهية النهي وإن كان مراداً كوناً, وهذا يضعف احتجاجه بأن الله قد ينهي عما يريد. وقد أجاب الرازي بقوله: لا نسلم أنها مكروهة، بل هي منهي عنها. ولكن هذا الجواب مخالف لإجماع المسلمين, بل لما علم بالضرورة من الدين، والله تعالى يقول: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء: 38] .
الثالث:
أن الرازي لما طولب بالفرق بين الطلب والإرادة ذكر وجهين ضعيفين، ذكرهما شيخ الإسلام وناقشهما ((انظر التسعينية صـ 151 - 152)) . ومع ذلك فإن شيخ الإسلام قد ذكر أن تفريق الأشاعرة بين الخبر والعلم ليس عندهم فيه أي دليل صحيح، بخلاف تفريقهم بين الأمر والنَّهي وبين الإرادة، بأن الله قد يأمر بما لا يريد، مع ما في هذا الدليل مما سبق بيانه.
وبما سبق من مناقشة أدلة الأشاعرة على الكلام النفسي، وما تلاه من اعتراض عليهم بأنه لا فرق بين الخبر والعلم، ولا بين الأمر والنهي والإرادة، ما داموا حصروا الكلام بأنه ما قام بالنفس فقط، فصفتا العلم والإرادة تقومان مقامه.
يُـتبع إن شاء الله ...
منقول من أحد ردود موقع الدرر السنية على الرابط التالي :
http://dorar.net/enc/firq/234
أثبت الأشاعرة بإجمال صفة الكلام لله، وقالوا خلافاً للمعتزلة والجهمية وغيرهم من النفاة إن هذه الصفة ثابتة، قائمة بالله تعالى، ولكنهم فسروها بأنها معنى يقوم بذات الله، لازم له أزلاً وأبداً، وسموا هذا المعنى بالكلام النفسي وقالوا إن هذا المعنى القائم بالذات لا ينقسم إلى سرٍّ وعلانية، ولا يكون منه شيء في نفس الربِّ وشيء منه عند الملائكة، بل أسماع الملائكة أو غيرهم لكلامه إنما هو خلق إدراك لهم فقط ((انظر نقض التأسيس - مخطوط 2 / 52)).
فحصروا الكلام بما يقوم بالنفس، وأنه لازم للذات لا ينفك عنها، وأن الألفاظ والحروف ليست كلاماً. وقد احتجوا لأقوالهم بعدة حجج منها:
1- قوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ [المجادلة: 8].
2- وقوله تعالى: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً [الأعراف: 205].
3- قوله تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الملك: 13]. فسمى الإسرار قولاً.
4- وقوله تعالى: آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا [عمران: 41].
5- وقول عمر – رضي الله عنه – (زورت في نفسي مقالة أردت أن أقولها).
6- وقول الشاعر النصراني الأخطل :
إن الكلام لفي الفؤاد... ..
هذه أهم حججهم على الكلام النفسي، وقد ناقش شيخ الإسلام هذه الحجج، وبيَّن أنه لا دليل لهم فيها:
1-
أما قوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة: 8] فعنه جوابان:
أحدهما:
أن المراد أنهم قالوه بألسنتهم سرًّا، وحينئذٍ فلا حجة لهم فيه. وهذا هو الذي ذكره المفسرون، حيث كانوا يقولون: سام عليك، فإذا خرجوا يقولون في أنفسهم، أي يقول بعضهم لبعض: لو كان نبيًّا عذبنا بقولنا له ما نقول ((انظر الإيمان صـ 129 - مجموع الفتاوى - 15 / 35)).
والثاني:
أنه قيده بالنفس، وهذا على أن المقصود أنهم قالوه بقلوبهم، وإذا قيد القول بالنفس كان دلالة المقيد خلاف دلالة المطلق، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:
((إن الله تجاوز لأمتي عمَّا حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم أو تعمل))
((رواه البخاري ومسلم)) ، وهذا رد عليهم مطلقاً لأنه قال "ما لم تتكلم" فدل على أن حديث النفس ليس هو الكلام المطلق.
