المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قاصمة الظهر للملحدين



ياسرالعمراني
05-26-2006, 03:05 PM
الإسلام يتحدى

وحيد الدين خان

ترجمة
ظفر الدين خان

مراجعة وتقديم
د. عبد الصبور شاهين


تقديم الطبعة الأولى
بقلم الدكتور عبد الصبور شاهين

ما أكثر ما يكتب عن الإسلام والمسلمين في مطبوعات هذا العصر في العربية وغير العربية وما أقل غناء أكثره.
قليل جدا من الكتابات الإسلامية هو الذي يعد إسهاما في معالجة مشكلات عالمنا الإسلامي إسهاما جادا مخلصا من أجل عودته وتقدمه.
وكثير جدا ما نقرؤه من تلك الكتابات التقريرية أو الرثائية الوعظية التي تخطها أقلام إن كانت تتاجر بالدين فلا غرابة في عالم يقوم على المتاجرة حتى بالقيم فأما إذا كانت معروفة بالعلم والذكاء ، فذلك هو داعي الحسرة والإشفاق في أنفسنا على علمائنا الأذكياء.
أيمكن أن نتصور عالم الفكر الإسلامي مجرد أقاصيص تحكى للبهر ، أو مقالات يجتهد أصحابها في تدبيج مقدماتها وسياقاتها لننتهي بعد قر ائتها إلى هز الرءوس ولوك عبارات الثناء والإعجاب؟
هذا على حين يتشاغل كتاب الفلسفات المادية برسم تطلعات العصر وعلاج مشكلات التطبيق على مستوى عالمي ، حتى ليحس المرء بعد مطالعة بحث من هذه البحوث بحاجته إلى أن ينزوي نفسيا في ركن من أركان اليأس والقنوط ، لأنه غائب تماما عن المعركة الحاضرة! ! .
تلك محنة الوجدان والعقل المسلم الذي ينشد لدى كتابه ومفكريه مستوى من المبادرة والجد والإخلاص ، ولونا من الكتابة المباشرة التي تعيش عصرها وأفكاره وتطلعاته ، فإذا هم لا يزيدون على مضغ حكايات الأولياء واجترار بضعة خيالات محلقة في سماوات التيه ، ومجابهة الواقع الصارخ الملح بما يميعه في وعى الجماهير ثم يسرح بها بعيدا بعيدا في أحلام الماضي وتصوراته.
ومن البله أن نظن أن أخبار السلف هدف ثقافي يقصد لذاته كمتعة عقلية دون أن يكون من وراء ذلك مشروع إنهاض وخطة توعية من أجل صنع الحاضر والتأثير في الأجيال القادمة ، حسب هؤلاء السلف أنهم كانوا أمثلة مسهمة في صنع عصرهم وتوجيه معاصريهم ، ثم مضوا عليهم من الله رضوان ومن الناس سلام.
وجاء من بعدهم خلف أصبح بعد حين سلفا بعد أن مضى إلى الرفيق الأعلى مخلفا كذلك تركة من السلوك ومن الكفاح هي جزء من تاريخ أمتنا.
وجاء جيلنا ليتوهم أو ليراد له أن يتوهم أنه مجرد وارث لأجيال سابقة عليه أن يستغل تركتها في خلق ملذاته ، فإذا ما جوبه بتحديات عصره لجأ إلى المباهاة بتراثه ، المباهاة وحدها المتمثلة في أكثر الكتابات المنشورة التي لا تمل أن تحكى وتحكى ، حكايات في حكايات ، وتقف أحيانا مستعلية من فوق منبر لتمطر على الحضور وعظا في وعظ دون أن تبلغ في ظن الجماهير أن تهز وجدانا أو حتى تحرك قشة.
إن أخص صفات عصرنا هي أنه ينتج من الأفكار بقدر ما ينتج من الأشياء ، وليس من الضروري أن نتطلب من الأفكار المنتجة أن تكون نافعة دائما كالأشياء ، فإن المجتمعات التي تصدر إلينا أشياء الحضارة ترى في الأفكار سلعة ينبغي أن تتغير كل يوم كما تتغير طرز الأشياء ولذلك يقف مثقفونا مبهورين أمام موجودات الفكر الواردة من الخارج ماذا يأخذون ، وماذا يدعون؟ بل قل: ماذا يقرءون ، وماذا يترجمون؟ . . ولا شيء أكثر من هذا. . . يكفيهم أن يستطيعوا ملاحقة الأفكار دون أن يكون عليهم أن يواجهوها ، أو ينقدوها ، فهم إلى أن يصوغوا نقدا معينا لأحد الاتجاهات الجديدة نسبيا يكون الوقت قد فات ، وتقادم بمرور الزمن من ينقدون ، وغطت عليه أفكار أخرى أشد لمعانا وأكثر جاذبية وإشعاعا.
ومما لا شك فيه أن العالم الإسلامي هدف ثمين من أهداف-تصدير- الأفكار ، نظرا إلى موقعه وخطورة موقفه بين الكتل المتصارعة ، أو بعبارة أخرى: مراكز الإنتاج ، والهدف من وراء التصدير واحد لدى كل هذه المراكز: أن يبقى هذا العالم مفتقرا إليها على اختلافها ، وأن يحال بينه وبين أفكاره الأصيلة التي يمكن أن تغنيه عن الاستيراد ، وتحقق له الاكتفاء الذاتي.
ومن المعروف في دوائر الاقتصاد أن الاحتكار إذا تحقق لمركز إنتاجي في سوق معينة فإن من المتوقع أن يبدأ المنتج في إفساد السلعة ، بتقليل جودتها اعتادا على الاحتكار المتاح له وطمعا في ربح أوفر.
وسوق الأفكار أخطر أسواق المنتجات وأكثرها تقبلا للتزيف والإفساد ، ومن ثم حفلت أسواقنا بما هو أشد فتكا من السموم ، وأعظم انتشارا من الهواء يتخلل كل خلية وينخر في كل بناء. . أفكار ترتدي أثوابا أو تحمل شعارات أو ترفع مشاعل ليس الثوب فيها أو الشعار أو المشعل إلا قناعا يستر الزيف والخطر.
وليس من الممكن أن نفهم موجات السيطرة الخارجية على مجتمعاتنا إلا إذا لاحظنا مثلا تبعية الفتاة المسلمة في كثير من بلاد الشرق العربي لكل ما يظهر في أوروبا أو أمريكا من أزياء ، فما إن ترتدى الزي إحدى (المانيكان) قصيرا بمقدار سنتيمتر واحد حتى تبادر فتياتنا إلى تقصير أثوابهن بمقدار شبر واحد! !
ليس المهم ملاحظة أن تقصر الفتاة أو تطول ثوبها بحكم (الموضة) الشائعة فإذا لم تفعل عدت متخلفة وإنما المهم ملاحظة هذه السيطرة التي توفرت لملوك الأزياء وأكثرهم صهيونيون ، على فتياتنا المثقفات بخاصة ، حتى كأنهن جميعا أعضاء في جوقة موسيقية واحدة وأمامهن (مايسترو) كلما أشار بإصبعه أو بعصاه تحرك العازفون والعازفات في اتجاه العصا كالقطيع.
ودلالة هذه التبعية أخطر مما قد يبدو في ظاهر الأمر لأن تأثيرها كل القيم التي يقدسها المجتمع في شخص المرأة قيم الحياء ، والأنوثة الواعية ، والجسد غير المتعرض لذباب الأعين ، وقيم التماسك ، والالتزام في تربيتها ، وقيم الجيل الناشئ على يديها وهو الذي ننشده لغد هذه الأرض ومستقبل هذا الدين وبكلمة واحدة وبلا مغالاة: نحن هكذا محكومون من عمق مجتمعنا لملوك الأزياء ودولة المانيكان.
