أحمد بن مسفر العتيبي
11-06-2013, 11:02 PM
الجوع في الشام وأحكامه
قبل حوالي ثلاث سنوات حضرتُ درساً للشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي وفقه الله تعالى في المسجد النبوي ، وسُئل في آخر الدرس عن أكل لحوم القِطط بشكل عام ، فتعجَّب الشيخ وقال : لا يجوز إلا إذا حضر وقت ذلك ، أو قريباً من هذه العبارة ، وهذه من فطنته لمآل الحال وتغير الزمان وأحداثه الجِسام .
وقد تقرَّر عند الُأصوليين أن للضرورة أثرها في سقوط الخطاب . فالهِر أو البش كما يقول المغاربة ، والضيون كما يقول الشوام ، أو القطاوة كما يقول أهلنا في الجزيرة العربية ، لا خِلاف أنها من ذوات النَّاب الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله ، لكن حديث النهي الصريح عنه بلفظ : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحم الهِر " أخرجه الترمذي ، وفي إسناده مقال ، ومعناه صحيح لاتفاقه مع القاعدة الفقهية في الأطعمة المحرمة . ويقاس عليها نظائرها مما يستقبح . وأكثر فقهاء المالكية يجيزون أكل السنور ( الهر ) والقرد والكلب والذئب والأسود ، والغراب ، لقواعد معتبرة في مذهبهم .
ودليلهم على الإباحة قول الله تعالى : " قل لا أجدُ فيما أُوحي إليَّ مُحرَّما على طاعمٍ يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير " ( الأنعام : 145 )فيقتصرون على النص ولا يقيسون عليه .
ما تقدَّم من ديباجة مختصرة أردتُ بها الحديث عن مجاعة أهل الشام فرَّج الله همهم ونفَّس كربتهم . فقد ظهرت فتاوى شامية تُجيز للمحاصرين في جنوب دمشق وغيرهم أكل اللحوم المحرمة بكافة أنواعها ، للضرورة وحفظاً للنفس من الهلاك ودفعاً للحرج.
وقد أُشتهر في المذهب المالكي مقولة : ترك القياس والأخذ بما هو أرفق للناس . وهو ما عُرف بالاستصلاح والاستحسان وتيسير أحوال البشر وعدم التضيِّيق عليهم عند عدم وجود نص قطعي في المسائل الشرعية .
في الفقه الإسلامي ما يُعرف بأحكام التغيُّر وانقلاب الشي عن أصله الذي ألفه الإنسان وعرفه به ، ومن ذلك تغيُّر الماء عن خلقته وتغير الطعام عن طبيعته كالعنب مثلاً ، وتغيُّر اللحم عن حكمه الأصلي لِحُكمٍ طارىء ، كأكل الميتة التي أصلها حلال . ويلحق بذلك أحكام الاستحالة في معاني تغيُّر الأعيان والأوصاف . وفي هذا المعنى همسة فقهية أن دوام الحال من المحال . والجوع كافر كما تقول العرب !
الحِصار الجائر الذي ضُرب على أرض الشام المباركة أحدث مجاعة مُروِّعة تسبَّبت في نفاد الأطعمة والأشربة والاضطرار لأكل ما يُستقبح ، مما لا يخطر على البال . نسأل الله العافية .
سياسة التجويع التي يقوم بها النصيريون هي : سياسة مارستها فرنسا في الجزائر عن طريق حرق الأراضي أو التقنين من الغذاء ووضع قوانين ، بهدف جعل الجزائريين في تبعية دائمة .
و اليهود في فلسطين كانوا وما زالوا يمارسون هذا الأسلوب في إذلال المسلمين .
ولهذا من الغلط أن نقول : أين صندوق الغذاء العالمي ؟ أين منظمة حقوق الإنسان ؟ أين الأمم المتحدة ؟ فلا يجوز مناداة الكافر ولا الإستغاثة به ؟ والصحيح أن نقول : أين التعاون الإسلامي الدولي في نكبة هذا الشعب المظلوم ؟ أين زكاة المسلمين عن هؤلاء المحرومين المشتتين ؟
والتكيِّيف الفقهي والتخريج الُأصولي لجزئيات أحكام هذه المأساة يفيد ما يلي :
1- أن الجوع حالة استثنائية قد تطول وقد تقصر بحسب أسبابها ومواردها وهي مناط الرخصة والضرورة . لحديث أبي واقد الليثي قال : قلتُ يا رسول الله ، إنا بأرض تُصيبنا بها مخمصة ، أي " مجاعة " فما يحل لنا من الميتة ؟ . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلاً فشأنكم بها." أخرجه أحمد بإسناد صحيح . ومفهومه يدل على عدم جواز تناول ما حرم الله إلا بعد نفاد ما يسدُّ الرمق من الحلال المأذون به .