2-
وأما قوله تعالى: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً [الأعراف: 205] فالمقصود الذكر باللسان لأنه قال " تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول "، ومن استقراء النصوص يتبين أن الذي يقيد بالنفس لفظ "الحديث"، مثل الحديث السابق: " وما حدثت به أنفسها "، أما لفظ "الكلام" فلم يعرف أنه أريد به ما في النفس فقط ((انظر الإيمان صـ 130)).
3-
أما قوله: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ [الملك: 13] واحتجاجهم على أن القول المسر في القلب دون اللسان لقوله تعالى في آخر الآية: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
، فـ "هذه حجة ضعيفة جدًّا؛ لأن قوله: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ يبيِّن أن القول يسر به تارة، ويجهر به أخرى، وهذا إنما هو فيما يكون في القول الذي هو بحروف مسموعة، وقوله بعد ذلك: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإنه إذا كان عليماً بذات الصدور فعلمه بالقول المسر والمجهور به أولى" ((انظر الإيمان صـ 130 - مجموع الفتاوى 15 / 36)).
4-
أما قوله تعالى: آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا [آل عمران: 41] فقد ذكر في مريم ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم: 10] و"لم يستثن شيئاً، والقصة واحدة، وهذا يدل على أن الاستثناء منقطع، والمعنى: آيتك ألا تكلم الناس، لكن ترمز لهم رمزا" ((انظر الإيمان صـ 131)).
5-
أما قول عمر في قصة السقيفة "زورت في نفسي مقالة" فهي حجة عليهم، لأن التزوير: إصلاح الكلام وتهيئته، "فلفظها يدل على أنه قدر في نفسه ما يريد أن يقوله ولم يقله، فعلم أنه لا يكون قولاً إلا إذا قيل باللسان، وقبل ذلك لم يكن قولاً، لكن كان مقدراً في النفس، يراد أن يقال، كما يقدر الإنسان في نفسه أنَّه يحج, وأنَّه يصلي، وأنَّه يسافر، إلى غير ذلك، فيكون لما يريده من القول والعمل صورة ذهنية مقدرة في النفس، ولكن لا يسمى قولاً وعملاً إلا إذا وجدت في الخارج... ((انظر الإيمان صـ 131- 132)) " وهذا يدل عليه الحديث السابق: إن الله تجاوز لأمتي عمَّا حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل.
6-
أما البيت المنسوب للأخطل، ففيه ما فيه من ناحية صحة نسبته إليه، حتى ألفاظ البيت حرفت لتوافق مقصود من استشهد به من أهل الكلام، وقد تعجب شيخ الإسلام من هؤلاء الذين يحتجون بهذا البيت الذي قاله نصراني ، ولم يثبت عنه – فقال: " ولو احتج في مسألة بحديث أخرجاه في الصحيحين عن النَّبي صلى الله عليه وسلم لقالوا: هذا خبر واحد، ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول، وهذا البيت لم يثبت نقله عن قائله بإسناد صحيح, لا واحد ولا أكثر من واحد، ولا تلقاه أهل العربية بالقبول، فكيف يثبت به أدنى شيء من اللغة، فضلاً عن مسمَّى الكلام" ((انظر الإيمان صـ 132))، وقد أطال شيخ الإسلام في المناقشة بما يشفي ويكفي((انظر الإيمان صـ 132 - 134)) .
هذه أدلة الأشاعرة النقلية واللغوية على قولهم بالكلام النفسي، مع بيان بطلان استدلالهم فيها، وبيان أنها في الرد عليهم أقرب من أن تكون دليلاً لهم.