ومع ذلك قد يقال: إن مسألة الزي أقل خطرا من غيرها فهي على أية حال مسألة غلاف. . . أما غيرها كقضية المعتقدات التي تزيف للأجيال الناشئة وجوهرها تحطيم لدينها. . .
وقضية الروح المنهزمة أمام انتصارات العلم في غير بلاد الإسلام ، الروح التي تقف متضعضعة مبهورة أمام منجزات الإنسان الأوروبي أو الأمريكي.
وقضية الحرية الفكرية المعدومة في فلسفة التربية حتى أصبح كل هم المدارس إنتاج نماذج مصبوبة في بوتقة التبعية والتقليد. . وقضايا أخرى كثيرة كلها أهم من قضية المني جيب ؛ أو الميكرو جيب.
وبرعم ذلك لا نكاد نلمح أدنى فاصل بين هذه القضايا جميعا فالمصنع المنتج واحد وهدف التصدير واحد والمستهلك المستهلك واحد أيضا هو الإنسان المسلم.
والمشكلة بالإضافة إلى هذا كله أن أكثر كتابنا أصبحوا يرون في قيام هذه الحالات شيئا مألوفا غير جدير بالمناقشة إما زهدا في الدنيا وإما يأسا من الإصلاح وإما تعودوا على المشاهدة اليومية كما يتعود المدمن تأثير المخدر. وكأنهم المعنيون بقول الشاعر :
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجـرح بميـت إيـلام
وأقول: (أكثر كتابنا) لأن هنالك (قلة) نصبن أقلامها للذود عن المستقبل والدفاع ضد التيار المخرب متحملة في ذلك عنت الفساد وسلطانه ومتحدية في المجتمع مراكز استيراد الأفكار وعناصر اللامبالاة وهؤلاء القلة لا تكاد –والحمد لله- تخلو منهم أرض الإسلام ، يكتبون بكل لغة ويحاربون في كل معركة إيمانا منهم بوحدة المقاتلين أمام الخطر الزاحف.
ومن هؤلاء القلة مؤلفنا هذا الذي يدخل اسمه لأول مرة حقل اللغة العربية بنشر ذلك الكتاب: (الإسلام يتحدى) وإن كان لاسمه رنين مدو في شبه القارة الهندية باعتباره ثالث اثنين يتولون قضية الإسلام المعاصر في وجه الزحف الفكري: أبو الأعلى المودودى ، وأبو الحسن الندوي ، ووحيد الدين خان.
والحق أن علماء باكستان الهند المسلمين قد أتيح لهم أن يتصلوا اتصالا مباشرا بمصادر المعرفة الحديثة حتى أصبحوا من أعلامها ، وهم في هذا يضارعون أكثر علمائنا العرب اتصالا بثقافة الغرب مع فارق جوهري في رأينا هو أن الأولين الذين نشير إليهم لم يغرقوا أنفسهم في المعرفة الأكاديمية ، لتستولي من بعد على عقولهم وأقلامهم وليصبحوا مجرد ناشرين أو مفسرين أو حتى معلقين على ما يقدمون من فكر الغرب وعلومه.
لقد وقف هؤلاء عمالقة في وجه التيار وانغمسوا في مشكلات الجماهير وحاولوا أن يقدموا لهم تصوراتهم من أجل المستقبل و من أجل تحريك الثورة الفكرية في كيان الإنسان المسلم فهم في الحقيقة كتاب ثوريون ذوو أصالة ووعي وإيمان.
وليس من السهل أن نقول : إنهم جميعا يمثلون طريقة واحدة في الأداء برغم أن هدفهم واحد فإن لكل منهم أداءه الخاص وطريقته الفذة التي عرفته بها الجماهير المسلمة.
وحسبنا أن نقرأ هذا الكتاب الجديد لندرك أنه يمثل عقلا وثقافة ومنهجا يختلف بها مؤلفه عن جميع من عرفنا من الكتاب المعاصرين.
ولعل من المناسب أن أورد هنا ما كتبه المؤلف في صحيفته (الجمعيت الأسبوعية) في عدد 7 من فبراير 1969 ، موضحا الدور الذي يحاول أن يقوم به قال :
(إن المشكلات التي يواجهها الإسلام في هذا العصر ، منها ما هو علمي يوجه إليه بلغة العلم ومصطلحاته ولذلك كان لزاما أن نضع إجاباتنا في مواجهة هذه الحملات المسعورة بنفس المصطلحات العقلية والعلمية التي يستخدمها المعارضون للدين. ولازال هذا الميدان منذ أمد طويل مجالا لنشاطي واهتمامي حتى كان آخر ما كتبت : (الإسلام يتحدى). والميدان الثاني لنشاطي هو ما نسميه بميدان بناء الأمة الإسلامية وتعميرها والعمل على نهضتها وعلينا في هذا المجال أن نكشف العلل ونمحص الأسباب السياسية والاجتماعية التي أدت إلى سوء أحوال المسلمين ثم وضع خريطة للمستقبل بعد الوقوف على أسباب النكسة التي أصابتها وتقوية الشعور القومي لدى المسلمين (في شبه القارة الهندية) ليربط بين مختلف أنشطتهم فيجعلها مجموعة معنوية متكاملة وحثهم على مواصلة الجهد لتكون منهم أمة قوية جامعة في العالم.
(وبكلمة أخرى نحن نصبو إلى بعث الأحلام التي رآها أسلافنا خلال كفاحهم وتحقيقها لإعلاء شأن الأمة المسلمة وهى الأحلام التي لم تتحقق لسبب أو لآخر.
(وهذه هي المهمة الفكرية التي تضطلع بها صحيفتنا (الجمعيت الأسبوعية) ويمكننا أن نقول بحق: إن هذه المهمة قد أصبحت أكبر ميزة خاصة لجريدتنا في المجال الصحفي في هذا العصر على حين أصبحت الصحافة الإسلامية علما على الرثاء بل إن آخر ما تستطيعه هذه الصحافة هو مجرد التعليقات السياسية على الأحداث العامة وتقديم بعض المعلومات الطريفة التي يتشوق إليها العامة من القراء. ففي هذا المناخ الصحفي تعتبر (الجمعيت الأسبوعية9 الصحفية الوحيدة التي تعمل على إحياء وتقوية الشعور القومي لدى المسلمين ، باحثة عن مواطن الخطأ في كفاحهم الحضاري ونحن لا نجد كلمات نشكر الله بها على أنه-سبحانه- اختارنا بمشيئته لسد هذا الفراغ).
فالرجل كما نرى صاحب دعوة يريد إبلاغها إلى ضمير الأمة المسلمة بلاغا يحركها نحو أهدافها ويوحدها أمام الأخطار ، وهى دعوة ذات شقين ، أحدهما يستنفد العمر كله ولكنه يعمل لتحقيق كليهما بوسائله المتاحة: أن يكتب كتبا ، وأن يسخر مجلة أسبوعية.
والواقع أن كتابه هذا يعتبر تحقيقا لحلم طالما راود كتاب العقيدة والمدافعين عنها ، فقد كانت محاولات السابقين للبرهنة على وجود الله ، وإثبات الرسالة وما يتصل بهما من حقائق ميتافيزيقية-قد وقفت عند جهود علماء الكلام باستخدام الأقيسة المنطقية التي بليت لطول مالاكتها الألسن ، وأصبح مجرد التحدث بها داعية إلى الملل منها ، بل إن لغتها لم تعد مفهومة لشباب الإسلام ، الذي يعيش في هذا العصر ظروفا تتغير من يوم لآخر ، وتطالعه ثقافات ذات جدلية ماهرة ومناهج علمية تجريبية لم يعد العقل يقنع بدونها.
لقد أصبح كل شيء موضع شك ، وبذلك سقطت القضايا القائمة على المسلمات المنطقية ،لأنه لا شيء في العقل الحديث بمسلم منطقيا إلا وله نقيض منطقي يمكن أن يحتمله العقل. أما التجربة فهي الدليل الذي لا يدفع على قضيته وما ينتج عن التجربة ليس مسلما منطقيا ولكنه حقيقة نسبية موضوعية وهذا شأن العلم. ومن هنا كان لابد من تغيير المناهج الكلامية لإشباع رغبات متجددة في اليقين تريد أن تؤسس موقفها على أرض من المعرفة الجديدة التي اخترقت الآفاق وقاست أبعاد النجوم وتغلغلت في أسرار المادة حتى حطمتها واستخرجت منها طاقات لا حدود لها.
وإذا قيل: إن قضايا علم الكلام هي قضايا الغيب المطلق المحجوب الأسرار ، ولا يعقل أن يكون للتجربة دور في معالجتها. تذكرنا في رد هذا الرأي ما قاله عربي يعيش على فطرته وينطق على سجيته دون أن يكون قد ألم بشيء من منطق أرسطو: (البعرة تدل على البعير ، وأثر السير يدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، ألا يدل ذلك كله على الله اللطيف الخبير)؟ ؟
وكلمات هذا الأعرابي ألصق بالمنهج التجريبي القائم على الملاحظة وأقرب إلى التأثير في النفس وأقدر على إقناع العقل من أية صيغة قياسية-ما في ذلك شك.
لقد أصبح سيئا للغاية أن ينطق رجل الدين أمام الناس أو أمام الطلاب بقضايا متقادمة قال بها الأولون دون أن يحاول مزج المعرفة التقليدية بالجديد وأكثر ما تتجلى هذه المعرفة التقليدية في علم التوحيد أو الكلام أو مباحث العقيدة على اختلاف المصطلحات حيث يصر بعض الأساتذة على حكاية النزاع بين المعتزلة وأهل السنة ، والفرق بين الأشاعرة والماتريدية ، ووجهة نظر الخوارج والشيعة ، والخلاف بين الجبرية وغيرهم ، وتناقض ما بين العقل والنقل أو تساندهما ، وكل ذلك دائر فى حلقة مفرغة بعيدة عن مجال تفكير الشباب المتحول ، لأن هذا الكلام كله قد أدى وظيفته على خير وجه حين كان جزءا من صراع عصره حول المفاهيم والقيم ، فلما مضى عصره أصبح جزءا من تاريخ الفكر ، لا أساسا من أسس النقاش الحي النابعة من التجربة المعاشة.
ولذلك يعجز هذا الكلام عن إقناع ملحد حديث بخطئه لأن أسباب إلحاده ليست من موضوعات الكلام فالجدل الحديث لا يتناقش حول الجوهر والعرض ، ولا حول القدم والحدوث ، وإنما هو يتناقش حول حتمية المادة ووجود المادة الواقعية والمادة العقلية والعلاقة بين المادة والحركة ، حين ينتهي كل موجود مادي في حقيقته إلى حركة ، والاحتمالات الرياضية لتأثير الصدفة في نشأة الكون وامتداده حتمية التطور. وحقيقة الوجود في ضوء الإدراك الجديد لنسبية الظواهر الكونية وأهمها الزمان ، ذلك البعد الرابع الذي كشفه أينشتاين والتوقعات العلمية لوجود عالم أخرى غير عالمنا في سمائنا وفى السماوات الأخرى التي يدركها العلم أو يحدس بوجودها ويحاول معرفة شيء عنها. . .إلخ.
فإذا لم تكن هذه القضايا الجديدة هي محور النقاش في قاعات الدرس الجامعي. الذي يصوغ عقول الشباب فمعنى ذلك أن جامعاتنا تعمل في فراغ أيديولوجي وتخرج للمجتمع نماذج خربة واهنة أو مشوشة أو يائسة من جدوى العقيدة في بناء المجتمع الجديد ، نماذج تحس في أعماقها بالجفاف الروحي فهي لم تظفر بأرضية من الفكر الديني تقف عليها مطمئنة في مواجهة رياح التغيير العاصفة ، وإما لأنها محرومة من هذا اللون من الدراسة وإما-وهو الأخطر-لأنها غير مقتنعة بما عرض عليها من موضوعاته. وينتهى الأمر بهذه إلى أن تتبعثر في الفراغ ، وتحس باللامبالاة تجاه مسائل العقيدة ، لأن أسلم الطرق ألا تبالي ، فالهرب أسلم المسالك.
والغريب أن هذه الحال قد طفحت على سطح المجتمع منذ أوائل القرن التاسع عشر ، حين بدأ اللقاء والاصطدام بين ثقافتي الشرق والغرب يواجه مبعوثين إلى أوربا ، على عهد محمد على-في مصر-وتعرضت أعمال روائية منذ ذلك العهد وحتى يومنا هذا لتصوير التمزق الفكري الذي يعانيه هؤلاء المبعوثون ، من أمثال: تخليص الإبريز-لرفاعة الطهطاوى ، وعلم الدين- لعلى مبارك ، وحديث عيسى بن هشام-لمحمد المويلحى ، وقنديل أم هاشم-ليحيى حقي ، وعصفور من الشرق-لتوفيق الحكيم ، ومليم الأكبر-لعادل كامل فانوس ، أي أن المشكلة ثائرة وملحة من قديم ، دارت حولها روايات قديمة. ومع ذلك لم يبحث لها المفكرون الدينيون عن حل ولم يعرضوا لها بمناقشة لاستكناه أسبابها ، على حين اكتفت الأعمال الروائية بالتقاطها وتصويرها. والخطر بهذه السلبية إلى تفاقم ، والخراب إلى استفحال ، والضحية دائما هو الإنسان المسلم.
أليس غريبا أن يكون عتاة الملاحدة في مجتمعاتنا ممن يمتون إلى أسر ذات اتصال بالدراسات الدينية؟ ! ! وأن تنشر مجلة أسبوعية أن إحدى المانيكان تمثل جامعة الأزهر الشريف ثم تأتى بصورتها فإذا هي ترتدى ما ترتديه بنات باريس(1) ! ! ودعك من أن تكون إحداهن فتاة غلاف تنشر لها صورة عارية أشبه بصور السابحات الفاتنات ، وهى من بنات العلماء؟ (2) إنهم جميعا وأضرابهم نتاج هذا الانفصام بين الفكر الديني وقضايا العصر بحيث لم يأخذ هذا الفكر شكل ثقافة حية تجمع بين المعرفة والسلوك ، أي أن هناك عجزا شائنا في الثقافة المستخدمة للإقناع ، على حين استطاعت الثقافات الأخرى أن تحتازهم لمعسكرها لأنها صادفت فراغا فتمكنت ، بصرف النظر عن جدية الأشخاص أو هزليتهم وتفاهتهم ، وأحد أسباب هذا الانفصام أيضا أن من يتولون سدانة الفكر الديني لم ينهضوا لمواجهة تحدى العصر ربما لأنهم فعلا غير فاهمين لرسالاتهم إلا على أنها استحضار لماض أثرى لا علاقة له بحاضر ، وربما لتوهمهم أنه لا تحدى أصلا ، بل كل شيء هادئ على الجبهة! ! والدنيا بخير والحمد لله! ! . . فالمشكلة من هذه الوجهة أزمة في الشعور الذي يؤدى حين يكون سويا إلى الأرق المنتج ، والقلق الخلاق ، فأما حين يكون هناك شعور فإن الدين يتحول عند بعض رجاله إلى باب سخي للوجاهة والارتزاق ، وعند بعضهم إلى سلبية قاتلة ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ولست أنكر أن محاولات جادة قام بها بعض العلماء القلقين على مصير الإنسان في الشرق والغرب من أجل البرهنة على وجود الله على أساس علمي ، ولكن قضية الدين ليست هي قضية (وجود الله) فحسب. لا مراء في أن الإيمان بوجود الله سبحانه أساس ومنبع ولكنه يستتبع الإيمان بقيم أخرى ومبادئ دعا إليها الرسل. وحثت عليها الأديان وأهمها ضرورة الإيمان بوجود كائنات غير الإنسان ، دل عليها الدين وسماها (الملائكة) الملهمين الخير ، وكائنات أخرى غير الإنسان والملائكة دل عليها الدين وسماها الجن ومنهم (الشياطين)-النازغون بالشر وضرورة الإيمان بالغيب ، وباليوم الآخر. وما يتصل به من جنة ونار وحساب وثواب وعقاب ، بل ما يسبق ذلك من قيامة هي في حقيقتها دمار للدنيا وتحطم للكواكب والنجوم ، وضرورة التزام شريعة الله الى جاء بها الرسل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، متى صح الإيمان بوجود الله مالك الملك ، ومنزل التشريع بالحلال والحرام وفى كلمة واحدة: ضرورة إقرار ما علم من الدين بالضرورة.
وهكذا نجدنا أمام كل مترابط لا يمكن انفصام أجزائه إلا على طريقة بنى إسرائيل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
ولقد وجد في المجتمع الإسلامي فعلا هذا الصنف من الناس الذين يحدثونك بأنهم مؤمنون بالله ، وكفى ولا داعي لمطالبتهم بأكثر من هذا! ! وهم يواجهون من يدعوهم إلى الالتزام بأوامر الله ونواهيه: بأن الهدف من هذه هو تزكية النفس وعدم إيذاء العباد ، فإذا تحقق هذا الهدف بوسيلة أخرى كالثقافة مثلا كان في ذلك غنى عن الالتزام بالتكاليف لأن هذه هي روح الدين! ! . . وغاب عنهم أو تجاهلوا أن العبادة في حقيقتها ثمرة الإيمان بالله وتأكيد لعبودية الإنسان له ، وأن الله سبحانه قد اختار لعباده أن يخاطبوه ويقدسوه بكيفية معينة لا خيار لهم فيها ، بصرف النظر عن تحقيق مصلحة معينة لهم من العبادة أو عدم تحققها: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)(3) فمصلحة الإنسان العليا في أن يرضى خالقه بإنفاذ أمره والتزام طاعته.
فهذا صنف من الناس يجتزئ من الدين بما لا يقتضيه تكلفة : أن يقول : آمنت بالله-فحسب ، وهو يستعمل مسألة تسليمه بوجود الله-عز وجل- ذريعة إلى التحلل والانعتاق من سائر قضايا الدين والصدود عنها وهو أمر ينبغي أن يلحظ على أنه من صميم أزمة الدين في أنفس المثقفين المعاصرين ، لأن الثقافات الإلحادية قد اتخذت لنفسها خطة لئيمة ، فحواها أن دعوة المسلم إلى الفكر تلقى نفورا في المجتمع الإسلامي ، ويكاد يكون من المحال إحراز تقدم فيه باعتناق هذه الدعوة ، ولذا ينبغي أن تكون الخطة –أولا- تجريد شخص المسلم من الالتزام بالتكاليف ، وتحطيم قيم الدين الأساسية في نفسه بدعوى العلمية والتقدم دون مساس بقضية الإلهية مؤقتا لأنها ذات حساسية خاصة ، وبمرور الزمن ، ومع إلف المسلم لهذا التجريد يسهل في نهاية الأمر تحطيم فكرة الإلهية أساسا في عقله ووجدانه –وإذا بقيت افتراضا فلا ضرر منها ولا خطر ، لأنها حينئذ لن تكون إلا بقايا دين كان موجودا ذات يوم بعيد.
وهكذا يحكم أعداء الإسلام مخططاتهم ويدبرون لتدمير الدين ومبادئه ، ابتداء من أبسط السنن والواجبات وانتهاء إلى قضية القضايا : وجود الله ذاته.
فإذا أفرد بعض العلماء مسألة وجود الخالق بالعلاج العلمي فقليل منهم- فيما أعلم- من تصدى لعلاج هذه القضايا جميعا ، وبخاصة هذا الكتاب : (الإسلام يتحدى) . وأحسب أنه من هذه الناحية سوف يصبح – متى بلغ عمق المجتمع – دستور الإقناع الديني ، أو كما يعبر العنوان الفرعي الذي تخيرناه له : (مدخلا علميا إلى الإيمان).
وقد كان المؤلف منطقيا مع عصره إلى أبعد الحدود ، فإذا كان أقطاب الإلحاد في الفلسفة الحديثة قد وضعوا لضحاياهم مدخلا علميا إلى الفكر ، فلا مناص من أن يحاول هو بحسه الصادق ، ووعيه بحاجة المسلمين – وضع مدخل علمي إلى الإيمان يعتبر أساسا لعلم الكلام ، أو علم توحيد جديد. وهذا هو الاعتبار الذي كان من وراء الحماس المخلص ، بذله مترجم الكتاب الأستاذ ظفر الإسلام خان ، نجل المؤلف ، واقتضاني أن أعكف شهورا تبلغ سنوات على مراجعته وتحقيق نصوصه الدينية.
ولذلك سوف نجده يعرض (قضية معارضي الدين) بكل حيدة وأمانة ، حتى لا يتهم من أول لحظة بمخالفة المنهج العلمي ، ثم يبدأ في مناقشتها معتمدا في الأساس على الإنتاج الفكري الغربي من باب (وشهد شاهد من أهلها)(4) ، مرجئا مسألة استخدام الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية في آراء الأعداء قبل الأصدقاء.
ولا يتبادر إلى ذهن القارئ أن المؤلف رجل دين متحمس ، يبشر بدعوة الإسلام بأسلوب جديد ، إنه مفكر مصلح يعمل بالصحافة ، رئيسا لتحرير مجلة (الجمعيت الأسبوعية) وما عرضته هنا هو نتيجة تأمل واهتمام مؤرق بمشكلات الشباب المسلم ، حتى أصدر كتابه هذا عام 1966 ، ومازال وفيا لقضيته ، مجاهدا في سبيلها.
ولئن كنا قد ألمحنا قبل بضعة أسطر إلى بعض ملامح منهجه ، فإن تنظيم هذا المنهج قد اقتضاه أن يضع قضاياه في ترتيب منطقي :