2- يجوز للإخوة السوريين في المناطق المنكوبة بالجوع والتضيِّيق والحصار الترخُّص بأكل المحرمات كلٌّ على حسب حاله وقدرته وضرورته ، من غير مبالغة في ذلك .
3- يباح لهم ترك الواجب الذي يترتب على فعله مشقة بلا خلاف بين أهل العلم . والقاعدة الفقهية نصت على أن المعجوز عنه في الشرع ساقط الوجوب ، والمضطر إليه بلا معصية غير محظور .
4- يأثم من يقدر على تناول ما يقيه من التهلكة لكنه لا يفعله . ومن مات تاركاً لذلك يخشى عليه من الإثم .
5- ما أُتلف من الأموال الخاصة يجب السعي في تحصيل ضمانه عند انتظام أُمور الناس ، ويكون ذلك بالسعي في الجهات الحكومية الرسمية والمحاكم العدلية . وهذا الحكم يسري حتى على قتال الفِتن التي يختلط حكمها لشبهةٍ شرعية . قال الإمام ابن تيمية ( 728هـ ) رحمه الله تعالى : " إذا اقتتلت طائفتان من غير تأويل كالفتن التي تقع بين أهل البرِّ ، تضمن كل طائفة ما أتلفته الُأخرى ويجري التقاصُّ بينهما " . ومن فرَّط في تحصيل حقِّه لم يلزم الناس إتيان حقِّه إليه .
6- مسألة الجوع الشديد في الشام لا تتبيح الضرورة المحرمة إلا عند المسغبة والمخمصة الشديدة ، أما ما يمكن دفعه بشيٍ من الصبر وقليل من الزاد القديم فإن ذلك لا يُرخِّص تناول المحرمات .
7- الجوع الشديد يؤثِّر على بعض الأحكام الشرعية في الشام وغيرها ، كجواز سفر المرأة بلا محرم إن اضطرت إليه ، وشرب المياه النجسة وأكل الُّلحوم الميتة .
8- يجوز الإدِّخار عند توقع الجوع الشديد بدليل القرائن الواضحة . وثمرة هذه الفائدة أن الإدِّخار في الأقوات لا يجوز في حال الرخاء ،لكنه يرخص في حال الشدة والمسغبة المحتملة ، كما دلَّت عليه قصة يوسف عليه السلام مع ملك مصر .
9- رفع الأسعار على الناس بسبب الجوع لا يجوز ، لأن المضطر يعان ولا يعان عليه. ومن خاف الهلكة على نفسه فأخذ من مال غيره بلا إذنه فلا ضمان عليه .
10 – القاعدة العامة في الأطعمة غير المأكولة الحرمة القطعية لتناولها ، وبعضها جاء التنصيص عليه ،كالخنزير ، والباقي من الأطعمة تدور أحكامها بين الحرمة والكراهة التحريمية . وهذه القاعدة تُعين على معرفة حدود الخلاف في الأطعمة غير المأكولة أصلاً ، أو التي ثبت دليلها بنصِّ غير قطعي .
11- في مصنفات المالكية والحنابلة في الأطعمة التي لم يثبت دليل تحريمها بنص قطعي ، يكون التوقف فيها على حدِّ التجربة ،ومعرفة نفعها وضررها كلٌّ بحسبه ، فمن جربها ولم يتضرر بأكله إياها فلا حرج عليه من تناولها عند الداعي لذلك ، والعكس صحيح.