وشيخ الإسلام لم يقتصر على مثل هذه الردود، وإنما ناقش حقيقة مذهبهم في الكلام النفسي، وأن قولهم فيه باطل، وقد جاءت هذه المناقشة المهمة في التسعينية
من خلال عدد من الأوجه ((انظر التسعينية الوجه الثاني عشر إلى الوجه الخامس والعشرين صـ 151 - 169)) ، ويمكن تلخيص مناقشاته هذه بما يلي:
اعترض على دعوى الأشاعرة بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس فقيل لهم: أنتم قلتم: إن الكلام هو الخبر والأمر والنهي، وأن ذلك كله معنى يقوم بالنفس، فيقال لكم: إذا كان الكلام عندكم لا صيغة له, فما الفرق بين الخبر والعلم، وبين الأمر, والنهي, والإرادة؟ لأن الخبر – بدون صيغة وألفاظ – ليس غير العلم الذي يقوم بالنفس، وكذا الأمر والنهي – بغير صيغة ولفظ الأمر والنهي – وليس غير الإرادة التي تقوم بالنفس. وإذا صح هذا كان إثباتكم للكلام النفسي على أنه الخبر والأمر والنهي إنما يرجع إلى صفتي: العلم والإرادة، والنتيجة أن قولكم يؤدي إلى إنكار صفة الكلام، لأن ما أثبتموه من الكلام النفسي لم يكن غير العلم والإرادة.
أجاب الأشاعرة عن ذلك – كما يعبر عنهم الرازي – بما يلي:
أ -
أجاب بعضهم بأن الخبر يؤول إلى العلم، بناء على أن بعض الناس قال في الكلام إن الأمر والنهي يؤول إلى الخبر، وإذا كان كذلك فلم لا يؤول الخبر أيضا إلى العلم. ولكن شيخ الإسلام ضعف هذا الجواب بناء على أن الإنسان يجد في نفسه فرقاً بين الطلب والخبر ((انظر التسعينية صـ 152 - 154)) .
ثم إنه أجاب عن ذلك بأن الرَّازي والأشاعرة إذا كانوا قد أجابوا عن مسألة الأمر والنهي بأن الله قد يأمر بما لا يريد – ومعهم في هذا حقٌّ بالنسبة للإرادة الكونية
– إلا أنهم لم يمكنهم أن يقولوا: إن الله أخبر بما لا يعلمه، أو بما يعلم ضده، بل علمه من لوازم خبره، ولهذا أخبر الله تعالى عن رسوله بأن القرآن لما جاءه، جاءه العلم فقال تعالى: فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران: 61] وقال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ [البقرة: 120] ، وهذا مما احتج به الأئمة على تكفير من قال بخلق القرآن، لأن الله أخبر أن هذا الذي جاءه من العلم، وقول المعتزلة يستلزم أن يكون علم الله مخلوقاً (( انظر التسعينية صـ 154)) .
أما دعوى أن الإنسان قد يحكم أو يخبر بخلاف علمه –وهي حجة الرازي التي سبقت– فإن شيخ الإسلام ردَّ عليها من وجوه:
أحدها:
أن الأشاعرة أنفسهم قد أقروا بفسادها؛ وذلك "أنهم يحتجون على وجوب الصدق لله بأن الكلام النفساني يمتنع فيه الكذب لوجوب العلم لله، وامتناع الجهل، وهذا الدليل قد ذكره جميع أئمتهم حتى الرازي ذكره – لكن قال: إنما يدل على صدق الكلام النفساني لا على صدق الحروف الدالة عليه – وإذا جاز أن يتصف الحي بحكم نفساني لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه، بل يعلم خلافه، امتنع حينئذ أن يقال: الحكم النفساني مستلزم للعلم، أو أنه يمتنع أن يكون بخلاف العلم فيكون كذباً. وهذا الذي قالوه تناقض في عين الشيء، ليس تناقضاً من جهة اللزوم..." ((انظر التسعينية صـ 155 - مجموع الفتاوى 13 / 129)) ، ووجه التناقض واضح فإنهم لما أرادوا أن يقولوا أن الخبر قد يغاير العلم استدلوا بأن الإنسان قد يحكم ويخبر بخلاف علمه مما هو كذب، فيكون خبره مخالفاً لعلمه، ثم قالوا في الاستدلال على أن الله صادق أن الكلام النفساني يمتنع فيه الكذب لوجوب العلم لله وامتناع الجهل، وعليه فيمتنع أن يكون في خبر الله ما يخالف علمه، وهذا يناقض القول السابق بأن الإنسان قد يخبر بخلاف علمه. وإذا علم أن أصل المسألة إنما يتعلق بخبر الله وعلمه لا خبر الإنسان وعلمه بأن تناقضهم، ولم يفدهم شيئاً كون ذلك قد يقع للإنسان، لأنهم إنما احتجوا بذلك ليتوصلوا به إلى صحة مغايرة الخبر للعلم بالنسبة لله، وهم يقولون إن خبر الله لا يخالف علمه.