فهو قد وضع كتابه علاجا للمشكلات العقيدية التي تواجه البشر ، ولما كان المتوارد على مسرح الأحداث ، مبدأ الدين ، ومبدأ الإلحاد ، وكان هو من معسكر الدين – وجب عليه أن يدلف إلى هدفه من خلال دعاوى الخصوم ، حتى لا يتهم بتجاهلها ، فعرض فكرة معارضي الدين وبين أسسها البيولوجية والنفسية والتاريخية. ومعنى ذلك أنه يعرض جوهر فلسفات ثلاثة : الداروينية ، والفرويدية ، والماركسية ، وهي المبادئ التي قادت في مجموعها قطعانا من البشر في وادي الإلحاد ، وإنكار وجود الله ، وتأليه المادة.
فإذا بدأ بمناقشة هذه المبادئ سلك نفس السبيل التي سلكتها. فاستقى أدلته من الطبيعة ، ومن البحوث النفسية ، والتاريخية.
وإذا كان أعظم قضايا الدين ، بعد الإيمان بالله ، الإيمان باليوم الآخر ، حقيقة غيبية ، لا مراء فيها ، وكانت أهم دعاوى الإلحاد قائمة على إنكار هذا اللقاء مع الخالق –فإن إثبات إمكان الآخرة بالأدلة الطبيعية والبيولوجية والتاريخية- هو أيضا من الأدلة القاطعة بصحة الدين وبوجود الله ومن ثم نجده متألقا في تبيان الحاجة إلى الآخرة نفسيا وأخلاقيا وسلوكيا ،حتى إذا استقر في وعي القارئ ضرورة الآخرة كان ذلك طريقا إلى إقرار ضرورة الإيمان بالله من جانب آخر ، فالآخرة إذن قضية وبرهان في آن.
والمؤلف لا يكتفي في هذا الباب بدليل واحد ، بل هو يقدم بحوثا قيمة في ضرورة الآخرة من الناحية الكونية ، ويسوق شهادات تجريبية ، وبحوثا نفسية وروحية ، تؤكد هذه الضرورة ، كما يزيد القارئ ثروة في المفاهيم ويفسح له آفاق الاقتناع.
ويأتي بعد ذلك دور الرسالة ، وهي الدليل التاريخي على الحقيقتين السالفتين لأن الرسل هم الذين دلوا عليهما ، قبل أن يخطو الإنسان هذه الخطوات الجبارة في ميدان العلم والتجربة.
ومن الضروري أن نلفت النظر هنا إلى أن المؤلف لا يعني بكلمة (الدين) إلا ما عناه الحق سبحانه بها في قوله : (إن الدين عند الله الإسلام)(5) ، فإذا تناول قضية الرسالة فمقصده قطعا قضية الإسلام ، وكتابها المعجز: القرآن.
ويعقد في هذا الباب عدة فصول يتحدث فيها عن إعجاز القرآن التاريخي والعلمي ، ويورد لمحات كثيرة عن تنبؤات القرآن ، وما تضمنته آياته من حقائق لم يكشف عنها إلا في العصر الحديث ، في الفلك ، وطبقات الأرض وغيرهما.
فإذا انتهى من إثبات هذه الصفة العلوية للقرآن ، وأكد به الحقيقة الأولى ، وهي وجود الله ، عقد بابا خاصا بعلاقة الدين بمشكلات الحضارة ، فتناول في جانب منه مشكلات التشريع ، وعناصره الأساسية ، وتحديد الدين لمفهوم الجريمة ، وعلاقة القانون بالأخلاق ، وبالفرد ، وبالعدل.
ولا يفوته أن يتحدث عن بعض مشكلات الحضارة الحديثة ، كمشكلة المرأة ، والتمدن، والملكية ، مقارنا في كل ذلك نظام الإسلام بنظامي الحكم المعاصرين: الرأسمالية والشيوعية.
ويأتي أخيرا حديثه عن مستقبل هذا العالم الإسلامي ، وما ينشده أبناؤه من أهداف سامية ، وما ينبغي أن يكون لهم من رسالة في هذا العالم الحائر ، بين مذاهب الإلحاد الواهية المتهاوية ، ودين الفطرة الذي جعله الله ختام الأديان ، وجعل نبيه خاتم المرسلين ، مبينا كيف أدى الإلحاد في المجتمعات الأوروبية إلى التحلل، والتمزق الأسري ، وتكون طبقات من المجرمين والشواذ ، وانتشار أعصى الأمراض النفسية والعصبية ، جراء الحرمان من الإيمان بالله ، خالقنا ومالكنا ، ويختار لخاتم كتابه كلمة قبسها عن الأستاذ أ.كريسي موريسون ، إذ قال:
(إن الاحتشام والاحترام والسخاء وعظمة الأخلاق والقيم والمشاعر السامية وكل ما يمكن اعتباره نفحات إلهية – لا يمكن الحصول عليها من طريق الإلحاد ، فالإلحاد نوع من الأنانية حيث يجلس (الإنسان) على كرسي (الله).)
(لسوف تقضى هذه الحضارة بدون العقيدة والدين.)
(سوف يتحول النظام إلى فوضى.)
(سوف ينعدم التوازن وضبط النفس والتمسك.)
(سوف يتفشى الشر في كل مكان.)
(إنها لحاجة ملحة أن نقوي من صلتنا وعلاقتنا بالله.)
فهذا هو منهج الكتاب في إيجاز شديد ، وهو منهج يشدني إلى ملاحظة هامة أحب أن أضعها بين يدي القارئ. ذلك أن خطوات هذا المنهج ، بنفس الترتيب تكاد تكون طبق الأصل من كتاب أخرجته من قبل مترجما عن الفرنسية ، هو كتاب ( الظاهرة القرآنية) ، للمفكر الجزائري مالك بن نبى ، وهي ملاحظة غريبة في المنهج ، لا تنصرف إلى مادة الكتابين ، لأن المؤلفين مختلفان في عقليتهما ، وثقافتهما ، وطريقة معالجتهما لهذه القضايا الدقيقة ، حتى إني أكاد أقطع بأن المحاولتين من حيث المصادر والمادة والأسلوب متباعدتان تماما ، إحداهما عن الأخرى ، بعد ما بين الجزائر والهند ، ولم يحدث أن التقى الرجلان في صعيد واحد ، فيما أعلم ، وتفسير هذا التوافق ينحصر في توارد الأفكار على مشكلة واحدة.
بيد أن ذلك لا يمنعني من إقرار أن كلا الكتابين صادر عن نفس الإحساس بضرورة وضع منهج جديد للإقناع الديني ، وكلاهما توفرت فيه المنهجية الحديثة ، وموضوعهما مشترك كذلك ، والروح الكامنة في مضمونهما روح ثائرة مؤمنة.
وحسب الشباب المسلم من هذه الملاحظة دليلا على أن روح الإسلام طاقة لا يمكن أن تخمد ، وستظل تصنع المعجزات ، برغم التفوق الماد الذي حققته مجتمعات الملاحدة المعاصرين.
نعم . . إن هذا التوافق العجيب بين مفكرين من أكابر مفكرينا يكاد أن يكون من بدائع الروح الخالدة ، روح الإسلام ، وأقول: الخالدة ، لأن الروح طاقة ، والطاقة لا تفنى ، وذلك وعد الله: (إنا نحن أنزلنا الذكر وإنا له لحافظون)(6).
والحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
وصلى الله على محمد خاتم النبيين.