12- الجوع من أنواع البلاء الخمسة المنصوص عليها في كتاب الله تعالى ، وقد يكون عذاباً ، وقد يكون امتحاناً لبلد معين ، لتمحيص أهله ، فيجب الصبر عليه ودفعه على حسب القدرة ، وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك حين يخرج جائعا في طرقات المدينة . هذا ما تيسر تحريره والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
أ/أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصة
قبل حوالي ثلاث سنوات حضرتُ درساً للشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي وفقه الله تعالى في المسجد النبوي ، وسُئل في آخر الدرس عن أكل لحوم القِطط بشكل عام ، فتعجَّب الشيخ وقال : لا يجوز إلا إذا حضر وقت ذلك ، أو قريباً من هذه العبارة ، وهذه من فطنته لمآل الحال وتغير الزمان وأحداثه الجِسام .
وقد تقرَّر عند الُأصوليين أن للضرورة أثرها في سقوط الخطاب . فالهِر أو البش كما يقول المغاربة ، والضيون كما يقول الشوام ، أو القطاوة كما يقول أهلنا في الجزيرة العربية ، لا خِلاف أنها من ذوات النَّاب الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله ، لكن حديث النهي الصريح عنه بلفظ : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحم الهِر " أخرجه الترمذي ، وفي إسناده مقال ، ومعناه صحيح لاتفاقه مع القاعدة الفقهية في الأطعمة المحرمة . ويقاس عليها نظائرها مما يستقبح . وأكثر فقهاء المالكية يجيزون أكل السنور ( الهر ) والقرد والكلب والذئب والأسود ، والغراب ، لقواعد معتبرة في مذهبهم .
ودليلهم على الإباحة قول الله تعالى : " قل لا أجدُ فيما أُوحي إليَّ مُحرَّما على طاعمٍ يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير " ( الأنعام : 145 )فيقتصرون على النص ولا يقيسون عليه .
ما تقدَّم من ديباجة مختصرة أردتُ بها الحديث عن مجاعة أهل الشام فرَّج الله همهم ونفَّس كربتهم . فقد ظهرت فتاوى شامية تُجيز للمحاصرين في جنوب دمشق وغيرهم أكل اللحوم المحرمة بكافة أنواعها ، للضرورة وحفظاً للنفس من الهلاك ودفعاً للحرج.
وقد أُشتهر في المذهب المالكي مقولة : ترك القياس والأخذ بما هو أرفق للناس . وهو ما عُرف بالاستصلاح والاستحسان وتيسير أحوال البشر وعدم التضيِّيق عليهم عند عدم وجود نص قطعي في المسائل الشرعية .
في الفقه الإسلامي ما يُعرف بأحكام التغيُّر وانقلاب الشي عن أصله الذي ألفه الإنسان وعرفه به ، ومن ذلك تغيُّر الماء عن خلقته وتغير الطعام عن طبيعته كالعنب مثلاً ، وتغيُّر اللحم عن حكمه الأصلي لِحُكمٍ طارىء ، كأكل الميتة التي أصلها حلال . ويلحق بذلك أحكام الاستحالة في معاني تغيُّر الأعيان والأوصاف . وفي هذا المعنى همسة فقهية أن دوام الحال من المحال . والجوع كافر كما تقول العرب !
الحِصار الجائر الذي ضُرب على أرض الشام المباركة أحدث مجاعة مُروِّعة تسبَّبت في نفاد الأطعمة والأشربة والاضطرار لأكل ما يُستقبح ، مما لا يخطر على البال . نسأل الله العافية .
سياسة التجويع التي يقوم بها النصيريون هي : سياسة مارستها فرنسا في الجزائر عن طريق حرق الأراضي أو التقنين من الغذاء ووضع قوانين ، بهدف جعل الجزائريين في تبعية دائمة .
و اليهود في فلسطين كانوا وما زالوا يمارسون هذا الأسلوب في إذلال المسلمين .
ولهذا من الغلط أن نقول : أين صندوق الغذاء العالمي ؟ أين منظمة حقوق الإنسان ؟ أين الأمم المتحدة ؟ فلا يجوز مناداة الكافر ولا الإستغاثة به ؟ والصحيح أن نقول : أين التعاون الإسلامي الدولي في نكبة هذا الشعب المظلوم ؟ أين زكاة المسلمين عن هؤلاء المحرومين المشتتين ؟
والتكيِّيف الفقهي والتخريج الُأصولي لجزئيات أحكام هذه المأساة يفيد ما يلي :
1- أن الجوع حالة استثنائية قد تطول وقد تقصر بحسب أسبابها ومواردها وهي مناط الرخصة والضرورة . لحديث أبي واقد الليثي قال : قلتُ يا رسول الله ، إنا بأرض تُصيبنا بها مخمصة ، أي " مجاعة " فما يحل لنا من الميتة ؟ . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلاً فشأنكم بها." أخرجه أحمد بإسناد صحيح . ومفهومه يدل على عدم جواز تناول ما حرم الله إلا بعد نفاد ما يسدُّ الرمق من الحلال المأذون به .