الثاني-
تناقضهم أيضاً في مسألة الإيمان، فإنهم يقولون – كما يقول الجويني– "عن حقيقة الإيمان التصديق بالله تعالى، فالمؤمن بالله من صدقه، ثم التصديق على التحيق كلام النفس، ولا يثبت كلام النفس إلا مع العلم، فإنا أوضحنا أن كلام النفس يثبت على حسب الاعتقاد" ((انظر الإرشاد للجويني صـ 379)) ، قال شيخ الإسلام مبيناً تناقضهم: "وهذا تصريح بأنه لا يكون (أي الإيمان والتصديق) مع عدم العلم، ولا يكون على خلاف المعتقد، وهذا يناقض ما أثبتوه به كلام النفس وادعوا أنه مغاير للعلم" ((انظر التسعينية صـ 157)) ، ويلاحظ هنا أن الجويني صرح بأن التصديق – على التحقيق – كلام النفس، ثم صرح بأنه لا يكون كلام النفس إلا مع العلم. وهذا مناقض تماماً لما ذكروه في الكلام النفسي.
ولبعض الأشاعرة تناقض آخر في مسألة الإيمان، حيث صرح أبو إسحاق بأن الإيمان هو التصديق، وأن ذلك لا يتحقق إلا بالمعرفة والإقرار، وإذا كان من المعلوم أن الإقرار إنما يكون باللسان، كان هذا مناقضاً لما ادعوه من أن الكلام مجرد ما يقوم بالنفس ((انظر التسعينية صـ 160 - 161)).
الثالث:
أن دعواهم – في مغايرة الخبر للعلم – بأن الإنسان قد يخبر بخلاف علمه مما هو كذب "يهدم عليهم إثبات العلم بصدق الكلام النفساني القائم بذات الله، وإذا فسد ذلك لم ينفعهم إثبات كلام له يجوز أن يكون صدقاً أو كذباً، بل لم ينفعهم إثبات كلام لم يعلموا وجوده إلا وهو كذب؛ فإنهم لم يثبتوا الخبر النفساني إلا بتقدير الخبر الكذب، فهم لم يعلموا وجود خبر نفساني إلا ما كان كذباً، فإن أثبتوا لله ذلك كان كفراً باطلاً خلاف مقصودهم وخلاف إجماع الخلائق، إذ أحد لا يثبت لله كلاماً لازماً لذاته هو كذب، وإن لم يثبتوا ذلك لم يكن لهم طريق إلى إثبات الخبر النفساني بحال، لأنا حينئذ لم نعلم وجود معنى نفسانياً صدقاً غير العلم ونحوه لا شاهداً ولا غائباً" ((انظر التسعينية صـ 162)) .
الرابع:
أن الله تعالى قال: فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] "فنفى عنهم التكذيب وأثبت الجحود، ومعلوم أن التكذيب باللسان لم يكن منتفياً عنهم التكذيب, وأثبت الجحود، ومعلوم أن التكذيب باللسان لم يكن منتفياً عنهم، فعلم أنه نفى عنهم تكذيب القلب، ولو كان المكذب الجاحد علمه يقوم بقلبه خبر نفساني لكانوا مكذبين بقلوبهم، فلما نفى عنهم تكذيب القلوب علم أن الجحود الذي هو ضرب الكذب، والتكذيب بالحق المعلوم – ليس هو كذباً في النفس ولا تكذيباً فيها، وذلك يوجب أن العالم بالشيء لا يكذب به, ولا يخبر في نفسه بخلاف علمه" ((انظر التسعينية صـ 165)) ، وقد اعترض على هذا باعتراض أجاب عنه شيخ الإسلام ((انظر التسعينية صـ 165 - 166)) .