عبد الصبور شاهين

الكويت – ديسمبر 1969


تمهــــــــيد

الموضوع الذي سندرسه في الصفحات التالية ليس بجديد بالنسبة إلى اللغة الأردية ، ولكن المؤلف يشعر بأنه لا يزال ناقصا ، رغم الجهود الطيبة التي بذلها بعض الكتاب.
والعصر الحديث يسمى : (عصر الإلحاد)، لإنكاره الدين. وهذا الإلحاد ليس محض ادعاء. بل يثرى أصحاب نظريته أنها طريقة بحث ودراسة ، اهتدى إليها الإنسان ، بعد التطور الحديث فى ميادين العلم المختلفة ، وهذه(الدراسة التطورية) لا تهدف إلى إثبات نظرية ما أو إنكارها ، وإنما هى منهج خالص فى البحث ، أثبت لأصحابه أن الدين باطل ، ويمكن أن نفهم هذه الطريقة الجديدة فيما قاله ت.ر..مايلز:
)إن الدراسة الجديدة هى تكنيك ومنهج ونمط معين لمواجهة الأسئلة ، وهى لا تستهدف وضع إجابات قطعية. وهو –من هذا الوجه- تغير هام طرأ على الفلسفة فى النصف الأخير من هذا القرن ، ولسوف يبقى هذا التغير مستمرا ، دون أمل فى توقفه على المدى(1) البعيد(.

ولابد لباحثينا إذا ما أرادوا البحث فى العلوم الحديثة ، دفاعا عن الدين ، ألا يغيب عن أذهانهم هذا التفسير ، سواء اعتبرناه تفسيرا علميا محضا توصل إليه المفكرون المحدثون ، أو اعتبرناه مجرد ملجأ جميل ركنوا إليه حين أخفقوا فى البحث عن التفسير المادي للكون بعد إنكار الدين.
وعلى سبيل المثال : إن الأعمال التى قام بها علماؤنا لإثبات النبوة تفترض مقدما أن العصر الحديث يدعى : أن محمدا صلى الله عليه وسلم (كان نبيا كاذبا) ، فيبدءون فى جمع كميات كبيرة من المواد التى تثبت أن محمدا كان (نبيا صادقا). ومغزى القول :(كان محمد نبيا كاذبا) هو أن هناك أنبياء آخرين صادقين ؛ على حين يشك الإنسان الجديد فى المبدأ نفسه فهو لا يؤمن بالنبوة أصلا. فأما (النبي الكاذب) False Prophet فهو اعتراض قديم جاء به اليهود والنصارى الذين يؤمنون بأنبيائهم وينكرون نبى الإسلام. وأما العقل الحديث فلا يبحث عما إذا كان محمد نبيا(صادقا أو كاذبا) ، وإنما يبحث عن منبع كلامه النبوي وينتهي اعتمادا على المناهج المعروفة إلى أن مصدر هذا الكلام الغريب هو : (اللاشعور). . . وهو يرى أن التعبير عن كلام اللاشعور بالوحى والإلهام يصلح أن يكون استعارة جميلة ولكنه يستحيل اعتباره واقعا حقيقيا.
ولذا فإن مهمتنا لا تنتهي عند إثبات صدق نبوة رسول الإسلام ، بل علينا أن نضطلع بالبحث عن الوحي والإلهام ونثبت أن الوحي ينزل على أناس معينين ، من بينهم نبي الإسلام.