2- يجوز للإخوة السوريين في المناطق المنكوبة بالجوع والتضيِّيق والحصار الترخُّص بأكل المحرمات كلٌّ على حسب حاله وقدرته وضرورته ، من غير مبالغة في ذلك .
3- يباح لهم ترك الواجب الذي يترتب على فعله مشقة بلا خلاف بين أهل العلم . والقاعدة الفقهية نصت على أن المعجوز عنه في الشرع ساقط الوجوب ، والمضطر إليه بلا معصية غير محظور .
4- يأثم من يقدر على تناول ما يقيه من التهلكة لكنه لا يفعله . ومن مات تاركاً لذلك يخشى عليه من الإثم .
5- ما أُتلف من الأموال الخاصة يجب السعي في تحصيل ضمانه عند انتظام أُمور الناس ، ويكون ذلك بالسعي في الجهات الحكومية الرسمية والمحاكم العدلية . وهذا الحكم يسري حتى على قتال الفِتن التي يختلط حكمها لشبهةٍ شرعية . قال الإمام ابن تيمية ( 728هـ ) رحمه الله تعالى : " إذا اقتتلت طائفتان من غير تأويل كالفتن التي تقع بين أهل البرِّ ، تضمن كل طائفة ما أتلفته الُأخرى ويجري التقاصُّ بينهما " . ومن فرَّط في تحصيل حقِّه لم يلزم الناس إتيان حقِّه إليه .
6- مسألة الجوع الشديد في الشام لا تتبيح الضرورة المحرمة إلا عند المسغبة والمخمصة الشديدة ، أما ما يمكن دفعه بشيٍ من الصبر وقليل من الزاد القديم فإن ذلك لا يُرخِّص تناول المحرمات .
7- الجوع الشديد يؤثِّر على بعض الأحكام الشرعية في الشام وغيرها ، كجواز سفر المرأة بلا محرم إن اضطرت إليه ، وشرب المياه النجسة وأكل الُّلحوم الميتة .
8- يجوز الإدِّخار عند توقع الجوع الشديد بدليل القرائن الواضحة . وثمرة هذه الفائدة أن الإدِّخار في الأقوات لا يجوز في حال الرخاء ،لكنه يرخص في حال الشدة والمسغبة المحتملة ، كما دلَّت عليه قصة يوسف عليه السلام مع ملك مصر .
9- رفع الأسعار على الناس بسبب الجوع لا يجوز ، لأن المضطر يعان ولا يعان عليه. ومن خاف الهلكة على نفسه فأخذ من مال غيره بلا إذنه فلا ضمان عليه .
10 – القاعدة العامة في الأطعمة غير المأكولة الحرمة القطعية لتناولها ، وبعضها جاء التنصيص عليه ،كالخنزير ، والباقي من الأطعمة تدور أحكامها بين الحرمة والكراهة التحريمية . وهذه القاعدة تُعين على معرفة حدود الخلاف في الأطعمة غير المأكولة أصلاً ، أو التي ثبت دليلها بنصِّ غير قطعي .
11- في مصنفات المالكية والحنابلة في الأطعمة التي لم يثبت دليل تحريمها بنص قطعي ، يكون التوقف فيها على حدِّ التجربة ،ومعرفة نفعها وضررها كلٌّ بحسبه ، فمن جربها ولم يتضرر بأكله إياها فلا حرج عليه من تناولها عند الداعي لذلك ، والعكس صحيح.
12- الجوع من أنواع البلاء الخمسة المنصوص عليها في كتاب الله تعالى ، وقد يكون عذاباً ، وقد يكون امتحاناً لبلد معين ، لتمحيص أهله ، فيجب الصبر عليه ودفعه على حسب القدرة ، وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك حين يخرج جائعا في طرقات المدينة . هذا ما تيسر تحريره والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
أ/أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصة