المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حل وترحال ... دفاعاً عن سيبويه والخليل بن أحمد



حازم
12-25-2004, 05:18 AM
كيف يحصل ان تتحول بعض العبقريات التي حفل بها تراثنا العربي، الى رموز للتعقيد والتقعر والجمود؟! أليس من الطريف، والمؤسف في الوقت نفسه، أن تلقى تبعات المشاكل المتنوعة التي نعاني منها اليوم، في شتى حقول النشاط اللغوي، على عاتق سيبويه، وهو صاحب “الكتاب” في النحو، أي أنه صاحب العقل “اللغوي” الفذ، الذي استطاع ان يستنبط مجموعة من القواعد، تشكلت في نظام باهر، هو أساس علم النحو، أحد أهم علومنا اللغوية؟ أليس من الطريف أيضا، ومن المؤسف في الوقت نفسه، ان ينظر الى الخليل بن احمد الفراهيدي، مستنبط بحور الشعر، ومؤسس علم العروض، وكأنه صاحب جناية في هذا المجال، لأنه أوجد لإيقاع الشعر العربي كما يرى البعض قوالب ضيقت عليه أو حدت من تنوعاته؟ إنه لمن الخفة والتسرع (والجهل أحيانا) أن يجري تناول عبقريات كسيبويه والفراهيدي بمثل هذه الطريقة القاصرة. وفيما سيأتي، سوف نحاول التأمل في ما تعنيه هذه الظاهرة.

أولا: فيما يتعلق بسيبويه



إن قواعد النحو التي نص عليها كتاب سيبويه (المتوفى عام 796م) لا تدعي الإحاطة بكل ما تنطوي عليه لغتنا العربية من ظواهر أو مزايا في المستوى النحوي، أي في مستوى تركيب العبارات ونوعية العلاقات بين المفردات داخل التراكيب. إلا أن هذه القواعد شكلت الأساس لنظام من المقاييس والاصول، ظل على حاله تقريبا، منذ زمان سيبويه وحتى يومنا هذا، أي أن هذا النظام لم يعرف تطورات جوهرية على مدى اكثر من ألف عام. أليس في ذلك ما يدعو الى الإعجاب بشخصية ذلك المؤسس لعلم النحو؟ فإذا كان النظام المشار إليه قد وقع في الجمود طيلة قرون سابقة، هل تقع المسؤولية على المؤسس، أم على جميع المعنيين بشؤون اللغة ممن أتوا بعده، ومن بينهم على وجه الخصوص أولئك الذين يشكون من الجمود في صرامة القواعد، ثم لا يملكون سوى الشكوى والنيل من مستقرئ النظام أو مكتشفه.

إنه لمن المضحك حقا أن يؤتى على ذكر سيبويه عندما تعرض مسألة عويصة في اللغة، أو عندما ينحو أحدهم منحى متقعرا أو معقدا في استعمال اللغة، كأنما عمل سيبويه في “التقعيد” هو الذي قاد لاحقا الى “التعقيد”! والشكوى من أي تعقيد في اللغة لم تكن لتحصل لو قام اللاحقون بواجباتهم في تطوير القواعد وتجديدها مستفيدين من السابقين، وعلى رأسهم سيبويه، الذي كان عمله في جوهره دعوة الى التأمل في عبقرية اللغة العربية، من خلال الكشف عن المزايا التركيبية التي تتحلى بها سيبويه كغيره من المؤسسين مهد الطريق، ولم يضع نقطة نهاية.

ثانيا: فيما يتعلق بالفراهيدي



قد يكون من المفيد الإشارة الى ان سيبويه كان تلميذا للخليل بن أحمد الفراهدي (المتوفى عام 786م)، الذي كان عبقرية متعددة الجوانب، فهو صاحب أول محاولة لصناعة معجم عربي، هو معجم “العين”. ولكنه اشتهر، أكثر ما اشتهر، بعلم العروض الذي نُسب إليه، حتى أنه هو نفسه راح يعرف بالعروضي. لقد كان الخليل عقلا رياضيا ولغويا فذا. واكتشافه بحور الشعر دليل على عبقريته النادرة.

وهو في اكتشافه هذا لم يقل إن هذه البحور ينبغي ان تكون قوالب نهائية لايقاع الشعر العربي، لم يقل بضرورة الالتزام بهذه البحور، وإنما قام بوصف ما وقع عليه من قصائد، ووصفه هذا كان عملا عبقريا، لأنه استنبط من خلاله أنظمة إيقاعية فريدة في دقتها، وكذلك في مرونتها. كان الخليل في عمله هذا كمن يستخرج جوهرة دفينة. فهل نقول إنه هو المسؤول عن الجمود الذي رافق النظام الذي اكتشفه قرونا طويلة؟ أليس دليلا دامغا على عبقريته الفذة أن أحدا لم يضف الى البحور الخمسة عشر التي اكتشفها سوى الأخفش الذي أضاف بحرا واحدا هو المتدارك أو الخبب؟ وهو بحر لا يعد من البحور الأساسية في الشعر العربي القديم، وإن اصبح الأكثر شيوعا في الشعر العربي الحديث!

وإذا كان هنالك اليوم من يدعو الى التخلي عن البحور الخليلية، أي الى عدم الالتزام بها في الكتابة الشعرية، فلا بأس في ذلك، لا شيء هنالك فيما قدمه الخليل يحول دون التجربة خارج البحور التي تحدث عنها. ولهذا، ينبغي الاعتراف بأهمية العمل التأسيسي الذي قام به الخليل بن احمد، وخصوصا من قبل اولئك الذين يدعون الى التخلي عن نظام الوزن، أو عدم الالتزام به، أو استبداله بأنظمة أخرى. فذاك العمل التأسيسي (الخليلي) شكل فتحا باهرا في ميدان البحث في موسيقا الشعر. وكان لعلم العروض الذي ارتكز على هذا الفتح أن يتضافر مع غيره من العلوم العربية، كعلوم اللغة وعلوم البلاغة، في التمهيد لظهور نظريات في الشعر بخاصة، وفي الأدب بعامة.

خلاصة



سيبويه ليس عائقا أمام التجديد في النحو، والخليل بن احمد ليس عائقا امام التجديد في موسيقا الشعر. وعلى دعاة التجديد أن يضيفوا أو يطوروا أو يبتكروا، بدلا من الاستمرار في الشكوى من قوة النظام النحوي الموروث، أو من قوة النظام العروضي الموروث. عليهم ألا يَسِموا القوة بالجمود، وأن يبحثوا عن عناصر قوة جديدة يمكنها ان تبث الحركة في الواقع الراكد. ولكن من يفتقر الى معرفة نيرة بنظام موروث معين، كالنظام النحوي أو النظام العروضي، أنى له أن ينظر إليه نظرة منصفة؟!

جودت فخر الدين

http://www.alkhaleej.ae/articles/sh....cfm?val=125925