* * *
كان هذا موقف من يتصدى لنقد الفكر الحديث دون فهم موقفه من القضية. وهناك نوع آخر من علمائنا يدركون موقف الفكر الحديث من قضية الدين ، ولكنه لشدة تأثرهم بالفكر الحديث يرون أن كل ما توصل إليه أئمة الغرب يعد من (المسلمات العلمية) ، ومن ثم تقتصر بطولتهم على إثبات أن هذه النظريات التى سلم بها علماء الغرب هى نفس ما ورد فى القرآن الكريم وكتب الأحاديث الأخرى. وهذه الطريقة فى التطبيق والتوفيق بين الإسلام وغيره هى نفس الطريقة التى تتبعها شعوب الحضارات المقهورة تجاه الحضارات القاهرة. وأية نظرية تقدم على هذا النحو يمكنها أن تكون تابعة ولكنها لا يمكن أن تكون رائدة! ولو خيل إلى أحدنا أنه يستطيع أن يغير مجال الفكر فى العالم بمثل هذه المحاولات التوفيقية ليشرق على البشرية نور الحق فهو هائم ولا شك فى عالم خيالي لا يمت إلى الحقائق بسبب. .فإن تغيير الأفكار والمعتقدات لا يأتي من طريق التلفيق ، بل عن طريق الثورة الفكرية.
وهذه الحالة تورطنا بصورة أكبر عندما تتعلق المسألة بجانب أساسي وهام من أفكار الدين ، فلا بأس بأن يقوم أحدنا بتفسير جديد لظاهرة (الشهاب الثاقب) التي وردت فى القرآن حين يجد كشفا جديدا فى علم الفلك الحديث ولكننا لو قبلنا نظرية كلية شاملة وذات علاقة بالمشكلات الأخرى التى تثار حول الدين فسوف يكون لذلك تأثير عميق وكلى فى هيكل الفلسفة الدينية نفسه.
وأوضح مثال فى هذا هو تلك الجماعة من علمائنا الذين قبلوا (نظرية النشوء والارتقاء) لأن علماء الغرب أعلنوا اقتناعهم الكامل بصدقها بعد دراستهم ومشاهدتهم. . واضطروا بناء على هذا إلى تفسير جديد للإسلام فى ضوء النظرية الجديدة ، وحين احتاجوا إلى لباس جديد قاموا بتفصيل ثوب الإسلام مرة أخرى ولكنه ثوب مشوه المعالم لا أثر فيه من روح الإسلام التي ضاعت مع الأجزاء المقطعة فى عملية التلفيق الجديدة.
إن نظرية النشوء والارتقاء تستهدف إقرار فكرة التطور بصفة مستمرة بحيث تبلغ الحياة أوجها عند النهاية. وبناء على هذا: لابد من أن تحدث الأحوال السيئة فى الماضي لا فى المستقبل. ويروق لهذه النظرية حياة الخلود فى الجنة ولكنها لا تقبل الخلود فى نار الجحيم. ولذا ادعى العلماء المسلمون الذين قبلوا هذه النظرية أن الجحيم ليست مكانا للعذاب وإنما هى مركز للتربية والتزكية. فالحياة تواصل مسيرتها فى مواجهة الصعاب والمشكلات. والذين لم يستطيعوا مواصلة مسيرتهم بسبب عوائق الذنوب سوف يمرون بأحوال الجحيم الصعبة حتى يواصلوا رحلتهم التطورية خلال الحياة القادمة. ومن هنا ترى هذه الطائفة أن قوانين الملكية-مثلا-فى الإسلام ليست إلا (أحكاما مؤقتة) فإن هذه القوانين لا تتفق ونظرية التطور الاجتماعي.
ويمكن فهم نوعية الأعمال التى قام بها بعض علماؤنا من المثالين المذكورين ، فهى أعمال ناقصة رغم الجهود التى بذلت فى صوغها. ولا يدعى المؤلف أن محاولته تخلوا من النقائص ولكنه يقول: إن المحرك الحقيقي لمحاولته هو شعوره بأن عملا من هذا القبيل كان لابد أن يكون.
* * *

إن الطريقة التى يتبعها الكتاب للدفاع عن الدين ذات وجهين: فكرية وتجريبية ؛ وبعبارة أخرى: فلسفية وعلمية إن صح التعبير. وقد راعى المؤلف الطريقة الثانية وهى التجريبية أو العلمية. والسبب فى دلك أن مكتبتنا تذخر بمجلدات ضخمة من الكتب التى وضعت على المنهج الأول على حين يوجد نقص شديد فى الكتب من المنهج الثاني.
وإنني لأشعر بأن المضمار الفسيح الذى هيأته الدراسات العلمية الحديثة لإثبات الدين هو تصديق لما جاء فى القرآن فى سورة النمل:(وقل الحمد لله ، سيريكم آياته فتعرفونها). وهذا الكتاب محاولة لاستغلال الإمكانات الجديدة لصالح الدين بطريقة منتظمة.

* * *

وهذا الكتاب ليس دراسة موضوعية بل هو دراسة ذاتية بناء على التقسيم الجديد للكتب. وهذا الواقع كما يرى العقل الحديث هو من تلقاء نفسه صوت ضد الكتاب! فكيف يمكن الاعتماد على دراسة ذاتية قدمها عقل يستهدف اتجاها معينا؟ و جوابا على هذا الاعتراض الذى قد يثار ، أنقل هنا عبارة للمستشرق النمسوي المسلم محمد أسد فى مقدمة أحد كتبه:
(إن هذا الكتاب لا يستهدف مسحا محايدا للمسائل بل هو عرض لقضية هي قضية الإسلام في مواجهة الحضارة الغربية)(2).
وعلى الرغم من الأحكام التى قدمها علم النفس حول إمكان أن يكون المرء محايدا فى أبحاثه أو لا ، فإنني أسلم-نظريا-بأنه لابد لكل مؤلف أن يبذل قصارى جهده لكى يكون محايدا من أجل الوصول إلى نتيجة ما ، وهذا هو ما يقصده كل كاتب أمين. لكن هذا الكاتب نفسه عندما يجلس إلى مكتبه-فى الواقع-لا نجده باحثا عن الحقيقة أثناء كتابته بل يكون قد توصل إلى أحكام محددة المعالم.
وهناك طريقة أخرى هى أن يسرد المؤلف قصة بحثه بجميع مراحلها غير أن اعتبار مثل هذا الكتاب محايدا لا يعدو أن يكون قناعا مزركشا تختبئ تحته أهداف المؤلف. فليس هناك من كاتب يبدأ دراسته عندما يبدأ الكتابة ، وإنما هو يعرض نتائج بحثه في كتابه. فالكتاب إنما يكون ذاتيا أو موضوعيا بالنظر إلي طريقة ترتيبه للموضوعات ولا علاقة لهذا الترتيب بحياد البحث أو موضوعيته.