ولشيخ الإسلام مناقشات وأوجه أخرى في الرد ((انظر التسعينية صـ 166 - 169)). وبهذه الأوجه يتبين أن ما ادعاه الأشاعرة من أن الخبر يغاير العلم غير صحيح بالنسبة لله، وإذا ثبت هذا تبين أن إثباتهم للكلام النفسي ليس شيئاً غير صفة العلم، فأين صفة الكلام التي أثبتوها مغايرة لصفة العلم؟.
ب -
أما بالنسبة لقولهم في مغايرة الأمر والنهي للإرادة بأن الله قد يأمر بما لا يريد، فقد أجاب شيخ الإسلام عن ذلك بأجوبة منها:
الأول:
أنه احتج بإرادة الكائنات، وهذا في الإرادة الشاملة لكل موجود, المنتفية عن كل معدوم, وهي الإرادة الكونية القدرية، وهذه ليست الإرادة التي هي مدلول الأمر والنهي، لأن هذه مستلزمة للمحبة والرضا. وقد جاءت النصوص بالتفريق بين الإرادتين، فالكونية مثل قوله تعالى: فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء[الأنعام: 125] والثانية مثل قوله تعالى: مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6] ، وغيرها كثير ((انظر التسعينية صـ 151)).
الثاني:
أن احتجاج الرازي بإرادة الكائنات – وهي الإرادة الكونية - وأن الله قد يأمر بما لا يريد : معارض بأن النهي مستلزم لكراهة المنهي عنه، كما أن الأمر مستلزم لمحبة الأمور به، والمكروه لا يكون مراداً – شرعاً -. والمنهي عنه إذا وقع – يعتوره أمران:
# أنه مراد إرادة كونية شاملة.
# وأنه غير مراد الإرادة الدينية، بل هو مكروه.
فالإرادة المنفية عن المكروه الواقع غير الإرادة اللازمة له، وكل منهي عنه وإن كان مراداً فهو مكروه والكراهة مستلزمة له، فإجابة الرازي بأن إرادة الكائنات فيها ما هو منهي مردودة بأن ما كان منها منهياً عنه فهو مكروه، فلزمت الكراهية النهي وإن كان مراداً كوناً, وهذا يضعف احتجاجه بأن الله قد ينهي عما يريد. وقد أجاب الرازي بقوله: لا نسلم أنها مكروهة، بل هي منهي عنها. ولكن هذا الجواب مخالف لإجماع المسلمين, بل لما علم بالضرورة من الدين، والله تعالى يقول: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء: 38] .
الثالث:
أن الرازي لما طولب بالفرق بين الطلب والإرادة ذكر وجهين ضعيفين، ذكرهما شيخ الإسلام وناقشهما ((انظر التسعينية صـ 151 - 152)) . ومع ذلك فإن شيخ الإسلام قد ذكر أن تفريق الأشاعرة بين الخبر والعلم ليس عندهم فيه أي دليل صحيح، بخلاف تفريقهم بين الأمر والنَّهي وبين الإرادة، بأن الله قد يأمر بما لا يريد، مع ما في هذا الدليل مما سبق بيانه.
وبما سبق من مناقشة أدلة الأشاعرة على الكلام النفسي، وما تلاه من اعتراض عليهم بأنه لا فرق بين الخبر والعلم، ولا بين الأمر والنهي والإرادة، ما داموا حصروا الكلام بأنه ما قام بالنفس فقط، فصفتا العلم والإرادة تقومان مقامه.
يُـتبع إن شاء الله ...