* * *

لقد وردت كلمة (الدين) كثيرا فى هذا الكتاب وليس لأحد أن يغالط فى هذا الموضوع فإن الكتاب يدور حول موضوع عام ولذلك كان لاستعمال الكلمة العامة أهميته. أما ذهن المؤلف فإنه لا يقصد بالكلمة شيئا وهميا وإنما يعنى (الدين) المعتمد عند الله تعالى الآن وهو دين الإسلام. وأنا حين أطالب مواطنا هنديا بمراعاة القانون فليس معنى ذلك أنه تكفيه مراعاة قانون ما أو أى جزء من دستور الهند ، وإنما عليه مراعاة ذلك القانون الذى يعتبر دستور البلاد الرسمي. وهكذا فالمراد بالدين العملي اليوم هو الإسلام مع أنه من الممكن إطلاقه على أى شيء عرف فى التاريخ بذلك الاسم ولكن الدين الذى يجلب رضا الله تبارك وتعالى والذي يكفل لمعتنقيه نجاة الآخرة ، هو الإسلام لا غير. .

* * *

لقد تعرضت لسؤال بعد محاضرة ألقيتها فى إحدى الجامعات ذات مرة ، وكنت أشرت فى محاضرتي إلى مقال لفرويد ، فوقف أستاذ فى علم النفس أثناء فترة الأسئلة وقال: (لقد أشرتم فى مقال لفرويد تأييدا لنظرية دينية على حين يعارض (فرويد) معارضة كاملة تلك النظرية التى تمثلونها)
ومن الممكن إثارة هذا السؤال حول هذا الكتاب على نطاق واسع ، فهناك اقتباسات كثيرة وردت فيه ومن الجائز ألا يوافق أصحابها على النتائج التي توصلت إليها. وعلى سبيل المثال:الاقتباس الذي ورد في آخر الباب الخامس (دليل الآخرة) ، ولكن هذا الاعتراض غير ذي موضوع ، لأن المؤلف لا يدعى أن هذه الشخصيات تؤيد قضاياه ، وبكلمة أخرى لم يقل المؤلف: إن هذه القضية أو تلك صادقة لأن فلانا يصدقها أو يؤيدها. وعلى العكس من ذلك فإن جميع هذه الاقتباسات قد استعملت توضيحا لدليل أو قضية ، فقد يعبر المؤلف عن قضية معينة بألفاظه تارة وقد يستعير ألفاظ الآخرين حتى يتبين الموضوع تارة أخرى.
والاتجاهات التى تمثلها هذه الاقتباسات ليست بآراء ذاتية لأصحابها وإنما هى كشوف علمية يمنحها الملحدون معاني مختلفة. أما نحن فقد جمعناها حين شعرنا أنها فى صالح الدين ، وأما الاقتباسات التى تؤيد الدين صراحة فأكثرها لعلماء يدينون بالمسيحية ؛ ولا عجب فهم يشاركوننا فى كثير من العقائد السماوية.

* * *

وواضح من عنوان الكتاب أنه يهدف إلى إثبات أحقية الدين أمام الفكر المادي الجديد. وهذا الإثبات يتخذ لنفسه أسلوبين ، أولهما: أن نستدل بأن الدين ليس (ماديا) بل فوق المادة ن وبناء على ذلك ليس للعلوم المادية أن تعترض طريق الدين ، وقد أصبح هذا الاستدلال في غاية القوة ؛ حيث إن العلماء قد اعترفوا في هذا القرن: (بأن العلوم المادية لا تعطى إلا علما جزئيا عن الحقائق) ، ومغزاه أنه بناء على اعتراف هذه العلوم نفسها هناك حقائق أخرى لا تستطيع العلوم المادية الوصول إليها ، ومنها حقائق الدين. ويعتبر كتاب (ج.و.ن. سوليفان) خير محاولة في هذا الموضوع وسوف نستعرضه في الباب السابع من هذا الكتاب.
وأما الطريقة الأخرى لإثبات حقائق الدين فهي اتباع نفس الطرق العلمية التي يتبعها العلماء الملحدون لإثبات معتقداتهم. وقد ركز المؤلف أهمية أكثر على هذا الجانب ، فهو يرى أنه لابد من اتباع نفس أساليب الاستدلال التي يستغلها الملحدون حتى يمكن إثبات حقية الدين.


* * *

وهناك ناحية أخرى لابد من توضيحها هي أن الأسلوب الذي سلكه الكتاب قد يكون غريبا على بعض الأذهان من علماء الدين ، وإذا كان الأمر كذلك فإنى أقول: إنه لابد من مراعاة حقيقة هي أن هذا الكتاب لا يستهدف تفسير الدين بل هو وليد ضرورة كلامية ؛ فالأسلوب الذي يسلك عند تفسير الدين أمام أصحاب الفطر الدينية المؤمنة غير الاسلوب الذي يستخدم عندما يكون الحاضرون ممن يزعمون أن الدين خدعة وأضحوكة وتخدير للشعوب ، فكلما أردنا مواجهة الأسئلة التي تثار ضد الدين ، كان لابد من تغيير لهجتنا ولغتنا بتلك التي يستغلها الأعداء حتى نستطيع أن نقف أمام العواصف. وعلينا ألا ننسى أن طريقة الكلام وأسلوبه قد تغيرا بتغير الزمن ، ولذلك علينا أن نأتي بعلم كلام جديد لمواجهة تحدى العصر الحديث.

ياسرالعمراني
05-26-2006, 03:11 PM
سأوافكم بالجديد ان شاء الله

ياسرالعمراني
05-26-2006, 03:13 PM
ياسرالعمراني المغربي 17سنة الإسلامي الى النخاع

حازم
05-26-2006, 03:23 PM
لا يوجد داعى لنقل الكتاب اخى ياسر فالكتاب موجود كاملا على هذا الرابط
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=2056

muslimah
05-27-2006, 08:43 PM
ياسرالعمراني المغربي 17سنة الإسلامي الى النخاع

‏) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ )(لأعراف: من الآية43)‏

نسأل الله لنا ولك الثبات

وجزاك الله خير الجزاء على جهودك